فهرس الكتاب

إرشاد الساري - باب صوم الدهر

باب صَوْمِ الدَّهْرِ
( باب) بيان حكم ( صوم الدهر) هل هو مشروع أم لا؟ ومذهب الشافعية استحبابه لإطلاق الأدلة ولأنه-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "من صام الدهر ضيقت عليه جهنم هكذا وعقد بيده" أخرجه أحمد والنسائي وابنا خزيمة وحبان والبيهقي أي عنه فلم يدخلها.
قال الغزالي: لأنه لما ضيق على نفسه مسالك الشهوات بالصوم ضيق الله عليه النار فلا يبقى له فيها مكان لأنه ضيق طرقها بالعبادة فإن خاف ضررًا أو فوت حق كره صومه وهل المراد الواجب أو المندوب؟ قال السبكي: ويتجه أن يقال أنه إن علم أنه يفوّت حقًا واجبًا حرم وإن علم أنه يفوت حقًا مندوبًا أولى من الصيام كره وإن كان يقوم مقامه فلا.


[ قــ :1896 ... غــ : 1976 ]
- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَأَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو قَالَ: "أُخْبِرَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنِّي أَقُولُ: وَاللَّهِ لأَصُومَنَّ النَّهَارَ وَلأَقُومَنَّ اللَّيْلَ مَا عِشْتُ، فَقُلْتُ لَهُ: قَدْ قُلْتُهُ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي.
قَالَ: فَإِنَّكَ لاَ تَسْتَطِيعُ ذَلِكَ، فَصُمْ وَأَفْطِرْ، وَقُمْ وَنَمْ، وَصُمْ مِنَ الشَّهْرِ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ فَإِنَّ الْحَسَنَةَ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، وَذَلِكَ مِثْلُ صِيَامِ الدَّهْرِ.
قُلْتُ: إِنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ.
قَالَ: فَصُمْ يَوْمًا وَأَفْطِرْ يَوْمَيْنِ.
قُلْتُ: إِنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ.
قَالَ: فَصُمْ يَوْمًا وَأَفْطِرْ يَوْمًا، فَذَلِكَ صِيَامُ دَاوُدَ - عَلَيْهِ السَّلاَمُ -، وَهْوَ أَفْضَلُ الصِّيَامِ.
فَقُلْتُ: إِنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ.
فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: لاَ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ".

وبالسند قال: ( حدّثنا أبو اليمان) الحكم بن نافع قال: ( أخبرنا شعيب) هو ابن أبي حمزة ( عن الزهري) محمد بن مسلم بن شهاب ( قال: أخبرني) بالإفراد ( سعيد بن المسيب وأبو سلمة بن عبد الرحمن أن عبد الله بن عمرو) أي ابن العاصي ( قال: أخبر رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) بضم الهمزة وسكون المعجمة وكسر الموحدة مبنيًا للمفعول ورسول الله رفع نائب عن الفاعل ( إني أقول: والله لأصومنّ النهار ولأقومنّ الليل ما عشت) ، أي مدة حياتي.
( فقلت له) : عليه الصلاة والسلام فيه

كلام مطويّ تقديره فقال لي عليه الصلاة والسلام: أنت تقول والله لأصومنّ النهار ولأقومنّ الليل ما عشت، ولمسلم: أنت الذي تقول ذلك فقلت له: ( قد) ولأبي الوقت: فقد ( قلته بأبي أنت وأمي) أي أفديك بهما ( قال) عليه الصلاة والسلام.

