فهرس الكتاب

إرشاد الساري - باب الصدقة على اليتامى

باب الصَّدَقَةِ عَلَى الْيَتَامَى
( باب الصدقة على اليتامى) عبر بالصدقة لشمولها الفرض والنفل والصدقة على اليتيم تذهب قساوة القلب كما روي.


[ قــ :1407 ... غــ : 1465 ]
- حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ فَضَالَةَ حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ يَحْيَى عَنْ هِلاَلِ بْنِ أَبِي مَيْمُونَةَ حَدَّثَنَا عَطَاءُ بْنُ يَسَارٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ -رضي الله عنه- يُحَدِّثُ أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- جَلَسَ ذَاتَ يَوْمٍ عَلَى الْمِنْبَرِ وَجَلَسْنَا حَوْلَهُ فَقَالَ: إِنِّي مِمَّا أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِي مَا يُفْتَحُ عَلَيْكُمْ مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا وَزِينَتِهَا.
فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَوَيَأْتِي الْخَيْرُ بِالشَّرِّ؟ فَسَكَتَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقِيلَ لَهُ: مَا شَأْنُكَ تُكَلِّمُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَلاَ يُكَلِّمُكَ؟ فَرَأَيْنَا أَنَّهُ يُنْزَلُ عَلَيْهِ.
قَالَ فَمَسَحَ عَنْهُ الرُّحَضَاءَ فَقَالَ: أَيْنَ السَّائِلُ -وَكَأَنَّهُ حَمِدَهُ- فَقَالَ: إِنَّهُ لاَ يَأْتِي الْخَيْرُ بِالشَّرِّ، وَإِنَّ مِمَّا يُنْبِتُ الرَّبِيعُ يَقْتُلُ أَوْ يُلِمُّ، إِلاَّ آكِلَةَ الْخَضْرَاءِ، أَكَلَتْ حَتَّى إِذَا امْتَدَّتْ خَاصِرَتَاهَا اسْتَقْبَلَتْ عَيْنَ الشَّمْسِ فَثَلَطَتْ وَبَالَتْ وَرَتَعَتْ.
وَإِنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ، فَنِعْمَ صَاحِبُ الْمُسْلِمِ مَا أَعْطَى مِنْهُ الْمِسْكِينَ وَالْيَتِيمَ وَابْنَ السَّبِيلِ -أَوْ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-- وَإِنَّهُ مَنْ يَأْخُذُهُ بِغَيْرِ حَقِّهِ كَالَّذِي يَأْكُلُ وَلاَ يَشْبَعُ، وَيَكُونُ شَهِيدًا عَلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ".

وبالسند قال: ( حدّثنا معاذ بن فضالة) بفتح الفاء والضاد المعجمة المخففة قال: ( حدّثنا هشام) الدستوائي ( عن يحيى) بن أبي كثير ( عن هلال بن أبي ميمونة) هو هلال بن علي بن أسامة المدني من صغار التابعين قال: ( حدّثنا عطاء بن يسار) بتخفيف السين المهملة ( أنه سمع أبا سعيد الخدري -رضي الله عنه- يحدث أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- جلس ذات يوم) أي قطعة من الزمان فذات يوم صفة للقطعة المقدرة ولم يتصرف لأن إضافتما من قبيل إضافة المسمى إلى الاسم وليس له تمكن في الظرفية الزمانية لأنه ليس من أسماء الزمان ( على المنبر وجلسنا حوله فقال) :
( إني) وللمستملي والكشمهني: إن ( مما أخاف عليكم من بعدي ما يفتح عليكم من زهرة الدنيا وزينتها) حسنها وبهجتها الفانية كمال الغنائم وغيرها ( فقال رجل:) لم أعرف اسمه ( يا رسول الله أو يأتي الخير بالشر) بفتح الواو والهمزة للاستفهام أي أتصير نعمة الله التي هي زهرة الدنيا عقوبة ووبالاً؟ ( فسكت النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) انتظارًا للوحي ( فقيل له) أي للسائل: ( ما شأنك! تكلم رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ولا يكلمك؟) ظنوا أنه عليه الصلاة والسلام أنكر مسألته.
قال أبو سعيد: ( فرأينا) بفتح الراء ثم الهمزة من الرؤية، وللحموي والمستملي: فرئينا بضم الراء ثم كسر الهمزة، وللكشميهني: فأرينا بتقديم الهمزة المضمومة على الراء المكسورة أي فظننا ( أنه ينزل عليه) الوحي بضم أوّله وفتح الزاي مبنيًّا للمفعول.
( قال:) أبو سعيد ( فمسح) عليه الصلاة والسلام ( عنه الرحضاء) بضم الراء وفتح الحاء

