فهرس الكتاب

إرشاد الساري - باب وجوب الصفا والمروة، وجعل من شعائر الله

باب وُجُوبِ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَجُعِلَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ
( باب وجوب) السعي بين ( الصفا والمروة وجعل) بضم الجيم مبنيًّا للمفعول وجوب السعي بينهما ( من شعائر الله) من أعلام مناسكه جمع شعيرة وهي العلامة.


[ قــ :1573 ... غــ : 1643 ]
- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ عُرْوَةُ "سَأَلْتُ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- فَقُلْتُ لَهَا: أَرَأَيْتِ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} فَوَاللَّهِ مَا عَلَى أَحَدٍ جُنَاحٌ أَنْ لاَ يَطُوفَ بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ.
قَالَتْ: بِئْسَ مَا قُلْتَ يَا ابْنَ أُخْتِي، إِنَّ هَذِهِ لَوْ كَانَتْ كَمَا أَوَّلْتَهَا عَلَيْهِ كَانَتْ لاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ لاَ يَتَطَوَّفَ بِهِمَا، وَلَكِنَّهَا أُنْزِلَتْ فِي الأَنْصَارِ، كَانُوا قَبْلَ أَنْ يُسْلِمُوا يُهِلُّونَ لِمَنَاةَ الطَّاغِيَةِ الَّتِي كَانُوا يَعْبُدُونَهَا عِنْدَ الْمُشَلَّلِ، فَكَانَ مَنْ أَهَلَّ يَتَحَرَّجُ أَنْ يَطُوفَ بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، فَلَمَّا أَسْلَمُوا سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنْ ذَلِكَ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا كُنَّا نَتَحَرَّجُ أَنْ نَطُوفَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} الآيَةَ.
قَالَتْ عَائِشَةُ -رضي الله عنها-: وَقَدْ سَنَّ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الطَّوَافَ بَيْنَهُمَا فَلَيْسَ لأَحَدٍ أَنْ يَتْرُكَ الطَّوَافَ بَيْنَهُمَا.
ثُمَّ أَخْبَرْتُ أَبَا بَكْرِ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، فَقَالَ: إِنَّ هَذَا لَعِلْمٌ مَا كُنْتُ سَمِعْتُهُ، وَلَقَدْ سَمِعْتُ رِجَالاً مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ يَذْكُرُونَ أَنَّ النَّاسَ -إِلاَّ مَنْ ذَكَرَتْ عَائِشَةُ مِمَّنْ كَانَ يُهِلُّ بِمَنَاةَ-، كَانُوا يَطُوفُونَ كُلُّهُمْ بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، فَلَمَّا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ وَلَمْ يَذْكُرِ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ فِي الْقُرْآنِ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كُنَّا نَطُوفُ بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَإِنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ فَلَمْ يَذْكُرِ الصَّفَا، فَهَلْ عَلَيْنَا مِنْ حَرَجٍ أَنْ نَطَّوَّفَ بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} الآيَةَ.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَأَسْمَعُ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ فِي الْفَرِيقَيْنِ كِلَيْهِمَا: فِي الَّذِينَ كَانُوا يَتَحَرَّجُونَ أَنْ يَطُوفُوا بِالْجَاهِلِيَّةِ بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَالَّذِينَ يَطُوفُونَ ثُمَّ تَحَرَّجُوا أَنْ يَطُوفُوا بِهِمَا فِي الإِسْلاَمِ مِنْ أَجْلِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِالطَّوَافِ بِالْبَيْتِ وَلَمْ يَذْكُرِ الصَّفَا، حَتَّى ذَكَرَ ذَلِكَ بَعْدَ مَا ذَكَرَ الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ".
[الحديث 1643 - أطرافه في: 1790، 4495، 4861] .

