فهرس الكتاب

شرح الزرقاني - بَابُ مَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ

رقم الحديث 481 حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدٍ الْقَارِيِّ، أَنَّهُ قَالَ سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، يَقُولُ: سَمِعْتُ هِشَامَ بْنَ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ يَقْرَأُ سُورَةَ الْفُرْقَانِ عَلَى غَيْرِ مَا أَقْرَؤُهَا، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقْرَأَنِيهَا فَكِدْتُ أَنْ أَعْجَلَ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَمْهَلْتُهُ حَتَّى انْصَرَفَ، ثُمَّ لَبَّبْتُهُ بِرِدَائِهِ، فَجِئْتُ بِهِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي سَمِعْتُ هَذَا يَقْرَأُ سُورَةَ الْفُرْقَانِ عَلَى غَيْرِ مَا أَقْرَأْتَنِيهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَرْسِلْهُ، ثُمَّ قَالَ: اقْرَأْ يَا هِشَامُ فَقَرَأَ الْقِرَاءَةَ الَّتِي سَمِعْتُهُ يَقْرَأُ.
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَكَذَا أُنْزِلَتْ، ثُمَّ قَالَ لِي: اقْرَأْ فَقَرَأْتُهَا.
فَقَالَ: هَكَذَا أُنْزِلَتْ، إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ أُنْزِلَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ.


مَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ

( مَالِكٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ) محمد بن مسلم الزهري ( عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ) بن العوام ( عن عبد الرحمن بن عبد) بلا إضافة ( القارئ) بشد الياء نسبة إلى القارة بطن من خزيمة بن مدركة من كبار التابعين، وعد في الصحابة لكونه أتي به للنبي صلى الله عليه وسلم وهو صغير كما أخرجه أبو القاسم البغوي في معجم الصحابة بإسناد لا بأس به.

( أنه قال سمعت عمر بن الخطاب يقول سمعت هشام بن حكيم بن حزام) بكسر المهملة وزاي ابن خويلد بن أسد القرشي الأسدي صحابي ابن صحابي ومات قبل أبيه ووهم من زعم أنه استشهد بأجنادين ( يقرأ سورة الفرقان) وغلط من قال: سورة الأحزاب ( على غير ما أقرؤها وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أقرأنيها) وفي رواية عقيل عن ابن شهاب فإذا هو يقرؤها على حروف كثيرة لم يقرئنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قال ابن عبد البر: ففي هذه الرواية بيان أن اختلافهما كان في حروف من السورة لا في السورة كلها، وهي تفسير لرواية مالك لأن سورة واحدة لا تقرأ حروفها كلها على سبعة أوجه، بل لا يوجد في القرآن كلمة تقرأ على سبعة أوجه إلا قليل من كثير مثل: { { رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا } } { { وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ } } و { { الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا } } و { { بِعَذَابٍ بَئِيسٍ } } ونحوه ( فكدت أن أعجل عليه) بفتح الهمزة وسكون العين وفتح الجيم وفي رواية أعجل بضم الهمزة وفتح العين وكسر الجيم مشددة أي أخاصمه وأظهر بوادر غضبي عليه ( ثم أمهلته حتى انصرف) من الصلاة ففي رواية عقيل فكدت أساوره في الصلاة فتصبرت حتى سلم وأساوره بضم الهمزة وفتح المهملة أي آخذ برأسه أو أواثبه فليس المراد انصرف من القراءة كما زعم الكرماني ( ثم لببته) بموحدتين أولاهما مشددة وقال عياض التخفيف أعرف ( بردائه) أي أخذت بمجامعه وجعلته في عنقه وجررته به لئلا ينفلت مأخوذ من اللبة بفتح اللام لأنه يقبض عليها، وإنما فعل عمر ذلك اعتناء بالقرآن، وذبًا عنه، ومحافظة على لفظه كما سمعه من غير عدول إلى ما تجوزه العرب مع ما كان عليه من الشدة في الأمر بالمعروف، زاد في رواية عقيل فقلت من أقرأك هذه السورة التي سمعتك تقرأ؟ قال: أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: كذبت، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقرأنيها على غير ما قرأت وفيه إطلاق الكذب على غلبة الظن فإنه إنما فعل ذلك اجتهادًا منه لظنه أن هشامًا خالف الصواب وساغ له ذلك لرسوخ قدمه في الإسلام وسابقته بخلاف هشام فإنه من مسلمة الفتح فخشي أن لا يكون أتقن القراءة ولعل عمر لم يكن سمع حديث أنزل القرآن على سبعة أحرف قبل ذلك، ( فجئت به رسول الله صلى الله عليه وسلم) وفي رواية عقيل: فانطلقت به أقوده إلى رسول الله ( فقلت يا رسول الله إني سمعت هذا يقرأ سورة الفرقان على غير ما أقرأتنيها) وفي رواية عقيل على حروف لم تقرئنيها ( فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسله) بهمزة قطع أي: أطلقه لأنه كان ممسوكًا معه.
( ثم قال اقرأ) يا هشام ( فقرأ القراءة التي سمعته يقرأ) بها ( فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هكذا أنزلت ثم قال لي اقرأ) يا عمر ( فقرأتها) .
وفي رواية عقيل: فقرأت القراءة التي أقرأني ( فقال هكذا أنزلت) .
ثم قال صلى الله عليه وسلم تطييبًا لقلب عمر لئلا ينكر تصويب الأمرين المختلفين ( إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف) جمع حرف مثل فلس وأفلس.
( فاقرؤوا ما تيسر منه) أي المنزل بالسبعة ففيه إشارة إلى أن حكمة التعدد التيسير على القارئ ولم يقع في شيء من الطرق تفسير الأحرف التي اختلف فيها عمر وهشام من سورة الفرقان، نعم اختلف الصحابة فمن دونهم في أحرف كثيرة من هذه السورة كما بينه في التمهيد بما يطول، ووقع لجماعة من الصحابة نظير ما وقع لعمر مع هشام كأبي بن كعب مع ابن مسعود في سورة النحل.
وعمرو بن العاصي مع رجل في آية من الفرقان عند أحمد.
وابن مسعود مع رجل في سورة من آل حم.

رواه ابن حبان والحاكم.
وأما حديث سمرة رفعه أنزل القرآن على ثلاثة أحرف رواه الحاكم قائلاً: تواترت الأخبار بالسبعة إلا في هذا الحديث فقال أبو شامة: يحتمل أن بعضه أنزل على ثلاثة أحرف كجذوة والرهب أو أراد أنزل ابتداء على ثلاثة أحرف ثم زيد إلى سبعة توسعة على العباد، والأكثر أنها محصورة في السبعة.
وقيل: ليس المراد حقيقة العدد بل التسهيل والتيسير والشرف والرحمة وخصوصية الفضل لهذه الأمة فإن لفظ سبعة يطلق على إرادة الكثرة في الآحاد كما يطلق السبعون في العشرات، والسبعمائة في المئين.
ولا يراد العدد المعين وإلى هذا جنح عياض ومن تبعه ورد بحديث ابن عباس في الصحيحين: أقرأني جبريل على حرف فراجعته فلم أزل أستزيده ويزيدني حتى انتهى إلى سبعة أحرف.

وفي حديث أبي عند مسلم: إن ربي أرسل إلي أن أقرأ القرآن على حرف فرددت عليه أن هون على أمتي فأرسل إلي أن أقرأه على سبعة أحرف وللنسائي إن جبريل وميكائيل أتياني فقعد جبريل على يميني وميكائيل على يساري فقال جبريل: اقرأ القرآن على حرف فقال ميكائيل استزده حتى بلغ سبعة أحرف.
وفي حديث أبي بكرة عند أحمد فنظرت إلى ميكائيل فسكت فعلمت أنه قد انتهت العدة فهذا يدل على إرادة حقيقة العدد وانحصاره.
واختلف في ذلك على نحو أربعين قولاً أكثرها غير مختار.

قال ابن العربي: لم يأت في ذلك نص ولا أثر.
وقال أبو جعفر محمد بن سعدان النحوي: هذا من المشكل الذي لا يدرى معناه لأن الحرف يأتي لمعان للهجاء وللكلمة وللمعنى والجهة انتهى.
وأقربها قولان أحدهما: أن المراد سبع لغات وعليه أبو عبيدة وثعلب والزهري وآخرون، وصححه ابن عطية والبيهقي وتعقب بأن لغات العرب أكثر من سبعة.
وأجيب بأن المراد أفصحها، والثاني: أن المراد سبعة أوجه من المعاني المتفقة بألفاظ مختلفة نحو أقبل وتعال وهلم وعجل وأسرع.
وعليه سفيان بن عيينة وابن وهب وخلائق.
ونسبه ابن عبد البر لأكثر العلماء لكن الإباحة المذكورة لم تقع بالتشهي وهو أن كل واحد يغير الكلمة بمرادفها من لغته بل ذلك مقصور على السماع منه صلى الله عليه وسلم كما يشير إليه قول كل من عمر وهشام أقرأني النبي صلى الله عليه وسلم.
ولئن سلم إطلاق الإباحة بقراءة المرادف ولو لم يسمع لكن إجماع الصحابة زمن عثمان الموافق للعرضة الأخيرة يمنع ذلك.
واختلف هل السبعة باقية إلى الآن يقرأ بها أم كان ذلك ثم استقر الأمر على بعضها؟ ذهب الأكثر إلى الثاني كابن عيينة وابن وهب والطبري والطحاوي.
وهل استقر ذلك في الزمن النبوي أم بعده؟ الأكثر على الأول.
واختاره الباقلاني وابن عبد البر وابن العربي وغيرهم لأن ضرورة اختلاف اللغات ومشقة نطقهم بغير لغتهم اقتضت التوسعة عليهم في أول الأمر، فأذن لكل أن يقرأ على حرفه أي على طريقته في اللغة حتى انضبط الأمر وتدربت الألسن وتمكن الناس من الاقتصار على لغة واحدة فعارض جبريل النبي صلى الله عليه وسلم القرآن مرتين في السنة الأخيرة.
واستقر على ما هو عليه الآن فنسخ الله تلك القراءة المأذون فيها بما أوجبه من الاقتصار على هذه القراءة التي تلقاها الناس.

قال أبو شامة: ظن قوم أن المراد القراءات السبع الموجودة الآن، وهو خلاف إجماع العلماء وإنما يظن ذلك بعض أهل الجهل.
وقال مكي بن أبي طالب: من ظن أن قراءة هؤلاء كعاصم ونافع هي الأحرف السبعة التي في الحديث فقد غلط غلطًا عظيمًا، ويلزم منه أن ما خرج عن قراءتهم مما ثبت عن الأئمة وغيرهم ووافق خط المصحف أن لا يكون قرآنًا وهذا غلط عظيم.
وقد بين الطبري وغيره أن اختلاف القراء إنما هو حرف واحد من السبعة.

وهذا الحديث أخرجه البخاري عن عبد الله بن يوسف ومسلم عن يحيى بن يحيى كلاهما عن مالك به.

( مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إنما مثل صاحب القرآن) أي الذي ألف تلاوته - والمصاحبة المؤالفة - ومنه فلان صاحب فلان وأصحاب الجنة وأصحاب النار وأصحاب الحديث وأصحاب الرأي وأصحاب الصفة وأصحاب إبل وغنم وأصحاب كنز وعبادة قاله عياض.
( كمثل صاحب الإبل المعقلة) بضم الميم وفتح العين المهملة والقاف الثقيلة أي المشدودة بالعقال، وهو الحبل الذي يشد في ركبة البعير.
( إن عاهد عليها أمسكها) أي استمر إمساكه لها ( وإن أطلقها) من عقلها ( ذهبت) أي انفلتت.
والحصر في إنما حصر مخصوص بالنسبة إلى النسيان والحفظ بالتلاوة والترك شبه درس القرآن واستمرار تلاوته بربط البعير الذي يخشى منه أن يشرد فمادام التعاهد موجودًا فالحفظ موجود، كما أن البعير مادام مشدودًا بالعقال فهو محفوظ.
وخص الإبل بالذكر لأنها أشد الحيوانات الإنسية نفارًا.
وفيه حض على درس القرآن وتعاهده.

وفي الصحيح مرفوعًا: تعاهدوا القرآن فوالذي نفسي بيده لهو أشدّ تفصيًا من الإبل في عقلها.
وقال صلى الله عليه وسلم: من تعلم القرآن ثم نسيه لقي الله يوم القيامة أجزم أي منقطع الحجة.
وقال: عرضت عليَّ أجوار أمتي حتى القذاة يخرجها الرجل من المسجد.
وعرضت عليّ ذنوب أمتي فلم أر ذنبًا أعظم من سورة من القرآن أو آية من القرآن أوتيها رجل ثم نسيها.
وفي الصحيحين عن ابن مسعود مرفوعًا: بئس ما لأحدكم أن يقول نسيت آية كيت وكيت، بل هو نُسِّي فإنه أشد تفصيًا من صدور الرجال من النعم.

قال ابن عبد البر: فكره أن يقول نسيت وأباح أن يقول أنسيت قال تعالى: { { وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطَانُ } } وقال ابن عيينة: النسيان المذموم هو ترك العمل به وليس من انتهى حفظه وتفلت منه بناس له إذا عمل به، ولو كان كذلك ما نسي صلى الله عليه وسلم شيئًا منه قال تعالى: { { سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنسَى إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ } } وقال صلى الله عليه وسلم: ذكرني هذا آية أنسيتها.
قال ابن عبد البر وهذا معروف في لسان العرب قال تعالى: { { نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ } } أي تركوا طاعته فترك رحمتهم وقال تعالى: { { فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ } } أي تركوا.

والحديث رواه البخاري عن عبد الله بن يوسف ومسلم عن يحيى كلاهما عن مالك به.

( مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أن الحارث بن هشام) المخزومي شقيق أبي جهل أسلم يوم الفتح، وكان من فضلاء الصحابة، واستشهد في فتوح الشام سنة خمس عشرة.
وقد تكتب الحارث بلا ألف تخفيفًا ( سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم) قال الحافظ: هكذا رواه الرواة عن عروة فيحتمل أن عائشة حضرت ذلك.
وعلى هذا اعتمد أصحاب الأطراف فأخرجوه في مسند عائشة.
ويحتمل أن الحارث أخبرها بذلك بعد فيكون من مرسل الصحابة وهو محكوم بوصله عند الجمهور ويؤيد الثاني ما رواه أحمد والبغوي وغيرهما من طريق عامر بن صالح الزبيري عن هشام عن أبيه عن عائشة عن الحارث بن هشام قال: سألت وعامر فيه ضعف لكن له متابع عند ابن منده والمشهور الأول ( كيف يأتيك الوحي) أي صفة الوحي نفسه أو صفة حامله أو أعم من ذلك.
وعلى كل تقدير فإسناد الإتيان إلى الوحي مجاز عقلي لأن الإتيان حقيقة من وصف حامله، ويسمى مجازًا في الإسناد للملابسة التي بين الحامل والمحمول، أو هو استعارة بالكناية شبه الوحي برجل وأضيف إلى المشبه الإتيان الذي هو من خواص المشبه به.
وفيه أن السؤال عن الكيفية لطلب الطمأنينة لا يقدح في اليقين وجواز السؤال عن أحوال الأنبياء من الوحي وغيره.

( فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أحيانًا) جمع حين يطلق على كثير الوقت وقليله والمراد هنا مجرد الوقت فكأنه قال أوقاتًا ونصب ظرفًا عامله ( يأتيني) مؤخر عنه وفيه أن المسئول عنه إذا كان ذا أقسام يذكر المجيب في أول جوابه ما يقتضي التفصيل ( في مثل صلصلة) بمهملتين مفتوحتين، بينهما لام ساكنة أصله صوت وقوع الحديد بعضه على بعض، ثم أطلق على كل صوت له طنين.
وقيل: صوت متدارك لا يدرك في أول وهلة ( الجرس) بجيم ومهملة: الجلجل الذي يعلق في رؤوس الدواب، واشتقاقه من الجرس بإسكان الراء، وهو الحس قيل الصلصلة صوت الملك بالوحي.
قال الخطابي: يريد أنه صوت متدارك يسمعه ولا يثبته أول ما يسمعه حتى يفهمه بعد ولما كان الجرس لا تحصل صلصلته إلا متداركة وقع التشبيه به دون غيره من آلات وقيل صوت حفيف أجنحة الملك والحكمة في تقدمه أن يقرع سمعه الوحي فلا يبقى فيه مكان لغيره.
( وهو أشده علي) لأن الفهم من كلام مثل الصلصلة أشدّ من الفهم من كلام الرجل بالتخاطب المعهود وفائدة هذه الشدة ما يترتب على المشقة من زيادة الزلفى والدرجات.
وأفهم أن الوحي كله شديد، وهذا أشده لأن العادة جرت بالمناسبة بين القائل والسامع، وهي هنا إما باتصاف السامع بوصف القائل فغلبت الروحانية وهو النوع الأول، وإما باتصاف القائل بوصف السامع وهو البشرية وهو النوع الثاني، والأول أشد بلا شك.

وقال السراج البلقيني: سبب ذلك أن الكلام العظيم له مقدمات تؤذن بتعظيمه للاهتمام به كما جاء في حديث ابن عباس وكان يعالج من التنزيل شدّة وقيل: كان ينزل هكذا إذا نزلت آية وعيد، قال الحافظ: وفيه نظر والظاهر أنه لا يختص بالقرآن كما في حديث يعلى بن أمية في قصة لابس الجبة المتضمخ بالطيب في الحج ففيه أنه رآه صلى الله عليه وسلم حالة نزول الوحي وأنه ليغط.

( فيفصم) بفتح التحتية وسكون الفاء وكسر المهملة، أي يقطع ( عني) ويتجلى ما يغشاني.
ويروى بضم أوله من الرباعي.
وفي رواية بضم أوله وفتح الصاد على البناء للمجهول، وأصل الفصم القطع ومنه قوله تعالى: { { لاَ انفِصَامَ لَهَا } } وقيل الفصم بالفاء القطع بلا إبانة وبالقاف القطع بإبانة فذكره يفصم بالفاء إشارة إلى أن الملك فارقه ليعود والجامع بينهما بقاء العلقة.
( وقد وعيت) بفتح العين حفظت ( ما قال) أي القول الذي جاء به، وفيه إسناد الوحي إلى قول الملك ولا معارضة بينه وبين قوله تعالى حكاية عن الكفار { { إِنْ هَذَا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ } } لأنهم كانوا ينكرون الوحي وينكرون مجيء الملك به، فإن قيل المحمود لا يشبه بالمذموم إذ حقيقة التشبيه إلحاق ناقص بكامل والمشبه الوحي والمشبه به صوت الجرس، وهو مذموم لصحة النهي عنه والتنفير من مرافقة ما هو معلق فيه والإعلام بأنهم لا تصحبهم الملائكة كما في مسلم وأبي داود وغيرهما.
فكيف شبه فعل الملك بأمر تنفر منه الملائكة؟ أجيب بأنه لا يلزم في التشبيه تساوي المشبه بالمشبه به في الصفات كلها بل ولا في أخص وصف له، بل يكفي اشتراكهما في صفة ما فالقصد هنا بيان الحس فذكر ما ألف السامعون سماعه تقريبًا لأفهامهم والحاصل أن الصوت له جهتان جهة قوة وبها وقع التشبيه وجهة طنين وبها وقع التنفير عنه وعلل بكونه مزمار الشيطان، واحتمال أن النهي عنه وقع بعد السؤال المذكور فيه نظر وهذا النوع شبيه بما يوحى إلى الملائكة كما في الصحيح مرفوعًا: إذا قضى الله في السماء أمرًا ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانًا لقوله كأنها سلسلة على صفوان فإذا فزع عن قلوبهم قالوا: ماذا قال ربكم؟ قالوا: الحق وهو العلي الكبير.
وللطبراني وابن أبي عاصم مرفوعًا: إذا تكلم الله في السماء بالوحي أخذت السماء رجفة أو رعدة شديدة من خوف الله، فإذا سمع أهل السماء صعقوا وخروا سجدًا، فيكون أولهم يرفع رأسه جبريل فيكلمه الله من وحيه بما أراد فينتهي به إلى الملائكة كلما مر بسماء سأله أهلها ماذا قال ربنا؟ قال: الحق فينتهي به حيث أمره الله من السماء والأرض.
ولابن مردويه مرفوعًا: إذا تكلم الله بالوحي يسمع أهل السماء صلصلة كصلصلة السلسلة على الصفوان فيفزعون.

( وأحيانا يتمثل) يتصور ( لي) أي لأجلي فاللام تعليلية ( الملك) جبريل كما في رواية ابن سعد فأل عهدية ( رجلا) نصب على المصدرية أي مثل رجل أو بهيئة رجل فهو حال وإن لم تؤول بمشتق لدلالة رجل على الهيئة بلا تأويل، أو على تمييز النسبة لا تمييز المفرد لأن الملك لا إبهام فيه وكون تمييز النسبة محولاً عن الفاعل كتصبب زيد عرقًا، أو المفعول كفجرنا الأرض عيونًا أمر غالب لا دائم بدليل امتلأ الإناء ماء، أو على المفعولية بتضمين يتمثل معنى يتخذ أي الملك رجلاً مثالاً، واستبعد من جهة المعنى لاتحاد المتخذ والمتخذ والإتيان بمثال بلا دليل قال المتكلمون: الملائكة أجسام علوية لطيفة تتشكل أي شكل أرادوا، وزعم بعض الفلاسفة أنها جواهر روحانية قال الحافظ: والحق أن تمثل الملك رجلاً ليس معناه أن ذاته انقلبت رجلاً، بل معناه أنه ظهر بتلك الصورة تأنيسًا لمن يخاطبه والظاهر أن القدر الزائد لا يزول ولا يفنى بل يخفى على الرائي فقط وتقدم مزيد لذلك في أول حديث.

( فيكلمني) بالكاف، وللبيهقي عن القعنبي: فيعلمني بالعين.
قال الحافظ: والظاهر أنه تصحيف فإنه في الموطأ رواية القعنبي بالكاف.
وكذا أخرجه الدارقطني من حديث مالك من طريق القتبي وغيره.
( فأعي ما يقول) زاد أبو عوانة: وهو أهونه عليَّ، وعبر هنا بالاستقبال وفيما قبله بالماضي لأن الوحي حصل في الأول قبل الفصم.
وفي الثاني حال المكالمة أو أنه في الأول تلبس بصفات الملكية فإذا عاد إلى جبلته كان حافظًا لما قيل له فعبر بالماضي بخلاف الثاني فإنه على حالته المعهودة وأورد على مقتضى هذا الحديث من حصر الوحي في الحالتين حالات أخرى، أما من صفة الوحي بمجيئه كدوي النحل والنفث في الروع والإلهام والرؤيا الصالحة والتكليم ليلة الإسراء بلا واسطة وأما في صفة حامل الوحي كمجيئه في صورته التي خلق عليها له ستمائة جناح ورؤيته على كرسي بين السماء والأرض وقد سد الأفق، والجواب منع الحصر في الحالين وحملهما على الغالب أو حمل ما يغايرهما على أنه وقع بعد السؤال أولم يتعرض لصفتي الملك المذكورتين لندورهما؛ فقد ثبت عن عائشة أنه لم يره كذلك إلا مرتين، أو لم يأته في تلك الحالة بوحي أو أتاه به وكان على مثل صلصلة الجرس، فإنه بين بها صفة الوحي لا صفة حامله.
وأما فنون الوحي فدوي النحل لا يعارض صلصلة الجرس لأن سماع الدوي بالنسبة إلى الحاضرين كما في حديث عمر: يُسمع عنده دوي كدوي النحل.
والصلصلة بالنسبة إليه صلى الله عليه وسلم فشبهه عمر بدوي النحل بالنسبة إلى السامعين وشبهه هو صلى الله عليه وسلم بصلصلة الجرس بالنسبة إلى مقامه.

وأما النفث في الروع فيحتمل أن يرجع إلى إحدى الحالتين فإذا أتاه في مثل الصلصلة نفث حينئذ في روعه.
وأما الإلهام فلم يقع السؤال عنه لأنه وقع عن صفة الوحي الذي يأتي بحامل، وكذا التكليم ليلة الإسراء.
وأما الرؤيا الصالحة فقال ابن بطال: لا ترد لأن السؤال وقع عما ينفرد به عن الناس والرؤيا قد يشاركه فيها غيره انتهى.
والرؤيا الصادقة وإن كانت جزءًا من النبوة فهي باعتبار صدقها لا غير، وإلا لساغ أن يسمى صاحبها نبيًا وليس كذلك، ويحتمل أن السؤال وقع عما في اليقظة ولكون حال المنام لا يخفى على السائل اقتصر على ما يخفى عليه أو كان ظهور ذلك له صلى الله عليه وسلم في المنام أيضًا على الوجهين المذكورين لا غير، قاله الكرماني وفيه نظر.
وقد ذكر الحليمي أن الوحي كان يأتيه على ستة وأربعين نوعًا فذكرها وغالبها من صفات حامل الوحي ومجموعها يدخل فيما ذكر انتهى.

( قالت عائشة) بالإسناد السابق وإن كان بغير حرف عطف.
وقد أخرجه الدارقطني من طريق عتيق بن يعقوب عن مالك عن هشام عن أبيه عنها مفصولاً عن الحديث الأول، وكذا فصلهما مسلم من طريق أبي أسامة عن هشام ونكتته هنا اختلاف التحمل لأنها في الأول أخبرت عن مسألة الحارث، وفي الثاني أخبرت عما شاهدته تأييدًا للخبر الأول ( ولقد رأيته) بواو القسم واللام للتأكيد، أي والله لقد أبصرته ( ينزل) بفتح أوله وكسر ثالثه وفي رواية بضم أوله وفتح ثالثه ( عليه الوحي في اليوم الشديد البرد) الشديد صفة جرت على غير من هي له لأنه صفة البرد لا اليوم ( فيفصم) بفتح الياء وكسر الصاد، أو بضمها وكسر الصاد: من أفصم رباعي وهي لغة قليلة، أو مبني للمجهول روايات كما مر أي يقلع ( عنه وإن جبينه ليتفصد) بالياء ثم التاء وفاء وصاد مهملة ثقيلة من الفصد؛ وهو قطع العرق لإسالة الدم شبه جبينه بالعرق المفصود مبالغة في الكثرة أي ليسيل ( عرقا) تمييز.
زاد ابن أبي الزناد عن هشام بهذا الإسناد عند البيهقي: وإن كان ليوحى إليه وهو على ناقته فتضرب جرانها من ثقل ما يوحى إليه.
وفيه دلالة على كثرة معاناة التعب والكرب عند نزول الوحي لمخالفة العادة وهو كثرة العرق في شدة البرد فيشعر بأمر طارئ زائد على الطباع البشرية.

وحكى العسكري في كتاب التصحيف عن بعض شيوخه: ليتقصد بالقاف من التقصيد.
قال العسكري: فإن ثبت فهو من قولهم تقصد الشيء: إذا تكسر وتقطع، ولا يخفى بعده انتهى.
وقد وقع في هذا التصحيف أبو الفضل بن طاهر فرده عليه المؤتمن الساجي بالفاء فأصر على القاف.
وذكر الذهبي عن ابن ناصر أنه رد على ابن طاهر لما قرأها بالقاف قال: فكابرني قلت: ولعله وجهه بما قال العسكري.

وأخرجه البخاري عن عبد الله بن يوسف عن مالك به وتابعه ابن عيينة وغيره عن هشام في الصحيحين.

( مالك عن هشام بن عروة عن أبيه أنه قال) لم تختلف الرواة عن مالك في إرساله.
وأخرجه الترمذي من رواية سعيد بن يحيى بن سعيد عن أبيه عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت: ( أنزلت عبس وتولى في عبد الله ابن أم مكتوم) القرشي العامري من بني عامر بن لؤي، وقيل اسمه عمرو بفتح العين وهو الأكثر، وهو ابن قيس بن زائدة بن الأصم، ومنهم من قال: عمرو بن زائدة نسبه لجده ويقال: كان اسمه الحصين فسماه النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله، حكاه ابن حبان.
وقال ابن سعد أهل المدينة يقولون: اسمه عبد الله.
وأهل العراق يقولون: اسمه عمرو.
واسم أمه أم مكتوم: عاتكة بنت عبد الله المخزومية.
أسلم قديمًا بمكة وكان من المهاجرين الأولين قدم المدينة قبل أن يهاجر النبي صلى الله عليه وسلم على الأصح، وقيل بعد وقعة بدر بقليل.
وروى جماعة من أهل العلم بالنسب والسير أنه صلى الله عليه وسلم استخلفه ثلاث عشرة مرة.
وله حديث في السنن وخرج إلى القادسية فشهد القتال فاستشهد وقيل: بل شهدها ورجع إلى المدينة فمات بها ولم يسمع له ذكر بعد عمر بن الخطاب وفيه نزل { { غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ } } كما في البخاري و { { عَبَسَ وَتَوَلَّى } }

( جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم) بمكة ( فجعل يقول يا محمد) قبل النهي عن ندائه باسمه لأنه نزل بالمدينة ( استدنيني) بياء بين النونين.
ورواه ابن وضاح استدنني بحذفها: أي أشر لي إلى موضع قريب منك أجلس فيه ( وعند النبي صلى الله عليه وسلم رجل من عظماء) جمع عظيم ( المشركين) هو أبي بن خلف، رواه أبو يعلى عن أنس.
ولابن جرير عن ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم كان يناجي عتبة بن ربيعة وأبا جهل والعباس.
وله من مرسل قتادة: وهو يناجي أمية بن خلف.
وحكى ذلك كله ابن عبد البر والباجي خلافًا في تفسير المبهم وزاد قولاً إنه شيبة بن ربيعة.
( فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يعرض عنه) ثقة بما في قلبه من الإسلام لا سيما والذي طلبه من التفقه في الدين لا يفوت.
ففي حديث ابن عباس فقال علمني مما علمك الله فأعرض عنه ( ويقبل على الآخر) رجاء إسلامه لأنه كان يحب إسلام الخلق إذ هو مأمور بالإنذار وبالدعاء إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة ( ويقول يا أبا فلان) خاطبه بالكنية استئلافًا ( هل ترى بما أقول بأسًا فيقول لا والدماء) بالمد.
قال ابن عبد البر: رواية طائفة عن مالك بضم الدال، أي الأصنام التي كانوا يعبدون ويعظمون واحدتها دمية، وطائفة بكسر الدال أي دماء الهدايا التي كانوا يذبحونها بمنى لآلهتهم قال توبة بن الحمير:

عليّ دماء البدن إن كان بعلها
يرى لي ذنبًا غير أني أزورها

وقال آخر:

أما ودماء المزجيات إلى منى
لقد كفرت أسماء غير كفور

( ما أرى بما تقول بأسا) شدة بل هو روح الأرواح ( فأنزلت { { عَبَسَ وَتَوَلَّى } } ) أعرض { { أَن جَاءَهُ الأعْمَى } } زاد أبو يعلى عن أنس فكان النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك يكرمه وفي حديث ابن عباس فكان إذا نظر إليه بعد ذلك مقبلاً بسط إليه رداءه حتى يجلسه عليه.
وكان إذا خرج من المدينة استخلفه يصلي بالناس حتى يرجع.
وقالت عائشة عاتب الله نبيه في سورة عبس قالت: ولو كتم من الوحي شيئًا لكتم هذا.
وإنما حصلت صورة العتاب مع أن فعله صلى الله عليه وسلم كان طاعة لربه وتبليغًا عنه واستئلافًا له كما شرعه له لأن ابن أم مكتوم بسبب عماه استحق مزيد الرفق والمستفاد من الآية إعلام الله تعالى بأن ذلك المتصدي له لا يتزكى، وأنه لو كشف له حال الرجلين لاختار الإقبال على الأعمى ففيه الحث على الترحيب بالفقراء والإقبال عليهم في مجالس العلم وقضاء حوائجهم وعدم إيثار الأغنياء عليهم.
وفي الحديث الاعتناء بعلم السير وما ارتبط بها من علم نزول القرآن ومتى نزل وفيمن نزل وإنه لحسن.

( مالك عن زيد بن أسلم) العدوي مولاهم المدني ( عن أبيه) أسلم مولى عمر ثقة مخضرم مات سنة ثمانين وهو ابن أربع عشرة ومائة سنة ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسير في بعض أسفاره) هو سفر الحديبية كما في حديث ابن مسعود عند الطبراني.
قال ابن عبد البر هذا الحديث مرسل إلا أنه محمول على الاتصال لأن أسلم رواه عن عمرو.
وقد رواه جماعة عن مالك عن زيد بن أسلم عن أبيه عن عمر موصولاً انتهى.

وأخرجه البخاري والترمذي والنسائي من طرق عن مالك به.
قال الحافظ: هذا السياق صورته الإرسال لأن أسلم لم يدرك زمان هذه القصة لكنه محمول على أنه سمعه من عمر لقوله في أثنائه قال عمر: فحركت بعيري.
وقد جاء من طريق أخرى سمعت عمر.
أخرجه البزار من طريق محمد بن خالد بن عثمة عن مالك ثم قال: لا نعلم رواه عن مالك هكذا إلا ابن عثمة وابن غزوان ورواية ابن غزوان أخرجها أحمد عنه.
وأخرجه الدارقطني في الغرائب من طريق محمد بن حرب ويزيد بن أبي حكيم وإسحاق الحنيني كلهم عن مالك على الاتصال.

( وعمر بن الخطاب يسير معه ليلاً) ففيه إباحة السير على الدواب ليلاً وحمله العلماء على من لا يمشي بها نهارًا أو قل مشيه بها نهارًا لأنه صلى الله عليه وسلم أمر بالرفق بها والإحسان إليها قاله أبو عمر ( فسأله عمر عن شيء فلم يجبه) لاشتغاله صلى الله عليه وسلم بالوحي ( ثم سأله) ثانيًا ( فلم يجبه ثم سأله) ثالثًا ( فلم يجبه) ولعله ظن أنه لم يسمعه ( فقال عمر ثكلتك) بفتح المثلثة وكسر الكاف أي فقدتك ( أمك) يا ( عمر) فهو منادى بحذف الياء وثبتت في رواية دعا على نفسه بسبب ما وقع منه من الإلحاح خوف غضبه وحرمان فائدته قال أبو عمر: قلما أغضب عالم إلا حرمت فائدته.
وقال ابن الأثير دعا على نفسه بالموت والموت يعم كل أحد فإذا الدعاء كلا دعاء ( نزرت) بفتح النون والزاي مخففة فراء ساكنة ( رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي ألححت عليه وبالغت في السؤال، أو راجعته أو أتيته بما يكره من سؤالك.
وفي رواية بتشديد الزاي وهو على المبالغة أي أقللت كلامه إذ سألته ما لا يحب أن يجيب عنه والتخفيف هو الوجه.
قال الحافظ أبو ذر الهروي: سألت عنه ممن لقيت أربعين فما قرؤه قط إلا بالتخفيف.
( ثلاث مرات كل ذلك لا يجيبك) ففيه أن سكوت العالم يوجب على المتعلم ترك الإلحاح عليه وإن له أن يسكت عما لا يريد أن يجيب فيه.

( قال عمر فحركت بعيري حتى إذا كنت أمام) بالفتح قدام ( الناس وخشيت أن ينزل في) بشد الياء ( قرآن فما نشبت) بفتح النون وكسر المعجمة وسكون الموحدة ففوقية فما لبثت وما تعلقت بشيء ( أن سمعت صارخًا) لم يسم ( يصرخ بي قال) عمر ( فقلت لقد خشيت أن يكون نزل في قرآن) قال أبو عمر: أرى أنه عليه السلام أرسل إلى عمر يؤنسه ويدل على منزلته عنده ( قال) عمر ( فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلمت عليه فقال) بعد رد السلام ( لقد أنزلت علي هذه الليلة سورة لهي) بلام التأكيد ( أحب إلي مما طلعت عليه الشمس) لما فيها من البشارة بالمغفرة والفتح وغيرهما وأفعل قد لا يراد بها المفاضلة ( ثم قرأ { { إنا فتحنا لك فتحا مبينا } } ) قال ابن عباس وأنس والبراء هو فتح الحديبية ووقوع الصلح.

قال الحافظ فإن الفتح لغة فتح المغلق والصلح كان مغلقًا حتى فتحه الله.
وكان من أسباب فتحه صد المسلمين عن البيت فكانت الصورة الظاهرة ضيمًا للمسلمين والباطنة عزًا لهم فإن الناس للأمن الذي وقع فيهم اختلط بعضهم ببعض من غير نكير، وأسمع المسلمون المشركين القرآن وناظروهم على الإسلام جهرة آمنين، وكانوا قبل ذلك لا يتكلمون عندهم بذلك إلا خفية فظهر من كان يخفي إسلامه فذل المشركون من حيث أرادوا العزة وقهروا من حيث أرادوا الغلبة.
وقيل هو فتح مكة نزلت مرجعه من الحديبية عدة له بفتحها وأتى به ماضيًا لتحقق وقوعه وفيه من الفخامة والدلالة على علو شأن المخبر به ما لا يخفى وقيل المعنى قضينا لك قضاء بينًا على أهل مكة أن تدخلها أنت وأصحابك قابلاً من الفتاحة وهي الحكومة والحق أنه يختلف باختلاف المراد من الآيات فالمراد بقوله تعالى: { { إنا فتحنا لك } } فتح الحديبية لما ترتب على الصلح من الأمن ورفع الحرب وتمكن من كان يخشى الدخول في الإسلام والوصول إلى المدينة منه وتتابع الأسباب إلى أن كمل الفتح.

وأما قوله: { { وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا } } فالمراد فتح خيبر على الصحيح لأنها هي التي وقع فيها مغانم كثيرة للمسلمين وأما قوله: { { إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ } } وقوله لا هجرة بعد الفتح ففتح مكة باتفاق فبهذا يرتفع الإشكال وتجتمع الأقوال انتهى.
قال ابن عبد البر: أدخل مالك هذا الحديث في باب ما جاء في القرآن تعريفًا بأنه ينزل في الأحيان على قدر الحاجة وما يعرض انتهى.
ولإفادة أن منه ليليٌّ ورواه البخاري في المغازي عن عبد الله بن يوسف وفي التفسير عن عبد الله بن مسلمة القعنبي كلاهما عن مالك به.

( مالك عن يحيى بن سعيد) الأنصاري التابعي ولجده قيس صحبة ( عن محمد بن إبراهيم بن الحارث) بن خالد القرشي ( التيمي) تيم قريش أبي عبد الله المدني مات سنة عشرين ومائة على الصحيح وجده الحارث من المهاجرين الأولين ( عن أبي سلمة بن عبد الرحمن) بن عوف الزهري المدني ( عن أبي سعيد) سعد بن مالك بن سنان الخدري الصحابي ابن الصحابي ( قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يخرج فيكم) أنفسكم يعني أصحابه أي يخرج عليكم ( قوم) هم الذين خرجوا على علي بن أبي طالب يوم النهروان فقتلهم فهم أصل الخوارج.
وأول خارجة خرجت إلا أن منهم طائفة كانت ممن قصد المدينة يوم الدار في قتل عثمان وسموا خوارج من قوله يخرج قاله في التمهيد.
( تحقرون) بكسر القاف تستقلون ( صلاتكم مع صلاتهم وصيامكم مع صيامهم) لأنهم كانوا يصومون النهار ويقومون الليل، وللطبراني عن ابن عباس في قصة مناظرته للخوارج قال: فأتيتهم فدخلت على قوم لم أر أشد اجتهادًا منهم ( وأعمالكم مع أعمالهم) من عطف العام على الخاص كقوله: { { وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ } } ( يقرؤون القرآن) آناء الليل والنهار.
وفي رواية للبخاري يتلون كتاب الله رطبًا أي لمواظبتهم على تلاوته فلا يزال لسانهم رطبًا بها أو هو من تحسين الصوت بها ( ولا يجاوز حناجرهم) جمع حنجرة، وهي آخر الحلق مما يلي الفم.
وقيل أعلى الصدر عند طرف الحلقوم والمعنى أن قراءتهم لا يرفعها الله ولا يقبلها وقيل لا يعملون بالقرآن فلا يثابون على قراءتهم فلا يحصل لهم إلا سرده.
وقيل: لا تفقهه قلوبهم ويحملونه على غير المراد به فلا حظ لهم منه إلا مروره على لسانهم لا يصل إلى حلوقهم، فضلاً عن أن يصل إلى قلوبهم فلا يتدبروه بها.

وقال ابن رشيق: المعنى لا ينتفعون بقراءته كما لا ينتفع الآكل والشارب من المأكول والمشروب إلا بما يجاوز حنجرته قال ابن عبد البر: وكانوا لتكفيرهم الناس لا يقبلون خبر أحد عن النبي صلى الله عليه وسلم فلم يعرفوا بذلك شيئًا من سنته وأحكامه المبينة لمجمل القرآن والمخبرة عن مراد الله تعالى في خطابه ولا سبيل إلى المراد بها إلا ببيان رسوله، ألا ترى إلى قوله: { { وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ } } والصلاة والزكاة والحج والصوم وسائر الأحكام إنما ذكرت في القرآن مجملة بينتها السنة فمن لم يقبل أخبار العدول ضل وصار في عمياء.

( يمرقون) بضم الراء يخرجون سريعًا ( من الدين) قيل المراد الإسلام فهو حجة لمن كفر الخوارج، وبه جزم ابن العربي في الأحوذي محتجًا برواية البخاري يمرقون من الإسلام.
وقيل المراد الطاعة فلا حجة فيه لكفرهم.
قال الحافظ: والذي يظهر أن المراد بالدين الإسلام كما في الرواية الأخرى وخرج الكلام مخرج الزجر وأنهم بفعلهم ذلك يخرجون من الإسلام الكامل ( مروق السهم) وفي رواية كما يمرق السهم ( من الرمية) بفتح الراء وكسر الميم وشد التحتية، وهي الطريدة من الصيد فعيلة من الرمي بمعنى مفعولة، دخلتها الهاء إشارة إلى نقلها من الوصفية إلى الإسمية شبه مروقهم من الدين بالسهم الذي يصيب الصيد فيدخل فيه ويخرج منه ومن شدة سرعة خروجه لقوة الرامي لا يعلق من جسد الصيد بشيء ( تنظر) أيها الرامي ( في النصل) بنون فصاد حديدة السهم هل ترى فيه شيئًا من أثر الصيد دم أو نحوه ( فلا ترى شيئا) فيه ( وتنظر في القدح) بكسر القاف وسكون الدال وحاء مهملتين خشب السهم أو ما بين الريش والسهم هل ترى أثرًا ( فلا ترى شيئا) فيه ( وتنظر في الريش) الذي على السهم ( فلا ترى شيئا) فيه ( وتتمارى) بفتح الفوقيتين أي تشك ( في الفوق) بضم الفاء وهو موضع الوتر من السهم أي نتشكك هل علق به شيء من الدم.
وفي رواية وينظر ويتمارى بالتحتية أي الرامي، والمعنى أن هؤلاء يخرجون من الإسلام بغتة كخروج السهم إذا رماه رام قوي الساعد فأصاب ما رماه فنفذ بسرعة بحيث لا يعلق بالسهم ولا بشيء منه من المرمى شيء فإذا التمس الرامي سهمه لم يجده علق بشيء من الدم ولا غيره.

