فهرس الكتاب

شرح الزرقاني - بَابُ مَا جَاءَ فِي الدُّعَاءِ

رقم الحديث 503 حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الْأَعْرجَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لِكُلِّ نَبِيٍّ دَعْوَةٌ يَدْعُو بِهَا، فَأُرِيدُ أَنْ أَخْتَبِئَ دَعْوَتِي، شَفَاعَةً لِأُمَّتِي فِي الْآخِرَةِ.


( مالك عن أبي الزناد) عبد الله بن ذكوان ( عن الأعرج) عبد الرحمن بن هرمز ( عن أبي هريرة) عبد الرحمن بن صخر أو عمرو بن عامر ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لكل نبي دعوة) مستجابة ( يدعو بها) بهذه الدعوة مقطوع فيها بالإجابة وما عداها على رجاء الإجابة على غير يقين ولا وعد وبهذا أجيب عن إشكال ظاهره بما وقع لكثير من الأنبياء من الدعوات المجابة ولا سيما نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وبأن معناه أفضل دعوات كل نبي ولهم دعوات أخرى وبأن معناه لكل منهم دعوة عامة مستجابة في أمته إما بإهلاكهم وإما بنجاتهم وأما الدعوات الخاصة فمنها ما يستجاب ومنها ما لا يستجاب وقيل لكل منهم دعوة تخصه لدنياه أو لنفسه كقول نوح: { { رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا } } وقول زكريا: { { رب هب لي من لدنك وليا } } وقول سليمان: { { رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لاَّ يَنبَغِي لأحَدٍ مِّن بَعْدِي } } حكاه ابن التين.

وقال ابن عبد البر: معناه عندي أن كل نبي أعطي أمنية يتمنى بها لأنه محال أن يكون نبينا أو غيره من الأنبياء لا يجاب من دعائه إلا دعوة واحدة وما يكاد أحد يخلو من إجابة دعوته إذا شاء ربه قال تعالى: { { فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ } } وقال صلى الله عليه وسلم: دعوة المظلوم لا ترد ولو كانت من كافر.
وقال عليه السلام: ما من داع إلا كان بين إحدى ثلاث إما أن يستجاب له فيما دعا وإما أن يدخر له مثله وإما أن يكفر عنه وجاء في ساعة الجمعة لا يسأل فيها عبد ربه شيئا إلا أعطاه وقال في الدعاء بين الأذان والإقامة وعند الصف في سبيل الله وعند الغيث وغير ذلك أنها أوقات ترجى فيها إجابة الدعاء ( فأريد أن أختبئ) بسكون المعجمة وفتح الفوقية وكسر الموحدة، فهمزة أي أدخر ( دعوتي) المقطوع بإجابتها ( شفاعة لأمتي في الآخرة) في أهم أوقات حاجتهم ففيه كمال شفقته على أمته ورأفته بهم واعتناؤه بالنظر في مصالحهم جزاه الله عنا أفضل ما جزى نبيًا عن أمته.

قال ابن بطال في الحديث بيان فضيلة نبينا على سائر الأنبياء حيث آثر أمته على نفسه وأهل بيته بدعوته المجابة ولم يجعلها أيضًا دعاء عليهم كما وقع لغيره ممن تقدم وقال ابن الجوزي هذا من حسن تصرفه صلى الله عليه وسلم لأنه جعل الدعوة فيما ينبغي ومن كثرة كرمه لأنه آثر أمته على نفسه ومن صحة نظره لأنه جعلها للمذنبين من أمته لكونهم أحوج إليها من الطائعين هذا وقول بعض شراح المصابيح جميع دعوات الأنبياء مجابة والمراد بهذا الحديث أن كل نبي دعا على أمته بالإهلاك إلا أنا فلم أدع فأعطيت الشفاعة عوضا عن ذلك للصبر على أذاهم والمراد بالأمة أمة الدعوة لا أمة الإجابة تعقبه الطيبي بأنه صلى الله عليه وسلم دعا على أحياء العرب وعلى أناس من قريش بأسمائهم ودعا على رعل وذكوان ومضر قال والأولى أن يقال جعل الله لكل نبي دعوة تستجاب في حق أمته فنالها كل منهم في الدنيا وأما نبينا فإنه لما دعا على بعض أمته نزل عليه { { لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ } } فأبقى تلك الدعوة المستجابة مدخرة للآخرة وغالب من دعا عليهم لم يرد إهلاكهم وإنما أراد ردعهم ليتوبوا قال وأما جزمه أولا بأن جميع أدعية الأنبياء مجابة فغفلة عن الحديث سألت الله ثلاثا فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة الحديث انتهى وفيه إثبات الشفاعة.

