فهرس الكتاب

شرح الزرقاني - بَابُ الْعَمَلِ فِي صَلَاةِ الْكُسُوفِ

رقم الحديث 453 وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ قَالَ: خَسَفَتِ الشَّمْسُ، فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالنَّاسُ مَعَهُ: فَقَامَ قِيَامًا طَوِيلًا نَحْوًا مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، قَالَ: ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلًا، ثُمَّ رَفَعَ فَقَامَ قِيَامًا طَوِيلًا وَهُوَ دُونَ الْقِيَامِ الْأَوَّلِ.
ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلًا وَهُوَ دُونَ الرُّكُوعِ الْأَوَّلِ.
ثُمَّ سَجَدَ.
ثُمَّ قَامَ قِيَامًا طَوِيلًا وَهُوَ دُونَ الْقِيَامِ الْأَوَّلِ.
ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلًا وَهُوَ دُونَ الرُّكُوعِ الْأَوَّلِ.
ثُمَّ رَفَعَ فَقَامَ قِيَامًا طَوِيلًا وَهُوَ دُونَ الْقِيَامِ الْأَوَّلِ.
ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلًا وَهُوَ دُونَ الرُّكُوعِ الْأَوَّلِ.
ثُمَّ سَجَدَ.
ثُمَّ انْصَرَفَ وَقَدْ تَجَلَّتِ الشَّمْسُ.
فَقَالَ: إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَا يَخْسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ ذَلِكَ، فَاذْكُرُوا اللَّهَ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ رَأَيْنَاكَ تَنَاوَلْتَ شَيْئًا فِي مَقَامِكَ هَذَا، ثُمَّ رَأَيْنَاكَ تَكَعْكَعْتَ.
فَقَالَ: إِنِّي رَأَيْتُ الْجَنَّةَ.
فَتَنَاوَلْتُ مِنْهَا عُنْقُودًا.
وَلَوْ أَخَذْتُهُ لَأَكَلْتُمْ مِنْهُ مَا بَقِيَتِ الدُّنْيَا.
وَرَأَيْتُ النَّارَ فَلَمْ أَرَ كَالْيَوْمِ مَنْظَرًا قَطُّ أَفْظَعَ.
وَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا النِّسَاءَ، قَالُوا: لِمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: لِكُفْرِهِنَّ، قِيلَ: أَيَكْفُرْنَ بِاللَّهِ؟ قَالَ: وَيَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ، وَيَكْفُرْنَ الْإِحْسَانَ.
لَوْ أَحْسَنْتَ إِلَى إِحْدَاهُنَّ الدَّهْرَ كُلَّهُ، ثُمَّ رَأَتْ مِنْكَ شَيْئًا، قَالَتْ: مَا رَأَيْتُ مِنْكَ خَيْرًا قَطُّ.


( مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت: خسفت) بفتح الخاء والسين لازم ( الشمس) ويجوز الضم وكسر السين على أنه متعد وحكى ابن الصلاح منعه ولم يبين دليله ( في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي زمنه ( فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس) فيه أنه كان يحافظ على الوضوء فلم يحتج له حينئذ وفيه نظر لأن في السياق حذفًا ففي رواية ابن شهاب عن عروة في الصحيح خسفت فخرج إلى المسجد فصف الناس وراءه.
وفي رواية عمرة فخسفت فرجع ضحى فمرّ بين الحجر ثم قام يصلي، وإذا ثبتت هذه الأفعال جاز أن يكون أيضًا حذف فتوضأ ثم قام فصلى فلا دلالة فيه على أنه على وضوء.

( فقام فأطال القيام) لطول القراءة وفي التالي نحوًا من سورة البقرة، وفي رواية الزهري فاقترأ قراءة طويلة ( ثم ركع فأطال الركوع) لم أر في شيء من الطرق بيان ما قال فيه إلا أن العلماء اتفقوا على أنه لا قراءة فيه وإنما فيه الذكر من تسبيح وتكبير ونحوهما ( ثم قام فأطال القيام) وفي رواية ابن شهاب ثم قال: سمع الله لمن حمده ففيه ندب الذكر المشروع في الاعتدال واستشكل بأنه قيام قراءة لا اعتدال لاتفاق من قال بزيادة ركوع في كل ركعة على قراءة الفاتحة فيه، وإن خالف محمد بن مسلمة والجواب أن صلاة الكسوف جاءت على صفة مخصوصة فلا دخل للقياس فيها بل كل ما فعله صلى الله عليه وسلم فيها فهو مشروع لأنها أصل برأسه قاله كله الحافظ.

( وهو دون القيام الأول) الذي ركع منه ( ثم ركع فأطال الركوع) بالتسبيح ونحوه ( وهو دون الركوع الأول ثم رفع) رأسه من الركوع الثاني ( فسجد) ولم يذكر في هذه الرواية ولا اللتين بعدها تطويل السجود فاحتج به من ذهب إلى أنه لا طول فيه قائلاً لأن الذي شرع فيه التطويل شرع تكراره كالقيام والركوع ولم تشرع الزيادة في السجود فلا يشرع تطويله، وحكمة ذلك أن القائم والراكع يمكنه رؤية الانجلاء بخلاف الساجد، فإن الآية علوية، فناسب طول القيام لا السجود ولأن في تطويله استرخاء الأعضاء فقد يفضي إلى النوم.

وكل هذا مردود بثبوت الأحاديث الصحيحة بتطويله ففي الصحيحين عن عائشة: ما سجدت سجودًا قط كان أطول منه ولا ركعت ركوعًا قط كان أطول منه، وفي رواية: ثم سجد فأطال السجود ونحوه في حديث أختها أسماء في الصحيحين، وفي النسائي عن ابن عمرو وأبي هريرة: وسجد فأطال السجود، وللشيخين عن أبي موسى بأطول قيام وركوع وسجود ولأبي داود والنسائي عن سمرة كأطول ما سجدنا في صلاة قط، ومن ثم قال مالك في المشهور: إنه يطيل السجود كالركوع نعم لا إطالة بين السجدتين إجماعًا.

( ثم فعل في الركعة الآخرة) بكسر الخاء أي الثانية ( مثل ذلك) وفسر ذلك في رواية عمرة الآتية، وذكر الفاكهاني أن في بعض الروايات تقدير القيام الأول بنحو البقرة، والثاني بنحو آل عمران، والثالث بنحو النساء، والرابع بنحو المائدة، ولا يشكل بأن المختار أن القيام الثالث أقصر من الثاني، والنساء أطول من آل عمران لأنه إذا أسرع بقراءتها ورتل آل عمران كانت أطول، لكن تعقب بأن الحديث الذي ذكره لا يعرف إنما هو قول الفقهاء وإن كان أوّله حديث ابن عباس الآتي.
نعم للدارقطني عن عائشة أنه قرأ في الأولى بالعنكبوت والروم وفي الثانية بيس.

( ثم انصرف) من الصلاة ( وقد تجلت) بفوقية وشدّ اللام ( الشمس) أي صفت وعاد نورها أي والحال أنها قد تجلت قبل انصرافه ففي رواية ابن شهاب وانجلت الشمس قبل أن ينصرف وللنسائي ثم تشهد وسلم ( فخطب الناس) وعظهم وذكرهم وأعلمهم بسبب الكسوف وأخبرهم بإبطال ما كانت الجاهلية تعتقده ( فحمد الله وأثنى عليه) زاد النسائي عن سمرة وشهد أنه عبد الله ورسوله واحتج بظاهره الشافعي وإسحاق وأكثر أصحاب الحديث على استحباب الخطبة كالجمعة، والمشهور عند المالكية والحنفية لا خطبة لها.
نعم يستحب الوعظ بعد الصلاة وهو المراد كما مرّ إذ ليس في الأحاديث ما يقتضي أنهما خطبتان كالجمعة وإن اشتملت على الحمد والثناء والوعظ وغير ذلك، وفيه أن الانجلاء لا يسقط الوعظ بخلاف ما لو انجلت قبل الصلاة فيسقطها والوعظ فلو تجلت في أثنائها ففي إتمامها على صفتها أو كالنوافل المعتادة قولان.

( ثم قال: إن الشمس والقمر آيتان) أي علامتان ( من آيات الله) الدالة على وحدانيته تعالى وعظيم قدرته أو على تخويف العباد من بأسه وسطوته.
ويؤيده قوله تعالى: { { وَمَا نُرْسِلُ بِالآَيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفًا } }

قال العلماء: الحكمة في هذا الكلام أن بعض الجاهلية الضلال كانوا يعظمون الشمس والقمر فبين أنهما آيتان مخلوقتان لله لا صنع لهما، بل هما كسائر المخلوقات يطرأ عليهما النقص والتغير كغيرهما.
زاد في رواية: يخوّف الله بهما عباده ( لا يخسفان) بفتح فسكون ويجوز ضم أوّله، وحكى ابن الصلاح منعه ( لموت أحد) وذلك أن ابنه صلى الله عليه وسلم إبراهيم مات فقال الناس ذلك كما في رواية للبخاري، وعند ابن حبان فقال الناس: إنها كسفت لموت إبراهيم، ولأحمد والنسائي وابن ماجه، وصححه ابنا خزيمة وحبان عن النعمان بن بشير.
فلما انكسفت الشمس لموت إبراهيم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج فزعًا يجرّ ثوبه حتى أتى المسجد فصلى حتى انجلت فلما انجلت قال: إن الناس يزعمون أنّ الشمس والقمر لا ينكسفان إلا لموت عظيم من العظماء وليس كذلك.

وفائدة

قوله: ( ولا لحياته) مع أن السياق إنما ورد في حق من ظن أن ذلك لموت إبراهيم ولم يذكروا الحياة دفع توهم من يقول لا يلزم من نفي كونه سببًا للفقد أن لا يكون سببًا للإيجاد فعمم لدفع هذا التوهم، وفيه: ما كان عليه صلى الله عليه وسلم من الشفقة على أمّته وشدّة الخوف من ربه وإبطال ما كانت الجاهلية تعتقده أن الكسوف يوجب حدوث تغير بالأرض من موت أو ضرر، فأعلم أنه اعتقاد باطل وأنهما خلقان مسخران لا سلطان لهما في غيرهما ولا قدرة على الدفع عن أنفسهما.

