فهرس الكتاب

إرشاد الساري - باب الاقتداء بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم

باب الاِقْتِدَاءِ بِسُنَنِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: { وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [الفرقان: 74] قَالَ: أَيِمَّةً نَقْتَدِى بِمَنْ قَبْلَنَا وَيَقْتَدِى بِنَا مَنْ بَعْدَنَا،.

     وَقَالَ  ابْنُ عَوْنٍ: ثَلاَثٌ أُحِبُّهُنَّ لِنَفْسِى وَلإِخْوَانِى هَذِهِ السُّنَّةُ أَنْ يَتَعَلَّمُوهَا وَيَسْأَلُوا عَنْهَا، وَالْقُرْآنُ أَنْ يَتَفَهَّمُوهُ وَيَسْأَلُوا عَنْهُ وَيَدَعُوا النَّاسَ إِلاَّ مِنْ خَيْرٍ.

( باب الاقتداء بسنن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) الشاملة لأقواله وأفعاله وتقريره ( وقول الله تعالى: { واجعلنا للمتقين إمامًا} ) أفرده للجنس وحسنه كونه رأس فاصلة أو اجعل كل واحد منا كما قال تعالى: { نخرجكم طفلاً} [الفرقان: 74] أو لاتحادهم واتفاق كلمتهم أو لأنه مصدر في الأصل كصيام وقيام ( قال: أئمة نقتدي بمن قبلنا ويقتدي بنا من بعدنا) قاله مجاهد فيما أخرجه الفريابي والطبري بسند صحيح أي: اجعلنا أئمة لهم في الحلال والحرام يقتدون بنا فيه قيل: وفي الآية ما يدل على أن الرئاسة في الدين تطلب ويرغب فيها.

( وقال ابن عون) بفتح العين المهملة وبعد الواو الساكنة نون عبد الله البصري التابعي الصغير فيما وصله محمد بن نصر المروزي في كتاب السُّنَّة: ( ثلاث أحبهن لنفسي ولإخواني) المؤمنين ( هذه السُّنّة) الطريقة النبوية المحمدية والإشارة في قوله هذه نوعية لا شخصية ( أن يتعلموها ويسألوا عنها) علماءها ( والقرآن أن يتفهموه) أي يتدبروه.
قال في الكواكب: قال في القرآن: يتفهموه.
وفي السُّنَّة يتعلموها لأن الغالب على حال المسلم أن يتعلم القرآن في أول أمره فلا يحتاج إلى
الوصية بتعلمه، فلذا وصى بفهم معناه وإدراك منطوقه وفحواه.
وقال في الفتح: ويحتمل أن يكون السبب أن القرآن قد جمع بين دفتي المصحف ولم تكن السُّنَّة يومئذٍ جمعت فأراد بتعلمها جمعها ليتمكن من تفهمها بخلاف القرآن فإنه مجموع.
( ويسألوا الناس عنه ويدعوا الناس) بفتح الدال يتركوهم ( إلا من خير) ولأبي ذر عن الكشميهني: ويدعوا الناس.
قال في الفتح: بسكون الدال إلى خير.


[ قــ :6885 ... غــ : 7275 ]
- حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَبَّاسٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ وَاصِلٍ، عَنْ أَبِى وَائِلٍ قَالَ: جَلَسْتُ إِلَى شَيْبَةَ فِى هَذَا الْمَسْجِدِ قَالَ: جَلَسَ إِلَىَّ عُمَرُ فِى مَجْلِسِكَ هَذَا فَقَالَ: هَمَمْتُ أَنْ لاَ أَدَعَ فِيهَا صَفْرَاءَ وَلاَ بَيْضَاءَ، إِلاَّ قَسَمْتُهَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ قُلْتُ: مَا أَنْتَ بِفَاعِلٍ.
قَالَ: لِمَ.

قُلْتُ لَمْ يَفْعَلْهُ صَاحِبَاكَ؟ قَالَ: هُمَا الْمَرْآنِ يُقْتَدَى بِهِمَا.

وبه قال: ( حدّثنا عمرو بن عباس) بفتح العين وسكون الميم وعباس بالموحدة الباهلي البصري قال: ( حدّثنا عبد الرحمن) بن مهدي قال: ( حدّثنا سفيان) الثوري ( عن واصل) هو ابن حيان بتشديد التحتية ( عن أبي وائل) شقيق بن سلمة أنه ( قال: جلست إلى شيبة) بفتح الشين المعجمة وسكون التحتية بعدها موحدة ابن عثمان الحجبي ( في هذا المسجد) عند باب الكعبة الحرام أو في الكعبة نفسها ( قال: جلس إليّ) بتشديد التحتية ( عمر) بن الخطاب -رضي الله عنه- ( في مجلسك هذا.
فقال: هممت)
أي قصدت ولأبي ذر عن الكشميهني لقد هممت ( أن لا أدع) أي لا أترك ( فيها) أي في الكعبة ( صفراء ولا بيضاء) ذهبًا ولا فضة ( إلا قسمتها بين المسلمين) لمصالحهم قال شيبة: ( قلت) لعمر -رضي الله عنه-: ( ما أنت بفاعل) ذلك.
( قال) عمر: ( لم قلت لم يفعله صاحباك) النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ولا أبو بكر رضي الله عنه ( قال) عمر: ( هما المرآن يقتدى بهما) بضم التحتية وفتح الدال المهملة، ولأبي ذر نقتدي بنون مفتوحة بدل التحتية وكسر الدال.