المهملة والضاد المعجمة والمد العرق الكثير ( فقال: أين السائل؟ وكأنه) عليه الصلاة والسلام ( حمده) أي السائل فهموا أوّلاً من سكوته عند سؤاله إنكاره، ومن قوله عليه الصلاة والسلام أين السائل حمده لما رأوا فيه من البشرى لأنه عليه الصلاة والسلام كان إذا سرّ استنار وجهه ( فقال:) عليه الصلاة والسلام: ( إنه لا يأتي الخير بالشر) أي ما قدر الله أن يكون خيرًا يكون خيرًا وما قدّر أن يكون شرًّا يكون شرًّا، وإن الذي أخاف عليكم تضييعكم نعمة الله وصرفكم إياها في غير ما أمر الله فلا يتعلق ذلك بنفس النعمة ( و) اضرب لكم مثلين: أحدهما مثل المفرط في جمع الدنيا هو ( إن مما ينبت الربيع) بضم المثناة التحتية من الإنبات والربيع رفع فاعل وهو الجدول الذي يستسقى به ما ( يقتل) قتلاً حبطًا ( أو يلم) بضم أوله وكسر اللام أي يقرب من القتل؟ وسقط في البخاري هنا لفظه ما قبل يقتل وحبطًا بعدها فيقتل صفة لمفعول محذوف أي شيئًا أو نباتًا وحبطًا بفتح الحاء المهملة
والموحدة نصب على التمييز وهو داء يصيب البعير من أحرار العشب أو من كلأ طيب يكثر منه فينتفخ فيهلك أو يقارب الهلاك، وكذلك الذي يكثر من جمع الدنيا لا سيما من غير حلها ويمنع ذا الحق حقه يهلك في الآخرة بدخوله النار وفي الدنيا بأذى الناس له وحسدهم إياه وغير ذلك من أنواع الأذى، وإسناد الإنبات للربيع مجاز على رأي الشيخ عبد القاهر الجرجاني إذ السند إليه ملابس للفعل وليس فاعلاً حقيقيًا له إذ الفاعل هو الله تعالى، والسكاكي يرى أن الإسناد ليس مجازيًا وأن المجاز في الربع فجعله استعارة بالكناية على أن المراد به الفاعل الحقيقي بقرينة نسبة الإسناد إليه ( إلا) بالتشديد ( آكلة الخضراء) ، بفتح الخاء وسكون الضاد المعجمتين وألف ممدودة بعد الراء، وللكشميهني والمستملي: الخضر بكسر الضاد والراء من غير ألف، وآكلة بمد الهمزة والاستثناء مفرغ، والأصل مما ينبت الربع ما يقتل آكله إلا آكل الخضراء وقال الطيبي: الأظهر أنه منقطع لوقوعه في الكلام المثبت وهو غير جائز عند الزمخشري إلا بالتأويل، ويجوز أن يكون متصلاً لكن يجب التأويل في المستثنى، والمعنى أن من جملة ما ينبت الربيع شيئًا يقتل آكله إلا الخضر منه إذا اقتصد فيه آكله وتحرى دفع ما يؤديه إلى الهلاك.
وفي بعض النسخ: ألا بتخفيف اللام وفتح الهمزة على أنها استفتاحية كأنه قال: ألا انظروا آكلة الخضراء واعتبروا شأنها ( أكلت) وفي بعض النسخ: فإنها أكلت أي فإن آكلة الخضراء أكلت ( حتى إذا امتدّت خاصرتاها) أي جنباها أي امتلأت شبعًا وعظم جنباها ثم أقلعت عنه سريعًا ( استقبلت عين الشمس) تستمرئ بذلك ما أكلت وتجترّه ( فثلطت) بفتح المثلثة واللام أي ألقت السرقين سهلاً رقيقًا ( وبالت) فيزول عنها الحبط، وإنما تحبط الماشية لأنها تمتلئ بطونها ولا تثلط ولا تبول فتنتفخ بطونها فيعرض لها المرض فتهلك ( ورتعت) .
اتسعت في المرعى.
وهذا مثل المقتصد في جمع الدنيا المؤدّي حقها الناجي من وبالها كما نجت آكلة الخضر الذي ليس من أحرار البقول وجيدها التي ينبتها الربيع بتوالي أمطاره فتحسن وتنعم ولكنه من البقول التي ترعاها المواشي بعد هيج البقول ويبسها حيث لا تجد سواها فلا ترى الماشية تكثر من أكلها ولا تسمرئها وقيل الربيع قد ينبت أحرار العشب والكلأ فهي كلها خير في نفسها، وإنما يأتي الشر من قبل آكل مستلذ مفرط منهمك فيها بحيث تنتفخ أضلاعه منه وتمتلئ خاصرتاه ولا يقلع عنه فيهلكه سريعًا، فهذا مثل للكافر ومن ثم

