فهرس الكتاب

شرح الزرقاني - بَابُ مَا جَاءَ فِي الْقِبْلَةِ

رقم الحديث 467 حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: بَيْنَمَا النَّاسُ بِقُبَاءٍ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ إِذْ جَاءَهُمْ آتٍ، فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ اللَّيْلَةَ قُرْآنٌ، وَقَدْ أُمِرَ أَنْ يَسْتَقْبِلَ الْكَعْبَةَ فَاسْتَقْبَلُوهَا، وَكَانَتْ وُجُوهُهُمْ إِلَى الشَّامِ فَاسْتَدَارُوا إِلَى الْكَعْبَةِ.


مَا جَاءَ فِي الْقِبْلَةِ

( مالك عن عبد الله بن دينار) العدوي مولاهم المدني أبي عبد الرحمن مولى ابن عمر مات سنة سبع وعشرين ومائة ولعبد العزيز بن يحيى عن مالك عن نافع قال ابن عبد البر والصحيح عن ابن دينار ( عن عبد الله بن عمر أنه قال: بينما الناس) المعهودون في الذهن وهم أهل قباء ومن حضر معهم ( بقباء) بضم القاف والمدّ والتذكير والصرف على الأشهر ويجوز قصره وتأنيثه ومنع الصرف موضع معروف ظاهر المدينة وفيه مجاز الحذف أي بمسجد قباء ( في صلاة الصبح) ولمسلم في صلاة الغداة وهو أحد أسمائها وكره بعضهم تسميتها بذلك.

قال الحافظ: وهذا لا يخالف حديث البراء في الصحيحين أنهم كانوا في صلاة العصر لأن الخبر وصل وقت العصر إلى من هو داخل المدينة وهم بنو حارثة، وذلك في حديث البراء، والآتي إليهم بذلك عباد بن بشر كما رواه ابن منده وغيره، وقيل عباد بن نهيك بفتح النون وكسر الهاء ورجح أبو عمر الأوّل وقيل عباد بن نصر الأنصاري، والمحفوظ عباد بن بشر ووصل الخبر وقت الصبح إلى من هو خارج المدينة وهم بنو عمرو بن عوف أهل قباء وذلك في حديث ابن عمر.

( إذ جاءهم آت) لم يسم وإن نقل ابن طاهر وغيره أنه عباد بن بشر ففيه نظر لأنّ ذلك إنما ورد في حق بني حارثة في صلاة العصر فإن كان ما نقلوه محفوظًا فيحتمل أن عبادًا أتى بني حارثة أوّلاً في صلاة العصر ثم توجه إلى أهل قباء فأعلمهم بذلك في الصبح، ومما يدل على تعددهما أن في مسلم عن أنس أن رجلاً من بني سلمة مرّ وهم ركوع في صلاة الفجر، فهذا موافق لرواية ابن عمر في تعيين الصلاة وبنو سلمة غير بني حارثة.

( فقال: إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أنزل عليه الليلة قرآن) بالتنكير لإرادة البعضية فالمراد قوله تعالى: { { قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ } } الآيات.
وفيه إطلاق الليلة على بعض اليوم الماضي وما يليه مجازًا انتهى.
وقال الباجي أضاف النزول إلى الليل على ما بلغه ولعله لم يعلم بنزوله قبل ذلك أو لعله صلى الله عليه وسلم أمر باستقبال الكعبة بالوحي ثم أنزل عليه القرآن من الليلة انتهى.

( وقد أمر) بضم الهمزة مبني للمجهول ( أن) أي بأن ( يستقبل) بكسر الباء ( الكعبة) وفيه: أن ما يؤمر به صلى الله عليه وسلم يلزم أمته وأن أفعاله يؤتسى بها كأقواله حتى يقوم دليل الخصوص ( فاستقبلوها) بفتح الموحدة رواية الأكثر أي فتحول أهل قباء إلى جهة الكعبة ( وكانت وجوههم) أي أهل قباء ( إلى الشام) أي بيت المقدس ( فاستداروا إلى الكعبة) فالضمائر لأهل قباء وهو تفسير من الراوي للتحوّل المذكور، ويحتمل أن فاعل استقبلوها النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه وضمير وجوههم له أو لأهل قباء على الاحتمالين، وفي رواية فاستقبلوها بكسر الموحدة أمر ويأتي في ضمير وجوههم الاحتمالان المذكوران وعوده إلى أهل قباء أظهر ويرجح رواية الكسر رواية البخاري في التفسير من طريق سليمان بن بلال عن عبد الله بن دينار بلفظ: وقد أمر أن يستقبل الكعبة ألا فاستقبلوها فدخول حرف الاستفتاح يشعر بأن ما بعده أمر لا بقية الخبر الذي قبله ووقع بيان كيفية التحويل في حديث تويلة بنت أسلم عند ابن أبي حاتم قالت فيه: فتحول النساء مكان الرجال والرجال مكان النساء فصلينا السجدتين الباقيتين إلى البيت الحرام أي الركعتين من تسمية الكل باسم البعض، وتصويره أن الإمام تحول من مكانه إلى مؤخر المسجد لأن من استقبل القبلة استدبر بيت المقدس وهو لو دار كما هو في مكانه لم يكن خلفه مكان يسع الصفوف، ولما تحول الإمام تحوّلت الرجال وهذا يستدعي عملاً كثيرًا في الصلاة فيحتمل أنه وقع قبل تحريم العمل الكثير كما كان الكلام قبل غير حرام ويحتمل أنه اغتفر للمصلحة أو لم تتوال الخطا عند التحويل بل وقعت مفترقة.