وعند ابن ماجة بسند صحيح عن شقيق قال: بعث معي رجل بدراهم هدية إلى البيت وشيبة جالس إلى كرسي فناولته إياها فقال: ألك هذه؟ قلت: لا ولو كانت لي لم آتك بها.
قال: أما لئن قلت ذاك لقد جلس عمر بن الخطاب مجلسك الذي أنت فيه فقال: لا أخرج حتى أقسم مال الكعبة بين فقراء المسلمين، قلت: ما أنت بفاعل، قال: لأفعلن، قال: ولِم؟ قلت: لأن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قد رأى مكانه وأبو بكر وهما أحوج منك إلى المال فلم يحركاه فقام كما هو فخرج، ففيه أن عمر -رضي الله عنه- لما أراد أن يصرف ذلك في مصالح المسلمين، وذكره شيبة بأن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأبا بكر لم يتعرضا له لم يسعه خلافهما، ونزل تقرير النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- منزلة حكمه باستمرار ما ترك تغييره فوجب عليه الاقتداء به لعموم قوله تعالى: { واتبعوه} [الأعراف: 158] ، وعلم من هذا أنه لا يجوز صرف ذلك في فقراء المسلمين بل يصرفه القيّم في الجهة المنذورة وربما تهدّم البيت أو خلق بعض آلاته فيصرف ذلك فيه ولو صرف في مصالح المسلمين لكان كأنه قد أخرج عن وجهه الذي سبل فيه،
وللشيخ تقي الدين السبكي كتاب نزول السكينة على قناديل المدينة ذكر فيه فوائد جمة أفاض الله تعالى عليه فواضل الرحمة.

ومطابقة الحديث للترجمة في قوله هما المرآن يقتدى بهما.




[ قــ :6886 ... غــ : 776 ]
- حَدَّثَنَا عَلِىُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ: سَأَلْتُ الأَعْمَشَ فَقَالَ عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ سَمِعْتُ حُذَيْفَةَ يَقُولُ: حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «أَنَّ الأَمَانَةَ نَزَلَتْ مِنَ السَّمَاءِ فِى جَذْرِ قُلُوبِ الرِّجَالِ، وَنَزَلَ الْقُرْآنُ فَقَرَءُوا الْقُرْآنَ وَعَلِمُوا مِنَ السُّنَّةِ».

وبه قال: ( حدّثنا علي بن عبد الله) المديني قال: ( حدثنا سفيان) بن عيينة ( قال: سألت الأعمش) سليمان بن مهران ( فقال: عن زيد بن وهب) الهمداني الجهني أنه قال: ( سمعت حذيفة) بن اليمان -رضي الله عنه- ( يقول: حدّثنا رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) :
( أنّ الأمانة) وهي ضد الخيانة أو الإيمان.
وشرائعه ( نزلت من السماء في جذر قلوب الرجال) بفتح الجيم وكسرها وإسكان الذال المعجمة أصل قلوب المؤمنين حتى صارت طبيعة فطروا عليها ( ونزل القرآن فقرؤوا القرآن وعلموا من السُّنة) الأمانة وما يتعلق بها فاجتمع لهم الطبع والشرع في حفظها وهذا موضع الترجمة على ما لا يخفى.

والحديث سبق مطوّلاً في الرقاق والفتن.




[ قــ :6887 ... غــ : 777 ]
- حَدَّثَنَا آدَمُ بْنُ أَبِى إِيَاسٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ مُرَّةَ سَمِعْتُ مُرَّةَ الْهَمْدَانِىَّ يَقُولُ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ إِنَّ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَأَحْسَنَ الْهَدْىِ هَدْىُ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَشَرَّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا وَإِنَّ مَا تُوعَدُونَ لآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ.

وبه قال: ( حدّثنا آدم بن أبي إياس) العسقلاني قال: ( حدّثنا شعبة) بن الحجاج قال: ( أخبرنا عمرو بن مرة) بفتح العين في الأول وضم الميم وتشديد الراء في الآخر الجملي بفتح الجيم والميم المخففة قال: ( سمعت مرّة) بن شراحيل ويقال له مرة الطيب ( الهمداني) بسكون الميم وفتح الدال المهملة وليس هو والد عمرو الراوي عنه ( يقول: قال عبد الله) بن مسعود -رضي الله عنه- ( إن أحسن الحديث كتاب الله وأحسن الهدي هدي محمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) بفتح الهاء وسكون الدال المهملة فيهما السمت والطريقة والسيرة يقال هدى هدي وزيد إذا سار سيرته، ولأبي ذر عن الكشميهني وأحسن الهدى هدى محمد بضم الهاء وفتح الدال والقصر الإرشاد واللام في الهدي للاستغراق لأن أفعل التفضيل لا يضاف إلا إلى متعدد وهو داخل فيه، ولأنه لو لم يكن للاستغراق لم يفد المعنى المقصود وهو تفضيل دينه وسُنّته على سائر الأديان والسُّنن ( وشر الأمور محدثاتها) بضم الميم وسكون الحاء وفتح الدال المخففة المهملتين جمع محدثة، والمراد بها البدع والضلالات من الأفعال والأقوال والبدعة كل شيء عمل على غير مثال سابق، وفي الشرع أحداث ما لم يكن في عهد رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فإن
كان له أصل يدل عليه الشرع فليس ببدعة.
قال إمامنا الشافعي -رحمه الله- البدعة بدعتان محمودة ومذمومة فما وافق السُّنّة فهو محمود وما خالفها فهو مذموم وأخرجه أبو نعيم بمعناه من طريق إبراهيم بن الجنيد عن الشافعي وعند البيهقي في مناقب الشافعي: أنه قال المحدثات ضربان ما أحدث مخالفًا كتابًا أو سُنّة أو أثرًا أو إجماعًا فهذه بدعة الضلالة وما أحدث من الخير لا يخالف شيئًا من ذلك فهذه محدثة غير مذمومة ( وإن ما توعدون) من البعث وأحواله ( لآتٍ) لكائن لا محالة ( وما أنتم بمعجزين) بفائتين ردّ لقولهم: مَن مات فات.
وهذا من قول ابن مسعود ختم موعظته بشيء من القرآن يناسب الحال، وظاهر سياق هذا الحديث أنه موقوف.
قال الحافظ ابن حجر: لكن القدر الذي له حكم الرفع منه قوله وأحسن الهدي هدي محمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فإن فيه إخبارًا عن صفة من صفاته -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهو أحد أقسام المرفوع.