وفي رواية ابن ماجه والطبراني: سيخرج قوم من الإسلام خروج السهم من الرمية عرضت للرجال فرموها فانمرق سهم أحدهم منها فخرج فأتاه فنظر إليه فإذا هو لم يتعلق بنصله من الدم شيء ثم نظر إلى القدح الحديث، زاد في رواية الشيخين من وجه آخر عن أبي سعيد آيتهم رجل أسود إحدى عضديه مثل ثدي المرأة أو مثل البضعة ويخرجون على خير فرقة من الناس.
قال أبو سعيد: فأشهد أني سمعت هذا الحديث من رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن علي بن أبي طالب قتلهم وأنا معه فأمر بذلك الرجل فالتمس فأتي به حتى نظرت إليه على نعت النبي صلى الله عليه وسلم الذي نعته.
وفي رواية مسلم فلما قتلهم علي قال: انظروا فلم ينظروا شيئًا فقال: ارجعوا فوالله ما كذبت ولا كذبت - مرتين أو ثلاثًا - ثم وجدوه في خربة.

قال الباجي: أجمع العلماء أن المراد بهذا الحديث الخوارج الذين قاتلهم علي.
وفي التمهيد يتمارى في الفوق أي يشك وذلك يوجب أن لا يقطع على الخوارج ولا على غيرهم من أهل البدع بالخروج من الإسلام، وأن يشك في أمرهم وكل شيء يشك فيه فسبيله التوقف فيه دون القطع.
وقد قال فيهم رسول الله: يخرج قوم من أمتي، فإن صحت هذه اللفظة فقد جعلهم من أمته.
وقال قوم: معناه من أمتي بدعواهم.
وقال علي: لم نقاتل أهل النهروان على الشرك.
وسئل عنهم أكفار هم؟ قال: من الكفر فروا قيل: فمنافقون؟ قال: إن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلاً قيل: فما هم؟ قال: قوم أصابتهم فتنة فعموا فيها وصموا وبغوا علينا وحاربونا وقاتلونا فقتلناهم.
قال إسماعيل القاضي: رأى مالك قتل الخوارج وأهل القدر للفساد الداخل في الدين وهو من باب الإفساد في الأرض، وليس إفسادهم بدون إفساد قطاع الطريق والمحاربين المسلمين على أموالهم، فوجب بذلك قتلهم لكنه يرى استتابتهم لعلهم يراجعون الحق فإن تمادوا قتلوا على إفسادهم لا على كفرهم وهذا قول عامة الفقهاء الذين يرون قتلهم واستتابتهم.

وذهب أبو حنيفة والشافعي وجمهور الفقهاء وكثير من المحدثين إلى أنه لا يتعرض لهم باستتابة ولا غيرها ما استتروا ولم يبغوا ولم يحاربوا، وقالت طائفة من المحدثين: هم كفار على ظواهر الأحاديث ولكن يعارضها غيرها فيمن لا يشرك بالله شيئًا ويريد بعمله وجهه وإن أخطأ في حكمه واجتهاده والنظر يشهد أن الكفر لا يكون إلا بضد الحال التي يكون بها الإيمان، فهما ضرتان انتهى ملخصًا.
وبالغ الخطابي فقال: أجمع علماء المسلمين على أن الخوارج على ضلالتهم فرقة من المسلمين وأجازوا مناكحتهم وأكل ذبائحهم وقبول شهادتهم.

وهذا الحديث أخرجه البخاري في التفسير حدثنا عبد الله بن يوسف عن مالك به.

( مالك أنه بلغه أن عبد الله بن عمر مكث على سورة البقرة ثماني سنين يتعلمها) ليس ذلك لبطء حفظه معاذ الله بل لأنه كان يتعلم فرائضها وأحكامها وما يتعلق بها فقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم كراهة الإسراع في حفظ القرآن دون التفقه فيه.
ولعل ابن عمر خلط مع ذلك من العلم أبوابًا غيرها، وإنما ذلك مخافة أن يتأوله على غير تأويله قاله الباجي.
ونحوه قول أبي عمر لأنه كان يتعلمها بأحكامها ومعانيها وأخبارها وهذا البلاغ أخرجه ابن سعد في الطبقات عن عبد الله بن جعفر عن أبي المليح عن ميمون أن ابن عمر تعلم البقرة في ثمان سنين وأخرج الخطيب في رواية مالك عن ابن عمر قال: تعلم عمر البقرة في اثنتي عشرة سنة فلما ختمها نحر جزورًا.



رقم الحديث 482 وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِنَّمَا مَثَلُ صَاحِبِ الْقُرْآنِ، كَمَثَلِ صَاحِبِ الْإِبِلِ الْمُعَقَّلَةِ إِنْ عَاهَدَ عَلَيْهَا، أَمْسَكَهَا.
وَإِنْ أَطْلَقَهَا ذَهَبَتْ.


مَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ

( مَالِكٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ) محمد بن مسلم الزهري ( عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ) بن العوام ( عن عبد الرحمن بن عبد) بلا إضافة ( القارئ) بشد الياء نسبة إلى القارة بطن من خزيمة بن مدركة من كبار التابعين، وعد في الصحابة لكونه أتي به للنبي صلى الله عليه وسلم وهو صغير كما أخرجه أبو القاسم البغوي في معجم الصحابة بإسناد لا بأس به.

( أنه قال سمعت عمر بن الخطاب يقول سمعت هشام بن حكيم بن حزام) بكسر المهملة وزاي ابن خويلد بن أسد القرشي الأسدي صحابي ابن صحابي ومات قبل أبيه ووهم من زعم أنه استشهد بأجنادين ( يقرأ سورة الفرقان) وغلط من قال: سورة الأحزاب ( على غير ما أقرؤها وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أقرأنيها) وفي رواية عقيل عن ابن شهاب فإذا هو يقرؤها على حروف كثيرة لم يقرئنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قال ابن عبد البر: ففي هذه الرواية بيان أن اختلافهما كان في حروف من السورة لا في السورة كلها، وهي تفسير لرواية مالك لأن سورة واحدة لا تقرأ حروفها كلها على سبعة أوجه، بل لا يوجد في القرآن كلمة تقرأ على سبعة أوجه إلا قليل من كثير مثل: { { رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا } } { { وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ } } و { { الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا } } و { { بِعَذَابٍ بَئِيسٍ } } ونحوه ( فكدت أن أعجل عليه) بفتح الهمزة وسكون العين وفتح الجيم وفي رواية أعجل بضم الهمزة وفتح العين وكسر الجيم مشددة أي أخاصمه وأظهر بوادر غضبي عليه ( ثم أمهلته حتى انصرف) من الصلاة ففي رواية عقيل فكدت أساوره في الصلاة فتصبرت حتى سلم وأساوره بضم الهمزة وفتح المهملة أي آخذ برأسه أو أواثبه فليس المراد انصرف من القراءة كما زعم الكرماني ( ثم لببته) بموحدتين أولاهما مشددة وقال عياض التخفيف أعرف ( بردائه) أي أخذت بمجامعه وجعلته في عنقه وجررته به لئلا ينفلت مأخوذ من اللبة بفتح اللام لأنه يقبض عليها، وإنما فعل عمر ذلك اعتناء بالقرآن، وذبًا عنه، ومحافظة على لفظه كما سمعه من غير عدول إلى ما تجوزه العرب مع ما كان عليه من الشدة في الأمر بالمعروف، زاد في رواية عقيل فقلت من أقرأك هذه السورة التي سمعتك تقرأ؟ قال: أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: كذبت، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقرأنيها على غير ما قرأت وفيه إطلاق الكذب على غلبة الظن فإنه إنما فعل ذلك اجتهادًا منه لظنه أن هشامًا خالف الصواب وساغ له ذلك لرسوخ قدمه في الإسلام وسابقته بخلاف هشام فإنه من مسلمة الفتح فخشي أن لا يكون أتقن القراءة ولعل عمر لم يكن سمع حديث أنزل القرآن على سبعة أحرف قبل ذلك، ( فجئت به رسول الله صلى الله عليه وسلم) وفي رواية عقيل: فانطلقت به أقوده إلى رسول الله ( فقلت يا رسول الله إني سمعت هذا يقرأ سورة الفرقان على غير ما أقرأتنيها) وفي رواية عقيل على حروف لم تقرئنيها ( فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسله) بهمزة قطع أي: أطلقه لأنه كان ممسوكًا معه.
( ثم قال اقرأ) يا هشام ( فقرأ القراءة التي سمعته يقرأ) بها ( فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هكذا أنزلت ثم قال لي اقرأ) يا عمر ( فقرأتها) .
وفي رواية عقيل: فقرأت القراءة التي أقرأني ( فقال هكذا أنزلت) .
ثم قال صلى الله عليه وسلم تطييبًا لقلب عمر لئلا ينكر تصويب الأمرين المختلفين ( إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف) جمع حرف مثل فلس وأفلس.
( فاقرؤوا ما تيسر منه) أي المنزل بالسبعة ففيه إشارة إلى أن حكمة التعدد التيسير على القارئ ولم يقع في شيء من الطرق تفسير الأحرف التي اختلف فيها عمر وهشام من سورة الفرقان، نعم اختلف الصحابة فمن دونهم في أحرف كثيرة من هذه السورة كما بينه في التمهيد بما يطول، ووقع لجماعة من الصحابة نظير ما وقع لعمر مع هشام كأبي بن كعب مع ابن مسعود في سورة النحل.
وعمرو بن العاصي مع رجل في آية من الفرقان عند أحمد.
وابن مسعود مع رجل في سورة من آل حم.

رواه ابن حبان والحاكم.
وأما حديث سمرة رفعه أنزل القرآن على ثلاثة أحرف رواه الحاكم قائلاً: تواترت الأخبار بالسبعة إلا في هذا الحديث فقال أبو شامة: يحتمل أن بعضه أنزل على ثلاثة أحرف كجذوة والرهب أو أراد أنزل ابتداء على ثلاثة أحرف ثم زيد إلى سبعة توسعة على العباد، والأكثر أنها محصورة في السبعة.
وقيل: ليس المراد حقيقة العدد بل التسهيل والتيسير والشرف والرحمة وخصوصية الفضل لهذه الأمة فإن لفظ سبعة يطلق على إرادة الكثرة في الآحاد كما يطلق السبعون في العشرات، والسبعمائة في المئين.
ولا يراد العدد المعين وإلى هذا جنح عياض ومن تبعه ورد بحديث ابن عباس في الصحيحين: أقرأني جبريل على حرف فراجعته فلم أزل أستزيده ويزيدني حتى انتهى إلى سبعة أحرف.

وفي حديث أبي عند مسلم: إن ربي أرسل إلي أن أقرأ القرآن على حرف فرددت عليه أن هون على أمتي فأرسل إلي أن أقرأه على سبعة أحرف وللنسائي إن جبريل وميكائيل أتياني فقعد جبريل على يميني وميكائيل على يساري فقال جبريل: اقرأ القرآن على حرف فقال ميكائيل استزده حتى بلغ سبعة أحرف.
وفي حديث أبي بكرة عند أحمد فنظرت إلى ميكائيل فسكت فعلمت أنه قد انتهت العدة فهذا يدل على إرادة حقيقة العدد وانحصاره.
واختلف في ذلك على نحو أربعين قولاً أكثرها غير مختار.

قال ابن العربي: لم يأت في ذلك نص ولا أثر.
وقال أبو جعفر محمد بن سعدان النحوي: هذا من المشكل الذي لا يدرى معناه لأن الحرف يأتي لمعان للهجاء وللكلمة وللمعنى والجهة انتهى.
وأقربها قولان أحدهما: أن المراد سبع لغات وعليه أبو عبيدة وثعلب والزهري وآخرون، وصححه ابن عطية والبيهقي وتعقب بأن لغات العرب أكثر من سبعة.
وأجيب بأن المراد أفصحها، والثاني: أن المراد سبعة أوجه من المعاني المتفقة بألفاظ مختلفة نحو أقبل وتعال وهلم وعجل وأسرع.
وعليه سفيان بن عيينة وابن وهب وخلائق.
ونسبه ابن عبد البر لأكثر العلماء لكن الإباحة المذكورة لم تقع بالتشهي وهو أن كل واحد يغير الكلمة بمرادفها من لغته بل ذلك مقصور على السماع منه صلى الله عليه وسلم كما يشير إليه قول كل من عمر وهشام أقرأني النبي صلى الله عليه وسلم.
ولئن سلم إطلاق الإباحة بقراءة المرادف ولو لم يسمع لكن إجماع الصحابة زمن عثمان الموافق للعرضة الأخيرة يمنع ذلك.
واختلف هل السبعة باقية إلى الآن يقرأ بها أم كان ذلك ثم استقر الأمر على بعضها؟ ذهب الأكثر إلى الثاني كابن عيينة وابن وهب والطبري والطحاوي.
وهل استقر ذلك في الزمن النبوي أم بعده؟ الأكثر على الأول.
واختاره الباقلاني وابن عبد البر وابن العربي وغيرهم لأن ضرورة اختلاف اللغات ومشقة نطقهم بغير لغتهم اقتضت التوسعة عليهم في أول الأمر، فأذن لكل أن يقرأ على حرفه أي على طريقته في اللغة حتى انضبط الأمر وتدربت الألسن وتمكن الناس من الاقتصار على لغة واحدة فعارض جبريل النبي صلى الله عليه وسلم القرآن مرتين في السنة الأخيرة.
واستقر على ما هو عليه الآن فنسخ الله تلك القراءة المأذون فيها بما أوجبه من الاقتصار على هذه القراءة التي تلقاها الناس.

قال أبو شامة: ظن قوم أن المراد القراءات السبع الموجودة الآن، وهو خلاف إجماع العلماء وإنما يظن ذلك بعض أهل الجهل.
وقال مكي بن أبي طالب: من ظن أن قراءة هؤلاء كعاصم ونافع هي الأحرف السبعة التي في الحديث فقد غلط غلطًا عظيمًا، ويلزم منه أن ما خرج عن قراءتهم مما ثبت عن الأئمة وغيرهم ووافق خط المصحف أن لا يكون قرآنًا وهذا غلط عظيم.
وقد بين الطبري وغيره أن اختلاف القراء إنما هو حرف واحد من السبعة.

وهذا الحديث أخرجه البخاري عن عبد الله بن يوسف ومسلم عن يحيى بن يحيى كلاهما عن مالك به.

( مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إنما مثل صاحب القرآن) أي الذي ألف تلاوته - والمصاحبة المؤالفة - ومنه فلان صاحب فلان وأصحاب الجنة وأصحاب النار وأصحاب الحديث وأصحاب الرأي وأصحاب الصفة وأصحاب إبل وغنم وأصحاب كنز وعبادة قاله عياض.
( كمثل صاحب الإبل المعقلة) بضم الميم وفتح العين المهملة والقاف الثقيلة أي المشدودة بالعقال، وهو الحبل الذي يشد في ركبة البعير.
( إن عاهد عليها أمسكها) أي استمر إمساكه لها ( وإن أطلقها) من عقلها ( ذهبت) أي انفلتت.
والحصر في إنما حصر مخصوص بالنسبة إلى النسيان والحفظ بالتلاوة والترك شبه درس القرآن واستمرار تلاوته بربط البعير الذي يخشى منه أن يشرد فمادام التعاهد موجودًا فالحفظ موجود، كما أن البعير مادام مشدودًا بالعقال فهو محفوظ.
وخص الإبل بالذكر لأنها أشد الحيوانات الإنسية نفارًا.
وفيه حض على درس القرآن وتعاهده.

وفي الصحيح مرفوعًا: تعاهدوا القرآن فوالذي نفسي بيده لهو أشدّ تفصيًا من الإبل في عقلها.
وقال صلى الله عليه وسلم: من تعلم القرآن ثم نسيه لقي الله يوم القيامة أجزم أي منقطع الحجة.
وقال: عرضت عليَّ أجوار أمتي حتى القذاة يخرجها الرجل من المسجد.
وعرضت عليّ ذنوب أمتي فلم أر ذنبًا أعظم من سورة من القرآن أو آية من القرآن أوتيها رجل ثم نسيها.
وفي الصحيحين عن ابن مسعود مرفوعًا: بئس ما لأحدكم أن يقول نسيت آية كيت وكيت، بل هو نُسِّي فإنه أشد تفصيًا من صدور الرجال من النعم.

قال ابن عبد البر: فكره أن يقول نسيت وأباح أن يقول أنسيت قال تعالى: { { وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطَانُ } } وقال ابن عيينة: النسيان المذموم هو ترك العمل به وليس من انتهى حفظه وتفلت منه بناس له إذا عمل به، ولو كان كذلك ما نسي صلى الله عليه وسلم شيئًا منه قال تعالى: { { سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنسَى إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ } } وقال صلى الله عليه وسلم: ذكرني هذا آية أنسيتها.
قال ابن عبد البر وهذا معروف في لسان العرب قال تعالى: { { نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ } } أي تركوا طاعته فترك رحمتهم وقال تعالى: { { فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ } } أي تركوا.

والحديث رواه البخاري عن عبد الله بن يوسف ومسلم عن يحيى كلاهما عن مالك به.

( مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أن الحارث بن هشام) المخزومي شقيق أبي جهل أسلم يوم الفتح، وكان من فضلاء الصحابة، واستشهد في فتوح الشام سنة خمس عشرة.
وقد تكتب الحارث بلا ألف تخفيفًا ( سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم) قال الحافظ: هكذا رواه الرواة عن عروة فيحتمل أن عائشة حضرت ذلك.
وعلى هذا اعتمد أصحاب الأطراف فأخرجوه في مسند عائشة.
ويحتمل أن الحارث أخبرها بذلك بعد فيكون من مرسل الصحابة وهو محكوم بوصله عند الجمهور ويؤيد الثاني ما رواه أحمد والبغوي وغيرهما من طريق عامر بن صالح الزبيري عن هشام عن أبيه عن عائشة عن الحارث بن هشام قال: سألت وعامر فيه ضعف لكن له متابع عند ابن منده والمشهور الأول ( كيف يأتيك الوحي) أي صفة الوحي نفسه أو صفة حامله أو أعم من ذلك.
وعلى كل تقدير فإسناد الإتيان إلى الوحي مجاز عقلي لأن الإتيان حقيقة من وصف حامله، ويسمى مجازًا في الإسناد للملابسة التي بين الحامل والمحمول، أو هو استعارة بالكناية شبه الوحي برجل وأضيف إلى المشبه الإتيان الذي هو من خواص المشبه به.
وفيه أن السؤال عن الكيفية لطلب الطمأنينة لا يقدح في اليقين وجواز السؤال عن أحوال الأنبياء من الوحي وغيره.

( فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أحيانًا) جمع حين يطلق على كثير الوقت وقليله والمراد هنا مجرد الوقت فكأنه قال أوقاتًا ونصب ظرفًا عامله ( يأتيني) مؤخر عنه وفيه أن المسئول عنه إذا كان ذا أقسام يذكر المجيب في أول جوابه ما يقتضي التفصيل ( في مثل صلصلة) بمهملتين مفتوحتين، بينهما لام ساكنة أصله صوت وقوع الحديد بعضه على بعض، ثم أطلق على كل صوت له طنين.
وقيل: صوت متدارك لا يدرك في أول وهلة ( الجرس) بجيم ومهملة: الجلجل الذي يعلق في رؤوس الدواب، واشتقاقه من الجرس بإسكان الراء، وهو الحس قيل الصلصلة صوت الملك بالوحي.
قال الخطابي: يريد أنه صوت متدارك يسمعه ولا يثبته أول ما يسمعه حتى يفهمه بعد ولما كان الجرس لا تحصل صلصلته إلا متداركة وقع التشبيه به دون غيره من آلات وقيل صوت حفيف أجنحة الملك والحكمة في تقدمه أن يقرع سمعه الوحي فلا يبقى فيه مكان لغيره.
( وهو أشده علي) لأن الفهم من كلام مثل الصلصلة أشدّ من الفهم من كلام الرجل بالتخاطب المعهود وفائدة هذه الشدة ما يترتب على المشقة من زيادة الزلفى والدرجات.
وأفهم أن الوحي كله شديد، وهذا أشده لأن العادة جرت بالمناسبة بين القائل والسامع، وهي هنا إما باتصاف السامع بوصف القائل فغلبت الروحانية وهو النوع الأول، وإما باتصاف القائل بوصف السامع وهو البشرية وهو النوع الثاني، والأول أشد بلا شك.

وقال السراج البلقيني: سبب ذلك أن الكلام العظيم له مقدمات تؤذن بتعظيمه للاهتمام به كما جاء في حديث ابن عباس وكان يعالج من التنزيل شدّة وقيل: كان ينزل هكذا إذا نزلت آية وعيد، قال الحافظ: وفيه نظر والظاهر أنه لا يختص بالقرآن كما في حديث يعلى بن أمية في قصة لابس الجبة المتضمخ بالطيب في الحج ففيه أنه رآه صلى الله عليه وسلم حالة نزول الوحي وأنه ليغط.

( فيفصم) بفتح التحتية وسكون الفاء وكسر المهملة، أي يقطع ( عني) ويتجلى ما يغشاني.
ويروى بضم أوله من الرباعي.
وفي رواية بضم أوله وفتح الصاد على البناء للمجهول، وأصل الفصم القطع ومنه قوله تعالى: { { لاَ انفِصَامَ لَهَا } } وقيل الفصم بالفاء القطع بلا إبانة وبالقاف القطع بإبانة فذكره يفصم بالفاء إشارة إلى أن الملك فارقه ليعود والجامع بينهما بقاء العلقة.
( وقد وعيت) بفتح العين حفظت ( ما قال) أي القول الذي جاء به، وفيه إسناد الوحي إلى قول الملك ولا معارضة بينه وبين قوله تعالى حكاية عن الكفار { { إِنْ هَذَا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ } } لأنهم كانوا ينكرون الوحي وينكرون مجيء الملك به، فإن قيل المحمود لا يشبه بالمذموم إذ حقيقة التشبيه إلحاق ناقص بكامل والمشبه الوحي والمشبه به صوت الجرس، وهو مذموم لصحة النهي عنه والتنفير من مرافقة ما هو معلق فيه والإعلام بأنهم لا تصحبهم الملائكة كما في مسلم وأبي داود وغيرهما.
فكيف شبه فعل الملك بأمر تنفر منه الملائكة؟ أجيب بأنه لا يلزم في التشبيه تساوي المشبه بالمشبه به في الصفات كلها بل ولا في أخص وصف له، بل يكفي اشتراكهما في صفة ما فالقصد هنا بيان الحس فذكر ما ألف السامعون سماعه تقريبًا لأفهامهم والحاصل أن الصوت له جهتان جهة قوة وبها وقع التشبيه وجهة طنين وبها وقع التنفير عنه وعلل بكونه مزمار الشيطان، واحتمال أن النهي عنه وقع بعد السؤال المذكور فيه نظر وهذا النوع شبيه بما يوحى إلى الملائكة كما في الصحيح مرفوعًا: إذا قضى الله في السماء أمرًا ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانًا لقوله كأنها سلسلة على صفوان فإذا فزع عن قلوبهم قالوا: ماذا قال ربكم؟ قالوا: الحق وهو العلي الكبير.
وللطبراني وابن أبي عاصم مرفوعًا: إذا تكلم الله في السماء بالوحي أخذت السماء رجفة أو رعدة شديدة من خوف الله، فإذا سمع أهل السماء صعقوا وخروا سجدًا، فيكون أولهم يرفع رأسه جبريل فيكلمه الله من وحيه بما أراد فينتهي به إلى الملائكة كلما مر بسماء سأله أهلها ماذا قال ربنا؟ قال: الحق فينتهي به حيث أمره الله من السماء والأرض.
ولابن مردويه مرفوعًا: إذا تكلم الله بالوحي يسمع أهل السماء صلصلة كصلصلة السلسلة على الصفوان فيفزعون.

( وأحيانا يتمثل) يتصور ( لي) أي لأجلي فاللام تعليلية ( الملك) جبريل كما في رواية ابن سعد فأل عهدية ( رجلا) نصب على المصدرية أي مثل رجل أو بهيئة رجل فهو حال وإن لم تؤول بمشتق لدلالة رجل على الهيئة بلا تأويل، أو على تمييز النسبة لا تمييز المفرد لأن الملك لا إبهام فيه وكون تمييز النسبة محولاً عن الفاعل كتصبب زيد عرقًا، أو المفعول كفجرنا الأرض عيونًا أمر غالب لا دائم بدليل امتلأ الإناء ماء، أو على المفعولية بتضمين يتمثل معنى يتخذ أي الملك رجلاً مثالاً، واستبعد من جهة المعنى لاتحاد المتخذ والمتخذ والإتيان بمثال بلا دليل قال المتكلمون: الملائكة أجسام علوية لطيفة تتشكل أي شكل أرادوا، وزعم بعض الفلاسفة أنها جواهر روحانية قال الحافظ: والحق أن تمثل الملك رجلاً ليس معناه أن ذاته انقلبت رجلاً، بل معناه أنه ظهر بتلك الصورة تأنيسًا لمن يخاطبه والظاهر أن القدر الزائد لا يزول ولا يفنى بل يخفى على الرائي فقط وتقدم مزيد لذلك في أول حديث.

( فيكلمني) بالكاف، وللبيهقي عن القعنبي: فيعلمني بالعين.
قال الحافظ: والظاهر أنه تصحيف فإنه في الموطأ رواية القعنبي بالكاف.
وكذا أخرجه الدارقطني من حديث مالك من طريق القتبي وغيره.
( فأعي ما يقول) زاد أبو عوانة: وهو أهونه عليَّ، وعبر هنا بالاستقبال وفيما قبله بالماضي لأن الوحي حصل في الأول قبل الفصم.
وفي الثاني حال المكالمة أو أنه في الأول تلبس بصفات الملكية فإذا عاد إلى جبلته كان حافظًا لما قيل له فعبر بالماضي بخلاف الثاني فإنه على حالته المعهودة وأورد على مقتضى هذا الحديث من حصر الوحي في الحالتين حالات أخرى، أما من صفة الوحي بمجيئه كدوي النحل والنفث في الروع والإلهام والرؤيا الصالحة والتكليم ليلة الإسراء بلا واسطة وأما في صفة حامل الوحي كمجيئه في صورته التي خلق عليها له ستمائة جناح ورؤيته على كرسي بين السماء والأرض وقد سد الأفق، والجواب منع الحصر في الحالين وحملهما على الغالب أو حمل ما يغايرهما على أنه وقع بعد السؤال أولم يتعرض لصفتي الملك المذكورتين لندورهما؛ فقد ثبت عن عائشة أنه لم يره كذلك إلا مرتين، أو لم يأته في تلك الحالة بوحي أو أتاه به وكان على مثل صلصلة الجرس، فإنه بين بها صفة الوحي لا صفة حامله.
وأما فنون الوحي فدوي النحل لا يعارض صلصلة الجرس لأن سماع الدوي بالنسبة إلى الحاضرين كما في حديث عمر: يُسمع عنده دوي كدوي النحل.
والصلصلة بالنسبة إليه صلى الله عليه وسلم فشبهه عمر بدوي النحل بالنسبة إلى السامعين وشبهه هو صلى الله عليه وسلم بصلصلة الجرس بالنسبة إلى مقامه.

وأما النفث في الروع فيحتمل أن يرجع إلى إحدى الحالتين فإذا أتاه في مثل الصلصلة نفث حينئذ في روعه.
وأما الإلهام فلم يقع السؤال عنه لأنه وقع عن صفة الوحي الذي يأتي بحامل، وكذا التكليم ليلة الإسراء.
وأما الرؤيا الصالحة فقال ابن بطال: لا ترد لأن السؤال وقع عما ينفرد به عن الناس والرؤيا قد يشاركه فيها غيره انتهى.
والرؤيا الصادقة وإن كانت جزءًا من النبوة فهي باعتبار صدقها لا غير، وإلا لساغ أن يسمى صاحبها نبيًا وليس كذلك، ويحتمل أن السؤال وقع عما في اليقظة ولكون حال المنام لا يخفى على السائل اقتصر على ما يخفى عليه أو كان ظهور ذلك له صلى الله عليه وسلم في المنام أيضًا على الوجهين المذكورين لا غير، قاله الكرماني وفيه نظر.
وقد ذكر الحليمي أن الوحي كان يأتيه على ستة وأربعين نوعًا فذكرها وغالبها من صفات حامل الوحي ومجموعها يدخل فيما ذكر انتهى.

( قالت عائشة) بالإسناد السابق وإن كان بغير حرف عطف.
وقد أخرجه الدارقطني من طريق عتيق بن يعقوب عن مالك عن هشام عن أبيه عنها مفصولاً عن الحديث الأول، وكذا فصلهما مسلم من طريق أبي أسامة عن هشام ونكتته هنا اختلاف التحمل لأنها في الأول أخبرت عن مسألة الحارث، وفي الثاني أخبرت عما شاهدته تأييدًا للخبر الأول ( ولقد رأيته) بواو القسم واللام للتأكيد، أي والله لقد أبصرته ( ينزل) بفتح أوله وكسر ثالثه وفي رواية بضم أوله وفتح ثالثه ( عليه الوحي في اليوم الشديد البرد) الشديد صفة جرت على غير من هي له لأنه صفة البرد لا اليوم ( فيفصم) بفتح الياء وكسر الصاد، أو بضمها وكسر الصاد: من أفصم رباعي وهي لغة قليلة، أو مبني للمجهول روايات كما مر أي يقلع ( عنه وإن جبينه ليتفصد) بالياء ثم التاء وفاء وصاد مهملة ثقيلة من الفصد؛ وهو قطع العرق لإسالة الدم شبه جبينه بالعرق المفصود مبالغة في الكثرة أي ليسيل ( عرقا) تمييز.
زاد ابن أبي الزناد عن هشام بهذا الإسناد عند البيهقي: وإن كان ليوحى إليه وهو على ناقته فتضرب جرانها من ثقل ما يوحى إليه.
وفيه دلالة على كثرة معاناة التعب والكرب عند نزول الوحي لمخالفة العادة وهو كثرة العرق في شدة البرد فيشعر بأمر طارئ زائد على الطباع البشرية.

وحكى العسكري في كتاب التصحيف عن بعض شيوخه: ليتقصد بالقاف من التقصيد.
قال العسكري: فإن ثبت فهو من قولهم تقصد الشيء: إذا تكسر وتقطع، ولا يخفى بعده انتهى.
وقد وقع في هذا التصحيف أبو الفضل بن طاهر فرده عليه المؤتمن الساجي بالفاء فأصر على القاف.
وذكر الذهبي عن ابن ناصر أنه رد على ابن طاهر لما قرأها بالقاف قال: فكابرني قلت: ولعله وجهه بما قال العسكري.

وأخرجه البخاري عن عبد الله بن يوسف عن مالك به وتابعه ابن عيينة وغيره عن هشام في الصحيحين.

( مالك عن هشام بن عروة عن أبيه أنه قال) لم تختلف الرواة عن مالك في إرساله.
وأخرجه الترمذي من رواية سعيد بن يحيى بن سعيد عن أبيه عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت: ( أنزلت عبس وتولى في عبد الله ابن أم مكتوم) القرشي العامري من بني عامر بن لؤي، وقيل اسمه عمرو بفتح العين وهو الأكثر، وهو ابن قيس بن زائدة بن الأصم، ومنهم من قال: عمرو بن زائدة نسبه لجده ويقال: كان اسمه الحصين فسماه النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله، حكاه ابن حبان.
وقال ابن سعد أهل المدينة يقولون: اسمه عبد الله.
وأهل العراق يقولون: اسمه عمرو.
واسم أمه أم مكتوم: عاتكة بنت عبد الله المخزومية.
أسلم قديمًا بمكة وكان من المهاجرين الأولين قدم المدينة قبل أن يهاجر النبي صلى الله عليه وسلم على الأصح، وقيل بعد وقعة بدر بقليل.
وروى جماعة من أهل العلم بالنسب والسير أنه صلى الله عليه وسلم استخلفه ثلاث عشرة مرة.
وله حديث في السنن وخرج إلى القادسية فشهد القتال فاستشهد وقيل: بل شهدها ورجع إلى المدينة فمات بها ولم يسمع له ذكر بعد عمر بن الخطاب وفيه نزل { { غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ } } كما في البخاري و { { عَبَسَ وَتَوَلَّى } }

( جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم) بمكة ( فجعل يقول يا محمد) قبل النهي عن ندائه باسمه لأنه نزل بالمدينة ( استدنيني) بياء بين النونين.
ورواه ابن وضاح استدنني بحذفها: أي أشر لي إلى موضع قريب منك أجلس فيه ( وعند النبي صلى الله عليه وسلم رجل من عظماء) جمع عظيم ( المشركين) هو أبي بن خلف، رواه أبو يعلى عن أنس.
ولابن جرير عن ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم كان يناجي عتبة بن ربيعة وأبا جهل والعباس.
وله من مرسل قتادة: وهو يناجي أمية بن خلف.
وحكى ذلك كله ابن عبد البر والباجي خلافًا في تفسير المبهم وزاد قولاً إنه شيبة بن ربيعة.
( فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يعرض عنه) ثقة بما في قلبه من الإسلام لا سيما والذي طلبه من التفقه في الدين لا يفوت.
ففي حديث ابن عباس فقال علمني مما علمك الله فأعرض عنه ( ويقبل على الآخر) رجاء إسلامه لأنه كان يحب إسلام الخلق إذ هو مأمور بالإنذار وبالدعاء إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة ( ويقول يا أبا فلان) خاطبه بالكنية استئلافًا ( هل ترى بما أقول بأسًا فيقول لا والدماء) بالمد.
قال ابن عبد البر: رواية طائفة عن مالك بضم الدال، أي الأصنام التي كانوا يعبدون ويعظمون واحدتها دمية، وطائفة بكسر الدال أي دماء الهدايا التي كانوا يذبحونها بمنى لآلهتهم قال توبة بن الحمير:

عليّ دماء البدن إن كان بعلها
يرى لي ذنبًا غير أني أزورها

وقال آخر:

أما ودماء المزجيات إلى منى
لقد كفرت أسماء غير كفور

( ما أرى بما تقول بأسا) شدة بل هو روح الأرواح ( فأنزلت { { عَبَسَ وَتَوَلَّى } } ) أعرض { { أَن جَاءَهُ الأعْمَى } } زاد أبو يعلى عن أنس فكان النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك يكرمه وفي حديث ابن عباس فكان إذا نظر إليه بعد ذلك مقبلاً بسط إليه رداءه حتى يجلسه عليه.
وكان إذا خرج من المدينة استخلفه يصلي بالناس حتى يرجع.
وقالت عائشة عاتب الله نبيه في سورة عبس قالت: ولو كتم من الوحي شيئًا لكتم هذا.
وإنما حصلت صورة العتاب مع أن فعله صلى الله عليه وسلم كان طاعة لربه وتبليغًا عنه واستئلافًا له كما شرعه له لأن ابن أم مكتوم بسبب عماه استحق مزيد الرفق والمستفاد من الآية إعلام الله تعالى بأن ذلك المتصدي له لا يتزكى، وأنه لو كشف له حال الرجلين لاختار الإقبال على الأعمى ففيه الحث على الترحيب بالفقراء والإقبال عليهم في مجالس العلم وقضاء حوائجهم وعدم إيثار الأغنياء عليهم.
وفي الحديث الاعتناء بعلم السير وما ارتبط بها من علم نزول القرآن ومتى نزل وفيمن نزل وإنه لحسن.

( مالك عن زيد بن أسلم) العدوي مولاهم المدني ( عن أبيه) أسلم مولى عمر ثقة مخضرم مات سنة ثمانين وهو ابن أربع عشرة ومائة سنة ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسير في بعض أسفاره) هو سفر الحديبية كما في حديث ابن مسعود عند الطبراني.
قال ابن عبد البر هذا الحديث مرسل إلا أنه محمول على الاتصال لأن أسلم رواه عن عمرو.
وقد رواه جماعة عن مالك عن زيد بن أسلم عن أبيه عن عمر موصولاً انتهى.

وأخرجه البخاري والترمذي والنسائي من طرق عن مالك به.
قال الحافظ: هذا السياق صورته الإرسال لأن أسلم لم يدرك زمان هذه القصة لكنه محمول على أنه سمعه من عمر لقوله في أثنائه قال عمر: فحركت بعيري.
وقد جاء من طريق أخرى سمعت عمر.
أخرجه البزار من طريق محمد بن خالد بن عثمة عن مالك ثم قال: لا نعلم رواه عن مالك هكذا إلا ابن عثمة وابن غزوان ورواية ابن غزوان أخرجها أحمد عنه.
وأخرجه الدارقطني في الغرائب من طريق محمد بن حرب ويزيد بن أبي حكيم وإسحاق الحنيني كلهم عن مالك على الاتصال.

( وعمر بن الخطاب يسير معه ليلاً) ففيه إباحة السير على الدواب ليلاً وحمله العلماء على من لا يمشي بها نهارًا أو قل مشيه بها نهارًا لأنه صلى الله عليه وسلم أمر بالرفق بها والإحسان إليها قاله أبو عمر ( فسأله عمر عن شيء فلم يجبه) لاشتغاله صلى الله عليه وسلم بالوحي ( ثم سأله) ثانيًا ( فلم يجبه ثم سأله) ثالثًا ( فلم يجبه) ولعله ظن أنه لم يسمعه ( فقال عمر ثكلتك) بفتح المثلثة وكسر الكاف أي فقدتك ( أمك) يا ( عمر) فهو منادى بحذف الياء وثبتت في رواية دعا على نفسه بسبب ما وقع منه من الإلحاح خوف غضبه وحرمان فائدته قال أبو عمر: قلما أغضب عالم إلا حرمت فائدته.
وقال ابن الأثير دعا على نفسه بالموت والموت يعم كل أحد فإذا الدعاء كلا دعاء ( نزرت) بفتح النون والزاي مخففة فراء ساكنة ( رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي ألححت عليه وبالغت في السؤال، أو راجعته أو أتيته بما يكره من سؤالك.
وفي رواية بتشديد الزاي وهو على المبالغة أي أقللت كلامه إذ سألته ما لا يحب أن يجيب عنه والتخفيف هو الوجه.
قال الحافظ أبو ذر الهروي: سألت عنه ممن لقيت أربعين فما قرؤه قط إلا بالتخفيف.
( ثلاث مرات كل ذلك لا يجيبك) ففيه أن سكوت العالم يوجب على المتعلم ترك الإلحاح عليه وإن له أن يسكت عما لا يريد أن يجيب فيه.

( قال عمر فحركت بعيري حتى إذا كنت أمام) بالفتح قدام ( الناس وخشيت أن ينزل في) بشد الياء ( قرآن فما نشبت) بفتح النون وكسر المعجمة وسكون الموحدة ففوقية فما لبثت وما تعلقت بشيء ( أن سمعت صارخًا) لم يسم ( يصرخ بي قال) عمر ( فقلت لقد خشيت أن يكون نزل في قرآن) قال أبو عمر: أرى أنه عليه السلام أرسل إلى عمر يؤنسه ويدل على منزلته عنده ( قال) عمر ( فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلمت عليه فقال) بعد رد السلام ( لقد أنزلت علي هذه الليلة سورة لهي) بلام التأكيد ( أحب إلي مما طلعت عليه الشمس) لما فيها من البشارة بالمغفرة والفتح وغيرهما وأفعل قد لا يراد بها المفاضلة ( ثم قرأ { { إنا فتحنا لك فتحا مبينا } } ) قال ابن عباس وأنس والبراء هو فتح الحديبية ووقوع الصلح.

قال الحافظ فإن الفتح لغة فتح المغلق والصلح كان مغلقًا حتى فتحه الله.
وكان من أسباب فتحه صد المسلمين عن البيت فكانت الصورة الظاهرة ضيمًا للمسلمين والباطنة عزًا لهم فإن الناس للأمن الذي وقع فيهم اختلط بعضهم ببعض من غير نكير، وأسمع المسلمون المشركين القرآن وناظروهم على الإسلام جهرة آمنين، وكانوا قبل ذلك لا يتكلمون عندهم بذلك إلا خفية فظهر من كان يخفي إسلامه فذل المشركون من حيث أرادوا العزة وقهروا من حيث أرادوا الغلبة.
وقيل هو فتح مكة نزلت مرجعه من الحديبية عدة له بفتحها وأتى به ماضيًا لتحقق وقوعه وفيه من الفخامة والدلالة على علو شأن المخبر به ما لا يخفى وقيل المعنى قضينا لك قضاء بينًا على أهل مكة أن تدخلها أنت وأصحابك قابلاً من الفتاحة وهي الحكومة والحق أنه يختلف باختلاف المراد من الآيات فالمراد بقوله تعالى: { { إنا فتحنا لك } } فتح الحديبية لما ترتب على الصلح من الأمن ورفع الحرب وتمكن من كان يخشى الدخول في الإسلام والوصول إلى المدينة منه وتتابع الأسباب إلى أن كمل الفتح.

وأما قوله: { { وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا } } فالمراد فتح خيبر على الصحيح لأنها هي التي وقع فيها مغانم كثيرة للمسلمين وأما قوله: { { إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ } } وقوله لا هجرة بعد الفتح ففتح مكة باتفاق فبهذا يرتفع الإشكال وتجتمع الأقوال انتهى.
قال ابن عبد البر: أدخل مالك هذا الحديث في باب ما جاء في القرآن تعريفًا بأنه ينزل في الأحيان على قدر الحاجة وما يعرض انتهى.
ولإفادة أن منه ليليٌّ ورواه البخاري في المغازي عن عبد الله بن يوسف وفي التفسير عن عبد الله بن مسلمة القعنبي كلاهما عن مالك به.

