فهرس الكتاب

إرشاد الساري - باب رؤيا الصالحين

باب رُؤْيَا الصَّالِحِينَ
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: { لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لاَ تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا} [الفتح: 27] .

( باب رؤيا الصالحين) والإضافة للفاعل وفي نسخة الصالحة وعليها يحتمل أن يكون الرؤيا بالتعريف ( وقوله) بالجر عطفًا على السابق ولأبي ذر وقول الله ( تعالى: { لقد صدق الله رسوله الرؤيا} ) أي صدقه في رؤياه ولم يكذبه تعالى الله عن الكذب وعن كل قبيح علوًّا كبيرًا وقال في فتوح الغيب هذا صدق بالفعل وهو التحقيق أي حقق رؤيته وحذف الجار وأوصل الفعل كقوله: { صدقوا ما عاهدوا الله عليه} [الأحزاب: 23] ( { بالحق} ) متلبسًا به فإن ما رآه كائن لا محالة في وقته المقدر له وهو العام القابل ويجوز أن يكون بالحق صفة مصدر محذوف أي صدقًا متلبسًا
بالحق وهو القصد إلى التمييز بين المؤمن المخلص وبين من في قلبه مرض وأن يكون قسمًا إما بالحق الذي هو نقيض الباطل أو بالحق الذي هو من أسمائه وجوابه ( { لتدخلن المسجد الحرام} ) وعلى الأول هو جواب قسم محذوف ( { إن شاء الله} ) حكاية من الله تعالى قول رسوله لأصحابه وقصه عليهم أو تعليم لعباده أن يقولوا في غداتهم مثل ذلك متأدّبين بأدب الله ومقتدين بسنته ( { آمنين} ) حال والشرط معترض ( { محلقين} ) حال من الضمير في آمنين ( { رؤوسكم} ) أي جميع شعورها ( { ومقصرين} ) بعض شعورها ( { لا تخافون} ) حال مؤكدة ( { فعلم ما لم تعلموا} ) من الحكمة في تأخير فتح مكة إلى العام القابل ( { فجعل من دون ذلك} ) من دون فتح مكة ( { فتحًا قريبًا} ) [الفتح: 27] وهو فتح خيبر لتستروح إليه قلوب المؤمنين إلى أن يتيسر الفتح الموعود وتحققت الرؤيا في العام القابل.
وقد روي أنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أري وهو بالحديبية أنه دخل مكة هو وأصحابه محلقين فلما نحر الهدي بالحديبية قال أصحابه: أين رؤياك: فنزلت رواه الفريابي وعبد بن حميد والطبري من طريق ابن أبي نجيح، وسقط لأبي ذر في روايته ( { محلقين} ) إلى آخرها وقال بعد قوله: { آمنين} إلى قوله: { فتحًا قريبًا} .


[ قــ :6618 ... غــ : 6983 ]
- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِى طَلْحَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «الرُّؤْيَا الْحَسَنَةُ مِنَ الرَّجُلِ الصَّالِحِ جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ» [الحديث 6983 - طرفه في: 6994] .

وبه قال: ( حدّثنا عبد الله بن مسلمة) بن قعنب القعنبي ( عن مالك) الإمام الأعظم ( عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة) الأنصاري المدني ( عن أنس بن مالك) -رضي الله عنه- ( أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال) :
( الرؤيا الحسنة) أي الصالحة ( من الرجل الصالح) وكذا المرأة الصالحة غالبًا ( جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوّة) مجازًا لا حقيقة لأن النبوّة انقطعت بموته -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وجزء النبوّةِ لا يكون نبوة كما أن جزء الصلاة لا يكون صلاة.
نعم إن وقعت من النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فهي جزء من أجزاء النبوّة حقيقة.
وقيل: إن وقعت من غيره عليه السلام فهي جزء من علم النبوّة لأن النبوّة وإن انقطعت فعلمها باق، وقول مالك -رحمه الله- لما سئل أيعبر الرؤيا كل أحد فقال أبالنبوة تلعب، ثم قال: الرؤيا جزء من النبوّة فلا يلعب بالنبوة أجيب عنه: بأنه لم يرد أنها نبوة باقية وإنما أراد أنها لما أشبهت النبوّة من جهة الإطلاع على بعض الغيب لا ينبغي أن يتكلم فيها بغير علم.