وقد جاء الحديث عن ابن مسعود مصرحًا فيه بالرفع من وجه آخر أخرجه أصحاب السُّنن لكنه ليس على شرط البخاري، وأخرجه مسلم من حديث جابر مرفوعًا أيضًا بزيادة فيه وليس هو على شرط البخاري أيضًا، وقد سبق حديث الباب في كتاب الأدب.




[ قــ :6888 ... غــ : 778 - 779 ]
- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا الزُّهْرِىُّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ وَزَيْدِ بْنِ خَالِدٍ قَالاَ: كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: «لأَقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللَّهِ».

وبه قال ( حدّثنا مسدد) هو ابن مسرهد قال: ( حدّثنا سفيان) بن عيينة قال: ( حدّثنا الزهري) محمد بن مسلم بن شهاب ( عن عبيد الله) بضم العين ابن عبد الله بن عتبة بن مسعود ( عن أبي هريرة وزيد بن خالد) -رضي الله عنهما- ( قال) : كذا في الفرع كأصله بالإفراد أي قال كلٌّ منهما وفي غيره قالا ( كنا عند النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) فقام رجل فقال أنشدك الله إلا قضيت بيننا بكتاب الله الحديث في قصة العسيف الذي زنى بامرأة الذي استأجره ( فقال) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لهما:
( لأقضين بينكما بكتاب الله) القصة إلى آخرها السابق ذلك في المحاربين وغيره واقتصر منها هنا على قوله كنا عند النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقال لأقضين بينكما بكتاب الله القدر المذكور إشارة إلى أن السُّنّة يطلق عليها كتاب الله لأنها بوحيه وتقديره قال الله تعالى: { وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى} [النجم: 3] .




[ قــ :6889 ... غــ : 780 ]
- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ، حَدَّثَنَا فُلَيْحٌ، حَدَّثَنَا هِلاَلُ بْنُ عَلِىٍّ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «كُلُّ أُمَّتِى يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ، إِلاَّ مَنْ أَبَى».
قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَنْ يَأْبَى؟ قَالَ: «مَنْ أَطَاعَنِى دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَمَنْ عَصَانِى فَقَدْ أَبَى».

وبه قال: ( حدّثنا محمد بن سنان) العوقي بفتح العين المهملة والواو بعدها قاف أبو بكر الباهلي البصري قال: ( حدّثنا فليح) بضم الفاء وفتح اللام وبعد التحتية الساكنة حاء مهملة ابن سليمان المدني قال: ( حدّثنا هلال بن علي) بن أسامة يقال له ابن أبي ميمون وقد ينسب إلى جده
( عن عطاء بن يسار) بالتحتية والمهملة ( عن أبي هريرة) -رضي الله عنه- ( أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال) :
( كل أمتي) أي أمة الإجابة ( يدخلون الجنة إلا مَن أبى) بفتح الهمزة والموحدة من عصى منهم فاستثناهم تغليظًا عليهم وزجرًا عن المعاصي أو المراد أمة الدعوة وإلاّ من أبى أي كفر بامتناعه عن قبول الدعوة ( قالوا يا رسول الله ومن يأبى؟ قال: من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى) .
قل في شرح المشكاة: ومن يأبى معطوف على محذوف أي عرفنا الذين يدخلون الجنة والذي أبى لا نعرفه وكان من حق الجواب أن يقال من عصاني فعدل إلى ما ذكره تنبيهًا به على أنهم ما عرفوا ذاك ولا هذا، إذ التقدير من أطاعني وتمسك بالكتاب والسُّنّة دخل الجنة ومن اتّبع هواه وزلّ عن الصواب وضل عن الطريق المستقيم دخل النار فوضع أبى موضعه وضعًا للسبب موضع المسبب قال: ويعضد هذا التأويل إيراد محيي السُّنّة هذا الحديث في باب الاعتصام بالكتاب والسُّنَّة والتصريح بذكر الطاعة فإن المطيع هو الذي يعتصم بالكتاب والسُّنّة ويجتنب الأهواء والبدع.

والحديث من أفراده.




[ قــ :6890 ... غــ : 781 ]
- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبَادَةَ، أَخْبَرَنَا يَزِيدُ، حَدَّثَنَا سَلِيمُ بْنُ حَيَّانَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مِينَاءَ، حَدَّثَنَا أَوْ سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: جَاءَتْ مَلاَئِكَةٌ إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهْوَ نَائِمٌ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ نَائِمٌ.

     وَقَالَ  بَعْضُهُمْ: إِنَّ الْعَيْنَ نَائِمَةٌ وَالْقَلْبَ يَقْظَانُ فَقَالُوا: إِنَّ لِصَاحِبِكُمْ هَذَا مَثَلاً، فَاضْرِبُوا لَهُ مَثَلاً، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ نَائِمٌ.

     وَقَالَ  بَعْضُهُمْ: إِنَّ الْعَيْنَ نَائِمَةٌ وَالْقَلْبَ يَقْظَانُ فَقَالُوا: مَثَلُهُ كَمَثَلِ رَجُلٍ بَنَى دَارًا، وَجَعَلَ فِيهَا مَأْدُبَةً وَبَعَثَ دَاعِيًا فَمَنْ أَجَابَ الدَّاعِىَ دَخَلَ الدَّارَ.
وَأَكَلَ مِنَ الْمَأْدُبَةِ، وَمَنْ لَمْ يُجِبِ الدَّاعِىَ لَمْ يَدْخُلِ الدَّارَ وَلَمْ يَأْكُلْ مِنَ الْمَأْدُبَةِ، فَقَالُوا: أَوِّلُوهَا لَهُ يَفْقَهْهَا فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ نَائِمٌ.