( مالك عن يحيى بن سعيد) الأنصاري التابعي ولجده قيس صحبة ( عن محمد بن إبراهيم بن الحارث) بن خالد القرشي ( التيمي) تيم قريش أبي عبد الله المدني مات سنة عشرين ومائة على الصحيح وجده الحارث من المهاجرين الأولين ( عن أبي سلمة بن عبد الرحمن) بن عوف الزهري المدني ( عن أبي سعيد) سعد بن مالك بن سنان الخدري الصحابي ابن الصحابي ( قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يخرج فيكم) أنفسكم يعني أصحابه أي يخرج عليكم ( قوم) هم الذين خرجوا على علي بن أبي طالب يوم النهروان فقتلهم فهم أصل الخوارج.
وأول خارجة خرجت إلا أن منهم طائفة كانت ممن قصد المدينة يوم الدار في قتل عثمان وسموا خوارج من قوله يخرج قاله في التمهيد.
( تحقرون) بكسر القاف تستقلون ( صلاتكم مع صلاتهم وصيامكم مع صيامهم) لأنهم كانوا يصومون النهار ويقومون الليل، وللطبراني عن ابن عباس في قصة مناظرته للخوارج قال: فأتيتهم فدخلت على قوم لم أر أشد اجتهادًا منهم ( وأعمالكم مع أعمالهم) من عطف العام على الخاص كقوله: { { وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ } } ( يقرؤون القرآن) آناء الليل والنهار.
وفي رواية للبخاري يتلون كتاب الله رطبًا أي لمواظبتهم على تلاوته فلا يزال لسانهم رطبًا بها أو هو من تحسين الصوت بها ( ولا يجاوز حناجرهم) جمع حنجرة، وهي آخر الحلق مما يلي الفم.
وقيل أعلى الصدر عند طرف الحلقوم والمعنى أن قراءتهم لا يرفعها الله ولا يقبلها وقيل لا يعملون بالقرآن فلا يثابون على قراءتهم فلا يحصل لهم إلا سرده.
وقيل: لا تفقهه قلوبهم ويحملونه على غير المراد به فلا حظ لهم منه إلا مروره على لسانهم لا يصل إلى حلوقهم، فضلاً عن أن يصل إلى قلوبهم فلا يتدبروه بها.

وقال ابن رشيق: المعنى لا ينتفعون بقراءته كما لا ينتفع الآكل والشارب من المأكول والمشروب إلا بما يجاوز حنجرته قال ابن عبد البر: وكانوا لتكفيرهم الناس لا يقبلون خبر أحد عن النبي صلى الله عليه وسلم فلم يعرفوا بذلك شيئًا من سنته وأحكامه المبينة لمجمل القرآن والمخبرة عن مراد الله تعالى في خطابه ولا سبيل إلى المراد بها إلا ببيان رسوله، ألا ترى إلى قوله: { { وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ } } والصلاة والزكاة والحج والصوم وسائر الأحكام إنما ذكرت في القرآن مجملة بينتها السنة فمن لم يقبل أخبار العدول ضل وصار في عمياء.

( يمرقون) بضم الراء يخرجون سريعًا ( من الدين) قيل المراد الإسلام فهو حجة لمن كفر الخوارج، وبه جزم ابن العربي في الأحوذي محتجًا برواية البخاري يمرقون من الإسلام.
وقيل المراد الطاعة فلا حجة فيه لكفرهم.
قال الحافظ: والذي يظهر أن المراد بالدين الإسلام كما في الرواية الأخرى وخرج الكلام مخرج الزجر وأنهم بفعلهم ذلك يخرجون من الإسلام الكامل ( مروق السهم) وفي رواية كما يمرق السهم ( من الرمية) بفتح الراء وكسر الميم وشد التحتية، وهي الطريدة من الصيد فعيلة من الرمي بمعنى مفعولة، دخلتها الهاء إشارة إلى نقلها من الوصفية إلى الإسمية شبه مروقهم من الدين بالسهم الذي يصيب الصيد فيدخل فيه ويخرج منه ومن شدة سرعة خروجه لقوة الرامي لا يعلق من جسد الصيد بشيء ( تنظر) أيها الرامي ( في النصل) بنون فصاد حديدة السهم هل ترى فيه شيئًا من أثر الصيد دم أو نحوه ( فلا ترى شيئا) فيه ( وتنظر في القدح) بكسر القاف وسكون الدال وحاء مهملتين خشب السهم أو ما بين الريش والسهم هل ترى أثرًا ( فلا ترى شيئا) فيه ( وتنظر في الريش) الذي على السهم ( فلا ترى شيئا) فيه ( وتتمارى) بفتح الفوقيتين أي تشك ( في الفوق) بضم الفاء وهو موضع الوتر من السهم أي نتشكك هل علق به شيء من الدم.
وفي رواية وينظر ويتمارى بالتحتية أي الرامي، والمعنى أن هؤلاء يخرجون من الإسلام بغتة كخروج السهم إذا رماه رام قوي الساعد فأصاب ما رماه فنفذ بسرعة بحيث لا يعلق بالسهم ولا بشيء منه من المرمى شيء فإذا التمس الرامي سهمه لم يجده علق بشيء من الدم ولا غيره.

وفي رواية ابن ماجه والطبراني: سيخرج قوم من الإسلام خروج السهم من الرمية عرضت للرجال فرموها فانمرق سهم أحدهم منها فخرج فأتاه فنظر إليه فإذا هو لم يتعلق بنصله من الدم شيء ثم نظر إلى القدح الحديث، زاد في رواية الشيخين من وجه آخر عن أبي سعيد آيتهم رجل أسود إحدى عضديه مثل ثدي المرأة أو مثل البضعة ويخرجون على خير فرقة من الناس.
قال أبو سعيد: فأشهد أني سمعت هذا الحديث من رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن علي بن أبي طالب قتلهم وأنا معه فأمر بذلك الرجل فالتمس فأتي به حتى نظرت إليه على نعت النبي صلى الله عليه وسلم الذي نعته.
وفي رواية مسلم فلما قتلهم علي قال: انظروا فلم ينظروا شيئًا فقال: ارجعوا فوالله ما كذبت ولا كذبت - مرتين أو ثلاثًا - ثم وجدوه في خربة.

قال الباجي: أجمع العلماء أن المراد بهذا الحديث الخوارج الذين قاتلهم علي.
وفي التمهيد يتمارى في الفوق أي يشك وذلك يوجب أن لا يقطع على الخوارج ولا على غيرهم من أهل البدع بالخروج من الإسلام، وأن يشك في أمرهم وكل شيء يشك فيه فسبيله التوقف فيه دون القطع.
وقد قال فيهم رسول الله: يخرج قوم من أمتي، فإن صحت هذه اللفظة فقد جعلهم من أمته.
وقال قوم: معناه من أمتي بدعواهم.
وقال علي: لم نقاتل أهل النهروان على الشرك.
وسئل عنهم أكفار هم؟ قال: من الكفر فروا قيل: فمنافقون؟ قال: إن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلاً قيل: فما هم؟ قال: قوم أصابتهم فتنة فعموا فيها وصموا وبغوا علينا وحاربونا وقاتلونا فقتلناهم.
قال إسماعيل القاضي: رأى مالك قتل الخوارج وأهل القدر للفساد الداخل في الدين وهو من باب الإفساد في الأرض، وليس إفسادهم بدون إفساد قطاع الطريق والمحاربين المسلمين على أموالهم، فوجب بذلك قتلهم لكنه يرى استتابتهم لعلهم يراجعون الحق فإن تمادوا قتلوا على إفسادهم لا على كفرهم وهذا قول عامة الفقهاء الذين يرون قتلهم واستتابتهم.

وذهب أبو حنيفة والشافعي وجمهور الفقهاء وكثير من المحدثين إلى أنه لا يتعرض لهم باستتابة ولا غيرها ما استتروا ولم يبغوا ولم يحاربوا، وقالت طائفة من المحدثين: هم كفار على ظواهر الأحاديث ولكن يعارضها غيرها فيمن لا يشرك بالله شيئًا ويريد بعمله وجهه وإن أخطأ في حكمه واجتهاده والنظر يشهد أن الكفر لا يكون إلا بضد الحال التي يكون بها الإيمان، فهما ضرتان انتهى ملخصًا.
وبالغ الخطابي فقال: أجمع علماء المسلمين على أن الخوارج على ضلالتهم فرقة من المسلمين وأجازوا مناكحتهم وأكل ذبائحهم وقبول شهادتهم.

وهذا الحديث أخرجه البخاري في التفسير حدثنا عبد الله بن يوسف عن مالك به.

( مالك أنه بلغه أن عبد الله بن عمر مكث على سورة البقرة ثماني سنين يتعلمها) ليس ذلك لبطء حفظه معاذ الله بل لأنه كان يتعلم فرائضها وأحكامها وما يتعلق بها فقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم كراهة الإسراع في حفظ القرآن دون التفقه فيه.
ولعل ابن عمر خلط مع ذلك من العلم أبوابًا غيرها، وإنما ذلك مخافة أن يتأوله على غير تأويله قاله الباجي.
ونحوه قول أبي عمر لأنه كان يتعلمها بأحكامها ومعانيها وأخبارها وهذا البلاغ أخرجه ابن سعد في الطبقات عن عبد الله بن جعفر عن أبي المليح عن ميمون أن ابن عمر تعلم البقرة في ثمان سنين وأخرج الخطيب في رواية مالك عن ابن عمر قال: تعلم عمر البقرة في اثنتي عشرة سنة فلما ختمها نحر جزورًا.



رقم الحديث 483 وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّ الْحَارِثَ بْنَ هِشَامٍ، سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ يَأْتِيكَ الْوَحْيُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَحْيَانًا يَأْتِينِي فِي مِثْلِ صَلْصَلَةِ الْجَرَسِ، وَهُوَ أَشَدُّهُ عَلَيَّ.
فَيَفْصِمُ عَنِّي، وَقَدْ وَعَيْتُ مَا قَالَ.
وَأَحْيَانًا يَتَمَثَّلُ لِيَ الْمَلَكُ رَجُلًا، فَيُكَلِّمُنِي فَأَعِي مَا يَقُولُ.
قَالَتْ عَائِشَةُ: وَلَقَدْ رَأَيْتُهُ يَنْزِلُ عَلَيْهِ فِي الْيَوْمِ الشَّدِيدِ الْبَرْدِ، فَيَفْصِمُ عَنْهُ وَإِنَّ جَبِينَهُ لَيَتَفَصَّدُ عَرَقًا.


مَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ

( مَالِكٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ) محمد بن مسلم الزهري ( عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ) بن العوام ( عن عبد الرحمن بن عبد) بلا إضافة ( القارئ) بشد الياء نسبة إلى القارة بطن من خزيمة بن مدركة من كبار التابعين، وعد في الصحابة لكونه أتي به للنبي صلى الله عليه وسلم وهو صغير كما أخرجه أبو القاسم البغوي في معجم الصحابة بإسناد لا بأس به.

( أنه قال سمعت عمر بن الخطاب يقول سمعت هشام بن حكيم بن حزام) بكسر المهملة وزاي ابن خويلد بن أسد القرشي الأسدي صحابي ابن صحابي ومات قبل أبيه ووهم من زعم أنه استشهد بأجنادين ( يقرأ سورة الفرقان) وغلط من قال: سورة الأحزاب ( على غير ما أقرؤها وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أقرأنيها) وفي رواية عقيل عن ابن شهاب فإذا هو يقرؤها على حروف كثيرة لم يقرئنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قال ابن عبد البر: ففي هذه الرواية بيان أن اختلافهما كان في حروف من السورة لا في السورة كلها، وهي تفسير لرواية مالك لأن سورة واحدة لا تقرأ حروفها كلها على سبعة أوجه، بل لا يوجد في القرآن كلمة تقرأ على سبعة أوجه إلا قليل من كثير مثل: { { رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا } } { { وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ } } و { { الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا } } و { { بِعَذَابٍ بَئِيسٍ } } ونحوه ( فكدت أن أعجل عليه) بفتح الهمزة وسكون العين وفتح الجيم وفي رواية أعجل بضم الهمزة وفتح العين وكسر الجيم مشددة أي أخاصمه وأظهر بوادر غضبي عليه ( ثم أمهلته حتى انصرف) من الصلاة ففي رواية عقيل فكدت أساوره في الصلاة فتصبرت حتى سلم وأساوره بضم الهمزة وفتح المهملة أي آخذ برأسه أو أواثبه فليس المراد انصرف من القراءة كما زعم الكرماني ( ثم لببته) بموحدتين أولاهما مشددة وقال عياض التخفيف أعرف ( بردائه) أي أخذت بمجامعه وجعلته في عنقه وجررته به لئلا ينفلت مأخوذ من اللبة بفتح اللام لأنه يقبض عليها، وإنما فعل عمر ذلك اعتناء بالقرآن، وذبًا عنه، ومحافظة على لفظه كما سمعه من غير عدول إلى ما تجوزه العرب مع ما كان عليه من الشدة في الأمر بالمعروف، زاد في رواية عقيل فقلت من أقرأك هذه السورة التي سمعتك تقرأ؟ قال: أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: كذبت، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقرأنيها على غير ما قرأت وفيه إطلاق الكذب على غلبة الظن فإنه إنما فعل ذلك اجتهادًا منه لظنه أن هشامًا خالف الصواب وساغ له ذلك لرسوخ قدمه في الإسلام وسابقته بخلاف هشام فإنه من مسلمة الفتح فخشي أن لا يكون أتقن القراءة ولعل عمر لم يكن سمع حديث أنزل القرآن على سبعة أحرف قبل ذلك، ( فجئت به رسول الله صلى الله عليه وسلم) وفي رواية عقيل: فانطلقت به أقوده إلى رسول الله ( فقلت يا رسول الله إني سمعت هذا يقرأ سورة الفرقان على غير ما أقرأتنيها) وفي رواية عقيل على حروف لم تقرئنيها ( فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسله) بهمزة قطع أي: أطلقه لأنه كان ممسوكًا معه.
( ثم قال اقرأ) يا هشام ( فقرأ القراءة التي سمعته يقرأ) بها ( فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هكذا أنزلت ثم قال لي اقرأ) يا عمر ( فقرأتها) .
وفي رواية عقيل: فقرأت القراءة التي أقرأني ( فقال هكذا أنزلت) .
ثم قال صلى الله عليه وسلم تطييبًا لقلب عمر لئلا ينكر تصويب الأمرين المختلفين ( إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف) جمع حرف مثل فلس وأفلس.
( فاقرؤوا ما تيسر منه) أي المنزل بالسبعة ففيه إشارة إلى أن حكمة التعدد التيسير على القارئ ولم يقع في شيء من الطرق تفسير الأحرف التي اختلف فيها عمر وهشام من سورة الفرقان، نعم اختلف الصحابة فمن دونهم في أحرف كثيرة من هذه السورة كما بينه في التمهيد بما يطول، ووقع لجماعة من الصحابة نظير ما وقع لعمر مع هشام كأبي بن كعب مع ابن مسعود في سورة النحل.
وعمرو بن العاصي مع رجل في آية من الفرقان عند أحمد.
وابن مسعود مع رجل في سورة من آل حم.

رواه ابن حبان والحاكم.
وأما حديث سمرة رفعه أنزل القرآن على ثلاثة أحرف رواه الحاكم قائلاً: تواترت الأخبار بالسبعة إلا في هذا الحديث فقال أبو شامة: يحتمل أن بعضه أنزل على ثلاثة أحرف كجذوة والرهب أو أراد أنزل ابتداء على ثلاثة أحرف ثم زيد إلى سبعة توسعة على العباد، والأكثر أنها محصورة في السبعة.
وقيل: ليس المراد حقيقة العدد بل التسهيل والتيسير والشرف والرحمة وخصوصية الفضل لهذه الأمة فإن لفظ سبعة يطلق على إرادة الكثرة في الآحاد كما يطلق السبعون في العشرات، والسبعمائة في المئين.
ولا يراد العدد المعين وإلى هذا جنح عياض ومن تبعه ورد بحديث ابن عباس في الصحيحين: أقرأني جبريل على حرف فراجعته فلم أزل أستزيده ويزيدني حتى انتهى إلى سبعة أحرف.

وفي حديث أبي عند مسلم: إن ربي أرسل إلي أن أقرأ القرآن على حرف فرددت عليه أن هون على أمتي فأرسل إلي أن أقرأه على سبعة أحرف وللنسائي إن جبريل وميكائيل أتياني فقعد جبريل على يميني وميكائيل على يساري فقال جبريل: اقرأ القرآن على حرف فقال ميكائيل استزده حتى بلغ سبعة أحرف.
وفي حديث أبي بكرة عند أحمد فنظرت إلى ميكائيل فسكت فعلمت أنه قد انتهت العدة فهذا يدل على إرادة حقيقة العدد وانحصاره.
واختلف في ذلك على نحو أربعين قولاً أكثرها غير مختار.

قال ابن العربي: لم يأت في ذلك نص ولا أثر.
وقال أبو جعفر محمد بن سعدان النحوي: هذا من المشكل الذي لا يدرى معناه لأن الحرف يأتي لمعان للهجاء وللكلمة وللمعنى والجهة انتهى.
وأقربها قولان أحدهما: أن المراد سبع لغات وعليه أبو عبيدة وثعلب والزهري وآخرون، وصححه ابن عطية والبيهقي وتعقب بأن لغات العرب أكثر من سبعة.
وأجيب بأن المراد أفصحها، والثاني: أن المراد سبعة أوجه من المعاني المتفقة بألفاظ مختلفة نحو أقبل وتعال وهلم وعجل وأسرع.
وعليه سفيان بن عيينة وابن وهب وخلائق.
ونسبه ابن عبد البر لأكثر العلماء لكن الإباحة المذكورة لم تقع بالتشهي وهو أن كل واحد يغير الكلمة بمرادفها من لغته بل ذلك مقصور على السماع منه صلى الله عليه وسلم كما يشير إليه قول كل من عمر وهشام أقرأني النبي صلى الله عليه وسلم.
ولئن سلم إطلاق الإباحة بقراءة المرادف ولو لم يسمع لكن إجماع الصحابة زمن عثمان الموافق للعرضة الأخيرة يمنع ذلك.
واختلف هل السبعة باقية إلى الآن يقرأ بها أم كان ذلك ثم استقر الأمر على بعضها؟ ذهب الأكثر إلى الثاني كابن عيينة وابن وهب والطبري والطحاوي.
وهل استقر ذلك في الزمن النبوي أم بعده؟ الأكثر على الأول.
واختاره الباقلاني وابن عبد البر وابن العربي وغيرهم لأن ضرورة اختلاف اللغات ومشقة نطقهم بغير لغتهم اقتضت التوسعة عليهم في أول الأمر، فأذن لكل أن يقرأ على حرفه أي على طريقته في اللغة حتى انضبط الأمر وتدربت الألسن وتمكن الناس من الاقتصار على لغة واحدة فعارض جبريل النبي صلى الله عليه وسلم القرآن مرتين في السنة الأخيرة.
واستقر على ما هو عليه الآن فنسخ الله تلك القراءة المأذون فيها بما أوجبه من الاقتصار على هذه القراءة التي تلقاها الناس.

قال أبو شامة: ظن قوم أن المراد القراءات السبع الموجودة الآن، وهو خلاف إجماع العلماء وإنما يظن ذلك بعض أهل الجهل.
وقال مكي بن أبي طالب: من ظن أن قراءة هؤلاء كعاصم ونافع هي الأحرف السبعة التي في الحديث فقد غلط غلطًا عظيمًا، ويلزم منه أن ما خرج عن قراءتهم مما ثبت عن الأئمة وغيرهم ووافق خط المصحف أن لا يكون قرآنًا وهذا غلط عظيم.
وقد بين الطبري وغيره أن اختلاف القراء إنما هو حرف واحد من السبعة.

وهذا الحديث أخرجه البخاري عن عبد الله بن يوسف ومسلم عن يحيى بن يحيى كلاهما عن مالك به.

( مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إنما مثل صاحب القرآن) أي الذي ألف تلاوته - والمصاحبة المؤالفة - ومنه فلان صاحب فلان وأصحاب الجنة وأصحاب النار وأصحاب الحديث وأصحاب الرأي وأصحاب الصفة وأصحاب إبل وغنم وأصحاب كنز وعبادة قاله عياض.
( كمثل صاحب الإبل المعقلة) بضم الميم وفتح العين المهملة والقاف الثقيلة أي المشدودة بالعقال، وهو الحبل الذي يشد في ركبة البعير.
( إن عاهد عليها أمسكها) أي استمر إمساكه لها ( وإن أطلقها) من عقلها ( ذهبت) أي انفلتت.
والحصر في إنما حصر مخصوص بالنسبة إلى النسيان والحفظ بالتلاوة والترك شبه درس القرآن واستمرار تلاوته بربط البعير الذي يخشى منه أن يشرد فمادام التعاهد موجودًا فالحفظ موجود، كما أن البعير مادام مشدودًا بالعقال فهو محفوظ.
وخص الإبل بالذكر لأنها أشد الحيوانات الإنسية نفارًا.
وفيه حض على درس القرآن وتعاهده.

وفي الصحيح مرفوعًا: تعاهدوا القرآن فوالذي نفسي بيده لهو أشدّ تفصيًا من الإبل في عقلها.
وقال صلى الله عليه وسلم: من تعلم القرآن ثم نسيه لقي الله يوم القيامة أجزم أي منقطع الحجة.
وقال: عرضت عليَّ أجوار أمتي حتى القذاة يخرجها الرجل من المسجد.
وعرضت عليّ ذنوب أمتي فلم أر ذنبًا أعظم من سورة من القرآن أو آية من القرآن أوتيها رجل ثم نسيها.
وفي الصحيحين عن ابن مسعود مرفوعًا: بئس ما لأحدكم أن يقول نسيت آية كيت وكيت، بل هو نُسِّي فإنه أشد تفصيًا من صدور الرجال من النعم.

قال ابن عبد البر: فكره أن يقول نسيت وأباح أن يقول أنسيت قال تعالى: { { وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطَانُ } } وقال ابن عيينة: النسيان المذموم هو ترك العمل به وليس من انتهى حفظه وتفلت منه بناس له إذا عمل به، ولو كان كذلك ما نسي صلى الله عليه وسلم شيئًا منه قال تعالى: { { سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنسَى إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ } } وقال صلى الله عليه وسلم: ذكرني هذا آية أنسيتها.
قال ابن عبد البر وهذا معروف في لسان العرب قال تعالى: { { نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ } } أي تركوا طاعته فترك رحمتهم وقال تعالى: { { فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ } } أي تركوا.

والحديث رواه البخاري عن عبد الله بن يوسف ومسلم عن يحيى كلاهما عن مالك به.

( مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أن الحارث بن هشام) المخزومي شقيق أبي جهل أسلم يوم الفتح، وكان من فضلاء الصحابة، واستشهد في فتوح الشام سنة خمس عشرة.
وقد تكتب الحارث بلا ألف تخفيفًا ( سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم) قال الحافظ: هكذا رواه الرواة عن عروة فيحتمل أن عائشة حضرت ذلك.
وعلى هذا اعتمد أصحاب الأطراف فأخرجوه في مسند عائشة.
ويحتمل أن الحارث أخبرها بذلك بعد فيكون من مرسل الصحابة وهو محكوم بوصله عند الجمهور ويؤيد الثاني ما رواه أحمد والبغوي وغيرهما من طريق عامر بن صالح الزبيري عن هشام عن أبيه عن عائشة عن الحارث بن هشام قال: سألت وعامر فيه ضعف لكن له متابع عند ابن منده والمشهور الأول ( كيف يأتيك الوحي) أي صفة الوحي نفسه أو صفة حامله أو أعم من ذلك.
وعلى كل تقدير فإسناد الإتيان إلى الوحي مجاز عقلي لأن الإتيان حقيقة من وصف حامله، ويسمى مجازًا في الإسناد للملابسة التي بين الحامل والمحمول، أو هو استعارة بالكناية شبه الوحي برجل وأضيف إلى المشبه الإتيان الذي هو من خواص المشبه به.
وفيه أن السؤال عن الكيفية لطلب الطمأنينة لا يقدح في اليقين وجواز السؤال عن أحوال الأنبياء من الوحي وغيره.

( فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أحيانًا) جمع حين يطلق على كثير الوقت وقليله والمراد هنا مجرد الوقت فكأنه قال أوقاتًا ونصب ظرفًا عامله ( يأتيني) مؤخر عنه وفيه أن المسئول عنه إذا كان ذا أقسام يذكر المجيب في أول جوابه ما يقتضي التفصيل ( في مثل صلصلة) بمهملتين مفتوحتين، بينهما لام ساكنة أصله صوت وقوع الحديد بعضه على بعض، ثم أطلق على كل صوت له طنين.
وقيل: صوت متدارك لا يدرك في أول وهلة ( الجرس) بجيم ومهملة: الجلجل الذي يعلق في رؤوس الدواب، واشتقاقه من الجرس بإسكان الراء، وهو الحس قيل الصلصلة صوت الملك بالوحي.
قال الخطابي: يريد أنه صوت متدارك يسمعه ولا يثبته أول ما يسمعه حتى يفهمه بعد ولما كان الجرس لا تحصل صلصلته إلا متداركة وقع التشبيه به دون غيره من آلات وقيل صوت حفيف أجنحة الملك والحكمة في تقدمه أن يقرع سمعه الوحي فلا يبقى فيه مكان لغيره.
( وهو أشده علي) لأن الفهم من كلام مثل الصلصلة أشدّ من الفهم من كلام الرجل بالتخاطب المعهود وفائدة هذه الشدة ما يترتب على المشقة من زيادة الزلفى والدرجات.
وأفهم أن الوحي كله شديد، وهذا أشده لأن العادة جرت بالمناسبة بين القائل والسامع، وهي هنا إما باتصاف السامع بوصف القائل فغلبت الروحانية وهو النوع الأول، وإما باتصاف القائل بوصف السامع وهو البشرية وهو النوع الثاني، والأول أشد بلا شك.

وقال السراج البلقيني: سبب ذلك أن الكلام العظيم له مقدمات تؤذن بتعظيمه للاهتمام به كما جاء في حديث ابن عباس وكان يعالج من التنزيل شدّة وقيل: كان ينزل هكذا إذا نزلت آية وعيد، قال الحافظ: وفيه نظر والظاهر أنه لا يختص بالقرآن كما في حديث يعلى بن أمية في قصة لابس الجبة المتضمخ بالطيب في الحج ففيه أنه رآه صلى الله عليه وسلم حالة نزول الوحي وأنه ليغط.

( فيفصم) بفتح التحتية وسكون الفاء وكسر المهملة، أي يقطع ( عني) ويتجلى ما يغشاني.
ويروى بضم أوله من الرباعي.
وفي رواية بضم أوله وفتح الصاد على البناء للمجهول، وأصل الفصم القطع ومنه قوله تعالى: { { لاَ انفِصَامَ لَهَا } } وقيل الفصم بالفاء القطع بلا إبانة وبالقاف القطع بإبانة فذكره يفصم بالفاء إشارة إلى أن الملك فارقه ليعود والجامع بينهما بقاء العلقة.
( وقد وعيت) بفتح العين حفظت ( ما قال) أي القول الذي جاء به، وفيه إسناد الوحي إلى قول الملك ولا معارضة بينه وبين قوله تعالى حكاية عن الكفار { { إِنْ هَذَا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ } } لأنهم كانوا ينكرون الوحي وينكرون مجيء الملك به، فإن قيل المحمود لا يشبه بالمذموم إذ حقيقة التشبيه إلحاق ناقص بكامل والمشبه الوحي والمشبه به صوت الجرس، وهو مذموم لصحة النهي عنه والتنفير من مرافقة ما هو معلق فيه والإعلام بأنهم لا تصحبهم الملائكة كما في مسلم وأبي داود وغيرهما.
فكيف شبه فعل الملك بأمر تنفر منه الملائكة؟ أجيب بأنه لا يلزم في التشبيه تساوي المشبه بالمشبه به في الصفات كلها بل ولا في أخص وصف له، بل يكفي اشتراكهما في صفة ما فالقصد هنا بيان الحس فذكر ما ألف السامعون سماعه تقريبًا لأفهامهم والحاصل أن الصوت له جهتان جهة قوة وبها وقع التشبيه وجهة طنين وبها وقع التنفير عنه وعلل بكونه مزمار الشيطان، واحتمال أن النهي عنه وقع بعد السؤال المذكور فيه نظر وهذا النوع شبيه بما يوحى إلى الملائكة كما في الصحيح مرفوعًا: إذا قضى الله في السماء أمرًا ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانًا لقوله كأنها سلسلة على صفوان فإذا فزع عن قلوبهم قالوا: ماذا قال ربكم؟ قالوا: الحق وهو العلي الكبير.
وللطبراني وابن أبي عاصم مرفوعًا: إذا تكلم الله في السماء بالوحي أخذت السماء رجفة أو رعدة شديدة من خوف الله، فإذا سمع أهل السماء صعقوا وخروا سجدًا، فيكون أولهم يرفع رأسه جبريل فيكلمه الله من وحيه بما أراد فينتهي به إلى الملائكة كلما مر بسماء سأله أهلها ماذا قال ربنا؟ قال: الحق فينتهي به حيث أمره الله من السماء والأرض.
ولابن مردويه مرفوعًا: إذا تكلم الله بالوحي يسمع أهل السماء صلصلة كصلصلة السلسلة على الصفوان فيفزعون.

( وأحيانا يتمثل) يتصور ( لي) أي لأجلي فاللام تعليلية ( الملك) جبريل كما في رواية ابن سعد فأل عهدية ( رجلا) نصب على المصدرية أي مثل رجل أو بهيئة رجل فهو حال وإن لم تؤول بمشتق لدلالة رجل على الهيئة بلا تأويل، أو على تمييز النسبة لا تمييز المفرد لأن الملك لا إبهام فيه وكون تمييز النسبة محولاً عن الفاعل كتصبب زيد عرقًا، أو المفعول كفجرنا الأرض عيونًا أمر غالب لا دائم بدليل امتلأ الإناء ماء، أو على المفعولية بتضمين يتمثل معنى يتخذ أي الملك رجلاً مثالاً، واستبعد من جهة المعنى لاتحاد المتخذ والمتخذ والإتيان بمثال بلا دليل قال المتكلمون: الملائكة أجسام علوية لطيفة تتشكل أي شكل أرادوا، وزعم بعض الفلاسفة أنها جواهر روحانية قال الحافظ: والحق أن تمثل الملك رجلاً ليس معناه أن ذاته انقلبت رجلاً، بل معناه أنه ظهر بتلك الصورة تأنيسًا لمن يخاطبه والظاهر أن القدر الزائد لا يزول ولا يفنى بل يخفى على الرائي فقط وتقدم مزيد لذلك في أول حديث.

( فيكلمني) بالكاف، وللبيهقي عن القعنبي: فيعلمني بالعين.
قال الحافظ: والظاهر أنه تصحيف فإنه في الموطأ رواية القعنبي بالكاف.
وكذا أخرجه الدارقطني من حديث مالك من طريق القتبي وغيره.
( فأعي ما يقول) زاد أبو عوانة: وهو أهونه عليَّ، وعبر هنا بالاستقبال وفيما قبله بالماضي لأن الوحي حصل في الأول قبل الفصم.
وفي الثاني حال المكالمة أو أنه في الأول تلبس بصفات الملكية فإذا عاد إلى جبلته كان حافظًا لما قيل له فعبر بالماضي بخلاف الثاني فإنه على حالته المعهودة وأورد على مقتضى هذا الحديث من حصر الوحي في الحالتين حالات أخرى، أما من صفة الوحي بمجيئه كدوي النحل والنفث في الروع والإلهام والرؤيا الصالحة والتكليم ليلة الإسراء بلا واسطة وأما في صفة حامل الوحي كمجيئه في صورته التي خلق عليها له ستمائة جناح ورؤيته على كرسي بين السماء والأرض وقد سد الأفق، والجواب منع الحصر في الحالين وحملهما على الغالب أو حمل ما يغايرهما على أنه وقع بعد السؤال أولم يتعرض لصفتي الملك المذكورتين لندورهما؛ فقد ثبت عن عائشة أنه لم يره كذلك إلا مرتين، أو لم يأته في تلك الحالة بوحي أو أتاه به وكان على مثل صلصلة الجرس، فإنه بين بها صفة الوحي لا صفة حامله.
وأما فنون الوحي فدوي النحل لا يعارض صلصلة الجرس لأن سماع الدوي بالنسبة إلى الحاضرين كما في حديث عمر: يُسمع عنده دوي كدوي النحل.
والصلصلة بالنسبة إليه صلى الله عليه وسلم فشبهه عمر بدوي النحل بالنسبة إلى السامعين وشبهه هو صلى الله عليه وسلم بصلصلة الجرس بالنسبة إلى مقامه.

وأما النفث في الروع فيحتمل أن يرجع إلى إحدى الحالتين فإذا أتاه في مثل الصلصلة نفث حينئذ في روعه.
وأما الإلهام فلم يقع السؤال عنه لأنه وقع عن صفة الوحي الذي يأتي بحامل، وكذا التكليم ليلة الإسراء.
وأما الرؤيا الصالحة فقال ابن بطال: لا ترد لأن السؤال وقع عما ينفرد به عن الناس والرؤيا قد يشاركه فيها غيره انتهى.
والرؤيا الصادقة وإن كانت جزءًا من النبوة فهي باعتبار صدقها لا غير، وإلا لساغ أن يسمى صاحبها نبيًا وليس كذلك، ويحتمل أن السؤال وقع عما في اليقظة ولكون حال المنام لا يخفى على السائل اقتصر على ما يخفى عليه أو كان ظهور ذلك له صلى الله عليه وسلم في المنام أيضًا على الوجهين المذكورين لا غير، قاله الكرماني وفيه نظر.
وقد ذكر الحليمي أن الوحي كان يأتيه على ستة وأربعين نوعًا فذكرها وغالبها من صفات حامل الوحي ومجموعها يدخل فيما ذكر انتهى.

( قالت عائشة) بالإسناد السابق وإن كان بغير حرف عطف.
وقد أخرجه الدارقطني من طريق عتيق بن يعقوب عن مالك عن هشام عن أبيه عنها مفصولاً عن الحديث الأول، وكذا فصلهما مسلم من طريق أبي أسامة عن هشام ونكتته هنا اختلاف التحمل لأنها في الأول أخبرت عن مسألة الحارث، وفي الثاني أخبرت عما شاهدته تأييدًا للخبر الأول ( ولقد رأيته) بواو القسم واللام للتأكيد، أي والله لقد أبصرته ( ينزل) بفتح أوله وكسر ثالثه وفي رواية بضم أوله وفتح ثالثه ( عليه الوحي في اليوم الشديد البرد) الشديد صفة جرت على غير من هي له لأنه صفة البرد لا اليوم ( فيفصم) بفتح الياء وكسر الصاد، أو بضمها وكسر الصاد: من أفصم رباعي وهي لغة قليلة، أو مبني للمجهول روايات كما مر أي يقلع ( عنه وإن جبينه ليتفصد) بالياء ثم التاء وفاء وصاد مهملة ثقيلة من الفصد؛ وهو قطع العرق لإسالة الدم شبه جبينه بالعرق المفصود مبالغة في الكثرة أي ليسيل ( عرقا) تمييز.
زاد ابن أبي الزناد عن هشام بهذا الإسناد عند البيهقي: وإن كان ليوحى إليه وهو على ناقته فتضرب جرانها من ثقل ما يوحى إليه.
وفيه دلالة على كثرة معاناة التعب والكرب عند نزول الوحي لمخالفة العادة وهو كثرة العرق في شدة البرد فيشعر بأمر طارئ زائد على الطباع البشرية.

وحكى العسكري في كتاب التصحيف عن بعض شيوخه: ليتقصد بالقاف من التقصيد.
قال العسكري: فإن ثبت فهو من قولهم تقصد الشيء: إذا تكسر وتقطع، ولا يخفى بعده انتهى.
وقد وقع في هذا التصحيف أبو الفضل بن طاهر فرده عليه المؤتمن الساجي بالفاء فأصر على القاف.
وذكر الذهبي عن ابن ناصر أنه رد على ابن طاهر لما قرأها بالقاف قال: فكابرني قلت: ولعله وجهه بما قال العسكري.

وأخرجه البخاري عن عبد الله بن يوسف عن مالك به وتابعه ابن عيينة وغيره عن هشام في الصحيحين.

( مالك عن هشام بن عروة عن أبيه أنه قال) لم تختلف الرواة عن مالك في إرساله.
وأخرجه الترمذي من رواية سعيد بن يحيى بن سعيد عن أبيه عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت: ( أنزلت عبس وتولى في عبد الله ابن أم مكتوم) القرشي العامري من بني عامر بن لؤي، وقيل اسمه عمرو بفتح العين وهو الأكثر، وهو ابن قيس بن زائدة بن الأصم، ومنهم من قال: عمرو بن زائدة نسبه لجده ويقال: كان اسمه الحصين فسماه النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله، حكاه ابن حبان.
وقال ابن سعد أهل المدينة يقولون: اسمه عبد الله.
وأهل العراق يقولون: اسمه عمرو.
واسم أمه أم مكتوم: عاتكة بنت عبد الله المخزومية.
أسلم قديمًا بمكة وكان من المهاجرين الأولين قدم المدينة قبل أن يهاجر النبي صلى الله عليه وسلم على الأصح، وقيل بعد وقعة بدر بقليل.
وروى جماعة من أهل العلم بالنسب والسير أنه صلى الله عليه وسلم استخلفه ثلاث عشرة مرة.
وله حديث في السنن وخرج إلى القادسية فشهد القتال فاستشهد وقيل: بل شهدها ورجع إلى المدينة فمات بها ولم يسمع له ذكر بعد عمر بن الخطاب وفيه نزل { { غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ } } كما في البخاري و { { عَبَسَ وَتَوَلَّى } }

( جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم) بمكة ( فجعل يقول يا محمد) قبل النهي عن ندائه باسمه لأنه نزل بالمدينة ( استدنيني) بياء بين النونين.
ورواه ابن وضاح استدنني بحذفها: أي أشر لي إلى موضع قريب منك أجلس فيه ( وعند النبي صلى الله عليه وسلم رجل من عظماء) جمع عظيم ( المشركين) هو أبي بن خلف، رواه أبو يعلى عن أنس.
ولابن جرير عن ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم كان يناجي عتبة بن ربيعة وأبا جهل والعباس.
وله من مرسل قتادة: وهو يناجي أمية بن خلف.
وحكى ذلك كله ابن عبد البر والباجي خلافًا في تفسير المبهم وزاد قولاً إنه شيبة بن ربيعة.
( فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يعرض عنه) ثقة بما في قلبه من الإسلام لا سيما والذي طلبه من التفقه في الدين لا يفوت.
ففي حديث ابن عباس فقال علمني مما علمك الله فأعرض عنه ( ويقبل على الآخر) رجاء إسلامه لأنه كان يحب إسلام الخلق إذ هو مأمور بالإنذار وبالدعاء إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة ( ويقول يا أبا فلان) خاطبه بالكنية استئلافًا ( هل ترى بما أقول بأسًا فيقول لا والدماء) بالمد.
قال ابن عبد البر: رواية طائفة عن مالك بضم الدال، أي الأصنام التي كانوا يعبدون ويعظمون واحدتها دمية، وطائفة بكسر الدال أي دماء الهدايا التي كانوا يذبحونها بمنى لآلهتهم قال توبة بن الحمير:

عليّ دماء البدن إن كان بعلها
يرى لي ذنبًا غير أني أزورها

وقال آخر:

أما ودماء المزجيات إلى منى
لقد كفرت أسماء غير كفور

( ما أرى بما تقول بأسا) شدة بل هو روح الأرواح ( فأنزلت { { عَبَسَ وَتَوَلَّى } } ) أعرض { { أَن جَاءَهُ الأعْمَى } } زاد أبو يعلى عن أنس فكان النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك يكرمه وفي حديث ابن عباس فكان إذا نظر إليه بعد ذلك مقبلاً بسط إليه رداءه حتى يجلسه عليه.
وكان إذا خرج من المدينة استخلفه يصلي بالناس حتى يرجع.
وقالت عائشة عاتب الله نبيه في سورة عبس قالت: ولو كتم من الوحي شيئًا لكتم هذا.
وإنما حصلت صورة العتاب مع أن فعله صلى الله عليه وسلم كان طاعة لربه وتبليغًا عنه واستئلافًا له كما شرعه له لأن ابن أم مكتوم بسبب عماه استحق مزيد الرفق والمستفاد من الآية إعلام الله تعالى بأن ذلك المتصدي له لا يتزكى، وأنه لو كشف له حال الرجلين لاختار الإقبال على الأعمى ففيه الحث على الترحيب بالفقراء والإقبال عليهم في مجالس العلم وقضاء حوائجهم وعدم إيثار الأغنياء عليهم.
وفي الحديث الاعتناء بعلم السير وما ارتبط بها من علم نزول القرآن ومتى نزل وفيمن نزل وإنه لحسن.

( مالك عن زيد بن أسلم) العدوي مولاهم المدني ( عن أبيه) أسلم مولى عمر ثقة مخضرم مات سنة ثمانين وهو ابن أربع عشرة ومائة سنة ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسير في بعض أسفاره) هو سفر الحديبية كما في حديث ابن مسعود عند الطبراني.
قال ابن عبد البر هذا الحديث مرسل إلا أنه محمول على الاتصال لأن أسلم رواه عن عمرو.
وقد رواه جماعة عن مالك عن زيد بن أسلم عن أبيه عن عمر موصولاً انتهى.

وأخرجه البخاري والترمذي والنسائي من طرق عن مالك به.
قال الحافظ: هذا السياق صورته الإرسال لأن أسلم لم يدرك زمان هذه القصة لكنه محمول على أنه سمعه من عمر لقوله في أثنائه قال عمر: فحركت بعيري.
وقد جاء من طريق أخرى سمعت عمر.
أخرجه البزار من طريق محمد بن خالد بن عثمة عن مالك ثم قال: لا نعلم رواه عن مالك هكذا إلا ابن عثمة وابن غزوان ورواية ابن غزوان أخرجها أحمد عنه.
وأخرجه الدارقطني في الغرائب من طريق محمد بن حرب ويزيد بن أبي حكيم وإسحاق الحنيني كلهم عن مالك على الاتصال.