( فإذا رأيتم ذلك) الكسوف في أحدهما لاستحالة كسوفهما معًا في وقت واحد عادة وإن كان ذلك جائزًا في قدرة الله ( فادعوا الله وكبروا وتصدقوا) وقع الأمر بالصدقة في رواية هشام هذه دون غيرها.

قاله الحافظ: ( ثم قال يا أمة محمد) فيه معنى الإشفاق كما يخاطب الواحد ولده إذا أشفق عليه بقوله يا بني وكان قضية ذلك أن يقول يا أمّتي لكن لعدوله عن المضمر إلى المظهر حكمة، ولعلها أن المقام مقام تحذير وتخويف لما في الإضافة إلى المضمر من الإشعار بالتكريم ومثله يا فاطمة بنت محمد إلى أن قال: لا أغني عنكم من الله شيئًا ( والله) أتى باليمين لإرادة تأكيد الخبر وإن كان لا يرتاب فيه ( ما من أحد أغير) بالنصب خبر ومن زائدة ويجوز الرفع على لغة تميم أو هو بالخفض بالفتحة صفة لأحد والخبر محذوف أي موجود أغير ( من الله) أفعل تفضيل من الغيرة بفتح المعجمة وهي لغة تحصل من الحمية والأنفة وأصله في الزوجين والأهلين، وذلك محال على الله تعالى لأنه منزه عن كل تغير ونقص فتعين حمله على المجاز فقيل: لما كانت ثمرة الغيرة صون الحريم ومنعهم وزجر من يقصد إليهم أطلق عليه ذلك لأنه منع من فعل ذلك وزجر فاعله وتوعده فهو من تسمية الشيء بما يترتب عليه.
وقال ابن فورك: المعنى ما أحد أكثر زجرًا عن الفواحش من الله، وقال غيره: غيرة الله ما يغير حال العاصي بانتقامه منه في الدنيا والآخرة أو في أحدهما ومنه قوله تعالى { { إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ } }

وقال ابن دقيق العيد: أهل التنزيه في مثل هذا على قولين: إما ساكت وإما مؤوّل بأن المراد بالغيرة شدّة المنع والحماية فهو من مجاز الملازمة.
وقال الطيبي وغيره: وجه اتصال هذا بقوله: فاذكروا الله... إلخ.
من جهة أنهم لما أمروا باستدفاع البلاء بالذكر والصلاة والصدقة ناسب ردعهم عن المعاصي التي هي من أسباب جلب البلاء، وخص منه الزنا لأنه أعظمها في ذلك.
وقيل: لما كانت هذه المعصية من أقبح المعاصي وأشدّها تأثيرًا في إثارة النفوس وغلبة الغضب ناسب ذلك تخويفهم في هذا المقام من مؤاخذة رب العزة.

( أن يزني عبده أو تزني أمته) متعلق بأغير وحذف من قبل أن قياس مستمر وتخصيصهما بالذكر رعاية لحسن الأدب مع الله لتنزهه عن الزوجة والأهل ممن يتعلق بهم الغيرة غالبًا ثم كرر النداء فقال: ( يا أمة محمد) ويؤخذ منه أن الواعظ ينبغي له حال وعظه أن لا يأتي بكلام فيه تفخيم نفسه بل يبالغ في التواضع لأنه أقرب إلى انتفاع السامع ( والله لو تعلمون ما أعلم) من عظيم قدرة الله وانتقامه من أهل الجرائم وشدّة عقابه وأهوال القيامة وما بعدها، وقيل معناه لو دام علمكم كما دام علمي لأن علمه متواصل بخلاف علم غيره ( لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيرًا) لتفكركم فيما عملتموه، وقيل معناه لو علمتم من سعة رحمة الله وحلمه وغير ذلك مما أعلم لبكيتم على ما فاتكم من ذلك.
قيل: معنى القلة هنا العدم أي لتركتم الضحك أو لم يقع منكم إلا نادرًا لغلبة الخوف واستيلاء الحزن، وقول المهلب المخاطب بذلك الأنصار لما كانوا عليه من محبة اللهو والغناء لا دليل عليه ومن أين له أنهم المخاطبون دون غيرهم.

والقصة كانت في آخر زمنه صلى الله عليه وسلم حيث امتلأت المدينة بأهل مكة ووفود العرب، وقد بالغ الزين بن المنير في الرد عليه والتشنيع.

وفي الحديث ترجيح التخويف في الوعظ على التوسع بالترخيص لما في الترخيص من ملائمة النفوس لما جبلت عليه من الشهوة والطبيب الحاذق يقابل العلة بضدّها لا بما يزيدها، وأن لصلاة الكسوف هيئة تخصها من زيادة التطويل على العادة في القيام وغيره وزيادة ركوع في كل ركعة.

ووافق عائشة على ذلك رواية ابن عباس وابن عمر وفي الصحيحين، وأسماء بنت أبي بكر وجابر في مسلم، وعلي عند أحمد، وأبو هريرة في النسائي، وابن عمر في البزار، وأمّ سفيان في الطبراني، وفي رواياتهم زيادة رواها الحفاظ الثقات فالأخذ بها أحق من إلغائها، وبذلك قال جمهور العلماء منهم الأئمة الثلاثة، وقال النخعي والثوري وأبو حنيفة: إنها ركعتان نحو الصبح ثم الدعاء حتى تنجلي.
وأجاب بعض الحنفية عن زيادة الركوع بحمله على رفع الرأس لرؤية الشمس هل انجلت أم لا، فإذا لم يرها انجلت رجع إلى ركوع ففعل ذلك مرة أو مرارًا فظنه بعض من رواه يفعل ذلك ركوعًا زائدًا وتعقب بالأحاديث الصحيحة الصريحة في أنه أطال القيام بين الركوعين ولو كان الرفع لرؤية الشمس فقط لم يحتج إلى تطويل ولا سيما الأخبار الصريحة بأنه قال ذكر الاعتدال، ثم شرع في القراءة فكل ذلك يرد هذا الحمل ولو كان كما زعم هذا القائل لكان فيه إخراج فعله صلى الله عليه وسلم عن العبادة المشروعة أو لزم منه إثبات هيئة في الصلاة لأعهد بها وهو ما فر منه.

والحديث رواه البخاري عن عبد الله بن مسلمة القعنبي ومسلم عن قتيبة بن سعيد كلاهما عن مالك به.

( مالك عن زيد بن أسلم) العدوي مولاهم المدني ( عن عطاء بن يسار) بتحتية ومهملة خفيفة ( عن عبد الله بن عباس أنه قال: خسفت) بفتحات ( الشمس) زاد القعنبي على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ( فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم و) صلى ( الناس معه) ففيه مشروعية الجماعة فيها ( فقام قيامًا طويلاً نحوًا من سورة البقرة) فيه أن القراءة كانت سرًا وكذا قول عائشة في بعض طرق حديثها فحزرت قراءته فرأيت أنه قرأ بسورة البقرة، وقول بعضهم كان ابن عباس صغيرًا فمقامه آخر الصفوف فلم يسمع القراءة فحزر المدّة، مردود بقول ابن عباس قمت إلى جانب النبي صلى الله عليه وسلم فما سمعت منه حرفًا قاله أبو عمر.

( قال: ثم ركع ركوعًا طويلاً) نحو البقرة ( ثم رفع رأسه) من الركوع ( فقام قيامًا طويلاً وهو دون القيام الأوّل) بنحو آل عمران ففيه أن الركعة الثانية أقصر من الأولى ( ثم ركع ركوعًا طويلاً وهو دون الركوع الأوّل ثم سجد) سجدتين فأطال فيهما نحو الركوع على ما دلت عليه الأحاديث كما مّر ( ثم قام قيامًا طويلاً) بنحو النساء ( وهو دون القيام الأول ثم ركع ركوعًا طويلاً وهو دون الركوع الأول) يحتمل أن يريد دون الأول في القيام الأول والركوع الأول، ويحتمل أن يريد الركوع الذي يليه وأي ذلك كان فلا حرج إن شاء الله تعالى قاله ابن عبد البر.

وقال الباجي: إنما يريد القيام الذي يليه لأنه أبين ولأنه انصرف إلى القيام الأول لم يعلم إن كان تقدير الثاني أكثر منه فإضافته إلى ما يليه أولى.

وفي فتح الباري قال ابن بطال: لا خلاف أن الركعة الأولى بقيامها وركوعها أطول من الثانية بقيامها وركوعها، وقال النووي: اتفقوا على أن القيام الثاني وركوعه فيهما أقصر من القيام الأوّل وركوعه فيهما.

واختلفوا في القيام الأوّل من الثانية وركوعه هل هما أقصر من القيام الثاني من الأوّل وركوعه أو هما سواء؟ قيل: وسبب هذا الخلاف فهم معنى قوله وهو دون القيام الأوّل هل المراد به الأوّل من الثانية أو يرجع إلى الجميع فيكون كل قيام دون ما قبله، ورواية الإسماعيلي تعين الثاني ولفظه الأولى فالأولى أطول ويرجحه أيضًا أنه لو كان المراد بقوله القيام الأوّل أوّل قيام من الأولى لكان القيام الثاني والثالث مسكوتًا عن مقدارهما فالأوّل أكثر فائدة انتهى.

( ثم رفع) من الركوع ( فقام قيامًا طويلاً) نحو المائدة ( وهو دون القيام الأوّل ثم ركع ركوعًا طويلاً وهو دون الركوع الأول ثم سجد) سجدتين ( ثم انصرف) من الصلاة ( و) الحال أنها ( قد تجلت الشمس) قبل انصرافه من الصلاة وذلك بين جلوسه في التشهد والسلام كما في حديث ابن عمر وفي الصحيح ثم جلس ثم جلي عن الشمس ( فقال: إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا يخسفان) بفتح الياء وسكون الخاء وكسر السين ويجوز ضم أوّله وفتح السين ( لموت أحد ولا لحياته) بل هما مخلوقان لا تأثير لهما في أنفسهما فضلاً عن غيرهما ففيه بيان ما يخشى اعتقاده على غير الصواب وردّ على من يزعم أن للكواكب تأثيرًا في الأرض لانتفاء ذلك عن الشمس والقمر فكيف بما دونهما؟.