وفي الحديث أن حكم الناسخ لا يثبت في حق المكلف حتى يبلغه لأن أهل قباء لم يؤمروا بالإعادة مع أن الأمر باستقبال الكعبة وقع قبل صلاتهم بتلك الصلوات.
واستنبط منه الطحاوي أن من لم تبلغه الدعوة ولم يمكنه استعلام ذلك، فالفرض لا يلزمه وفيه جواز الاجتهاد في زمنه صلى الله عليه وسلم لأنهم لما تمادوا على الصلاة ولم يقطعوها دل على أنه رجح عندهم التمادي والتحوّل على القطع والاستئناف ولا يكون ذلك إلا عن اجتهاد كذا قيل، وفيه نظر لاحتمال أن يكون عندهم في ذلك نص سابق لأنه صلى الله عليه وسلم كان مترقبًا التحوّل المذكور فلا مانع أن يعلمهم ما صنعوا من التمادي والتحوّل وفيه قبول خبر الواحد ووجوب العمل به ونسخ ما تقرّر بطريق العلم به لأن صلاتهم إلى بيت المقدس كانت قطعية لمشاهدتهم صلاة النبي صلى الله عليه وسلم إلى جهته فتحوّلوا بخبر الواحد.

وأجيب: بأن الخبر المذكور احتفت به قرائن ومقدّمات أفادت القطع عندهم بصدق المخبر فلم ينسخ عندهم ما يفيد العلم إلا بما يفيد العلم، وقيل: كان النسخ بخبر الواحد جائزًا في زمنه صلى الله عليه وسلم مطلقًا، وإنما منع بعده ويحتاج إلى دليل وفيه جواز إعلام من ليس في الصلاة من هو فيها وأن الكلام لسماع المصلي لا يفسد صلاته.

وأخرجه البخاري هنا عن عبد الله بن يوسف وفي التفسير عن قتيبة بن سعيد ويحيى بن قزعة ومسلم عن قتيبة الثلاثة عن مالك به.

( مالك عن يحيى بن سعيد) الأنصاري ( عن سعيد بن المسيب أنه قال:) أرسله في الموطأ وأسنده محمد بن خالد بن عتمة عن مالك عن ابن شهاب عن سعيد عن أبي هريرة لكن انفرد به عن محمد بن عبد الرحمن بن خالد بن نجيح وعبد الرحمن ضعيف لا يحتج به وقد جاء معناه مسندًا من حديث البراء وغيره قاله في التمهيد.
( صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن قدم المدينة ستة عشر شهرًا) وكذا رواه مسلم والنسائي وأبو عوانة من طرق أربعة عن أبي إسحاق السبيعي عن البراء بن عازب، ورواه أحمد بسند صحيح عن ابن عباس، ورجحه النووي، وفي البخاري ومسلم والترمذي من وجهين عن أبي إسحاق عن البراء ستة عشر شهرًا أو سبعة عشر شهرًا بالشك، وللبزار والطبراني عن عمرو بن عوف والطبراني عن ابن عباس سبعة عشر شهرًا.
قال القرطبي: وهو الصحيح.

قال الحافظ: والجمع بينها سهل بأن من جزم بستة عشر لفق من شهر القدوم وشهر التحويل شهرًا وألغى الأيام الزائدة ومن جزم بسبعة عشر عدّهما معًا ومن شك تردّد في ذلك وذلك أن القدوم كان في شهر ربيع الأول بلا خلاف، وكان التحويل في نصف رجب من السنة الثانية على الصحيح وبه جزم الجمهور، ورواه الحاكم بسند صحيح عن ابن عباس.
وقال ابن حبان: سبعة عشر شهرًا وثلاثة أيام وهو مبني على أن القدوم ثاني ربيع الأوّل، ولابن ماجه ثمانية عشر شهرًا وهو شاذ كرواية ثلاثة عشر شهرًا ورواية تسعة أشهر وعشرة أشهر وشهرين وسنتين، ويمكن حمل الأخيرة على الصواب وأسانيد الجميع ضعيفة والاعتماد على الثلاثة الأول فجملتها تسع روايات انتهى.

وكأنه لم يعدّ رواية الشك وإلا كانت عشرة أو لم يعد قول ابن حبان لإمكان أنه مراد القائل سبعة عشر بإلغاء الثلاثة أيام وكذا لم يعدها صاحب النور وعدّ الأقوال عشرة فزاد القول بأنه بضعة عشر شهرًا ولم يعدّه الحافظ لأنه يمكن تفسيره بكل ما زاد على عشرة.

( نحو بيت المقدس) بأمر الله تعالى على الأصح وقول الجمهور ليجمع له بين القبلتين كما عدّ من خصائصه على الأنبياء والمرسلين وتأليفًا لليهود كما قال أبو العالية خلافًا لقول الحسن البصري أنه باجتهاده ولقول الطبري خير بينه وبين الكعبة فاختاره طمعًا في إيمان اليهود، وردّ بما رواه ابن جرير عن ابن عباس لما هاجر صلى الله عليه وسلم إلى المدينة واليهود أكثر أهلها يستقبلون بيت المقدس أمره الله تعالى أن يستقبل بيت المقدس ففرحت اليهود فاستقبلها سبعة عشر شهرًا، وكان يحب أن يستقبل قبلة إبراهيم فكان يدعو وينظر إلى السماء فنزلت الآية يعني { { قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } } فارتابت اليهود وقالوا ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها فأنزل الله { { وَللَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ } }

وظاهره أن استقباله إنما وقع بعد الهجرة إلى المدينة، لكن روى أحمد من وجه آخر عن ابن عباس كان صلى الله عليه وسلم يصلي بمكة نحو بيت المقدس والكعبة بين يديه وجمع الحافظ بأنه لما هاجر أمر أن يستمرّ على الصلاة لبيت المقدس، وأخرج الطبري عن ابن جريج قال صلى الله عليه وسلم: أوّل ما صلى إلى الكعبة ثم صرف إلى بيت المقدس وهو بمكة فصلى ثلاث حجج ثم هاجر فصلى إليه بعد قدومه المدينة ستة عشر شهرًا ثم وجهه الله إلى الكعبة، وقوله في حديث ابن عباس الثاني والكعبة بين يديه يخالف ظاهر حديث البراء عند ابن ماجه أنه كان يصلي بمكة إلى بيت المقدس محضًا.

وحكى الزهري خلافًا في أنه كان بمكة يجعل الكعبة خلف ظهره أو يجعلها بينه وبين بيت المقدس، فعلى الأوّل كان يجعل الميزاب خلفه، وعلى الثاني كان يصلي بين الركنين اليمانيين، وزعم ناس أنه لم يزل يستقبل الكعبة بمكة فلما قدم المدينة استقبل بيت المقدس ثم نسخ وهو ضعيف ويلزم منه دعوى النسخ مرّتين والأوّل أصح لأنه يجمع به بين القولين وقد صححه الحاكم وغيره من حديث ابن عباس اهـ.

ولا يخالف قول ابن العربي نسخ الله القبلة ونكاح المتعة ولحوم الحمر الأهلية مرتين مرّتين زاد غيره والوضوء مما مست النار، لأن مراد الحافظ أن خصوص نسخ بيت المقدس لم يتعدد وما أثبته ابن العربي نسخ القبلة في الجملة بمعنى أنه أمر بالكعبة ثم نسخ بيت المقدس، ثم نسخ بالكعبة كما هو مدلول كلامهما ودل عليه أثر ابن جريج.

( ثم حولت القبلة قبل) غزوة ( بدر بشهرين) لأنها كانت في رمضان والتحويل في نصف رجب من السنة الثانية واختلف في المسجد الذي وقع فيه التحويل فعند ابن سعد في الطبقات أنه صلى الله عليه وسلم صلى ركعتين من الظهر في مسجده بالمسلمين، ثم أمر أن يتوجه إلى المسجد الحرام فاستدار إليه ودار المسلمون، ويقال إنه صلى الله عليه وسلم زار أمّ بشر بن البراء بن معرور في بني سلمة فصنعت له طعامًا وحانت الظهر فصلى بأصحابه ركعتين، ثم أمر فاستداروا إلى الكعبة فسمي مسجد القبلتين.
قال الواقدي: هذا عندنا أثبت انتهى.

وأفاد الحافظ برهان الدين أن التحويل وقع في ركوع الثالثة فجعلت كلها ركعة للكعبة مع أن قيامها وقراءتها وابتداء ركوعها للقدس لأنه لا اعتداد بالركعة إلا بعد الرفع من الركوع، ولذا يدركها المسبوق قبله.

( مالك عن نافع أن عمر بن الخطاب) فيه إرسال لأنه لم يلق عمر فلعله حمله على ابنه عبد الله ( قال ما بين المشرق والمغرب قبلة إذا توجه) بضم التاء ولابن وضاح بفتحها أي المصلى ( قبل) بكسر ففتح جهة ( البيت) الكعبة، وكذا قال عثمان وعلي وابن عباس فقوله صلى الله عليه وسلم ما بين المشرق والمغرب قبلة معناه إذا توجه قبل البيت وهذا صحيح لا خلاف فيه وإنما تضيق القبلة على أهل المسجد الحرام وهي لأهل مكة أوسع، ثم لأهل الحرم أوسع، ثم لأهل الآفاق أوسع قاله ابن عبد البر.



رقم الحديث 468 وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، أَنَّهُ، قَالَ: صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ أَنْ قَدِمَ الْمَدِينَةَ، سِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا، نَحْوَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ.
ثُمَّ حُوِّلَتِ الْقِبْلَةُ قَبْلَ بَدْرٍ بِشَهْرَيْنِ.


مَا جَاءَ فِي الْقِبْلَةِ

( مالك عن عبد الله بن دينار) العدوي مولاهم المدني أبي عبد الرحمن مولى ابن عمر مات سنة سبع وعشرين ومائة ولعبد العزيز بن يحيى عن مالك عن نافع قال ابن عبد البر والصحيح عن ابن دينار ( عن عبد الله بن عمر أنه قال: بينما الناس) المعهودون في الذهن وهم أهل قباء ومن حضر معهم ( بقباء) بضم القاف والمدّ والتذكير والصرف على الأشهر ويجوز قصره وتأنيثه ومنع الصرف موضع معروف ظاهر المدينة وفيه مجاز الحذف أي بمسجد قباء ( في صلاة الصبح) ولمسلم في صلاة الغداة وهو أحد أسمائها وكره بعضهم تسميتها بذلك.

قال الحافظ: وهذا لا يخالف حديث البراء في الصحيحين أنهم كانوا في صلاة العصر لأن الخبر وصل وقت العصر إلى من هو داخل المدينة وهم بنو حارثة، وذلك في حديث البراء، والآتي إليهم بذلك عباد بن بشر كما رواه ابن منده وغيره، وقيل عباد بن نهيك بفتح النون وكسر الهاء ورجح أبو عمر الأوّل وقيل عباد بن نصر الأنصاري، والمحفوظ عباد بن بشر ووصل الخبر وقت الصبح إلى من هو خارج المدينة وهم بنو عمرو بن عوف أهل قباء وذلك في حديث ابن عمر.