( وعمر بن الخطاب يسير معه ليلاً) ففيه إباحة السير على الدواب ليلاً وحمله العلماء على من لا يمشي بها نهارًا أو قل مشيه بها نهارًا لأنه صلى الله عليه وسلم أمر بالرفق بها والإحسان إليها قاله أبو عمر ( فسأله عمر عن شيء فلم يجبه) لاشتغاله صلى الله عليه وسلم بالوحي ( ثم سأله) ثانيًا ( فلم يجبه ثم سأله) ثالثًا ( فلم يجبه) ولعله ظن أنه لم يسمعه ( فقال عمر ثكلتك) بفتح المثلثة وكسر الكاف أي فقدتك ( أمك) يا ( عمر) فهو منادى بحذف الياء وثبتت في رواية دعا على نفسه بسبب ما وقع منه من الإلحاح خوف غضبه وحرمان فائدته قال أبو عمر: قلما أغضب عالم إلا حرمت فائدته.
وقال ابن الأثير دعا على نفسه بالموت والموت يعم كل أحد فإذا الدعاء كلا دعاء ( نزرت) بفتح النون والزاي مخففة فراء ساكنة ( رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي ألححت عليه وبالغت في السؤال، أو راجعته أو أتيته بما يكره من سؤالك.
وفي رواية بتشديد الزاي وهو على المبالغة أي أقللت كلامه إذ سألته ما لا يحب أن يجيب عنه والتخفيف هو الوجه.
قال الحافظ أبو ذر الهروي: سألت عنه ممن لقيت أربعين فما قرؤه قط إلا بالتخفيف.
( ثلاث مرات كل ذلك لا يجيبك) ففيه أن سكوت العالم يوجب على المتعلم ترك الإلحاح عليه وإن له أن يسكت عما لا يريد أن يجيب فيه.

( قال عمر فحركت بعيري حتى إذا كنت أمام) بالفتح قدام ( الناس وخشيت أن ينزل في) بشد الياء ( قرآن فما نشبت) بفتح النون وكسر المعجمة وسكون الموحدة ففوقية فما لبثت وما تعلقت بشيء ( أن سمعت صارخًا) لم يسم ( يصرخ بي قال) عمر ( فقلت لقد خشيت أن يكون نزل في قرآن) قال أبو عمر: أرى أنه عليه السلام أرسل إلى عمر يؤنسه ويدل على منزلته عنده ( قال) عمر ( فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلمت عليه فقال) بعد رد السلام ( لقد أنزلت علي هذه الليلة سورة لهي) بلام التأكيد ( أحب إلي مما طلعت عليه الشمس) لما فيها من البشارة بالمغفرة والفتح وغيرهما وأفعل قد لا يراد بها المفاضلة ( ثم قرأ { { إنا فتحنا لك فتحا مبينا } } ) قال ابن عباس وأنس والبراء هو فتح الحديبية ووقوع الصلح.

قال الحافظ فإن الفتح لغة فتح المغلق والصلح كان مغلقًا حتى فتحه الله.
وكان من أسباب فتحه صد المسلمين عن البيت فكانت الصورة الظاهرة ضيمًا للمسلمين والباطنة عزًا لهم فإن الناس للأمن الذي وقع فيهم اختلط بعضهم ببعض من غير نكير، وأسمع المسلمون المشركين القرآن وناظروهم على الإسلام جهرة آمنين، وكانوا قبل ذلك لا يتكلمون عندهم بذلك إلا خفية فظهر من كان يخفي إسلامه فذل المشركون من حيث أرادوا العزة وقهروا من حيث أرادوا الغلبة.
وقيل هو فتح مكة نزلت مرجعه من الحديبية عدة له بفتحها وأتى به ماضيًا لتحقق وقوعه وفيه من الفخامة والدلالة على علو شأن المخبر به ما لا يخفى وقيل المعنى قضينا لك قضاء بينًا على أهل مكة أن تدخلها أنت وأصحابك قابلاً من الفتاحة وهي الحكومة والحق أنه يختلف باختلاف المراد من الآيات فالمراد بقوله تعالى: { { إنا فتحنا لك } } فتح الحديبية لما ترتب على الصلح من الأمن ورفع الحرب وتمكن من كان يخشى الدخول في الإسلام والوصول إلى المدينة منه وتتابع الأسباب إلى أن كمل الفتح.

وأما قوله: { { وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا } } فالمراد فتح خيبر على الصحيح لأنها هي التي وقع فيها مغانم كثيرة للمسلمين وأما قوله: { { إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ } } وقوله لا هجرة بعد الفتح ففتح مكة باتفاق فبهذا يرتفع الإشكال وتجتمع الأقوال انتهى.
قال ابن عبد البر: أدخل مالك هذا الحديث في باب ما جاء في القرآن تعريفًا بأنه ينزل في الأحيان على قدر الحاجة وما يعرض انتهى.
ولإفادة أن منه ليليٌّ ورواه البخاري في المغازي عن عبد الله بن يوسف وفي التفسير عن عبد الله بن مسلمة القعنبي كلاهما عن مالك به.

( مالك عن يحيى بن سعيد) الأنصاري التابعي ولجده قيس صحبة ( عن محمد بن إبراهيم بن الحارث) بن خالد القرشي ( التيمي) تيم قريش أبي عبد الله المدني مات سنة عشرين ومائة على الصحيح وجده الحارث من المهاجرين الأولين ( عن أبي سلمة بن عبد الرحمن) بن عوف الزهري المدني ( عن أبي سعيد) سعد بن مالك بن سنان الخدري الصحابي ابن الصحابي ( قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يخرج فيكم) أنفسكم يعني أصحابه أي يخرج عليكم ( قوم) هم الذين خرجوا على علي بن أبي طالب يوم النهروان فقتلهم فهم أصل الخوارج.
وأول خارجة خرجت إلا أن منهم طائفة كانت ممن قصد المدينة يوم الدار في قتل عثمان وسموا خوارج من قوله يخرج قاله في التمهيد.
( تحقرون) بكسر القاف تستقلون ( صلاتكم مع صلاتهم وصيامكم مع صيامهم) لأنهم كانوا يصومون النهار ويقومون الليل، وللطبراني عن ابن عباس في قصة مناظرته للخوارج قال: فأتيتهم فدخلت على قوم لم أر أشد اجتهادًا منهم ( وأعمالكم مع أعمالهم) من عطف العام على الخاص كقوله: { { وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ } } ( يقرؤون القرآن) آناء الليل والنهار.
وفي رواية للبخاري يتلون كتاب الله رطبًا أي لمواظبتهم على تلاوته فلا يزال لسانهم رطبًا بها أو هو من تحسين الصوت بها ( ولا يجاوز حناجرهم) جمع حنجرة، وهي آخر الحلق مما يلي الفم.
وقيل أعلى الصدر عند طرف الحلقوم والمعنى أن قراءتهم لا يرفعها الله ولا يقبلها وقيل لا يعملون بالقرآن فلا يثابون على قراءتهم فلا يحصل لهم إلا سرده.
وقيل: لا تفقهه قلوبهم ويحملونه على غير المراد به فلا حظ لهم منه إلا مروره على لسانهم لا يصل إلى حلوقهم، فضلاً عن أن يصل إلى قلوبهم فلا يتدبروه بها.

وقال ابن رشيق: المعنى لا ينتفعون بقراءته كما لا ينتفع الآكل والشارب من المأكول والمشروب إلا بما يجاوز حنجرته قال ابن عبد البر: وكانوا لتكفيرهم الناس لا يقبلون خبر أحد عن النبي صلى الله عليه وسلم فلم يعرفوا بذلك شيئًا من سنته وأحكامه المبينة لمجمل القرآن والمخبرة عن مراد الله تعالى في خطابه ولا سبيل إلى المراد بها إلا ببيان رسوله، ألا ترى إلى قوله: { { وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ } } والصلاة والزكاة والحج والصوم وسائر الأحكام إنما ذكرت في القرآن مجملة بينتها السنة فمن لم يقبل أخبار العدول ضل وصار في عمياء.

( يمرقون) بضم الراء يخرجون سريعًا ( من الدين) قيل المراد الإسلام فهو حجة لمن كفر الخوارج، وبه جزم ابن العربي في الأحوذي محتجًا برواية البخاري يمرقون من الإسلام.
وقيل المراد الطاعة فلا حجة فيه لكفرهم.
قال الحافظ: والذي يظهر أن المراد بالدين الإسلام كما في الرواية الأخرى وخرج الكلام مخرج الزجر وأنهم بفعلهم ذلك يخرجون من الإسلام الكامل ( مروق السهم) وفي رواية كما يمرق السهم ( من الرمية) بفتح الراء وكسر الميم وشد التحتية، وهي الطريدة من الصيد فعيلة من الرمي بمعنى مفعولة، دخلتها الهاء إشارة إلى نقلها من الوصفية إلى الإسمية شبه مروقهم من الدين بالسهم الذي يصيب الصيد فيدخل فيه ويخرج منه ومن شدة سرعة خروجه لقوة الرامي لا يعلق من جسد الصيد بشيء ( تنظر) أيها الرامي ( في النصل) بنون فصاد حديدة السهم هل ترى فيه شيئًا من أثر الصيد دم أو نحوه ( فلا ترى شيئا) فيه ( وتنظر في القدح) بكسر القاف وسكون الدال وحاء مهملتين خشب السهم أو ما بين الريش والسهم هل ترى أثرًا ( فلا ترى شيئا) فيه ( وتنظر في الريش) الذي على السهم ( فلا ترى شيئا) فيه ( وتتمارى) بفتح الفوقيتين أي تشك ( في الفوق) بضم الفاء وهو موضع الوتر من السهم أي نتشكك هل علق به شيء من الدم.
وفي رواية وينظر ويتمارى بالتحتية أي الرامي، والمعنى أن هؤلاء يخرجون من الإسلام بغتة كخروج السهم إذا رماه رام قوي الساعد فأصاب ما رماه فنفذ بسرعة بحيث لا يعلق بالسهم ولا بشيء منه من المرمى شيء فإذا التمس الرامي سهمه لم يجده علق بشيء من الدم ولا غيره.

وفي رواية ابن ماجه والطبراني: سيخرج قوم من الإسلام خروج السهم من الرمية عرضت للرجال فرموها فانمرق سهم أحدهم منها فخرج فأتاه فنظر إليه فإذا هو لم يتعلق بنصله من الدم شيء ثم نظر إلى القدح الحديث، زاد في رواية الشيخين من وجه آخر عن أبي سعيد آيتهم رجل أسود إحدى عضديه مثل ثدي المرأة أو مثل البضعة ويخرجون على خير فرقة من الناس.
قال أبو سعيد: فأشهد أني سمعت هذا الحديث من رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن علي بن أبي طالب قتلهم وأنا معه فأمر بذلك الرجل فالتمس فأتي به حتى نظرت إليه على نعت النبي صلى الله عليه وسلم الذي نعته.
وفي رواية مسلم فلما قتلهم علي قال: انظروا فلم ينظروا شيئًا فقال: ارجعوا فوالله ما كذبت ولا كذبت - مرتين أو ثلاثًا - ثم وجدوه في خربة.

قال الباجي: أجمع العلماء أن المراد بهذا الحديث الخوارج الذين قاتلهم علي.
وفي التمهيد يتمارى في الفوق أي يشك وذلك يوجب أن لا يقطع على الخوارج ولا على غيرهم من أهل البدع بالخروج من الإسلام، وأن يشك في أمرهم وكل شيء يشك فيه فسبيله التوقف فيه دون القطع.
وقد قال فيهم رسول الله: يخرج قوم من أمتي، فإن صحت هذه اللفظة فقد جعلهم من أمته.
وقال قوم: معناه من أمتي بدعواهم.
وقال علي: لم نقاتل أهل النهروان على الشرك.
وسئل عنهم أكفار هم؟ قال: من الكفر فروا قيل: فمنافقون؟ قال: إن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلاً قيل: فما هم؟ قال: قوم أصابتهم فتنة فعموا فيها وصموا وبغوا علينا وحاربونا وقاتلونا فقتلناهم.
قال إسماعيل القاضي: رأى مالك قتل الخوارج وأهل القدر للفساد الداخل في الدين وهو من باب الإفساد في الأرض، وليس إفسادهم بدون إفساد قطاع الطريق والمحاربين المسلمين على أموالهم، فوجب بذلك قتلهم لكنه يرى استتابتهم لعلهم يراجعون الحق فإن تمادوا قتلوا على إفسادهم لا على كفرهم وهذا قول عامة الفقهاء الذين يرون قتلهم واستتابتهم.

وذهب أبو حنيفة والشافعي وجمهور الفقهاء وكثير من المحدثين إلى أنه لا يتعرض لهم باستتابة ولا غيرها ما استتروا ولم يبغوا ولم يحاربوا، وقالت طائفة من المحدثين: هم كفار على ظواهر الأحاديث ولكن يعارضها غيرها فيمن لا يشرك بالله شيئًا ويريد بعمله وجهه وإن أخطأ في حكمه واجتهاده والنظر يشهد أن الكفر لا يكون إلا بضد الحال التي يكون بها الإيمان، فهما ضرتان انتهى ملخصًا.
وبالغ الخطابي فقال: أجمع علماء المسلمين على أن الخوارج على ضلالتهم فرقة من المسلمين وأجازوا مناكحتهم وأكل ذبائحهم وقبول شهادتهم.

وهذا الحديث أخرجه البخاري في التفسير حدثنا عبد الله بن يوسف عن مالك به.

( مالك أنه بلغه أن عبد الله بن عمر مكث على سورة البقرة ثماني سنين يتعلمها) ليس ذلك لبطء حفظه معاذ الله بل لأنه كان يتعلم فرائضها وأحكامها وما يتعلق بها فقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم كراهة الإسراع في حفظ القرآن دون التفقه فيه.
ولعل ابن عمر خلط مع ذلك من العلم أبوابًا غيرها، وإنما ذلك مخافة أن يتأوله على غير تأويله قاله الباجي.
ونحوه قول أبي عمر لأنه كان يتعلمها بأحكامها ومعانيها وأخبارها وهذا البلاغ أخرجه ابن سعد في الطبقات عن عبد الله بن جعفر عن أبي المليح عن ميمون أن ابن عمر تعلم البقرة في ثمان سنين وأخرج الخطيب في رواية مالك عن ابن عمر قال: تعلم عمر البقرة في اثنتي عشرة سنة فلما ختمها نحر جزورًا.



رقم الحديث 483 وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، أَنَّهُ قَالَ: رَأَيْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ يَسْجُدُ فِي سُورَةِ الْحَجِّ سَجْدَتَيْنِ.


( مالك عن عبد الله بن يزيد) المخزومي الصحابي المدني المقري الأعور من رجال الجميع مات سنة ثمان وأربعين ومائة ( مولى الأسود بن سفيان) المخزومي الصحابي ( عن أبي سلمة بن عبد الرحمن أن أبا هريرة قرأ لهم) قال الباجي الأظهر أنه كان يصلي لقوله قرأ لهم وقوله: فلما انصرف وجاء ذلك مفسرًا في حديث أبي رافع: صليت خلف أبي هريرة العشاء فقرأ: ( { { إذا السماء انشقت } } فسجد فيها فلما انصرف) من السجود ( أخبرهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سجد فيها) وبهذا قال الخلفاء الأربعة والأئمة الثلاثة وجماعة.
ورواه ابن وهب عن مالك وروى عنه ابن القاسم والجمهور: لا سجود لأن أبا سلمة قال لأبي هريرة لما سجد: لقد سجدت في سورة ما رأيت الناس يسجدون فيها.
فدل هذا على أن الناس تركوه وجرى العمل بتركه ورده أبو عمر بما حاصله أي عمل يدعى مع مخالفة المصطفى والخلفاء الراشدين بعده.

والحديث رواه مسلم عن يحيى عن مالك به ورواه البخاري من وجه آخر بنحوه.

( مالك عن نافع مولى ابن عمر أن رجلا من أهل مصر أخبره أن عمر بن الخطاب قرأ سورة الحج فسجد فيها سجدتين ثم قال إن هذه السورة فضلت بسجدتين) أولاهما عند قوله: { { إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ } } وهي متفق عليها والثانية عند قوله: { { وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } } فلم يقل بها مالك في المشهور ولا أبو حنيفة، وروى ابن وهب فيها السجود وهو قول الشافعي وأحمد.

( مالك عن عبد الله بن دينار) مولى ابن عمر ( أنه قال رأيت عبد الله بن عمر يسجد في سورة الحج سجدتين) وروي عنه أيضًا لو سجدت فيها واحدة كانت السجدة الأخيرة أحب إلي، وروي عن عقبة مرفوعًا: في الحج سجدتان ومن لم يسجدهما فلا يقرأهما يريد لا يقرأهما إلا وهو طاهر والتعلق به ليس بقوي لضعف إسناده قاله الباجي ورده ابن زرقون بأن ابن حنبل احتج به وهو أعلم بإسناده وهذا رد بالصدر من فقيه على محدث حافظ إذ لا يلزم من احتجاجه به أن لا يكون ضعيفًا فالكلام إنما هو مع إسناده.

( مالك عن ابن شهاب عن الأعرج أن عمر بن الخطاب قرأ) في الصلاة ( بالنجم إذا هوى فسجد فيها) لما في الصحيحين عن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ سورة النجم فسجد فيها فما بقي أحد من القوم إلا سجد فأخذ رجل كفًا من حصى أو تراب فرفعه إلى وجهه وقال: يكفيني هذا فلقد رأيته بعد قتل كافرًا ( ثم قام فقرأ بسورة أخرى) ليقع ركوعه عقب القراءة كما هو شأن الركوع وذلك مستحب، روى الطبراني بسند صحيح عن عبد الرحمن بن أبزى عن عمر أنه قرأ النجم في الصلاة فسجد فيها ثم قام فقرأ: { { إذا زلزلت } }

( مالك عن هشام بن عروة عن أبيه أن عمر) فيه انقطاع فعروة ولد في خلافة عثمان فلم يدرك عمر ( بن الخطاب قرأ سجدة) أي سورة فيها سجدة وهي سورة النحل ( وهو على المنبر يوم الجمعة فنزل فسجد وسجد الناس معه) هكذا الرواية الصحيحة، وهي التي عند أبي عمر ويقع في نسخ وسجدنا معه.
قال الباجي: يحتمل أن عروة أراد جماعة المسلمين وأضاف الخطاب إليه لأنه من جملتهم وإلا فهو غلط لأنه لم يدرك عمر ( ثم قرأها يوم الجمعة الأخرى فتهيأ الناس للسجود فقال على رسلكم) بكسر الراء، أي هيئتكم ( إن الله لم يكتبها) لم يفرضها ( علينا إلا أن نشاء) استثناء منقطع أي لكن ذلك موكول إلى مشيئة المرء بدليل قوله ( فلم يسجد ومنعهم أن يسجدوا) وفي عدم إنكار أحد من الصحابة عليه ذلك دليل على أنه ليس بواجب، وإنه إجماع، ولعل عمر فعل ذلك تعليمًا للناس، وخاف أن يكون في ذلك خلاف فبادر إلى حسمه قاله ابن عبد البر.

وأخرج البخاري عن ربيعة بن عبد الله بن الهدير التيمي أنه حضر عمر بن الخطاب حتى إذا كانت الجمعة قرأ على المنبر بسورة النحل حتى إذا جاء السجدة نزل فسجد وسجد الناس، حتى إذا كانت الجمعة القابلة قرأ بها حتى إذا جاءت السجدة قال: يا أيها الناس إنما نمر بالسجود فمن سجد فقد أصاب ومن لم يسجد فلا إثم عليه، ولم يسجد عمر.
وزاد نافع عن ابن عمر أن الله لم يفرض علينا السجود إلا أن نشاء.
قال الحافظ: استدل بقوله إلا أن نشاء على أن المرء مخير في السجود فيكون ليس بواجب وأجاب من أوجبه بأن المعنى إلا أن نشاء قراءتها فيجب، ولا يخفى بعده، ويرده تصريح عمر بقوله: ومن لم يسجد فلا إثم عليه، فإن انتفاء الإثم عمن ترك الفعل مختارًا يدل على عدم وجوبه.

( قال مالك ليس العمل على أن ينزل الإمام إذا قرأ السجدة على المنبر فيسجد) وقال الشافعي: لا بأس بذلك، ويحتمل قول مالك أنه لا يلزمه النزول قاله ابن عبد البر.
وقال الباجي: روى علي يكره أن ينزل عن المنبر يسجد سجدة قرأها.

( قال مالك الأمر عندنا أن عزائم سجود القرآن) أي ما وردت العزيمة على فعله كصيغة الأمر مثلاً بناء على أن بعض المندوبات آكد من بعض عند من لا يقول بالوجوب ( إحدى عشرة سجدة) آخر الأعراف والآصال في الرعد ويؤمرون في النحل وخشوعًا في سبحان، وبكيًا في مريم، وإن الله يفعل ما يشاء في الحج ونفورًا في الفرقان والعظيم في النمل ولا يستكبرون في الم السجدة وأناب في ص وتعبدون في فصلت ( ليس في المفصل منها شيء) لما في الصحيحين عن زيد بن ثابت أنه قرأ على النبي صلى الله عليه وسلم والنجم فلم يسجد فيها، وحديث عطاء بن يسار: سألت أبي بن كعب فقال: ليس في المفصل سجدة.

قال الشافعي في القديم: وأبي وزيد في العلم بالقرآن كما لا يجهل أحد.
زيد قرأ على النبي صلى الله عليه وسلم عام مات، وقرأ أبي على النبي صلى الله عليه وسلم مرتين، وقرأ ابن عباس على أبي وهم من لا يشك إن شاء الله أنهم لا يقولونه إلا بالإحاطة مع قول من لقينا من أهل المدينة، وكيف يجهل أبي بن كعب سجود القرآن وقد قال صلى الله عليه وسلم له: إن الله أمرني أن أقرئك القرآن.

قال البيهقي: ثم قطع الشافعي في الجديد بإثبات السجود في المفصل.
قال غيره: وما رواه أبو داود وغيره عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسجد في شيء من المفصل منذ تحول إلى المدينة فضعفه المحدثون لضعف في بعض رواته واختلاف في إسناده وعلى تقدير ثبوته، فالمثبت مقدم على النافي.
وتقدم عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد في { { إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ } } وفي بعض طرقه في الصحيحين: لو لم أر النبي صلى الله عليه وسلم يسجد لم أسجد.
وللبزار والدارقطني برجال ثقات عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد في سورة النجم وسجدنا معه، وأبو هريرة إنما أسلم بالمدينة.

( قال مالك لا ينبغي لأحد يقرأ من سجود القرآن شيئا) فيسجد ( بعد صلاة الصبح ولا بعد صلاة العصر) فالظرف متعلق بمقدر ( و) دليل ( ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس وعن الصلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس) كما أسنده الإمام بعد ذلك ( والسجدة من الصلاة فلا ينبغي لأحد أن يقرأ سجدة في تينك الساعتين) قال الباجي: منعها في الموطأ فقاسها على صلاة النوافل، وقال في المدونة رواية ابن القاسم: يسجد لها بعد الصبح ما لم يسفر وبعد العصر ما لم تصفر الشمس فرآها صلاة اختلف في وجوبها كصلاة الجنازة فقاسها عليها.

( سئل مالك عمن قرأ سجدة وامرأة حائض تسمع هل لها أن تسجد قال مالك لا يسجد الرجل ولا المرأة إلا وهما طاهران) أي الطهارة الكاملة بالوضوء وحكى ابن عبد البر على ذلك الإجماع وفي البخاري وكان ابن عمر يسجد على غير وضوء.
قال الحافظ: لم يوافق ابن عمر على ذلك أحد إلا الشعبي وأبو عبد الرحمن السلمي، رواهما ابن أبي شيبة، وللبيهقي بإسناد صحيح عن ابن عمر قال: لا يسجد الرجل إلا وهو طاهر فيجمع بينهما بأنه أراد الطهارة الكبرى أو الثاني على حالة الاختيار، والأول على الضرورة.

( وسئل مالك عن امرأة قرأت سجدة ورجل معها يسمع أعليه أن يسجد معها قال مالك ليس عليه أن يسجد معها) قال الباجي: أي لا يصح له ذلك إذ لا يجوز الائتمام بها، فمن استمع لقارئ فقد ائتم به ولزمه حكمه فإن صلح للإمامة سجد المستمع ( إنما تجب السجدة) أي تسن ( على القوم يكونون مع الرجل فيأتمون به) قال الباجي: الائتمام أن يجلس للاستماع منه ( فيقرأ السجدة فيسجدون معه وليس على من سمع) بلفظ الماضي، ولابن وضاح يسمع مضارع ( سجدة من إنسان) أي رجل ( يقرؤها ليس له بإمام أن يسجد تلك السجدة) وقال أبو حنيفة: يسجد السامع من رجل أو امرأة وروى ابن أبي شيبة عن زيد بن أسلم أن غلامًا قرأ عند النبي صلى الله عليه وسلم السجدة فانتظر الغلام النبي صلى الله عليه وسلم أن يسجد فلما لم يسجد قال يا رسول الله أليس في هذه السجدة سجود؟ قال بلى، ولكنك كنت إمامنا فيها، ولو سجدت سجدنا معك، مرسل رجاله ثقات، وروي عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار قال: بلغني فذكر نحوه، وجوز الشافعي أن القارئ المذكور زيد بن ثابت لأنه قرأ عند النبي صلى الله عليه وسلم فلم يسجد، ولأن عطاء بن يسار روى الحديثين المذكورين، والله أعلم.



رقم الحديث 484 وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ قَالَ: أُنْزِلَتْ { { عَبَسَ وَتَوَلَّى } } فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ.
جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجَعَلَ يَقُولُ: يَا مُحَمَّدُ اسْتَدْنِينِي.
وَعِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ مِنْ عُظَمَاءِ الْمُشْرِكِينَ.
فَجَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْرِضُ عَنْهُ، وَيُقْبِلُ عَلَى الْآخَرِ، وَيَقُولُ: يَا أَبَا فُلَانٍ هَلْ تَرَى بِمَا أَقُولُ بَأْسًا؟ فَيَقُولُ: لَا وَالدِّمَاءِ.
مَا أَرَى بِمَا تَقُولُ بَأْسًا.
فَأُنْزِلَتْ { { عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى } }


مَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ

( مَالِكٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ) محمد بن مسلم الزهري ( عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ) بن العوام ( عن عبد الرحمن بن عبد) بلا إضافة ( القارئ) بشد الياء نسبة إلى القارة بطن من خزيمة بن مدركة من كبار التابعين، وعد في الصحابة لكونه أتي به للنبي صلى الله عليه وسلم وهو صغير كما أخرجه أبو القاسم البغوي في معجم الصحابة بإسناد لا بأس به.

( أنه قال سمعت عمر بن الخطاب يقول سمعت هشام بن حكيم بن حزام) بكسر المهملة وزاي ابن خويلد بن أسد القرشي الأسدي صحابي ابن صحابي ومات قبل أبيه ووهم من زعم أنه استشهد بأجنادين ( يقرأ سورة الفرقان) وغلط من قال: سورة الأحزاب ( على غير ما أقرؤها وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أقرأنيها) وفي رواية عقيل عن ابن شهاب فإذا هو يقرؤها على حروف كثيرة لم يقرئنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قال ابن عبد البر: ففي هذه الرواية بيان أن اختلافهما كان في حروف من السورة لا في السورة كلها، وهي تفسير لرواية مالك لأن سورة واحدة لا تقرأ حروفها كلها على سبعة أوجه، بل لا يوجد في القرآن كلمة تقرأ على سبعة أوجه إلا قليل من كثير مثل: { { رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا } } { { وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ } } و { { الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا } } و { { بِعَذَابٍ بَئِيسٍ } } ونحوه ( فكدت أن أعجل عليه) بفتح الهمزة وسكون العين وفتح الجيم وفي رواية أعجل بضم الهمزة وفتح العين وكسر الجيم مشددة أي أخاصمه وأظهر بوادر غضبي عليه ( ثم أمهلته حتى انصرف) من الصلاة ففي رواية عقيل فكدت أساوره في الصلاة فتصبرت حتى سلم وأساوره بضم الهمزة وفتح المهملة أي آخذ برأسه أو أواثبه فليس المراد انصرف من القراءة كما زعم الكرماني ( ثم لببته) بموحدتين أولاهما مشددة وقال عياض التخفيف أعرف ( بردائه) أي أخذت بمجامعه وجعلته في عنقه وجررته به لئلا ينفلت مأخوذ من اللبة بفتح اللام لأنه يقبض عليها، وإنما فعل عمر ذلك اعتناء بالقرآن، وذبًا عنه، ومحافظة على لفظه كما سمعه من غير عدول إلى ما تجوزه العرب مع ما كان عليه من الشدة في الأمر بالمعروف، زاد في رواية عقيل فقلت من أقرأك هذه السورة التي سمعتك تقرأ؟ قال: أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: كذبت، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقرأنيها على غير ما قرأت وفيه إطلاق الكذب على غلبة الظن فإنه إنما فعل ذلك اجتهادًا منه لظنه أن هشامًا خالف الصواب وساغ له ذلك لرسوخ قدمه في الإسلام وسابقته بخلاف هشام فإنه من مسلمة الفتح فخشي أن لا يكون أتقن القراءة ولعل عمر لم يكن سمع حديث أنزل القرآن على سبعة أحرف قبل ذلك، ( فجئت به رسول الله صلى الله عليه وسلم) وفي رواية عقيل: فانطلقت به أقوده إلى رسول الله ( فقلت يا رسول الله إني سمعت هذا يقرأ سورة الفرقان على غير ما أقرأتنيها) وفي رواية عقيل على حروف لم تقرئنيها ( فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسله) بهمزة قطع أي: أطلقه لأنه كان ممسوكًا معه.
( ثم قال اقرأ) يا هشام ( فقرأ القراءة التي سمعته يقرأ) بها ( فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هكذا أنزلت ثم قال لي اقرأ) يا عمر ( فقرأتها) .
وفي رواية عقيل: فقرأت القراءة التي أقرأني ( فقال هكذا أنزلت) .
ثم قال صلى الله عليه وسلم تطييبًا لقلب عمر لئلا ينكر تصويب الأمرين المختلفين ( إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف) جمع حرف مثل فلس وأفلس.
( فاقرؤوا ما تيسر منه) أي المنزل بالسبعة ففيه إشارة إلى أن حكمة التعدد التيسير على القارئ ولم يقع في شيء من الطرق تفسير الأحرف التي اختلف فيها عمر وهشام من سورة الفرقان، نعم اختلف الصحابة فمن دونهم في أحرف كثيرة من هذه السورة كما بينه في التمهيد بما يطول، ووقع لجماعة من الصحابة نظير ما وقع لعمر مع هشام كأبي بن كعب مع ابن مسعود في سورة النحل.
وعمرو بن العاصي مع رجل في آية من الفرقان عند أحمد.
وابن مسعود مع رجل في سورة من آل حم.

رواه ابن حبان والحاكم.
وأما حديث سمرة رفعه أنزل القرآن على ثلاثة أحرف رواه الحاكم قائلاً: تواترت الأخبار بالسبعة إلا في هذا الحديث فقال أبو شامة: يحتمل أن بعضه أنزل على ثلاثة أحرف كجذوة والرهب أو أراد أنزل ابتداء على ثلاثة أحرف ثم زيد إلى سبعة توسعة على العباد، والأكثر أنها محصورة في السبعة.
وقيل: ليس المراد حقيقة العدد بل التسهيل والتيسير والشرف والرحمة وخصوصية الفضل لهذه الأمة فإن لفظ سبعة يطلق على إرادة الكثرة في الآحاد كما يطلق السبعون في العشرات، والسبعمائة في المئين.
ولا يراد العدد المعين وإلى هذا جنح عياض ومن تبعه ورد بحديث ابن عباس في الصحيحين: أقرأني جبريل على حرف فراجعته فلم أزل أستزيده ويزيدني حتى انتهى إلى سبعة أحرف.

وفي حديث أبي عند مسلم: إن ربي أرسل إلي أن أقرأ القرآن على حرف فرددت عليه أن هون على أمتي فأرسل إلي أن أقرأه على سبعة أحرف وللنسائي إن جبريل وميكائيل أتياني فقعد جبريل على يميني وميكائيل على يساري فقال جبريل: اقرأ القرآن على حرف فقال ميكائيل استزده حتى بلغ سبعة أحرف.
وفي حديث أبي بكرة عند أحمد فنظرت إلى ميكائيل فسكت فعلمت أنه قد انتهت العدة فهذا يدل على إرادة حقيقة العدد وانحصاره.
واختلف في ذلك على نحو أربعين قولاً أكثرها غير مختار.

قال ابن العربي: لم يأت في ذلك نص ولا أثر.
وقال أبو جعفر محمد بن سعدان النحوي: هذا من المشكل الذي لا يدرى معناه لأن الحرف يأتي لمعان للهجاء وللكلمة وللمعنى والجهة انتهى.
وأقربها قولان أحدهما: أن المراد سبع لغات وعليه أبو عبيدة وثعلب والزهري وآخرون، وصححه ابن عطية والبيهقي وتعقب بأن لغات العرب أكثر من سبعة.
وأجيب بأن المراد أفصحها، والثاني: أن المراد سبعة أوجه من المعاني المتفقة بألفاظ مختلفة نحو أقبل وتعال وهلم وعجل وأسرع.
وعليه سفيان بن عيينة وابن وهب وخلائق.
ونسبه ابن عبد البر لأكثر العلماء لكن الإباحة المذكورة لم تقع بالتشهي وهو أن كل واحد يغير الكلمة بمرادفها من لغته بل ذلك مقصور على السماع منه صلى الله عليه وسلم كما يشير إليه قول كل من عمر وهشام أقرأني النبي صلى الله عليه وسلم.
ولئن سلم إطلاق الإباحة بقراءة المرادف ولو لم يسمع لكن إجماع الصحابة زمن عثمان الموافق للعرضة الأخيرة يمنع ذلك.
واختلف هل السبعة باقية إلى الآن يقرأ بها أم كان ذلك ثم استقر الأمر على بعضها؟ ذهب الأكثر إلى الثاني كابن عيينة وابن وهب والطبري والطحاوي.
وهل استقر ذلك في الزمن النبوي أم بعده؟ الأكثر على الأول.
واختاره الباقلاني وابن عبد البر وابن العربي وغيرهم لأن ضرورة اختلاف اللغات ومشقة نطقهم بغير لغتهم اقتضت التوسعة عليهم في أول الأمر، فأذن لكل أن يقرأ على حرفه أي على طريقته في اللغة حتى انضبط الأمر وتدربت الألسن وتمكن الناس من الاقتصار على لغة واحدة فعارض جبريل النبي صلى الله عليه وسلم القرآن مرتين في السنة الأخيرة.
واستقر على ما هو عليه الآن فنسخ الله تلك القراءة المأذون فيها بما أوجبه من الاقتصار على هذه القراءة التي تلقاها الناس.

قال أبو شامة: ظن قوم أن المراد القراءات السبع الموجودة الآن، وهو خلاف إجماع العلماء وإنما يظن ذلك بعض أهل الجهل.
وقال مكي بن أبي طالب: من ظن أن قراءة هؤلاء كعاصم ونافع هي الأحرف السبعة التي في الحديث فقد غلط غلطًا عظيمًا، ويلزم منه أن ما خرج عن قراءتهم مما ثبت عن الأئمة وغيرهم ووافق خط المصحف أن لا يكون قرآنًا وهذا غلط عظيم.
وقد بين الطبري وغيره أن اختلاف القراء إنما هو حرف واحد من السبعة.

وهذا الحديث أخرجه البخاري عن عبد الله بن يوسف ومسلم عن يحيى بن يحيى كلاهما عن مالك به.

( مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إنما مثل صاحب القرآن) أي الذي ألف تلاوته - والمصاحبة المؤالفة - ومنه فلان صاحب فلان وأصحاب الجنة وأصحاب النار وأصحاب الحديث وأصحاب الرأي وأصحاب الصفة وأصحاب إبل وغنم وأصحاب كنز وعبادة قاله عياض.
( كمثل صاحب الإبل المعقلة) بضم الميم وفتح العين المهملة والقاف الثقيلة أي المشدودة بالعقال، وهو الحبل الذي يشد في ركبة البعير.
( إن عاهد عليها أمسكها) أي استمر إمساكه لها ( وإن أطلقها) من عقلها ( ذهبت) أي انفلتت.
والحصر في إنما حصر مخصوص بالنسبة إلى النسيان والحفظ بالتلاوة والترك شبه درس القرآن واستمرار تلاوته بربط البعير الذي يخشى منه أن يشرد فمادام التعاهد موجودًا فالحفظ موجود، كما أن البعير مادام مشدودًا بالعقال فهو محفوظ.
وخص الإبل بالذكر لأنها أشد الحيوانات الإنسية نفارًا.
وفيه حض على درس القرآن وتعاهده.

وفي الصحيح مرفوعًا: تعاهدوا القرآن فوالذي نفسي بيده لهو أشدّ تفصيًا من الإبل في عقلها.
وقال صلى الله عليه وسلم: من تعلم القرآن ثم نسيه لقي الله يوم القيامة أجزم أي منقطع الحجة.
وقال: عرضت عليَّ أجوار أمتي حتى القذاة يخرجها الرجل من المسجد.
وعرضت عليّ ذنوب أمتي فلم أر ذنبًا أعظم من سورة من القرآن أو آية من القرآن أوتيها رجل ثم نسيها.
وفي الصحيحين عن ابن مسعود مرفوعًا: بئس ما لأحدكم أن يقول نسيت آية كيت وكيت، بل هو نُسِّي فإنه أشد تفصيًا من صدور الرجال من النعم.

قال ابن عبد البر: فكره أن يقول نسيت وأباح أن يقول أنسيت قال تعالى: { { وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطَانُ } } وقال ابن عيينة: النسيان المذموم هو ترك العمل به وليس من انتهى حفظه وتفلت منه بناس له إذا عمل به، ولو كان كذلك ما نسي صلى الله عليه وسلم شيئًا منه قال تعالى: { { سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنسَى إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ } } وقال صلى الله عليه وسلم: ذكرني هذا آية أنسيتها.
قال ابن عبد البر وهذا معروف في لسان العرب قال تعالى: { { نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ } } أي تركوا طاعته فترك رحمتهم وقال تعالى: { { فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ } } أي تركوا.

والحديث رواه البخاري عن عبد الله بن يوسف ومسلم عن يحيى كلاهما عن مالك به.

( مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أن الحارث بن هشام) المخزومي شقيق أبي جهل أسلم يوم الفتح، وكان من فضلاء الصحابة، واستشهد في فتوح الشام سنة خمس عشرة.
وقد تكتب الحارث بلا ألف تخفيفًا ( سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم) قال الحافظ: هكذا رواه الرواة عن عروة فيحتمل أن عائشة حضرت ذلك.
وعلى هذا اعتمد أصحاب الأطراف فأخرجوه في مسند عائشة.
ويحتمل أن الحارث أخبرها بذلك بعد فيكون من مرسل الصحابة وهو محكوم بوصله عند الجمهور ويؤيد الثاني ما رواه أحمد والبغوي وغيرهما من طريق عامر بن صالح الزبيري عن هشام عن أبيه عن عائشة عن الحارث بن هشام قال: سألت وعامر فيه ضعف لكن له متابع عند ابن منده والمشهور الأول ( كيف يأتيك الوحي) أي صفة الوحي نفسه أو صفة حامله أو أعم من ذلك.
وعلى كل تقدير فإسناد الإتيان إلى الوحي مجاز عقلي لأن الإتيان حقيقة من وصف حامله، ويسمى مجازًا في الإسناد للملابسة التي بين الحامل والمحمول، أو هو استعارة بالكناية شبه الوحي برجل وأضيف إلى المشبه الإتيان الذي هو من خواص المشبه به.
وفيه أن السؤال عن الكيفية لطلب الطمأنينة لا يقدح في اليقين وجواز السؤال عن أحوال الأنبياء من الوحي وغيره.

( فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أحيانًا) جمع حين يطلق على كثير الوقت وقليله والمراد هنا مجرد الوقت فكأنه قال أوقاتًا ونصب ظرفًا عامله ( يأتيني) مؤخر عنه وفيه أن المسئول عنه إذا كان ذا أقسام يذكر المجيب في أول جوابه ما يقتضي التفصيل ( في مثل صلصلة) بمهملتين مفتوحتين، بينهما لام ساكنة أصله صوت وقوع الحديد بعضه على بعض، ثم أطلق على كل صوت له طنين.
وقيل: صوت متدارك لا يدرك في أول وهلة ( الجرس) بجيم ومهملة: الجلجل الذي يعلق في رؤوس الدواب، واشتقاقه من الجرس بإسكان الراء، وهو الحس قيل الصلصلة صوت الملك بالوحي.
قال الخطابي: يريد أنه صوت متدارك يسمعه ولا يثبته أول ما يسمعه حتى يفهمه بعد ولما كان الجرس لا تحصل صلصلته إلا متداركة وقع التشبيه به دون غيره من آلات وقيل صوت حفيف أجنحة الملك والحكمة في تقدمه أن يقرع سمعه الوحي فلا يبقى فيه مكان لغيره.
( وهو أشده علي) لأن الفهم من كلام مثل الصلصلة أشدّ من الفهم من كلام الرجل بالتخاطب المعهود وفائدة هذه الشدة ما يترتب على المشقة من زيادة الزلفى والدرجات.
وأفهم أن الوحي كله شديد، وهذا أشده لأن العادة جرت بالمناسبة بين القائل والسامع، وهي هنا إما باتصاف السامع بوصف القائل فغلبت الروحانية وهو النوع الأول، وإما باتصاف القائل بوصف السامع وهو البشرية وهو النوع الثاني، والأول أشد بلا شك.

وقال السراج البلقيني: سبب ذلك أن الكلام العظيم له مقدمات تؤذن بتعظيمه للاهتمام به كما جاء في حديث ابن عباس وكان يعالج من التنزيل شدّة وقيل: كان ينزل هكذا إذا نزلت آية وعيد، قال الحافظ: وفيه نظر والظاهر أنه لا يختص بالقرآن كما في حديث يعلى بن أمية في قصة لابس الجبة المتضمخ بالطيب في الحج ففيه أنه رآه صلى الله عليه وسلم حالة نزول الوحي وأنه ليغط.

