فهرس الكتاب

إرشاد الساري - باب من رأى ترك النكير من النبي صلى الله عليه وسلم حجة، لا من غير الرسول

باب مَنْ رَأَى تَرْكَ النَّكِيرِ مِنَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حُجَّةً لاَ مِنْ غَيْرِ الرَّسُولِ
( باب من رأى ترك النكير) بفتح النون وكسر الكاف أي الإنكار ( من النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) لما يفعل بحضرته أو يقال ويطلع عليه ( حجة) لأنه لا يقرّ أحدًا على باطل سواء استبشر به مع ذلك أم لا لكن دلالته مع الاستبشار أقوى، وقد تمسك الشافعي في القيافة واعتبارها في النسب بكِلا الأمرين الاستبشار وعدم الإنكار في قصة المدلجي، وسواء كان المسكوت عنه ممن يغريه الإنكار أو لا كافرًا كان أو منافقًا والقول باستثناء من يزيده الإنكار إغراء حكاه ابن السمعاني عن المعتزلة بناء على أنه لا يجب إنكاره عليه للإغراء.
قال: والأظهر أنه يجب إنكاره عليه ليزول توهم الإباحة والقول باستثناء ما إذا كان الفاعل كافرًا أو منافقًا قول إمام الحرمين بناء على أن الكافر غير مكلف بالفروع، ولأن المنافق كافر في الباطن والقول بالاقتصار على الكافر ذهب إليه الماوردي وهو أظهر لأنه أهل للانقياد في الجملة وكما يدل للجواز للفاعل فكذا لغيره لأن حكمه على الواحد حكمه على الجماعة.
وذهب القاضي أبو بكر الباقلاني إلى اختصاصه بمن قرر ولا يتعدى إلى غيره فإن
التقرير لا صيغة له.
نعم والصحيح أنه يعم سائر المكلفين لأنه في حكم الخطاب وخطاب الواحد خطاب للجميع ( لا من غير الرسول) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لعدم عصمته، فسكوته لا يدل على الجواز لأنه قد لا يتبين له حينئذٍ وجه الصواب.
قال في المصابيح: وفيه نظر لأنه إذا أفتى واحد في مسألة تكليفية وعرف به أهل الإجماع وسكتوا عليه ولم ينكره أحد ومضى قدر مهلة النظر في تلك الحادثة عادة وكان ذلك القول المسكوت عليه واقعًا في محل الاجتهاد، فالصحيح أنه حجة وهل هو إجماع أو لا؟ فيه خلاف.
قالوا: والخلاف لفظي وعلى الجملة قد تصوّرنا في بعض الصور أن ترك النكير من غير النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حجة.


[ قــ :6961 ... غــ : 7355 ]
- حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ حُمَيْدٍ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاذٍ، حَدَّثَنَا أَبِى، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ قَالَ: رَأَيْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَحْلِفُ بِاللَّهِ أَنَّ ابْنَ الصَّائِدِ الدَّجَّالُ قُلْتُ: تَحْلِفُ بِاللَّهِ قَالَ: إِنِّى سَمِعْتُ عُمَرَ يَحْلِفُ عَلَى ذَلِكَ عِنْدَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَلَمْ يُنْكِرْهُ النَّبِىُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.

وبه قال: ( حدّثنا حماد بن حميد) بالتصغير قال في الفتح هو خراساني فيما ذكره أبو عبد الله بن منده في رجال البخاري، وقال محمد بن إسماعيل بن محمد بن خلفون: حماد بن حميد العسقلاني روى عن عبيد الله بن معاذ روى عنه البخاري في الاعتصام، وقال أبو أحمد بن عدي حماد بن حميد لا يعرف عن عبيد الله بن معاذ، وقال ابن أبي حاتم: حماد بن حميد العسقلاني روى عن ضمرة وبشر بن بكر بن سويد وروّاد سمع منه أي ببيت المقدس في رحلته الثانية، وروى عنه.
وسئل أي عنه فقال: شيخ.
قال محمد بن إسماعيل روى عنه البخاري في الجامع في باب من رأى ترك النكير من النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حجة.
قال محمد بن إسماعيل: لم يجر لحماد ذكر في النسخة عن النسفيّ إنما عنده.
وقال عبيد الله بن معاذ وليس قبله حماد بن حميد اهـ.

وقال الحافظ ابن حجر وقد زعم أبو الوليد الباجي في رجال البخاري أنه هو الذي روى عنه البخاري هنا وهو بعيد قال: ( حدّثنا عبيد الله) بالتصغير ( ابن معاذ) قال: ( حدّثنا أبي) معاذ بن حسان بن نصر بن حسان العنبري البصري قال: ( حدّثنا شعبة) بن الحجاج ( عن سعد بن إبراهيم) بسكون العين ابن عبد الرحمن بن عوف ( عن محمد بن المنكدر) أنه ( قال: رأيت جابر بن عبد الله) الأنصاري -رضي الله عنه- ( يحلف) أي شاهدته حين حلف ( بالله أن ابن الصائد) بألف بعد الصاد بوزن الظالم ولأبي ذر ابن الصياد واسمه صاف ( الدجال) قال ابن المنكدر ( قلت) له: ( تحلف بالله قال) جابر: ( إني سمعت عمر) بن الخطاب -رضي الله عنه- ( يحلف) أي بالله ( على ذلك عند النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فلم ينكره النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) .