( فإنك لا تستطيع ذلك) الذي قلته من صيام النهار وقيام الليل لحصول المشقة وإن لم يتعذر الفعل أو بأن تبلغ من العمر ما يتعذر معه ذلك وعلمه عليه الصلاة والسلام بطريق ما أو المراد لا تستطيع ذلك مع القيام ببقية المصالح الشرعية شرعًا ( فصم وأفطر) ، بهمزة قطع ( وقم ونم) ، ثم بين ما أجمل فقال ( وصم من الشهر ثلاثة أيام) لم يعينها ثم علل وجه كونها ثلاثة بقوله ( فإن الحسنة بعشر أمثالها وذلك مثل صيام الدهر) استشكل هذا من جهة أن القواعد تقتضي أن المقدر لا يكون كالمحقق وأن الأجور تتفاوت بحسب تفاوت المصالح أو المشقّة في الفعل فكيف يوازي من له حسنة واحدة في كل يوم جميع السنة من له عشر فيه وكيف يتساوى العامل وغيره في الأجر؟ وأجيب: بأن المراد هنا أصل التضعيف دون التضعيف الحاصل من الفعل فالمثلية لا تقتضي المساواة من كل وجه.
نعم يصدق على فاعل ذلك أنه صام الدهر مجازًا قال عبد الله ( قلت) : يا رسول الله ( إني أطيق أفضل من
ذلك)
أكثر من صيام ثلاثة أيام من كل شهر ( قال) : عليه الصلاة والسلام: ( فصم يومًا وأفطر يومين) بالإفراد في الأول والتثنية في الآخر وفي رواية حسين المعلم في الأدب فصم من كل جمعة ثلاثة أيام.
وفي رواية أبي المليح الآتية إن شاء الله تعالى في باب صوم داود: أما يكفيك من كل شهر ثلاثة أيام؟ قال، قلت يا رسول الله.
قال: خمسًا قلت: يا رسول الله.
قال: سبعًا.
قلت يا رسول الله.
قال: تسعًا قلت يا رسول الله قال: إحدى عشرة ( قلت إني أطيق أفضل) أكثر ( من ذلك قال) : ( فصم يومًا وأفطر يومًا فذلك صيام داود عليه السلام وهو أفضل الصيام) وفي قيام الليل من طريق عمرو بن أوسٍ عن عبد الله بن عمرو أحب الصيام إلى الله صيام داود، وهذا يقتضي ثبوت الأفضلية مطلقًا ومقتضاه أن تكون الزيادة على ذلك من الصوم مفضولة ( فقلت: إني أطيق أفضل) أكثر ( من ذلك، فقال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) : ( لا) صوم ( أفضل من ذلك) فهو يفضل من صوم الدهر كما قاله المتولي وغيره: ويترجج من حيث المعنى بأن صيام الدهر قد يفوّت بعض الحقوق وبأن من اعتاده فإنه لا يكاد يشق عليه بل تضعف شهوته عن الأكل وتقل حاجته إلى الطعام والشراب نهارًا ويألف تناوله في الليل بحيث يتجدد له طبع زائد بخلاف من يصوم يومًا ويفطر يومًا فإنه ينتقل من فطر إلى صوم ومن صوم إلى فطر، وقد نقل الترمذي عن بعض أهل العلم أنه أشق الصوم ويأمن مع ذلك من تفويت الحقوق، وعند سعيد بن منصور بإسناد صحيح عن ابن مسعود أنه قيل له: إنك لتقل الصيام.
فقال: إني أخاف أن يضعفني عن القراءة والقراءة أحب إلي من الصيام، لكن في فتاوى ابن عبد السلام أن صوم الدهر أفضل لأنه أكثر عملاً فيكون أكثر أجرًا وما كان أكثر أجرًا كان أكثر ثوابًا وبذلك جزم الغزالي أولاً وقيده بشرط أن لا يصوم الأيام المنهي عنها وأن لا يرغب عن السنة بأن يجعل الصوم حجرًا على نفسه، فإذا أمن فالصوم من أفضل الأعمال فالاستكثار منه زيادة في الفضل.


وقوله في الحديث: لا أفضل من ذلك أي لك وذلك لما علم من حاله ومنتهى قوته وأن ما هو أكثر من ذلك يضعفه عن الفرائض ويقعد به عن الحقوق والمصالح، ويلتحق به من في معناه.
لكن تعقبه ابن دقيق العيد بأن الأفعال متعارضة المصالح والمفاسد وليس كل ذلك معلومًا لنا ولا مستحضرًا، وإذا تعارضت المصالح والمفاسد فمقدار تأثير كل واحدة منها في الحث أو المنع غير محقق لنا فالطريق حينئذ أن نفوّض الأمر إلى صاحب الشرع ونجري على ما دل عليه ظاهر الشرع من قوة الظاهر هنا، وأما زيادة العمل واقتضاء العادة لزيادة الأجر بسببه فيعارضه اقتضاء العادة والجبلة للتقصير في حقوق يعارضها الصوم الدائم ومقادير ذلك الفائت مع أن مقادير الحاصل من الصوم غير معلومه لنا.

ومطابقة الحديث للترجمة في قوله: وذلك مثل صيام الدهر.