( فيفصم) بفتح التحتية وسكون الفاء وكسر المهملة، أي يقطع ( عني) ويتجلى ما يغشاني.
ويروى بضم أوله من الرباعي.
وفي رواية بضم أوله وفتح الصاد على البناء للمجهول، وأصل الفصم القطع ومنه قوله تعالى: { { لاَ انفِصَامَ لَهَا } } وقيل الفصم بالفاء القطع بلا إبانة وبالقاف القطع بإبانة فذكره يفصم بالفاء إشارة إلى أن الملك فارقه ليعود والجامع بينهما بقاء العلقة.
( وقد وعيت) بفتح العين حفظت ( ما قال) أي القول الذي جاء به، وفيه إسناد الوحي إلى قول الملك ولا معارضة بينه وبين قوله تعالى حكاية عن الكفار { { إِنْ هَذَا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ } } لأنهم كانوا ينكرون الوحي وينكرون مجيء الملك به، فإن قيل المحمود لا يشبه بالمذموم إذ حقيقة التشبيه إلحاق ناقص بكامل والمشبه الوحي والمشبه به صوت الجرس، وهو مذموم لصحة النهي عنه والتنفير من مرافقة ما هو معلق فيه والإعلام بأنهم لا تصحبهم الملائكة كما في مسلم وأبي داود وغيرهما.
فكيف شبه فعل الملك بأمر تنفر منه الملائكة؟ أجيب بأنه لا يلزم في التشبيه تساوي المشبه بالمشبه به في الصفات كلها بل ولا في أخص وصف له، بل يكفي اشتراكهما في صفة ما فالقصد هنا بيان الحس فذكر ما ألف السامعون سماعه تقريبًا لأفهامهم والحاصل أن الصوت له جهتان جهة قوة وبها وقع التشبيه وجهة طنين وبها وقع التنفير عنه وعلل بكونه مزمار الشيطان، واحتمال أن النهي عنه وقع بعد السؤال المذكور فيه نظر وهذا النوع شبيه بما يوحى إلى الملائكة كما في الصحيح مرفوعًا: إذا قضى الله في السماء أمرًا ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانًا لقوله كأنها سلسلة على صفوان فإذا فزع عن قلوبهم قالوا: ماذا قال ربكم؟ قالوا: الحق وهو العلي الكبير.
وللطبراني وابن أبي عاصم مرفوعًا: إذا تكلم الله في السماء بالوحي أخذت السماء رجفة أو رعدة شديدة من خوف الله، فإذا سمع أهل السماء صعقوا وخروا سجدًا، فيكون أولهم يرفع رأسه جبريل فيكلمه الله من وحيه بما أراد فينتهي به إلى الملائكة كلما مر بسماء سأله أهلها ماذا قال ربنا؟ قال: الحق فينتهي به حيث أمره الله من السماء والأرض.
ولابن مردويه مرفوعًا: إذا تكلم الله بالوحي يسمع أهل السماء صلصلة كصلصلة السلسلة على الصفوان فيفزعون.

( وأحيانا يتمثل) يتصور ( لي) أي لأجلي فاللام تعليلية ( الملك) جبريل كما في رواية ابن سعد فأل عهدية ( رجلا) نصب على المصدرية أي مثل رجل أو بهيئة رجل فهو حال وإن لم تؤول بمشتق لدلالة رجل على الهيئة بلا تأويل، أو على تمييز النسبة لا تمييز المفرد لأن الملك لا إبهام فيه وكون تمييز النسبة محولاً عن الفاعل كتصبب زيد عرقًا، أو المفعول كفجرنا الأرض عيونًا أمر غالب لا دائم بدليل امتلأ الإناء ماء، أو على المفعولية بتضمين يتمثل معنى يتخذ أي الملك رجلاً مثالاً، واستبعد من جهة المعنى لاتحاد المتخذ والمتخذ والإتيان بمثال بلا دليل قال المتكلمون: الملائكة أجسام علوية لطيفة تتشكل أي شكل أرادوا، وزعم بعض الفلاسفة أنها جواهر روحانية قال الحافظ: والحق أن تمثل الملك رجلاً ليس معناه أن ذاته انقلبت رجلاً، بل معناه أنه ظهر بتلك الصورة تأنيسًا لمن يخاطبه والظاهر أن القدر الزائد لا يزول ولا يفنى بل يخفى على الرائي فقط وتقدم مزيد لذلك في أول حديث.

( فيكلمني) بالكاف، وللبيهقي عن القعنبي: فيعلمني بالعين.
قال الحافظ: والظاهر أنه تصحيف فإنه في الموطأ رواية القعنبي بالكاف.
وكذا أخرجه الدارقطني من حديث مالك من طريق القتبي وغيره.
( فأعي ما يقول) زاد أبو عوانة: وهو أهونه عليَّ، وعبر هنا بالاستقبال وفيما قبله بالماضي لأن الوحي حصل في الأول قبل الفصم.
وفي الثاني حال المكالمة أو أنه في الأول تلبس بصفات الملكية فإذا عاد إلى جبلته كان حافظًا لما قيل له فعبر بالماضي بخلاف الثاني فإنه على حالته المعهودة وأورد على مقتضى هذا الحديث من حصر الوحي في الحالتين حالات أخرى، أما من صفة الوحي بمجيئه كدوي النحل والنفث في الروع والإلهام والرؤيا الصالحة والتكليم ليلة الإسراء بلا واسطة وأما في صفة حامل الوحي كمجيئه في صورته التي خلق عليها له ستمائة جناح ورؤيته على كرسي بين السماء والأرض وقد سد الأفق، والجواب منع الحصر في الحالين وحملهما على الغالب أو حمل ما يغايرهما على أنه وقع بعد السؤال أولم يتعرض لصفتي الملك المذكورتين لندورهما؛ فقد ثبت عن عائشة أنه لم يره كذلك إلا مرتين، أو لم يأته في تلك الحالة بوحي أو أتاه به وكان على مثل صلصلة الجرس، فإنه بين بها صفة الوحي لا صفة حامله.
وأما فنون الوحي فدوي النحل لا يعارض صلصلة الجرس لأن سماع الدوي بالنسبة إلى الحاضرين كما في حديث عمر: يُسمع عنده دوي كدوي النحل.
والصلصلة بالنسبة إليه صلى الله عليه وسلم فشبهه عمر بدوي النحل بالنسبة إلى السامعين وشبهه هو صلى الله عليه وسلم بصلصلة الجرس بالنسبة إلى مقامه.

وأما النفث في الروع فيحتمل أن يرجع إلى إحدى الحالتين فإذا أتاه في مثل الصلصلة نفث حينئذ في روعه.
وأما الإلهام فلم يقع السؤال عنه لأنه وقع عن صفة الوحي الذي يأتي بحامل، وكذا التكليم ليلة الإسراء.
وأما الرؤيا الصالحة فقال ابن بطال: لا ترد لأن السؤال وقع عما ينفرد به عن الناس والرؤيا قد يشاركه فيها غيره انتهى.
والرؤيا الصادقة وإن كانت جزءًا من النبوة فهي باعتبار صدقها لا غير، وإلا لساغ أن يسمى صاحبها نبيًا وليس كذلك، ويحتمل أن السؤال وقع عما في اليقظة ولكون حال المنام لا يخفى على السائل اقتصر على ما يخفى عليه أو كان ظهور ذلك له صلى الله عليه وسلم في المنام أيضًا على الوجهين المذكورين لا غير، قاله الكرماني وفيه نظر.
وقد ذكر الحليمي أن الوحي كان يأتيه على ستة وأربعين نوعًا فذكرها وغالبها من صفات حامل الوحي ومجموعها يدخل فيما ذكر انتهى.

( قالت عائشة) بالإسناد السابق وإن كان بغير حرف عطف.
وقد أخرجه الدارقطني من طريق عتيق بن يعقوب عن مالك عن هشام عن أبيه عنها مفصولاً عن الحديث الأول، وكذا فصلهما مسلم من طريق أبي أسامة عن هشام ونكتته هنا اختلاف التحمل لأنها في الأول أخبرت عن مسألة الحارث، وفي الثاني أخبرت عما شاهدته تأييدًا للخبر الأول ( ولقد رأيته) بواو القسم واللام للتأكيد، أي والله لقد أبصرته ( ينزل) بفتح أوله وكسر ثالثه وفي رواية بضم أوله وفتح ثالثه ( عليه الوحي في اليوم الشديد البرد) الشديد صفة جرت على غير من هي له لأنه صفة البرد لا اليوم ( فيفصم) بفتح الياء وكسر الصاد، أو بضمها وكسر الصاد: من أفصم رباعي وهي لغة قليلة، أو مبني للمجهول روايات كما مر أي يقلع ( عنه وإن جبينه ليتفصد) بالياء ثم التاء وفاء وصاد مهملة ثقيلة من الفصد؛ وهو قطع العرق لإسالة الدم شبه جبينه بالعرق المفصود مبالغة في الكثرة أي ليسيل ( عرقا) تمييز.
زاد ابن أبي الزناد عن هشام بهذا الإسناد عند البيهقي: وإن كان ليوحى إليه وهو على ناقته فتضرب جرانها من ثقل ما يوحى إليه.
وفيه دلالة على كثرة معاناة التعب والكرب عند نزول الوحي لمخالفة العادة وهو كثرة العرق في شدة البرد فيشعر بأمر طارئ زائد على الطباع البشرية.

وحكى العسكري في كتاب التصحيف عن بعض شيوخه: ليتقصد بالقاف من التقصيد.
قال العسكري: فإن ثبت فهو من قولهم تقصد الشيء: إذا تكسر وتقطع، ولا يخفى بعده انتهى.
وقد وقع في هذا التصحيف أبو الفضل بن طاهر فرده عليه المؤتمن الساجي بالفاء فأصر على القاف.
وذكر الذهبي عن ابن ناصر أنه رد على ابن طاهر لما قرأها بالقاف قال: فكابرني قلت: ولعله وجهه بما قال العسكري.

وأخرجه البخاري عن عبد الله بن يوسف عن مالك به وتابعه ابن عيينة وغيره عن هشام في الصحيحين.

( مالك عن هشام بن عروة عن أبيه أنه قال) لم تختلف الرواة عن مالك في إرساله.
وأخرجه الترمذي من رواية سعيد بن يحيى بن سعيد عن أبيه عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت: ( أنزلت عبس وتولى في عبد الله ابن أم مكتوم) القرشي العامري من بني عامر بن لؤي، وقيل اسمه عمرو بفتح العين وهو الأكثر، وهو ابن قيس بن زائدة بن الأصم، ومنهم من قال: عمرو بن زائدة نسبه لجده ويقال: كان اسمه الحصين فسماه النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله، حكاه ابن حبان.
وقال ابن سعد أهل المدينة يقولون: اسمه عبد الله.
وأهل العراق يقولون: اسمه عمرو.
واسم أمه أم مكتوم: عاتكة بنت عبد الله المخزومية.
أسلم قديمًا بمكة وكان من المهاجرين الأولين قدم المدينة قبل أن يهاجر النبي صلى الله عليه وسلم على الأصح، وقيل بعد وقعة بدر بقليل.
وروى جماعة من أهل العلم بالنسب والسير أنه صلى الله عليه وسلم استخلفه ثلاث عشرة مرة.
وله حديث في السنن وخرج إلى القادسية فشهد القتال فاستشهد وقيل: بل شهدها ورجع إلى المدينة فمات بها ولم يسمع له ذكر بعد عمر بن الخطاب وفيه نزل { { غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ } } كما في البخاري و { { عَبَسَ وَتَوَلَّى } }

( جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم) بمكة ( فجعل يقول يا محمد) قبل النهي عن ندائه باسمه لأنه نزل بالمدينة ( استدنيني) بياء بين النونين.
ورواه ابن وضاح استدنني بحذفها: أي أشر لي إلى موضع قريب منك أجلس فيه ( وعند النبي صلى الله عليه وسلم رجل من عظماء) جمع عظيم ( المشركين) هو أبي بن خلف، رواه أبو يعلى عن أنس.
ولابن جرير عن ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم كان يناجي عتبة بن ربيعة وأبا جهل والعباس.
وله من مرسل قتادة: وهو يناجي أمية بن خلف.
وحكى ذلك كله ابن عبد البر والباجي خلافًا في تفسير المبهم وزاد قولاً إنه شيبة بن ربيعة.
( فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يعرض عنه) ثقة بما في قلبه من الإسلام لا سيما والذي طلبه من التفقه في الدين لا يفوت.
ففي حديث ابن عباس فقال علمني مما علمك الله فأعرض عنه ( ويقبل على الآخر) رجاء إسلامه لأنه كان يحب إسلام الخلق إذ هو مأمور بالإنذار وبالدعاء إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة ( ويقول يا أبا فلان) خاطبه بالكنية استئلافًا ( هل ترى بما أقول بأسًا فيقول لا والدماء) بالمد.
قال ابن عبد البر: رواية طائفة عن مالك بضم الدال، أي الأصنام التي كانوا يعبدون ويعظمون واحدتها دمية، وطائفة بكسر الدال أي دماء الهدايا التي كانوا يذبحونها بمنى لآلهتهم قال توبة بن الحمير:

عليّ دماء البدن إن كان بعلها
يرى لي ذنبًا غير أني أزورها

وقال آخر:

أما ودماء المزجيات إلى منى
لقد كفرت أسماء غير كفور

( ما أرى بما تقول بأسا) شدة بل هو روح الأرواح ( فأنزلت { { عَبَسَ وَتَوَلَّى } } ) أعرض { { أَن جَاءَهُ الأعْمَى } } زاد أبو يعلى عن أنس فكان النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك يكرمه وفي حديث ابن عباس فكان إذا نظر إليه بعد ذلك مقبلاً بسط إليه رداءه حتى يجلسه عليه.
وكان إذا خرج من المدينة استخلفه يصلي بالناس حتى يرجع.
وقالت عائشة عاتب الله نبيه في سورة عبس قالت: ولو كتم من الوحي شيئًا لكتم هذا.
وإنما حصلت صورة العتاب مع أن فعله صلى الله عليه وسلم كان طاعة لربه وتبليغًا عنه واستئلافًا له كما شرعه له لأن ابن أم مكتوم بسبب عماه استحق مزيد الرفق والمستفاد من الآية إعلام الله تعالى بأن ذلك المتصدي له لا يتزكى، وأنه لو كشف له حال الرجلين لاختار الإقبال على الأعمى ففيه الحث على الترحيب بالفقراء والإقبال عليهم في مجالس العلم وقضاء حوائجهم وعدم إيثار الأغنياء عليهم.
وفي الحديث الاعتناء بعلم السير وما ارتبط بها من علم نزول القرآن ومتى نزل وفيمن نزل وإنه لحسن.

( مالك عن زيد بن أسلم) العدوي مولاهم المدني ( عن أبيه) أسلم مولى عمر ثقة مخضرم مات سنة ثمانين وهو ابن أربع عشرة ومائة سنة ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسير في بعض أسفاره) هو سفر الحديبية كما في حديث ابن مسعود عند الطبراني.
قال ابن عبد البر هذا الحديث مرسل إلا أنه محمول على الاتصال لأن أسلم رواه عن عمرو.
وقد رواه جماعة عن مالك عن زيد بن أسلم عن أبيه عن عمر موصولاً انتهى.

وأخرجه البخاري والترمذي والنسائي من طرق عن مالك به.
قال الحافظ: هذا السياق صورته الإرسال لأن أسلم لم يدرك زمان هذه القصة لكنه محمول على أنه سمعه من عمر لقوله في أثنائه قال عمر: فحركت بعيري.
وقد جاء من طريق أخرى سمعت عمر.
أخرجه البزار من طريق محمد بن خالد بن عثمة عن مالك ثم قال: لا نعلم رواه عن مالك هكذا إلا ابن عثمة وابن غزوان ورواية ابن غزوان أخرجها أحمد عنه.
وأخرجه الدارقطني في الغرائب من طريق محمد بن حرب ويزيد بن أبي حكيم وإسحاق الحنيني كلهم عن مالك على الاتصال.

( وعمر بن الخطاب يسير معه ليلاً) ففيه إباحة السير على الدواب ليلاً وحمله العلماء على من لا يمشي بها نهارًا أو قل مشيه بها نهارًا لأنه صلى الله عليه وسلم أمر بالرفق بها والإحسان إليها قاله أبو عمر ( فسأله عمر عن شيء فلم يجبه) لاشتغاله صلى الله عليه وسلم بالوحي ( ثم سأله) ثانيًا ( فلم يجبه ثم سأله) ثالثًا ( فلم يجبه) ولعله ظن أنه لم يسمعه ( فقال عمر ثكلتك) بفتح المثلثة وكسر الكاف أي فقدتك ( أمك) يا ( عمر) فهو منادى بحذف الياء وثبتت في رواية دعا على نفسه بسبب ما وقع منه من الإلحاح خوف غضبه وحرمان فائدته قال أبو عمر: قلما أغضب عالم إلا حرمت فائدته.
وقال ابن الأثير دعا على نفسه بالموت والموت يعم كل أحد فإذا الدعاء كلا دعاء ( نزرت) بفتح النون والزاي مخففة فراء ساكنة ( رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي ألححت عليه وبالغت في السؤال، أو راجعته أو أتيته بما يكره من سؤالك.
وفي رواية بتشديد الزاي وهو على المبالغة أي أقللت كلامه إذ سألته ما لا يحب أن يجيب عنه والتخفيف هو الوجه.
قال الحافظ أبو ذر الهروي: سألت عنه ممن لقيت أربعين فما قرؤه قط إلا بالتخفيف.
( ثلاث مرات كل ذلك لا يجيبك) ففيه أن سكوت العالم يوجب على المتعلم ترك الإلحاح عليه وإن له أن يسكت عما لا يريد أن يجيب فيه.

( قال عمر فحركت بعيري حتى إذا كنت أمام) بالفتح قدام ( الناس وخشيت أن ينزل في) بشد الياء ( قرآن فما نشبت) بفتح النون وكسر المعجمة وسكون الموحدة ففوقية فما لبثت وما تعلقت بشيء ( أن سمعت صارخًا) لم يسم ( يصرخ بي قال) عمر ( فقلت لقد خشيت أن يكون نزل في قرآن) قال أبو عمر: أرى أنه عليه السلام أرسل إلى عمر يؤنسه ويدل على منزلته عنده ( قال) عمر ( فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلمت عليه فقال) بعد رد السلام ( لقد أنزلت علي هذه الليلة سورة لهي) بلام التأكيد ( أحب إلي مما طلعت عليه الشمس) لما فيها من البشارة بالمغفرة والفتح وغيرهما وأفعل قد لا يراد بها المفاضلة ( ثم قرأ { { إنا فتحنا لك فتحا مبينا } } ) قال ابن عباس وأنس والبراء هو فتح الحديبية ووقوع الصلح.

قال الحافظ فإن الفتح لغة فتح المغلق والصلح كان مغلقًا حتى فتحه الله.
وكان من أسباب فتحه صد المسلمين عن البيت فكانت الصورة الظاهرة ضيمًا للمسلمين والباطنة عزًا لهم فإن الناس للأمن الذي وقع فيهم اختلط بعضهم ببعض من غير نكير، وأسمع المسلمون المشركين القرآن وناظروهم على الإسلام جهرة آمنين، وكانوا قبل ذلك لا يتكلمون عندهم بذلك إلا خفية فظهر من كان يخفي إسلامه فذل المشركون من حيث أرادوا العزة وقهروا من حيث أرادوا الغلبة.
وقيل هو فتح مكة نزلت مرجعه من الحديبية عدة له بفتحها وأتى به ماضيًا لتحقق وقوعه وفيه من الفخامة والدلالة على علو شأن المخبر به ما لا يخفى وقيل المعنى قضينا لك قضاء بينًا على أهل مكة أن تدخلها أنت وأصحابك قابلاً من الفتاحة وهي الحكومة والحق أنه يختلف باختلاف المراد من الآيات فالمراد بقوله تعالى: { { إنا فتحنا لك } } فتح الحديبية لما ترتب على الصلح من الأمن ورفع الحرب وتمكن من كان يخشى الدخول في الإسلام والوصول إلى المدينة منه وتتابع الأسباب إلى أن كمل الفتح.

وأما قوله: { { وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا } } فالمراد فتح خيبر على الصحيح لأنها هي التي وقع فيها مغانم كثيرة للمسلمين وأما قوله: { { إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ } } وقوله لا هجرة بعد الفتح ففتح مكة باتفاق فبهذا يرتفع الإشكال وتجتمع الأقوال انتهى.
قال ابن عبد البر: أدخل مالك هذا الحديث في باب ما جاء في القرآن تعريفًا بأنه ينزل في الأحيان على قدر الحاجة وما يعرض انتهى.
ولإفادة أن منه ليليٌّ ورواه البخاري في المغازي عن عبد الله بن يوسف وفي التفسير عن عبد الله بن مسلمة القعنبي كلاهما عن مالك به.

( مالك عن يحيى بن سعيد) الأنصاري التابعي ولجده قيس صحبة ( عن محمد بن إبراهيم بن الحارث) بن خالد القرشي ( التيمي) تيم قريش أبي عبد الله المدني مات سنة عشرين ومائة على الصحيح وجده الحارث من المهاجرين الأولين ( عن أبي سلمة بن عبد الرحمن) بن عوف الزهري المدني ( عن أبي سعيد) سعد بن مالك بن سنان الخدري الصحابي ابن الصحابي ( قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يخرج فيكم) أنفسكم يعني أصحابه أي يخرج عليكم ( قوم) هم الذين خرجوا على علي بن أبي طالب يوم النهروان فقتلهم فهم أصل الخوارج.
وأول خارجة خرجت إلا أن منهم طائفة كانت ممن قصد المدينة يوم الدار في قتل عثمان وسموا خوارج من قوله يخرج قاله في التمهيد.
( تحقرون) بكسر القاف تستقلون ( صلاتكم مع صلاتهم وصيامكم مع صيامهم) لأنهم كانوا يصومون النهار ويقومون الليل، وللطبراني عن ابن عباس في قصة مناظرته للخوارج قال: فأتيتهم فدخلت على قوم لم أر أشد اجتهادًا منهم ( وأعمالكم مع أعمالهم) من عطف العام على الخاص كقوله: { { وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ } } ( يقرؤون القرآن) آناء الليل والنهار.
وفي رواية للبخاري يتلون كتاب الله رطبًا أي لمواظبتهم على تلاوته فلا يزال لسانهم رطبًا بها أو هو من تحسين الصوت بها ( ولا يجاوز حناجرهم) جمع حنجرة، وهي آخر الحلق مما يلي الفم.
وقيل أعلى الصدر عند طرف الحلقوم والمعنى أن قراءتهم لا يرفعها الله ولا يقبلها وقيل لا يعملون بالقرآن فلا يثابون على قراءتهم فلا يحصل لهم إلا سرده.
وقيل: لا تفقهه قلوبهم ويحملونه على غير المراد به فلا حظ لهم منه إلا مروره على لسانهم لا يصل إلى حلوقهم، فضلاً عن أن يصل إلى قلوبهم فلا يتدبروه بها.

وقال ابن رشيق: المعنى لا ينتفعون بقراءته كما لا ينتفع الآكل والشارب من المأكول والمشروب إلا بما يجاوز حنجرته قال ابن عبد البر: وكانوا لتكفيرهم الناس لا يقبلون خبر أحد عن النبي صلى الله عليه وسلم فلم يعرفوا بذلك شيئًا من سنته وأحكامه المبينة لمجمل القرآن والمخبرة عن مراد الله تعالى في خطابه ولا سبيل إلى المراد بها إلا ببيان رسوله، ألا ترى إلى قوله: { { وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ } } والصلاة والزكاة والحج والصوم وسائر الأحكام إنما ذكرت في القرآن مجملة بينتها السنة فمن لم يقبل أخبار العدول ضل وصار في عمياء.

( يمرقون) بضم الراء يخرجون سريعًا ( من الدين) قيل المراد الإسلام فهو حجة لمن كفر الخوارج، وبه جزم ابن العربي في الأحوذي محتجًا برواية البخاري يمرقون من الإسلام.
وقيل المراد الطاعة فلا حجة فيه لكفرهم.
قال الحافظ: والذي يظهر أن المراد بالدين الإسلام كما في الرواية الأخرى وخرج الكلام مخرج الزجر وأنهم بفعلهم ذلك يخرجون من الإسلام الكامل ( مروق السهم) وفي رواية كما يمرق السهم ( من الرمية) بفتح الراء وكسر الميم وشد التحتية، وهي الطريدة من الصيد فعيلة من الرمي بمعنى مفعولة، دخلتها الهاء إشارة إلى نقلها من الوصفية إلى الإسمية شبه مروقهم من الدين بالسهم الذي يصيب الصيد فيدخل فيه ويخرج منه ومن شدة سرعة خروجه لقوة الرامي لا يعلق من جسد الصيد بشيء ( تنظر) أيها الرامي ( في النصل) بنون فصاد حديدة السهم هل ترى فيه شيئًا من أثر الصيد دم أو نحوه ( فلا ترى شيئا) فيه ( وتنظر في القدح) بكسر القاف وسكون الدال وحاء مهملتين خشب السهم أو ما بين الريش والسهم هل ترى أثرًا ( فلا ترى شيئا) فيه ( وتنظر في الريش) الذي على السهم ( فلا ترى شيئا) فيه ( وتتمارى) بفتح الفوقيتين أي تشك ( في الفوق) بضم الفاء وهو موضع الوتر من السهم أي نتشكك هل علق به شيء من الدم.
وفي رواية وينظر ويتمارى بالتحتية أي الرامي، والمعنى أن هؤلاء يخرجون من الإسلام بغتة كخروج السهم إذا رماه رام قوي الساعد فأصاب ما رماه فنفذ بسرعة بحيث لا يعلق بالسهم ولا بشيء منه من المرمى شيء فإذا التمس الرامي سهمه لم يجده علق بشيء من الدم ولا غيره.

وفي رواية ابن ماجه والطبراني: سيخرج قوم من الإسلام خروج السهم من الرمية عرضت للرجال فرموها فانمرق سهم أحدهم منها فخرج فأتاه فنظر إليه فإذا هو لم يتعلق بنصله من الدم شيء ثم نظر إلى القدح الحديث، زاد في رواية الشيخين من وجه آخر عن أبي سعيد آيتهم رجل أسود إحدى عضديه مثل ثدي المرأة أو مثل البضعة ويخرجون على خير فرقة من الناس.
قال أبو سعيد: فأشهد أني سمعت هذا الحديث من رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن علي بن أبي طالب قتلهم وأنا معه فأمر بذلك الرجل فالتمس فأتي به حتى نظرت إليه على نعت النبي صلى الله عليه وسلم الذي نعته.
وفي رواية مسلم فلما قتلهم علي قال: انظروا فلم ينظروا شيئًا فقال: ارجعوا فوالله ما كذبت ولا كذبت - مرتين أو ثلاثًا - ثم وجدوه في خربة.

قال الباجي: أجمع العلماء أن المراد بهذا الحديث الخوارج الذين قاتلهم علي.
وفي التمهيد يتمارى في الفوق أي يشك وذلك يوجب أن لا يقطع على الخوارج ولا على غيرهم من أهل البدع بالخروج من الإسلام، وأن يشك في أمرهم وكل شيء يشك فيه فسبيله التوقف فيه دون القطع.
وقد قال فيهم رسول الله: يخرج قوم من أمتي، فإن صحت هذه اللفظة فقد جعلهم من أمته.
وقال قوم: معناه من أمتي بدعواهم.
وقال علي: لم نقاتل أهل النهروان على الشرك.
وسئل عنهم أكفار هم؟ قال: من الكفر فروا قيل: فمنافقون؟ قال: إن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلاً قيل: فما هم؟ قال: قوم أصابتهم فتنة فعموا فيها وصموا وبغوا علينا وحاربونا وقاتلونا فقتلناهم.
قال إسماعيل القاضي: رأى مالك قتل الخوارج وأهل القدر للفساد الداخل في الدين وهو من باب الإفساد في الأرض، وليس إفسادهم بدون إفساد قطاع الطريق والمحاربين المسلمين على أموالهم، فوجب بذلك قتلهم لكنه يرى استتابتهم لعلهم يراجعون الحق فإن تمادوا قتلوا على إفسادهم لا على كفرهم وهذا قول عامة الفقهاء الذين يرون قتلهم واستتابتهم.

وذهب أبو حنيفة والشافعي وجمهور الفقهاء وكثير من المحدثين إلى أنه لا يتعرض لهم باستتابة ولا غيرها ما استتروا ولم يبغوا ولم يحاربوا، وقالت طائفة من المحدثين: هم كفار على ظواهر الأحاديث ولكن يعارضها غيرها فيمن لا يشرك بالله شيئًا ويريد بعمله وجهه وإن أخطأ في حكمه واجتهاده والنظر يشهد أن الكفر لا يكون إلا بضد الحال التي يكون بها الإيمان، فهما ضرتان انتهى ملخصًا.
وبالغ الخطابي فقال: أجمع علماء المسلمين على أن الخوارج على ضلالتهم فرقة من المسلمين وأجازوا مناكحتهم وأكل ذبائحهم وقبول شهادتهم.

وهذا الحديث أخرجه البخاري في التفسير حدثنا عبد الله بن يوسف عن مالك به.

( مالك أنه بلغه أن عبد الله بن عمر مكث على سورة البقرة ثماني سنين يتعلمها) ليس ذلك لبطء حفظه معاذ الله بل لأنه كان يتعلم فرائضها وأحكامها وما يتعلق بها فقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم كراهة الإسراع في حفظ القرآن دون التفقه فيه.
ولعل ابن عمر خلط مع ذلك من العلم أبوابًا غيرها، وإنما ذلك مخافة أن يتأوله على غير تأويله قاله الباجي.
ونحوه قول أبي عمر لأنه كان يتعلمها بأحكامها ومعانيها وأخبارها وهذا البلاغ أخرجه ابن سعد في الطبقات عن عبد الله بن جعفر عن أبي المليح عن ميمون أن ابن عمر تعلم البقرة في ثمان سنين وأخرج الخطيب في رواية مالك عن ابن عمر قال: تعلم عمر البقرة في اثنتي عشرة سنة فلما ختمها نحر جزورًا.



رقم الحديث 485 وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَسِيرُ فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ.
وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَسِيرُ مَعَهُ لَيْلًا، فَسَأَلَهُ عُمَرُ عَنْ شَيْءٍ، فَلَمْ يُجِبْهُ.
ثُمَّ سَأَلَهُ، فَلَمْ يُجِبْهُ.
ثُمَّ سَأَلَهُ، فَلَمْ يُجِبْهُ.
فَقَالَ عُمَرُ: ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ، عُمَرُ نَزَرْتَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ.
كُلُّ ذَلِكَ لَا يُجِيبُكَ.
قَالَ عُمَرُ فَحَرَّكْتُ بَعِيرِي.
حَتَّى إِذَا كُنْتُ أَمَامَ النَّاسِ وَخَشِيتُ أَنْ يُنْزَلَ فِيَّ قُرْآنٌ.
فَمَا نَشِبْتُ أَنْ سَمِعْتُ صَارِخًا يَصْرُخُ بِي قَالَ، فَقُلْتُ: لَقَدْ خَشِيتُ أَنْ يَكُونَ نَزَلَ فِيَّ قُرْآنٌ، قَالَ: فَجِئْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ.
فَقَالَ: لَقَدْ أُنْزِلَتْ عَلَيَّ، هَذِهِ اللَّيْلَةَ، سُورَةٌ.
لَهِيَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ، ثُمَّ قَرَأَ: { { إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا } }


مَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ

( مَالِكٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ) محمد بن مسلم الزهري ( عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ) بن العوام ( عن عبد الرحمن بن عبد) بلا إضافة ( القارئ) بشد الياء نسبة إلى القارة بطن من خزيمة بن مدركة من كبار التابعين، وعد في الصحابة لكونه أتي به للنبي صلى الله عليه وسلم وهو صغير كما أخرجه أبو القاسم البغوي في معجم الصحابة بإسناد لا بأس به.

( أنه قال سمعت عمر بن الخطاب يقول سمعت هشام بن حكيم بن حزام) بكسر المهملة وزاي ابن خويلد بن أسد القرشي الأسدي صحابي ابن صحابي ومات قبل أبيه ووهم من زعم أنه استشهد بأجنادين ( يقرأ سورة الفرقان) وغلط من قال: سورة الأحزاب ( على غير ما أقرؤها وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أقرأنيها) وفي رواية عقيل عن ابن شهاب فإذا هو يقرؤها على حروف كثيرة لم يقرئنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قال ابن عبد البر: ففي هذه الرواية بيان أن اختلافهما كان في حروف من السورة لا في السورة كلها، وهي تفسير لرواية مالك لأن سورة واحدة لا تقرأ حروفها كلها على سبعة أوجه، بل لا يوجد في القرآن كلمة تقرأ على سبعة أوجه إلا قليل من كثير مثل: { { رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا } } { { وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ } } و { { الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا } } و { { بِعَذَابٍ بَئِيسٍ } } ونحوه ( فكدت أن أعجل عليه) بفتح الهمزة وسكون العين وفتح الجيم وفي رواية أعجل بضم الهمزة وفتح العين وكسر الجيم مشددة أي أخاصمه وأظهر بوادر غضبي عليه ( ثم أمهلته حتى انصرف) من الصلاة ففي رواية عقيل فكدت أساوره في الصلاة فتصبرت حتى سلم وأساوره بضم الهمزة وفتح المهملة أي آخذ برأسه أو أواثبه فليس المراد انصرف من القراءة كما زعم الكرماني ( ثم لببته) بموحدتين أولاهما مشددة وقال عياض التخفيف أعرف ( بردائه) أي أخذت بمجامعه وجعلته في عنقه وجررته به لئلا ينفلت مأخوذ من اللبة بفتح اللام لأنه يقبض عليها، وإنما فعل عمر ذلك اعتناء بالقرآن، وذبًا عنه، ومحافظة على لفظه كما سمعه من غير عدول إلى ما تجوزه العرب مع ما كان عليه من الشدة في الأمر بالمعروف، زاد في رواية عقيل فقلت من أقرأك هذه السورة التي سمعتك تقرأ؟ قال: أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: كذبت، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقرأنيها على غير ما قرأت وفيه إطلاق الكذب على غلبة الظن فإنه إنما فعل ذلك اجتهادًا منه لظنه أن هشامًا خالف الصواب وساغ له ذلك لرسوخ قدمه في الإسلام وسابقته بخلاف هشام فإنه من مسلمة الفتح فخشي أن لا يكون أتقن القراءة ولعل عمر لم يكن سمع حديث أنزل القرآن على سبعة أحرف قبل ذلك، ( فجئت به رسول الله صلى الله عليه وسلم) وفي رواية عقيل: فانطلقت به أقوده إلى رسول الله ( فقلت يا رسول الله إني سمعت هذا يقرأ سورة الفرقان على غير ما أقرأتنيها) وفي رواية عقيل على حروف لم تقرئنيها ( فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسله) بهمزة قطع أي: أطلقه لأنه كان ممسوكًا معه.
( ثم قال اقرأ) يا هشام ( فقرأ القراءة التي سمعته يقرأ) بها ( فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هكذا أنزلت ثم قال لي اقرأ) يا عمر ( فقرأتها) .
وفي رواية عقيل: فقرأت القراءة التي أقرأني ( فقال هكذا أنزلت) .
ثم قال صلى الله عليه وسلم تطييبًا لقلب عمر لئلا ينكر تصويب الأمرين المختلفين ( إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف) جمع حرف مثل فلس وأفلس.
( فاقرؤوا ما تيسر منه) أي المنزل بالسبعة ففيه إشارة إلى أن حكمة التعدد التيسير على القارئ ولم يقع في شيء من الطرق تفسير الأحرف التي اختلف فيها عمر وهشام من سورة الفرقان، نعم اختلف الصحابة فمن دونهم في أحرف كثيرة من هذه السورة كما بينه في التمهيد بما يطول، ووقع لجماعة من الصحابة نظير ما وقع لعمر مع هشام كأبي بن كعب مع ابن مسعود في سورة النحل.
وعمرو بن العاصي مع رجل في آية من الفرقان عند أحمد.
وابن مسعود مع رجل في سورة من آل حم.

رواه ابن حبان والحاكم.
وأما حديث سمرة رفعه أنزل القرآن على ثلاثة أحرف رواه الحاكم قائلاً: تواترت الأخبار بالسبعة إلا في هذا الحديث فقال أبو شامة: يحتمل أن بعضه أنزل على ثلاثة أحرف كجذوة والرهب أو أراد أنزل ابتداء على ثلاثة أحرف ثم زيد إلى سبعة توسعة على العباد، والأكثر أنها محصورة في السبعة.
وقيل: ليس المراد حقيقة العدد بل التسهيل والتيسير والشرف والرحمة وخصوصية الفضل لهذه الأمة فإن لفظ سبعة يطلق على إرادة الكثرة في الآحاد كما يطلق السبعون في العشرات، والسبعمائة في المئين.
ولا يراد العدد المعين وإلى هذا جنح عياض ومن تبعه ورد بحديث ابن عباس في الصحيحين: أقرأني جبريل على حرف فراجعته فلم أزل أستزيده ويزيدني حتى انتهى إلى سبعة أحرف.

وفي حديث أبي عند مسلم: إن ربي أرسل إلي أن أقرأ القرآن على حرف فرددت عليه أن هون على أمتي فأرسل إلي أن أقرأه على سبعة أحرف وللنسائي إن جبريل وميكائيل أتياني فقعد جبريل على يميني وميكائيل على يساري فقال جبريل: اقرأ القرآن على حرف فقال ميكائيل استزده حتى بلغ سبعة أحرف.
وفي حديث أبي بكرة عند أحمد فنظرت إلى ميكائيل فسكت فعلمت أنه قد انتهت العدة فهذا يدل على إرادة حقيقة العدد وانحصاره.
واختلف في ذلك على نحو أربعين قولاً أكثرها غير مختار.

قال ابن العربي: لم يأت في ذلك نص ولا أثر.
وقال أبو جعفر محمد بن سعدان النحوي: هذا من المشكل الذي لا يدرى معناه لأن الحرف يأتي لمعان للهجاء وللكلمة وللمعنى والجهة انتهى.
وأقربها قولان أحدهما: أن المراد سبع لغات وعليه أبو عبيدة وثعلب والزهري وآخرون، وصححه ابن عطية والبيهقي وتعقب بأن لغات العرب أكثر من سبعة.
وأجيب بأن المراد أفصحها، والثاني: أن المراد سبعة أوجه من المعاني المتفقة بألفاظ مختلفة نحو أقبل وتعال وهلم وعجل وأسرع.
وعليه سفيان بن عيينة وابن وهب وخلائق.
ونسبه ابن عبد البر لأكثر العلماء لكن الإباحة المذكورة لم تقع بالتشهي وهو أن كل واحد يغير الكلمة بمرادفها من لغته بل ذلك مقصور على السماع منه صلى الله عليه وسلم كما يشير إليه قول كل من عمر وهشام أقرأني النبي صلى الله عليه وسلم.
ولئن سلم إطلاق الإباحة بقراءة المرادف ولو لم يسمع لكن إجماع الصحابة زمن عثمان الموافق للعرضة الأخيرة يمنع ذلك.
واختلف هل السبعة باقية إلى الآن يقرأ بها أم كان ذلك ثم استقر الأمر على بعضها؟ ذهب الأكثر إلى الثاني كابن عيينة وابن وهب والطبري والطحاوي.
وهل استقر ذلك في الزمن النبوي أم بعده؟ الأكثر على الأول.
واختاره الباقلاني وابن عبد البر وابن العربي وغيرهم لأن ضرورة اختلاف اللغات ومشقة نطقهم بغير لغتهم اقتضت التوسعة عليهم في أول الأمر، فأذن لكل أن يقرأ على حرفه أي على طريقته في اللغة حتى انضبط الأمر وتدربت الألسن وتمكن الناس من الاقتصار على لغة واحدة فعارض جبريل النبي صلى الله عليه وسلم القرآن مرتين في السنة الأخيرة.
واستقر على ما هو عليه الآن فنسخ الله تلك القراءة المأذون فيها بما أوجبه من الاقتصار على هذه القراءة التي تلقاها الناس.

قال أبو شامة: ظن قوم أن المراد القراءات السبع الموجودة الآن، وهو خلاف إجماع العلماء وإنما يظن ذلك بعض أهل الجهل.
وقال مكي بن أبي طالب: من ظن أن قراءة هؤلاء كعاصم ونافع هي الأحرف السبعة التي في الحديث فقد غلط غلطًا عظيمًا، ويلزم منه أن ما خرج عن قراءتهم مما ثبت عن الأئمة وغيرهم ووافق خط المصحف أن لا يكون قرآنًا وهذا غلط عظيم.
وقد بين الطبري وغيره أن اختلاف القراء إنما هو حرف واحد من السبعة.

وهذا الحديث أخرجه البخاري عن عبد الله بن يوسف ومسلم عن يحيى بن يحيى كلاهما عن مالك به.

( مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إنما مثل صاحب القرآن) أي الذي ألف تلاوته - والمصاحبة المؤالفة - ومنه فلان صاحب فلان وأصحاب الجنة وأصحاب النار وأصحاب الحديث وأصحاب الرأي وأصحاب الصفة وأصحاب إبل وغنم وأصحاب كنز وعبادة قاله عياض.
( كمثل صاحب الإبل المعقلة) بضم الميم وفتح العين المهملة والقاف الثقيلة أي المشدودة بالعقال، وهو الحبل الذي يشد في ركبة البعير.
( إن عاهد عليها أمسكها) أي استمر إمساكه لها ( وإن أطلقها) من عقلها ( ذهبت) أي انفلتت.
والحصر في إنما حصر مخصوص بالنسبة إلى النسيان والحفظ بالتلاوة والترك شبه درس القرآن واستمرار تلاوته بربط البعير الذي يخشى منه أن يشرد فمادام التعاهد موجودًا فالحفظ موجود، كما أن البعير مادام مشدودًا بالعقال فهو محفوظ.
وخص الإبل بالذكر لأنها أشد الحيوانات الإنسية نفارًا.
وفيه حض على درس القرآن وتعاهده.

وفي الصحيح مرفوعًا: تعاهدوا القرآن فوالذي نفسي بيده لهو أشدّ تفصيًا من الإبل في عقلها.
وقال صلى الله عليه وسلم: من تعلم القرآن ثم نسيه لقي الله يوم القيامة أجزم أي منقطع الحجة.
وقال: عرضت عليَّ أجوار أمتي حتى القذاة يخرجها الرجل من المسجد.
وعرضت عليّ ذنوب أمتي فلم أر ذنبًا أعظم من سورة من القرآن أو آية من القرآن أوتيها رجل ثم نسيها.
وفي الصحيحين عن ابن مسعود مرفوعًا: بئس ما لأحدكم أن يقول نسيت آية كيت وكيت، بل هو نُسِّي فإنه أشد تفصيًا من صدور الرجال من النعم.

قال ابن عبد البر: فكره أن يقول نسيت وأباح أن يقول أنسيت قال تعالى: { { وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطَانُ } } وقال ابن عيينة: النسيان المذموم هو ترك العمل به وليس من انتهى حفظه وتفلت منه بناس له إذا عمل به، ولو كان كذلك ما نسي صلى الله عليه وسلم شيئًا منه قال تعالى: { { سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنسَى إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ } } وقال صلى الله عليه وسلم: ذكرني هذا آية أنسيتها.
قال ابن عبد البر وهذا معروف في لسان العرب قال تعالى: { { نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ } } أي تركوا طاعته فترك رحمتهم وقال تعالى: { { فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ } } أي تركوا.

