فهرس الكتاب

إرشاد الساري - باب الأكفاء في الدين

باب الأَكْفَاءِ فِي الدِّينِ وَقَوْلِهِ: { وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا}
( باب الأكفاء في الدين) بفتح الهمزة الأولى جمع كفء بضم الكاف وسكون تاليها آخره المثل والنظير يقال: كافأه أي ساواه، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام: المؤمنون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم فالكفاءة معتبرة في النكاح لما روى جابر أنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: ألا لا يزوج النساء إلا الأولياء ولا يزوّجن من غير الأكفاء ولأن النكاح يعقد للعمر، ويشتمل على أغراض ومقاصد كالازدواج والصحبة والألفة وتأسيس القرابات ولا ينتظم ذلك عادة إلا بين الأكفاء، وقد جزم مالك -رحمه الله- بأن اعتبار الكفاءة مختص بالدين لقوله عليه الصلاة والسلام: "الناس سواء لا فضل
لعربي على عجمي إنما الفضل بالتقوى".
وقال تعالى: { إن أكرمكم عند الله أتقاكم} [الحجرات: 13] .
وأجيب: بأن المراد به في حكم الآخرة وكلامنا في الدنيا، وقال الشيخ خليل في مختصره: والكفاءة الدين والحال قال شارحه وأعتبر فيها خمسة أوصاف.

الدين وهو متفق عليه، وظاهر قول المدوّنة المسلمون بعضهم لبعض أكفاء أن الرقيق ونقله عبد الوهاب نصًّا وعن المغيرة أنه يفسخ وصححه هو وغيره.

والنسب وفي المدونة المولى كفء للعربية، وقيل ليس بكفء.

والحال وهو أن يكون الزوج سالمًا من العيوب الفاحشة.

والمال فالعجز عن حقوقها يوجب مقالها وقيل: المعتبر من ذلك كله عند مالك الدين والحال وعند ابن القاسم الدين والمال وعندهما المال والحال انتهى.

وخصال الكفاءة عند الشافعية خمسة.

سلامة من عيب نكاح كجنون وجذام وبرص.

وحرية فمن مسه أو مس أبًا له أقرب رق ليس كفء سليمة من ذلك لأنها تعير به وخرج بالآباء الأمهات فلا يؤثر فيهن مس الرق.

ونسب ولو في العجم لأنه من المفاخر فعجمي أبًا وإن كانت أمه عربية ليس كفء عربية أبًا وإن كانت أمها أعجمية ولا غير قرشي من العرب كفأ لقرشية لحديث قدّموا قريشًا ولا تقدّموها رواه الشافعي بلاغًا ولا غير هاشمي ومطلبي كفأ لهما لحديث مسلم أن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل واصطفى قريشًا من كنانة واصطفى من قريش بني هاشم واصطفاني من بني هاشم فبنو هاشم وبنو المطلب أكفاء لحديث البخاري نحن وبنو المطلب شيء واحد.

وعفة بدين وصلاح فليس فاسق كفء عفيفة.

وحرفة فليس ذو حرفة دنيئة كفء أرفع منه فنحو كناس ليس كفء بنت خياط ولا خياط بنت تاجر ولا تاجر بنت عالم ولا يعتبر في خصال الكفاءة اليسار لأن المال غادٍ ورائح ولا يفتخر به أهل المروءات والبصائر، وقال الحنابلة: واللفظ للمرداوي في تنقيحه والكفاءة في زوج شرط لصحة النكاح عند الأكثر فهي حق لله والمرأة والأولياء كلهم حتى من يحدث ولو زالت بعد العقد فلها الفسخ فقط وعنه ليست بشرط بل للزوم واختاره أكثر المتأخرين وهو أظهر ولمن لم يرض الفسخ من المرأة والأولياء جميعهم فورًا وتراخيًا فهي حق للأولياء والمرأة وهي دين ومنصب وهو النسب وحرية وصناعة غير زرية ويسار بمال بحسب ما يجب لها.
وقال الشافعي: ليس نكاح غير الأكفاء حرامًا فأردّ به النكاح، وإنما هو تقصير بالمرأة والأولياء فإذا رضوا صح ويكون حقًّا لهم تركوه فلو رضوا إلا واحدًا فله فسخه.