( إذ جاءهم آت) لم يسم وإن نقل ابن طاهر وغيره أنه عباد بن بشر ففيه نظر لأنّ ذلك إنما ورد في حق بني حارثة في صلاة العصر فإن كان ما نقلوه محفوظًا فيحتمل أن عبادًا أتى بني حارثة أوّلاً في صلاة العصر ثم توجه إلى أهل قباء فأعلمهم بذلك في الصبح، ومما يدل على تعددهما أن في مسلم عن أنس أن رجلاً من بني سلمة مرّ وهم ركوع في صلاة الفجر، فهذا موافق لرواية ابن عمر في تعيين الصلاة وبنو سلمة غير بني حارثة.

( فقال: إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أنزل عليه الليلة قرآن) بالتنكير لإرادة البعضية فالمراد قوله تعالى: { { قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ } } الآيات.
وفيه إطلاق الليلة على بعض اليوم الماضي وما يليه مجازًا انتهى.
وقال الباجي أضاف النزول إلى الليل على ما بلغه ولعله لم يعلم بنزوله قبل ذلك أو لعله صلى الله عليه وسلم أمر باستقبال الكعبة بالوحي ثم أنزل عليه القرآن من الليلة انتهى.

( وقد أمر) بضم الهمزة مبني للمجهول ( أن) أي بأن ( يستقبل) بكسر الباء ( الكعبة) وفيه: أن ما يؤمر به صلى الله عليه وسلم يلزم أمته وأن أفعاله يؤتسى بها كأقواله حتى يقوم دليل الخصوص ( فاستقبلوها) بفتح الموحدة رواية الأكثر أي فتحول أهل قباء إلى جهة الكعبة ( وكانت وجوههم) أي أهل قباء ( إلى الشام) أي بيت المقدس ( فاستداروا إلى الكعبة) فالضمائر لأهل قباء وهو تفسير من الراوي للتحوّل المذكور، ويحتمل أن فاعل استقبلوها النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه وضمير وجوههم له أو لأهل قباء على الاحتمالين، وفي رواية فاستقبلوها بكسر الموحدة أمر ويأتي في ضمير وجوههم الاحتمالان المذكوران وعوده إلى أهل قباء أظهر ويرجح رواية الكسر رواية البخاري في التفسير من طريق سليمان بن بلال عن عبد الله بن دينار بلفظ: وقد أمر أن يستقبل الكعبة ألا فاستقبلوها فدخول حرف الاستفتاح يشعر بأن ما بعده أمر لا بقية الخبر الذي قبله ووقع بيان كيفية التحويل في حديث تويلة بنت أسلم عند ابن أبي حاتم قالت فيه: فتحول النساء مكان الرجال والرجال مكان النساء فصلينا السجدتين الباقيتين إلى البيت الحرام أي الركعتين من تسمية الكل باسم البعض، وتصويره أن الإمام تحول من مكانه إلى مؤخر المسجد لأن من استقبل القبلة استدبر بيت المقدس وهو لو دار كما هو في مكانه لم يكن خلفه مكان يسع الصفوف، ولما تحول الإمام تحوّلت الرجال وهذا يستدعي عملاً كثيرًا في الصلاة فيحتمل أنه وقع قبل تحريم العمل الكثير كما كان الكلام قبل غير حرام ويحتمل أنه اغتفر للمصلحة أو لم تتوال الخطا عند التحويل بل وقعت مفترقة.

وفي الحديث أن حكم الناسخ لا يثبت في حق المكلف حتى يبلغه لأن أهل قباء لم يؤمروا بالإعادة مع أن الأمر باستقبال الكعبة وقع قبل صلاتهم بتلك الصلوات.
واستنبط منه الطحاوي أن من لم تبلغه الدعوة ولم يمكنه استعلام ذلك، فالفرض لا يلزمه وفيه جواز الاجتهاد في زمنه صلى الله عليه وسلم لأنهم لما تمادوا على الصلاة ولم يقطعوها دل على أنه رجح عندهم التمادي والتحوّل على القطع والاستئناف ولا يكون ذلك إلا عن اجتهاد كذا قيل، وفيه نظر لاحتمال أن يكون عندهم في ذلك نص سابق لأنه صلى الله عليه وسلم كان مترقبًا التحوّل المذكور فلا مانع أن يعلمهم ما صنعوا من التمادي والتحوّل وفيه قبول خبر الواحد ووجوب العمل به ونسخ ما تقرّر بطريق العلم به لأن صلاتهم إلى بيت المقدس كانت قطعية لمشاهدتهم صلاة النبي صلى الله عليه وسلم إلى جهته فتحوّلوا بخبر الواحد.

وأجيب: بأن الخبر المذكور احتفت به قرائن ومقدّمات أفادت القطع عندهم بصدق المخبر فلم ينسخ عندهم ما يفيد العلم إلا بما يفيد العلم، وقيل: كان النسخ بخبر الواحد جائزًا في زمنه صلى الله عليه وسلم مطلقًا، وإنما منع بعده ويحتاج إلى دليل وفيه جواز إعلام من ليس في الصلاة من هو فيها وأن الكلام لسماع المصلي لا يفسد صلاته.