والحديث رواه البخاري عن عبد الله بن يوسف ومسلم عن يحيى كلاهما عن مالك به.

( مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أن الحارث بن هشام) المخزومي شقيق أبي جهل أسلم يوم الفتح، وكان من فضلاء الصحابة، واستشهد في فتوح الشام سنة خمس عشرة.
وقد تكتب الحارث بلا ألف تخفيفًا ( سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم) قال الحافظ: هكذا رواه الرواة عن عروة فيحتمل أن عائشة حضرت ذلك.
وعلى هذا اعتمد أصحاب الأطراف فأخرجوه في مسند عائشة.
ويحتمل أن الحارث أخبرها بذلك بعد فيكون من مرسل الصحابة وهو محكوم بوصله عند الجمهور ويؤيد الثاني ما رواه أحمد والبغوي وغيرهما من طريق عامر بن صالح الزبيري عن هشام عن أبيه عن عائشة عن الحارث بن هشام قال: سألت وعامر فيه ضعف لكن له متابع عند ابن منده والمشهور الأول ( كيف يأتيك الوحي) أي صفة الوحي نفسه أو صفة حامله أو أعم من ذلك.
وعلى كل تقدير فإسناد الإتيان إلى الوحي مجاز عقلي لأن الإتيان حقيقة من وصف حامله، ويسمى مجازًا في الإسناد للملابسة التي بين الحامل والمحمول، أو هو استعارة بالكناية شبه الوحي برجل وأضيف إلى المشبه الإتيان الذي هو من خواص المشبه به.
وفيه أن السؤال عن الكيفية لطلب الطمأنينة لا يقدح في اليقين وجواز السؤال عن أحوال الأنبياء من الوحي وغيره.

( فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أحيانًا) جمع حين يطلق على كثير الوقت وقليله والمراد هنا مجرد الوقت فكأنه قال أوقاتًا ونصب ظرفًا عامله ( يأتيني) مؤخر عنه وفيه أن المسئول عنه إذا كان ذا أقسام يذكر المجيب في أول جوابه ما يقتضي التفصيل ( في مثل صلصلة) بمهملتين مفتوحتين، بينهما لام ساكنة أصله صوت وقوع الحديد بعضه على بعض، ثم أطلق على كل صوت له طنين.
وقيل: صوت متدارك لا يدرك في أول وهلة ( الجرس) بجيم ومهملة: الجلجل الذي يعلق في رؤوس الدواب، واشتقاقه من الجرس بإسكان الراء، وهو الحس قيل الصلصلة صوت الملك بالوحي.
قال الخطابي: يريد أنه صوت متدارك يسمعه ولا يثبته أول ما يسمعه حتى يفهمه بعد ولما كان الجرس لا تحصل صلصلته إلا متداركة وقع التشبيه به دون غيره من آلات وقيل صوت حفيف أجنحة الملك والحكمة في تقدمه أن يقرع سمعه الوحي فلا يبقى فيه مكان لغيره.
( وهو أشده علي) لأن الفهم من كلام مثل الصلصلة أشدّ من الفهم من كلام الرجل بالتخاطب المعهود وفائدة هذه الشدة ما يترتب على المشقة من زيادة الزلفى والدرجات.
وأفهم أن الوحي كله شديد، وهذا أشده لأن العادة جرت بالمناسبة بين القائل والسامع، وهي هنا إما باتصاف السامع بوصف القائل فغلبت الروحانية وهو النوع الأول، وإما باتصاف القائل بوصف السامع وهو البشرية وهو النوع الثاني، والأول أشد بلا شك.

وقال السراج البلقيني: سبب ذلك أن الكلام العظيم له مقدمات تؤذن بتعظيمه للاهتمام به كما جاء في حديث ابن عباس وكان يعالج من التنزيل شدّة وقيل: كان ينزل هكذا إذا نزلت آية وعيد، قال الحافظ: وفيه نظر والظاهر أنه لا يختص بالقرآن كما في حديث يعلى بن أمية في قصة لابس الجبة المتضمخ بالطيب في الحج ففيه أنه رآه صلى الله عليه وسلم حالة نزول الوحي وأنه ليغط.

( فيفصم) بفتح التحتية وسكون الفاء وكسر المهملة، أي يقطع ( عني) ويتجلى ما يغشاني.
ويروى بضم أوله من الرباعي.
وفي رواية بضم أوله وفتح الصاد على البناء للمجهول، وأصل الفصم القطع ومنه قوله تعالى: { { لاَ انفِصَامَ لَهَا } } وقيل الفصم بالفاء القطع بلا إبانة وبالقاف القطع بإبانة فذكره يفصم بالفاء إشارة إلى أن الملك فارقه ليعود والجامع بينهما بقاء العلقة.
( وقد وعيت) بفتح العين حفظت ( ما قال) أي القول الذي جاء به، وفيه إسناد الوحي إلى قول الملك ولا معارضة بينه وبين قوله تعالى حكاية عن الكفار { { إِنْ هَذَا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ } } لأنهم كانوا ينكرون الوحي وينكرون مجيء الملك به، فإن قيل المحمود لا يشبه بالمذموم إذ حقيقة التشبيه إلحاق ناقص بكامل والمشبه الوحي والمشبه به صوت الجرس، وهو مذموم لصحة النهي عنه والتنفير من مرافقة ما هو معلق فيه والإعلام بأنهم لا تصحبهم الملائكة كما في مسلم وأبي داود وغيرهما.
فكيف شبه فعل الملك بأمر تنفر منه الملائكة؟ أجيب بأنه لا يلزم في التشبيه تساوي المشبه بالمشبه به في الصفات كلها بل ولا في أخص وصف له، بل يكفي اشتراكهما في صفة ما فالقصد هنا بيان الحس فذكر ما ألف السامعون سماعه تقريبًا لأفهامهم والحاصل أن الصوت له جهتان جهة قوة وبها وقع التشبيه وجهة طنين وبها وقع التنفير عنه وعلل بكونه مزمار الشيطان، واحتمال أن النهي عنه وقع بعد السؤال المذكور فيه نظر وهذا النوع شبيه بما يوحى إلى الملائكة كما في الصحيح مرفوعًا: إذا قضى الله في السماء أمرًا ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانًا لقوله كأنها سلسلة على صفوان فإذا فزع عن قلوبهم قالوا: ماذا قال ربكم؟ قالوا: الحق وهو العلي الكبير.
وللطبراني وابن أبي عاصم مرفوعًا: إذا تكلم الله في السماء بالوحي أخذت السماء رجفة أو رعدة شديدة من خوف الله، فإذا سمع أهل السماء صعقوا وخروا سجدًا، فيكون أولهم يرفع رأسه جبريل فيكلمه الله من وحيه بما أراد فينتهي به إلى الملائكة كلما مر بسماء سأله أهلها ماذا قال ربنا؟ قال: الحق فينتهي به حيث أمره الله من السماء والأرض.
ولابن مردويه مرفوعًا: إذا تكلم الله بالوحي يسمع أهل السماء صلصلة كصلصلة السلسلة على الصفوان فيفزعون.

( وأحيانا يتمثل) يتصور ( لي) أي لأجلي فاللام تعليلية ( الملك) جبريل كما في رواية ابن سعد فأل عهدية ( رجلا) نصب على المصدرية أي مثل رجل أو بهيئة رجل فهو حال وإن لم تؤول بمشتق لدلالة رجل على الهيئة بلا تأويل، أو على تمييز النسبة لا تمييز المفرد لأن الملك لا إبهام فيه وكون تمييز النسبة محولاً عن الفاعل كتصبب زيد عرقًا، أو المفعول كفجرنا الأرض عيونًا أمر غالب لا دائم بدليل امتلأ الإناء ماء، أو على المفعولية بتضمين يتمثل معنى يتخذ أي الملك رجلاً مثالاً، واستبعد من جهة المعنى لاتحاد المتخذ والمتخذ والإتيان بمثال بلا دليل قال المتكلمون: الملائكة أجسام علوية لطيفة تتشكل أي شكل أرادوا، وزعم بعض الفلاسفة أنها جواهر روحانية قال الحافظ: والحق أن تمثل الملك رجلاً ليس معناه أن ذاته انقلبت رجلاً، بل معناه أنه ظهر بتلك الصورة تأنيسًا لمن يخاطبه والظاهر أن القدر الزائد لا يزول ولا يفنى بل يخفى على الرائي فقط وتقدم مزيد لذلك في أول حديث.

( فيكلمني) بالكاف، وللبيهقي عن القعنبي: فيعلمني بالعين.
قال الحافظ: والظاهر أنه تصحيف فإنه في الموطأ رواية القعنبي بالكاف.
وكذا أخرجه الدارقطني من حديث مالك من طريق القتبي وغيره.
( فأعي ما يقول) زاد أبو عوانة: وهو أهونه عليَّ، وعبر هنا بالاستقبال وفيما قبله بالماضي لأن الوحي حصل في الأول قبل الفصم.
وفي الثاني حال المكالمة أو أنه في الأول تلبس بصفات الملكية فإذا عاد إلى جبلته كان حافظًا لما قيل له فعبر بالماضي بخلاف الثاني فإنه على حالته المعهودة وأورد على مقتضى هذا الحديث من حصر الوحي في الحالتين حالات أخرى، أما من صفة الوحي بمجيئه كدوي النحل والنفث في الروع والإلهام والرؤيا الصالحة والتكليم ليلة الإسراء بلا واسطة وأما في صفة حامل الوحي كمجيئه في صورته التي خلق عليها له ستمائة جناح ورؤيته على كرسي بين السماء والأرض وقد سد الأفق، والجواب منع الحصر في الحالين وحملهما على الغالب أو حمل ما يغايرهما على أنه وقع بعد السؤال أولم يتعرض لصفتي الملك المذكورتين لندورهما؛ فقد ثبت عن عائشة أنه لم يره كذلك إلا مرتين، أو لم يأته في تلك الحالة بوحي أو أتاه به وكان على مثل صلصلة الجرس، فإنه بين بها صفة الوحي لا صفة حامله.
وأما فنون الوحي فدوي النحل لا يعارض صلصلة الجرس لأن سماع الدوي بالنسبة إلى الحاضرين كما في حديث عمر: يُسمع عنده دوي كدوي النحل.
والصلصلة بالنسبة إليه صلى الله عليه وسلم فشبهه عمر بدوي النحل بالنسبة إلى السامعين وشبهه هو صلى الله عليه وسلم بصلصلة الجرس بالنسبة إلى مقامه.

وأما النفث في الروع فيحتمل أن يرجع إلى إحدى الحالتين فإذا أتاه في مثل الصلصلة نفث حينئذ في روعه.
وأما الإلهام فلم يقع السؤال عنه لأنه وقع عن صفة الوحي الذي يأتي بحامل، وكذا التكليم ليلة الإسراء.
وأما الرؤيا الصالحة فقال ابن بطال: لا ترد لأن السؤال وقع عما ينفرد به عن الناس والرؤيا قد يشاركه فيها غيره انتهى.
والرؤيا الصادقة وإن كانت جزءًا من النبوة فهي باعتبار صدقها لا غير، وإلا لساغ أن يسمى صاحبها نبيًا وليس كذلك، ويحتمل أن السؤال وقع عما في اليقظة ولكون حال المنام لا يخفى على السائل اقتصر على ما يخفى عليه أو كان ظهور ذلك له صلى الله عليه وسلم في المنام أيضًا على الوجهين المذكورين لا غير، قاله الكرماني وفيه نظر.
وقد ذكر الحليمي أن الوحي كان يأتيه على ستة وأربعين نوعًا فذكرها وغالبها من صفات حامل الوحي ومجموعها يدخل فيما ذكر انتهى.

( قالت عائشة) بالإسناد السابق وإن كان بغير حرف عطف.
وقد أخرجه الدارقطني من طريق عتيق بن يعقوب عن مالك عن هشام عن أبيه عنها مفصولاً عن الحديث الأول، وكذا فصلهما مسلم من طريق أبي أسامة عن هشام ونكتته هنا اختلاف التحمل لأنها في الأول أخبرت عن مسألة الحارث، وفي الثاني أخبرت عما شاهدته تأييدًا للخبر الأول ( ولقد رأيته) بواو القسم واللام للتأكيد، أي والله لقد أبصرته ( ينزل) بفتح أوله وكسر ثالثه وفي رواية بضم أوله وفتح ثالثه ( عليه الوحي في اليوم الشديد البرد) الشديد صفة جرت على غير من هي له لأنه صفة البرد لا اليوم ( فيفصم) بفتح الياء وكسر الصاد، أو بضمها وكسر الصاد: من أفصم رباعي وهي لغة قليلة، أو مبني للمجهول روايات كما مر أي يقلع ( عنه وإن جبينه ليتفصد) بالياء ثم التاء وفاء وصاد مهملة ثقيلة من الفصد؛ وهو قطع العرق لإسالة الدم شبه جبينه بالعرق المفصود مبالغة في الكثرة أي ليسيل ( عرقا) تمييز.
زاد ابن أبي الزناد عن هشام بهذا الإسناد عند البيهقي: وإن كان ليوحى إليه وهو على ناقته فتضرب جرانها من ثقل ما يوحى إليه.
وفيه دلالة على كثرة معاناة التعب والكرب عند نزول الوحي لمخالفة العادة وهو كثرة العرق في شدة البرد فيشعر بأمر طارئ زائد على الطباع البشرية.

وحكى العسكري في كتاب التصحيف عن بعض شيوخه: ليتقصد بالقاف من التقصيد.
قال العسكري: فإن ثبت فهو من قولهم تقصد الشيء: إذا تكسر وتقطع، ولا يخفى بعده انتهى.
وقد وقع في هذا التصحيف أبو الفضل بن طاهر فرده عليه المؤتمن الساجي بالفاء فأصر على القاف.
وذكر الذهبي عن ابن ناصر أنه رد على ابن طاهر لما قرأها بالقاف قال: فكابرني قلت: ولعله وجهه بما قال العسكري.

وأخرجه البخاري عن عبد الله بن يوسف عن مالك به وتابعه ابن عيينة وغيره عن هشام في الصحيحين.

( مالك عن هشام بن عروة عن أبيه أنه قال) لم تختلف الرواة عن مالك في إرساله.
وأخرجه الترمذي من رواية سعيد بن يحيى بن سعيد عن أبيه عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت: ( أنزلت عبس وتولى في عبد الله ابن أم مكتوم) القرشي العامري من بني عامر بن لؤي، وقيل اسمه عمرو بفتح العين وهو الأكثر، وهو ابن قيس بن زائدة بن الأصم، ومنهم من قال: عمرو بن زائدة نسبه لجده ويقال: كان اسمه الحصين فسماه النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله، حكاه ابن حبان.
وقال ابن سعد أهل المدينة يقولون: اسمه عبد الله.
وأهل العراق يقولون: اسمه عمرو.
واسم أمه أم مكتوم: عاتكة بنت عبد الله المخزومية.
أسلم قديمًا بمكة وكان من المهاجرين الأولين قدم المدينة قبل أن يهاجر النبي صلى الله عليه وسلم على الأصح، وقيل بعد وقعة بدر بقليل.
وروى جماعة من أهل العلم بالنسب والسير أنه صلى الله عليه وسلم استخلفه ثلاث عشرة مرة.
وله حديث في السنن وخرج إلى القادسية فشهد القتال فاستشهد وقيل: بل شهدها ورجع إلى المدينة فمات بها ولم يسمع له ذكر بعد عمر بن الخطاب وفيه نزل { { غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ } } كما في البخاري و { { عَبَسَ وَتَوَلَّى } }

( جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم) بمكة ( فجعل يقول يا محمد) قبل النهي عن ندائه باسمه لأنه نزل بالمدينة ( استدنيني) بياء بين النونين.
ورواه ابن وضاح استدنني بحذفها: أي أشر لي إلى موضع قريب منك أجلس فيه ( وعند النبي صلى الله عليه وسلم رجل من عظماء) جمع عظيم ( المشركين) هو أبي بن خلف، رواه أبو يعلى عن أنس.
ولابن جرير عن ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم كان يناجي عتبة بن ربيعة وأبا جهل والعباس.
وله من مرسل قتادة: وهو يناجي أمية بن خلف.
وحكى ذلك كله ابن عبد البر والباجي خلافًا في تفسير المبهم وزاد قولاً إنه شيبة بن ربيعة.
( فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يعرض عنه) ثقة بما في قلبه من الإسلام لا سيما والذي طلبه من التفقه في الدين لا يفوت.
ففي حديث ابن عباس فقال علمني مما علمك الله فأعرض عنه ( ويقبل على الآخر) رجاء إسلامه لأنه كان يحب إسلام الخلق إذ هو مأمور بالإنذار وبالدعاء إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة ( ويقول يا أبا فلان) خاطبه بالكنية استئلافًا ( هل ترى بما أقول بأسًا فيقول لا والدماء) بالمد.
قال ابن عبد البر: رواية طائفة عن مالك بضم الدال، أي الأصنام التي كانوا يعبدون ويعظمون واحدتها دمية، وطائفة بكسر الدال أي دماء الهدايا التي كانوا يذبحونها بمنى لآلهتهم قال توبة بن الحمير:

عليّ دماء البدن إن كان بعلها
يرى لي ذنبًا غير أني أزورها

وقال آخر:

أما ودماء المزجيات إلى منى
لقد كفرت أسماء غير كفور

( ما أرى بما تقول بأسا) شدة بل هو روح الأرواح ( فأنزلت { { عَبَسَ وَتَوَلَّى } } ) أعرض { { أَن جَاءَهُ الأعْمَى } } زاد أبو يعلى عن أنس فكان النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك يكرمه وفي حديث ابن عباس فكان إذا نظر إليه بعد ذلك مقبلاً بسط إليه رداءه حتى يجلسه عليه.
وكان إذا خرج من المدينة استخلفه يصلي بالناس حتى يرجع.
وقالت عائشة عاتب الله نبيه في سورة عبس قالت: ولو كتم من الوحي شيئًا لكتم هذا.
وإنما حصلت صورة العتاب مع أن فعله صلى الله عليه وسلم كان طاعة لربه وتبليغًا عنه واستئلافًا له كما شرعه له لأن ابن أم مكتوم بسبب عماه استحق مزيد الرفق والمستفاد من الآية إعلام الله تعالى بأن ذلك المتصدي له لا يتزكى، وأنه لو كشف له حال الرجلين لاختار الإقبال على الأعمى ففيه الحث على الترحيب بالفقراء والإقبال عليهم في مجالس العلم وقضاء حوائجهم وعدم إيثار الأغنياء عليهم.
وفي الحديث الاعتناء بعلم السير وما ارتبط بها من علم نزول القرآن ومتى نزل وفيمن نزل وإنه لحسن.

( مالك عن زيد بن أسلم) العدوي مولاهم المدني ( عن أبيه) أسلم مولى عمر ثقة مخضرم مات سنة ثمانين وهو ابن أربع عشرة ومائة سنة ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسير في بعض أسفاره) هو سفر الحديبية كما في حديث ابن مسعود عند الطبراني.
قال ابن عبد البر هذا الحديث مرسل إلا أنه محمول على الاتصال لأن أسلم رواه عن عمرو.
وقد رواه جماعة عن مالك عن زيد بن أسلم عن أبيه عن عمر موصولاً انتهى.

وأخرجه البخاري والترمذي والنسائي من طرق عن مالك به.
قال الحافظ: هذا السياق صورته الإرسال لأن أسلم لم يدرك زمان هذه القصة لكنه محمول على أنه سمعه من عمر لقوله في أثنائه قال عمر: فحركت بعيري.
وقد جاء من طريق أخرى سمعت عمر.
أخرجه البزار من طريق محمد بن خالد بن عثمة عن مالك ثم قال: لا نعلم رواه عن مالك هكذا إلا ابن عثمة وابن غزوان ورواية ابن غزوان أخرجها أحمد عنه.
وأخرجه الدارقطني في الغرائب من طريق محمد بن حرب ويزيد بن أبي حكيم وإسحاق الحنيني كلهم عن مالك على الاتصال.

( وعمر بن الخطاب يسير معه ليلاً) ففيه إباحة السير على الدواب ليلاً وحمله العلماء على من لا يمشي بها نهارًا أو قل مشيه بها نهارًا لأنه صلى الله عليه وسلم أمر بالرفق بها والإحسان إليها قاله أبو عمر ( فسأله عمر عن شيء فلم يجبه) لاشتغاله صلى الله عليه وسلم بالوحي ( ثم سأله) ثانيًا ( فلم يجبه ثم سأله) ثالثًا ( فلم يجبه) ولعله ظن أنه لم يسمعه ( فقال عمر ثكلتك) بفتح المثلثة وكسر الكاف أي فقدتك ( أمك) يا ( عمر) فهو منادى بحذف الياء وثبتت في رواية دعا على نفسه بسبب ما وقع منه من الإلحاح خوف غضبه وحرمان فائدته قال أبو عمر: قلما أغضب عالم إلا حرمت فائدته.
وقال ابن الأثير دعا على نفسه بالموت والموت يعم كل أحد فإذا الدعاء كلا دعاء ( نزرت) بفتح النون والزاي مخففة فراء ساكنة ( رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي ألححت عليه وبالغت في السؤال، أو راجعته أو أتيته بما يكره من سؤالك.
وفي رواية بتشديد الزاي وهو على المبالغة أي أقللت كلامه إذ سألته ما لا يحب أن يجيب عنه والتخفيف هو الوجه.
قال الحافظ أبو ذر الهروي: سألت عنه ممن لقيت أربعين فما قرؤه قط إلا بالتخفيف.
( ثلاث مرات كل ذلك لا يجيبك) ففيه أن سكوت العالم يوجب على المتعلم ترك الإلحاح عليه وإن له أن يسكت عما لا يريد أن يجيب فيه.

( قال عمر فحركت بعيري حتى إذا كنت أمام) بالفتح قدام ( الناس وخشيت أن ينزل في) بشد الياء ( قرآن فما نشبت) بفتح النون وكسر المعجمة وسكون الموحدة ففوقية فما لبثت وما تعلقت بشيء ( أن سمعت صارخًا) لم يسم ( يصرخ بي قال) عمر ( فقلت لقد خشيت أن يكون نزل في قرآن) قال أبو عمر: أرى أنه عليه السلام أرسل إلى عمر يؤنسه ويدل على منزلته عنده ( قال) عمر ( فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلمت عليه فقال) بعد رد السلام ( لقد أنزلت علي هذه الليلة سورة لهي) بلام التأكيد ( أحب إلي مما طلعت عليه الشمس) لما فيها من البشارة بالمغفرة والفتح وغيرهما وأفعل قد لا يراد بها المفاضلة ( ثم قرأ { { إنا فتحنا لك فتحا مبينا } } ) قال ابن عباس وأنس والبراء هو فتح الحديبية ووقوع الصلح.

قال الحافظ فإن الفتح لغة فتح المغلق والصلح كان مغلقًا حتى فتحه الله.
وكان من أسباب فتحه صد المسلمين عن البيت فكانت الصورة الظاهرة ضيمًا للمسلمين والباطنة عزًا لهم فإن الناس للأمن الذي وقع فيهم اختلط بعضهم ببعض من غير نكير، وأسمع المسلمون المشركين القرآن وناظروهم على الإسلام جهرة آمنين، وكانوا قبل ذلك لا يتكلمون عندهم بذلك إلا خفية فظهر من كان يخفي إسلامه فذل المشركون من حيث أرادوا العزة وقهروا من حيث أرادوا الغلبة.
وقيل هو فتح مكة نزلت مرجعه من الحديبية عدة له بفتحها وأتى به ماضيًا لتحقق وقوعه وفيه من الفخامة والدلالة على علو شأن المخبر به ما لا يخفى وقيل المعنى قضينا لك قضاء بينًا على أهل مكة أن تدخلها أنت وأصحابك قابلاً من الفتاحة وهي الحكومة والحق أنه يختلف باختلاف المراد من الآيات فالمراد بقوله تعالى: { { إنا فتحنا لك } } فتح الحديبية لما ترتب على الصلح من الأمن ورفع الحرب وتمكن من كان يخشى الدخول في الإسلام والوصول إلى المدينة منه وتتابع الأسباب إلى أن كمل الفتح.

وأما قوله: { { وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا } } فالمراد فتح خيبر على الصحيح لأنها هي التي وقع فيها مغانم كثيرة للمسلمين وأما قوله: { { إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ } } وقوله لا هجرة بعد الفتح ففتح مكة باتفاق فبهذا يرتفع الإشكال وتجتمع الأقوال انتهى.
قال ابن عبد البر: أدخل مالك هذا الحديث في باب ما جاء في القرآن تعريفًا بأنه ينزل في الأحيان على قدر الحاجة وما يعرض انتهى.
ولإفادة أن منه ليليٌّ ورواه البخاري في المغازي عن عبد الله بن يوسف وفي التفسير عن عبد الله بن مسلمة القعنبي كلاهما عن مالك به.

( مالك عن يحيى بن سعيد) الأنصاري التابعي ولجده قيس صحبة ( عن محمد بن إبراهيم بن الحارث) بن خالد القرشي ( التيمي) تيم قريش أبي عبد الله المدني مات سنة عشرين ومائة على الصحيح وجده الحارث من المهاجرين الأولين ( عن أبي سلمة بن عبد الرحمن) بن عوف الزهري المدني ( عن أبي سعيد) سعد بن مالك بن سنان الخدري الصحابي ابن الصحابي ( قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يخرج فيكم) أنفسكم يعني أصحابه أي يخرج عليكم ( قوم) هم الذين خرجوا على علي بن أبي طالب يوم النهروان فقتلهم فهم أصل الخوارج.
وأول خارجة خرجت إلا أن منهم طائفة كانت ممن قصد المدينة يوم الدار في قتل عثمان وسموا خوارج من قوله يخرج قاله في التمهيد.
( تحقرون) بكسر القاف تستقلون ( صلاتكم مع صلاتهم وصيامكم مع صيامهم) لأنهم كانوا يصومون النهار ويقومون الليل، وللطبراني عن ابن عباس في قصة مناظرته للخوارج قال: فأتيتهم فدخلت على قوم لم أر أشد اجتهادًا منهم ( وأعمالكم مع أعمالهم) من عطف العام على الخاص كقوله: { { وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ } } ( يقرؤون القرآن) آناء الليل والنهار.
وفي رواية للبخاري يتلون كتاب الله رطبًا أي لمواظبتهم على تلاوته فلا يزال لسانهم رطبًا بها أو هو من تحسين الصوت بها ( ولا يجاوز حناجرهم) جمع حنجرة، وهي آخر الحلق مما يلي الفم.
وقيل أعلى الصدر عند طرف الحلقوم والمعنى أن قراءتهم لا يرفعها الله ولا يقبلها وقيل لا يعملون بالقرآن فلا يثابون على قراءتهم فلا يحصل لهم إلا سرده.
وقيل: لا تفقهه قلوبهم ويحملونه على غير المراد به فلا حظ لهم منه إلا مروره على لسانهم لا يصل إلى حلوقهم، فضلاً عن أن يصل إلى قلوبهم فلا يتدبروه بها.

وقال ابن رشيق: المعنى لا ينتفعون بقراءته كما لا ينتفع الآكل والشارب من المأكول والمشروب إلا بما يجاوز حنجرته قال ابن عبد البر: وكانوا لتكفيرهم الناس لا يقبلون خبر أحد عن النبي صلى الله عليه وسلم فلم يعرفوا بذلك شيئًا من سنته وأحكامه المبينة لمجمل القرآن والمخبرة عن مراد الله تعالى في خطابه ولا سبيل إلى المراد بها إلا ببيان رسوله، ألا ترى إلى قوله: { { وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ } } والصلاة والزكاة والحج والصوم وسائر الأحكام إنما ذكرت في القرآن مجملة بينتها السنة فمن لم يقبل أخبار العدول ضل وصار في عمياء.

( يمرقون) بضم الراء يخرجون سريعًا ( من الدين) قيل المراد الإسلام فهو حجة لمن كفر الخوارج، وبه جزم ابن العربي في الأحوذي محتجًا برواية البخاري يمرقون من الإسلام.
وقيل المراد الطاعة فلا حجة فيه لكفرهم.
قال الحافظ: والذي يظهر أن المراد بالدين الإسلام كما في الرواية الأخرى وخرج الكلام مخرج الزجر وأنهم بفعلهم ذلك يخرجون من الإسلام الكامل ( مروق السهم) وفي رواية كما يمرق السهم ( من الرمية) بفتح الراء وكسر الميم وشد التحتية، وهي الطريدة من الصيد فعيلة من الرمي بمعنى مفعولة، دخلتها الهاء إشارة إلى نقلها من الوصفية إلى الإسمية شبه مروقهم من الدين بالسهم الذي يصيب الصيد فيدخل فيه ويخرج منه ومن شدة سرعة خروجه لقوة الرامي لا يعلق من جسد الصيد بشيء ( تنظر) أيها الرامي ( في النصل) بنون فصاد حديدة السهم هل ترى فيه شيئًا من أثر الصيد دم أو نحوه ( فلا ترى شيئا) فيه ( وتنظر في القدح) بكسر القاف وسكون الدال وحاء مهملتين خشب السهم أو ما بين الريش والسهم هل ترى أثرًا ( فلا ترى شيئا) فيه ( وتنظر في الريش) الذي على السهم ( فلا ترى شيئا) فيه ( وتتمارى) بفتح الفوقيتين أي تشك ( في الفوق) بضم الفاء وهو موضع الوتر من السهم أي نتشكك هل علق به شيء من الدم.
وفي رواية وينظر ويتمارى بالتحتية أي الرامي، والمعنى أن هؤلاء يخرجون من الإسلام بغتة كخروج السهم إذا رماه رام قوي الساعد فأصاب ما رماه فنفذ بسرعة بحيث لا يعلق بالسهم ولا بشيء منه من المرمى شيء فإذا التمس الرامي سهمه لم يجده علق بشيء من الدم ولا غيره.

وفي رواية ابن ماجه والطبراني: سيخرج قوم من الإسلام خروج السهم من الرمية عرضت للرجال فرموها فانمرق سهم أحدهم منها فخرج فأتاه فنظر إليه فإذا هو لم يتعلق بنصله من الدم شيء ثم نظر إلى القدح الحديث، زاد في رواية الشيخين من وجه آخر عن أبي سعيد آيتهم رجل أسود إحدى عضديه مثل ثدي المرأة أو مثل البضعة ويخرجون على خير فرقة من الناس.
قال أبو سعيد: فأشهد أني سمعت هذا الحديث من رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن علي بن أبي طالب قتلهم وأنا معه فأمر بذلك الرجل فالتمس فأتي به حتى نظرت إليه على نعت النبي صلى الله عليه وسلم الذي نعته.
وفي رواية مسلم فلما قتلهم علي قال: انظروا فلم ينظروا شيئًا فقال: ارجعوا فوالله ما كذبت ولا كذبت - مرتين أو ثلاثًا - ثم وجدوه في خربة.

قال الباجي: أجمع العلماء أن المراد بهذا الحديث الخوارج الذين قاتلهم علي.
وفي التمهيد يتمارى في الفوق أي يشك وذلك يوجب أن لا يقطع على الخوارج ولا على غيرهم من أهل البدع بالخروج من الإسلام، وأن يشك في أمرهم وكل شيء يشك فيه فسبيله التوقف فيه دون القطع.
وقد قال فيهم رسول الله: يخرج قوم من أمتي، فإن صحت هذه اللفظة فقد جعلهم من أمته.
وقال قوم: معناه من أمتي بدعواهم.
وقال علي: لم نقاتل أهل النهروان على الشرك.
وسئل عنهم أكفار هم؟ قال: من الكفر فروا قيل: فمنافقون؟ قال: إن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلاً قيل: فما هم؟ قال: قوم أصابتهم فتنة فعموا فيها وصموا وبغوا علينا وحاربونا وقاتلونا فقتلناهم.
قال إسماعيل القاضي: رأى مالك قتل الخوارج وأهل القدر للفساد الداخل في الدين وهو من باب الإفساد في الأرض، وليس إفسادهم بدون إفساد قطاع الطريق والمحاربين المسلمين على أموالهم، فوجب بذلك قتلهم لكنه يرى استتابتهم لعلهم يراجعون الحق فإن تمادوا قتلوا على إفسادهم لا على كفرهم وهذا قول عامة الفقهاء الذين يرون قتلهم واستتابتهم.

وذهب أبو حنيفة والشافعي وجمهور الفقهاء وكثير من المحدثين إلى أنه لا يتعرض لهم باستتابة ولا غيرها ما استتروا ولم يبغوا ولم يحاربوا، وقالت طائفة من المحدثين: هم كفار على ظواهر الأحاديث ولكن يعارضها غيرها فيمن لا يشرك بالله شيئًا ويريد بعمله وجهه وإن أخطأ في حكمه واجتهاده والنظر يشهد أن الكفر لا يكون إلا بضد الحال التي يكون بها الإيمان، فهما ضرتان انتهى ملخصًا.
وبالغ الخطابي فقال: أجمع علماء المسلمين على أن الخوارج على ضلالتهم فرقة من المسلمين وأجازوا مناكحتهم وأكل ذبائحهم وقبول شهادتهم.

وهذا الحديث أخرجه البخاري في التفسير حدثنا عبد الله بن يوسف عن مالك به.

( مالك أنه بلغه أن عبد الله بن عمر مكث على سورة البقرة ثماني سنين يتعلمها) ليس ذلك لبطء حفظه معاذ الله بل لأنه كان يتعلم فرائضها وأحكامها وما يتعلق بها فقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم كراهة الإسراع في حفظ القرآن دون التفقه فيه.
ولعل ابن عمر خلط مع ذلك من العلم أبوابًا غيرها، وإنما ذلك مخافة أن يتأوله على غير تأويله قاله الباجي.
ونحوه قول أبي عمر لأنه كان يتعلمها بأحكامها ومعانيها وأخبارها وهذا البلاغ أخرجه ابن سعد في الطبقات عن عبد الله بن جعفر عن أبي المليح عن ميمون أن ابن عمر تعلم البقرة في ثمان سنين وأخرج الخطيب في رواية مالك عن ابن عمر قال: تعلم عمر البقرة في اثنتي عشرة سنة فلما ختمها نحر جزورًا.



رقم الحديث 486 وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَارِثِ التَّيْمِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: يَخْرُجُ فِيكُمْ قَوْمٌ تَحْقِرُونَ صَلَاتَكُمْ مَعَ صَلَاتِهِمْ، وَصِيَامَكُمْ مَعَ صِيَامِهِمْ، وَأَعْمَالَكُمْ مَعَ أَعْمَالِهِمْ، يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ، وَلَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ مُرُوقَ السَّهْمِ مِنَ الرَّمِيَّةِ، تَنْظُرُ فِي النَّصْلِ، فَلَا تَرَى شَيْئًا، وَتَنْظُرُ فِي الْقِدْحِ فَلَا تَرَى شَيْئًا، وَتَنْظُرُ فِي الرِّيشِ، فَلَا تَرَى شَيْئًا، وَتَتَمَارَى فِي الْفُوقِ.


مَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ

( مَالِكٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ) محمد بن مسلم الزهري ( عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ) بن العوام ( عن عبد الرحمن بن عبد) بلا إضافة ( القارئ) بشد الياء نسبة إلى القارة بطن من خزيمة بن مدركة من كبار التابعين، وعد في الصحابة لكونه أتي به للنبي صلى الله عليه وسلم وهو صغير كما أخرجه أبو القاسم البغوي في معجم الصحابة بإسناد لا بأس به.

( أنه قال سمعت عمر بن الخطاب يقول سمعت هشام بن حكيم بن حزام) بكسر المهملة وزاي ابن خويلد بن أسد القرشي الأسدي صحابي ابن صحابي ومات قبل أبيه ووهم من زعم أنه استشهد بأجنادين ( يقرأ سورة الفرقان) وغلط من قال: سورة الأحزاب ( على غير ما أقرؤها وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أقرأنيها) وفي رواية عقيل عن ابن شهاب فإذا هو يقرؤها على حروف كثيرة لم يقرئنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قال ابن عبد البر: ففي هذه الرواية بيان أن اختلافهما كان في حروف من السورة لا في السورة كلها، وهي تفسير لرواية مالك لأن سورة واحدة لا تقرأ حروفها كلها على سبعة أوجه، بل لا يوجد في القرآن كلمة تقرأ على سبعة أوجه إلا قليل من كثير مثل: { { رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا } } { { وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ } } و { { الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا } } و { { بِعَذَابٍ بَئِيسٍ } } ونحوه ( فكدت أن أعجل عليه) بفتح الهمزة وسكون العين وفتح الجيم وفي رواية أعجل بضم الهمزة وفتح العين وكسر الجيم مشددة أي أخاصمه وأظهر بوادر غضبي عليه ( ثم أمهلته حتى انصرف) من الصلاة ففي رواية عقيل فكدت أساوره في الصلاة فتصبرت حتى سلم وأساوره بضم الهمزة وفتح المهملة أي آخذ برأسه أو أواثبه فليس المراد انصرف من القراءة كما زعم الكرماني ( ثم لببته) بموحدتين أولاهما مشددة وقال عياض التخفيف أعرف ( بردائه) أي أخذت بمجامعه وجعلته في عنقه وجررته به لئلا ينفلت مأخوذ من اللبة بفتح اللام لأنه يقبض عليها، وإنما فعل عمر ذلك اعتناء بالقرآن، وذبًا عنه، ومحافظة على لفظه كما سمعه من غير عدول إلى ما تجوزه العرب مع ما كان عليه من الشدة في الأمر بالمعروف، زاد في رواية عقيل فقلت من أقرأك هذه السورة التي سمعتك تقرأ؟ قال: أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: كذبت، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقرأنيها على غير ما قرأت وفيه إطلاق الكذب على غلبة الظن فإنه إنما فعل ذلك اجتهادًا منه لظنه أن هشامًا خالف الصواب وساغ له ذلك لرسوخ قدمه في الإسلام وسابقته بخلاف هشام فإنه من مسلمة الفتح فخشي أن لا يكون أتقن القراءة ولعل عمر لم يكن سمع حديث أنزل القرآن على سبعة أحرف قبل ذلك، ( فجئت به رسول الله صلى الله عليه وسلم) وفي رواية عقيل: فانطلقت به أقوده إلى رسول الله ( فقلت يا رسول الله إني سمعت هذا يقرأ سورة الفرقان على غير ما أقرأتنيها) وفي رواية عقيل على حروف لم تقرئنيها ( فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسله) بهمزة قطع أي: أطلقه لأنه كان ممسوكًا معه.
( ثم قال اقرأ) يا هشام ( فقرأ القراءة التي سمعته يقرأ) بها ( فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هكذا أنزلت ثم قال لي اقرأ) يا عمر ( فقرأتها) .
وفي رواية عقيل: فقرأت القراءة التي أقرأني ( فقال هكذا أنزلت) .
ثم قال صلى الله عليه وسلم تطييبًا لقلب عمر لئلا ينكر تصويب الأمرين المختلفين ( إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف) جمع حرف مثل فلس وأفلس.
( فاقرؤوا ما تيسر منه) أي المنزل بالسبعة ففيه إشارة إلى أن حكمة التعدد التيسير على القارئ ولم يقع في شيء من الطرق تفسير الأحرف التي اختلف فيها عمر وهشام من سورة الفرقان، نعم اختلف الصحابة فمن دونهم في أحرف كثيرة من هذه السورة كما بينه في التمهيد بما يطول، ووقع لجماعة من الصحابة نظير ما وقع لعمر مع هشام كأبي بن كعب مع ابن مسعود في سورة النحل.
وعمرو بن العاصي مع رجل في آية من الفرقان عند أحمد.
وابن مسعود مع رجل في سورة من آل حم.

رواه ابن حبان والحاكم.
وأما حديث سمرة رفعه أنزل القرآن على ثلاثة أحرف رواه الحاكم قائلاً: تواترت الأخبار بالسبعة إلا في هذا الحديث فقال أبو شامة: يحتمل أن بعضه أنزل على ثلاثة أحرف كجذوة والرهب أو أراد أنزل ابتداء على ثلاثة أحرف ثم زيد إلى سبعة توسعة على العباد، والأكثر أنها محصورة في السبعة.
وقيل: ليس المراد حقيقة العدد بل التسهيل والتيسير والشرف والرحمة وخصوصية الفضل لهذه الأمة فإن لفظ سبعة يطلق على إرادة الكثرة في الآحاد كما يطلق السبعون في العشرات، والسبعمائة في المئين.
ولا يراد العدد المعين وإلى هذا جنح عياض ومن تبعه ورد بحديث ابن عباس في الصحيحين: أقرأني جبريل على حرف فراجعته فلم أزل أستزيده ويزيدني حتى انتهى إلى سبعة أحرف.

وفي حديث أبي عند مسلم: إن ربي أرسل إلي أن أقرأ القرآن على حرف فرددت عليه أن هون على أمتي فأرسل إلي أن أقرأه على سبعة أحرف وللنسائي إن جبريل وميكائيل أتياني فقعد جبريل على يميني وميكائيل على يساري فقال جبريل: اقرأ القرآن على حرف فقال ميكائيل استزده حتى بلغ سبعة أحرف.
وفي حديث أبي بكرة عند أحمد فنظرت إلى ميكائيل فسكت فعلمت أنه قد انتهت العدة فهذا يدل على إرادة حقيقة العدد وانحصاره.
واختلف في ذلك على نحو أربعين قولاً أكثرها غير مختار.