( وقوله) عز وجل: ( { وهو الذي خلق من الماء} ) أي النطفة ( { بشرًا} ) إنسانًا ( { فجعله نسبًا وصهرًا} ) يريد فقسم البشر قسمين ذوي نسب أي ذكورًا ينسب إليهم فيقال: فلان ابن فلان وفلانة بنت فلان، وذوات صهر أي إناثًا يصاهر بهن وهو كقوله: { فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى} [القيامة: 39] ( { وكان ربك قديرًا} ) [الفرقان: 54] حيث خلق من النطفة الواحدة بشرًّا نوعين ذكرًا وأنثى، وقيل فجعله نسبًا قرابة وصهرًا أي مصاهرة يعني الموصلة بالنكاح منّ بالأنساب لأن التواصل يقع بها وبالمصاهرة لأن التوالد بها يكون، وسقط لأبي ذر قولها { وكان ربك قديرًا} وقال بعد وصهرًا الآية.
ومراد المؤلّف -رحمه الله- من سياق هذه الآية الإشارة إلى أن النسب والصهر مما يتعلق به حكم الكفاءة، ونقل العيني عن ابن سيرين أن هذه الآية نزلت في النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وعلي وزوّج عليه الصلاة والسلام فاطمة عليًّا وهو ابن عمه وزوج ابنته فكان نسبًا وكان صهرًا.


[ قــ :4816 ... غــ : 5088 ]
- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- أَنَّ أَبَا حُذَيْفَةَ بْنَ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ، وَكَانَ مِمَّنْ شَهِدَ بَدْرًا مَعَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تَبَنَّى سَالِمًا وَأَنْكَحَهُ بِنْتَ أَخِيهِ هِنْدَ بِنْتَ الْوَلِيدِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، وَهْوَ مَوْلًى لاِمْرَأَةٍ مِنَ الأَنْصَارِ، كَمَا تَبَنَّى النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- زَيْدًا، وَكَانَ مَنْ تَبَنَّى رَجُلًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ دَعَاهُ النَّاسُ إِلَيْهِ وَوَرِثَ مِنْ مِيرَاثِهِ حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ { ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ} -إِلَى قَوْلِهِ- { وَمَوَالِيكُمْ} فَرُدُّوا إِلَى آبَائِهِمْ فَمَنْ لَمْ يُعْلَمْ لَهُ أَبٌ كَانَ مَوْلًى وَأَخًا فِي الدِّينِ فَجَاءَتْ سَهْلَةُ بِنْتُ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو الْقُرَشِيِّ ثُمَّ الْعَامِرِيِّ وَهْيَ امْرَأَةُ أَبِي حُذَيْفَةَ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا كُنَّا نَرَى سَالِمًا وَلَدًا، وَقَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ مَا قَدْ عَلِمْتَ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ.