قال ابن عبد البر: وهي ركن من أركان اعتقاد أهل السنة قال: وأجمعوا على أن قوله تعالى: { { عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا } } هو الشفاعة في المذنبين من أمته إلا ما روي عن مجاهد أنه جلوسه على العرش وروى عنه كالجماعة فصار إجماعا وقد صح نصا عن النبي صلى الله عليه وسلم وأحاديث الشفاعة متواترة صحاح منها شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي وقال جابر من لم يكن من أهل الكبائر فما له وللشفاعة ولا ينازع في ذلك إلا أهل البدع انتهى.

وهذا الحديث رواه البخاري في الدعوات حدثني إسماعيل قال: حدثني مالك به.
ومسلم من طريق ابن وهب عن مالك عن ابن شهاب عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة مرفوعًا به فلمالك فيه إسنادان.

( مالك عن يحيى بن سعيد أنه بلغه) قال أبو عمر: لم تختلف الرواة عن مالك في سنده ولا في متنه ورواه أبو شيبة عن أبي خالد الأحمر عن يحيى بن سعيد عن مسلم بن يسار ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو فيقول) وهو مرسل فمسلم تابعي ( اللهم فالق الإصباح) قال الباجي: أي خلقه وابتدأه وأظهره ( وجاعل الليل سكنًا) أي يسكن فيه قال الباجي: الجعل لغة الخلق والحكم والتسمية فإذا تعدى إلى مفعول واحد فهو بمعنى الخلق كقوله { { وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ } } وإلى مفعولين فيكون بمعنى الحكم والتسمية نحو: { { وَجَعَلُوا الْمَلاَئِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا } } وبمعنى الخلق كقولهم: الحمد لله الذي جعلني مسلمًا فقوله: ( وجاعل الليل سكنا) يحتمل الوجهين ( والشمس والقمر حسبانًا) قال أبو عمر: أي حسابًا أي بحساب معلوم وقد يكون جمع حساب كشهاب وشهبان وقال الباجي: أي يحسب بهما الأيام والشهور والأعوام قال تعالى: { { هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ } } ( اقض عني الدين) قال ابن عبد البر: الأظهر فيه ديون الناس ويدخل في ذلك ديون الله تعالى وفي الحديث دين الله أحق أن يقضى ( واغنني من الفقر) لأنه بئس الضجيع وهذا الفقر هو الذي لا يدرك معه القوت وقد أغناه الله تعالى كما قال: { { وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى } } ولم يكن غناه أكثر من اتخاذ قوت سنة لنفسه وعياله والغنى كله في قلبه ثقة بربه وقال: اللهم ارزق آل محمد قوتًا ولم يرد بهم إلا الأفضل وقال ما قل وكفى خير مما كثر وألهى وكان يستعيذ من فقر مبئس وغنى مطغ ويستعيذ من فتنة الغنى والفقر وقال: اللهم أحيني مسكينًا وأمتني مسكينًا واحشرني في زمرة المساكين ولا تجعلني جبارًا شقيًا.
والمسكين هنا المتواضع لا السائل لأنه صلى الله عليه وسلم كره السؤال ونهى عنه وحرمه على من يجد ما يغديه ويعشيه والآثار في هذا كثيرة وربما ظهر في بعضها تعارض وبهذا التأويل تتقارب معانيها فمن آتاه الله سعة وجب شكره عليها ومن ابتلي بالفقر وجب عليه الصبر إلا أن الفرائض تتوجه على الغني وهي ساقطة عن الفقير وللقيام بها فضل عظيم وللصبر على الفقر ثواب جسيم { { إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } } وخير الأمور أوساطها أشار له أبو عمر.

