فهرس الكتاب

إرشاد الساري - باب وجوب النفير، وما يجب من الجهاد والنية

باب وُجُوبِ النَّفِيرِ وَمَا يَجِبُ مِنَ الْجِهَادِ وَالنِّيَّةِ وَقَوْلِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ: { انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لاَتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ} [التوبة: 41] الآيَةَ.
وَقَوْلِهِ: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ؟ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ -إِلَى قَوْلِهِ- عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ} [التوبة: 38]
يُذْكَرُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: "انْفِرُوا ثُبَاتٍ: سَرَايَا مُتَفَرِّقِينَ"، وَيُقَالُ: أَحَدُ الثُّبَاتِ ثُبَةٌ.

( باب وجوب النفير) ، بفتح النون وكسر الفاء أي الخروج إلى قتال الكفار ( وما يجب) أي وبيان القدر الواجب ( من الجهاد) مشروعية ( النيّة) في ذلك، ( وقوله) بالجر عطفًا على المجرور السابق، ولأبي ذر وقول الله عز وجل آمرًا بالنفير العام مع الرسول عليه الصلاة والسلام عام غزوة تبوك لقتال
أعداء الله من الروم الكفرة من أهل الكتاب وحتم على المؤمنين في الخروج معه على كل حال في المنشط والمكره والعسر واليسر فقال تعالى: ( { انفروا خفافًا} ) لنشاطكم له ( { وثقالاً} ) عنه لمشقة عليكم أو لقلة عيالكم ولكثرتها أو ركبانًا ومشاة أو خفافًا وثقالا من السلاح أو صحاحًا ومراضًا، ولما فهم بعض الصحابة من هذا الأمر العموم لم يتخلفوا عن الغزو حتى ماتوا منهم أبو أيوب الأنصاري والمقداد بن الأسود، ثم رغب تعالى في بذل المهج في مرضاته والنفقة في سبيله فقال ( { وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله} ) أي بما أمكن لكم منهما كليهما أو أحدهما ( { ذلكم خير لكم} ) من تركه ( { إن كنتم تعلمون} ) الخير ( { لو كان عَرَضًا قريبًا} ) أي لو كان ما دعوا إليه نفعًا دنيويًا قريبًا سهل المأخذ ( { وسفرًا قاصدًا} ) متوسطًا ( { لاتبعوك} ) طمعًا في ذلك النفع ( { ولكن بعدت عليهم الشقّة} ) أي المسافة التي تقطع بمشقة ( { وسيحلفون بالله} ) [التوبة: 41، 42] .
لكم إذا رجعتم إليهم لو استطعنا لخرجنا معكم ( الآية) إلى آخرها.
وساقها إلى آخر قوله: { بالله} وقال في رواية أبي ذر بعد قوله: { بأموالكم وأنفسكم} إلى { إنهم لكاذبون} وحذف ما عدا ذلك، وقد ذكر سفيان الثوري عن أبيه عن أبي الضحى أن هذه الآية { انفروا خفافًا} أوّل ما نزل من سورة براءة نقله ابن كثير الحافظ.

( وقوله) تعالى بالجر أو بالرفع على الاستئناف: ( { يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثّاقلتم} ) تباطأتم ( { إلى الأرض} ) متعلق به كأنه ضمن معنى الإخلاد والميل فعدى بإلى، وكان هذا في غزوة تبوك حيث أمروا بها بعد رجوعهم من الطائف حين طاب الثمار والظلال في شدة الحر مع بعد المشقّة وكثرة العدوّ فشق عليهم ( { أرضيتم بالحياة الدنيا} ) وغرورها ( { من الآخرة} ) بدل الآخرة ونعيمها ( إلى قوله) ( { على كل شيء قدير} ) [التوبة: 38، 39] .
وقال في رواية أبي ذر قوله: { إلى الأرض} إلى قوله: { والله على كل شيء قدير} .

( يذكر) بضم أوّله مبنيًّا للمفعول بغير واو، ولأبي ذر: ويذكر ( عن ابن عباس) -رضي الله عنهما- مما وصله الطبري من طريق علي بن أبي طلحة عنه ( انفروا) حال كونكم ( ثبات) بضم المثلثة وتخفيف الموحدة نصب بالكسرة كهندات جمع ثبة، ولأبي ذر والقابسي: ثباتًا بالألف.
قال ابن حجر: وهو غلط لا وجه له.
وقال العيني: وهو صحيح لأنه جمع المؤنث السالم، وكذا قال ابن الملقن والزركشي، وتعقبه العلاّمة ابن الدماميني: بأن مذهب الكوفيين جواز إعرابه في حالة النصب بالفتح مطلقًا، وجوّزه قوم في محذوف اللام وعلى كلٍّ من الرأيين يكون لهذه الرواية وجهة، ومن ذا الذي أوجب اتباع المذهب البصري وألغى المذهب الكوفي حتى يقال بأن هذه الرواية لا وجه لها اهـ.

والمعنى انفروا جماعات متفرقة حال كونكم ( سرايا) جمع سرية ممن يدخل دار الحرب مستخفيًا حال كونكم ( متفرقين.
يقال أحد الثبات)
ولأبي ذر: واحد الثبات ( ثبة) .
بضم المثلثة فيهما وهذا قول أبي عبيدة في المجاز.


[ قــ :2697 ... غــ : 2825 ]
- حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ حَدَّثَنَا يَحْيَى حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ: حَدَّثَنِي مَنْصُورٌ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ طَاوُسٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما-: "أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ يَوْمَ الْفَتْحِ، لاَ هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ، وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ، وَإِذَا اسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا".

وبه قال: ( حدّثنا عمرو بن علي) بفتح العين وسكون الميم أبو حفص الباهلي البصري قال: ( حدّثنا يحيى) القطان.
ولأبي ذر: يحيى بن سعيد قال: ( حدّثنا سفيان) هو الثوري ( قال: حدّثني) بالإفراد ( منصور) هو ابن المعتمر ( عن مجاهد) هو ابن جبر المفسر ( عن طاوس عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال يوم الفتح) فتح مكة:
( لا هجرة) واجبة من مكة إلى المدينة ( بعد الفتح، ولكن جهاد) في الكفار ( ونيّة، فإذا استنفرتم فانفروا) بهمزة وصل وكسر الفاء أي إذا طلبكم الإمام إلى الغزو فأخرجوا إليه وجوبًا فيتعيّن على من عيّنه الإمام، وكذا إذا وطئ الكفار بلدة للمسلمين وأظلوا عليها ونزلوا أمامها قاصدين ولم يدخلوا صار الجهاد فرض عين، فإن لم يكن في أهل البلدة قوة وجب على من يليهم وهل كان في الزمن النبوي فرض عين أو كفاية؟ قال الماوردي: كان عينًا على المهاجرين فقط.
وقال السهيلي: كان عينًا على الأنصار دون غيرهم لمبايعتهم النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ليلة العقبة على أن يؤوه وينصروه، وقيل: كان عينًا في الغزوة التي يخرج فيها عليه الصلاة والسلام دون غيرها، والتحقيق أنه كان عينًا على من عينه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في حقه ولو لم يخرج عليه الصلاة والسلام.

وهذا الحديث قد سبق في باب فضل الجهاد.