وأخرجه البخاري هنا عن عبد الله بن يوسف وفي التفسير عن قتيبة بن سعيد ويحيى بن قزعة ومسلم عن قتيبة الثلاثة عن مالك به.

( مالك عن يحيى بن سعيد) الأنصاري ( عن سعيد بن المسيب أنه قال:) أرسله في الموطأ وأسنده محمد بن خالد بن عتمة عن مالك عن ابن شهاب عن سعيد عن أبي هريرة لكن انفرد به عن محمد بن عبد الرحمن بن خالد بن نجيح وعبد الرحمن ضعيف لا يحتج به وقد جاء معناه مسندًا من حديث البراء وغيره قاله في التمهيد.
( صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن قدم المدينة ستة عشر شهرًا) وكذا رواه مسلم والنسائي وأبو عوانة من طرق أربعة عن أبي إسحاق السبيعي عن البراء بن عازب، ورواه أحمد بسند صحيح عن ابن عباس، ورجحه النووي، وفي البخاري ومسلم والترمذي من وجهين عن أبي إسحاق عن البراء ستة عشر شهرًا أو سبعة عشر شهرًا بالشك، وللبزار والطبراني عن عمرو بن عوف والطبراني عن ابن عباس سبعة عشر شهرًا.
قال القرطبي: وهو الصحيح.

قال الحافظ: والجمع بينها سهل بأن من جزم بستة عشر لفق من شهر القدوم وشهر التحويل شهرًا وألغى الأيام الزائدة ومن جزم بسبعة عشر عدّهما معًا ومن شك تردّد في ذلك وذلك أن القدوم كان في شهر ربيع الأول بلا خلاف، وكان التحويل في نصف رجب من السنة الثانية على الصحيح وبه جزم الجمهور، ورواه الحاكم بسند صحيح عن ابن عباس.
وقال ابن حبان: سبعة عشر شهرًا وثلاثة أيام وهو مبني على أن القدوم ثاني ربيع الأوّل، ولابن ماجه ثمانية عشر شهرًا وهو شاذ كرواية ثلاثة عشر شهرًا ورواية تسعة أشهر وعشرة أشهر وشهرين وسنتين، ويمكن حمل الأخيرة على الصواب وأسانيد الجميع ضعيفة والاعتماد على الثلاثة الأول فجملتها تسع روايات انتهى.

وكأنه لم يعدّ رواية الشك وإلا كانت عشرة أو لم يعد قول ابن حبان لإمكان أنه مراد القائل سبعة عشر بإلغاء الثلاثة أيام وكذا لم يعدها صاحب النور وعدّ الأقوال عشرة فزاد القول بأنه بضعة عشر شهرًا ولم يعدّه الحافظ لأنه يمكن تفسيره بكل ما زاد على عشرة.

( نحو بيت المقدس) بأمر الله تعالى على الأصح وقول الجمهور ليجمع له بين القبلتين كما عدّ من خصائصه على الأنبياء والمرسلين وتأليفًا لليهود كما قال أبو العالية خلافًا لقول الحسن البصري أنه باجتهاده ولقول الطبري خير بينه وبين الكعبة فاختاره طمعًا في إيمان اليهود، وردّ بما رواه ابن جرير عن ابن عباس لما هاجر صلى الله عليه وسلم إلى المدينة واليهود أكثر أهلها يستقبلون بيت المقدس أمره الله تعالى أن يستقبل بيت المقدس ففرحت اليهود فاستقبلها سبعة عشر شهرًا، وكان يحب أن يستقبل قبلة إبراهيم فكان يدعو وينظر إلى السماء فنزلت الآية يعني { { قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } } فارتابت اليهود وقالوا ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها فأنزل الله { { وَللَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ } }

وظاهره أن استقباله إنما وقع بعد الهجرة إلى المدينة، لكن روى أحمد من وجه آخر عن ابن عباس كان صلى الله عليه وسلم يصلي بمكة نحو بيت المقدس والكعبة بين يديه وجمع الحافظ بأنه لما هاجر أمر أن يستمرّ على الصلاة لبيت المقدس، وأخرج الطبري عن ابن جريج قال صلى الله عليه وسلم: أوّل ما صلى إلى الكعبة ثم صرف إلى بيت المقدس وهو بمكة فصلى ثلاث حجج ثم هاجر فصلى إليه بعد قدومه المدينة ستة عشر شهرًا ثم وجهه الله إلى الكعبة، وقوله في حديث ابن عباس الثاني والكعبة بين يديه يخالف ظاهر حديث البراء عند ابن ماجه أنه كان يصلي بمكة إلى بيت المقدس محضًا.

وحكى الزهري خلافًا في أنه كان بمكة يجعل الكعبة خلف ظهره أو يجعلها بينه وبين بيت المقدس، فعلى الأوّل كان يجعل الميزاب خلفه، وعلى الثاني كان يصلي بين الركنين اليمانيين، وزعم ناس أنه لم يزل يستقبل الكعبة بمكة فلما قدم المدينة استقبل بيت المقدس ثم نسخ وهو ضعيف ويلزم منه دعوى النسخ مرّتين والأوّل أصح لأنه يجمع به بين القولين وقد صححه الحاكم وغيره من حديث ابن عباس اهـ.

ولا يخالف قول ابن العربي نسخ الله القبلة ونكاح المتعة ولحوم الحمر الأهلية مرتين مرّتين زاد غيره والوضوء مما مست النار، لأن مراد الحافظ أن خصوص نسخ بيت المقدس لم يتعدد وما أثبته ابن العربي نسخ القبلة في الجملة بمعنى أنه أمر بالكعبة ثم نسخ بيت المقدس، ثم نسخ بالكعبة كما هو مدلول كلامهما ودل عليه أثر ابن جريج.