وقال أبو عبد الملك قيل أراد فقر النفس وقيل الفقر من الحسنات وقيل الفقر من المال الذي يخشى على صاحبه إذا استولى عليه نسيان الفرائض وذكر الله وجاء في الأثر اللهم إني أعوذ بك من فقر ينسيني وغنى يطغيني وهذا التأويل يدل على أن الكفاف أفضل من الفقر والغنى لأنهما بليتان يختبر الله بهما عباده.
( وأمتعني بسمعي) لما فيه من التنعم بالذكر وسماع ما يسر ( وبصري) لما فيه من رؤية مخلوقات الله والتدبر فيها وغير ذلك وفيه لغيره تلاوة القرآن في المصحف ( و) أمتعني ( بقوتي) بفوقية قبل الياء واحدة القوي ويروى وقوني بنون بدل الفوقية قال ابن عبد البر والأول أكثر عند الرواة ( في سبيلك) قال الباجي يحتمل أن يريد الجهاد وأن يريد جميع أعمال البر من تبليغ الرسالة وغيرها فذلك كله سبيل الله وقد قال مالك من قال مالي في سبيل الله سبل الله تعالى كثيرة ولكن يوضع في الغزو فخصه بالعرف قال ابن عبد البر ولا يعارض هذا ما جاء عن الله تعالى إذا أخذت كريمتي عبدي فصبر واحتسب لم يكن له جزاء إلا الجنة لأن هذا من الفرائض والحض على الصبر بعد الوقوع فلا ينافي الدعاء بالإمتاع قبل وقوعه لأنه أقرب إلى الشكر قال مطرف بن الشخير لأن أعافى فأشكر أحب إلي من أن ابتلى فأصبر.
( مالك عن أبي الزناد) بكسر الزاي ( عن الأعرج) عبد الرحمن بن هرمز ( عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا يقل أحدكم إذا دعا) طلب من الله ( اللهم اغفر لي إن شئت اللهم ارحمني إن شئت) زاد في رواية همام عن أبي هريرة عند البخاري: اللهم ارزقني إن شئت لأن التعليق بالمشيئة إنما يحتاج إليه إذا كان المطلوب منه يتأتى إكراهه على الشيء فيخفف الأمر عليه ويعلمه بأنه لا يطلب منه ذلك الشيء إلا برضاه والله تعالى منزه عن ذلك فلا فائدة للتعليق وقيل لأن فيه صورة الاستغناء عن المطلوب والمطلوب منه والأول أولى قال ابن عبد البر لا يجوز لأحد أن يقول اللهم أعطني إن شئت وغير ذلك من أمور الدين والدنيا لأنه كلام مستحيل لا وجه له إذ لا يفعل إلا ما يشاء وظاهره أنه حمل النهي على التحريم وهو الظاهر وحمله النووي على كراهة التنزيه وهو أولى ( ليعزم المسألة) قال الداودي أي يجتهد ويلح ولا يقول إن شئت كالمستثنى ولكن دعاء البائس الفقير وكأنه أشار بقوله كالمستثنى إلى أنه إذا قالها على سبيل التبرك لا يمنع وهو جيد قاله الحافظ وقال الباجي أي يخلي سؤاله ودعاءه من لفظ المشيئة لأنها إنما تشترط فيمن يصح أن يفعل دون أن يشاء لإكراه أو غيره فينبغي أن يسأل سؤال من يعلم أنه لا يفعل إلا ما يشاء وقد بين ذلك صلى الله عليه وسلم بقوله ( فإنه) تعالى ( لا مكره له) بكسر الراء.

قال ابن بطال فيه أنه ينبغي للداعي أن يجتهد في الدعاء ويكون على رجاء الإجابة ولا يقنط من الرحمة فإنه يدعو كريما قال ابن عيينة لا يمنعن أحدا الدعاء ما يعلم من نفسه يعني من التقصير فإن الله تعالى قد أجاب دعاء شر خلقه وهو إبليس حين قال رب { { أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ } } وفي الترمذي: وقال غريب عن أبي هريرة مرفوعا ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة واعلموا أن الله لا يستجيب دعاء من قلب غافل لاه قال التوربشتي أي كونوا على حالة تستحقون فيها الإجابة وذلك بإتيان المعروف واجتناب المنكر وغير ذلك من مراعاة أركان الدعاء وآدابه حتى تكون الإجابة على القلب أغلب من الرد أو المراد ادعوه معتقدين وقوع الإجابة لأن الداعي إذا لم يكن متحققا في الرجاء لم يكن رجاؤه صادقا وإذا لم يصدق رجاؤه لم يكن الرجاء خالصا والداعي مخلصا فإن الرجاء هو الباعث على الطلب ولا يتحقق الفرع إلا بتحقق الأصل وهذا الحديث رواه البخاري وأبو داود عن القعنبي عن مالك به وهو في الصحيحين من حديث أنس بنحوه.

( مالك عن ابن شهاب عن أبي عبيد) بضم العين وتنوين الدال واسمه سعد بسكون العين ابن عبيد ثقة من كبار التابعين وقيل له إدراك مات بالمدينة سنة ثمان وتسعين ( مولى ابن أزهر) بفتح الهمزة والهاء بينهما زاي ساكنة آخره راء عبد الرحمن الزهري المدني صحابي صغير ( عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يستجاب لأحدكم ما لم يعجل) بفتح التحتية والجيم بينهما عين ساكنة من الاستجابة بمعنى الإجابة قال الشاعر:

فلم يستجبه عند ذاك مجيب

أي يجاب دعاء كل واحد منكم لأن الاسم المضاف مفيد للعموم على الأصح ( فيقول) بالفاء بيان لقوله ما لم يعجل ( قد دعوت فلم يستجب لي) بضم التحتية وفتح الجيم.
قال الباجي: يحتمل أن يريد بقوله يستجاب الإخبار عن وجوب وقوع الإجابة أي تحقق وقوعها أو الإخبار عن جواز وقوعها فإن أريد الوجوب فهو بأحد ثلاثة أشياء تعجيل ما سأله أو يكفر عنه به أو يدخر له فإذا قال دعوت إلخ بطل وجوب أحد هذه الثلاثة وعرى الدعاء عن جميعها وإن أريد الجواز فيكون الإجابة بفعل ما دعا به ومنعه قوله دعوت فلم يستجب لأنه من ضعف اليقين والتسخط وفي مسلم والترمذي عن أبي هريرة مرفوعا لا يزال يستجاب للعبد ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم وما لم يستعجل قيل وما الاستعجال قال يقول قد دعوت وقد دعوت فلم أر يستجاب لي فيستحسر عند ذلك ويدع الدعاء ويستحسر بمهملات استفعال من حسر إذا أعيا وتعب وتكرار دعوت للاستمرار أي دعوت مرارًا كثيرة قال المظهري من له ملالة من الدعاء لا يقبل دعاؤه لأن الدعاء عبادة حصلت الإجابة أو لم تحصل فلا ينبغي للمؤمن أن يمل من العبادة وتأخير الإجابة إما لأنه لم يأت وقتها وإما لأنه لم يقدر في الأزل قبول دعائه في الدنيا ليعطى عوضه في الآخرة وإما أن يؤخر القبول ليلح ويبالغ في ذلك فإن الله يحب الملحين في الدعاء مع ما في ذلك من الانقياد والاستسلام وإظهار الافتقار ومن يكثر قرع الباب يوشك أن يفتح له ومن يكثر الدعاء يوشك أن يستجاب له.

والحديث رواه البخاري عن عبد الله بن يوسف ومسلم عن يحيى بن يحيى كلاهما عن مالك به.

( مالك عن ابن شهاب عن أبي عبد الله) سلمان بسكون اللام ( الأغر) بفتح الغين المعجمة وشد الراء الجهني مولاهم المدني وأصله من أصبهان ( وعن أبي سلمة بن عبد الرحمن) بن عوف القرشي الزهري ( عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ينزل ربنا) اختلف فيه فالراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا على طريق الإجمال منزهين لله تعالى عن الكيفية والتشبيه ونقله البيهقي وغيره عن الأئمة الأربعة والسفيانين والحمادين والليث والأوزاعي وغيرهم قال البيهقي وهو أسلم ويدل عليه اتفاقهم على أن التأويل المعين لا يجب فحينئذ التفويض أسلم وقال ابن العربي النزول راجع إلى أفعاله لا إلى ذاته بل ذلك عبارة عن ملكه الذي ينزل بأمره ونهيه فالنزول حسي صفة الملك المبعوث بذلك أو معنوي بمعنى لم يفعل ثم فعل فسمي ذلك نزولا عن مرتبة إلى مرتبة فهي عربية صحيحة والحاصل أنه تأوله بوجهين إما أن المعنى ينزل أمره أو الملك وإما أنه استعارة بمعنى التلطف بالداعين والإجابة لهم ونحوه وكذا حكي عن مالك أنه أوله بنزول رحمته وأمره أو ملائكته كما يقال فعل الملك كذا أي أتباعه بأمره لكن قال ابن عبد البر قال قوم ينزل أمره ورحمته وليس بشيء لأن أمره بما يشاء من رحمته ونعمته ينزل بالليل والنهار بلا توقيت ثلث الليل ولا غيره ولو صح ذلك عن مالك لكان معناه أن الأغلب في الاستجابة ذلك الوقت وقال الباجي هو إخبار عن إجابة الداعي وغفرانه للمستغفرين وتنبيه على فضل الوقت كحديث إذا تقرب إلي عبدي شبرًا تقربت إليه ذراعًا الحديث لم يرد قرب المسافة لعدم إمكانه وإنما أراد العمل من العبد ومنه تعالى الإجابة وحكى ابن فورك أن بعض المشايخ ضبطه بضم أوله على حذف المفعول أي ينزل ملكا قال الحافظ ويقويه ما رواه النسائي من طريق الأغر عن أبي هريرة وأبي سعيد أن الله يمهل حتى يمضي شطر الليل ثم يأمر مناديا يقول هل من داع فيستجاب له الحديث وحديث عثمان بن أبي العاص عند أحمد ينادي مناد هل من داع يستجاب له الحديث قال القرطبي وبهذا يرتفع الإشكال ولا يعكر عليه حديث رفاعة الجهني عند النسائي ينزل الله إلى سماء الدنيا فيقول لا أسأل عن عبادي غيري لأنه لا يلزم من إنزاله الملك أن يسأله عن صنع العباد بل يجوز أنه مأمور بالمناداة ولا يسأل البتة عما بعدها فهو أعلم سبحانه بما كان وما يكون انتهى ولك أن تقول الإشكال مدفوع حتى على أنه ينزل بفتح أوله الذي هو الرواية الصحيحة وكل من حديثي النسائي وأحمد يقوي تأويله بأنه من مجاز الحذف أو الاستعارة وقال البيضاوي لما ثبت بالقواطع أنه سبحانه منزه عن الجسمية والتحيز امتنع عليه النزول على معنى الانتقال من موضع إلى موضع أخفض منه فالمراد دنو رحمته أي ينتقل من مقتضى صفة الجلال التي تقتضي الغضب والانتقام إلى مقتضى صفة الإكرام التي تقتضي الرأفة والرحمة ( تبارك وتعالى) جملتان معترضتان بين الفعل وظرفه وهو ( كل ليلة) لما أسند النزول إلى ما لا يليق إسناده حقيقة إليه اعترض بما يدل على التنزيه كقوله تعالى { { وَيَجْعَلُونَ للهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُم مَّا يَشْتَهُونَ } } ( إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر) برفعه صفة ثلث وتخصيصه بالليل وثلثه الآخر لأنه وقت التهجد وغفلة الناس عن التعرض لنفحات رحمة الله وعند ذلك تكون النية خالصة والرغبة إلى الله وافرة وذلك مظنة القبول والإجابة ولم تختلف الروايات عن الزهري في تعيين الوقت واختلف عن أبي هريرة وغيره.

