فهرس الكتاب

إرشاد الساري - باب: اتقوا النار ولو بشق تمرة والقليل من الصدقة

باب اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ، وَالْقَلِيلِ مِنَ الصَّدَقَةِ
{ وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ} الآيَةَ -وَإِلَى قَوْلِهِ- { مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} .

هذا (باب) بالتنوين (اتقوا النار ولو بشق تمرة)، هذا لفظ الحديث.

(والقليل من الصدقة) بجر القليل عطفًا على سابقه من عطف العام على الخاص أي اتقوا النار ولو بالقليل من الصدقة ({ ومثل الذين ينفقون أموالهم} ) شامل للقليل والكثير ({ ابتغاء مرضاة الله وتثبيتًا من أنفسهم} ) [البقرة: 265] أي: وتثبيت بعض أنفسهم على الإيمان فإن المال شقيق الروح فمن بذل ماله لوجه الله ثبت بعض نفسه، ومن بذل ماله وروحه ثبتها كلها أو تصديقًا وتيقنًا من أصل أنفسهم أن الله سيجزيهم على ذلك، وفيه تنبيه على ذلك، وفيه تنبيه على أن حكمة الانفاق

للمنفق تزكية النفس عن البخل وحب المال (الآية) أي إلى آخرها.
ومعناها: أن مثل نفقة هؤلاء في الزكاة كمثل جنة خبر المبتدأ الذي هو مثل الذين ينفقون كمثل بستان بموضع مرتفع من الأرض فإن شجره يكون أحسن منظرًا وأزكى ثمرًا أصاب الجنة مطر عظيم القطر فأعطت ثمرتها ضعفين بالنسبة إلى غيرها من البساتين فإن لم يصبها وابل فطل أي فيصيبها مطر صغير القطر أو فطل يكفيها لكرم منبتها وبرودة هوائها لارتفاع مكانها يعني نفقاتهم زاكية عند الله وإن كانت متفاوتة بحسب أحوالهم كما أن الجنة تثمر قل المطر أو كثر، (إلى قوله) تعالى: ({ ومن كل الثمرات} [الأعراف: 57] ولأبي ذر: { ومثل الذين ينفقون أموالهم} إلى قوله: { فيها من كل الثمرات} [محمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: 15] كأن البخاري أتبع الآية الأولى التي ضربت مثلاً بالربوة بالآية الثانية التي تضمنت ضرب المثل لمن عمل عملاً يفقده أحوج ما كان إليه للإشارة إلى اجتناب الرياء في الصدقة، ولأن قوله تعالى: { والله بما
تعملون بصير}
[البقرة: 265] يشعر بالوعيد بعد الوعد فأوضحه بذكر الآية الثانية، وكأن هذا هو السر في اقتصاره على بعضها اختصارًا.


[ قــ :1360 ... غــ : 1415 ]
- حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ الْحَكَمُ هُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيُّ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ اليَمَان عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ -رضي الله عنه- قَالَ: "لَمَّا نَزَلَتْ آيَةُ الصَّدَقَةِ كُنَّا نُحَامِلُ، فَجَاءَ رَجُلٌ فَتَصَدَّقَ بِشَىْءٍ كَثِيرٍ، فَقَالُوا: مُرَاءٍ.
وَجَاءَ رَجُلٌ فَتَصَدَّقَ بِصَاعٍ، فَقَالُوا: إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنْ صَاعِ هَذَا.
فَنَزَلَتِ { الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ} الآيَةَ.
[الحديث 1415 - أطرافه في: 1416، 2273، 4668، 4669] .

وبالسند قال: (حدّثنا عبيد الله بن سعيد) بتصغير عبد وكسر عين سعيد بن يحيى اليشكري قال: (حدّثنا أبو النعمان الحكم بن عبد الله) ولأبي ذر: هو الحكم بن عبد الله، ولابن عساكر: الحكم هو ابن عبد الله (البصري) قال: (حدّثنا شعبة) بن الحجاج (عن سليمان) بن مهران الأعمش (عن أبي وائل) بالهمز شقيق بن سلمة (عن أبي مسعود) عقبة بن عمرو بن ثعلبة الأنصاري البدري مشهور بكنيته، وجزم المؤلّف بأنه شهد بدرًا واستخلف مرة على الكوفة وتوفي قبل سنة أربعين أو فيها، وصحح في الإصابة أنه مات بعدها لأنه أدرك إمارة المغيرة على الكوفة.
قال: وذلك بعد سنة أربعين قطعًا (-رضي الله عنه- قال: لما نزلت آية الصدقة) هي قوله تعالى: { خذ من أموالهم صدقة} [التوبة: 103] (كنا نحامل)، بضم النون وبالحاء المهملة أي نحمل الحمل على ظهورنا بالأجرة.
قال الخطابي: يريد نتكلف الحمل لنكسب ما نتصدق به، (فجاء رجل) هو عبد الرحمن بن عوف (فتصدق بشيء كثير)، نصف ماله ثمانية آلاف أو أربعة آلاف ذكره الواقدي، وقيل هو عاصم بن عدي وكان تصدق بمائة وسق (فقالوا) أي المنافقون (مراءٍ، وجاء رجل) هو أبو عقيل بفتح العين الأنصاري (فتصدق بصاع)، من تمر وكان قد آجر نفسه على النزع من البئر بالحبل على صاعين فترك صاعًا له وجاء بالآخر (فقالوا) أي المنافقون (إن الله لغني عن صاع هذا فنزلت: { الذين يلمزون} يعيبون