     وَقَالَ  بَعْضُهُمْ: إِنَّ الْعَيْنَ نَائِمَةٌ وَالْقَلْبَ يَقْظَانُ، فَقَالُوا: فَالدَّارُ الْجَنَّةُ، وَالدَّاعِى مُحَمَّدٌ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَمَنْ أَطَاعَ مُحَمَّدًا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ، وَمَنْ عَصَى مُحَمَّدًا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَدْ عَصَى اللَّهَ، وَمُحَمَّدٌ فَرْقٌ بَيْنَ النَّاسِ.
تَابَعَهُ قُتَيْبَةُ عَنْ لَيْثٍ، عَنْ خَالِدٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِى هِلاَلٍ، عَنْ جَابِرٍ خَرَجَ عَلَيْنَا النَّبِىُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.

وبه قال: ( حدّثنا محمد بن عبادة) بفتح العين المهملة وتخفيف الموحدة الواسطي واسم جده البختري بفتح الموحدة وسكون المعجمة وفتح الفوقية وليس له في البخاري سوى هذا الحديث وآخر سبق في الأدب ومن عداه في الصحيحين فبضم العين قال: ( أخبرنا يزيد) بن هارون قال: ( حدّثنا سليم بن حيان) بفتح السين المهملة وكسر اللام بوزن عظيم وفي الفرع مكتوب على كشط سليمان، وكذا في اليونينية بزيادة ألف ونون وضم النون وكذا هو في عدة نسخ وهو سليمان بن حيان أبو خالد الأحمر الكوفي والذي في فتح الباري وعمدة القارئ والكواكب سليم وحيان بفتح الحاء المهملة وتشديد التحتية الهذلي البصري قال محمد بن عبادة: ( وأثنى عليه) يزيد بن هارون
خيرًا قال: ( حدّثنا سعيد بن ميناء) بكسر الميم وسكون التحتية بعدها نون فهمزة ممدودًا أبو الوليد قال: ( حدّثنا أو) قال ( سمعت جابر بن عبد الله) الأنصاري -رضي الله عنهما- القائل حدّثنا أو سمعت سعيد بن ميناء والشاك سليم بن حيان شك في أيّ الصيغتين قالها شيخه سعيد ويجوز في جابر الرفع على تقدير حدّثنا والنصب على تقدير سمعت جابرًا ( يقول: جاءت ملائكة إلى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهو نائم) ذكر منهم الترمذي في جامعه اثنين جبريل وميكائيل، فيحتمل أن يكون مع كل واحد منهما غيره أو اقتصر فيه على من باشر الكلام ابتداءً وجوابًا.
وفي حديث ابن مسعود عند الترمذي وحسنه وصححه ابن خزيمة أنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- توسد فخذه فرقد وكان إذا نام نفخ قال فبينا أنا قاعد إذ أنا برجال عليهم ثياب بيض الله أعلم بما بهم من الجمال فجلست طائفة منهم عند رأس رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وطائفة منهم عن رجليه ( فقال بعضهم: إنه نائم، وقال بعضهم: إن العين نائمة والقلب يقظان) قال الرامهرمزي: هذا تمثيل يراد به حياة القلب وصحة خواطره، وقال البيضاوي فيما حكاه في شرح المشكاة قول بعضهم إنه نائم الخ مناظرة جرت بينهم بيانًا وتحقيقًا لما أن النفوس القدسية الكاملة لا يضعف إدراكها بضعف الحواس واستراحة الأبدان ( فقالوا: إن لصاحبكم هذا) يعنون النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ( مثلاً فاضربوا له مثلاً فقال بعضهم: إنه نائم وقال بعضهم إن العين نائمة والقلب يقظان فقالوا مثله) عليه الصلاة والسلام ( كمثل رجل بنى دارًا وجعل فيها مأدبة) بفتح الميم وسكون الهمزة وضم الدال وفتحها بعدها موحدة مفتوحة فهاء تأنيث وقيل بالضم الوليمة وبالفتح أدب الله الذي أدّب به عباده وحينئذٍ فيتعين الضم هنا ( وبعث داعيًا) يدعو الناس إليها ( فمن أجاب الداعي دخل الدار وأكل من المأدبة، ومن لم يجب الداعي لم يدخل الدار ولم يأكل من المأدبة) .

وفي حديث ابن مسعود عند أحمد بنى بنيانًا حصينًا ثم جعل مأدبة فدعا الناس إلى طعامه وشرابه فمن أجابه أكل من طعامه وشرب من شرابه ومن لم يجبه عاقبه ( فقالوا: أولوها) بكسر الواو المشدّدة أي فسروا الحكاية أو التمثيل ( له) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ( يفقهها) مَن أوّل تأويلاً إذا فسر الشيء بما يؤول إليه والتأويل في اصطلاح العلماء تفسير اللفظ بما يحتمله احتمالاً غير بيّن ( فقال بعضهم: إنه نائم وقال بعضهم: إن العين نائمة والقلب يقظان) كرر فقال بعضهم إنه نائم الخ ثلاث مرات ( فقالوا فالدار) الممثل بها ( الجنة والداعي محمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) وفي حديث ابن مسعود عند أحمد: أما السيد فهو رب العالمين، وأما البنيان فهو الإسلام، وأما الطعام فهو الجنة ومحمد الداعي فمن اتبعه كان في الجنة ( فمن أطاع محمدًا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقد أطاع الله) لأنه رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- صاحب المأدبة فمن أجابه ودخل في دعوته أكل من المأدبة ( ومن عصى محمدًا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقد عصى الله) .