( ثم حولت القبلة قبل) غزوة ( بدر بشهرين) لأنها كانت في رمضان والتحويل في نصف رجب من السنة الثانية واختلف في المسجد الذي وقع فيه التحويل فعند ابن سعد في الطبقات أنه صلى الله عليه وسلم صلى ركعتين من الظهر في مسجده بالمسلمين، ثم أمر أن يتوجه إلى المسجد الحرام فاستدار إليه ودار المسلمون، ويقال إنه صلى الله عليه وسلم زار أمّ بشر بن البراء بن معرور في بني سلمة فصنعت له طعامًا وحانت الظهر فصلى بأصحابه ركعتين، ثم أمر فاستداروا إلى الكعبة فسمي مسجد القبلتين.
قال الواقدي: هذا عندنا أثبت انتهى.

وأفاد الحافظ برهان الدين أن التحويل وقع في ركوع الثالثة فجعلت كلها ركعة للكعبة مع أن قيامها وقراءتها وابتداء ركوعها للقدس لأنه لا اعتداد بالركعة إلا بعد الرفع من الركوع، ولذا يدركها المسبوق قبله.

( مالك عن نافع أن عمر بن الخطاب) فيه إرسال لأنه لم يلق عمر فلعله حمله على ابنه عبد الله ( قال ما بين المشرق والمغرب قبلة إذا توجه) بضم التاء ولابن وضاح بفتحها أي المصلى ( قبل) بكسر ففتح جهة ( البيت) الكعبة، وكذا قال عثمان وعلي وابن عباس فقوله صلى الله عليه وسلم ما بين المشرق والمغرب قبلة معناه إذا توجه قبل البيت وهذا صحيح لا خلاف فيه وإنما تضيق القبلة على أهل المسجد الحرام وهي لأهل مكة أوسع، ثم لأهل الحرم أوسع، ثم لأهل الآفاق أوسع قاله ابن عبد البر.



رقم الحديث 469 وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ: مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ قِبْلَةٌ إِذَا تُوُجِّهَ قِبَلَ الْبَيْتِ.


مَا جَاءَ فِي الْقِبْلَةِ

( مالك عن عبد الله بن دينار) العدوي مولاهم المدني أبي عبد الرحمن مولى ابن عمر مات سنة سبع وعشرين ومائة ولعبد العزيز بن يحيى عن مالك عن نافع قال ابن عبد البر والصحيح عن ابن دينار ( عن عبد الله بن عمر أنه قال: بينما الناس) المعهودون في الذهن وهم أهل قباء ومن حضر معهم ( بقباء) بضم القاف والمدّ والتذكير والصرف على الأشهر ويجوز قصره وتأنيثه ومنع الصرف موضع معروف ظاهر المدينة وفيه مجاز الحذف أي بمسجد قباء ( في صلاة الصبح) ولمسلم في صلاة الغداة وهو أحد أسمائها وكره بعضهم تسميتها بذلك.

قال الحافظ: وهذا لا يخالف حديث البراء في الصحيحين أنهم كانوا في صلاة العصر لأن الخبر وصل وقت العصر إلى من هو داخل المدينة وهم بنو حارثة، وذلك في حديث البراء، والآتي إليهم بذلك عباد بن بشر كما رواه ابن منده وغيره، وقيل عباد بن نهيك بفتح النون وكسر الهاء ورجح أبو عمر الأوّل وقيل عباد بن نصر الأنصاري، والمحفوظ عباد بن بشر ووصل الخبر وقت الصبح إلى من هو خارج المدينة وهم بنو عمرو بن عوف أهل قباء وذلك في حديث ابن عمر.

( إذ جاءهم آت) لم يسم وإن نقل ابن طاهر وغيره أنه عباد بن بشر ففيه نظر لأنّ ذلك إنما ورد في حق بني حارثة في صلاة العصر فإن كان ما نقلوه محفوظًا فيحتمل أن عبادًا أتى بني حارثة أوّلاً في صلاة العصر ثم توجه إلى أهل قباء فأعلمهم بذلك في الصبح، ومما يدل على تعددهما أن في مسلم عن أنس أن رجلاً من بني سلمة مرّ وهم ركوع في صلاة الفجر، فهذا موافق لرواية ابن عمر في تعيين الصلاة وبنو سلمة غير بني حارثة.

( فقال: إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أنزل عليه الليلة قرآن) بالتنكير لإرادة البعضية فالمراد قوله تعالى: { { قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ } } الآيات.
وفيه إطلاق الليلة على بعض اليوم الماضي وما يليه مجازًا انتهى.
وقال الباجي أضاف النزول إلى الليل على ما بلغه ولعله لم يعلم بنزوله قبل ذلك أو لعله صلى الله عليه وسلم أمر باستقبال الكعبة بالوحي ثم أنزل عليه القرآن من الليلة انتهى.