({ المطوعين} ) أصله المتطوعين فأبدلت التاء طاء وأدغمت التاء في الطاء ({ من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون إلا جهدهم} الآية) [التوبة: 79] أي: طاقتهم مصدر جهد في الأمر إذا بالغ فيه فيسخرون منهم سخر الله منهم جازاهم على سخريتهم ولهم عذاب أليم على كفرهم.
وذكر الخطيب في المتفق في ترجمة زيد بن أسلم من طريق مغازي الواقدي من اللامزين معتب بن قشير وعبد الرحمن بن نبتل بنون ومثناة فوقية مفتوحتين بينهما موحدة ساكنة ثم لام.

وفي هذا الحديث التحديث والعنعنة والقول، ورواية تابعي عن تابعي عن صحابي، وأخرجه المؤلّف أيضًا في التفسير والزكاة، ومسلم والنسائي في الزكاة، وابن ماجة في الزهد.




[ قــ :1361 ... غــ : 1416 ]
- حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ يَحْيَى حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ عَنْ شَقِيقٍ عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الأَنْصَارِيِّ -رضي الله عنه- قَالَ: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِذَا أَمَرَنَا بِالصَّدَقَةِ انْطَلَقَ أَحَدُنَا إِلَى السُّوقِ فَتَحَامَلَ، فَيُصِيبُ الْمُدَّ، وَإِنَّ لِبَعْضِهِمُ الْيَوْمَ لَمِائَةَ أَلْفٍ".

وبه قال: ( حدّثنا سعيد بن يحيى) البغدادي قال: ( حدّثنا أبي) يحيى بن سعيد بن أبان قال: ( حدّثنا الأعمش) سلمان بن مهران ( عن شقيق) أبي وائل بن سلمة ( عن أبي مسعود الأنصاري -رضي الله عنه-) أنه ( قال: كان رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إذا أمرنا بالصدقة انطلق أحدنا إلى السوق فيحامل) بضم المثناة التحتية وكسر الميم وضم اللام فعلاً مضارعًا، ولغير أبي ذر: فتحامل بفتح المثناة الفوقية والميم واللام فعلاً ماضيًا أي تكلف الحمل بالأجرة ليكسب ما يتصدق به ( فيصيب المدّ) في مقابلة أجرته فيتصدق به ( وإن لبعضهم اليوم لمائة ألف) من الدراهم أو الدنانير أو الأمداد فلا يتصدق، واسم إن قوله لمائة والجار والمجرور خبرها فصل بينهما بالظرف وهو متعلق بالظرف المستقر الذي هو الخبر أو بالعامل فيه على الخلاف.
وحكى الزركشي رفع لمائة وبيض لتوجيهه: ووجهه البرماوي بأن اسم أن ضمير الشأن ولمائة مبتدأ خبره لبعضهم والجملة خبر إن أي نحو قوله: إن من أشد الناس عذابًا يوم القيامة المصورون، لكن قال البدر الدماميني: يمنع منه اقتران المبتدأ بلام الابتداء وهي مانعة من تقدم الخبر على المبتدأ المقرون بها ودعوى زيادتها ضعيف جدًّا انتهى.




[ قــ :136 ... غــ : 1417 ]
- حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَعْقِلٍ قَالَ: سَمِعْتُ عَدِيَّ بْنَ حَاتِمٍ -رضي الله عنه- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: «اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ».

وبه قال: ( حدّثنا سليمان بن حرب) الواشحي قال: ( حدّثنا شعبة) بن الحجاج ( عن أبي إسحاق) عمرو بن عبد الله السبيعي ( قال: سمعت عبد الله بن معقل) بفتح الميم وسكون العين المهملة وكسر القاف أبا الوليد المزني ( قال: سمعت عدي بن حاتم) الطائي ( -رضي الله- عنه قال: سمعت رسول الله) ولأبي ذر: النبي ( -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول) :
( اتقوا النار ولو) كان الاتقاء ( بشق تمرة) واحدة فإنه يفيد والشق بكسر الشين المعجمة أي نصفها أو جانبها فلا يحقر الإنسان ما يتصدق به وإن كان يسيرًا فإنه يستر المتصدق به من النار.