فإن قلت: التشبيه يقتضي أن يكون مثل الباني هو مثل النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حيث قال مثله كمثل رجل بنى دارًا لا مثل الداعي.
وأجاب في شرح المشكاة فقال قوله: مثله كمثل رجل مطّلع للتشبيه وهو ينبئ عن أن هذا ليس من التشبيهات المفرقة كقول امرئ القيس:
كأن قلوب الطير رطبًا ويابسًا ... لدى وكرها العناب والحشف البالي
شبه القلوب الرطبة بالعناب واليابسة بالحشف على التفريق بل هو من التمثيل الذي ينتزع فيه الوجه من أمور متعددة متوهمة منضم بعضها مع بعض إذ لو أريد التفريق لقيل مثله كمثل داع بعثه رجل، ومن ثم قدمت في التأويل الدار على الداعي وعلى المضيف روعي في التأويل أدب حسن حيث لم يصرح المشبه بالرجل لكنه لمح في قوله من أطاع الله إلى ما يدل على أن المشبه من هو قال الطيبي، وتحريره، أن الملائكة مثلوا سبق رحمة الله تعالى على العالمين بإرساله الرحمة المهداة إلى الخلق كما قال تعالى: { وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} [الأنبياء: 107] ثم إعداده الجنة للخلق ودعوته -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إياهم إلى الجنة ونعيمها وبهجتها ثم إرشاده الخلق بسلوك الطريق إليها واتباعهم إياه بالاعتصام بالكتاب والسُّنّة المدليين إلى العالم السفلي فكأن الناس واقعون في مهواة طبيعتهم ومشتغلون بشهواتها وإن الله يريد بلطفه رفعهم فأدلى حبلي القرآن والسُّنّة إليهم ليخلص من تلك الورطة فمن تمسك بهما نجا وحصل في الفردوس الأعلى والجناب الأقدس عند مليك مقتدر ومن أخلد إلى الأرض هلك وأضاع نفسه من رحمة الله تعالى بحال مضيف كريم بنى دارًا وجعل فيها من أنواع الأطعمة المستلذة والأشربة المستعذبة ما لا يحصى ولا يوصف ثم بعث داعيًا إلى الناس يدعوهم إلى الضيافة إكرامًا لهم فمن اتبع الداعي نال من تلك الكرامة ومن لم يتبع حرم منها ثم إنهم وضعوا مكان حلول سخط الله بهم ونزول العقاب السرمدي عليهم، قولهم: لم ندخل الدار ولم نأكل من المأدبة لأن فاتحة الكلام سيقت لبيان سبق الرحمة على الغضب فلم يطابق أن لو ختم بما يصرح بالعقاب والغضب فجاؤوا بما يدل على المراد على سبيل الكناية.

( ومحمد) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ( فرّق) بتشديد الراء فارق ولغير أبي ذر فرق بسكونها على المصدر وصف به للمبالغة أي الفارق ( بين الناس) المؤمن الكافر والصالح والطالح إذ به تميزت الأعمال والعمال وهذا كالتذليل للكلام السابق لأنه مشتمل على معناه ومؤكد له وفيه إيقاظ للسامعين من رقدة الغفلة وحث على الاعتصام بالكتاب والسُّنّة والإعراض عما يخالفهما.

( تابعه) أي تابع محمد بن عبادة ( قتيبة) بن سعيد ( عن ليث) هو ابن سعد ( عن خالد) أبي عبد الرحيم بن يزيد المصري ( عن سعيد بن أبي هلال) الليثي المدني ( عن جابر) الأنصاري -رضي الله عنه- أنه قال: ( خرج علينا النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) وصله الترمذي بلفظ خرج علينا النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقال: "إني رأيت في المنام كأن جبريل عند رأسي وميكائيل عند رجلي يقول أحدهما لصاحبه اضرب له مثلاً فقال اسمع سمعت أُذنك واعقل عقل قلبك إنما مثلك ومثل أمتك كمثل ملك اتخذ دارًا ثم بنى فيها بناء، ثم جعل فيها مائدة ثم بعث رسولاً يدعو الناس إلى طعامه، فمنهم من أجاب الرسول، ومنهم من تركه فالله هو الملك، والدار الإسلام، والبيت الجنة.
وأنت يا محمد رسول الله من أجابك دخل الإسلام ومن دخل الإسلام دخل الجنة، ومن دخل الجنة أكل مما فيها".
قال الترمذي: وهو حديث مرسل لأن سعيد بن أبي هلال لم يدرك جابرًا.
قال في الفتح: يريد أنه منقطع بين سعيد وجابر، وقد اعتضد هذا المنقطع بحديث ربيعة الجرشي عند الطبراني بنحو سياقه وسنده جيد، وأورده المؤلّف لرفع توهم من ظن أن طريق سعيد بن ميناء موقوف.




[ قــ :6891 ... غــ : 78 ]
- حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ هَمَّامٍ عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: يَا مَعْشَرَ الْقُرَّاءِ اسْتَقِيمُوا فَقَدْ سُبِقْتُمْ سَبْقًا بَعِيدًا، فَإِنْ أَخَذْتُمْ يَمِينًا وَشِمَالاً لَقَدْ ضَلَلْتُمْ ضَلاَلاً بَعِيدًا.

وبه قال: ( حدّثنا أبو نعيم) الفضل بن دكين قال: ( حدّثنا سفيان) الثوري ( عن الأعمش) سليمان بن مهران ( عن إبراهيم) النخعي ( عن همام) هو ابن الحارث ( عن حذيفة) بن اليمان -رضي الله عنه- أنه ( قال: يا معشر القراء) بضم القاف وتشديد الراء مهموزًا جمع قارئ، والمراد العلماء بالقرآن والسُّنّة العباد ( استقيموا) اسلكوا طريق الاستقامة بأن تتمسكوا بأمر الله فعلاً وتركًا ( فقد سبقتم) بضم السين وكسر الموحدة مصححًا عليه في الفرع كأصله مبنيًّا للمفعول أي لازموا الكتاب والسُّنّة فإنكم مسبوقون ( سبقًا بعيدًا) أي ظاهرًا ووصفه بالبعد لأنه غاية شأو المتسابقين، ولأبي ذر: سبقتم بفتح السين والموحدة.
قال في الفتح: وبه جزم ابن التين وهو المعتمد، وزاد محمد بن يحيى الذهلي عن أبي نعيم شيخ البخاري فيه، فإن استقمتم فقد سبقتم أخرجه أبو نعيم في مستخرجه وخاطب بذلك من أدرك أوائل الإسلام، فإذا تمسك بالكتاب والسُّنَّة سبق إلى كل لأن من جاء بعده إن عمل بعمله لم يصل إلى ما وصل إليه من سبقه إلى الإسلام إلا فهو أبعد منه حسًّا وحكمًا ( فإن) خالفتم الأمر ( أخذتم يمينًا وشمالاً) عن طريق الاستقامة ( لقد ضللتم ضلالاً بعيدًا) .

