فهرس الكتاب

إرشاد الساري - باب إثم من عاهد ثم غدر

باب إِثْمِ مَنْ عَاهَدَ ثُمَّ غَدَرَ وَقَوْل اللهِ: { الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لاَ يَتَّقُونَ} [الأنفال: 56]
( باب إثم من عاهد ثم غدر) بأن نقض العهد ( وقوله) بالجر عطفًا على سابقه ولأبي ذر: وقول الله ( { الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم في كل مرة} ) قال البيضاوي: هم يهود قريظة عاهدهم رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن لا يمالؤوا عليه فأعانوا المشركين بالسلاح وقالوا: نسينا، ثم عاهدهم فنكثوا ومالؤوهم عليه يوم الخندق وركب كعب بن الأشرف إلى مكة فحالفهم ومن لتضمين المعاهدة معنى الأخذ والمراد بالمرة مرة المعاهدة أو المحاربة ( { وهم لا يتقون} ) [الأنفال: 56] .
سبة الغدر، ولأبي ذر بعد قوله: { في كل مرة} الآية فأسقط ما بعدها.


[ قــ :3033 ... غــ : 3178 ]
- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنِ الأَعْمَشِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُرَّةَ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو -رضي الله عنهما- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «أَرْبَعُ خِلاَلٍ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا: مَنْ إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ.
وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ.
وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا».

وبه قال: ( حدّثنا قتيبة بن سعيد) الثقفي البغلاني قال: ( حدّثنا جرير) هو ابن عبد الحميد بن قرط بضم القاف وسكون الراء ( عن الأعمش) سليمان بن مهران الكوفي ( عن عبد الله بن مرة) بضم الميم وتشديد الراء الهمداني بسكون الميم الكوفي التابعي ( عن مسروق) أبي عائشة بن الأجدع بالجيم والدال والعين المهملتين التابعي الكوفي ( عن عبد الله بن عمرو) أي ابن العاص ( -رضي الله عنهما-) أنه ( قال: قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) :
( أربع خلال) جمع خلة وهي الخصلة ( من كنّ فيه كان منافقًا خالصًا.
من إذا حدّث كذب)
، فأخبر بخلاف الواقع والشرطية خبر المبتدأ الذي هو أربع خلال ( وإذا وعد) بخير في المستقبل ( أخلف) ، فلم يفِ ( وإذا عاهد غدر) وهذا موضع الترجمة ( وإذا خاصم فجر) .
قال البيضاوي: يحتمل أن يكون هذا خاصًّا بأبناء زمانه عليه الصلاة والسلام علم بنور الوحي بواطن أحوالهم وميز بين من آمن به صدقًا ومن أذعن له نفاقًا فأراد تعريف أصحابه حالهم ليكونوا على حذر منهم ولم يصرح بأسمائهم لأنه علم أن منهم من سيتوب فلم يفضحهم بين الناس ولأن عدم التعيين أوقع في النصيحة وأجلب للدعوة إلى الإيمان وأبعد عن النفور والمخاصمة، ويحتمل أن يكون عامًا لينزجر الكل عن هذه الخصال على آكد وجه إيذانًا بأنها طلائع النفاق الذي هو أسمج القبائح كأنه كفر مموّه باستهزاء وخداع مع رب الأرباب ومسبب الأسباب فعلم من ذلك أنها منافية لحال المسلمين فينبغي للمسلم أن لا يرتع حولها فإن من يرتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه، ويحتمل أن يكون المراد بالمنافق العرفي وهو من يخالف سره علنه مطلقًا، ويشهد له قوله: ( ومن
كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها)
.
لأن الخصال التي تتم بها المخالفة بين السر والعلن لا تزيد على هذا فإذا نقصت منها واحدة نقص الكمال اهـ.

فمن ندر ذلك منه ليس داخلاً في ذلك والكذب أقبحها ولذلك علل الله سبحانه وتعالى عذابهم به في قوله: { ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون} [البقرة: 10] .
ولم يقل بما كانوا يصنعون من النفاق.