( فإذا رأيتم ذلك فاذكروا الله، قالوا: يا رسول الله رأيناك تناولت شيئًا في مقامك هذا) وفي حديث جابر عند أحمد بإسناد حسن فلما قضى الصلاة قال له أبي بن كعب شيئًا صنعته في الصلاة لم تكن تصنعه فذكر نحو حديث ابن عباس إلا أن في حديث جابر أنه كان في الظهر أو العصر فإن كان محفوظًا فهي قصة أخرى ( ثم رأيناك تكعكعت) بتاء أوّله وكافين مفتوحتين بعد كل عين ساكنة أي تأخرت وتقهقرت، وقال أبو عبيدة كعكعته فتكعكع وهو يدل على أن كعكع متعدّ وتكعكع لازم وكعكع يقتضي مفعولاً أي رأيناك كعكعت نفسك، ولمسلم رأيناك كففت نفسك بفاءين خفيفتين من الكف وهو المنع.

( فقال) صلى الله عليه وسلم ( إني رأيت الجنة) رؤية عين بأن كشف له دونها فرآها على حقيقتها وطويت المسافة بينهما حتى أمكنه أن يتناول منها، وهذا أشبه بظاهر الحديث.

ويؤيده حديث أسماء في الصحيح بلفظ دنت مني الجنة حتى لو اجترأت عليها لجئتكم بقطاف من قطافها، ومنهم من حمله على أنها مثلت له في الحائط كما تنطبع الصورة في المرآة فرأى جميع ما فيها.
ويؤيده حديث أنس في الصحيح: لقد عرضت عليّ الجنة آنفًا في عرض هذا الحائط وأنا أصلي، وفي رواية لقد مثلت، ولمسلم لقد صورت ولا يرد على هذا أن الانطباع إنما هو في الأجسام الصقيلة لأنه شرط عادي فيجوز أن تنخرق العادة خصوصًا للنبي صلى الله عليه وسلم لكن هذه قصة أخرى وقعت في صلاة الظهر ولا مانع أن يرى الجنة والنار مرّتين بل مرارًا على صور مختلفة وأبعد من قال الرؤية العلم.

قال القرطبي: لا إحالة في بقاء هذه الأمور على ظواهرها لا سيما على مذهب أهل السنة في أن الجنة والنار قد خلقتا، ووجدتا فيرجع إلى أن الله خلق لنبيه إدراكًا خاصًا أدرك به الجنة والنار على حقيقتهما.

( فتناولت منها عنقودًا) أي وضعت يدي عليه بحيث كنت قادرًا على تحويله لكن لم يقدّر لي قطفه ( ولو أخذته) أي لو تمكنت من قطفه، وللقعنبي ولو أصبته.
ويؤيد هذا التأويل قوله في حديث عقبة بن عامر عند ابن خزيمة أهوى بيديه ليتناول شيئًا.
وفي حديث أسماء حتى لو اجترأت عليها وكأنه لم يؤذن له في الاجتراء فلم يجترئ، وبهذا لا يشكل قوله: ولو أخذته مع قوله تناولت.
وأجيب أيضًا: بأن المراد تناولت لنفسي ولو أخذته لكم وليس بجيد وبأن الإرادة مقدّرة أي: أردت أن أتناول ثم لم أفعل.
ويؤيده حديث جابر عند مسلم: ولقد مددت يدي وأنا أريد أن أتناول من ثمرها لتنظروا إليه ثم بدا لي أن لا أفعل، ومثله للبخاري من حديث عائشة بلفظ: حتى لقد رأيتني أريد آخذ قطفًا من الجنة حين رأيتموني جعلت أتقدّم، ولعبد الرزاق من طريق مرسلة أردت أن آخذ قطفًا أريكموه فلم يقدر، ولأحمد من حديث جابر فحيل بيني وبينه.

( لأكلتم منه) أي من العنقود ( ما بقيت الدنيا) لأن ثمار الجنة لا مقطوعة ولا ممنوعة، وإذا قطفت خلقت في الحال فلا مانع أن يخلق الله مثل ذلك في الدنيا إذا شاء والفرق بين الدارين في وجوب الدوام وجوازه هذا هو الحق.
وحكى ابن العربي عن بعض شيوخه أن معناه أن يخلق في نفس الآكل مثل الذي أكل دائمًا بحيث لا يغيب عن ذوقه، وتعقب بأنه رأي فلسفي مبني على أن الدار الآخرة لا حقائق لها وإنما هي أمثال، وبين سعيد بن منصور من وجه آخر عن زيد بن أسلم أن هذا التناول المذكور كان حال قيامه الثاني من الركعة الثانية.

قال ابن بطال: لم يأخذ العنقود لأنه من طعام الجنة وهو لا يفنى والدنيا فانية لا يجوز أن يؤكل فيها ما لا يفنى، وقيل لأنه لو رآه الناس لكان إيمانهم بالشهادة لا بالغيب فيخشى أن ترفع التوبة فلا ينفع نفسًا إيمانها، وقيل: لأن الجنة جزاء الأعمال والجزاء بها لا يقع إلا في الآخرة.

( ورأيت النار) قبل رؤية الجنة، فلعبد الرزاق عرضت على النبي صلى الله عليه وسلم النار فتأخر عن مصلاه حتى إن الناس ليركب بعضهم بعضًا، وإذا رجع عرضت عليه الجنة فذهب يمشي حتى وقف في مصلاه، ولمسلم من حديث جابر: لقد جيء بالنار حين رأيتموني تأخرت مخافة أن يصيبني من لفحها وفيه، ثم جيء بالجنة وذلك حين رأيتموني تقدّمت حتى قمت في مقامي، وزاد فيه ما من شيء توعدونه إلا قد رأيته في صلاتي هذه، ولابن خزيمة عن سمرة: لقد رأيت منذ قمت أصلي ما أنتم لاقون في دنياكم وآخرتكم.

( فلم أر كاليوم) أي الوقت الذي هو فيه ( منظرًا) نصب بأرى ( قط) زاد في رواية القعنبي أفظع أقبح وأشنع وأسوأ صفة للمنصوب أي لم أر منظرًا مثل منظر رأيته اليوم فحذف المرئي، وأدخل التشبيه على اليوم لبشاعة ما رأى فيه وبعده عن المنظر المألوف، وقيل الكاف اسم والتقدير ما رأيت مثل منظر هذا اليوم منظرًا.

( ورأيت أكثر أهلها النساء) استشكل مع حديث أبي هريرة إن أدنى أهل الجنة منزلة من له زوجتان من الدنيا فمقتضاه أن النساء ثلثا أهل الجنة؟ وأجيب: بحمله على ما بعد خروجهنّ من النار أو أنه خرج مخرج التغليظ والتخويف، وعورض بإخباره صلى الله عليه وسلم بالرؤية الحاصلة.
وفي حديث جابر: وأكثر من رأيت فيها النساء اللاتي إن اؤتمنّ أفشين وإن سئلن بخلن وإن سألن ألحفن وإن أعطين لم يشكرن، فدل على أن المرئي في النار منهنّ من اتصف بصفات ذميمة.

( قالوا: لم يا رسول الله؟ قال: لكفرهن) بلام هنا وفي لم وللقعنبي بم بالباء فيهما وأصله بما بألف حذفت تخفيفًا ( قيل: أيكفرن بالله) تعالى بهمزة الاستفهام ( قال: ويكفرن العشير) أي الزوج أي إحسانه كذا ليحيى وحده بالواو لم يزدها غيره، والمحفوظ عن مالك من رواية سائر الرواة بلا واو قاله ابن عبد البر وكذا في مسلم من رواية حفص بن ميسرة عن زيد بن أسلم بغير واو.

قال الحافظ: اتفقوا على أن الواو غلط من يحيى، فإن كان المراد من تغليطه أنه خالف غيره من الرواة فهو كذلك، وأطلق على الشذوذ غلطًا وإن كان المراد فساد المعنى فليس كذلك لأن الجواب طابق السؤال، وزاد وذلك أنه أطلق لفظ النساء فعم المؤمنة منهنّ والكافرة فلما قيل أيكفرن بالله.
فأجاب بقوله: ويكفرن... إلخ.
كأنه قال: نعم يقع منهنّ الكفر بالله وغيره لأنّ منهنّ من يكفرن بالله ومنهنّ من يكفرن الإحسان.

وقال ابن عبد البر: وجه رواية يحيى أن يكون الجواب لم يقع على وفق سؤال السائل لإحاطة العلم بأن من النساء من يكفرن بالله فلم يحتج إلى جوابه لأنّ المقصود في الحديث خلافه.
قال الكرماني: لم يعدّ كفر العشير بالباء كما عدى الكفر بالله لأنّ كفر العشير لا يتضمن معنى الاعتراف.

( ويكفرن الإحسان) كأنه بيان لقوله يكفرن العشير لأنّ المراد كفر إحسانه لا كفر ذاته فالجملة مع الواو مبينة للأولى نحو: أعجبني زيد وكرمه، والمراد بكفر الإحسان تغطيته أو جحده ويدل عليه قوله: ( لو أحسنت إلى إحداهن الدهر) نصب على الظرفية ( كله) أي مدّة عمر الرجل أو الزمان مبالغة ( ثم رأت منك شيئًا) قليلاً لا يوافق غرضها من أي نوع كان فالتنوين للتقليل ( قالت: ما رأيت منك خيرًا قط) بيان للتغطية المذكورة ولو شرطية لا امتناعية.
قال الكرماني: ويحتمل أنها امتناعية بأن يكون الحكم ثابتًا على التعيين والمظروف المسكوت عنه أولى من المذكور، وليس المراد خطاب رجل بعينه بل كل من يتأتى أن يخاطب فهو خاص لفظًا عامّ معنى.