قال الترمذي: رواية أبي هريرة أصح الروايات في ذلك ويقويه أن الروايات المخالفة له اختلف فيها على راويها وانحصرت في ستة هذه، ثانيها: إذا مضى الثلث الأول.
ثالثها: الثلث الأول أو النصف.
رابعها: النصف.
خامسها: الثلث الأخير أو النصف.
سادسها: الإطلاق فجمع بينها بحمل المطلقة على المقيدة، وأما التي بأو فإن كانت للشك فالجزم مقدم على الشك، وإن كانت للتردد بين حالتين فيجمع بأن ذلك يقع بحسب اختلاف الأحوال لأن أوقات الليل تختلف في الزيادة وفي الأوقات باختلاف تقدم الليل عند قوم وتأخره عند قوم أو النزول يقع في الثلث الأول والقول يقع في النصف وفي الثلث الثاني أو يحمل ذلك على وقوعه في جميع الأوقات التي وردت بها الأحاديث ويحمل على أنه صلى الله عليه وسلم أعلم بأحد الأمور في وقت فأخبر به ثم أعلم به في وقت آخر فأخبر به فنقل الصحابة ذلك عنه ( فيقول من يدعوني فأستجيب) أي أجيب ( له) دعاءه فليست السين للطلب ( من يسألني فأعطيه) مسؤوله ( من يستغفرني فأغفر له) ذنوبه بنصب الأفعال الثلاثة في جواب الاستفهام وبالرفع على الاستئناف وبهما قرئ { { مَن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ } } ولم تختلف الروايات عن الزهري في الاقتصار على الثلاثة والفرق بينها أن المطلوب إما رفع المضار أو جلب المسار وذلك إما دنيوي أو ديني ففي الاستغفار إشارة إلى الأول والدعاء إشارة إلى الثاني والسؤال إشارة إلى الثالث وقال الكرماني يحتمل أن الدعاء ما لا طلب فيه والسؤال الطلب ويحتمل أن المقصود واحد وإن اختلف اللفظ انتهى.

وزاد سعيد المقبري عن أبي هريرة هل من تائب فأتوب عليه، وزاد أبو جعفر عنه من ذا الذي يسترزقني فأرزقه من ذا الذي يستكشف الضر فأكشف عنه وزاد عطاء مولى أم صبية بضم الصاد المهملة وموحدة عنه ألا سقيم يستشفي فيشفى رواها النسائي ومعانيها داخلة فيما تقدم وزاد سعيد بن مرجانة عنه من يقرض غير عديم ولا ظلوم رواه مسلم وفيه تحريض على عمل الطاعة وإشارة إلى جزيل ثوابها وزاد حجاج بن أبي منيع عن الزهري عند الدارقطني حتى الفجر وفي رواية يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة حتى يطلع الفجر وعليه اتفق معظم الروايات وللنسائي عن نافع بن جبير عن أبي هريرة حتى تحل الشمس وهي شاذة وفي الحديث تفضيل آخر الليل على أوله وأنه أفضل للدعاء والاستغفار ويشهد له قوله تعالى: { { وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأسْحَارِ } } وأن الدعاء ذلك الوقت مجاب ولا يعترض بتخلفه عن بعض الداعين لأن سببه وقوع الخلل في شرط من شروط الدعاء كالاحتراز في المطعم والمشرب والملبس أو لاستعجال الداعي أو بأن يكون الدعاء بإثم أو قطيعة رحم أو تحصل الإجابة ويتأخر وجود المطلوب لمصلحة العبد أو لأمر يريده الله تعالى هذا وقد حمل المشبهة الحديث وأحاديث التشبيه كلها على ظاهرها تعالى الله عن قولهم وأما المعتزلة والخوارج فأنكروا صحتها جملة وهو مكابرة والعجب أنهم أولوا ما في القرآن من نحو ذلك وأنكروا الأحاديث جهلا أو عنادا ومن العلماء من فرق بين التأويل القريب المستعمل لغة وبين البعيد المهجور فأول في بعض وفوض في بعض وجزم به من المتأخرين ابن دقيق العيد ونقل عن الإمام قال الباجي منع مالك في العتبية التحديث بحديث اهتز العرش لموت سعد بن معاذ وحديث إن الله خلق آدم على صورته وحديث الساق وقال ما يدعو الإنسان إلى أن يحدث به وهو يرى ما فيه من التغرير ولم ير مثله حديث إن الله يضحك وحديث ينزل ربنا فأجاز التحديث بهما قال فيحتمل الفرق بينهما بأن حديث التنزل والضحك أحاديث صحاح لم يطعن في شيء منهما وحديث العرش والصورة والساق لا تبلغ أحاديثها في الصحة درجة التنزل والضحك وبأن التأويل في حديث التنزل أقرب وأبين والعذر بسوء التأويل فيها أبعد انتهى.