وبه قال: ( حدّثنا أبو اليمان) الحكم بن نافع قال: ( أخبرنا شعيب) هو ابن أبي حمزة ( عن الزهري) محمد بن مسلم بن شهاب أنه ( قال: أخبرني) بالإفراد ( عروة بن الزبير عن عائشة -رضي الله عنها- أن أبا حذيفة) مهشمًا على المشهور خال معاوية بن أبي سفيان ( ابن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس) القرشي العبشمي ( وكان ممن شهد بدرًا) والمشاهد كلها ( مع النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تبنى سالمًا) أي ابن معقل بفتح الميم وسكون العين المهملة وكسر القاف من أهل فارس المهاجري الأنصاري ( وأنكحه) زوّجه ( بنت أخيه) بفتح الهمزة وكسر الخاء المعجمة ( هند) غير مصروف للعلمية والتأنيث ولأبوي الوقت وذر هندًا لسكون وسطه ( بنت الوليد بن عتبة بن ربيعة وهو) أي سالم ( مولى لامرأة من الأنصار) اسمها ثبيتة بضم المثلثة وفتح الموحدة وسكون التحتية وفتح الفوقية بنت يعار بفتح التحتية والعين المهملة المخففة وبعد الألف راء ابن زيد بن عبيد الأنصارية زوج أبي حذيفة المذكور ( كما تبنى) أي ما اتخذ ( النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- زيدًا) ابنًا ( وكان من تبنى رجلًا في الجاهلية دعاه الناس إليه) فيقولون فلان ابن فلان للذي تبناه ( وورث من ميراثه) كما يرث ابنه من النسب ( حتى أنزل الله) تعالى ( { ادعوهم لآبائهم} -إلى قوله- { ومواليكم} ) [الأحزاب: 5] ( فردوا) بصيغة البناء
للمفعول ( إلى آبائهم) أي الذين ولدوهم ( فمن لم يعلم له أب) بضم التحتية مبنيًّا للمفعول ( كان مولًى وأخًا في الدين فجاءت سهلة) بفتح السين المهملة وسكون الهاء ( بنت سهيل بن عمرو) بضم السين وفتح الهاء وسكون التحتية وعمرو بفتح العين ( القرشي ثم العامري وهي امرأة أبي حذيفة بن عتبة) ضرّة معتقة سالم الأنصارية ( النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقالت: يا رسول الله إنا كنا نرى) بفتح النون نعتقد ( سالمًا ولدًا) بالتبني ( وقد أنزل الله فيه ما قد علمت) من قوله تعالى: { ادعوهم لآبائهم} ( فذكر) أبو اليمان الحكم بن نافع شيخ البخاري ( الحديث) وتمامه كما عند أبي داود والبرقاني: فكيف ترى؟ فقال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "أرضعيه" فأرضعته خمس رضعات فكان بمنزلة ولدها من الرضاعة.
فبذلك كانت عائشة تأمر بنات إخوتها وبنات أخواتها أن يرضعن من أحبت عائشة أن يراها ويدخل عليها وإن كان كبيرًا خمس رضعات ثم يدخل عليها، وأبت أم سلمة وسائر أزواج النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن يدخل عليهن بتلك الرضاعة أحدًا من الناس حتى يرضع في المهد وقلن لعائشة: والله ما ندري لعلها رخصة من رسول الله لسالم دون الناس، وقد أخرج هذا الحديث من طريق القاسم بن محمد عن عائشة ومن طريق زينب عن أم سلمة ففي رواية القاسم عنده جاءت سهلة بنت سهيل بن عمرو فقالت يا رسول الله إن في وجه أبي حذيفة من دخول سالم وهو حليفه فقال: أرضعيه.
قالت: وكيف أرضعه وهو رجل كبير؟ فتبسم رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وقال: "قد علمت أنه رجل كبير" وفي لفظ فقالت: إن سالمًا قد بلغ ما يبلغ الرجال وإنه يدخل علينا وإني أظن أن في نفس أبي حذيفة شيئًا من ذلك فقال: أرضعيه تحرمي عليه فرجعت إليه فقالت: إني قد أرضعته فذهب الذي في نفس أبي حذيفة وهذا مختص بسهلة وسالم أو منسوخ، والجمهور على خلافه كما يأتي إن شاء الله تعالى بعون الله وقوّته في أبواب الرضاع.

ومطابقة الحديث للترجمة من تزويج أبي حذيفة سالمًا الذي تبناه وهو مولى لامرأة من الأنصار بنت أخيه هند ولم يعتبر فيه الكفاءة إلا في الدين، والحديث أخرجه النسائي أيضًا في النكاح.