ومطابقة الحديث للترجمة في قوله: استقيموا لأن الاستقامة هي الاقتداء بسنن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وقد قال ابن عباس في قوله تعالى: { وأن هذا صراطي مستقيمًا فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله} [الأنعام: 153] قال: أمر الله المؤمنين بالجماعة ونهاهم عن الاختلاف والفرقة.
وقال القرطبي أبو محمد: الصراط الطريق الذي هو دين الإسلام وقوله مستقيمًا نصب على الحال والمعنى مستويًا قويمًا لا اعوجاج فيه وقد بيّنه على لسان نبيه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وتشعبت منه طرق فمن سلك الجادة نجا، ومن خرج إلى تلك الطرق أفضت به إلى النار.
وعن ابن مسعود قال: خطّ رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خطًّا بيده ثم قال: هذا سبيل الله مستقيمًا وخطّ عن يمينه وشماله ثم قال: هذه السبل ليس منها سبيل إلا عليه شيطان يدعو إليه ثم قرأ { وأن هذا صراطي مستقيمًا} الآية رواه الإمام أحمد.




[ قــ :689 ... غــ : 783 ]
- حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ بُرَيْدٍ، عَنْ أَبِى بُرْدَةَ عَنْ أَبِى مُوسَى عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «إِنَّمَا مَثَلِى وَمَثَلُ مَا بَعَثَنِى اللَّهُ بِهِ، كَمَثَلِ رَجُلٍ أَتَى قَوْمًا فَقَالَ: يَا قَوْمِ إِنِّى رَأَيْتُ الْجَيْشَ بِعَيْنَىَّ وَإِنِّى أَنَا النَّذِيرُ الْعُرْيَانُ، فَالنَّجَاءَ، فَأَطَاعَهُ طَائِفَةٌ مِنْ قَوْمِهِ فَأَدْلَجُوا فَانْطَلَقُوا عَلَى مَهَلِهِمْ فَنَجَوْا، وَكَذَّبَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ فَأَصْبَحُوا مَكَانَهُمْ، فَصَبَّحَهُمُ الْجَيْشُ فَأَهْلَكَهُمْ وَاجْتَاحَهُمْ فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ أَطَاعَنِى، فَاتَّبَعَ مَا جِئْتُ بِهِ، وَمَثَلُ مَنْ عَصَانِى وَكَذَّبَ بِمَا جِئْتُ بِهِ مِنَ الْحَقِّ».

وبه قال: ( حدّثنا أبو كريب) بضم الكاف آخره موحدة مصغرًا محمد بن العلاء قال: ( حدّثنا أبو أسامة) حماد بن أسامة ( عن بريد) بضم الموحدة وفتح الراء عبيد الله ( عن) جده ( أبي بردة) بضم الموحدة وسكون الراء عامر أو الحارث ( عن) أبيه ( أبي موسى) عبد الله بن قيس -رضي الله عنه- ( عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أنه ( قال) :
( إنما مثلي ومثل ما) بفتح الميم والمثلثة فيهما أي صفتي العجيبة الشأن وصفة ما ( بعثني الله به) إليكم من الأمر العجيب الشأن ( كمثل رجل) كصفة رجل ( أتى قومًا) بالتنكير للشيوع ( فقال) لهم ( يا قوم إني رأيت الجيش) المعهود ( بعينيّ) بلفظ التثنية ( وإني أنا النذير العريان) بالعين المهملة والراء الساكنة بعدها تحتية من التعري وهو مثل سائر يُضرَب لشدة الأمر ودنوّ المحذر وبراءة المحذر عن التهمة، وأصله أن الرجل إذا رأى العدوّ وقد هجم على قومه وكان يخشى لحوقهم عند لحوقه تجرد عن ثوبه وجعله على رأس خشبة وصاح ليأخذوا حذرهم ويستعدوا قبل لحوقهم وقال ابن السكن هو رجل من خثعم حمل عليه يوم ذي الخلصة عوف بن عامر فقطع يده ويد امرأته ( فالنجاء) بالهمز والمد والرفع مصححًا عليه في الفرع، وفي غيره بالنصب مفعول مطلق أي الإسراع، والذي في اليونينية الهمز فقط من غير حركة رفع ولا غيره، وفي الرقائق في باب الانتهاء عن المعاصي فالنجاء النجاء مرتين ( فأطاعه طائفة من قومه فأدلجوا) بهمزة مفتوحة فدال مهملة ساكنة وبالجيم ساروا أوّل الليل ( فانطلقوا على مهلهم) بتحريك الهاء بالفتحة بالسكينة والتأني ( فنجوا) من العدوّ ( وكذبت طائفة منهم فأصبحوا مكانهم فصبحهم الجيش فأهلكهم واجتاحهم) بالجيم الساكنة والحاء المهملة استأصلهم ( فذلك مثل من أطاعني فاتبع) بالفاء ولأبي ذر عن الحموي والمستملي واتبع ( ما جئت به ومثل من عصاني وكذب بما جئت به من الحق) .