وأخرجه البخاري في الصلاة عن القعنبي وفي الدعوات عن عبد العزيز بن عبد الله الأويسي وفي التوحيد عن إسماعيل ومسلم في الصلاة عن يحيى بن يحيى كلهم عن مالك به.

( مالك عن يحيى بن سعيد) الأنصاري ( عن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي) تيم قريش ( أن عائشة أم المؤمنين) قال ابن عبد البر: لم يختلف عن مالك في إرساله وهو مسند من حديث الأعرج عن أبي هريرة عن عائشة ومن حديث عروة عن عائشة من طرق صحاح ثم أخرجه من الوجهين وطريق الأعرج أخرجها مسلم وأبو داود والنسائي من طريق عبيد الله بن عمر عن محمد بن يحيى بن حبان عن الأعرج عن أبي هريرة عن عائشة ( قالت كنت نائمة إلى جنب رسول الله صلى الله عليه وسلم ففقدته) بفتح القاف، وفي رواية افتقدته وهما لغتان بمعنى عدمته ( من الليل) وفي رواية عروة وكان معي على فراشي ( فلمسته بيدي) وفي رواية فالتمسته في البيت وجعلت أطلبه بيدي ( فوضعت يدي على قدميه) زاد في رواية وهما منتصبتان ( وهو ساجد) وفيه أن اللمس بلا لذة لا ينقض الوضوء واحتمال أنه كان فوق حائل خلاف الأصل فسمعته ( يقول) زاد في رواية اللهم إني ( أعوذ برضاك من سخطك) أي بما يرضيك مما يسخطك فخرج عن حظ نفسه بإقامة حرمة محبوبه فهذا لله ثم الذي لنفسه قوله ( وبمعافاتك من عقوبتك) وفي إضافتها كالسخط إليه دليل لأهل السنة على جواز إضافة الشر إليه تعالى كالخير واستعاذ بها بعد استعاذته برضاه لأنه يحتمل أن يرضى من جهة حقوقه ويعاقب على حقوق غيره ( وبك منك) قال عياض: ترق من الأفعال إلى منشئ الأفعال مشاهدة للحق وغيبة عن الخلق الذي هو محض المعرفة الذي لا يعبر عنه قول ولا يضبطه وصف فهو محض التوحيد وقطع الالتفات إلى غيره وإفراده بالاستعانة وغيرها.

قال الخطابي وفيه معنى لطيف لأنه استعاذ بالله وسأله أن يجيره برضاه من سخطه وبمعافاته من عقوبته والرضا والسخط ضدان كالمعافاة والعقوبة فلما ذكر ما لا ضد له وهو الله سبحانه وتعالى استعاذ به منه لا غير ومعناه الاستغفار من التقصير في بلوغ الواجب من عبادته والثناء عليه ولذا قال ( لا أحصي ثناء عليك) قال ابن الأثير: أي لا أبلغ الواجب في الثناء عليك وقال الراغب أي لا أحصل ثناء لعجزي عنه إذ هو نعمة تستدعي شكرًا وهكذا إلى غير نهاية وقيل معناه لا أعد كما في الصحاح لأن معنى الإحصاء العد بالحصى كما قال:

ولست بالأكثر منهم حصى
وإنما العزة للكاثر

وعليه فهو من نفي الملزوم المعبر عنه بالإحصاء المفسر بالعد وإرادة نفي اللازم وهو استيعاب المعدود فكأنه قيل لا أستوعب فالمراد نفي القدرة عن الإتيان بجميع الثناءات أو فرد منها يفي بنعمة من نعمه لا عدها إذ لا يمكن عد أفراد كثيرة من الثناء وقال ابن عبد البر روينا عن مالك أن معناه وإن اجتهدت في الثناء عليك فلن أحصي نعمك ومننك وإحسانك ( أنت) مبتدأ خبره ( كما أثنيت) أي الثناء عليك هو المماثل لثنائك ( على نفسك) ولا قدرة لأحد عليه ويحتمل أن أنت تأكيد للكاف من عليك باستعارة الضمير المنفصل للمتصل، والثناء بتقديم المثلثة والمد الوصف بالجميل على المشهور لغة، واستعماله في الشر مجاز وقال المجد: وصف بمدح أو ذم أو خاص بالمدح.
قال ابن عبد البر فيه دليل على أنه لا يبلغ وصفه وأنه إنما يوصف بما وصف به نفسه انتهى وقال النووي فيه اعتراف بالعجز عن الثناء عليه وأنه لا يقدر على بلوغ حقيقته ورد الثناء إلى الجملة دون التفصيل والتعيين فوكل ذلك إليه سبحانه المحيط بكل شيء جملة وتفصيلا وكما أنه لا نهاية لصفاته لا نهاية للثناء عليه لأن الثناء تابع للمثني عليه فكل شيء أثنى عليه به وإن كثر وطال وبولغ فيه فقدر الله أعظم وسلطانه أعز وصفاته أكثر وأكبر وفضله أوسع وأسبغ.

( مالك عن زياد بن أبي زياد) ميسرة المخزومي مولاهم المدني الثقة العابد قال مالك: كان يلبس الصوف ويكون وحده ولا يجالس أحدًا.
لمالك عنه مرفوعًا هذا الحديث الواحد رواه هنا.
وفي الحج ونسبه فزاد مولى عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة المخزومي ( عن طلحة بن عبيد الله) بضم العين ( بن كريز) بفتح الكاف وكسر الراء وإسكان التحتية وزاي منقوطة الخزاعي أبي المطرف المدني وثقه أحمد والنسائي وروى له مسلم وأصحاب السنن وهو تابعي قال الولي العراقي ووهم من ظنه أحد العشرة قال ابن عبد البر لا خلاف عن مالك في إرساله ولا أحفظه بهذا الإسناد مسندا من وجه يحتج به وقد جاء مسندا من حديث علي وابن عمرو والفضائل لا تحتاج إلى من يحتج به ثم أخرج حديث علي من طريق ابن أبي شيبة وجاء أيضا من حديث أبي هريرة أخرجه هو وحديث ابن عمر والبيهقي في الشعب.

( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أفضل الدعاء) مبتدأ خبره ( دعاء يوم عرفة) قال الباجي: أي أعظمه ثوابًا وأقربه إجابة ويحتمل أن يريد به اليوم ويحتمل أن يريد الحاج خاصة ( وأفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي) ولفظ حديث علي أكثر دعائي ودعاء الأنبياء قبلي بعرفة ( لا إله إلا الله وحده لا شريك له) زاد في حديث أبي هريرة: له الملك وله الحمد يحيي ويميت، بيده الخير وهو على كل شيء قدير.
وكذا في حديث علي لكن ليس فيه بيده الخير وفي حديث ابن عمر ولكن ليس فيه يحيي ويميت وفيه بيده الخير قال ابن عبد البر فيه أن الثناء دعاء وفي المرفوع يقول الله عز وجل من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين وفيه تفضيل الدعاء بعضه على بعض والأيام بعضها على بعض وأن ذلك أفضل الذكر لأنها كلمة الإسلام والتقوى وقال آخرون أفضله الحمد لله رب العالمين لأن فيه معنى الشكر وفيه من الإخلاص ما في لا إله إلا الله وافتتح الله كلامه به وختم به وهو آخر دعوى أهل الجنة وروت كل فرقة بما قالت أحاديث كثيرة وساق جملة منها في التمهيد ووقع في تجريد الصحاح لرزين بن معاوية الأندلسي زيادة في أول هذا الحديث وهي أفضل الأيام يوم عرفة وافق يوم جمعة وهو أفضل من سبعين حجة في غير يوم الجمعة وأفضل الدعاء إلخ وتعقبه الحافظ فقال حديث لا أعرف حاله لأنه لم يذكر صحابيه ولا من خرجه بل أدرجه في حديث الموطأ هذا وليست هذه الزيادة في شيء من الموطآت فإن كان له أصل احتمل أن يراد بالسبعين التحديد أو المبالغة في الكثرة وعلى كل حال منهما ثبتت المزية انتهى وفي الهدي لابن القيم ما استفاض على ألسنة العوام أن وقفة الجمعة تعدل ثنتين وسبعين حجة فباطل لا أصل له عن رسول الله ولا عن أحد من الصحابة والتابعين انتهى.