[ قــ :4817 ... غــ : 5089 ]
- حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى ضُبَاعَةَ بِنْتِ الزُّبَيْرِ فَقَالَ لَهَا: «لَعَلَّكِ أَرَدْتِ الْحَجَّ»؟ قَالَتْ: وَاللَّهِ لاَ أَجِدُنِي إِلاَّ وَجِعَةً، فَقَالَ لَهَا: «حُجِّي وَاشْتَرِطِي، قُولِي اللَّهُمَّ مَحِلِّي حَيْثُ حَبَسْتَنِي»، وَكَانَتْ تَحْتَ الْمِقْدَادِ بْنِ الأَسْوَدِ.

وبه قال: ( حدّثنا عبيد بن إسماعيل) اسمه عبد الله أبو محمد الهباري القرشي الكوفي قال: ( حدّثنا أبو أسامة) حماد بن أسامة ( عن هشام عن أبيه) عروة بن الزبير ( عن عائشة) -رضي الله عنها- أنها ( قالت: دخل رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على ضباعة) بضم الضاد المعجمة وفتح الموحدة المخففة ( بنت الزبير) بن عبد المطلب الهاشمية بنت عم النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ( فقال لها) :
( لعلك أردت الحج؟ قالت: والله لا) .
ولأبي ذر: ما ( أجدني) أي ما أجد نفسي ( إلا وجعة)
واتحاد الفاعل والمفعول مع كونهما ضميرين لشيء واحد من خصائص أفعال القلوب وقوله وجعة بفتح الواو وكسر الجيم أي ذات مرض ( فقال) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ( لها: حجي واشترطي) أنك حيث عجزت عن الإتيان بالمناسك واحتبست عنها بحسب قوّة المرض تحللت ( قولي) ولأبي ذر وقولي ( اللهم محلي) بفتح الميم وكسر الحاء، ولأبي ذر بفتحها أي مكان تحللي من الإحرام ( حيث حبستني) فيه عن النسك بعلة المرض.

ومباحث ذلك سبقت في الحج في أبواب المحصر ( وكانت) ضباعة ( تحت المقداد بن الأسود) هو ابن عمرو بن ثعلبة بن مالك الكندي ونسب إلى الأسود بن عبد يغوث بن وهب بن عبد مناف بن زهرة لكونه تبناه فكان من حلفاء قريش، وتزوّج ضباعة وهي هاشمية ففيه أن النسب لا يعتبر في الكفاءة وإلاّ لما جاز له أن يتزوّجها لأنها فوقه في النسب.
وأجيب: باحتمال أنها وأولياءها أسقطوا حقهم من الكفاءة.




[ قــ :4818 ... غــ : 5090 ]
- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ لأَرْبَعٍ: لِمَالِهَا، وَلِحَسَبِهَا، وَجَمَالِهَا، وَلِدِينِهَا، فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاكَ».