وفي الحديث المبادرة إلى الطاعة عند رؤية ما يحذر منه واستدفاع البلاء بذكر الله تعالى وأنواع طاعته، ومعجزة ظاهرة للنبي صلى الله عليه وسلم، وما كان عليه من نصح أمّته وتعليمهم ما ينفعهم وتحذيرهم مما يضرهم، ومراجعة المتعلم للعالم فيما لا يدركه فهمه وجواز الاستفهام عن علة الحكم، وبيان العالم ما يحتاج إليه تلميذه والتحذير من كفران الحقوق ووجوب شكر المنعم، وجواز إطلاق الكفر على ما لا يخرج من الملة، وجواز تعذيب أهل التوحيد من أهل المعاصي والعمل القليل في الصلاة، وأنّ الجنة والنار مخلوقتان موجودتان اليوم وأن في صلاة الكسوف زيادة ركوعين في الركعتين، وكذا جاء في حديث عائشة وغيرها كما مرّ وجاءت زيادة على ذلك من طرق أخرى، فلمسلم من وجه آخر عن عائشة وآخر عن جابر أنّ في كل ركعة ثلاث ركوعات، وله من وجه آخر عن ابن عباس في كل ركعة أربع ركوعات، ولأبي داود عن أبي بن كعب والبزار عن علي في كل ركعة خمس ركوعات، ولا يخلو إسناد منها عن علة كما بينه البيهقي وابن عبد البر.

ونقل صاحب الهدي عن الشافعي وأحمد والبخاري: أنهم عدّوا الزيادة على ركوعين في كل ركعة غلطًا من بعض الرواة، فإن أكثر طرق الحديث يمكن ردّ بعضها إلى بعض ويجمعها أن ذلك كان يوم موت إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا اتحدت القصة تعين الأخذ بالراجح، وجمع بعضهم بين هذه الأحاديث بتعدّد الواقعة وأن الكسوف وقع مرارًا فتجوز هذه الأوجه كلها وإلى ذلك نحا إسحاق لكن لم تثبت عنده الزيادة على أربع ركوعات.

وقال أبو عمر: قد يكون ذلك اختلاف إباحة وتوسعة فإنه صلى الله عليه وسلم صلى الكسوف مرارًا فحكى كل واحد ما رأى وكلهم صادق جعلهم المصطفى كالنجوم من اقتدى بأيهم اهتدى انتهى.

وروى حديث الباب البخاري عن القعنبي، ومسلم من طريق إسحاق بن عيسى كلاهما عن مالك به.

( مالك عن يحيى بن سعيد) به قيس الأنصاري ( عن عمرة) بفتح العين وسكون الميم ( بنت عبد الرحمن) بن سعد بن زرارة الأنصارية المدنية ماتت قبل المائة وقيل بعدها وأكثرت ( عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أن يهودية) وفي رواية مسروق عن عائشة عند البخاري دخل عجوزان من يهود المدينة فقالتا: إن أهل القبور يعذبون في قبورهم فكذبتهما قال الحافظ وهو محمول على أن إحداهما تكلمت وأقرتها الأخرى فنسب القول إليهما مجازًا والإفراد على المتكلمة ولم أقف على اسم واحدة منهما ( جاءت تسألها) شيئًا تعطيه لها ( فقالت: أعاذك الله من عذاب القبر) دعاء من اليهودية لعائشة على عادة السؤال ( فسألت عائشة رسول الله صلى الله عليه وسلم) مستفهمة لكونها لم تعلمه قبل ( أيعذب الناس في قبورهم) بضم الياء بعد همزة الاستفهام.

( فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم عائذًا بالله) قال ابن السيد منصوب على المصدر الذي يجيء على مثال فاعل كقولهم عوفي عافية أو على الحال المؤكدة النائبة مناب المصدر والعامل فيه محذوف كأنه قال: أعوذ بالله عائذًا ولم يذكر الفعل لأن الحال نائبة عنه وروي بالرفع أي أنا عائذ بالله ( من ذلك) أي من عذاب القبر.

وللبخاري عن مسروق فسألت عائشة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عذاب القبر فقال: نعم إن عذاب القبر حق قالت: فما رأيته بعد صلى صلاة إلا تعوّذ من عذاب القبر.

وفي مسلم عن عروة عن عائشة: دخلت عليّ يهودية وهي تقول: هل شعرت أنكم تفتنون في القبور؟ فارتاع صلى الله عليه وسلم وقال: إنما يفتن يهود فلبثنا ليالي ثم قال صلى الله عليه وسلم: أوحي إليّ أنكم تفتنون في القبور فسمعته يستعيذ من عذاب القبر وبين هاتين الروايتين تخالف لأنه صلى الله عليه وسلم في هذه أنكر على اليهودية وفي الأولى أقرّها.
وجمع الطحاوي وغيره بأنهما قصتان أنكر قول اليهودية أولاً ثم أعلم به ولم تعلم عائشة فجاءت اليهودية مرّة أخرى فذكرت لها ذلك فأنكرت عليها مستندة إلى الإنكار الأوّل، فأعلمها صلى الله عليه وسلم بأن الوحي نزل بإثباته وقول الكرماني يحتمل أنه صلى الله عليه وسلم كان يتعوذ سرًا فلما رأى استغراب عائشة حين سمعته من اليهودية أعلن به كأنه لم يقف على رواية مسلم المذكورة عن عروة الموافقة لرواية عمرة هذه في أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن علم بذلك.

وأصرح منه ما رواه أحمد بإسناد على شرط البخاري عن سعيد بن عمرو بن سعيد الأموي عن عائشة: أن يهودية كانت تحدّثها فلا تصنع عائشة إليها شيئًا من المعروف إلا قالت اليهودية: وقاك الله عذاب القبر قالت: فقلت: يا رسول الله هل للقبر عذاب؟ قال: كذبت يهود لا عذاب إلا يوم القيامة ثم مكث ما شاء الله فخرج ذات يوم نصف النهار وهو ينادي بأعلى صوته: أيها الناس استعيذوا بالله من عذاب القبر فإن عذاب القبر حق ففي هذا كله أنه إنما علم بعذابه بالمدينة في آخر الأمر في صلاة الكسوف.

واستشكل بقوله تعالى: { { يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا } } وبقوله: { { النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا } } فإنهما مكيتان.
وأجيب: بأن عذاب القبر إنما يؤخذ من الآية الأولى بالمفهوم في حق من لم يتصف بالإيمان وبالمنطوق في الثانية في حق آل فرعون، ومن التحق بهم من الكفار له حكمهم فالذي أنكره صلى الله عليه وسلم إنما هو وقوع العذاب على الموحدين، ثم أعلم بأن ذلك قد يقع على من شاء الله منه فجزم به وحذر منه وبالغ في الاستعاذة منه تعليمًا لأمّته وإرشادًا فانتفى التعارض بحمد الله، وفيه أن عذاب القبر ليس خاصًا بهذه الأمّة بخلاف السؤال ففيه خلاف.

( ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات غداة) من إضافة المسمى إلى اسمه أو ذات زائدة ( مركبًا) بفتح الكاف بسبب موت ابنه إبراهيم ( فخسفت) بفتحات ( الشمس فرجع) من الجنازة ( ضحى) بضم المعجمة مقصور منوّن ارتفاع أوّل النهار ( فمر بين ظهري) بالتثنية وفي رواية ظهراني بفتح المعجمة والنون على التثنية أيضًا ( الحجر) بضم المهملة وفتح الجيم جمع حجرة.
قيل المراد بين ظهر والنون والياء زائدة وقيل الكلمة كلها زائدة، والمراد بين الحجر أي بيوت أزواجه وكانت لاصقة بالمسجد، وفي مسلم من طريق سليمان بن بلال عن يحيى عن عمرة عن عائشة فخرجت في نسوة بين ظهري الحجر في المسجد، فأتى صلى الله عليه وسلم من مركبه حتى انتهى إلى مصلاه الذي كان يصلي فيه.

( ثم قام فصلى) صلاة الكسوف ( وقام الناس وراءه) يصلون ( فقام قيامًا طويلاً) نحو البقرة ( ثم ركع ركوعًا طويلاً) يقرب من القيام ( ثم رفع فقام قيامًا طويلاً وهو دون القيام الأوّل) بنحو آل عمران ( ثم ركع ركوعًا طويلاً وهو دون الركوع الأول) يقرب من القيام الذي قبله ( ثم رفع فسجد) سجدتين بفاء التعقيب ففيه أنه لم يطل في الاعتدال بعد الركوع الثاني ( ثم قام) من سجوده ( قيامًا طويلاً) بنحو سورة النساء ( وهو دون القيام الأوّل) الذي قبله وهو الثاني على مختار الباجي وغيره ( ثم ركع ركوعًا طويلاً) يقرب من قيامه ( وهو دون الركوع الأوّل) الذي يليه ( ثم رفع فقام قيامًا طويلاً) بنحو المائدة ( وهو دون القيام الأوّل ثم ركع ركوعًا طويلاً وهو دون الركوع الأوّل ثم رفع) رأسه من الركوع ( ثم سجد) سجدتين طويلتين ( ثم انصرف) من صلاته بعد التشهد بالسلام ( فقال ما شاء الله أن يقول) مما تقدّم بيانه في الرواية الأولى عن عائشة والثانية عن ابن عباس ( ثم أمرهم أن يتعوّذوا من عذاب القبر) .

قال الزين بن المنير: مناسبة ذلك أن ظلمة النهار بالكسوف تشابه ظلمة القبر وإن كان نهارًا والشيء بالشيء يذكر فيخاف من هذا كما يخاف من هذا فجعل الاتعاظ بهذا في التمسك بما ينجي من غائلة الأخرى، وفيه أن عذاب القبر حق، وفي صحيح ابن حبان عن أبي هريرة مرفوعًا في قوله: { { فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا } } قال: عذاب القبر، وفي الترمذي عن عليّ: ما زلنا في شك في عذاب القبر حتى نزلت { { أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ } } وقال قتادة والربيع بن أنس في قوله: { { سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ } } أن إحداهما في الدنيا والأخرى عذاب القبر.