قال الطيبي: هذا التشبيه من التشبيهات المفرقة شبه ذاته -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بالرجل وما بعثه الله به من إنذار القوم بعذاب الله القريب بإنذار الرجل قومه بالجيش المصبح وشبه من أطاعه من أمته ومن عصاه بمن كذب الرجل في إنذاره وصدقه، وفي قول الرجل: أنا النذير الخ أنواع من التأكيد أحدها قوله بعينيّ لأن الرؤية لا تكون إلا بهما، وثانيها إني وأنا، وثالثها العريان فإنه دلّ على بلوغ النهاية في قرب العدوّ.

والحديث سبق في باب الانتهاء عن المعاصي من الرقاق.




[ قــ :6893 ... غــ : 784 - 785 ]
- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا لَيْثٌ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنِ الزُّهْرِىِّ أَخْبَرَنِى عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ: لَمَّا تُوُفِّىَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَاسْتُخْلِفَ أَبُو بَكْرٍ بَعْدَهُ وَكَفَرَ مَنْ كَفَرَ مِنَ الْعَرَبِ قَالَ عُمَرُ لأَبِى بَكْرٍ: كَيْفَ تُقَاتِلُ النَّاسَ وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ فَمَنْ قَالَ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ عَصَمَ مِنِّى مَالَهُ وَنَفْسَهُ إِلاَّ بِحَقِّهِ وَحِسَابُهُ عَلَى اللَّهِ».
فَقَالَ: وَاللَّهِ لأُقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ، فَإِنَّ الزَّكَاةَ حَقُّ
الْمَالِ، وَاللَّهِ لَوْ مَنَعُونِى عِقَالاً كَانُوا يُؤَدُّونَهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَى مَنْعِهِ فَقَالَ عُمَرُ: فَوَاللَّهِ مَا هُوَ إِلاَّ أَنْ رَأَيْتُ اللَّهَ قَدْ شَرَحَ صَدْرَ أَبِى بَكْرٍ لِلْقِتَالِ فَعَرَفْتُ أَنَّهُ الْحَقُّ.

قَالَ ابْنُ بُكَيْرٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ عَنِ اللَّيْثِ ( عَنَاقًا) وَهْوَ أَصَحُّ.

وبه قال: ( حدّثنا قتيبة بن سعيد) أبو رجاء البلخي قال: ( حدّثنا ليث) هو ابن سعد الإمام ( عن عقيل) بضم العين ابن خالد الأيلي ( عن الزهري) محمد بن مسلم الزهري أنه قال: ( أخبرني) بالإفراد ( عبيد الله) بضم العين ( ابن عبد الله بن عتبة) بن مسعود ( عن أبي هريرة) -رضي الله عنه- أنه ( قال: لما توفي رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- واستخلف أبو بكر) -رضي الله عنه- ( بعده وكفر من كفر من العرب) غطفان وفزارة وبنو يربوع وبعض بني تميم وغيرهم منعوا الزكاة فأراد أبو بكر أن يقاتلهم ( قال عمر) -رضي الله عنه- ( لأبي بكر) -رضي الله عنه- معترضًا عليه: ( كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) :
( أُمرت) بضم الهمزة أي أمرني الله ( أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فمن قال: لا إله إلا الله عصم مني ماله ونفسه) فلا يستباح ماله ولا يهدر دمه ( إلا بحقه) بحق الإسلام من قتل نفس محرمة أو إنكار وجوب الزكاة أو منعها بتأويل باطل ( وحسابه) فيما يسره ( على الله) فيثيب المؤمن ويعاقب غيره فلا نقاتله ولا نفتش باطنه هل هو مخلص أم لا.
فإن ذلك إلى الله تعالى وحسابه عليه ولم ينظر عمر -رضي الله عنه- إلى قوله: إلا بحقه ولا تأمل شرائطه ( فقال) له أبو بكر -رضي الله عنهما-: ( والله لأقاتلن من فرّق بين الصلاة والزكاة) فقال أحدهما واجب دون الآخر أو امتنع من إعطاء الزكاة متأوّلاً ( فإن الزكاة حق المال) كما أن الصلاة حق البدن فكما لا تتناول العصمة من لم يؤدّ حق الصلاة كذلك لا تتناول العصمة من لم يؤدّ حق الزكاة وإذا لم تتناولهم العصمة بقوا في عموم قوله أمرت أن أقاتل الناس فوجب قتالهم حينئذٍ، وهذا من لطيف النظر أن يقلب المعترض على المستدل دليله فيكون أحق به، وكذلك فعل أبو بكر فسلّم له عمر -رضي الله عنهما- ( والله لو منعوني عقالاً) هو الحبل الذي يعقل به البعير.
قال أبو عبيد: وقد بعث النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- محمد بن مسلمة على الصدقة فكان يأخذ مع كل فريضة عقالاً.
قال النووي: وقد ذهب إلى هذا أي إلى أن المراد بالعقال حقيقته وهو الحبل كثير من المحققين، والمراد به قدر قيمته، والراجح أن العقال لا يؤخذ في الزكاة لوجوبه بعينه وإنما يؤخذ تبعًا للفريضة التي تعقل به أو أنه قال ذلك مبالغة على تقدير أن لو كانوا يؤدّونه إلى رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وقيل: العقال يطلق على صدقة العام يعني صدقته حكاه الماوردي عن الكسائي، وقيل: إنه الفريضة من الإبل، وقيل ما يؤخذ في الزكاة من أنعام وثمار لأنه عقل عن مالها، لكن قال ابن التيمي في التحرير من فسر العقال بفريضة العام تعسف ولأبي ذر كذا وهي كناية عن قوله عقالاً وله عن الكشميهني كذا وكذا ( كانوا يؤدّونه إلى رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لقاتلتهم على منعه فقال عمر) -رضي الله عنه- ( فوالله ما هو إلا أن رأيت الله قد شرح صدر أبي بكر للقتال فعرفت أنه الحق) بما ظهر من الدليل الذي أقامه لا أنه قلده في
ذلك لأن المجتهد لا يقلد مجتهدًا واختلف في قوله كذا فقيل هي وهم وإلى ذلك أشار المصنف بقوله:
( قال ابن بكير) يحيى بن عبد الله بن بكير المصري ( وعبد الله) بن صالح كاتب الليث ( عن الليث) بن سعد الإمام ( عناقًا وهو أصح) من رواية عقالاً ووقع في رواية ذكرها أبو عبيد لو منعوني جديًا أذوط أي صغير الفك والذقن وهو يؤيد أن الرواية عناقًا ومطابقة الحديث للترجمة في قوله: لأقاتلن من فرّق بين الصلاة والزكاة فإن من فرق بينهما خرج عن الاقتداء بالسُّنّة الشريفة.