وبه قال: ( حدّثنا مسدد) هو ابن مسرهد قال: ( حدّثنا يحيى) بن سعيد القطان ( عن عبيد الله) بضم العين ابن عمر العمري أنه ( قال: حدّثني) بالإفراد ( سعيد بن أبي سعيد) كيسان ( عن أبيه عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أنه ( قال) :
( تنكح المرأة) بضم التاء وفتح الكاف مبنيًّا للمفعول والمرأة رفع به ( لأربع) من الخصال ( لمالها) بدل من السابق بإعادة العامل لأنها إذا كانت ذات مال قد لا تكلفه في الإنفاق وغيره فوق طاقته، وقول المهلب إن في الحديث دليلًا على أن للزوج الاستمتاع بمال زوجته فإن طابت نفسها بذلك حل له وإلاّ فله من ذلك قدر ما بذل لها من الصداق تعقب بأنه ليس في الحديث ما ذكره من التفصيل ولم ينحصر قصده في الاستمتاع بمالها فقد يقصد ترجي حصول ولد منها فيعود إليه مالها بالإرث أو أن تستغني عنه بمالها عن مطالبته بما يحتاج إليه غيرها من النساء كما مر وأما استدلال بعض المالكية به على أن للرجل أن يحجر على زوجته في مالها معلّلًا بأنه إنما تزوجها لمالها فليس لها تفويته ففيه نظر لا يخفى ( و) تنكح المرأة أيضًا ( لحسبها) بإعادة الجار أيضًا وفتح الحاء والسين المهملتين ثم موحدة أي لشرفها والحسب في الأصل الشرف بالآباء وبالأقارب مأخوذ من الحساب لأنهم كانوا إذا تفاخروا عدّوا مناقبهم ومآثر آبائهم وقومهم وحسبوها فيحكم لمن زاد عدده على غيره وقد قال أكثم بالمثلثة ابن صيفي: يا بني تميم لا يغلبنكم جمال النساء على صراحة الحسب فإن المناكح الكريمة مدرجة للشرف.
وقال بكير الأسدي: وأول خبث المرء خبث ترابه ... وأول لؤم المرء لؤم المناكح
وقال آخر:
وإذا كنت تبغي أيضًا بجهالة ... من الناس فانظر من أبوها وخالها
فإنهما منها كما هي منهما ... كقدّك نعلًا أن أريد مثالها
ولا تطلب البيت الدنيء فعاله ... ولا يد ذا عقل لورهاء مالها
فإن الذي ترجو من المال عندها ... سيأتي عليه شؤمها وخبالها
وقيل: المراد بالحسب المال وردّ بذكر المال قبله وعطفه عليه، وعند النسائي وصححه ابن حبان والحاكم من حديث بريدة رفعه إن أحساب أهل الدنيا الذين يذهبون إليه المال.
وفي حديث ميمونة المرفوع مما صححه الترمذي والحاكم الحسب المال والكرم التقوى، وحمل على أن المراد أن المال حسب من لا حسب له.
وروى الحاكم حديث: تخيروا لنطفكم، فيكره نكاح بنت الزنا وبنت الفاسق.
قال الأذرعي: ويشبه أن تلحق بهما اللقيطة ومن لا يعرف أبوها ( و) تنكح أيضًا لأجل ( جمالها) ولم يعد العامل في هذه والجمال مطلوب في كل شيء لا سيما في المرأة التي تكون قرينة وضجيعة، وعند الحاكم حديث خير النساء من تسرّ إذا نظرت وتطيع إذا أمرت.
قال الماوردي: لكنهم كرهوا ذات الجمال الباهر فإنها تزهو بجمالها ( و) تنكح ( لدينها) بإعادة اللام، وفي مسلم بإعادتها في الأربع وحذفت هنا في قوله وجمالها فقط ( فاظفر بذات الدين) ولمسلم من حديث جابر فعليك بذات الدين، والمعنى كما قال القاضي ناصر الدين البيضاوي: إن اللائق بذوي المروءات وأرباب الديانات أن يكون الدين مطمح نظرهم في كل شيء لا سيما فيما يدوم أمره ويعظم خطره، فلذا اختاره -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بآكد وجه وأبلغه فأمر بالظفر الذي هو غاية البغية ومنتهى الاختيار والطلب الدال على تضمن المطلوب لنعمة عظيمة وفائدة جليلة.
وقال في شرح المشكاة قوله: فاظفر جزاء شرط محذوف أي إذا تحققت ما فصلت لك تفصيلًا بيّنًا فاظفر أيها المسترشد بذات الدين فإنها تكسبك منافع الدارين، قال: واللامات المكررة مؤذنة بأن كلاًّ منهن مستقلة في الغرض.
وروى ابن ماجة حديث ابن عمر مرفوعًا لا ترجو النساء لحسنهن فعسى حسنهن أن يرديهن أي يهلكهن ولا تزوّجوهن لأموالهن فعسى أموالهن أن تطغيهنّ ولكن تزوّجوهن على الدين ولأمة سوداء ذات دين أفضل.

