شرح الأربعين النووية لابن دقيق العيد - الحديث رقم 9

رقم الحديث 9 لفظ هذا الحديث في كتاب مسلم عن أبي هريرة قال : خطبنا رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : [ يا أيها الناس قد فرض الله الحج عليكم فحجوا ] فقال رجل : أكل عام يا رسول الله ؟ فسكت حتى قالها ثلاثا فقال النبي صلى الله عليه و سلم [ لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم ] ثم قال [ ذروني ما تركتكم فإنما أهلك من كان قبلكم كثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم فإذا أمرتكم بشئ فائتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شئ فدعوه ] والرجل الذي سأله هو الأقرع بن حابس : كذا جاء مبينا في غير هذه الرواية واختلف الأصوليون في الأمر هل يقتضي التكرار ؟ فاختار أكثر الفقهاء والمتكلمين أنه لا يقتضي التكرار وقال آخرون : لا يحكم باقتضائه ولا منعه بل يتوقف فيما زاد على مرة على البيان وهذا الحديث قد يستدل به من يقول بالتوقف : فإنه سأل فقال : أكل عام ؟ ولو كانت مطلقة يقتضي التكرار أو عدمه لم يقل له النبي صلى الله عليه و سلم [ لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم ] بل ولم يكن حاجة إلى السؤال بل مطلقه محمول على كذا وأجمعت الأمة على أن الحج لا يجب في العمر إلا مرة واحدة بأصل الشرع وأما قوله [ ذروني ما تركتكم ] فهو ظاهر في أن الأمر لا يقتضي التكرار ويدل هذا اللفظ أيضا على أن الأصل عدم الوجوب وأنه لا حكم قبل ورود الشرع وهو الصحيح عند كثير من الأصوليين وقوله [ لو قلت نعم لوجبت ] دليل للمذهب الصحيح في أنه صلى الله عليه و سلم كان له أن يجتهد في الأحكام وأنه لا يشترط في حكمه أن يكون بوحي وقوله صلى الله عليه و سلم [ وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم ] هذا من قواعد الإسلام المهمة ومما أوتيه صلى الله عليه و سلم من جوامع الكلم ويدخل فيه ما لا يحصى من الأحكام كالصلاة إذا عجز عن بعض أركانها أوبعض شروطها أتى بالباقي وإذا عجز عن غسل بعض أعضاء الوضوء غسل الممكن وكذلك إذا وجبت فطرة جماعة ممن يلزمه نفقتهم وكذلك أيضا في إزالة المنكرات إذا لم يمكنه إزالة جميعها فعل الممكن وأشباه ذلك مما لا ينحصر وهو مشهور في كتب الفقه وهذا الحديث كقوله تعالى { فاتقوا الله ما استطعتم } وأما قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته } فقيل منسوخة بقوله : { اتقوا الله ما استطعتم } قال بعضهم : والصحيح أنها ليست منسوخة بها بل هي مفسرة لها ومبينة للمراد منها قالوا : وحق تقاته وهو امتثال أمره واجتناب نواهيه والله سبحانه لم يأمر إلا بالمستطاع فإن الله تعالى قال : { لا يكلف الله نفسا إلا وسعها } وقال تعالى { وما جعل عليكم في الدين من حرج } وأما قوله عليه الصلاة و السلام [ وما نهيتكم عنه فاجتنبوه ] فهذا على إطلاقه لكن إن وجد عذر يبيحه كأكل الميتة عند الضرورة ونحوه فهذا لا يكون منهيا عنه في هذا الحال وأما في غير حال العذر فلا يكون ممتثلا لمقتضى النهي حتى يترك كل ما نهى عنه ولا يخرج عنه بترك فعل واحد بخلاف الأمر وهذا الأصل إذا فهم فهو مسألة مطلق الأمر : هل يحمل على الفور أو على التراخى على المرة الواحدة أو التكرار ؟ ففى هذا الحديث أبواب من الفقه والله أعلم وقوله [ فإنما أهلك الذين من قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم ] وذكر ذلك بعد قوله [ ذرنى ما تركتكم ] أراد : لاتكثروا السؤال فربما يكثر الجواب عليه فيضاهي ذلك قصة بنى إسرائيل لما قيل لهم [ اذبحوا بقرة ] فإنهم لو اقتصروا على ما يصدق عليه اللفظ وبادر إلى ذبح أي بقرة كانت أجزأت عنهم لكن لما أكثروا السؤال وشددوا شدد عليهم وذموا على ذلك فخاف النبى صلى الله عليه و سلم مثل ذلك على أمته