وهذا الحديث سبق في باب الإيمان.




[ قــ :3034 ... غــ : 3179 ]
- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنِ الأَعْمَشِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَلِيٍّ -رضي الله عنه- قَالَ: "مَا كَتَبْنَا عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلاَّ الْقُرْآنَ، وَمَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ، قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: الْمَدِينَةُ حَرَامٌ مَا بَيْنَ عَائِرٍ إِلَى كَذَا، فَمَنْ أَحْدَثَ حَدَثًا أَوْ آوَى مُحْدِثًا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لاَ يُقْبَلُ مِنْهُ عَدْلٌ وَلاَ صَرْفٌ.
وَذِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ وَاحِدَةٌ يَسْعَى بِهَا أَدْنَاهُمْ، فَمَنْ أَخْفَرَ مُسْلِمًا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لاَ يُقْبَلُ مِنْهُ صَرْفٌ وَلاَ عَدْلٌ.
وَمَنْ وَالَى قَوْمًا بِغَيْرِ إِذْنِ مَوَالِيهِ فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لاَ يُقْبَلُ مِنْهُ صَرْفٌ وَلاَ عَدْلٌ".

وبه قال: ( حدّثنا محمد بن كثير) بالمثلثة العبدي البصري قال: ( أخبرنا سفيان) الثوري ( عن الأعمش) سليمان ( عن إبراهيم التيمي عن أبيه) يزيد بن شريك التيمي ( عن علي -رضي الله عنه-) أنه ( قال: ما كتبنا عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إلاَّ القرآن وما في هذه الصحيفة) .

فإن قلت: إن ( ما) و ( إلاَّ) يفيدان الحصر عند علماء المعاني فيفيد التركيب أن عليًّا -رضي الله عنه- ما كتب شيئًا غير القرآن وما في هذه الصحيفة.
فالجواب: إن في مسند الإمام أحمد أن عليًّا قال: ما عهد إليّ رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- شيئًا خاصة دون الناس إلا شيئًا سمعته منه فهو في صحيفتي في قراب سيفي قال: يزالوا به حتى أخرج الصحيفة.

( قال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: المدينة حرام) كحرم مكة لا يحل صيدها ونحو ذلك ( ما بين عائر) بالمدّ جبل معروف ( إلى كذا) ، وفي رواية ما بين عير وثور وفي أخرى بين عير وأُحُد، ورجحت هذه بأن أُحدًا بالمدينة وثورًا بمكة بل صرح بعضهم بتغليط الراوي وحمله بعضهم على أن المراد أنه حرم من المدينة قدر ما بين عير وثور من مكة أو حرم المدينة تحريمًا مثل تحريم ما بين عير وثور بمكة على حذف مضاف ( فمن أحدث حدثًا) منكرًا ليس بمعروف ( أو آوى محدثًا) بهمزة ممدودة ومحدثًا بكسر الدال أي نصر جانيًا وآواه وأجاره من خصمه وحال بينه وبين أن يقتص منه ويجوز فتح الدال وهو الأمر المبتدع نفسه ويكون بمعنى الإيواء الرضا به والصبر عليه فإذا رضي بالبدعة وأقرّ فاعلها ولم ينكرها فقد آواه ( فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل منه عدل ولا صرف) .
فريضة ولا نفل أو شفاعة ولا فدية ( وذمة المسلمين واحدة) أي عهدهم لأنها يذم متعاطيها على
إضاعتها ( يسعى بها) أي يتولاها ويذهب بها ( أدناهم) أي أقلهم عددًا، فإذا أمن أحد من المسلمين كافرًا وأعطاه ذمته لم يكن لأحد نقضه ( فمن أخفر مسلمًا) بهمزة مفتوحة فخاء ساكنة معجمة يقال خفرت الرجل أجرته وحفظته وأخفرت الرجل إذا نقضت عهده وذمامه، والهمزة فيه للإزالة أي أزلت خفارته كأشكيته إذا أزلت شكواه ( فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل منه صرف ولا عدل، ومن والى قومًا) أي اتخذهم أولياء ( بغير إذن مواليه) ظاهره يوهم أنه شرط وليس شرطًا لأنه لا يجوز له إذا أذنوا له أن يوالي غيرهم إنما هو بمعنى التوكيد لتحريمه والتنبيه على بطلانه والإرشاد إلى السبب فيه لأنه إذا استأذن أولياءه في موالاة غيرهم منعوه، والمعنى إن سولت له نفسه ذلك فليستأذنهم فإنهم يمنعونه ( فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل منه صرف ولا عدل) .