والحديث أخرجه البخاري عن القعنبي والأوسي كلاهما عن مالك به وتابعه سليمان بن بلال وسفيان وعبد الوهاب الثقفي الثلاثة عن يحيى بن سعيد عند مسلم، والله أعلم.



رقم الحديث 454 وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عَائِشَةَ زوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّ يَهُوديَّةً جَاءَتْ تَسْأَلُهَا.
فَقَالَتْ: أَعَاذَكِ اللَّهُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ.
فَسَأَلَتْ عَائِشَةُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُعَذَّبُ النَّاسُ فِي قُبُورِهِمْ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَائِذًا بِاللَّهِ مِنْ ذَلِكَ.
ثُمَّ رَكِبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ذَاتَ غَدَاةٍ مَرْكَبًا.
فَخَسَفَتِ الشَّمْسُ.
فَرَجَعَ ضُحًى.
فَمَرَّ بَيْنَ ظَهْرَانَيِ الْحُجَرِ.
ثُمَّ قَامَ يُصَلِّي وَقَامَ النَّاسُ وَرَاءَهُ.
فَقَامَ قِيَامًا طَوِيلًا.
ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلًا.
ثُمَّ رَفَعَ فَقَامَ قِيَامًا طَوِيلًا وَهُوَ دُونَ الْقِيَامِ الْأَوَّلِ.
ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلًا وَهُوَ دُونَ الرُّكُوعِ الْأَوَّلِ.
ثُمَّ رَفَعَ فَسَجَدَ.
ثُمَّ قَامَ قِيَامًا طَوِيلًا وَهُوَ دُونَ الْقِيَامِ الْأَوَّلِ.
ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلًا وَهُوَ دُونَ الرُّكُوعِ الْأَوَّلِ.
ثُمَّ رَفَعَ فَقَامَ قِيَامًا طَوِيلًا وَهُوَ دُونَ الْقِيَامِ الْأَوَّلِ.
ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلًا وَهُوَ دُونَ الرُّكُوعِ الْأَوَّلِ.
ثُمَّ رَفَعَ ثُمَّ سَجَدَ.
ثُمَّ انْصَرَفَ، فَقَالَ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقُولَ.
ثُمَّ أَمَرَهُمْ أَنْ يَتَعَوَّذُوا مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ.


( مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت: خسفت) بفتح الخاء والسين لازم ( الشمس) ويجوز الضم وكسر السين على أنه متعد وحكى ابن الصلاح منعه ولم يبين دليله ( في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي زمنه ( فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس) فيه أنه كان يحافظ على الوضوء فلم يحتج له حينئذ وفيه نظر لأن في السياق حذفًا ففي رواية ابن شهاب عن عروة في الصحيح خسفت فخرج إلى المسجد فصف الناس وراءه.
وفي رواية عمرة فخسفت فرجع ضحى فمرّ بين الحجر ثم قام يصلي، وإذا ثبتت هذه الأفعال جاز أن يكون أيضًا حذف فتوضأ ثم قام فصلى فلا دلالة فيه على أنه على وضوء.

( فقام فأطال القيام) لطول القراءة وفي التالي نحوًا من سورة البقرة، وفي رواية الزهري فاقترأ قراءة طويلة ( ثم ركع فأطال الركوع) لم أر في شيء من الطرق بيان ما قال فيه إلا أن العلماء اتفقوا على أنه لا قراءة فيه وإنما فيه الذكر من تسبيح وتكبير ونحوهما ( ثم قام فأطال القيام) وفي رواية ابن شهاب ثم قال: سمع الله لمن حمده ففيه ندب الذكر المشروع في الاعتدال واستشكل بأنه قيام قراءة لا اعتدال لاتفاق من قال بزيادة ركوع في كل ركعة على قراءة الفاتحة فيه، وإن خالف محمد بن مسلمة والجواب أن صلاة الكسوف جاءت على صفة مخصوصة فلا دخل للقياس فيها بل كل ما فعله صلى الله عليه وسلم فيها فهو مشروع لأنها أصل برأسه قاله كله الحافظ.

( وهو دون القيام الأول) الذي ركع منه ( ثم ركع فأطال الركوع) بالتسبيح ونحوه ( وهو دون الركوع الأول ثم رفع) رأسه من الركوع الثاني ( فسجد) ولم يذكر في هذه الرواية ولا اللتين بعدها تطويل السجود فاحتج به من ذهب إلى أنه لا طول فيه قائلاً لأن الذي شرع فيه التطويل شرع تكراره كالقيام والركوع ولم تشرع الزيادة في السجود فلا يشرع تطويله، وحكمة ذلك أن القائم والراكع يمكنه رؤية الانجلاء بخلاف الساجد، فإن الآية علوية، فناسب طول القيام لا السجود ولأن في تطويله استرخاء الأعضاء فقد يفضي إلى النوم.

وكل هذا مردود بثبوت الأحاديث الصحيحة بتطويله ففي الصحيحين عن عائشة: ما سجدت سجودًا قط كان أطول منه ولا ركعت ركوعًا قط كان أطول منه، وفي رواية: ثم سجد فأطال السجود ونحوه في حديث أختها أسماء في الصحيحين، وفي النسائي عن ابن عمرو وأبي هريرة: وسجد فأطال السجود، وللشيخين عن أبي موسى بأطول قيام وركوع وسجود ولأبي داود والنسائي عن سمرة كأطول ما سجدنا في صلاة قط، ومن ثم قال مالك في المشهور: إنه يطيل السجود كالركوع نعم لا إطالة بين السجدتين إجماعًا.

( ثم فعل في الركعة الآخرة) بكسر الخاء أي الثانية ( مثل ذلك) وفسر ذلك في رواية عمرة الآتية، وذكر الفاكهاني أن في بعض الروايات تقدير القيام الأول بنحو البقرة، والثاني بنحو آل عمران، والثالث بنحو النساء، والرابع بنحو المائدة، ولا يشكل بأن المختار أن القيام الثالث أقصر من الثاني، والنساء أطول من آل عمران لأنه إذا أسرع بقراءتها ورتل آل عمران كانت أطول، لكن تعقب بأن الحديث الذي ذكره لا يعرف إنما هو قول الفقهاء وإن كان أوّله حديث ابن عباس الآتي.
نعم للدارقطني عن عائشة أنه قرأ في الأولى بالعنكبوت والروم وفي الثانية بيس.

( ثم انصرف) من الصلاة ( وقد تجلت) بفوقية وشدّ اللام ( الشمس) أي صفت وعاد نورها أي والحال أنها قد تجلت قبل انصرافه ففي رواية ابن شهاب وانجلت الشمس قبل أن ينصرف وللنسائي ثم تشهد وسلم ( فخطب الناس) وعظهم وذكرهم وأعلمهم بسبب الكسوف وأخبرهم بإبطال ما كانت الجاهلية تعتقده ( فحمد الله وأثنى عليه) زاد النسائي عن سمرة وشهد أنه عبد الله ورسوله واحتج بظاهره الشافعي وإسحاق وأكثر أصحاب الحديث على استحباب الخطبة كالجمعة، والمشهور عند المالكية والحنفية لا خطبة لها.
نعم يستحب الوعظ بعد الصلاة وهو المراد كما مرّ إذ ليس في الأحاديث ما يقتضي أنهما خطبتان كالجمعة وإن اشتملت على الحمد والثناء والوعظ وغير ذلك، وفيه أن الانجلاء لا يسقط الوعظ بخلاف ما لو انجلت قبل الصلاة فيسقطها والوعظ فلو تجلت في أثنائها ففي إتمامها على صفتها أو كالنوافل المعتادة قولان.

( ثم قال: إن الشمس والقمر آيتان) أي علامتان ( من آيات الله) الدالة على وحدانيته تعالى وعظيم قدرته أو على تخويف العباد من بأسه وسطوته.
ويؤيده قوله تعالى: { { وَمَا نُرْسِلُ بِالآَيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفًا } }

قال العلماء: الحكمة في هذا الكلام أن بعض الجاهلية الضلال كانوا يعظمون الشمس والقمر فبين أنهما آيتان مخلوقتان لله لا صنع لهما، بل هما كسائر المخلوقات يطرأ عليهما النقص والتغير كغيرهما.
زاد في رواية: يخوّف الله بهما عباده ( لا يخسفان) بفتح فسكون ويجوز ضم أوّله، وحكى ابن الصلاح منعه ( لموت أحد) وذلك أن ابنه صلى الله عليه وسلم إبراهيم مات فقال الناس ذلك كما في رواية للبخاري، وعند ابن حبان فقال الناس: إنها كسفت لموت إبراهيم، ولأحمد والنسائي وابن ماجه، وصححه ابنا خزيمة وحبان عن النعمان بن بشير.
فلما انكسفت الشمس لموت إبراهيم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج فزعًا يجرّ ثوبه حتى أتى المسجد فصلى حتى انجلت فلما انجلت قال: إن الناس يزعمون أنّ الشمس والقمر لا ينكسفان إلا لموت عظيم من العظماء وليس كذلك.

وفائدة

قوله: ( ولا لحياته) مع أن السياق إنما ورد في حق من ظن أن ذلك لموت إبراهيم ولم يذكروا الحياة دفع توهم من يقول لا يلزم من نفي كونه سببًا للفقد أن لا يكون سببًا للإيجاد فعمم لدفع هذا التوهم، وفيه: ما كان عليه صلى الله عليه وسلم من الشفقة على أمّته وشدّة الخوف من ربه وإبطال ما كانت الجاهلية تعتقده أن الكسوف يوجب حدوث تغير بالأرض من موت أو ضرر، فأعلم أنه اعتقاد باطل وأنهما خلقان مسخران لا سلطان لهما في غيرهما ولا قدرة على الدفع عن أنفسهما.

( فإذا رأيتم ذلك) الكسوف في أحدهما لاستحالة كسوفهما معًا في وقت واحد عادة وإن كان ذلك جائزًا في قدرة الله ( فادعوا الله وكبروا وتصدقوا) وقع الأمر بالصدقة في رواية هشام هذه دون غيرها.

