فهرس الكتاب

إرشاد الساري - باب التماس ليلة القدر في السبع الأواخر

باب الْتِمَاسِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ فِي السَّبْعِ الأَوَاخِرِ
( باب التماس ليلة القدر) ولابن عساكر وأبي ذر عن الكشميهني: باب بالتنوين التمسوا ليلة القدر ( في السبع الأواخر) من رمضان.


[ قــ :1933 ... غــ : 2015 ]
- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما-: "أَنَّ رِجَالاً مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أُرُوا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي الْمَنَامِ فِي السَّبْعِ الأَوَاخِرِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: أَرَى رُؤْيَاكُمْ قَدْ تَوَاطَأَتْ فِي السَّبْعِ الأَوَاخِرِ، فَمَنْ كَانَ مُتَحَرِّيَهَا فَلْيَتَحَرَّهَا فِي السَّبْعِ الأَوَاخِرِ".

وبالسند قال: ( حدّثنا عبد الله بن يوسف) التنيسي قال: ( أخبرنا مالك) الإمام ( عن نافع عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أن رجالاً من أصحاب النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) لم يسم أحد منهم ( أُوروا ليلة القدر) بضم الهمزة من أروا مبنيًا للمفعول تنصب مفعولين أحدهما النائب عن الفاعل والآخر قوله ليلة القدر أي أراهم الله ليلة القدر ( في المنام في) ليالي ( السبع الأواخر) جمع آخر بكسر الخاء.

قال في المصابيح: ولا يجوز أخر لأنه جمع لأخرى وهي لا دلالة لها على المقصود وهو التأخير في الوجود، وإنما تقتضي المغايرة تقول: مررت بامرأة حسنة وامرأة أخرى مغايرة لها ويصح هذا التركيب سواء كان المرور بهذه المرأة المغايرة سابقًا أو لاحقًا وهذا عكس العشر الأول فإنه يصح لأنه جمع أولى ولا يصح الأوائل لأنه جمع أوّل الذي هو للمذكر وواحد العشر ليلة وهي مؤنثة فلا توصف بمذكر، وقول الكرماني قوله في السبع الأواخر ليس ظرفًا للإراءة معناه أنه صفة لقوله في المنام أي في المنام الواقع أو الكائن في السبع الأواخر، وقول الحافظ ابن حجر أي قيل لهم في المنام إنها في السبع الأواخر تعقبه العيني بأنه ليس بصحيح لأنه يقتضي أن ناسًا قالوا لهم إن ليلة القدر في السبع الأواخر وليس هذا تفسير قوله أروا ليلة القدر في المنام بل تفسيره أن ناسًا أروهم إياها فرأوا، وعلى تفسير هذا القائل أخبروا بأنها في السبع الأواخر ولا يستلزم هذا رؤيتهم اهـ.


وظاهر الحديث أن رؤياهم كانت قبل دخول السبع الأواخر لقوله: فليتحرّها في السبع الأواخر، ثم يحتمل أنهم رأوا ليلة القدر وعظمتها وأنوارها ونزول الملائكة فيها وأن ذلك كان في ليلة من السبع الأواخر ويحتمل أن قائلاً قال لهم هي في كذا وعين ليلة من السبع الأواخر ونسيت أو قال أن ليلة القدر في السبع فهي ثلاث احتمالات ( فقال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) :
( أرى) بفتح الهمزة والراء أي أعلم ( رؤيكم) بالإفراد والمراد الجمع أي رؤاكم لأنها لم تكن رؤيا واحدة فهو مما عاقب الإفراد فيه الجمع لأمن اللبس، وقول السفاقسي أن المحدثين يروونه بالتوحيد وهو جائز وأفصح منه رؤاكم جمع رؤيا ليكون جمعًا في مقابلة جمع فيه نظر لأنه بإضافته إلى ضمير الجمع علم منه التعدد بالضرورة، وإنما عبّر بأرى لتجانس رؤياكم ومفعول أرى الأول رؤياكم والثاني قوله ( قد تواطأت) بالهمزة.
قال النووي: ولا بد من قراءته مهموزًا قال الله تعالى: { ليواطئوا عدّة ما حرم الله} [التوبة: 37] وقال في شرح التقريب: وروي تواطت بترك الهمزة، وقال في المصابيح: ويجوز تركه أي توافقت ( في) رؤيتها في ليالي ( السبع الأواخر فمن كان متحرّيها) أي طالبها وقاصدها ( فليتحرّها في) ليالي ( السبع الأواخر) من رمضان من غير تعيين وهي التي تلي آخره أو السبع بعد العشرين، والحمل على هذا أولى لتناوله إحدى وعشرين وثلاثًا وعشرين بخلاف الحمل على الأول فإنهما لا يدخلان ولا تدخل ليلة التاسع والعشرين على الثاني وتدخل على الأول.