وبالسند قال: ( حدّثنا أبو اليمان) الحكم بن نافع قال: ( أخبرنا شعيب) هو ابن أبي حمزة ( عن) ابن شهاب ( الزهري قال: عروة) بن الزبير بن العوام: ( سألت عائشة -رضي الله عنها- فقلت لها: أرأيت قول الله تعالى) أي أخبرني عن مفهوم قول الله تعالى: ( {إن الصفا والمروة}) جبلا السعي اللذان يسعى من أحدهما إلى الآخر، والصفا في الأصل جمع صفاة وهي الصخر أو الحجر الأملس،
والمروة في الأصل حجر أبيض براق ( {من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه) فلا إثم عله ( {أن يطوّف بهما}) [البقرة: 158] بشديد الطاء أصله يتطوّف فأبدلت التاء طاء لقرب مخرجهما وأدغمت الطاء في الطاء ( فوالله ما على أحد جناح أن لا يطوّف) كذا في اليونينية ( بالصفا والمروة) إذا مفهومها أن السعي ليس بواجب لأنها دلت على رفع الجناح وهو الإثم عن فاعله، وذلك يدل على إباحته، ولو كان واجبًا لما قيل فيه مثل هذا.
فردت عليه عائشة -رضي الله عنها- حيث ( قالت: بئسما قلت يا ابن أختي) ، أسماء ( إن هذه) الآية ( لو كانت كما أولتها عليه) من الإباحة ( كانت لا جناح عليه أن لا يتطوف بهما) ، كذا بزيادة فوقية بعد التحتية وبزيادة لا بعد أن، وبه قرئ في الشاذ كما قالت عائشة فإنها كانت حينئذ تدل على رفع الإثم عن تاركه، وذلك حقيقة المباح فلم يكن في الآية نص على الوجوب ولا عدمه، ثم بينت عائشة أن الاقتصار في الآية على نفي الإثم له سبب خاص فقالت: ( ولكنها) أي الآية ( أنزلت في الأنصار) ، الأوس والخزرج ( كانوا قبل أن يسلموا يهلون) يحجون ( لمناة الطاغية) بميم مفتوحة فنون مخففة مجرور بالفتحة للعلمية والتأنيث، وسميت مناة لأن النسائك كانت تمنى أي تراق عندها، وهي اسم صنم كان في الجاهلية والطاغية صفة إسلامية لمناة ( التي كانوا يعبدونها عند المشلل) بميم مضمومة فشين معجمة مفتوحة فلامين الأولى مشددة مفتوحة ثنية مشرفة على قديد.
زاد سفيان الزهري بالمشلل من قديد أخرجه مسلم وكان لغيرهم صنمان بالصفا إساف بكسر الهمزة وتخفيف السين المهملة وبالمروة نائلة بالنون والهمزة والمد، وقيل: إنهما كانا رجلاً وامرأة فزنيا داخل الكعبة فمسخهما الله حجرين فنصبا عند الكعبة، وقيل على الصفا والمروة ليعتبر الناس بهما ويتعظوا ثم حولهما قصي بن كلاب فجعل أحدهما ملاصق الكعبة والآخر لزمزم ونحر عندهما وأمر بعبادتهما، فلما فتح النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مكة كسرهما ( فكان من أهل) من الأنصار ( يتحرج) أي يحترز من الإثم ( أن يطوف بالصفا والمروة) كراهية لذينك الصنمين وحبهم صنمهم الذي بالمشلل، وكان ذلك سنة في آبائهم من أحرم لمناة لم يطف بين الصفا والمروة، ( فلما أسلموا) أي الأنصار ( سألوا رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن ذلك) أي عن الطواف بهما وسقط لأبي ذر لفظ أسلموا ( قالوا: يا رسول الله إنا كنا نتحرج أن نطوف بين الصفا والمروة) ، ولأبي ذر: بالصفا والروة ( فأنزل الله تعالى {إن الصفا والمروة من شعائر الله} [البقرة: 158] إلى آخرها) .
فقد تبين أن الحكمة في التعبير بذلك في الآية مطابقة جواب السائلين لأنهم توهموا من كونهم كانوا يفعلون ذلك في الجاهلية أنه يستمر في الإسلام، فخرج الجواب مطابقًا لسؤالهم.
وأما الوجوب فيستفاد من دليل آخر وقد يكون الفعل واجبًا ويعتقد المعتقد أنه منع من إيقاعه على صفة مخصوصة كمن عليه صلاة ظهر مثلاً فظن أنه لا يجوز فعلها عند الغروب فسأل فقيل في جوابه: لا جناح عليك إن صليتها في هذا الوقت.
فالجواب صحيح ولا يستلزم ذلك الوجوب ولا يلزم من نفي الإثم عن الفاعل نفي الإثم عن التارك.
فلو كان المراد مطلق الإباحة لنفي الإثم عن التارك.