قاله الحافظ: ( ثم قال يا أمة محمد) فيه معنى الإشفاق كما يخاطب الواحد ولده إذا أشفق عليه بقوله يا بني وكان قضية ذلك أن يقول يا أمّتي لكن لعدوله عن المضمر إلى المظهر حكمة، ولعلها أن المقام مقام تحذير وتخويف لما في الإضافة إلى المضمر من الإشعار بالتكريم ومثله يا فاطمة بنت محمد إلى أن قال: لا أغني عنكم من الله شيئًا ( والله) أتى باليمين لإرادة تأكيد الخبر وإن كان لا يرتاب فيه ( ما من أحد أغير) بالنصب خبر ومن زائدة ويجوز الرفع على لغة تميم أو هو بالخفض بالفتحة صفة لأحد والخبر محذوف أي موجود أغير ( من الله) أفعل تفضيل من الغيرة بفتح المعجمة وهي لغة تحصل من الحمية والأنفة وأصله في الزوجين والأهلين، وذلك محال على الله تعالى لأنه منزه عن كل تغير ونقص فتعين حمله على المجاز فقيل: لما كانت ثمرة الغيرة صون الحريم ومنعهم وزجر من يقصد إليهم أطلق عليه ذلك لأنه منع من فعل ذلك وزجر فاعله وتوعده فهو من تسمية الشيء بما يترتب عليه.
وقال ابن فورك: المعنى ما أحد أكثر زجرًا عن الفواحش من الله، وقال غيره: غيرة الله ما يغير حال العاصي بانتقامه منه في الدنيا والآخرة أو في أحدهما ومنه قوله تعالى { { إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ } }

وقال ابن دقيق العيد: أهل التنزيه في مثل هذا على قولين: إما ساكت وإما مؤوّل بأن المراد بالغيرة شدّة المنع والحماية فهو من مجاز الملازمة.
وقال الطيبي وغيره: وجه اتصال هذا بقوله: فاذكروا الله... إلخ.
من جهة أنهم لما أمروا باستدفاع البلاء بالذكر والصلاة والصدقة ناسب ردعهم عن المعاصي التي هي من أسباب جلب البلاء، وخص منه الزنا لأنه أعظمها في ذلك.
وقيل: لما كانت هذه المعصية من أقبح المعاصي وأشدّها تأثيرًا في إثارة النفوس وغلبة الغضب ناسب ذلك تخويفهم في هذا المقام من مؤاخذة رب العزة.

( أن يزني عبده أو تزني أمته) متعلق بأغير وحذف من قبل أن قياس مستمر وتخصيصهما بالذكر رعاية لحسن الأدب مع الله لتنزهه عن الزوجة والأهل ممن يتعلق بهم الغيرة غالبًا ثم كرر النداء فقال: ( يا أمة محمد) ويؤخذ منه أن الواعظ ينبغي له حال وعظه أن لا يأتي بكلام فيه تفخيم نفسه بل يبالغ في التواضع لأنه أقرب إلى انتفاع السامع ( والله لو تعلمون ما أعلم) من عظيم قدرة الله وانتقامه من أهل الجرائم وشدّة عقابه وأهوال القيامة وما بعدها، وقيل معناه لو دام علمكم كما دام علمي لأن علمه متواصل بخلاف علم غيره ( لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيرًا) لتفكركم فيما عملتموه، وقيل معناه لو علمتم من سعة رحمة الله وحلمه وغير ذلك مما أعلم لبكيتم على ما فاتكم من ذلك.
قيل: معنى القلة هنا العدم أي لتركتم الضحك أو لم يقع منكم إلا نادرًا لغلبة الخوف واستيلاء الحزن، وقول المهلب المخاطب بذلك الأنصار لما كانوا عليه من محبة اللهو والغناء لا دليل عليه ومن أين له أنهم المخاطبون دون غيرهم.

والقصة كانت في آخر زمنه صلى الله عليه وسلم حيث امتلأت المدينة بأهل مكة ووفود العرب، وقد بالغ الزين بن المنير في الرد عليه والتشنيع.

وفي الحديث ترجيح التخويف في الوعظ على التوسع بالترخيص لما في الترخيص من ملائمة النفوس لما جبلت عليه من الشهوة والطبيب الحاذق يقابل العلة بضدّها لا بما يزيدها، وأن لصلاة الكسوف هيئة تخصها من زيادة التطويل على العادة في القيام وغيره وزيادة ركوع في كل ركعة.

ووافق عائشة على ذلك رواية ابن عباس وابن عمر وفي الصحيحين، وأسماء بنت أبي بكر وجابر في مسلم، وعلي عند أحمد، وأبو هريرة في النسائي، وابن عمر في البزار، وأمّ سفيان في الطبراني، وفي رواياتهم زيادة رواها الحفاظ الثقات فالأخذ بها أحق من إلغائها، وبذلك قال جمهور العلماء منهم الأئمة الثلاثة، وقال النخعي والثوري وأبو حنيفة: إنها ركعتان نحو الصبح ثم الدعاء حتى تنجلي.
وأجاب بعض الحنفية عن زيادة الركوع بحمله على رفع الرأس لرؤية الشمس هل انجلت أم لا، فإذا لم يرها انجلت رجع إلى ركوع ففعل ذلك مرة أو مرارًا فظنه بعض من رواه يفعل ذلك ركوعًا زائدًا وتعقب بالأحاديث الصحيحة الصريحة في أنه أطال القيام بين الركوعين ولو كان الرفع لرؤية الشمس فقط لم يحتج إلى تطويل ولا سيما الأخبار الصريحة بأنه قال ذكر الاعتدال، ثم شرع في القراءة فكل ذلك يرد هذا الحمل ولو كان كما زعم هذا القائل لكان فيه إخراج فعله صلى الله عليه وسلم عن العبادة المشروعة أو لزم منه إثبات هيئة في الصلاة لأعهد بها وهو ما فر منه.

والحديث رواه البخاري عن عبد الله بن مسلمة القعنبي ومسلم عن قتيبة بن سعيد كلاهما عن مالك به.

( مالك عن زيد بن أسلم) العدوي مولاهم المدني ( عن عطاء بن يسار) بتحتية ومهملة خفيفة ( عن عبد الله بن عباس أنه قال: خسفت) بفتحات ( الشمس) زاد القعنبي على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ( فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم و) صلى ( الناس معه) ففيه مشروعية الجماعة فيها ( فقام قيامًا طويلاً نحوًا من سورة البقرة) فيه أن القراءة كانت سرًا وكذا قول عائشة في بعض طرق حديثها فحزرت قراءته فرأيت أنه قرأ بسورة البقرة، وقول بعضهم كان ابن عباس صغيرًا فمقامه آخر الصفوف فلم يسمع القراءة فحزر المدّة، مردود بقول ابن عباس قمت إلى جانب النبي صلى الله عليه وسلم فما سمعت منه حرفًا قاله أبو عمر.

( قال: ثم ركع ركوعًا طويلاً) نحو البقرة ( ثم رفع رأسه) من الركوع ( فقام قيامًا طويلاً وهو دون القيام الأوّل) بنحو آل عمران ففيه أن الركعة الثانية أقصر من الأولى ( ثم ركع ركوعًا طويلاً وهو دون الركوع الأوّل ثم سجد) سجدتين فأطال فيهما نحو الركوع على ما دلت عليه الأحاديث كما مّر ( ثم قام قيامًا طويلاً) بنحو النساء ( وهو دون القيام الأول ثم ركع ركوعًا طويلاً وهو دون الركوع الأول) يحتمل أن يريد دون الأول في القيام الأول والركوع الأول، ويحتمل أن يريد الركوع الذي يليه وأي ذلك كان فلا حرج إن شاء الله تعالى قاله ابن عبد البر.

وقال الباجي: إنما يريد القيام الذي يليه لأنه أبين ولأنه انصرف إلى القيام الأول لم يعلم إن كان تقدير الثاني أكثر منه فإضافته إلى ما يليه أولى.

وفي فتح الباري قال ابن بطال: لا خلاف أن الركعة الأولى بقيامها وركوعها أطول من الثانية بقيامها وركوعها، وقال النووي: اتفقوا على أن القيام الثاني وركوعه فيهما أقصر من القيام الأوّل وركوعه فيهما.

واختلفوا في القيام الأوّل من الثانية وركوعه هل هما أقصر من القيام الثاني من الأوّل وركوعه أو هما سواء؟ قيل: وسبب هذا الخلاف فهم معنى قوله وهو دون القيام الأوّل هل المراد به الأوّل من الثانية أو يرجع إلى الجميع فيكون كل قيام دون ما قبله، ورواية الإسماعيلي تعين الثاني ولفظه الأولى فالأولى أطول ويرجحه أيضًا أنه لو كان المراد بقوله القيام الأوّل أوّل قيام من الأولى لكان القيام الثاني والثالث مسكوتًا عن مقدارهما فالأوّل أكثر فائدة انتهى.

( ثم رفع) من الركوع ( فقام قيامًا طويلاً) نحو المائدة ( وهو دون القيام الأوّل ثم ركع ركوعًا طويلاً وهو دون الركوع الأول ثم سجد) سجدتين ( ثم انصرف) من الصلاة ( و) الحال أنها ( قد تجلت الشمس) قبل انصرافه من الصلاة وذلك بين جلوسه في التشهد والسلام كما في حديث ابن عمر وفي الصحيح ثم جلس ثم جلي عن الشمس ( فقال: إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا يخسفان) بفتح الياء وسكون الخاء وكسر السين ويجوز ضم أوّله وفتح السين ( لموت أحد ولا لحياته) بل هما مخلوقان لا تأثير لهما في أنفسهما فضلاً عن غيرهما ففيه بيان ما يخشى اعتقاده على غير الصواب وردّ على من يزعم أن للكواكب تأثيرًا في الأرض لانتفاء ذلك عن الشمس والقمر فكيف بما دونهما؟.