وفي حديث عليّ مرفوعًا عند أحمد فلا تغلبوا في السبع البواقي.
ولمسلم من طريق عتبة بن حريث عن ابن عمر: التمسوها في العشر الأواخر فإن ضعف أحدكم أو عجز فلا يغلبن على السبع البواقي، وهذا السياق يرجح الاحتمال الأول من تفسير السبع، وظاهر الحديث أن طلبها في السبع مستنده الرؤيا وهو مشكل لأنه إن كان المعنى أنه قيل لكل واحد هي في السبع فشرط التحمل التمييز وهم كانوا نيامًا، وإن كان معناه أن كل واحد رأى الحوادث التي تكون فيها في منامه في السبع فلا يلزم منه أن تكون في السبع كما لو رئيت حوادث القيامة في المنام في ليلة، فإنه لا تكون تلك الليلة محلاً لقيامها.

وأجيب: بأن الاستناد إلى الرؤيا إنما هو من حيث الاستدلال بها على أمر وجودي غير مخالف لقاعدة الاستدلال، والحاصل أن الاستناد إلى الرؤيا هنا في أمر ثبت استحبابه مطلقًا وهو طلب ليلة القدر، وإنما ترجح السبع الأواخر بسبب الرؤى الدالة على كونها في السبع الأواخر وهو استدلال على أمر وجودي لزمه استحباب شرعي مخصوص بالتأكيد بالنسبة إلى هذه الليالي لا أنها ثبت بها حكم، أو أن الاستناد إلى الرؤيا إنما هو من حيث إقراره -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لها كأحد ما قيل في رؤيا الأذان.

وهذا الحديث أحرجه مسلم في الصوم، والنسائي في الرؤيا.




[ قــ :1934 ... غــ : 016 ]
- حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ فَضَالَةَ حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ يَحْيَى عَنْ أَبِي سَلَمَةَ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا سَعِيدٍ -وَكَانَ لِي صَدِيقًا- فَقَالَ: "اعْتَكَفْنَا مَعَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْعَشْرَ الأَوْسَطَ مِنْ رَمَضَانَ، فَخَرَجَ صَبِيحَةَ

عِشْرِينَ فَخَطَبَنَا.

     وَقَالَ : إِنِّي أُرِيتُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ ثُمَّ أُنْسِيتُهَا -أَوْ نُسِّيتُهَا- فَالْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ فِي الْوَتْرِ، وَإِنِّي رَأَيْتُ أَنِّي أَسْجُدُ فِي مَاءٍ وَطِينٍ، فَمَنْ كَانَ اعْتَكَفَ مَعِي فَلْيَرْجِعْ.
فَرَجَعْنَا، وَمَا نَرَى فِي السَّمَاءِ قَزَعَةً، فَجَاءَتْ سَحَابَةٌ فَمَطَرَتْ حَتَّى سَالَ سَقْفُ الْمَسْجِدِ، وَكَانَ مِنْ جَرِيدِ النَّخْلِ، وَأُقِيمَتِ الصَّلاَةُ فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَسْجُدُ فِي الْمَاءِ وَالطِّينِ، حَتَّى رَأَيْتُ أَثَرَ الطِّينِ فِي جَبْهَتِهِ".