( وقد أمر) بضم الهمزة مبني للمجهول ( أن) أي بأن ( يستقبل) بكسر الباء ( الكعبة) وفيه: أن ما يؤمر به صلى الله عليه وسلم يلزم أمته وأن أفعاله يؤتسى بها كأقواله حتى يقوم دليل الخصوص ( فاستقبلوها) بفتح الموحدة رواية الأكثر أي فتحول أهل قباء إلى جهة الكعبة ( وكانت وجوههم) أي أهل قباء ( إلى الشام) أي بيت المقدس ( فاستداروا إلى الكعبة) فالضمائر لأهل قباء وهو تفسير من الراوي للتحوّل المذكور، ويحتمل أن فاعل استقبلوها النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه وضمير وجوههم له أو لأهل قباء على الاحتمالين، وفي رواية فاستقبلوها بكسر الموحدة أمر ويأتي في ضمير وجوههم الاحتمالان المذكوران وعوده إلى أهل قباء أظهر ويرجح رواية الكسر رواية البخاري في التفسير من طريق سليمان بن بلال عن عبد الله بن دينار بلفظ: وقد أمر أن يستقبل الكعبة ألا فاستقبلوها فدخول حرف الاستفتاح يشعر بأن ما بعده أمر لا بقية الخبر الذي قبله ووقع بيان كيفية التحويل في حديث تويلة بنت أسلم عند ابن أبي حاتم قالت فيه: فتحول النساء مكان الرجال والرجال مكان النساء فصلينا السجدتين الباقيتين إلى البيت الحرام أي الركعتين من تسمية الكل باسم البعض، وتصويره أن الإمام تحول من مكانه إلى مؤخر المسجد لأن من استقبل القبلة استدبر بيت المقدس وهو لو دار كما هو في مكانه لم يكن خلفه مكان يسع الصفوف، ولما تحول الإمام تحوّلت الرجال وهذا يستدعي عملاً كثيرًا في الصلاة فيحتمل أنه وقع قبل تحريم العمل الكثير كما كان الكلام قبل غير حرام ويحتمل أنه اغتفر للمصلحة أو لم تتوال الخطا عند التحويل بل وقعت مفترقة.

وفي الحديث أن حكم الناسخ لا يثبت في حق المكلف حتى يبلغه لأن أهل قباء لم يؤمروا بالإعادة مع أن الأمر باستقبال الكعبة وقع قبل صلاتهم بتلك الصلوات.
واستنبط منه الطحاوي أن من لم تبلغه الدعوة ولم يمكنه استعلام ذلك، فالفرض لا يلزمه وفيه جواز الاجتهاد في زمنه صلى الله عليه وسلم لأنهم لما تمادوا على الصلاة ولم يقطعوها دل على أنه رجح عندهم التمادي والتحوّل على القطع والاستئناف ولا يكون ذلك إلا عن اجتهاد كذا قيل، وفيه نظر لاحتمال أن يكون عندهم في ذلك نص سابق لأنه صلى الله عليه وسلم كان مترقبًا التحوّل المذكور فلا مانع أن يعلمهم ما صنعوا من التمادي والتحوّل وفيه قبول خبر الواحد ووجوب العمل به ونسخ ما تقرّر بطريق العلم به لأن صلاتهم إلى بيت المقدس كانت قطعية لمشاهدتهم صلاة النبي صلى الله عليه وسلم إلى جهته فتحوّلوا بخبر الواحد.

وأجيب: بأن الخبر المذكور احتفت به قرائن ومقدّمات أفادت القطع عندهم بصدق المخبر فلم ينسخ عندهم ما يفيد العلم إلا بما يفيد العلم، وقيل: كان النسخ بخبر الواحد جائزًا في زمنه صلى الله عليه وسلم مطلقًا، وإنما منع بعده ويحتاج إلى دليل وفيه جواز إعلام من ليس في الصلاة من هو فيها وأن الكلام لسماع المصلي لا يفسد صلاته.

وأخرجه البخاري هنا عن عبد الله بن يوسف وفي التفسير عن قتيبة بن سعيد ويحيى بن قزعة ومسلم عن قتيبة الثلاثة عن مالك به.

( مالك عن يحيى بن سعيد) الأنصاري ( عن سعيد بن المسيب أنه قال:) أرسله في الموطأ وأسنده محمد بن خالد بن عتمة عن مالك عن ابن شهاب عن سعيد عن أبي هريرة لكن انفرد به عن محمد بن عبد الرحمن بن خالد بن نجيح وعبد الرحمن ضعيف لا يحتج به وقد جاء معناه مسندًا من حديث البراء وغيره قاله في التمهيد.
( صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن قدم المدينة ستة عشر شهرًا) وكذا رواه مسلم والنسائي وأبو عوانة من طرق أربعة عن أبي إسحاق السبيعي عن البراء بن عازب، ورواه أحمد بسند صحيح عن ابن عباس، ورجحه النووي، وفي البخاري ومسلم والترمذي من وجهين عن أبي إسحاق عن البراء ستة عشر شهرًا أو سبعة عشر شهرًا بالشك، وللبزار والطبراني عن عمرو بن عوف والطبراني عن ابن عباس سبعة عشر شهرًا.
قال القرطبي: وهو الصحيح.

قال الحافظ: والجمع بينها سهل بأن من جزم بستة عشر لفق من شهر القدوم وشهر التحويل شهرًا وألغى الأيام الزائدة ومن جزم بسبعة عشر عدّهما معًا ومن شك تردّد في ذلك وذلك أن القدوم كان في شهر ربيع الأول بلا خلاف، وكان التحويل في نصف رجب من السنة الثانية على الصحيح وبه جزم الجمهور، ورواه الحاكم بسند صحيح عن ابن عباس.
وقال ابن حبان: سبعة عشر شهرًا وثلاثة أيام وهو مبني على أن القدوم ثاني ربيع الأوّل، ولابن ماجه ثمانية عشر شهرًا وهو شاذ كرواية ثلاثة عشر شهرًا ورواية تسعة أشهر وعشرة أشهر وشهرين وسنتين، ويمكن حمل الأخيرة على الصواب وأسانيد الجميع ضعيفة والاعتماد على الثلاثة الأول فجملتها تسع روايات انتهى.