وأما وجه كونها ستة وأربعين جزءًا فأبدى بعضهم له مناسبة وذلك أن الله أوحى إلى نبيه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في المنام ستة أشهر ثم أوحى إليه بعد ذلك في اليقظة بقية مدة حياته، ونسبتها إلى الوحي في المنام جزء من ستة وأربعين جزءًا لأنه عاش بعد النبوة ثلاثًا وعشرين سنة على الصحيح، فالستة الأشهر نصف سنة فهي جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوة، وتعقبه الخطابي بأنه قاله على سبيل
الظن إذ إنه لم يثبت في ذلك خبر ولا أثر، ولئن سلمنا أن هذه المدة محسوبة من أجزاء النبوة لكنه يلحق بها سائر الأوقات التي كان يوحى إليه فيها منامًا في طول المدة كما ثبت كالرؤيا في أحد ودخول مكة وحينئذ فيتلفق من ذلك مدة أخرى تزاد في الحساب فتبطل القسمة التي ذكرها.
وأجيب: بأن المراد وحي المنام المتتابع كما وقع في غضون وحي اليقظة فهو يسير بالنسبة إلى وحي اليقظة فهو مغمور في جانب وحي اليقظة فلم يعتبر به اهـ.

وأما حصر العدد في السنّة والأربعين فقال المازري هو مما أطلع الله عليه نبيه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وقال ابن العربي: أجزاء النبوة لا يعلم حقيقتها إلا نبي أو ملك وإنما القدر الذي أراد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن يبينه أن الرؤيا جزء من أجزاء النبوة في الجملة لأن فيها إطلاعًا على الغيب من وجه ما وأما تفصيل النسبة فيختص بمعرفته درجة النبوة.
وقال المازري أيضًا: لا يلزم العالم أن يعرف كل شيء جملة وتفصيلاً فقد جعل الله حدًّا يقف عنده فيه ما يعلم المراد به جملة وتفصيلاً، ومنه ما يعلمه جملة لا تفصيلاً وهذا من هذا القبيل.
وفي مسلم من حديث أبي هريرة جزء من خمسة وأربعين، وله أيضًا عن ابن عمر جزء من سبعين جزءًا، وللطبراني عنه جزء من ستة وسبعين وسنده ضعيف، وعند ابن عبد البر من طريق عبد العزيز بن المختار عن ثابت عن أنس مرفوعًا: جزء من ستة وعشرين، وعند الطبري في تهذيب الآثار عن ابن عباس جزء من خمسين، وللترمذي من طريق أبي رزين العقيلي جزء من أربعين، وللطبري من حديث عبادة جزء من أربعة وأربعين والمشهور ستة وأربعين.

قال في الفتح ويمكن الجواب عن اختلاف الأعداد أنه بحسب الوقت الذي حدث فيه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بذلك كأن يكون لما أكمل ثلاث عشرة سنة بعد مجيء الوحي إليه حدث بأن الرؤيا جزء من ستة وعشرين إن ثبت الخبر بذلك وذلك وقت الهجرة ولما أكمل عشرين حدث بأربعين ولما أكمل اثنتين وعشرين حدث بأربعة وأربعين ثم بعدها بخمسة وأربعين ثم حدث بستة وأربعين في آخر حياته، وأما ما عدا ذلك من الروايات بعد الأربعين فضعيف ورواية الخمسين تحتمل أن تكون لجبر الكسر ورواية السبعين للمبالغة وما عدا ذلك لم يثبت اهـ.

وقلما يصيب مؤوّل في حصر هذه الأجزاء، ولئن وقع له الإصابة في بعضها لما تشهد له الأحاديث المستخرج منها لم يسلم له ذلك في بقيتها والتقييد بالصالح جرى على الغالب فقد يرى الصالح الأضعاث، ولكنه نادر لقلة تمكن الشيطان منه بخلاف العكس وحينئذ فالناس على ثلاثة أقسام: الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم ورؤياهم كلها صدق وقد يكون فيها ما يحتاج إلى تعبير، والصالحون والأغلب على رؤياهم الصدق وقد يقع فيها ما لا يحتاج إلى تعبير ومن عداهم يكون في رؤياهم الصدق، والأضعاث وهم على ثلاثة مستورون فالغالب استواء الحال في حقهم وفسقة والغالب على رؤياهم الأضغاث ويقل فيها الصدق وكفار ويندر في رؤياهم الصدق جدًّا قاله المهلب فيما ذكره في الفتح.

فإن قلت: لم عبّر بلفظ النبوة دون لفظ الرسالة؟ أجيب: بأن السر فيه أن الرسالة تزيد على النبوة بالتبليغ بخلاف النبوة المجردة فإنها إطلاع على بعض المغيبات وكذلك الرؤيا.

والحديث أخرجه النسائي وابن ماجة في التعبير.