( فإذا رأيتم ذلك فاذكروا الله، قالوا: يا رسول الله رأيناك تناولت شيئًا في مقامك هذا) وفي حديث جابر عند أحمد بإسناد حسن فلما قضى الصلاة قال له أبي بن كعب شيئًا صنعته في الصلاة لم تكن تصنعه فذكر نحو حديث ابن عباس إلا أن في حديث جابر أنه كان في الظهر أو العصر فإن كان محفوظًا فهي قصة أخرى ( ثم رأيناك تكعكعت) بتاء أوّله وكافين مفتوحتين بعد كل عين ساكنة أي تأخرت وتقهقرت، وقال أبو عبيدة كعكعته فتكعكع وهو يدل على أن كعكع متعدّ وتكعكع لازم وكعكع يقتضي مفعولاً أي رأيناك كعكعت نفسك، ولمسلم رأيناك كففت نفسك بفاءين خفيفتين من الكف وهو المنع.

( فقال) صلى الله عليه وسلم ( إني رأيت الجنة) رؤية عين بأن كشف له دونها فرآها على حقيقتها وطويت المسافة بينهما حتى أمكنه أن يتناول منها، وهذا أشبه بظاهر الحديث.

ويؤيده حديث أسماء في الصحيح بلفظ دنت مني الجنة حتى لو اجترأت عليها لجئتكم بقطاف من قطافها، ومنهم من حمله على أنها مثلت له في الحائط كما تنطبع الصورة في المرآة فرأى جميع ما فيها.
ويؤيده حديث أنس في الصحيح: لقد عرضت عليّ الجنة آنفًا في عرض هذا الحائط وأنا أصلي، وفي رواية لقد مثلت، ولمسلم لقد صورت ولا يرد على هذا أن الانطباع إنما هو في الأجسام الصقيلة لأنه شرط عادي فيجوز أن تنخرق العادة خصوصًا للنبي صلى الله عليه وسلم لكن هذه قصة أخرى وقعت في صلاة الظهر ولا مانع أن يرى الجنة والنار مرّتين بل مرارًا على صور مختلفة وأبعد من قال الرؤية العلم.

قال القرطبي: لا إحالة في بقاء هذه الأمور على ظواهرها لا سيما على مذهب أهل السنة في أن الجنة والنار قد خلقتا، ووجدتا فيرجع إلى أن الله خلق لنبيه إدراكًا خاصًا أدرك به الجنة والنار على حقيقتهما.

( فتناولت منها عنقودًا) أي وضعت يدي عليه بحيث كنت قادرًا على تحويله لكن لم يقدّر لي قطفه ( ولو أخذته) أي لو تمكنت من قطفه، وللقعنبي ولو أصبته.
ويؤيد هذا التأويل قوله في حديث عقبة بن عامر عند ابن خزيمة أهوى بيديه ليتناول شيئًا.
وفي حديث أسماء حتى لو اجترأت عليها وكأنه لم يؤذن له في الاجتراء فلم يجترئ، وبهذا لا يشكل قوله: ولو أخذته مع قوله تناولت.
وأجيب أيضًا: بأن المراد تناولت لنفسي ولو أخذته لكم وليس بجيد وبأن الإرادة مقدّرة أي: أردت أن أتناول ثم لم أفعل.
ويؤيده حديث جابر عند مسلم: ولقد مددت يدي وأنا أريد أن أتناول من ثمرها لتنظروا إليه ثم بدا لي أن لا أفعل، ومثله للبخاري من حديث عائشة بلفظ: حتى لقد رأيتني أريد آخذ قطفًا من الجنة حين رأيتموني جعلت أتقدّم، ولعبد الرزاق من طريق مرسلة أردت أن آخذ قطفًا أريكموه فلم يقدر، ولأحمد من حديث جابر فحيل بيني وبينه.

( لأكلتم منه) أي من العنقود ( ما بقيت الدنيا) لأن ثمار الجنة لا مقطوعة ولا ممنوعة، وإذا قطفت خلقت في الحال فلا مانع أن يخلق الله مثل ذلك في الدنيا إذا شاء والفرق بين الدارين في وجوب الدوام وجوازه هذا هو الحق.
وحكى ابن العربي عن بعض شيوخه أن معناه أن يخلق في نفس الآكل مثل الذي أكل دائمًا بحيث لا يغيب عن ذوقه، وتعقب بأنه رأي فلسفي مبني على أن الدار الآخرة لا حقائق لها وإنما هي أمثال، وبين سعيد بن منصور من وجه آخر عن زيد بن أسلم أن هذا التناول المذكور كان حال قيامه الثاني من الركعة الثانية.

قال ابن بطال: لم يأخذ العنقود لأنه من طعام الجنة وهو لا يفنى والدنيا فانية لا يجوز أن يؤكل فيها ما لا يفنى، وقيل لأنه لو رآه الناس لكان إيمانهم بالشهادة لا بالغيب فيخشى أن ترفع التوبة فلا ينفع نفسًا إيمانها، وقيل: لأن الجنة جزاء الأعمال والجزاء بها لا يقع إلا في الآخرة.

( ورأيت النار) قبل رؤية الجنة، فلعبد الرزاق عرضت على النبي صلى الله عليه وسلم النار فتأخر عن مصلاه حتى إن الناس ليركب بعضهم بعضًا، وإذا رجع عرضت عليه الجنة فذهب يمشي حتى وقف في مصلاه، ولمسلم من حديث جابر: لقد جيء بالنار حين رأيتموني تأخرت مخافة أن يصيبني من لفحها وفيه، ثم جيء بالجنة وذلك حين رأيتموني تقدّمت حتى قمت في مقامي، وزاد فيه ما من شيء توعدونه إلا قد رأيته في صلاتي هذه، ولابن خزيمة عن سمرة: لقد رأيت منذ قمت أصلي ما أنتم لاقون في دنياكم وآخرتكم.

( فلم أر كاليوم) أي الوقت الذي هو فيه ( منظرًا) نصب بأرى ( قط) زاد في رواية القعنبي أفظع أقبح وأشنع وأسوأ صفة للمنصوب أي لم أر منظرًا مثل منظر رأيته اليوم فحذف المرئي، وأدخل التشبيه على اليوم لبشاعة ما رأى فيه وبعده عن المنظر المألوف، وقيل الكاف اسم والتقدير ما رأيت مثل منظر هذا اليوم منظرًا.

( ورأيت أكثر أهلها النساء) استشكل مع حديث أبي هريرة إن أدنى أهل الجنة منزلة من له زوجتان من الدنيا فمقتضاه أن النساء ثلثا أهل الجنة؟ وأجيب: بحمله على ما بعد خروجهنّ من النار أو أنه خرج مخرج التغليظ والتخويف، وعورض بإخباره صلى الله عليه وسلم بالرؤية الحاصلة.
وفي حديث جابر: وأكثر من رأيت فيها النساء اللاتي إن اؤتمنّ أفشين وإن سئلن بخلن وإن سألن ألحفن وإن أعطين لم يشكرن، فدل على أن المرئي في النار منهنّ من اتصف بصفات ذميمة.

( قالوا: لم يا رسول الله؟ قال: لكفرهن) بلام هنا وفي لم وللقعنبي بم بالباء فيهما وأصله بما بألف حذفت تخفيفًا ( قيل: أيكفرن بالله) تعالى بهمزة الاستفهام ( قال: ويكفرن العشير) أي الزوج أي إحسانه كذا ليحيى وحده بالواو لم يزدها غيره، والمحفوظ عن مالك من رواية سائر الرواة بلا واو قاله ابن عبد البر وكذا في مسلم من رواية حفص بن ميسرة عن زيد بن أسلم بغير واو.

قال الحافظ: اتفقوا على أن الواو غلط من يحيى، فإن كان المراد من تغليطه أنه خالف غيره من الرواة فهو كذلك، وأطلق على الشذوذ غلطًا وإن كان المراد فساد المعنى فليس كذلك لأن الجواب طابق السؤال، وزاد وذلك أنه أطلق لفظ النساء فعم المؤمنة منهنّ والكافرة فلما قيل أيكفرن بالله.
فأجاب بقوله: ويكفرن... إلخ.
كأنه قال: نعم يقع منهنّ الكفر بالله وغيره لأنّ منهنّ من يكفرن بالله ومنهنّ من يكفرن الإحسان.

وقال ابن عبد البر: وجه رواية يحيى أن يكون الجواب لم يقع على وفق سؤال السائل لإحاطة العلم بأن من النساء من يكفرن بالله فلم يحتج إلى جوابه لأنّ المقصود في الحديث خلافه.
قال الكرماني: لم يعدّ كفر العشير بالباء كما عدى الكفر بالله لأنّ كفر العشير لا يتضمن معنى الاعتراف.

( ويكفرن الإحسان) كأنه بيان لقوله يكفرن العشير لأنّ المراد كفر إحسانه لا كفر ذاته فالجملة مع الواو مبينة للأولى نحو: أعجبني زيد وكرمه، والمراد بكفر الإحسان تغطيته أو جحده ويدل عليه قوله: ( لو أحسنت إلى إحداهن الدهر) نصب على الظرفية ( كله) أي مدّة عمر الرجل أو الزمان مبالغة ( ثم رأت منك شيئًا) قليلاً لا يوافق غرضها من أي نوع كان فالتنوين للتقليل ( قالت: ما رأيت منك خيرًا قط) بيان للتغطية المذكورة ولو شرطية لا امتناعية.
قال الكرماني: ويحتمل أنها امتناعية بأن يكون الحكم ثابتًا على التعيين والمظروف المسكوت عنه أولى من المذكور، وليس المراد خطاب رجل بعينه بل كل من يتأتى أن يخاطب فهو خاص لفظًا عامّ معنى.