وبه قال ( حدّثنا) بالجمع: ولأبي ذر: وحدثني بواو العطف والتوحيد ( معاذ بن فضالة) بفتح الفاء وتخفيف المعجمة الزهراني الطفاوي البصري قال: ( حدّثنا هشام) الدستوائي ( عن يحيى) بن أبي كثير ( عن أبي سلمة) بن عبد الرحمن بن عوف ( قال: سألت أبا سعيد) سعد بن مالك الخدري -رضي الله عنه- ( وكان لي صديقًا فقال: اعتكفنا) لم يذكر المسؤول عنه هنا، وفي رواية علي بن المبارك الآتية في باب الاعتكاف سألت أبا سعيد الخدري -رضي الله عنه- قلت: هل سمعت رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يذكر ليلة القدر؟ قال: نعم اعتكفنا ( مع النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- العشر الأوسط من رمضان) ذكره وكان حقه أن يقول الوسطى بالتأنيث إما باعتبار لفظ العشر من غير نظر إلى مفرداته ولفظه مذكر فيصح وصفه بالأوسط، وإما باعتبار الوقت أو الزمان أي ليالي العشر التي هي الثلث الأوسط من الشهر ( فخرج) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ( صبيحة عشرين فخطبنا) بفاء التعقيب وظاهر رواية مالك الآتية إن شاء الله تعالى في باب الاعتكاف حيث قال: حتى إذا كان ليلة إحدى وعشرين وهي الليلة التي يخرج من صبيحتها من اعتكافه يخالف ما هنا إذ مقتضاه أن خطبته وقعت في أول اليوم الحادي والعشرين، وعلى هذا يكون أول ليالي اعتكافه الأخير ليلة اثنتين وعشرين وهو مغاير لقوله في آخر الحديث: فبصرت عيناي رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وعلى جبهته أثر الماء والطين من صبح يوم إحدى وعشرين فإنه ظاهر في أن الخطبة كانت في صبح اليوم العشرين، ووقوع المطر في ليلة إحدى وعشرين وهو الموافق لبقية الطرق وعلى هذا فالمراد أي من الصبح الذي قبلها ويكون في إضافة الصبح إليها تجوّز، ويؤيده أن في رواية الباب الذي يليه فإذا كان حين يمسي من عشرين ليلة تمضي ويستقبل إحدى وعشرين رجع إلى مسكنه وهذا في غاية الإيضاح قاله في فتح الباري.

( وقال) عليه الصلاة والسلام: ( إني أريت ليلة القدر) بضم الهمزة مبنيًا للمفعول من الرؤيا أي أعلمت بها أو من الرؤية أي أبصرتها وإنما أرى علامتها وهو السجود في الماء والطين كما في رواية همام عن يحيى في باب السجود في الماء والطين من صفة الصلاة بلفظ: حتى رأيت أثر الماء والطين على جبهة رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تصديق رؤيه ( ثم أنسيتها) بضم الهمزة أي أنساه غيره إياها وكذا قوله ( أو نسيتها) .
على رواية ضم النون وتشديد السين وهو الذي في اليونينية وغيرها، وفي بعضها بالفتح والتخفيف أن نسيها هو من غير واسطة والشك من الراوي، والمراد أنه أنسي علم تعيينها في تلك السنة لا رفع وجودها لأنه أمر بالتماسها حيث قال: ( فالتمسوها) أي ليلة القدر ( في العشر الأواخر في الوتر) أي في أوتار تلك الليالي وأولها ليلة الحادي والعشرين إلى آخر ليلة التاسع والعشرين لا

ليلة إشفاعها، وهذا لا ينافي قوله: التمسوها في السبع الأواخر لأنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لم يحدث بميقاتها جازمًا به ( وإني رأيت) أي في منامي ( أني أسجد) وللكشميهني كما في الفتح: أن أسجد ( في ماء وطين فمن كان اعتكف مع رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فليرجع) إلى معتكفه وفيه التفات إذ الأصل أن يقول اعتكف معي ( فرجعنا) إلى معتكفنا ( وما نرى في السماء قزعة) بفتح القاف والمعجمة أي قطعة رقيقة من السحاب، ( فجاءت سحابة فمطرت) بفتحات ( حتى سأل سقف المسجد) من باب ذكر المحل وإرادة الحال أي قطر الماء من سقفه، ( وكان) السقف ( من جريد النخل) سعفه الذي جرد عنه خوصه ( وأقيمت الصلاة) صلاة الصبح ( فرأيت رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يسجد في الماء والطين حتى رأيت أثر الطين في جبهته) الشريفة -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- زاد في رواية همام في باب السجود على الأنف في الطين تصديق رؤياه، ومبحث السجود بأثر الطين قد سبق في الصلاة وحمله الجمهور على الأثر الخفيف والله أعلم.