والحديث سبق في أوّل الزكاة.




[ قــ :6894 ... غــ : 786 ]
- حَدَّثَنِى إِسْمَاعِيلُ، حَدَّثَنِى ابْنُ وَهْبٍ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ حَدَّثَنِى عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ - رضى الله عنهما - قَالَ: قَدِمَ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنِ بْنِ حُذَيْفَةَ بْنِ بَدْرٍ فَنَزَلَ عَلَى ابْنِ أَخِيهِ الْحُرِّ بْنِ قَيْسِ بْنِ حِصْنٍ، وَكَانَ مِنَ النَّفَرِ الَّذِينَ يُدْنِيهِمْ عُمَرُ وَكَانَ الْقُرَّاءُ أَصْحَابَ مَجْلِسِ عُمَرَ وَمُشَاوَرَتِهِ كُهُولاً كَانُوا أَوْ شُبَّانًا، فَقَالَ عُيَيْنَةُ لاِبْنِ أَخِيهِ: يَا ابْنَ أَخِى هَلْ لَكَ وَجْهٌ عِنْدَ هَذَا الأَمِيرِ فَتَسْتَأْذِنَ لِى عَلَيْهِ؟ قَالَ: سَأَسْتَأْذِنُ لَكَ عَلَيْهِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَاسْتَأْذَنَ لِعُيَيْنَةَ فَلَمَّا دَخَلَ قَالَ: يَا ابْنَ الْخَطَّابِ وَاللَّهِ مَا تُعْطِينَا الْجَزْلَ وَمَا تَحْكُمُ بَيْنَنَا بِالْعَدْلِ، فَغَضِبَ عُمَرُ حَتَّى هَمَّ بِأَنْ يَقَعَ بِهِ فَقَالَ الْحُرُّ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ لِنَبِيِّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: { خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199] وَإِنَّ هَذَا مِنَ الْجَاهِلِينَ فَوَاللَّهِ مَا جَاوَزَهَا عُمَرُ حِينَ تَلاَهَا عَلَيْهِ، وَكَانَ وَقَّافًا عِنْدَ كِتَابِ اللَّهِ.

وبه قال: ( حدّثني) بالإفراد، ولأبي ذر: حدّثنا ( إسماعيل) بن أبي أويس قال: ( حدّثني) بالإفراد ( ابن وهب) عبد الله ( عن يونس) بن يزيد الأيلي ( عن ابن شهاب) محمد بن مسلم أنه قال ( حدّثني) بالإفراد ( عبيد الله) بضم العين ( ابن عبد الله بن عتبة) بن مسعود ( أن عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- قال: قدم عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر) الفزاري من مسلمة الفتح وشهد حُنينًا ( فنزل على ابن أخيه الحر بن قيس بن حصن) وكان عيينة فيمن وافق طلحة الأسدي لما ادّعى النبوّة، فلما غلبهم المسلمون في قتال أهل الردّة فر طليحة وأسر عيينة فأتي به إلى أبي بكر فاستتابه فتاب، وكان قدومه إلى المدينة إلى عمر بعد أن استقام أمره وشهد الفتوح وفيه من جفاء الأعرابي شيء ( وكان) الحر بن قيس ( من النفر الذين يدنيهم) بضم التحتية وسكون الدال المهملة أي يقربهم ( عمر، وكان القراء أصحاب مجلس عمر ومشاورته) الذين يشاورهم في الأمور ( كهولاً كانوا أو شبانًا) بضم الشين المعجمة وتشديد الموحدة وكان الحر متصفًا بذلك فلذا كان عمر يقربه ( فقال عبينة لابن أخيه) الحر بن قيس ( يا ابن أخي هل لك وجه) أي وجاهة ومنزلة ( عند هذا الأمير) عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- ( فتستأذن لي عليه) بنصب فتستأذن لي فتطلب منه الإذن في خلوة ( قال) له الحر: ( سأستأذن لك عليه، قال ابن عباس) بالسند السابق ( فاستأذن) الحر ( لعيينة)
فأذن له ( فلما دخل) عيينة عليه ( قال: يا ابن الخطاب) وهذا من جفائه حيث لم يقل يا أمير المؤمنين ونحوه ( والله ما تعطينا الجزل) بفتح الجيم وسكون الزاي بعدها لام أي الكثير ( وما) ولأبي ذر عن الكشميهني ولا ( تحكم بيننا بالعدل، فغضب عمر) وكان شديدًا في الله ( حتى همّ بأن يقع به) قصد أن يبالغ في ضربه ( فقال) له ( الحر: يا أمير المؤمنين إن الله تعالى قال لنبيه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: { خذ العفو وأمر بالعرف} ) بالمعروف والجميل من الأفعال ( { وأعرض عن الجاهلين} [الأعراف: 199] ) أي ولا تكافئ السفهاء بمثل سفههم ولا تمارهم ( وإن هذا) عيينة ( من الجاهلين) قال ابن عباس أو الحر بن قيس ( فوالله ما جاوزها) أي يتعد ( عمر حين تلاها عليه) الحر أي العمل بها ( وكان وقافًا عند كتاب الله) .
لا يتجاوز حكمه.

والحديث سبق في تفسير سورة الأعراف.