وفي الحديث المبادرة إلى الطاعة عند رؤية ما يحذر منه واستدفاع البلاء بذكر الله تعالى وأنواع طاعته، ومعجزة ظاهرة للنبي صلى الله عليه وسلم، وما كان عليه من نصح أمّته وتعليمهم ما ينفعهم وتحذيرهم مما يضرهم، ومراجعة المتعلم للعالم فيما لا يدركه فهمه وجواز الاستفهام عن علة الحكم، وبيان العالم ما يحتاج إليه تلميذه والتحذير من كفران الحقوق ووجوب شكر المنعم، وجواز إطلاق الكفر على ما لا يخرج من الملة، وجواز تعذيب أهل التوحيد من أهل المعاصي والعمل القليل في الصلاة، وأنّ الجنة والنار مخلوقتان موجودتان اليوم وأن في صلاة الكسوف زيادة ركوعين في الركعتين، وكذا جاء في حديث عائشة وغيرها كما مرّ وجاءت زيادة على ذلك من طرق أخرى، فلمسلم من وجه آخر عن عائشة وآخر عن جابر أنّ في كل ركعة ثلاث ركوعات، وله من وجه آخر عن ابن عباس في كل ركعة أربع ركوعات، ولأبي داود عن أبي بن كعب والبزار عن علي في كل ركعة خمس ركوعات، ولا يخلو إسناد منها عن علة كما بينه البيهقي وابن عبد البر.

ونقل صاحب الهدي عن الشافعي وأحمد والبخاري: أنهم عدّوا الزيادة على ركوعين في كل ركعة غلطًا من بعض الرواة، فإن أكثر طرق الحديث يمكن ردّ بعضها إلى بعض ويجمعها أن ذلك كان يوم موت إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا اتحدت القصة تعين الأخذ بالراجح، وجمع بعضهم بين هذه الأحاديث بتعدّد الواقعة وأن الكسوف وقع مرارًا فتجوز هذه الأوجه كلها وإلى ذلك نحا إسحاق لكن لم تثبت عنده الزيادة على أربع ركوعات.

وقال أبو عمر: قد يكون ذلك اختلاف إباحة وتوسعة فإنه صلى الله عليه وسلم صلى الكسوف مرارًا فحكى كل واحد ما رأى وكلهم صادق جعلهم المصطفى كالنجوم من اقتدى بأيهم اهتدى انتهى.

وروى حديث الباب البخاري عن القعنبي، ومسلم من طريق إسحاق بن عيسى كلاهما عن مالك به.

( مالك عن يحيى بن سعيد) به قيس الأنصاري ( عن عمرة) بفتح العين وسكون الميم ( بنت عبد الرحمن) بن سعد بن زرارة الأنصارية المدنية ماتت قبل المائة وقيل بعدها وأكثرت ( عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أن يهودية) وفي رواية مسروق عن عائشة عند البخاري دخل عجوزان من يهود المدينة فقالتا: إن أهل القبور يعذبون في قبورهم فكذبتهما قال الحافظ وهو محمول على أن إحداهما تكلمت وأقرتها الأخرى فنسب القول إليهما مجازًا والإفراد على المتكلمة ولم أقف على اسم واحدة منهما ( جاءت تسألها) شيئًا تعطيه لها ( فقالت: أعاذك الله من عذاب القبر) دعاء من اليهودية لعائشة على عادة السؤال ( فسألت عائشة رسول الله صلى الله عليه وسلم) مستفهمة لكونها لم تعلمه قبل ( أيعذب الناس في قبورهم) بضم الياء بعد همزة الاستفهام.

( فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم عائذًا بالله) قال ابن السيد منصوب على المصدر الذي يجيء على مثال فاعل كقولهم عوفي عافية أو على الحال المؤكدة النائبة مناب المصدر والعامل فيه محذوف كأنه قال: أعوذ بالله عائذًا ولم يذكر الفعل لأن الحال نائبة عنه وروي بالرفع أي أنا عائذ بالله ( من ذلك) أي من عذاب القبر.

وللبخاري عن مسروق فسألت عائشة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عذاب القبر فقال: نعم إن عذاب القبر حق قالت: فما رأيته بعد صلى صلاة إلا تعوّذ من عذاب القبر.

وفي مسلم عن عروة عن عائشة: دخلت عليّ يهودية وهي تقول: هل شعرت أنكم تفتنون في القبور؟ فارتاع صلى الله عليه وسلم وقال: إنما يفتن يهود فلبثنا ليالي ثم قال صلى الله عليه وسلم: أوحي إليّ أنكم تفتنون في القبور فسمعته يستعيذ من عذاب القبر وبين هاتين الروايتين تخالف لأنه صلى الله عليه وسلم في هذه أنكر على اليهودية وفي الأولى أقرّها.
وجمع الطحاوي وغيره بأنهما قصتان أنكر قول اليهودية أولاً ثم أعلم به ولم تعلم عائشة فجاءت اليهودية مرّة أخرى فذكرت لها ذلك فأنكرت عليها مستندة إلى الإنكار الأوّل، فأعلمها صلى الله عليه وسلم بأن الوحي نزل بإثباته وقول الكرماني يحتمل أنه صلى الله عليه وسلم كان يتعوذ سرًا فلما رأى استغراب عائشة حين سمعته من اليهودية أعلن به كأنه لم يقف على رواية مسلم المذكورة عن عروة الموافقة لرواية عمرة هذه في أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن علم بذلك.

وأصرح منه ما رواه أحمد بإسناد على شرط البخاري عن سعيد بن عمرو بن سعيد الأموي عن عائشة: أن يهودية كانت تحدّثها فلا تصنع عائشة إليها شيئًا من المعروف إلا قالت اليهودية: وقاك الله عذاب القبر قالت: فقلت: يا رسول الله هل للقبر عذاب؟ قال: كذبت يهود لا عذاب إلا يوم القيامة ثم مكث ما شاء الله فخرج ذات يوم نصف النهار وهو ينادي بأعلى صوته: أيها الناس استعيذوا بالله من عذاب القبر فإن عذاب القبر حق ففي هذا كله أنه إنما علم بعذابه بالمدينة في آخر الأمر في صلاة الكسوف.

واستشكل بقوله تعالى: { { يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا } } وبقوله: { { النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا } } فإنهما مكيتان.
وأجيب: بأن عذاب القبر إنما يؤخذ من الآية الأولى بالمفهوم في حق من لم يتصف بالإيمان وبالمنطوق في الثانية في حق آل فرعون، ومن التحق بهم من الكفار له حكمهم فالذي أنكره صلى الله عليه وسلم إنما هو وقوع العذاب على الموحدين، ثم أعلم بأن ذلك قد يقع على من شاء الله منه فجزم به وحذر منه وبالغ في الاستعاذة منه تعليمًا لأمّته وإرشادًا فانتفى التعارض بحمد الله، وفيه أن عذاب القبر ليس خاصًا بهذه الأمّة بخلاف السؤال ففيه خلاف.

( ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات غداة) من إضافة المسمى إلى اسمه أو ذات زائدة ( مركبًا) بفتح الكاف بسبب موت ابنه إبراهيم ( فخسفت) بفتحات ( الشمس فرجع) من الجنازة ( ضحى) بضم المعجمة مقصور منوّن ارتفاع أوّل النهار ( فمر بين ظهري) بالتثنية وفي رواية ظهراني بفتح المعجمة والنون على التثنية أيضًا ( الحجر) بضم المهملة وفتح الجيم جمع حجرة.
قيل المراد بين ظهر والنون والياء زائدة وقيل الكلمة كلها زائدة، والمراد بين الحجر أي بيوت أزواجه وكانت لاصقة بالمسجد، وفي مسلم من طريق سليمان بن بلال عن يحيى عن عمرة عن عائشة فخرجت في نسوة بين ظهري الحجر في المسجد، فأتى صلى الله عليه وسلم من مركبه حتى انتهى إلى مصلاه الذي كان يصلي فيه.

( ثم قام فصلى) صلاة الكسوف ( وقام الناس وراءه) يصلون ( فقام قيامًا طويلاً) نحو البقرة ( ثم ركع ركوعًا طويلاً) يقرب من القيام ( ثم رفع فقام قيامًا طويلاً وهو دون القيام الأوّل) بنحو آل عمران ( ثم ركع ركوعًا طويلاً وهو دون الركوع الأول) يقرب من القيام الذي قبله ( ثم رفع فسجد) سجدتين بفاء التعقيب ففيه أنه لم يطل في الاعتدال بعد الركوع الثاني ( ثم قام) من سجوده ( قيامًا طويلاً) بنحو سورة النساء ( وهو دون القيام الأوّل) الذي قبله وهو الثاني على مختار الباجي وغيره ( ثم ركع ركوعًا طويلاً) يقرب من قيامه ( وهو دون الركوع الأوّل) الذي يليه ( ثم رفع فقام قيامًا طويلاً) بنحو المائدة ( وهو دون القيام الأوّل ثم ركع ركوعًا طويلاً وهو دون الركوع الأوّل ثم رفع) رأسه من الركوع ( ثم سجد) سجدتين طويلتين ( ثم انصرف) من صلاته بعد التشهد بالسلام ( فقال ما شاء الله أن يقول) مما تقدّم بيانه في الرواية الأولى عن عائشة والثانية عن ابن عباس ( ثم أمرهم أن يتعوّذوا من عذاب القبر) .

قال الزين بن المنير: مناسبة ذلك أن ظلمة النهار بالكسوف تشابه ظلمة القبر وإن كان نهارًا والشيء بالشيء يذكر فيخاف من هذا كما يخاف من هذا فجعل الاتعاظ بهذا في التمسك بما ينجي من غائلة الأخرى، وفيه أن عذاب القبر حق، وفي صحيح ابن حبان عن أبي هريرة مرفوعًا في قوله: { { فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا } } قال: عذاب القبر، وفي الترمذي عن عليّ: ما زلنا في شك في عذاب القبر حتى نزلت { { أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ } } وقال قتادة والربيع بن أنس في قوله: { { سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ } } أن إحداهما في الدنيا والأخرى عذاب القبر.

والحديث أخرجه البخاري عن القعنبي والأوسي كلاهما عن مالك به وتابعه سليمان بن بلال وسفيان وعبد الوهاب الثقفي الثلاثة عن يحيى بن سعيد عند مسلم، والله أعلم.