فهرس الكتاب

إرشاد الساري - باب من خص بالعلم قوما دون قوم، كراهية أن لا يفهموا

باب مَنْ خَصَّ بِالْعِلْمِ قَوْمًا دُونَ قَوْمٍ كَرَاهِيَةَ أَنْ لاَ يَفْهَمُوا
وَقَالَ عَلِيٌّ: حَدِّثُوا النَّاسَ بِمَا يَعْرِفُونَ، أَتُحِبُّونَ أَنْ يُكَذَّبَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ؟.

هذا ( باب من خص بالعلم قومًا دون قوم) أي سوى قوم لا بمعنى إلا دون ( كراهية) بتخفيف الياء والنصب على التعليل مضاف لقوله ( أن لا يفهموا) وأن مصدرية، والتقدير لأجل كراهية عدم

فهم القوم الذين هم سوى القوم الذين خصّهم بالعلم.
ولفظ "أن" ساقط للأصيلي، وهذه الترجمة قريبة من السابقة لكنها في الأفعال وهذه في الأقوال ( وقال علي) أي ابن أبي طالب رضي الله عنه ( حدّثوا) بصيغة الأمر أي كلموا ( الناس بما يعرفون) ويدركون بعقولهم ودعوا ما يشتبه عليهم فهمه ( أتحبون) بالخطاب ( أن يكذب الله ورسوله) لأن الإنسان إذا سمع ما لا يفهمه وما لا يتصوّر إمكانه اعتقد استحالته جهلاً فلا يصدق وجوده، فإذا أسند إلى الله تعالى ورسوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لزم ذلك المحذور ويكذب بفتح الذال على صيغة المجهول.


[ قــ :126 ... غــ : 127 ]
- حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى عَنْ مَعْرُوفِ بْنِ خَرَّبُوذٍ عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ عَنْ عَلِيٍّ بِذَلِكَ.

وبالسند إلى المؤلف قال: ( حدّثنا عبيد الله) بالتصغير ( ابن موسى) العبسي مولاهم، وللأصيلي وابن عساكر وأبي ذر عن الكشميهني حدّثنا به ( عن معروف بن خربوذ) بفتح الخاء المعجمة وتشديد الراء المفتوحة وضم الموحدة آخره ذال معجمة مصروف باليونينية المكي مولى قريش ضعفه ابن معين، وليس له عند المؤلف سوى هذا الحديث وسقط في رواية أبي ذر وابن عساكر والأصيلي لفظ ابن خربوذ، ( عن أبي الطفيل) بضم الطاء وفتح الفاء عامر بن واثلة وهو آخر الصحابة موتًا ( عن عليّ بذلك) وللأصيلي زيادة ابن أبي طالب أي بالأثر المذكور، وهذا الإسناد من عوالي المؤلف لأنه يلتحق بالثلاثيات من جهة أن الراوي الثالث، وهو أبو الطفيل صحابي، وأخّر المؤلف هنا السند عن المتن ليميز بين طريقة إسناد الحديث وإسناد الأثر أو لضعف الإسناد بسبب ابن خربوذ أو للتفنّن وبيان الجواز، ومن ثم وقع في بعض النسخ مقدمًا وقد سقط هذا الأثر كله من رواية الكشميهني.




[ قــ :17 ... غــ : 18 ]
- حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-وَمُعَاذٌ رَدِيفُهُ عَلَى الرَّحْلِ- قَالَ: يَا مُعَاذُ بْنَ جَبَلٍ.
قَالَ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ.
قَالَ: يَا مُعَاذُ.
قَالَ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ ( ثَلاَثًا) .

قَالَ: مَا مِنْ أَحَدٍ يَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ صِدْقًا مِنْ قَلْبِهِ إِلاَّ حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَى النَّارِ.
قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلاَ أُخْبِرُ بِهِ النَّاسَ فَيَسْتَبْشِرُوا؟ قَالَ: إِذًا يَتَّكِلُوا».
وَأَخْبَرَ بِهَا مُعَاذٌ عِنْدَ مَوْتِهِ تَأَثُّمًا.
[الحديث 18 - طرفه في: 19] .


وبالسند إلى المؤلف قال: ( حدّثنا إسحاق بن إبراهيم) بن راهويه ( قال: حدّثنا) وفي رواية أبوي ذر والوقت والأصيلي أخبرنا ( معاذ بن هشام) أي ابن أبي عبد الله الدستوائي، المتوفى بالبصرة سنة مائتين ( قال: حدّثني) بالإفراد ( أبي) هشام ( عن قتادة) بن دعامة أنه ( قال: حدّثنا أنس بن مالك) رضي الله عنه.

( أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ومعاذ) أي ابن جبل ( رديفه) أي راكب خلفه ( على الرحل) بفتح الراء سكون الحاء المهملتين وهو للبعير أصغر من القتب، وعند المؤلف في الجهاد أنه كان على حمار ( قال

يا معاذ بن جبل)
بضم معاذ منادى مفرد علم، واختاره ابن مالك لعدم احتياجه إلى تقدير ونصبه على أنه مع ما بعده كاسم واحد مركب كأنه أضيف، وهذا اختاره ابن الحاجب والنادى المضاف منصوب فقط ( قال) أي معاذ ( لبيك يا رسول الله وسعديك، قال) عليه الصلاة والسلام: ( يا معاذ.
قال)
معاذ: ( لبيك يا رسول الله وسعديك ثلاثًا) يعني أن نداءه عليه الصلاة والسلام لمعاذ وإجابة معاذ قيل ثلاثًا ( قال: ما من أحد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله) شهادة ( صدقًا من قلبه إلا حرمه الله على النار) والجار والمجرور الأول وهو من قلبه يتعلق بقوله صدقًا أو بقوله يشهد، فعلى الأول الشهادة لفظية أي يشهد بلفظه ويصدق بقلبه، وعلى الثاني قلبية أي يشهد بقلبه ويصدّق بلسانه واحترز به عن شهادة المنافقين.