استشكل هذا مع ما سبق في الجنائز من أن عمر -رضي الله عنه- قال للنبي-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- دعني أضرب عنقه فقال: إن يكن هو فلن تسلط عليه إذ هو صريح في أنه تردد في أمره، وحينئذٍ فلا يدل
سكوته على إنكاره عند حلف عمر على أنه هو وقد تقرر أن شرط العمل بالتقرير أن لا يعارضه التصريح بخلافه فمن قال أو فعل بحضرته -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- شيئًا فأقره دلّ ذلك على الجواز، فلو قال -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أو فعل خلاف ذلك دل على نسخ ذلك التقرير إلا دليل الخصوصية، وعند أبي داود بسند صحيح عن موسى بن عقبة عن نافع قال كان ابن عمر يقول والله ما أشك أن المسيح الدجال هو ابن صياد.
وأجاب ابن بطال عن التردّد: بأنه كان قبل أن يعلمه الله بأنه هو الدجال فلما أعلمه لم ينكر على عمر حلفه، وبأن العرب قد تخرج الكلام مخرج الشك وإن لم يكن في الخبر شك فيكون ذلك من تلطفه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لعمر في صرفه عن قتله.

وقال ابن دقيق العيد في أوائل شرح الإلمام: إذا أخبر شخص بحضرة النبي-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن أمر ليس فيه حكم شرعي فهل يكون سكوته -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- دليلاً على مطابقة ما في الواقع كما وقع لعمر في حلفه على أن ابن صياد هو الدجال فلم ينكر عليه، فهل يدل عدم إنكاره على أن ابن صياد هو الدجال كما فهمه جابر حتى صار يحلف عليه ويستند إلى حلف عمر أو لا يدل؟ فيه نظر.
قال: والأقرب عندي أنه لا يدل لأن مأخذ المسألة ومناطها هو العصمة من التقرير على الباطل وذلك يتوقف على تحقق البطلان، ولا يكفي فيه عدم تحقق الصحة إلا أن يدعي مدّعٍ أنه يكفي في وجوب البيان عدم تحقق الصحة فيحتاج إلى دليل وهو عاجر عنه.
نعم التقرير يسوّغ الحلف على ذلك على غلبة الظن لعدم توقف ذلك على العلم اهـ.

قال في الفتح: ولا يلزم من عدم تحقق البطلان أن يكون السكوت مستوي الطرفين، بل يجوز أن يكون المحلوف عليه من قسم خلاف الأولى.

وقال في المصابيح: وقد يقال هذا محمول على أنه لم ينكره إنكار من نفى كونه الدجال بدليل أنه أيضًا لم يسكت على ذلك بل أشار إلى أنه متردّد، ففي الصحيحين أنه قال لعمر: إن يكن هو فلن تسلط عليه فتردّد في أمره فلما حلف عمر على ذلك صار حالفًا على غلبة ظنه والبيان قد تقدم من النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، ثم هذا سكوت عن حلف على أمر غيب لا على حكم شرعي ولعل مسألة السكوت والتقرير مختصة بالأحكام الشرعية لا الأمور الغيبية اهـ.

وقال البيهقي: ليس في حديث جابر أكثر من سكوت النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على حلف عمر، فيحتمل أن يكون النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان متوقفًا في أمره ثم جاءه التثبت من الله بأنه غيره على ما تقتضيه قصة تميم الداري وبه تمسك من جزم بأن الدجال غير ابن صياد وتكون الصفة التي في ابن صياد وافقت ما في الدجال، والحاصل أنه إن وقع الشك في أنه الدجال الذي يقتله عيسى ابن مريم عليهما السلام فلم يقع الشك في أنه أحد الدجالين الكذابين الذين أنذر بهم النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في قوله: إن بين يدي الساعة دجالين كذابين، وقصة تميم الداري أخرجها مسلم من حديث فاطمة بنت قيس أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خطب فذكر أن تميمًا الداري ركب في سفينة مع ثلاثين رجلاً من قومه فلعب بهم الموج شهرًا ثم نزلوا في جزيرة فلقيتهم دابة كثيرة الشعر فقالت لهم: أنا الجساسة ودلتهم على رجل في
الدير قال: فانطلقنا سراعًا فدخلنا الدير فإذا فيه أعظم إنسان رأيناه قط خلقًا وأشد وثاقًا مجموعة يداه إلى عنقه بالحديد فقلنا: ويلك من أنت فذكر الحديث وفيه أنه سألهم عن نبي الأميين هل بعث وأنه قال إن يطيعوه فهو خير لهم وأنه سألهم عن بحيرة طبرية وأنه قال لهم إني مخبركم عني أنا المسيح وإني أوشك أن يؤذن لي في الخروج فأخرج فأسير في الأرض فلا أدع قرية إلا هبطتها في أربعين ليلة غير مكة وطيبة، ففيه كما قال البيهقي أن الدجال الأكبر الذي يخرج في آخر الزمان غير ابن صياد، وعند مسلم من طريق داود بن أبي هند عن أبي بصرة عن أبي سعيد قال: صحبني ابن صياد إلى مكة فقال لي: ما قد لقيت من الناس يزعمون أني الدجال ألست سمعت رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول: "إنه لا يولد له"؟! قلت: بلى.
قال: فإنه قد ولد لي.
قال: أوَلست سمعته يقول: "لا يدخل المدينة ولا مكة"؟! قلت: بلى.
قال: قد ولدت بالمدينة وها أنا أريد مكة.

وقال الخطابي اختلف السلف في أمر ابن صياد بعد كبره فروي عنه أنه تاب عن ذلك القول ومات بالمدينة وأنهم لما أرادوا الصلاة عليه كشفوا عن وجهه حتى رآه الناس، وقيل لهم اشهدوا لكن يعكر على هذا ما عند أبي داود بسند صحيح عن جابر قال: فقدنا ابن صياد يوم الحرّة وبسند حسن قيل إنه مات.
وفي الحديث جواز الحلف بما يغلب على الظن.

والحديث أخرجه مسلم في الفتن وأبو داود في الملاحم.