[ قــ :1363 ... غــ : 1418 ]
- حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ حَزْمٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- قَالَتْ: "دَخَلَتِ امْرَأَةٌ مَعَهَا ابْنَتَانِ لَهَا تَسْأَلُ، فَلَمْ تَجِدْ عِنْدِي شَيْئًا غَيْرَ تَمْرَةٍ، فَأَعْطَيْتُهَا إِيَّاهَا، فَقَسَمَتْهَا بَيْنَ ابْنَتَيْهَا، وَلَمْ تَأْكُلْ مِنْهَا، ثُمَّ قَامَتْ فَخَرَجَتْ، فَدَخَلَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَيْنَا، فَأَخْبَرْتُهُ فَقَالَ: مَنِ ابْتُلِيَ مِنْ هَذِهِ الْبَنَاتِ بِشَىْءٍ كُنَّ لَهُ سِتْرًا مِنَ النَّارِ".
[الحديث 1418 - طرفه في: 5995]
وبه قال: ( حدّثنا بشر بن محمد) بكسر الموحدة وسكون المعجمة السجستاني المروزي ( قال: أخبرنا عبد الله) بن المبارك المروزي قال: ( أخبرنا معمر) هو ابن راشد ( عن) ابن شهاب ( الزهري قال: حدّثني) بالإفراد ( عبد الله بن أبي بكر بن حزم) بفتح الحاء المهملة وسكون الزاي المعجمة ( عن عروة) بن الزبير ( عن عائشة رضي الله عنها قالت: دخلت امرأة) قال الحافظ ابن حجر: لم أعرف اسمها ولا ابنتيها ( معها ابنتان) كائنتان ( لها) في موضع رفع صفة لابنتان حال كونها ( تسأل) عطاء ( فلم تجد عندي شيئًا غير تمرة) واحدة ( فأعطيتها إياها) لم تردّها خائبة وهي تجد شيئًا امتثالاً لقوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لها: "لا يرجع سائل من عندك ولو بشق تمرة".
رواه البزار من حديث أبي هريرة ( فقسمتها) السائلة ( بين ابنتيها ولم تأكل منها) شيئًا لما جعل الله في قلوب الأمهات من الرحمة، ( ثم قامت فخرجت فدخل النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- علينا فأخبرته) بسكون الراء بشأن السائلة ( فقال) :
( من ابتلي) وفي رواية أبي ذر: فقال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: من ابتلى ( من هذه البنات) الإشارة إلى أمثال من ذكر الفاقة أو إلى جنس البنات مطلقًا ( بشيء) من أحوالهن أو من أنفسهن وسماه ابتلاء لموضع الكراهة لهن ( كن له سترًا) لم يقل أستارًا بالجمع لأن المراد الجنس المتناول للقليل والكثير أي حجابًا ( من النار) ومناسبة الحديث للترجمة قال ابن المنير وتبعه كثير من الشراح من جهة أم البنتين لأنها لما قسمت التمرة بينهما فقد تصدقت على كل واحدة بشق تمرة.
وقال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في حقها كلامًا عامًّا تندرج فيه حيث قال: "من ابتلي من هذه البنات بشيء كن له سترًا من النار" لكن تعقبه في المصابيح بأن المؤلّف لم ليدخل تحت عهدة الاستدلال بهذا الحديث بعينه على أن الصدقة بشق التمرة تقي من النار حتى يتكلف له مثل هذا فإنه عقد الباب للأمر باتقاء النار ولو بشق تمرة وللقليل من الصدقة وقد وفى بالأمرين معًا.
فحديث ابن معقل فيه اتقاء النار ولو بشق تمرة، وحديث عائشة رضي الله عنها فيه الأصدقة بالشيء القليل.
كما أن في الأحاديث المتقدمة الإشارة إلى القليل من الصدقة فأي حاجة بعد ذلك إلى التكلف، وليس في حديث عائشة أنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تعرض إلى فعلته من قسم التمرة بين البنتين، وإنما فيه الأخبار بأن الابتلاء بشيء من البنات سبب من الستر من النار على أن ما قاله

محتمل، ويحتمل أيضًا أن يكون حديث عائشة مشوقًا للأمرين معًا لقضية بالقليل وهو ما فعلته عائشة من التصدق بالتمرة ولاتقاء النار ولو بشق تمرة وهو ما فعلته أم البنتين.

وفي هذا الحديث التحديث والأخبار والعنعنة والقول، وأخرجه أيضًا في الأدب وكذا مسلم، وأخرجه أيضًا الترمذي في البر وقال: حسن صحيح.