فإن قلت: إن ظاهر هذا يقتضي عدم دخول جميع من شهد الشهادتين النار لما فيه من التعميم والتأكيد وهو مصادم للأدلة القطعية الدالّة على دخول طائفة من عصاة الموحدين النار ثم يخرجون بالشفاعة؟ أجيب: بأن هذا مقيد بمن يأتي بالشهادتين تائبًا ثم يموت على ذلك، أو أن المراد بالتحريم هنا تحريم الخلود لا أصل الدخول أو أنه خرج مخرج الغالب إذ الغالب أن الموحد يعمل بالطاعات ويجتنب المعاصي، أو من قال ذلك مؤديًا حقه وفرضه، أو المراد تحريم النار على اللسان الناطق بالشهادتين كتحريم مواضع السجود.

( قال) معاذ ( يا رسول الله أفلا) بهمزة الاستفهام وفاء العطف الحذوف معطوفها والتقدير أقلت ذلك فلا ( أخبر به الناس فيستبشروا) نصب بحذف النون والتقدير فأن يستبشروا، ولأبي ذر فيستبشرون بالنون أي فهم يستبشرون.
( قال) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ( إذًا) أي إن أخبرتهم ( يتَّكلوا) بتشديد المثناة الفوقية أي يعتمدوا على الشهادة المجردة، وللكشميهني ينكلوا بنون ساكنة وضم الكاف من النكول وهو الامتناع أي يمتنعوا عن العمل اعتمادًا على مجرد التلفّظ بالشهادتين ( وأخبر) وفي رواية أخبر بغير واو ( بها معاذ عند موته) أي موت معاذ ( تأثمًا) بفتح المثناة الفوقية والهمزة وتشديد المثلثة نصب على أنه مفعول له أي تجنبًا عن الإثم إن كتم ما أمر الله بتبليغه حيث قال: { وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ} [آل عمران: 187] .

فإن قلت: سلمنا أنه تأثم من الكتمان، فكيف لا يتأثم من مخالفة الرسول عليه الصلاة والسلام في التبشير؟ أجيب بأن النهي كان مقيدًا بالاتكال، فأخبر به من لا يخشى عليه ذلك أو أن النهي إنما كان للتنزيه لا للتحريم، وإلاّ لما كان يخبر به أصلاً.
وقد روى البزار من حديث أبي سعيد الخدري في هذه القصة أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أذن لمعاذ في التبشير فلقيه عمر رضي الله عنه فقال: لا تعجل ثم دخل فقال: يا نبي الله أنت أفضل رأيًا لأن الناس إذا سمعوا ذلك اتكلوا عليها.
قال: فرده فرده.
وقد تضمن هذا الحديث أن يخص بالعلم قوم فيهم الضبط وصحة الفهم ولا يبذل المعنى اللطيف لمن لا يستأهله ومن يخاف عليه الترخيص، والاتكال لتقصير فهمه وهو مطابق لما ترجم له المؤلف.





[ قــ :18 ... غــ : 19 ]
- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ: حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسًا قَالَ: ذُكِرَ لِي أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ لِمُعَاذٍ: «مَنْ لَقِيَ اللَّهَ لاَ يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا دَخَلَ الْجَنَّةَ».
قَالَ: أَلاَ أُبَشِّرُ النَّاسَ؟ قَالَ: «لاَ.
إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَتَّكِلُوا».

وبه قال: ( حدّثنا مسدد) هو ابن مسرهد ( قال: حدّثنا معتمر) هو ابن سليمان بن طرخان البصري نزيل بني تميم، المتوفى بالبصرة سنة سبع وثمانين ومائة ( قال: سمعت أبي) سليمان المتوفى بالبصرة سنة ثلاث وأربعين ومائة ( قال: سمعت أنسًا) وفي رواية الأصيلي وابن عساكر أنس بن مالك ( قال ذكر لي) على صيغة المجهول ولم يسمّ أنس من ذكر له ذلك وهو غير قادح في صحة الحديث لأن متنه ثابت من طريق أخرى، وأيضًا فأنس لا يروي إلا عن عدل صحابي أو غيره فلا تضر الجهالة هنا، ويحتمل أن يكون عمرو بن ميمون أو عبد الرحمن بن سلمة.


( أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال لمعاذ) : زاد في رواية غير أبوي ذر والوقت ابن جبل ومقول القول ( من لقي الله) أي مات حال كونه ( لا يشرك به شيئًا) حين الموت ( دخل الجنة) وإن لم يعمل صالحًاً إما قبل دخوله النار أو بعده بفضل الله ورحمته، واقتصر على نفي الإشراك لأنه يستدعي التوحيد بالاقتضاء ولم يذكر إثبات الرسالة لأن نفي الإشراك يستدعي إثباتها للزوم أن من كذب رسل الله فقد كذب الله ومن كذب الله فهو كافر أو هو نحو من توضأ صحت صلاته أي عند وجود سائر الشروط فالمراد من لقي الله موحدًا بسائر ما يجب الإيمان به ( قال) معاذ وفي رواية أبي ذر فقال: ( ألا أبشر الناس) بذلك ( قال) النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ( لا) تبشرهم ثم استأنف فقال ( أخاف أن يتكلوا) بتشديد المثناة الفوقية أي أخاف اتكالهم على مجرد التوحيد، وفي رواية كريمة وأبي الوقت قال: لا إني أخاف، وعلى الرواية الأولى ليست كلمة النهي داخلة على أخاف فافهم.