قال ابن العربي: لم يأت في ذلك نص ولا أثر.
وقال أبو جعفر محمد بن سعدان النحوي: هذا من المشكل الذي لا يدرى معناه لأن الحرف يأتي لمعان للهجاء وللكلمة وللمعنى والجهة انتهى.
وأقربها قولان أحدهما: أن المراد سبع لغات وعليه أبو عبيدة وثعلب والزهري وآخرون، وصححه ابن عطية والبيهقي وتعقب بأن لغات العرب أكثر من سبعة.
وأجيب بأن المراد أفصحها، والثاني: أن المراد سبعة أوجه من المعاني المتفقة بألفاظ مختلفة نحو أقبل وتعال وهلم وعجل وأسرع.
وعليه سفيان بن عيينة وابن وهب وخلائق.
ونسبه ابن عبد البر لأكثر العلماء لكن الإباحة المذكورة لم تقع بالتشهي وهو أن كل واحد يغير الكلمة بمرادفها من لغته بل ذلك مقصور على السماع منه صلى الله عليه وسلم كما يشير إليه قول كل من عمر وهشام أقرأني النبي صلى الله عليه وسلم.
ولئن سلم إطلاق الإباحة بقراءة المرادف ولو لم يسمع لكن إجماع الصحابة زمن عثمان الموافق للعرضة الأخيرة يمنع ذلك.
واختلف هل السبعة باقية إلى الآن يقرأ بها أم كان ذلك ثم استقر الأمر على بعضها؟ ذهب الأكثر إلى الثاني كابن عيينة وابن وهب والطبري والطحاوي.
وهل استقر ذلك في الزمن النبوي أم بعده؟ الأكثر على الأول.
واختاره الباقلاني وابن عبد البر وابن العربي وغيرهم لأن ضرورة اختلاف اللغات ومشقة نطقهم بغير لغتهم اقتضت التوسعة عليهم في أول الأمر، فأذن لكل أن يقرأ على حرفه أي على طريقته في اللغة حتى انضبط الأمر وتدربت الألسن وتمكن الناس من الاقتصار على لغة واحدة فعارض جبريل النبي صلى الله عليه وسلم القرآن مرتين في السنة الأخيرة.
واستقر على ما هو عليه الآن فنسخ الله تلك القراءة المأذون فيها بما أوجبه من الاقتصار على هذه القراءة التي تلقاها الناس.

قال أبو شامة: ظن قوم أن المراد القراءات السبع الموجودة الآن، وهو خلاف إجماع العلماء وإنما يظن ذلك بعض أهل الجهل.
وقال مكي بن أبي طالب: من ظن أن قراءة هؤلاء كعاصم ونافع هي الأحرف السبعة التي في الحديث فقد غلط غلطًا عظيمًا، ويلزم منه أن ما خرج عن قراءتهم مما ثبت عن الأئمة وغيرهم ووافق خط المصحف أن لا يكون قرآنًا وهذا غلط عظيم.
وقد بين الطبري وغيره أن اختلاف القراء إنما هو حرف واحد من السبعة.

وهذا الحديث أخرجه البخاري عن عبد الله بن يوسف ومسلم عن يحيى بن يحيى كلاهما عن مالك به.

( مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إنما مثل صاحب القرآن) أي الذي ألف تلاوته - والمصاحبة المؤالفة - ومنه فلان صاحب فلان وأصحاب الجنة وأصحاب النار وأصحاب الحديث وأصحاب الرأي وأصحاب الصفة وأصحاب إبل وغنم وأصحاب كنز وعبادة قاله عياض.
( كمثل صاحب الإبل المعقلة) بضم الميم وفتح العين المهملة والقاف الثقيلة أي المشدودة بالعقال، وهو الحبل الذي يشد في ركبة البعير.
( إن عاهد عليها أمسكها) أي استمر إمساكه لها ( وإن أطلقها) من عقلها ( ذهبت) أي انفلتت.
والحصر في إنما حصر مخصوص بالنسبة إلى النسيان والحفظ بالتلاوة والترك شبه درس القرآن واستمرار تلاوته بربط البعير الذي يخشى منه أن يشرد فمادام التعاهد موجودًا فالحفظ موجود، كما أن البعير مادام مشدودًا بالعقال فهو محفوظ.
وخص الإبل بالذكر لأنها أشد الحيوانات الإنسية نفارًا.
وفيه حض على درس القرآن وتعاهده.

وفي الصحيح مرفوعًا: تعاهدوا القرآن فوالذي نفسي بيده لهو أشدّ تفصيًا من الإبل في عقلها.
وقال صلى الله عليه وسلم: من تعلم القرآن ثم نسيه لقي الله يوم القيامة أجزم أي منقطع الحجة.
وقال: عرضت عليَّ أجوار أمتي حتى القذاة يخرجها الرجل من المسجد.
وعرضت عليّ ذنوب أمتي فلم أر ذنبًا أعظم من سورة من القرآن أو آية من القرآن أوتيها رجل ثم نسيها.
وفي الصحيحين عن ابن مسعود مرفوعًا: بئس ما لأحدكم أن يقول نسيت آية كيت وكيت، بل هو نُسِّي فإنه أشد تفصيًا من صدور الرجال من النعم.

قال ابن عبد البر: فكره أن يقول نسيت وأباح أن يقول أنسيت قال تعالى: { { وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطَانُ } } وقال ابن عيينة: النسيان المذموم هو ترك العمل به وليس من انتهى حفظه وتفلت منه بناس له إذا عمل به، ولو كان كذلك ما نسي صلى الله عليه وسلم شيئًا منه قال تعالى: { { سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنسَى إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ } } وقال صلى الله عليه وسلم: ذكرني هذا آية أنسيتها.
قال ابن عبد البر وهذا معروف في لسان العرب قال تعالى: { { نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ } } أي تركوا طاعته فترك رحمتهم وقال تعالى: { { فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ } } أي تركوا.

والحديث رواه البخاري عن عبد الله بن يوسف ومسلم عن يحيى كلاهما عن مالك به.

( مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أن الحارث بن هشام) المخزومي شقيق أبي جهل أسلم يوم الفتح، وكان من فضلاء الصحابة، واستشهد في فتوح الشام سنة خمس عشرة.
وقد تكتب الحارث بلا ألف تخفيفًا ( سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم) قال الحافظ: هكذا رواه الرواة عن عروة فيحتمل أن عائشة حضرت ذلك.
وعلى هذا اعتمد أصحاب الأطراف فأخرجوه في مسند عائشة.
ويحتمل أن الحارث أخبرها بذلك بعد فيكون من مرسل الصحابة وهو محكوم بوصله عند الجمهور ويؤيد الثاني ما رواه أحمد والبغوي وغيرهما من طريق عامر بن صالح الزبيري عن هشام عن أبيه عن عائشة عن الحارث بن هشام قال: سألت وعامر فيه ضعف لكن له متابع عند ابن منده والمشهور الأول ( كيف يأتيك الوحي) أي صفة الوحي نفسه أو صفة حامله أو أعم من ذلك.
وعلى كل تقدير فإسناد الإتيان إلى الوحي مجاز عقلي لأن الإتيان حقيقة من وصف حامله، ويسمى مجازًا في الإسناد للملابسة التي بين الحامل والمحمول، أو هو استعارة بالكناية شبه الوحي برجل وأضيف إلى المشبه الإتيان الذي هو من خواص المشبه به.
وفيه أن السؤال عن الكيفية لطلب الطمأنينة لا يقدح في اليقين وجواز السؤال عن أحوال الأنبياء من الوحي وغيره.

( فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أحيانًا) جمع حين يطلق على كثير الوقت وقليله والمراد هنا مجرد الوقت فكأنه قال أوقاتًا ونصب ظرفًا عامله ( يأتيني) مؤخر عنه وفيه أن المسئول عنه إذا كان ذا أقسام يذكر المجيب في أول جوابه ما يقتضي التفصيل ( في مثل صلصلة) بمهملتين مفتوحتين، بينهما لام ساكنة أصله صوت وقوع الحديد بعضه على بعض، ثم أطلق على كل صوت له طنين.
وقيل: صوت متدارك لا يدرك في أول وهلة ( الجرس) بجيم ومهملة: الجلجل الذي يعلق في رؤوس الدواب، واشتقاقه من الجرس بإسكان الراء، وهو الحس قيل الصلصلة صوت الملك بالوحي.
قال الخطابي: يريد أنه صوت متدارك يسمعه ولا يثبته أول ما يسمعه حتى يفهمه بعد ولما كان الجرس لا تحصل صلصلته إلا متداركة وقع التشبيه به دون غيره من آلات وقيل صوت حفيف أجنحة الملك والحكمة في تقدمه أن يقرع سمعه الوحي فلا يبقى فيه مكان لغيره.
( وهو أشده علي) لأن الفهم من كلام مثل الصلصلة أشدّ من الفهم من كلام الرجل بالتخاطب المعهود وفائدة هذه الشدة ما يترتب على المشقة من زيادة الزلفى والدرجات.
وأفهم أن الوحي كله شديد، وهذا أشده لأن العادة جرت بالمناسبة بين القائل والسامع، وهي هنا إما باتصاف السامع بوصف القائل فغلبت الروحانية وهو النوع الأول، وإما باتصاف القائل بوصف السامع وهو البشرية وهو النوع الثاني، والأول أشد بلا شك.

وقال السراج البلقيني: سبب ذلك أن الكلام العظيم له مقدمات تؤذن بتعظيمه للاهتمام به كما جاء في حديث ابن عباس وكان يعالج من التنزيل شدّة وقيل: كان ينزل هكذا إذا نزلت آية وعيد، قال الحافظ: وفيه نظر والظاهر أنه لا يختص بالقرآن كما في حديث يعلى بن أمية في قصة لابس الجبة المتضمخ بالطيب في الحج ففيه أنه رآه صلى الله عليه وسلم حالة نزول الوحي وأنه ليغط.

( فيفصم) بفتح التحتية وسكون الفاء وكسر المهملة، أي يقطع ( عني) ويتجلى ما يغشاني.
ويروى بضم أوله من الرباعي.
وفي رواية بضم أوله وفتح الصاد على البناء للمجهول، وأصل الفصم القطع ومنه قوله تعالى: { { لاَ انفِصَامَ لَهَا } } وقيل الفصم بالفاء القطع بلا إبانة وبالقاف القطع بإبانة فذكره يفصم بالفاء إشارة إلى أن الملك فارقه ليعود والجامع بينهما بقاء العلقة.
( وقد وعيت) بفتح العين حفظت ( ما قال) أي القول الذي جاء به، وفيه إسناد الوحي إلى قول الملك ولا معارضة بينه وبين قوله تعالى حكاية عن الكفار { { إِنْ هَذَا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ } } لأنهم كانوا ينكرون الوحي وينكرون مجيء الملك به، فإن قيل المحمود لا يشبه بالمذموم إذ حقيقة التشبيه إلحاق ناقص بكامل والمشبه الوحي والمشبه به صوت الجرس، وهو مذموم لصحة النهي عنه والتنفير من مرافقة ما هو معلق فيه والإعلام بأنهم لا تصحبهم الملائكة كما في مسلم وأبي داود وغيرهما.
فكيف شبه فعل الملك بأمر تنفر منه الملائكة؟ أجيب بأنه لا يلزم في التشبيه تساوي المشبه بالمشبه به في الصفات كلها بل ولا في أخص وصف له، بل يكفي اشتراكهما في صفة ما فالقصد هنا بيان الحس فذكر ما ألف السامعون سماعه تقريبًا لأفهامهم والحاصل أن الصوت له جهتان جهة قوة وبها وقع التشبيه وجهة طنين وبها وقع التنفير عنه وعلل بكونه مزمار الشيطان، واحتمال أن النهي عنه وقع بعد السؤال المذكور فيه نظر وهذا النوع شبيه بما يوحى إلى الملائكة كما في الصحيح مرفوعًا: إذا قضى الله في السماء أمرًا ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانًا لقوله كأنها سلسلة على صفوان فإذا فزع عن قلوبهم قالوا: ماذا قال ربكم؟ قالوا: الحق وهو العلي الكبير.
وللطبراني وابن أبي عاصم مرفوعًا: إذا تكلم الله في السماء بالوحي أخذت السماء رجفة أو رعدة شديدة من خوف الله، فإذا سمع أهل السماء صعقوا وخروا سجدًا، فيكون أولهم يرفع رأسه جبريل فيكلمه الله من وحيه بما أراد فينتهي به إلى الملائكة كلما مر بسماء سأله أهلها ماذا قال ربنا؟ قال: الحق فينتهي به حيث أمره الله من السماء والأرض.
ولابن مردويه مرفوعًا: إذا تكلم الله بالوحي يسمع أهل السماء صلصلة كصلصلة السلسلة على الصفوان فيفزعون.

( وأحيانا يتمثل) يتصور ( لي) أي لأجلي فاللام تعليلية ( الملك) جبريل كما في رواية ابن سعد فأل عهدية ( رجلا) نصب على المصدرية أي مثل رجل أو بهيئة رجل فهو حال وإن لم تؤول بمشتق لدلالة رجل على الهيئة بلا تأويل، أو على تمييز النسبة لا تمييز المفرد لأن الملك لا إبهام فيه وكون تمييز النسبة محولاً عن الفاعل كتصبب زيد عرقًا، أو المفعول كفجرنا الأرض عيونًا أمر غالب لا دائم بدليل امتلأ الإناء ماء، أو على المفعولية بتضمين يتمثل معنى يتخذ أي الملك رجلاً مثالاً، واستبعد من جهة المعنى لاتحاد المتخذ والمتخذ والإتيان بمثال بلا دليل قال المتكلمون: الملائكة أجسام علوية لطيفة تتشكل أي شكل أرادوا، وزعم بعض الفلاسفة أنها جواهر روحانية قال الحافظ: والحق أن تمثل الملك رجلاً ليس معناه أن ذاته انقلبت رجلاً، بل معناه أنه ظهر بتلك الصورة تأنيسًا لمن يخاطبه والظاهر أن القدر الزائد لا يزول ولا يفنى بل يخفى على الرائي فقط وتقدم مزيد لذلك في أول حديث.

( فيكلمني) بالكاف، وللبيهقي عن القعنبي: فيعلمني بالعين.
قال الحافظ: والظاهر أنه تصحيف فإنه في الموطأ رواية القعنبي بالكاف.
وكذا أخرجه الدارقطني من حديث مالك من طريق القتبي وغيره.
( فأعي ما يقول) زاد أبو عوانة: وهو أهونه عليَّ، وعبر هنا بالاستقبال وفيما قبله بالماضي لأن الوحي حصل في الأول قبل الفصم.
وفي الثاني حال المكالمة أو أنه في الأول تلبس بصفات الملكية فإذا عاد إلى جبلته كان حافظًا لما قيل له فعبر بالماضي بخلاف الثاني فإنه على حالته المعهودة وأورد على مقتضى هذا الحديث من حصر الوحي في الحالتين حالات أخرى، أما من صفة الوحي بمجيئه كدوي النحل والنفث في الروع والإلهام والرؤيا الصالحة والتكليم ليلة الإسراء بلا واسطة وأما في صفة حامل الوحي كمجيئه في صورته التي خلق عليها له ستمائة جناح ورؤيته على كرسي بين السماء والأرض وقد سد الأفق، والجواب منع الحصر في الحالين وحملهما على الغالب أو حمل ما يغايرهما على أنه وقع بعد السؤال أولم يتعرض لصفتي الملك المذكورتين لندورهما؛ فقد ثبت عن عائشة أنه لم يره كذلك إلا مرتين، أو لم يأته في تلك الحالة بوحي أو أتاه به وكان على مثل صلصلة الجرس، فإنه بين بها صفة الوحي لا صفة حامله.
وأما فنون الوحي فدوي النحل لا يعارض صلصلة الجرس لأن سماع الدوي بالنسبة إلى الحاضرين كما في حديث عمر: يُسمع عنده دوي كدوي النحل.
والصلصلة بالنسبة إليه صلى الله عليه وسلم فشبهه عمر بدوي النحل بالنسبة إلى السامعين وشبهه هو صلى الله عليه وسلم بصلصلة الجرس بالنسبة إلى مقامه.

وأما النفث في الروع فيحتمل أن يرجع إلى إحدى الحالتين فإذا أتاه في مثل الصلصلة نفث حينئذ في روعه.
وأما الإلهام فلم يقع السؤال عنه لأنه وقع عن صفة الوحي الذي يأتي بحامل، وكذا التكليم ليلة الإسراء.
وأما الرؤيا الصالحة فقال ابن بطال: لا ترد لأن السؤال وقع عما ينفرد به عن الناس والرؤيا قد يشاركه فيها غيره انتهى.
والرؤيا الصادقة وإن كانت جزءًا من النبوة فهي باعتبار صدقها لا غير، وإلا لساغ أن يسمى صاحبها نبيًا وليس كذلك، ويحتمل أن السؤال وقع عما في اليقظة ولكون حال المنام لا يخفى على السائل اقتصر على ما يخفى عليه أو كان ظهور ذلك له صلى الله عليه وسلم في المنام أيضًا على الوجهين المذكورين لا غير، قاله الكرماني وفيه نظر.
وقد ذكر الحليمي أن الوحي كان يأتيه على ستة وأربعين نوعًا فذكرها وغالبها من صفات حامل الوحي ومجموعها يدخل فيما ذكر انتهى.

( قالت عائشة) بالإسناد السابق وإن كان بغير حرف عطف.
وقد أخرجه الدارقطني من طريق عتيق بن يعقوب عن مالك عن هشام عن أبيه عنها مفصولاً عن الحديث الأول، وكذا فصلهما مسلم من طريق أبي أسامة عن هشام ونكتته هنا اختلاف التحمل لأنها في الأول أخبرت عن مسألة الحارث، وفي الثاني أخبرت عما شاهدته تأييدًا للخبر الأول ( ولقد رأيته) بواو القسم واللام للتأكيد، أي والله لقد أبصرته ( ينزل) بفتح أوله وكسر ثالثه وفي رواية بضم أوله وفتح ثالثه ( عليه الوحي في اليوم الشديد البرد) الشديد صفة جرت على غير من هي له لأنه صفة البرد لا اليوم ( فيفصم) بفتح الياء وكسر الصاد، أو بضمها وكسر الصاد: من أفصم رباعي وهي لغة قليلة، أو مبني للمجهول روايات كما مر أي يقلع ( عنه وإن جبينه ليتفصد) بالياء ثم التاء وفاء وصاد مهملة ثقيلة من الفصد؛ وهو قطع العرق لإسالة الدم شبه جبينه بالعرق المفصود مبالغة في الكثرة أي ليسيل ( عرقا) تمييز.
زاد ابن أبي الزناد عن هشام بهذا الإسناد عند البيهقي: وإن كان ليوحى إليه وهو على ناقته فتضرب جرانها من ثقل ما يوحى إليه.
وفيه دلالة على كثرة معاناة التعب والكرب عند نزول الوحي لمخالفة العادة وهو كثرة العرق في شدة البرد فيشعر بأمر طارئ زائد على الطباع البشرية.

وحكى العسكري في كتاب التصحيف عن بعض شيوخه: ليتقصد بالقاف من التقصيد.
قال العسكري: فإن ثبت فهو من قولهم تقصد الشيء: إذا تكسر وتقطع، ولا يخفى بعده انتهى.
وقد وقع في هذا التصحيف أبو الفضل بن طاهر فرده عليه المؤتمن الساجي بالفاء فأصر على القاف.
وذكر الذهبي عن ابن ناصر أنه رد على ابن طاهر لما قرأها بالقاف قال: فكابرني قلت: ولعله وجهه بما قال العسكري.

وأخرجه البخاري عن عبد الله بن يوسف عن مالك به وتابعه ابن عيينة وغيره عن هشام في الصحيحين.

( مالك عن هشام بن عروة عن أبيه أنه قال) لم تختلف الرواة عن مالك في إرساله.
وأخرجه الترمذي من رواية سعيد بن يحيى بن سعيد عن أبيه عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت: ( أنزلت عبس وتولى في عبد الله ابن أم مكتوم) القرشي العامري من بني عامر بن لؤي، وقيل اسمه عمرو بفتح العين وهو الأكثر، وهو ابن قيس بن زائدة بن الأصم، ومنهم من قال: عمرو بن زائدة نسبه لجده ويقال: كان اسمه الحصين فسماه النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله، حكاه ابن حبان.
وقال ابن سعد أهل المدينة يقولون: اسمه عبد الله.
وأهل العراق يقولون: اسمه عمرو.
واسم أمه أم مكتوم: عاتكة بنت عبد الله المخزومية.
أسلم قديمًا بمكة وكان من المهاجرين الأولين قدم المدينة قبل أن يهاجر النبي صلى الله عليه وسلم على الأصح، وقيل بعد وقعة بدر بقليل.
وروى جماعة من أهل العلم بالنسب والسير أنه صلى الله عليه وسلم استخلفه ثلاث عشرة مرة.
وله حديث في السنن وخرج إلى القادسية فشهد القتال فاستشهد وقيل: بل شهدها ورجع إلى المدينة فمات بها ولم يسمع له ذكر بعد عمر بن الخطاب وفيه نزل { { غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ } } كما في البخاري و { { عَبَسَ وَتَوَلَّى } }

( جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم) بمكة ( فجعل يقول يا محمد) قبل النهي عن ندائه باسمه لأنه نزل بالمدينة ( استدنيني) بياء بين النونين.
ورواه ابن وضاح استدنني بحذفها: أي أشر لي إلى موضع قريب منك أجلس فيه ( وعند النبي صلى الله عليه وسلم رجل من عظماء) جمع عظيم ( المشركين) هو أبي بن خلف، رواه أبو يعلى عن أنس.
ولابن جرير عن ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم كان يناجي عتبة بن ربيعة وأبا جهل والعباس.
وله من مرسل قتادة: وهو يناجي أمية بن خلف.
وحكى ذلك كله ابن عبد البر والباجي خلافًا في تفسير المبهم وزاد قولاً إنه شيبة بن ربيعة.
( فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يعرض عنه) ثقة بما في قلبه من الإسلام لا سيما والذي طلبه من التفقه في الدين لا يفوت.
ففي حديث ابن عباس فقال علمني مما علمك الله فأعرض عنه ( ويقبل على الآخر) رجاء إسلامه لأنه كان يحب إسلام الخلق إذ هو مأمور بالإنذار وبالدعاء إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة ( ويقول يا أبا فلان) خاطبه بالكنية استئلافًا ( هل ترى بما أقول بأسًا فيقول لا والدماء) بالمد.
قال ابن عبد البر: رواية طائفة عن مالك بضم الدال، أي الأصنام التي كانوا يعبدون ويعظمون واحدتها دمية، وطائفة بكسر الدال أي دماء الهدايا التي كانوا يذبحونها بمنى لآلهتهم قال توبة بن الحمير:

عليّ دماء البدن إن كان بعلها
يرى لي ذنبًا غير أني أزورها

وقال آخر:

أما ودماء المزجيات إلى منى
لقد كفرت أسماء غير كفور

( ما أرى بما تقول بأسا) شدة بل هو روح الأرواح ( فأنزلت { { عَبَسَ وَتَوَلَّى } } ) أعرض { { أَن جَاءَهُ الأعْمَى } } زاد أبو يعلى عن أنس فكان النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك يكرمه وفي حديث ابن عباس فكان إذا نظر إليه بعد ذلك مقبلاً بسط إليه رداءه حتى يجلسه عليه.
وكان إذا خرج من المدينة استخلفه يصلي بالناس حتى يرجع.
وقالت عائشة عاتب الله نبيه في سورة عبس قالت: ولو كتم من الوحي شيئًا لكتم هذا.
وإنما حصلت صورة العتاب مع أن فعله صلى الله عليه وسلم كان طاعة لربه وتبليغًا عنه واستئلافًا له كما شرعه له لأن ابن أم مكتوم بسبب عماه استحق مزيد الرفق والمستفاد من الآية إعلام الله تعالى بأن ذلك المتصدي له لا يتزكى، وأنه لو كشف له حال الرجلين لاختار الإقبال على الأعمى ففيه الحث على الترحيب بالفقراء والإقبال عليهم في مجالس العلم وقضاء حوائجهم وعدم إيثار الأغنياء عليهم.
وفي الحديث الاعتناء بعلم السير وما ارتبط بها من علم نزول القرآن ومتى نزل وفيمن نزل وإنه لحسن.

( مالك عن زيد بن أسلم) العدوي مولاهم المدني ( عن أبيه) أسلم مولى عمر ثقة مخضرم مات سنة ثمانين وهو ابن أربع عشرة ومائة سنة ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسير في بعض أسفاره) هو سفر الحديبية كما في حديث ابن مسعود عند الطبراني.
قال ابن عبد البر هذا الحديث مرسل إلا أنه محمول على الاتصال لأن أسلم رواه عن عمرو.
وقد رواه جماعة عن مالك عن زيد بن أسلم عن أبيه عن عمر موصولاً انتهى.

وأخرجه البخاري والترمذي والنسائي من طرق عن مالك به.
قال الحافظ: هذا السياق صورته الإرسال لأن أسلم لم يدرك زمان هذه القصة لكنه محمول على أنه سمعه من عمر لقوله في أثنائه قال عمر: فحركت بعيري.
وقد جاء من طريق أخرى سمعت عمر.
أخرجه البزار من طريق محمد بن خالد بن عثمة عن مالك ثم قال: لا نعلم رواه عن مالك هكذا إلا ابن عثمة وابن غزوان ورواية ابن غزوان أخرجها أحمد عنه.
وأخرجه الدارقطني في الغرائب من طريق محمد بن حرب ويزيد بن أبي حكيم وإسحاق الحنيني كلهم عن مالك على الاتصال.

( وعمر بن الخطاب يسير معه ليلاً) ففيه إباحة السير على الدواب ليلاً وحمله العلماء على من لا يمشي بها نهارًا أو قل مشيه بها نهارًا لأنه صلى الله عليه وسلم أمر بالرفق بها والإحسان إليها قاله أبو عمر ( فسأله عمر عن شيء فلم يجبه) لاشتغاله صلى الله عليه وسلم بالوحي ( ثم سأله) ثانيًا ( فلم يجبه ثم سأله) ثالثًا ( فلم يجبه) ولعله ظن أنه لم يسمعه ( فقال عمر ثكلتك) بفتح المثلثة وكسر الكاف أي فقدتك ( أمك) يا ( عمر) فهو منادى بحذف الياء وثبتت في رواية دعا على نفسه بسبب ما وقع منه من الإلحاح خوف غضبه وحرمان فائدته قال أبو عمر: قلما أغضب عالم إلا حرمت فائدته.
وقال ابن الأثير دعا على نفسه بالموت والموت يعم كل أحد فإذا الدعاء كلا دعاء ( نزرت) بفتح النون والزاي مخففة فراء ساكنة ( رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي ألححت عليه وبالغت في السؤال، أو راجعته أو أتيته بما يكره من سؤالك.
وفي رواية بتشديد الزاي وهو على المبالغة أي أقللت كلامه إذ سألته ما لا يحب أن يجيب عنه والتخفيف هو الوجه.
قال الحافظ أبو ذر الهروي: سألت عنه ممن لقيت أربعين فما قرؤه قط إلا بالتخفيف.
( ثلاث مرات كل ذلك لا يجيبك) ففيه أن سكوت العالم يوجب على المتعلم ترك الإلحاح عليه وإن له أن يسكت عما لا يريد أن يجيب فيه.

( قال عمر فحركت بعيري حتى إذا كنت أمام) بالفتح قدام ( الناس وخشيت أن ينزل في) بشد الياء ( قرآن فما نشبت) بفتح النون وكسر المعجمة وسكون الموحدة ففوقية فما لبثت وما تعلقت بشيء ( أن سمعت صارخًا) لم يسم ( يصرخ بي قال) عمر ( فقلت لقد خشيت أن يكون نزل في قرآن) قال أبو عمر: أرى أنه عليه السلام أرسل إلى عمر يؤنسه ويدل على منزلته عنده ( قال) عمر ( فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلمت عليه فقال) بعد رد السلام ( لقد أنزلت علي هذه الليلة سورة لهي) بلام التأكيد ( أحب إلي مما طلعت عليه الشمس) لما فيها من البشارة بالمغفرة والفتح وغيرهما وأفعل قد لا يراد بها المفاضلة ( ثم قرأ { { إنا فتحنا لك فتحا مبينا } } ) قال ابن عباس وأنس والبراء هو فتح الحديبية ووقوع الصلح.

قال الحافظ فإن الفتح لغة فتح المغلق والصلح كان مغلقًا حتى فتحه الله.
وكان من أسباب فتحه صد المسلمين عن البيت فكانت الصورة الظاهرة ضيمًا للمسلمين والباطنة عزًا لهم فإن الناس للأمن الذي وقع فيهم اختلط بعضهم ببعض من غير نكير، وأسمع المسلمون المشركين القرآن وناظروهم على الإسلام جهرة آمنين، وكانوا قبل ذلك لا يتكلمون عندهم بذلك إلا خفية فظهر من كان يخفي إسلامه فذل المشركون من حيث أرادوا العزة وقهروا من حيث أرادوا الغلبة.
وقيل هو فتح مكة نزلت مرجعه من الحديبية عدة له بفتحها وأتى به ماضيًا لتحقق وقوعه وفيه من الفخامة والدلالة على علو شأن المخبر به ما لا يخفى وقيل المعنى قضينا لك قضاء بينًا على أهل مكة أن تدخلها أنت وأصحابك قابلاً من الفتاحة وهي الحكومة والحق أنه يختلف باختلاف المراد من الآيات فالمراد بقوله تعالى: { { إنا فتحنا لك } } فتح الحديبية لما ترتب على الصلح من الأمن ورفع الحرب وتمكن من كان يخشى الدخول في الإسلام والوصول إلى المدينة منه وتتابع الأسباب إلى أن كمل الفتح.

وأما قوله: { { وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا } } فالمراد فتح خيبر على الصحيح لأنها هي التي وقع فيها مغانم كثيرة للمسلمين وأما قوله: { { إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ } } وقوله لا هجرة بعد الفتح ففتح مكة باتفاق فبهذا يرتفع الإشكال وتجتمع الأقوال انتهى.
قال ابن عبد البر: أدخل مالك هذا الحديث في باب ما جاء في القرآن تعريفًا بأنه ينزل في الأحيان على قدر الحاجة وما يعرض انتهى.
ولإفادة أن منه ليليٌّ ورواه البخاري في المغازي عن عبد الله بن يوسف وفي التفسير عن عبد الله بن مسلمة القعنبي كلاهما عن مالك به.

( مالك عن يحيى بن سعيد) الأنصاري التابعي ولجده قيس صحبة ( عن محمد بن إبراهيم بن الحارث) بن خالد القرشي ( التيمي) تيم قريش أبي عبد الله المدني مات سنة عشرين ومائة على الصحيح وجده الحارث من المهاجرين الأولين ( عن أبي سلمة بن عبد الرحمن) بن عوف الزهري المدني ( عن أبي سعيد) سعد بن مالك بن سنان الخدري الصحابي ابن الصحابي ( قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يخرج فيكم) أنفسكم يعني أصحابه أي يخرج عليكم ( قوم) هم الذين خرجوا على علي بن أبي طالب يوم النهروان فقتلهم فهم أصل الخوارج.
وأول خارجة خرجت إلا أن منهم طائفة كانت ممن قصد المدينة يوم الدار في قتل عثمان وسموا خوارج من قوله يخرج قاله في التمهيد.
( تحقرون) بكسر القاف تستقلون ( صلاتكم مع صلاتهم وصيامكم مع صيامهم) لأنهم كانوا يصومون النهار ويقومون الليل، وللطبراني عن ابن عباس في قصة مناظرته للخوارج قال: فأتيتهم فدخلت على قوم لم أر أشد اجتهادًا منهم ( وأعمالكم مع أعمالهم) من عطف العام على الخاص كقوله: { { وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ } } ( يقرؤون القرآن) آناء الليل والنهار.
وفي رواية للبخاري يتلون كتاب الله رطبًا أي لمواظبتهم على تلاوته فلا يزال لسانهم رطبًا بها أو هو من تحسين الصوت بها ( ولا يجاوز حناجرهم) جمع حنجرة، وهي آخر الحلق مما يلي الفم.
وقيل أعلى الصدر عند طرف الحلقوم والمعنى أن قراءتهم لا يرفعها الله ولا يقبلها وقيل لا يعملون بالقرآن فلا يثابون على قراءتهم فلا يحصل لهم إلا سرده.
وقيل: لا تفقهه قلوبهم ويحملونه على غير المراد به فلا حظ لهم منه إلا مروره على لسانهم لا يصل إلى حلوقهم، فضلاً عن أن يصل إلى قلوبهم فلا يتدبروه بها.

وقال ابن رشيق: المعنى لا ينتفعون بقراءته كما لا ينتفع الآكل والشارب من المأكول والمشروب إلا بما يجاوز حنجرته قال ابن عبد البر: وكانوا لتكفيرهم الناس لا يقبلون خبر أحد عن النبي صلى الله عليه وسلم فلم يعرفوا بذلك شيئًا من سنته وأحكامه المبينة لمجمل القرآن والمخبرة عن مراد الله تعالى في خطابه ولا سبيل إلى المراد بها إلا ببيان رسوله، ألا ترى إلى قوله: { { وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ } } والصلاة والزكاة والحج والصوم وسائر الأحكام إنما ذكرت في القرآن مجملة بينتها السنة فمن لم يقبل أخبار العدول ضل وصار في عمياء.

( يمرقون) بضم الراء يخرجون سريعًا ( من الدين) قيل المراد الإسلام فهو حجة لمن كفر الخوارج، وبه جزم ابن العربي في الأحوذي محتجًا برواية البخاري يمرقون من الإسلام.
وقيل المراد الطاعة فلا حجة فيه لكفرهم.
قال الحافظ: والذي يظهر أن المراد بالدين الإسلام كما في الرواية الأخرى وخرج الكلام مخرج الزجر وأنهم بفعلهم ذلك يخرجون من الإسلام الكامل ( مروق السهم) وفي رواية كما يمرق السهم ( من الرمية) بفتح الراء وكسر الميم وشد التحتية، وهي الطريدة من الصيد فعيلة من الرمي بمعنى مفعولة، دخلتها الهاء إشارة إلى نقلها من الوصفية إلى الإسمية شبه مروقهم من الدين بالسهم الذي يصيب الصيد فيدخل فيه ويخرج منه ومن شدة سرعة خروجه لقوة الرامي لا يعلق من جسد الصيد بشيء ( تنظر) أيها الرامي ( في النصل) بنون فصاد حديدة السهم هل ترى فيه شيئًا من أثر الصيد دم أو نحوه ( فلا ترى شيئا) فيه ( وتنظر في القدح) بكسر القاف وسكون الدال وحاء مهملتين خشب السهم أو ما بين الريش والسهم هل ترى أثرًا ( فلا ترى شيئا) فيه ( وتنظر في الريش) الذي على السهم ( فلا ترى شيئا) فيه ( وتتمارى) بفتح الفوقيتين أي تشك ( في الفوق) بضم الفاء وهو موضع الوتر من السهم أي نتشكك هل علق به شيء من الدم.
وفي رواية وينظر ويتمارى بالتحتية أي الرامي، والمعنى أن هؤلاء يخرجون من الإسلام بغتة كخروج السهم إذا رماه رام قوي الساعد فأصاب ما رماه فنفذ بسرعة بحيث لا يعلق بالسهم ولا بشيء منه من المرمى شيء فإذا التمس الرامي سهمه لم يجده علق بشيء من الدم ولا غيره.

وفي رواية ابن ماجه والطبراني: سيخرج قوم من الإسلام خروج السهم من الرمية عرضت للرجال فرموها فانمرق سهم أحدهم منها فخرج فأتاه فنظر إليه فإذا هو لم يتعلق بنصله من الدم شيء ثم نظر إلى القدح الحديث، زاد في رواية الشيخين من وجه آخر عن أبي سعيد آيتهم رجل أسود إحدى عضديه مثل ثدي المرأة أو مثل البضعة ويخرجون على خير فرقة من الناس.
قال أبو سعيد: فأشهد أني سمعت هذا الحديث من رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن علي بن أبي طالب قتلهم وأنا معه فأمر بذلك الرجل فالتمس فأتي به حتى نظرت إليه على نعت النبي صلى الله عليه وسلم الذي نعته.
وفي رواية مسلم فلما قتلهم علي قال: انظروا فلم ينظروا شيئًا فقال: ارجعوا فوالله ما كذبت ولا كذبت - مرتين أو ثلاثًا - ثم وجدوه في خربة.

قال الباجي: أجمع العلماء أن المراد بهذا الحديث الخوارج الذين قاتلهم علي.
وفي التمهيد يتمارى في الفوق أي يشك وذلك يوجب أن لا يقطع على الخوارج ولا على غيرهم من أهل البدع بالخروج من الإسلام، وأن يشك في أمرهم وكل شيء يشك فيه فسبيله التوقف فيه دون القطع.
وقد قال فيهم رسول الله: يخرج قوم من أمتي، فإن صحت هذه اللفظة فقد جعلهم من أمته.
وقال قوم: معناه من أمتي بدعواهم.
وقال علي: لم نقاتل أهل النهروان على الشرك.
وسئل عنهم أكفار هم؟ قال: من الكفر فروا قيل: فمنافقون؟ قال: إن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلاً قيل: فما هم؟ قال: قوم أصابتهم فتنة فعموا فيها وصموا وبغوا علينا وحاربونا وقاتلونا فقتلناهم.
قال إسماعيل القاضي: رأى مالك قتل الخوارج وأهل القدر للفساد الداخل في الدين وهو من باب الإفساد في الأرض، وليس إفسادهم بدون إفساد قطاع الطريق والمحاربين المسلمين على أموالهم، فوجب بذلك قتلهم لكنه يرى استتابتهم لعلهم يراجعون الحق فإن تمادوا قتلوا على إفسادهم لا على كفرهم وهذا قول عامة الفقهاء الذين يرون قتلهم واستتابتهم.

وذهب أبو حنيفة والشافعي وجمهور الفقهاء وكثير من المحدثين إلى أنه لا يتعرض لهم باستتابة ولا غيرها ما استتروا ولم يبغوا ولم يحاربوا، وقالت طائفة من المحدثين: هم كفار على ظواهر الأحاديث ولكن يعارضها غيرها فيمن لا يشرك بالله شيئًا ويريد بعمله وجهه وإن أخطأ في حكمه واجتهاده والنظر يشهد أن الكفر لا يكون إلا بضد الحال التي يكون بها الإيمان، فهما ضرتان انتهى ملخصًا.
وبالغ الخطابي فقال: أجمع علماء المسلمين على أن الخوارج على ضلالتهم فرقة من المسلمين وأجازوا مناكحتهم وأكل ذبائحهم وقبول شهادتهم.

وهذا الحديث أخرجه البخاري في التفسير حدثنا عبد الله بن يوسف عن مالك به.

( مالك أنه بلغه أن عبد الله بن عمر مكث على سورة البقرة ثماني سنين يتعلمها) ليس ذلك لبطء حفظه معاذ الله بل لأنه كان يتعلم فرائضها وأحكامها وما يتعلق بها فقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم كراهة الإسراع في حفظ القرآن دون التفقه فيه.
ولعل ابن عمر خلط مع ذلك من العلم أبوابًا غيرها، وإنما ذلك مخافة أن يتأوله على غير تأويله قاله الباجي.
ونحوه قول أبي عمر لأنه كان يتعلمها بأحكامها ومعانيها وأخبارها وهذا البلاغ أخرجه ابن سعد في الطبقات عن عبد الله بن جعفر عن أبي المليح عن ميمون أن ابن عمر تعلم البقرة في ثمان سنين وأخرج الخطيب في رواية مالك عن ابن عمر قال: تعلم عمر البقرة في اثنتي عشرة سنة فلما ختمها نحر جزورًا.



رقم الحديث 487 وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ بَلَغَهُ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ مَكَثَ عَلَى سُورَةِ الْبَقَرَةِ، ثَمَانِيَ سِنِينَ يَتَعَلَّمُهَا.


مَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ

( مَالِكٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ) محمد بن مسلم الزهري ( عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ) بن العوام ( عن عبد الرحمن بن عبد) بلا إضافة ( القارئ) بشد الياء نسبة إلى القارة بطن من خزيمة بن مدركة من كبار التابعين، وعد في الصحابة لكونه أتي به للنبي صلى الله عليه وسلم وهو صغير كما أخرجه أبو القاسم البغوي في معجم الصحابة بإسناد لا بأس به.

( أنه قال سمعت عمر بن الخطاب يقول سمعت هشام بن حكيم بن حزام) بكسر المهملة وزاي ابن خويلد بن أسد القرشي الأسدي صحابي ابن صحابي ومات قبل أبيه ووهم من زعم أنه استشهد بأجنادين ( يقرأ سورة الفرقان) وغلط من قال: سورة الأحزاب ( على غير ما أقرؤها وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أقرأنيها) وفي رواية عقيل عن ابن شهاب فإذا هو يقرؤها على حروف كثيرة لم يقرئنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قال ابن عبد البر: ففي هذه الرواية بيان أن اختلافهما كان في حروف من السورة لا في السورة كلها، وهي تفسير لرواية مالك لأن سورة واحدة لا تقرأ حروفها كلها على سبعة أوجه، بل لا يوجد في القرآن كلمة تقرأ على سبعة أوجه إلا قليل من كثير مثل: { { رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا } } { { وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ } } و { { الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا } } و { { بِعَذَابٍ بَئِيسٍ } } ونحوه ( فكدت أن أعجل عليه) بفتح الهمزة وسكون العين وفتح الجيم وفي رواية أعجل بضم الهمزة وفتح العين وكسر الجيم مشددة أي أخاصمه وأظهر بوادر غضبي عليه ( ثم أمهلته حتى انصرف) من الصلاة ففي رواية عقيل فكدت أساوره في الصلاة فتصبرت حتى سلم وأساوره بضم الهمزة وفتح المهملة أي آخذ برأسه أو أواثبه فليس المراد انصرف من القراءة كما زعم الكرماني ( ثم لببته) بموحدتين أولاهما مشددة وقال عياض التخفيف أعرف ( بردائه) أي أخذت بمجامعه وجعلته في عنقه وجررته به لئلا ينفلت مأخوذ من اللبة بفتح اللام لأنه يقبض عليها، وإنما فعل عمر ذلك اعتناء بالقرآن، وذبًا عنه، ومحافظة على لفظه كما سمعه من غير عدول إلى ما تجوزه العرب مع ما كان عليه من الشدة في الأمر بالمعروف، زاد في رواية عقيل فقلت من أقرأك هذه السورة التي سمعتك تقرأ؟ قال: أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: كذبت، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقرأنيها على غير ما قرأت وفيه إطلاق الكذب على غلبة الظن فإنه إنما فعل ذلك اجتهادًا منه لظنه أن هشامًا خالف الصواب وساغ له ذلك لرسوخ قدمه في الإسلام وسابقته بخلاف هشام فإنه من مسلمة الفتح فخشي أن لا يكون أتقن القراءة ولعل عمر لم يكن سمع حديث أنزل القرآن على سبعة أحرف قبل ذلك، ( فجئت به رسول الله صلى الله عليه وسلم) وفي رواية عقيل: فانطلقت به أقوده إلى رسول الله ( فقلت يا رسول الله إني سمعت هذا يقرأ سورة الفرقان على غير ما أقرأتنيها) وفي رواية عقيل على حروف لم تقرئنيها ( فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسله) بهمزة قطع أي: أطلقه لأنه كان ممسوكًا معه.
( ثم قال اقرأ) يا هشام ( فقرأ القراءة التي سمعته يقرأ) بها ( فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هكذا أنزلت ثم قال لي اقرأ) يا عمر ( فقرأتها) .
وفي رواية عقيل: فقرأت القراءة التي أقرأني ( فقال هكذا أنزلت) .
ثم قال صلى الله عليه وسلم تطييبًا لقلب عمر لئلا ينكر تصويب الأمرين المختلفين ( إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف) جمع حرف مثل فلس وأفلس.
( فاقرؤوا ما تيسر منه) أي المنزل بالسبعة ففيه إشارة إلى أن حكمة التعدد التيسير على القارئ ولم يقع في شيء من الطرق تفسير الأحرف التي اختلف فيها عمر وهشام من سورة الفرقان، نعم اختلف الصحابة فمن دونهم في أحرف كثيرة من هذه السورة كما بينه في التمهيد بما يطول، ووقع لجماعة من الصحابة نظير ما وقع لعمر مع هشام كأبي بن كعب مع ابن مسعود في سورة النحل.
وعمرو بن العاصي مع رجل في آية من الفرقان عند أحمد.
وابن مسعود مع رجل في سورة من آل حم.