( قالت عائشة -رضي الله عنها- وقد سن) أي فرض ( رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الطواف بينهما) أي بين

الصفا والمروة بالسنة وليس المراد نفي فرضيتهما.
ويؤيده ما في مسلم من حديثها: ولعمري ما أتم الله حج من لم يطف بين الصفا والمروة.
واستدلّ البيهقي وابن عبد البر والنووي وغيرهم على ذلك أيضًا بكونه عليه الصلاة والسلام كان يسعى بينهما في حجه وعمرته وقال: "خذوا عني مناسككم" ( فليس لأحد أن يترك الطواف بينهما) وهو ركن عند الشافعية والمالكية والحنابلة.
وقال الحنفية: واجب يصح الحج بدونه ويجبر بدم.

وقال الزهري: ( ثم أخبرت أبا بكر بن عبد الرحمن) بن الحرث بن هشام بذلك ( فقال: إن هذا لعلم) بفتح اللام وهي المؤكدة وبالتنوين على أنه الخبر، وللحموي والمستملي: إن هذا العلم بالنصب صفة لهذا أي أن هذا هو العلم ( ما كنت سمعته) خبر لأن.
وكنت بلفظ المتكلم وما نافية، وعلى الرواية الأولى وهي للكشميهني لعلم خبر أن وكلمة ما موصولة ولفظ كنت للمتكلم في جميع ما وقفت عليه من الأصول.
وقال العيني كالكرماني ولفظ: كنت للمخاطب على النسخة الأولى وهي لعلم.

قال أبو بكر: ( ولقد سمعت رجالاً من أهل العلم يذكرون أن الناس إلا من ذكرت عائشة) -رضي الله عنها- والاستثناء معترض بين اسم أن وخبرها وهو قوله: ( ممن كان يهل بمناة) بالباء الموحدة ( كانوا يطوفون كلهم بالصفا والمروة) ، فلم يخصوا بطائفة بخلاف عائشة فإنها خصت الأنصار بذلك كما رواه الزهري عن عروة عنها.
( فلما ذكر الله تعالى الطواف بالبيت ولم يذكر الصفا والمروة في القرآن قالوا: يا رسول الله، كنا نطوف بالصفا والمروة) ، أي في الجاهلية ( وأن الله) بالواو، ولأبي الوقت: فإن الله عز وجل ( أنزل الطواف بالبيت فلم يذكر الصفا) ، أي والمروة ( فهل علينا من حرج) إثم ( أن نطوف) بتشديد الطاء ( بالصفا والمروة) ؟ إنما سألوا عن ذلك بناء على ما ظنوه من أن التطوف بهما من فعل الجاهلية ( فأنزل الله تعالى: {إن الصفا والمروة من شعائر الله} [البقرة: 158] قال أبو بكر: فأسمع) بفتح الهمزة والميم وضم العين على صيغة المتكلم من المضارع، وضبطها الدمياطي الحافظ فاسمع بوصل الهمزة وسكون العين على صيغة الأمر.
قال في الفتح: والأول أصوب ( هذه الآية) إن الصفا والمروة ( نزلت في الفريقين) الأنصار وقوم من العرب كما في مسلم ( كليهما) : قال العيني والبرماوي كالكرماني كلاهما وهو على لغة من يلزمها الألف دائمًا ( في الذين كانوا يتحرجون أن يطوفوا) وفي نسخة: أن يتطوفوا بالتاء ( في الجاهلية بالصفا والمروة) ، لكونه عندهم من أفعال الجاهلية، ( والذين يطوفون ثم تحرجوا بهما في الإسلام من أجل أن الله تعالى أمر بالطواف بالبيت ولم يذكر الصفا) ، أي ولا المروة ( حتى ذكر ذلك) أي الطواف بالصفا والمروة في قوله تعالى: ( {إن الصفا والمروة}) ( بعد ما ذكر الطواف بالبيت) في قوله تعالى {وليطوفوا بالبيت العتيق} [الحج: 29] والمراد تأخر نزول آية البقرة في الصفا والمروة عن آية الحج وليطوفوا بالبيت العتيق قال في الفتح
ووقع في رواية المستملي وغيره حتى ذكر بعد ذلك ما ذكر الطواف بالبيت.
قال الحافظ ابن حجر: وفي توجيهه عسر.
قال العيني: لا عسر فيه فقد وجهه الكرماني فقال: لفظة ما ذكر بدل من ذلك

وأن ما مصدرية والكاف مقدرة كما في: زيد أسد أي ذكر السعي بعد ذكر الطواف كذكر الطواف واضحًا جليًا ومشروعًا مأمورًا به.