وهذا الحديث مرّ في باب ذمة المسلمين وجوارهم والغرض منه هنا كما قال ابن حجر: فمن أخفر مسلمًا أي نقض عهده كما مرّ.
وقال العيني: يمكن أن تؤخذ المطابقة من قوله فمن أحدث حدثًا الخ ... لأن في إحداث الحدث وإيواء المحدث والموالاة بغير إذن مواليه معنى الغدر فلذا استحق هؤلاء اللعنة اهـ.




[ قــ :3034 ... غــ : 3180 ]
- قَالَ أَبُو مُوسَى حَدَّثَنَا هَاشِمُ بْنُ الْقَاسِمِ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ سَعِيدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: "كَيْفَ أَنْتُمْ إِذَا لَمْ تَجْتَبُوا دِينَارًا وَلاَ دِرْهَمًا؟ فَقِيلَ لَهُ: وَكَيْفَ تَرَى ذَلِكَ كَائِنًا يَا أَبَا هُرَيْرَةَ؟ قَالَ: إِيْ وَالَّذِي نَفْسُ أَبِي هُرَيْرَةَ بِيَدِهِ, عَنْ قَوْلِ الصَّادِقِ الْمَصْدُوقِ.
قَالُوا: عَمَّ ذَاكَ؟ قَالَ: تُنْتَهَكُ ذِمَّةُ اللَّهِ وَذِمَّةُ رَسُولِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَيَشُدُّ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ قُلُوبَ أَهْلِ الذِّمَّةِ فَيَمْنَعُونَ مَا فِي أَيْدِيهِمْ".

( قال أبو موسى) هو محمد بن المثنى شيخ المؤلّف مما وصله أبو نعيم في المستخرج ولأبي ذر قال أي البخاري وقال أبو موسى، وقال في الفتح: ووقع في بعض نسخ البخاري حدّثنا أبو موسى قال: والأول هو الصحيح وبه جزم الإسماعيلي وأبو نعيم وغيرهما قال: ( حدّثنا هاشم بن القاسم) أبو النضر التميمي قال: ( حدّثنا إسحاق بن سعيد عن أبيه) سعيد بن عمرو بن سعيد بن العاص ( عن أبي هريرة -رضي الله عنه-) أنه ( قال: كيف أنتم إذا لم تجتبوا) بجيم ساكنة ففوقية ثانية مفتوحة فموحدة من الجباية أي لم تأخذوا من الجزية والخراج ( دينارًا ولا درهمًا؟ فقيل له: وكيف ترى ذلك كائنًا يا أبا هريرة؟ قال: إي) بكسر الهمزة وسكون التحتية ( والذي نفس أبي هريرة بيده عن قول الصادق المصدوق) .
الذي لم يقل له إلا الصدق يعني أن جبريل مثلاً لم يخبره إلا بالصدق ( قالوا: عم ذلك؟ قال: تنتهك) بضم الفوقية وسكون النون وفتح الفوقية الأخرى والكاف ( ذمة الله وذمة رسوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أي يتناول ما لا يحل من الجور والظلم ( فيشدّ الله عز وجل) بالشين المعجمة المضمومة والدال المهملة ( قلوب أهل الذمة فيمنعون ما في أيديهم) أي من الجزية.

وفي هذا الحديث التوصية بأهل الذمة لما في الجزية التي تؤخذ منهم من نفع المسلمين، وفيه التحذير من ظلمهم وأنه متى وقع ذلك نقضوا العهد فلم يجتب المسلمون منهم شيئًا فتضيق أحوالهم.