أكد القتل بالحبط أي يقتل قتلاً حبطًا، والكافر هو الذي تحبط أعماله أو من قبل آكل كذلك فيشرفه إلى الهلاك، وهذا مثال للمؤمن الظالم لنفسه المنهمك في المعاصي أو من آكل مسرف حتى تنتفخ خاصرتاه ولكنه يتوخى إزالة ذلك ويتحيل في دفع مضرته حتى يهضم ما أكل، وهذا مثال المقتصد أو من آكل غير مفرط ولا مسرف يأكل منها ما يسدّ جوعه ولا يسرف فيه حتى يحتاج إلى دفعه، وهذا مثال السابق الزاهد في الدنيا الراغب في الآخرة لكن هذا ليس صريحًا في الحديث لكنه ربما يفهم منه.
( وإن هذا المال) زهرة الدنيا ( خضرة) من حيث المنظر ( حلوة) ، من حيث الذوق وخضرة بفتح الخاء وكسر الضاد المعجمتين آخره تاء تأنيث وأنث مع أن المال مذكر باعتبار أنه زهرة الدنيا أو باعتبار البقلة أي: إن هذا المال كالبقلة الخضرة أو الفاكهة فالتأنيث وقع على التشبيه أو أن التاء للمبالغة كراوية وعلامة، وخص الأخضر لأنه أحسن الألوان، ولما ذكر لهم -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ما يخاف عليهم من فتنة المال أخذ يعرفهم دواء داء تلك الفتنة بقوله: ( فنعم صاحب المسلم ما أعطى منه المسكين واليتيم وابن السبيل- أو كما قال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) - شك من يحيى.
وفي الجهاد من طريق فليح بلفظ: فجعله في سبيل الله واليتامى والمساكين وابن السبيل، ( وإنه من يأخذه) أي المال ( بغير حقه) بأن يجمعه من الحرام أو من غير احتياج إليه ولم يخرج منه حقه الواجب فيه فهو ( كالذي يأكل ولا يشبع) ، لأنه كلما نال منه شيئًا ازدادت رغبته واستقل ما عنده ونظر إلى ما فوقه ( ويكون) ماله ( شهيدًا عليه يوم القيامة) بأن ينطق الله الصامت منه بما فعل به أو يمثل مثاله أو يشهد عليه الموكلون بكتب الكسب والإنفاق.

وفي هذا الحديث التحديث والعنعنة والسماع، وأخرجه المؤلّف أيضًا في الرقاق ومسلم في الزكاة وكذا النسائي.