( تربت يداك) أي افتقرتا إن خالفت ما أمرتك به يقال ترب الرجل إذا افتقر وهي كلمة جارية على ألسنتهم لا يريدون بها حقيقتها.
وقيل: فيه تقدير شرط كما مر ورجحه ابن العربي لتعدية ذوات الدين إلى ذوات الجمال والمال، ورجح عدم إرادة الدعاء عليه وذلك لأنهم كانوا إذا رأوا مقدامًا في الحرب أبلى فيه بلاء حسنًا يقولون قاتله الله ما أشجعه، وإنما يريدون به ما يزيد قوته وشجاعته وكذلك ما نحن فيه فإن الرجل إنما يؤثر تلك الثلاثة على ذات الدين لإعدامها مالًا وجمالًا وحسبًا فينبغي أن يحمل الدعاء على ما يجبر عليه من الفقر أي عليك بذات الدين يغنك الله فيوافق معنى الحديث النص التنزيلي: { وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم إن
يكونوا فقراء يغنهم الله من فضلهِ}
[النور: 3] .
والصالح هو صاحب الدين قاله في شرح المشكاة وفي الحديث كما قال النووي الحث على مصاحبة أهل الصلاح في كل شيء لأن من صاحبهم استفاد من أخلافهم وبركتهم وحسن طرائقهم ويأمن المفسدة من جهتهم.

وحكى محيي السُّنَّة أن رجلًا قال للحسن: إن لي بنتًا أحبها وقد خطبها غير واحد فمن ترى أن أُزوّجها؟ قال: زوّجها رجلًا يتقي الله فإنه إن أحبها أكرمها وإن أبغضها لم يظلمها.

وقال الغزالي في الإحياء: وليس أمره -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بمراعاة الدين نهيًا عن مراعاة الجمال ولا أمرًا بالإضراب عنه وإنما هو نهي عن مراعاته مجردًا عن الدين فإن الجمال في غالب الأمر يرغب الجاهل في النكاح دون التفات إلى الدين ولا نظر إليه فوقع النهي عن هذا.
قال: وأمر النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لمن يريد التزوج بالنظر إلى الخطوبة يدل على مراعاة الجمال إذ النظر لا يفيد معرفة الدين، وإنما يعرف به الجمال أو القبح، ومما يستحب في المرأة أيضًا أن تكون بالغة كما نص عليه الشافعي إلا لحاجة كان لا يعفه إلا غيرها أو مصلحة كتزوّجه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عائشة وأن تكون عاقلة.
قال في المهمات: ويتجه أن يراد بالعقل هنا العقل العرفي وهو زيادة على مناط التكليف انتهى.

والمتجه أن يراد أعم من ذلك وأن تكون قرابة غير قريبة لقوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لا تنكحوا القرابة القريبة فإن الولد يخلق ضاويًا ذكره في الإحياء.
وقوله: ضاويًا أي نحيفًا لضعف الشهوة.
قال الزنجاني: ولأن من مقاصد النكاح اشتباك القبائل لأجل التعاضد واجتماع الكلمة وهو مفقود في نكاح القريبة.
وتوقف السبكي في هذا الحكم لعدم صحة الحديث الدال عليه فقد قال ابن الصلاح: لم أجد له أصلًا معتمدًا.
قال السبكي: فلا ينبغي إثباته لعدم الدليل انتهى.