وكأنه لم يعدّ رواية الشك وإلا كانت عشرة أو لم يعد قول ابن حبان لإمكان أنه مراد القائل سبعة عشر بإلغاء الثلاثة أيام وكذا لم يعدها صاحب النور وعدّ الأقوال عشرة فزاد القول بأنه بضعة عشر شهرًا ولم يعدّه الحافظ لأنه يمكن تفسيره بكل ما زاد على عشرة.

( نحو بيت المقدس) بأمر الله تعالى على الأصح وقول الجمهور ليجمع له بين القبلتين كما عدّ من خصائصه على الأنبياء والمرسلين وتأليفًا لليهود كما قال أبو العالية خلافًا لقول الحسن البصري أنه باجتهاده ولقول الطبري خير بينه وبين الكعبة فاختاره طمعًا في إيمان اليهود، وردّ بما رواه ابن جرير عن ابن عباس لما هاجر صلى الله عليه وسلم إلى المدينة واليهود أكثر أهلها يستقبلون بيت المقدس أمره الله تعالى أن يستقبل بيت المقدس ففرحت اليهود فاستقبلها سبعة عشر شهرًا، وكان يحب أن يستقبل قبلة إبراهيم فكان يدعو وينظر إلى السماء فنزلت الآية يعني { { قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } } فارتابت اليهود وقالوا ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها فأنزل الله { { وَللَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ } }

وظاهره أن استقباله إنما وقع بعد الهجرة إلى المدينة، لكن روى أحمد من وجه آخر عن ابن عباس كان صلى الله عليه وسلم يصلي بمكة نحو بيت المقدس والكعبة بين يديه وجمع الحافظ بأنه لما هاجر أمر أن يستمرّ على الصلاة لبيت المقدس، وأخرج الطبري عن ابن جريج قال صلى الله عليه وسلم: أوّل ما صلى إلى الكعبة ثم صرف إلى بيت المقدس وهو بمكة فصلى ثلاث حجج ثم هاجر فصلى إليه بعد قدومه المدينة ستة عشر شهرًا ثم وجهه الله إلى الكعبة، وقوله في حديث ابن عباس الثاني والكعبة بين يديه يخالف ظاهر حديث البراء عند ابن ماجه أنه كان يصلي بمكة إلى بيت المقدس محضًا.

وحكى الزهري خلافًا في أنه كان بمكة يجعل الكعبة خلف ظهره أو يجعلها بينه وبين بيت المقدس، فعلى الأوّل كان يجعل الميزاب خلفه، وعلى الثاني كان يصلي بين الركنين اليمانيين، وزعم ناس أنه لم يزل يستقبل الكعبة بمكة فلما قدم المدينة استقبل بيت المقدس ثم نسخ وهو ضعيف ويلزم منه دعوى النسخ مرّتين والأوّل أصح لأنه يجمع به بين القولين وقد صححه الحاكم وغيره من حديث ابن عباس اهـ.

ولا يخالف قول ابن العربي نسخ الله القبلة ونكاح المتعة ولحوم الحمر الأهلية مرتين مرّتين زاد غيره والوضوء مما مست النار، لأن مراد الحافظ أن خصوص نسخ بيت المقدس لم يتعدد وما أثبته ابن العربي نسخ القبلة في الجملة بمعنى أنه أمر بالكعبة ثم نسخ بيت المقدس، ثم نسخ بالكعبة كما هو مدلول كلامهما ودل عليه أثر ابن جريج.

( ثم حولت القبلة قبل) غزوة ( بدر بشهرين) لأنها كانت في رمضان والتحويل في نصف رجب من السنة الثانية واختلف في المسجد الذي وقع فيه التحويل فعند ابن سعد في الطبقات أنه صلى الله عليه وسلم صلى ركعتين من الظهر في مسجده بالمسلمين، ثم أمر أن يتوجه إلى المسجد الحرام فاستدار إليه ودار المسلمون، ويقال إنه صلى الله عليه وسلم زار أمّ بشر بن البراء بن معرور في بني سلمة فصنعت له طعامًا وحانت الظهر فصلى بأصحابه ركعتين، ثم أمر فاستداروا إلى الكعبة فسمي مسجد القبلتين.
قال الواقدي: هذا عندنا أثبت انتهى.

وأفاد الحافظ برهان الدين أن التحويل وقع في ركوع الثالثة فجعلت كلها ركعة للكعبة مع أن قيامها وقراءتها وابتداء ركوعها للقدس لأنه لا اعتداد بالركعة إلا بعد الرفع من الركوع، ولذا يدركها المسبوق قبله.

( مالك عن نافع أن عمر بن الخطاب) فيه إرسال لأنه لم يلق عمر فلعله حمله على ابنه عبد الله ( قال ما بين المشرق والمغرب قبلة إذا توجه) بضم التاء ولابن وضاح بفتحها أي المصلى ( قبل) بكسر ففتح جهة ( البيت) الكعبة، وكذا قال عثمان وعلي وابن عباس فقوله صلى الله عليه وسلم ما بين المشرق والمغرب قبلة معناه إذا توجه قبل البيت وهذا صحيح لا خلاف فيه وإنما تضيق القبلة على أهل المسجد الحرام وهي لأهل مكة أوسع، ثم لأهل الحرم أوسع، ثم لأهل الآفاق أوسع قاله ابن عبد البر.