رواه ابن حبان والحاكم.
وأما حديث سمرة رفعه أنزل القرآن على ثلاثة أحرف رواه الحاكم قائلاً: تواترت الأخبار بالسبعة إلا في هذا الحديث فقال أبو شامة: يحتمل أن بعضه أنزل على ثلاثة أحرف كجذوة والرهب أو أراد أنزل ابتداء على ثلاثة أحرف ثم زيد إلى سبعة توسعة على العباد، والأكثر أنها محصورة في السبعة.
وقيل: ليس المراد حقيقة العدد بل التسهيل والتيسير والشرف والرحمة وخصوصية الفضل لهذه الأمة فإن لفظ سبعة يطلق على إرادة الكثرة في الآحاد كما يطلق السبعون في العشرات، والسبعمائة في المئين.
ولا يراد العدد المعين وإلى هذا جنح عياض ومن تبعه ورد بحديث ابن عباس في الصحيحين: أقرأني جبريل على حرف فراجعته فلم أزل أستزيده ويزيدني حتى انتهى إلى سبعة أحرف.

وفي حديث أبي عند مسلم: إن ربي أرسل إلي أن أقرأ القرآن على حرف فرددت عليه أن هون على أمتي فأرسل إلي أن أقرأه على سبعة أحرف وللنسائي إن جبريل وميكائيل أتياني فقعد جبريل على يميني وميكائيل على يساري فقال جبريل: اقرأ القرآن على حرف فقال ميكائيل استزده حتى بلغ سبعة أحرف.
وفي حديث أبي بكرة عند أحمد فنظرت إلى ميكائيل فسكت فعلمت أنه قد انتهت العدة فهذا يدل على إرادة حقيقة العدد وانحصاره.
واختلف في ذلك على نحو أربعين قولاً أكثرها غير مختار.

قال ابن العربي: لم يأت في ذلك نص ولا أثر.
وقال أبو جعفر محمد بن سعدان النحوي: هذا من المشكل الذي لا يدرى معناه لأن الحرف يأتي لمعان للهجاء وللكلمة وللمعنى والجهة انتهى.
وأقربها قولان أحدهما: أن المراد سبع لغات وعليه أبو عبيدة وثعلب والزهري وآخرون، وصححه ابن عطية والبيهقي وتعقب بأن لغات العرب أكثر من سبعة.
وأجيب بأن المراد أفصحها، والثاني: أن المراد سبعة أوجه من المعاني المتفقة بألفاظ مختلفة نحو أقبل وتعال وهلم وعجل وأسرع.
وعليه سفيان بن عيينة وابن وهب وخلائق.
ونسبه ابن عبد البر لأكثر العلماء لكن الإباحة المذكورة لم تقع بالتشهي وهو أن كل واحد يغير الكلمة بمرادفها من لغته بل ذلك مقصور على السماع منه صلى الله عليه وسلم كما يشير إليه قول كل من عمر وهشام أقرأني النبي صلى الله عليه وسلم.
ولئن سلم إطلاق الإباحة بقراءة المرادف ولو لم يسمع لكن إجماع الصحابة زمن عثمان الموافق للعرضة الأخيرة يمنع ذلك.
واختلف هل السبعة باقية إلى الآن يقرأ بها أم كان ذلك ثم استقر الأمر على بعضها؟ ذهب الأكثر إلى الثاني كابن عيينة وابن وهب والطبري والطحاوي.
وهل استقر ذلك في الزمن النبوي أم بعده؟ الأكثر على الأول.
واختاره الباقلاني وابن عبد البر وابن العربي وغيرهم لأن ضرورة اختلاف اللغات ومشقة نطقهم بغير لغتهم اقتضت التوسعة عليهم في أول الأمر، فأذن لكل أن يقرأ على حرفه أي على طريقته في اللغة حتى انضبط الأمر وتدربت الألسن وتمكن الناس من الاقتصار على لغة واحدة فعارض جبريل النبي صلى الله عليه وسلم القرآن مرتين في السنة الأخيرة.
واستقر على ما هو عليه الآن فنسخ الله تلك القراءة المأذون فيها بما أوجبه من الاقتصار على هذه القراءة التي تلقاها الناس.

قال أبو شامة: ظن قوم أن المراد القراءات السبع الموجودة الآن، وهو خلاف إجماع العلماء وإنما يظن ذلك بعض أهل الجهل.
وقال مكي بن أبي طالب: من ظن أن قراءة هؤلاء كعاصم ونافع هي الأحرف السبعة التي في الحديث فقد غلط غلطًا عظيمًا، ويلزم منه أن ما خرج عن قراءتهم مما ثبت عن الأئمة وغيرهم ووافق خط المصحف أن لا يكون قرآنًا وهذا غلط عظيم.
وقد بين الطبري وغيره أن اختلاف القراء إنما هو حرف واحد من السبعة.

وهذا الحديث أخرجه البخاري عن عبد الله بن يوسف ومسلم عن يحيى بن يحيى كلاهما عن مالك به.

( مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إنما مثل صاحب القرآن) أي الذي ألف تلاوته - والمصاحبة المؤالفة - ومنه فلان صاحب فلان وأصحاب الجنة وأصحاب النار وأصحاب الحديث وأصحاب الرأي وأصحاب الصفة وأصحاب إبل وغنم وأصحاب كنز وعبادة قاله عياض.
( كمثل صاحب الإبل المعقلة) بضم الميم وفتح العين المهملة والقاف الثقيلة أي المشدودة بالعقال، وهو الحبل الذي يشد في ركبة البعير.
( إن عاهد عليها أمسكها) أي استمر إمساكه لها ( وإن أطلقها) من عقلها ( ذهبت) أي انفلتت.
والحصر في إنما حصر مخصوص بالنسبة إلى النسيان والحفظ بالتلاوة والترك شبه درس القرآن واستمرار تلاوته بربط البعير الذي يخشى منه أن يشرد فمادام التعاهد موجودًا فالحفظ موجود، كما أن البعير مادام مشدودًا بالعقال فهو محفوظ.
وخص الإبل بالذكر لأنها أشد الحيوانات الإنسية نفارًا.
وفيه حض على درس القرآن وتعاهده.

وفي الصحيح مرفوعًا: تعاهدوا القرآن فوالذي نفسي بيده لهو أشدّ تفصيًا من الإبل في عقلها.
وقال صلى الله عليه وسلم: من تعلم القرآن ثم نسيه لقي الله يوم القيامة أجزم أي منقطع الحجة.
وقال: عرضت عليَّ أجوار أمتي حتى القذاة يخرجها الرجل من المسجد.
وعرضت عليّ ذنوب أمتي فلم أر ذنبًا أعظم من سورة من القرآن أو آية من القرآن أوتيها رجل ثم نسيها.
وفي الصحيحين عن ابن مسعود مرفوعًا: بئس ما لأحدكم أن يقول نسيت آية كيت وكيت، بل هو نُسِّي فإنه أشد تفصيًا من صدور الرجال من النعم.

قال ابن عبد البر: فكره أن يقول نسيت وأباح أن يقول أنسيت قال تعالى: { { وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطَانُ } } وقال ابن عيينة: النسيان المذموم هو ترك العمل به وليس من انتهى حفظه وتفلت منه بناس له إذا عمل به، ولو كان كذلك ما نسي صلى الله عليه وسلم شيئًا منه قال تعالى: { { سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنسَى إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ } } وقال صلى الله عليه وسلم: ذكرني هذا آية أنسيتها.
قال ابن عبد البر وهذا معروف في لسان العرب قال تعالى: { { نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ } } أي تركوا طاعته فترك رحمتهم وقال تعالى: { { فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ } } أي تركوا.

والحديث رواه البخاري عن عبد الله بن يوسف ومسلم عن يحيى كلاهما عن مالك به.

( مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أن الحارث بن هشام) المخزومي شقيق أبي جهل أسلم يوم الفتح، وكان من فضلاء الصحابة، واستشهد في فتوح الشام سنة خمس عشرة.
وقد تكتب الحارث بلا ألف تخفيفًا ( سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم) قال الحافظ: هكذا رواه الرواة عن عروة فيحتمل أن عائشة حضرت ذلك.
وعلى هذا اعتمد أصحاب الأطراف فأخرجوه في مسند عائشة.
ويحتمل أن الحارث أخبرها بذلك بعد فيكون من مرسل الصحابة وهو محكوم بوصله عند الجمهور ويؤيد الثاني ما رواه أحمد والبغوي وغيرهما من طريق عامر بن صالح الزبيري عن هشام عن أبيه عن عائشة عن الحارث بن هشام قال: سألت وعامر فيه ضعف لكن له متابع عند ابن منده والمشهور الأول ( كيف يأتيك الوحي) أي صفة الوحي نفسه أو صفة حامله أو أعم من ذلك.
وعلى كل تقدير فإسناد الإتيان إلى الوحي مجاز عقلي لأن الإتيان حقيقة من وصف حامله، ويسمى مجازًا في الإسناد للملابسة التي بين الحامل والمحمول، أو هو استعارة بالكناية شبه الوحي برجل وأضيف إلى المشبه الإتيان الذي هو من خواص المشبه به.
وفيه أن السؤال عن الكيفية لطلب الطمأنينة لا يقدح في اليقين وجواز السؤال عن أحوال الأنبياء من الوحي وغيره.

( فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أحيانًا) جمع حين يطلق على كثير الوقت وقليله والمراد هنا مجرد الوقت فكأنه قال أوقاتًا ونصب ظرفًا عامله ( يأتيني) مؤخر عنه وفيه أن المسئول عنه إذا كان ذا أقسام يذكر المجيب في أول جوابه ما يقتضي التفصيل ( في مثل صلصلة) بمهملتين مفتوحتين، بينهما لام ساكنة أصله صوت وقوع الحديد بعضه على بعض، ثم أطلق على كل صوت له طنين.
وقيل: صوت متدارك لا يدرك في أول وهلة ( الجرس) بجيم ومهملة: الجلجل الذي يعلق في رؤوس الدواب، واشتقاقه من الجرس بإسكان الراء، وهو الحس قيل الصلصلة صوت الملك بالوحي.
قال الخطابي: يريد أنه صوت متدارك يسمعه ولا يثبته أول ما يسمعه حتى يفهمه بعد ولما كان الجرس لا تحصل صلصلته إلا متداركة وقع التشبيه به دون غيره من آلات وقيل صوت حفيف أجنحة الملك والحكمة في تقدمه أن يقرع سمعه الوحي فلا يبقى فيه مكان لغيره.
( وهو أشده علي) لأن الفهم من كلام مثل الصلصلة أشدّ من الفهم من كلام الرجل بالتخاطب المعهود وفائدة هذه الشدة ما يترتب على المشقة من زيادة الزلفى والدرجات.
وأفهم أن الوحي كله شديد، وهذا أشده لأن العادة جرت بالمناسبة بين القائل والسامع، وهي هنا إما باتصاف السامع بوصف القائل فغلبت الروحانية وهو النوع الأول، وإما باتصاف القائل بوصف السامع وهو البشرية وهو النوع الثاني، والأول أشد بلا شك.

وقال السراج البلقيني: سبب ذلك أن الكلام العظيم له مقدمات تؤذن بتعظيمه للاهتمام به كما جاء في حديث ابن عباس وكان يعالج من التنزيل شدّة وقيل: كان ينزل هكذا إذا نزلت آية وعيد، قال الحافظ: وفيه نظر والظاهر أنه لا يختص بالقرآن كما في حديث يعلى بن أمية في قصة لابس الجبة المتضمخ بالطيب في الحج ففيه أنه رآه صلى الله عليه وسلم حالة نزول الوحي وأنه ليغط.

( فيفصم) بفتح التحتية وسكون الفاء وكسر المهملة، أي يقطع ( عني) ويتجلى ما يغشاني.
ويروى بضم أوله من الرباعي.
وفي رواية بضم أوله وفتح الصاد على البناء للمجهول، وأصل الفصم القطع ومنه قوله تعالى: { { لاَ انفِصَامَ لَهَا } } وقيل الفصم بالفاء القطع بلا إبانة وبالقاف القطع بإبانة فذكره يفصم بالفاء إشارة إلى أن الملك فارقه ليعود والجامع بينهما بقاء العلقة.
( وقد وعيت) بفتح العين حفظت ( ما قال) أي القول الذي جاء به، وفيه إسناد الوحي إلى قول الملك ولا معارضة بينه وبين قوله تعالى حكاية عن الكفار { { إِنْ هَذَا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ } } لأنهم كانوا ينكرون الوحي وينكرون مجيء الملك به، فإن قيل المحمود لا يشبه بالمذموم إذ حقيقة التشبيه إلحاق ناقص بكامل والمشبه الوحي والمشبه به صوت الجرس، وهو مذموم لصحة النهي عنه والتنفير من مرافقة ما هو معلق فيه والإعلام بأنهم لا تصحبهم الملائكة كما في مسلم وأبي داود وغيرهما.
فكيف شبه فعل الملك بأمر تنفر منه الملائكة؟ أجيب بأنه لا يلزم في التشبيه تساوي المشبه بالمشبه به في الصفات كلها بل ولا في أخص وصف له، بل يكفي اشتراكهما في صفة ما فالقصد هنا بيان الحس فذكر ما ألف السامعون سماعه تقريبًا لأفهامهم والحاصل أن الصوت له جهتان جهة قوة وبها وقع التشبيه وجهة طنين وبها وقع التنفير عنه وعلل بكونه مزمار الشيطان، واحتمال أن النهي عنه وقع بعد السؤال المذكور فيه نظر وهذا النوع شبيه بما يوحى إلى الملائكة كما في الصحيح مرفوعًا: إذا قضى الله في السماء أمرًا ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانًا لقوله كأنها سلسلة على صفوان فإذا فزع عن قلوبهم قالوا: ماذا قال ربكم؟ قالوا: الحق وهو العلي الكبير.
وللطبراني وابن أبي عاصم مرفوعًا: إذا تكلم الله في السماء بالوحي أخذت السماء رجفة أو رعدة شديدة من خوف الله، فإذا سمع أهل السماء صعقوا وخروا سجدًا، فيكون أولهم يرفع رأسه جبريل فيكلمه الله من وحيه بما أراد فينتهي به إلى الملائكة كلما مر بسماء سأله أهلها ماذا قال ربنا؟ قال: الحق فينتهي به حيث أمره الله من السماء والأرض.
ولابن مردويه مرفوعًا: إذا تكلم الله بالوحي يسمع أهل السماء صلصلة كصلصلة السلسلة على الصفوان فيفزعون.

( وأحيانا يتمثل) يتصور ( لي) أي لأجلي فاللام تعليلية ( الملك) جبريل كما في رواية ابن سعد فأل عهدية ( رجلا) نصب على المصدرية أي مثل رجل أو بهيئة رجل فهو حال وإن لم تؤول بمشتق لدلالة رجل على الهيئة بلا تأويل، أو على تمييز النسبة لا تمييز المفرد لأن الملك لا إبهام فيه وكون تمييز النسبة محولاً عن الفاعل كتصبب زيد عرقًا، أو المفعول كفجرنا الأرض عيونًا أمر غالب لا دائم بدليل امتلأ الإناء ماء، أو على المفعولية بتضمين يتمثل معنى يتخذ أي الملك رجلاً مثالاً، واستبعد من جهة المعنى لاتحاد المتخذ والمتخذ والإتيان بمثال بلا دليل قال المتكلمون: الملائكة أجسام علوية لطيفة تتشكل أي شكل أرادوا، وزعم بعض الفلاسفة أنها جواهر روحانية قال الحافظ: والحق أن تمثل الملك رجلاً ليس معناه أن ذاته انقلبت رجلاً، بل معناه أنه ظهر بتلك الصورة تأنيسًا لمن يخاطبه والظاهر أن القدر الزائد لا يزول ولا يفنى بل يخفى على الرائي فقط وتقدم مزيد لذلك في أول حديث.

( فيكلمني) بالكاف، وللبيهقي عن القعنبي: فيعلمني بالعين.
قال الحافظ: والظاهر أنه تصحيف فإنه في الموطأ رواية القعنبي بالكاف.
وكذا أخرجه الدارقطني من حديث مالك من طريق القتبي وغيره.
( فأعي ما يقول) زاد أبو عوانة: وهو أهونه عليَّ، وعبر هنا بالاستقبال وفيما قبله بالماضي لأن الوحي حصل في الأول قبل الفصم.
وفي الثاني حال المكالمة أو أنه في الأول تلبس بصفات الملكية فإذا عاد إلى جبلته كان حافظًا لما قيل له فعبر بالماضي بخلاف الثاني فإنه على حالته المعهودة وأورد على مقتضى هذا الحديث من حصر الوحي في الحالتين حالات أخرى، أما من صفة الوحي بمجيئه كدوي النحل والنفث في الروع والإلهام والرؤيا الصالحة والتكليم ليلة الإسراء بلا واسطة وأما في صفة حامل الوحي كمجيئه في صورته التي خلق عليها له ستمائة جناح ورؤيته على كرسي بين السماء والأرض وقد سد الأفق، والجواب منع الحصر في الحالين وحملهما على الغالب أو حمل ما يغايرهما على أنه وقع بعد السؤال أولم يتعرض لصفتي الملك المذكورتين لندورهما؛ فقد ثبت عن عائشة أنه لم يره كذلك إلا مرتين، أو لم يأته في تلك الحالة بوحي أو أتاه به وكان على مثل صلصلة الجرس، فإنه بين بها صفة الوحي لا صفة حامله.
وأما فنون الوحي فدوي النحل لا يعارض صلصلة الجرس لأن سماع الدوي بالنسبة إلى الحاضرين كما في حديث عمر: يُسمع عنده دوي كدوي النحل.
والصلصلة بالنسبة إليه صلى الله عليه وسلم فشبهه عمر بدوي النحل بالنسبة إلى السامعين وشبهه هو صلى الله عليه وسلم بصلصلة الجرس بالنسبة إلى مقامه.

وأما النفث في الروع فيحتمل أن يرجع إلى إحدى الحالتين فإذا أتاه في مثل الصلصلة نفث حينئذ في روعه.
وأما الإلهام فلم يقع السؤال عنه لأنه وقع عن صفة الوحي الذي يأتي بحامل، وكذا التكليم ليلة الإسراء.
وأما الرؤيا الصالحة فقال ابن بطال: لا ترد لأن السؤال وقع عما ينفرد به عن الناس والرؤيا قد يشاركه فيها غيره انتهى.
والرؤيا الصادقة وإن كانت جزءًا من النبوة فهي باعتبار صدقها لا غير، وإلا لساغ أن يسمى صاحبها نبيًا وليس كذلك، ويحتمل أن السؤال وقع عما في اليقظة ولكون حال المنام لا يخفى على السائل اقتصر على ما يخفى عليه أو كان ظهور ذلك له صلى الله عليه وسلم في المنام أيضًا على الوجهين المذكورين لا غير، قاله الكرماني وفيه نظر.
وقد ذكر الحليمي أن الوحي كان يأتيه على ستة وأربعين نوعًا فذكرها وغالبها من صفات حامل الوحي ومجموعها يدخل فيما ذكر انتهى.

( قالت عائشة) بالإسناد السابق وإن كان بغير حرف عطف.
وقد أخرجه الدارقطني من طريق عتيق بن يعقوب عن مالك عن هشام عن أبيه عنها مفصولاً عن الحديث الأول، وكذا فصلهما مسلم من طريق أبي أسامة عن هشام ونكتته هنا اختلاف التحمل لأنها في الأول أخبرت عن مسألة الحارث، وفي الثاني أخبرت عما شاهدته تأييدًا للخبر الأول ( ولقد رأيته) بواو القسم واللام للتأكيد، أي والله لقد أبصرته ( ينزل) بفتح أوله وكسر ثالثه وفي رواية بضم أوله وفتح ثالثه ( عليه الوحي في اليوم الشديد البرد) الشديد صفة جرت على غير من هي له لأنه صفة البرد لا اليوم ( فيفصم) بفتح الياء وكسر الصاد، أو بضمها وكسر الصاد: من أفصم رباعي وهي لغة قليلة، أو مبني للمجهول روايات كما مر أي يقلع ( عنه وإن جبينه ليتفصد) بالياء ثم التاء وفاء وصاد مهملة ثقيلة من الفصد؛ وهو قطع العرق لإسالة الدم شبه جبينه بالعرق المفصود مبالغة في الكثرة أي ليسيل ( عرقا) تمييز.
زاد ابن أبي الزناد عن هشام بهذا الإسناد عند البيهقي: وإن كان ليوحى إليه وهو على ناقته فتضرب جرانها من ثقل ما يوحى إليه.
وفيه دلالة على كثرة معاناة التعب والكرب عند نزول الوحي لمخالفة العادة وهو كثرة العرق في شدة البرد فيشعر بأمر طارئ زائد على الطباع البشرية.

وحكى العسكري في كتاب التصحيف عن بعض شيوخه: ليتقصد بالقاف من التقصيد.
قال العسكري: فإن ثبت فهو من قولهم تقصد الشيء: إذا تكسر وتقطع، ولا يخفى بعده انتهى.
وقد وقع في هذا التصحيف أبو الفضل بن طاهر فرده عليه المؤتمن الساجي بالفاء فأصر على القاف.
وذكر الذهبي عن ابن ناصر أنه رد على ابن طاهر لما قرأها بالقاف قال: فكابرني قلت: ولعله وجهه بما قال العسكري.

وأخرجه البخاري عن عبد الله بن يوسف عن مالك به وتابعه ابن عيينة وغيره عن هشام في الصحيحين.

( مالك عن هشام بن عروة عن أبيه أنه قال) لم تختلف الرواة عن مالك في إرساله.
وأخرجه الترمذي من رواية سعيد بن يحيى بن سعيد عن أبيه عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت: ( أنزلت عبس وتولى في عبد الله ابن أم مكتوم) القرشي العامري من بني عامر بن لؤي، وقيل اسمه عمرو بفتح العين وهو الأكثر، وهو ابن قيس بن زائدة بن الأصم، ومنهم من قال: عمرو بن زائدة نسبه لجده ويقال: كان اسمه الحصين فسماه النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله، حكاه ابن حبان.
وقال ابن سعد أهل المدينة يقولون: اسمه عبد الله.
وأهل العراق يقولون: اسمه عمرو.
واسم أمه أم مكتوم: عاتكة بنت عبد الله المخزومية.
أسلم قديمًا بمكة وكان من المهاجرين الأولين قدم المدينة قبل أن يهاجر النبي صلى الله عليه وسلم على الأصح، وقيل بعد وقعة بدر بقليل.
وروى جماعة من أهل العلم بالنسب والسير أنه صلى الله عليه وسلم استخلفه ثلاث عشرة مرة.
وله حديث في السنن وخرج إلى القادسية فشهد القتال فاستشهد وقيل: بل شهدها ورجع إلى المدينة فمات بها ولم يسمع له ذكر بعد عمر بن الخطاب وفيه نزل { { غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ } } كما في البخاري و { { عَبَسَ وَتَوَلَّى } }

( جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم) بمكة ( فجعل يقول يا محمد) قبل النهي عن ندائه باسمه لأنه نزل بالمدينة ( استدنيني) بياء بين النونين.
ورواه ابن وضاح استدنني بحذفها: أي أشر لي إلى موضع قريب منك أجلس فيه ( وعند النبي صلى الله عليه وسلم رجل من عظماء) جمع عظيم ( المشركين) هو أبي بن خلف، رواه أبو يعلى عن أنس.
ولابن جرير عن ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم كان يناجي عتبة بن ربيعة وأبا جهل والعباس.
وله من مرسل قتادة: وهو يناجي أمية بن خلف.
وحكى ذلك كله ابن عبد البر والباجي خلافًا في تفسير المبهم وزاد قولاً إنه شيبة بن ربيعة.
( فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يعرض عنه) ثقة بما في قلبه من الإسلام لا سيما والذي طلبه من التفقه في الدين لا يفوت.
ففي حديث ابن عباس فقال علمني مما علمك الله فأعرض عنه ( ويقبل على الآخر) رجاء إسلامه لأنه كان يحب إسلام الخلق إذ هو مأمور بالإنذار وبالدعاء إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة ( ويقول يا أبا فلان) خاطبه بالكنية استئلافًا ( هل ترى بما أقول بأسًا فيقول لا والدماء) بالمد.
قال ابن عبد البر: رواية طائفة عن مالك بضم الدال، أي الأصنام التي كانوا يعبدون ويعظمون واحدتها دمية، وطائفة بكسر الدال أي دماء الهدايا التي كانوا يذبحونها بمنى لآلهتهم قال توبة بن الحمير:

عليّ دماء البدن إن كان بعلها
يرى لي ذنبًا غير أني أزورها

وقال آخر:

أما ودماء المزجيات إلى منى
لقد كفرت أسماء غير كفور

( ما أرى بما تقول بأسا) شدة بل هو روح الأرواح ( فأنزلت { { عَبَسَ وَتَوَلَّى } } ) أعرض { { أَن جَاءَهُ الأعْمَى } } زاد أبو يعلى عن أنس فكان النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك يكرمه وفي حديث ابن عباس فكان إذا نظر إليه بعد ذلك مقبلاً بسط إليه رداءه حتى يجلسه عليه.
وكان إذا خرج من المدينة استخلفه يصلي بالناس حتى يرجع.
وقالت عائشة عاتب الله نبيه في سورة عبس قالت: ولو كتم من الوحي شيئًا لكتم هذا.
وإنما حصلت صورة العتاب مع أن فعله صلى الله عليه وسلم كان طاعة لربه وتبليغًا عنه واستئلافًا له كما شرعه له لأن ابن أم مكتوم بسبب عماه استحق مزيد الرفق والمستفاد من الآية إعلام الله تعالى بأن ذلك المتصدي له لا يتزكى، وأنه لو كشف له حال الرجلين لاختار الإقبال على الأعمى ففيه الحث على الترحيب بالفقراء والإقبال عليهم في مجالس العلم وقضاء حوائجهم وعدم إيثار الأغنياء عليهم.
وفي الحديث الاعتناء بعلم السير وما ارتبط بها من علم نزول القرآن ومتى نزل وفيمن نزل وإنه لحسن.

( مالك عن زيد بن أسلم) العدوي مولاهم المدني ( عن أبيه) أسلم مولى عمر ثقة مخضرم مات سنة ثمانين وهو ابن أربع عشرة ومائة سنة ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسير في بعض أسفاره) هو سفر الحديبية كما في حديث ابن مسعود عند الطبراني.
قال ابن عبد البر هذا الحديث مرسل إلا أنه محمول على الاتصال لأن أسلم رواه عن عمرو.
وقد رواه جماعة عن مالك عن زيد بن أسلم عن أبيه عن عمر موصولاً انتهى.

وأخرجه البخاري والترمذي والنسائي من طرق عن مالك به.
قال الحافظ: هذا السياق صورته الإرسال لأن أسلم لم يدرك زمان هذه القصة لكنه محمول على أنه سمعه من عمر لقوله في أثنائه قال عمر: فحركت بعيري.
وقد جاء من طريق أخرى سمعت عمر.
أخرجه البزار من طريق محمد بن خالد بن عثمة عن مالك ثم قال: لا نعلم رواه عن مالك هكذا إلا ابن عثمة وابن غزوان ورواية ابن غزوان أخرجها أحمد عنه.
وأخرجه الدارقطني في الغرائب من طريق محمد بن حرب ويزيد بن أبي حكيم وإسحاق الحنيني كلهم عن مالك على الاتصال.

( وعمر بن الخطاب يسير معه ليلاً) ففيه إباحة السير على الدواب ليلاً وحمله العلماء على من لا يمشي بها نهارًا أو قل مشيه بها نهارًا لأنه صلى الله عليه وسلم أمر بالرفق بها والإحسان إليها قاله أبو عمر ( فسأله عمر عن شيء فلم يجبه) لاشتغاله صلى الله عليه وسلم بالوحي ( ثم سأله) ثانيًا ( فلم يجبه ثم سأله) ثالثًا ( فلم يجبه) ولعله ظن أنه لم يسمعه ( فقال عمر ثكلتك) بفتح المثلثة وكسر الكاف أي فقدتك ( أمك) يا ( عمر) فهو منادى بحذف الياء وثبتت في رواية دعا على نفسه بسبب ما وقع منه من الإلحاح خوف غضبه وحرمان فائدته قال أبو عمر: قلما أغضب عالم إلا حرمت فائدته.
وقال ابن الأثير دعا على نفسه بالموت والموت يعم كل أحد فإذا الدعاء كلا دعاء ( نزرت) بفتح النون والزاي مخففة فراء ساكنة ( رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي ألححت عليه وبالغت في السؤال، أو راجعته أو أتيته بما يكره من سؤالك.
وفي رواية بتشديد الزاي وهو على المبالغة أي أقللت كلامه إذ سألته ما لا يحب أن يجيب عنه والتخفيف هو الوجه.
قال الحافظ أبو ذر الهروي: سألت عنه ممن لقيت أربعين فما قرؤه قط إلا بالتخفيف.
( ثلاث مرات كل ذلك لا يجيبك) ففيه أن سكوت العالم يوجب على المتعلم ترك الإلحاح عليه وإن له أن يسكت عما لا يريد أن يجيب فيه.

( قال عمر فحركت بعيري حتى إذا كنت أمام) بالفتح قدام ( الناس وخشيت أن ينزل في) بشد الياء ( قرآن فما نشبت) بفتح النون وكسر المعجمة وسكون الموحدة ففوقية فما لبثت وما تعلقت بشيء ( أن سمعت صارخًا) لم يسم ( يصرخ بي قال) عمر ( فقلت لقد خشيت أن يكون نزل في قرآن) قال أبو عمر: أرى أنه عليه السلام أرسل إلى عمر يؤنسه ويدل على منزلته عنده ( قال) عمر ( فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلمت عليه فقال) بعد رد السلام ( لقد أنزلت علي هذه الليلة سورة لهي) بلام التأكيد ( أحب إلي مما طلعت عليه الشمس) لما فيها من البشارة بالمغفرة والفتح وغيرهما وأفعل قد لا يراد بها المفاضلة ( ثم قرأ { { إنا فتحنا لك فتحا مبينا } } ) قال ابن عباس وأنس والبراء هو فتح الحديبية ووقوع الصلح.

قال الحافظ فإن الفتح لغة فتح المغلق والصلح كان مغلقًا حتى فتحه الله.
وكان من أسباب فتحه صد المسلمين عن البيت فكانت الصورة الظاهرة ضيمًا للمسلمين والباطنة عزًا لهم فإن الناس للأمن الذي وقع فيهم اختلط بعضهم ببعض من غير نكير، وأسمع المسلمون المشركين القرآن وناظروهم على الإسلام جهرة آمنين، وكانوا قبل ذلك لا يتكلمون عندهم بذلك إلا خفية فظهر من كان يخفي إسلامه فذل المشركون من حيث أرادوا العزة وقهروا من حيث أرادوا الغلبة.
وقيل هو فتح مكة نزلت مرجعه من الحديبية عدة له بفتحها وأتى به ماضيًا لتحقق وقوعه وفيه من الفخامة والدلالة على علو شأن المخبر به ما لا يخفى وقيل المعنى قضينا لك قضاء بينًا على أهل مكة أن تدخلها أنت وأصحابك قابلاً من الفتاحة وهي الحكومة والحق أنه يختلف باختلاف المراد من الآيات فالمراد بقوله تعالى: { { إنا فتحنا لك } } فتح الحديبية لما ترتب على الصلح من الأمن ورفع الحرب وتمكن من كان يخشى الدخول في الإسلام والوصول إلى المدينة منه وتتابع الأسباب إلى أن كمل الفتح.

وأما قوله: { { وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا } } فالمراد فتح خيبر على الصحيح لأنها هي التي وقع فيها مغانم كثيرة للمسلمين وأما قوله: { { إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ } } وقوله لا هجرة بعد الفتح ففتح مكة باتفاق فبهذا يرتفع الإشكال وتجتمع الأقوال انتهى.
قال ابن عبد البر: أدخل مالك هذا الحديث في باب ما جاء في القرآن تعريفًا بأنه ينزل في الأحيان على قدر الحاجة وما يعرض انتهى.
ولإفادة أن منه ليليٌّ ورواه البخاري في المغازي عن عبد الله بن يوسف وفي التفسير عن عبد الله بن مسلمة القعنبي كلاهما عن مالك به.

( مالك عن يحيى بن سعيد) الأنصاري التابعي ولجده قيس صحبة ( عن محمد بن إبراهيم بن الحارث) بن خالد القرشي ( التيمي) تيم قريش أبي عبد الله المدني مات سنة عشرين ومائة على الصحيح وجده الحارث من المهاجرين الأولين ( عن أبي سلمة بن عبد الرحمن) بن عوف الزهري المدني ( عن أبي سعيد) سعد بن مالك بن سنان الخدري الصحابي ابن الصحابي ( قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يخرج فيكم) أنفسكم يعني أصحابه أي يخرج عليكم ( قوم) هم الذين خرجوا على علي بن أبي طالب يوم النهروان فقتلهم فهم أصل الخوارج.
وأول خارجة خرجت إلا أن منهم طائفة كانت ممن قصد المدينة يوم الدار في قتل عثمان وسموا خوارج من قوله يخرج قاله في التمهيد.
( تحقرون) بكسر القاف تستقلون ( صلاتكم مع صلاتهم وصيامكم مع صيامهم) لأنهم كانوا يصومون النهار ويقومون الليل، وللطبراني عن ابن عباس في قصة مناظرته للخوارج قال: فأتيتهم فدخلت على قوم لم أر أشد اجتهادًا منهم ( وأعمالكم مع أعمالهم) من عطف العام على الخاص كقوله: { { وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ } } ( يقرؤون القرآن) آناء الليل والنهار.
وفي رواية للبخاري يتلون كتاب الله رطبًا أي لمواظبتهم على تلاوته فلا يزال لسانهم رطبًا بها أو هو من تحسين الصوت بها ( ولا يجاوز حناجرهم) جمع حنجرة، وهي آخر الحلق مما يلي الفم.
وقيل أعلى الصدر عند طرف الحلقوم والمعنى أن قراءتهم لا يرفعها الله ولا يقبلها وقيل لا يعملون بالقرآن فلا يثابون على قراءتهم فلا يحصل لهم إلا سرده.
وقيل: لا تفقهه قلوبهم ويحملونه على غير المراد به فلا حظ لهم منه إلا مروره على لسانهم لا يصل إلى حلوقهم، فضلاً عن أن يصل إلى قلوبهم فلا يتدبروه بها.

وقال ابن رشيق: المعنى لا ينتفعون بقراءته كما لا ينتفع الآكل والشارب من المأكول والمشروب إلا بما يجاوز حنجرته قال ابن عبد البر: وكانوا لتكفيرهم الناس لا يقبلون خبر أحد عن النبي صلى الله عليه وسلم فلم يعرفوا بذلك شيئًا من سنته وأحكامه المبينة لمجمل القرآن والمخبرة عن مراد الله تعالى في خطابه ولا سبيل إلى المراد بها إلا ببيان رسوله، ألا ترى إلى قوله: { { وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ } } والصلاة والزكاة والحج والصوم وسائر الأحكام إنما ذكرت في القرآن مجملة بينتها السنة فمن لم يقبل أخبار العدول ضل وصار في عمياء.

( يمرقون) بضم الراء يخرجون سريعًا ( من الدين) قيل المراد الإسلام فهو حجة لمن كفر الخوارج، وبه جزم ابن العربي في الأحوذي محتجًا برواية البخاري يمرقون من الإسلام.
وقيل المراد الطاعة فلا حجة فيه لكفرهم.
قال الحافظ: والذي يظهر أن المراد بالدين الإسلام كما في الرواية الأخرى وخرج الكلام مخرج الزجر وأنهم بفعلهم ذلك يخرجون من الإسلام الكامل ( مروق السهم) وفي رواية كما يمرق السهم ( من الرمية) بفتح الراء وكسر الميم وشد التحتية، وهي الطريدة من الصيد فعيلة من الرمي بمعنى مفعولة، دخلتها الهاء إشارة إلى نقلها من الوصفية إلى الإسمية شبه مروقهم من الدين بالسهم الذي يصيب الصيد فيدخل فيه ويخرج منه ومن شدة سرعة خروجه لقوة الرامي لا يعلق من جسد الصيد بشيء ( تنظر) أيها الرامي ( في النصل) بنون فصاد حديدة السهم هل ترى فيه شيئًا من أثر الصيد دم أو نحوه ( فلا ترى شيئا) فيه ( وتنظر في القدح) بكسر القاف وسكون الدال وحاء مهملتين خشب السهم أو ما بين الريش والسهم هل ترى أثرًا ( فلا ترى شيئا) فيه ( وتنظر في الريش) الذي على السهم ( فلا ترى شيئا) فيه ( وتتمارى) بفتح الفوقيتين أي تشك ( في الفوق) بضم الفاء وهو موضع الوتر من السهم أي نتشكك هل علق به شيء من الدم.
وفي رواية وينظر ويتمارى بالتحتية أي الرامي، والمعنى أن هؤلاء يخرجون من الإسلام بغتة كخروج السهم إذا رماه رام قوي الساعد فأصاب ما رماه فنفذ بسرعة بحيث لا يعلق بالسهم ولا بشيء منه من المرمى شيء فإذا التمس الرامي سهمه لم يجده علق بشيء من الدم ولا غيره.

وفي رواية ابن ماجه والطبراني: سيخرج قوم من الإسلام خروج السهم من الرمية عرضت للرجال فرموها فانمرق سهم أحدهم منها فخرج فأتاه فنظر إليه فإذا هو لم يتعلق بنصله من الدم شيء ثم نظر إلى القدح الحديث، زاد في رواية الشيخين من وجه آخر عن أبي سعيد آيتهم رجل أسود إحدى عضديه مثل ثدي المرأة أو مثل البضعة ويخرجون على خير فرقة من الناس.
قال أبو سعيد: فأشهد أني سمعت هذا الحديث من رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن علي بن أبي طالب قتلهم وأنا معه فأمر بذلك الرجل فالتمس فأتي به حتى نظرت إليه على نعت النبي صلى الله عليه وسلم الذي نعته.
وفي رواية مسلم فلما قتلهم علي قال: انظروا فلم ينظروا شيئًا فقال: ارجعوا فوالله ما كذبت ولا كذبت - مرتين أو ثلاثًا - ثم وجدوه في خربة.

قال الباجي: أجمع العلماء أن المراد بهذا الحديث الخوارج الذين قاتلهم علي.
وفي التمهيد يتمارى في الفوق أي يشك وذلك يوجب أن لا يقطع على الخوارج ولا على غيرهم من أهل البدع بالخروج من الإسلام، وأن يشك في أمرهم وكل شيء يشك فيه فسبيله التوقف فيه دون القطع.
وقد قال فيهم رسول الله: يخرج قوم من أمتي، فإن صحت هذه اللفظة فقد جعلهم من أمته.
وقال قوم: معناه من أمتي بدعواهم.
وقال علي: لم نقاتل أهل النهروان على الشرك.
وسئل عنهم أكفار هم؟ قال: من الكفر فروا قيل: فمنافقون؟ قال: إن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلاً قيل: فما هم؟ قال: قوم أصابتهم فتنة فعموا فيها وصموا وبغوا علينا وحاربونا وقاتلونا فقتلناهم.
قال إسماعيل القاضي: رأى مالك قتل الخوارج وأهل القدر للفساد الداخل في الدين وهو من باب الإفساد في الأرض، وليس إفسادهم بدون إفساد قطاع الطريق والمحاربين المسلمين على أموالهم، فوجب بذلك قتلهم لكنه يرى استتابتهم لعلهم يراجعون الحق فإن تمادوا قتلوا على إفسادهم لا على كفرهم وهذا قول عامة الفقهاء الذين يرون قتلهم واستتابتهم.

وذهب أبو حنيفة والشافعي وجمهور الفقهاء وكثير من المحدثين إلى أنه لا يتعرض لهم باستتابة ولا غيرها ما استتروا ولم يبغوا ولم يحاربوا، وقالت طائفة من المحدثين: هم كفار على ظواهر الأحاديث ولكن يعارضها غيرها فيمن لا يشرك بالله شيئًا ويريد بعمله وجهه وإن أخطأ في حكمه واجتهاده والنظر يشهد أن الكفر لا يكون إلا بضد الحال التي يكون بها الإيمان، فهما ضرتان انتهى ملخصًا.
وبالغ الخطابي فقال: أجمع علماء المسلمين على أن الخوارج على ضلالتهم فرقة من المسلمين وأجازوا مناكحتهم وأكل ذبائحهم وقبول شهادتهم.

وهذا الحديث أخرجه البخاري في التفسير حدثنا عبد الله بن يوسف عن مالك به.

( مالك أنه بلغه أن عبد الله بن عمر مكث على سورة البقرة ثماني سنين يتعلمها) ليس ذلك لبطء حفظه معاذ الله بل لأنه كان يتعلم فرائضها وأحكامها وما يتعلق بها فقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم كراهة الإسراع في حفظ القرآن دون التفقه فيه.
ولعل ابن عمر خلط مع ذلك من العلم أبوابًا غيرها، وإنما ذلك مخافة أن يتأوله على غير تأويله قاله الباجي.
ونحوه قول أبي عمر لأنه كان يتعلمها بأحكامها ومعانيها وأخبارها وهذا البلاغ أخرجه ابن سعد في الطبقات عن عبد الله بن جعفر عن أبي المليح عن ميمون أن ابن عمر تعلم البقرة في ثمان سنين وأخرج الخطيب في رواية مالك عن ابن عمر قال: تعلم عمر البقرة في اثنتي عشرة سنة فلما ختمها نحر جزورًا.