وقال الحافظ زين الدين العراقي: والحديث المذكور إنما يعرف من قول عمر أنه قال لآل السائب قد أضويتم فانكحوا في الغرائب.
وقال الشاعر:
تخيرتها للنسل وهي غريبة ... فقد أنجبت والمنجبات الغرائب
وما ذكر في الروضة من أن القريبة أولى من الأجنبية هو مقتضى كلام جماعة، لكن ذكر صاحب البحر والبيان أن الشافعي نص على أنه يستحب أن لا يتزوج من عشيرته، ولا يشكل ما ذكر بتزوج النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- زينب مع أنها بنت عمته لأنه تزوّجها بيانًا للجواز ولا بتزوّج عليّ فاطمة لأنها بعيدة في الجملة إذ هي بنت ابن عمه لا بنت عمه وأن لا تكون ذات ولد لغيره إلا لمصلحة كما تزوّج النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أم سلمة ومعها ولد أبي سلمة للمصلحة وأن لا يكون لها مطلق يرغب في نكاحها وأن لا تكون شقراء فقد أمر الشافعي الربيع أن يرد الغلام الأشقر الذي اشتراه له وقال: ما لقيت من أشقر خيرًا.

وحديث الباب أخرجه مسلم أيضًا في النكاح وكذا أبو داود والنسائي.




[ قــ :4819 ... غــ : 5091 ]
- حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ حَمْزَةَ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ سَهْلٍ، قَالَ: مَرَّ رَجُلٌ
عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: «مَا تَقُولُونَ فِي هَذَا»: قَالُوا: حَرِيٌّ إِنْ خَطَبَ أَنْ يُنْكَحَ، وَإِنْ شَفَعَ، أَنْ يُشَفَّعَ وَإِنْ قَالَ أَنْ يُسْتَمَعَ قَالَ: ثُمَّ سَكَتَ فَمَرَّ رَجُلٌ مِنَ فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ فَقَالَ: «مَا تَقُولُونَ فِي هَذَا»؟ قَالُوا حَرِيٌّ إِنْ خَطَبَ أَنْ لاَ يُنْكَحَ وَإِنْ شَفَعَ أَنْ لاَ يُشَفَّعَ وَإِنْ قَالَ أَنْ لاَ يُسْتَمَعَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «هَذَا خَيْرٌ مِنْ مِلْءِ الأَرْضِ مِثْلَ هَذَا».
[الحديث 5091 - أطرافه في: 6447] .

وبه قال: ( حدّثنا إبراهيم بن حمزة) بالحاء المهملة والزاي أبو إسحاق الزبيري الأسدي قال: ( حدّثنا ابن أبي حازم) عبد العزيز ( عن أبيه) أبي حازم سلمة بن دينار ( عن سهل) أي ابن سعد الساعدي الأنصاري -رضي الله عنه- أنه ( قال: مرّ رجل) غني لم يقف الحافظ ابن حجر على اسمه ( على رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقال) للحاضرين من أصحابه:
( ما تقولون في هذا؟ قالوا حريّ) بفتح الحاء المهملة وكسر الراء وتشديد التحتية أي حقيق ( إن خطب) امرأة ( أن ينكح) بضم أوله وفتح ثالثه مبنيًّا للمفعول ( وإن شفع) في أحد ( أن يشفع) بضم أوله وتشديد الفاء المفتوحة أي أن تقبل شفاعته ( وإن قال أن يستمع) قوله ( قال) سهل: ( ثم سكت) رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ( فمرّ رجل) آخر قيل إنه جعيل بن سراقة كما في مسند الروياني وفتوح مصر لابن عبد الحكم وغيرهما ( من فقراء المسلمين فقال) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ( ما تقولون في هذا) الفقير المار ( قالوا) هو ( حريّ) حقيق ( إن خطب أن لا ينكح وإن شفع أن لا يشفع وإن قال أن لا يستمع) لقوله لفقره وكان صالحًا دميمًا قبيحًا ( فقال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: هذا) الفقير ( خير من ملء الأرض مثل هذا) الغني وإطلاقه التفضيل على الغني المذكور لا يلزم منه تفضيل كل فقير على كل غني كما لا يخفى.
نعم فيه تفضيله مطلقًا في الدين فيطابق الترجمة وقوله ملء بالهمز ومثل بالنصب والجر.

وهذا الحديث أخرجه البخاري أيضًا في الرقاق وابن ماجة في الزهد.