( مالك عن أبي الزبير) محمد بن مسلم ( المكي) الأسدي مولاهم صدوق وقال ابن معين ثقة وقال أحمد لا بأس به وقال أبو عمر ثقة حافظ متقن.
روى عنه مالك والسفيانان والليث وابن جريج وجماعة من الأئمة لا يلتفت إلى قول شعبة فيه وروى له الجميع مات بمكة سنة ست وعشرين وقيل ثمان وعشرين ومائة ( عن طاوس) بن كيسان ( اليماني) الحضرمي مولاهم الفارسي يقال: اسمه ذكوان وطاوس لقب، ثقة فقيه فاضل مات سنة ست ومائة وقيل بعدها ( عن عبد الله بن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعلمهم هذا الدعاء كما يعلمهم السورة من القرآن) تشبيه في تحفيظ حروفه وترتيب كلماته ومنع الزيادة والنقص منه والدرس له والمحافظة عليه ( يقول اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم) أي عقوبتها والإضافة مجازية أو من إضافة المظروف إلى ظرفه ( وأعوذ بك من عذاب القبر) العذاب اسم للعقوبة والمصدر التعذيب فهو مضاف إلى الفاعل مجازًا أو الإضافة من إضافة المظروف إلى ظرفه على تقدير في أي من عذاب في القبر وفيه رد على من أنكره ( وأعوذ بك من فتنة) امتحان واختبار ( المسيح) بفتح الميم وخفة السين المكسورة وحاء مهملة وصحف من أعجمها يطلق على الدجال وعلى عيسى عليه السلام لكن إذا أريد الأول قيد كما قال ( الدجال) وقال أبو داود: المسيح مثقل الدجال ومخفف عيسى والمشهور الأول، ونقل المستملي عن الفربري عن خلف بن عامر الهمداني أحد الحفاظ المسيح بالتشديد والتخفيف واحد يقال للدجال ولعيسى لا فرق بينهما بمعنى لا اختصاص لأحدهما بأحد الأمرين لقب بذلك لأنه ممسوح العين أو لأن أحد شقي وجهه خلق ممسوحا لا عين فيه ولا حاجب أو لأنه يمسح الأرض إذا خرج وقال الجوهري من خففه فلمسحه الأرض ومن شدد فلأنه ممسوح العين وأما عيسى فقيل لأنه خرج من بطن أمه ممسوحا بالدهن أو لأن زكريا مسحه أو لأنه كان لا يمسح ذا عاهة إلا برئ أو لمسحه الأرض بسباحته أو لأن رجله لا أخمص لها أو للبسه المسوح وقيل هو بالعبرانية ماسح فعرب المسيح وقيل المسيح الصديق ( وأعوذ بك من فتنة المحيا) هي ما يعرض للإنسان مدة حياته من الافتتان بالدنيا والشهوات والجهالات وأعظمها والعياذ بالله أمر الخاتمة عند الموت ( و) فتنة ( الممات) قال الباجي: هي فتنة القبر.
وقال أبو عمر: يحتمل إذا احتضر ويحتمل في القبر أيضًا.
وقال ابن دقيق العيد: يجوز أنها الفتنة عند الموت أضيفت إليه لقربها منه وفتنة المحيا ما قبل ذلك ويجوز أنها فتنة القبر وقد صح إنكم تفتنون في قبوركم مثل أو قريبًا من فتنة الدجال ولا يتكرر مع قوله عذاب القبر لأن العذاب مرتب على الفتنة والسبب غير المسبب وقيل فتنة المحيا الابتلاء مع زوال الصبر والممات السؤال في القبر مع الحيرة وهو من العام بعد الخاص لأن عذاب القبر داخل تحت فتنة الممات وفتنة الدجال داخلة تحت فتنة المحيا وروى الترمذي الحكيم عن سفيان الثوري إن الميت إذا سئل من ربك تراءى له الشيطان فيشير إلى نفسه أنا ربك فلذا ورد سؤال الثبات له حين يسأل ثم روي بسند جيد عن عمرو بن مرة كانوا يستحبون إذا وضع الميت في قبره أن يقولوا اللهم أعذه من الشيطان وفي مسلم عن أبي هريرة مرفوعًا إذا فرغ أحدكم من التشهد الآخر فليتعوذ من أربع من عذاب جهنم ومن عذاب القبر ومن فتنة المحيا والممات ومن شر المسيح الدجال قال الحافظ فهذا يعين أن هذه الاستعاذة بعد الفراغ من التشهد فيكون سابقا على غيره من الأدعية وما ورد أن المصلي يتخير من الدعاء ما شاء يكون بعد هذه الاستعاذة وقبل السلام انتهى وحديث ابن عباس أخرجه مسلم عن قتيبة بن سعيد عن مالك به وقال مسلم بعده بلغني أن طاوسا قال لابنه أدعوت بها في صلاتك قال لا قال أعد صلاتك لأن طاوسا رواه عن ثلاثة أو أربعة وهذا البلاغ أخرجه عبد الرزاق بسند صحيح وهو يدل على أنه يرى وجوبه وبه قال بعض أهل الظاهر.

( مالك عن أبي الزبير) محمد بن مسلم ( المكي عن طاوس اليماني عن عبد الله بن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قام إلى الصلاة من جوف الليل يقول) في موضع نصب خبر كان وقال الطيبي: الظاهر أنه جواب إذا والجملة الشرطية خبر كان وظاهره أنه كان يقول أول ما يقوم إلى الصلاة ولابن خزيمة من طريق قيس بن سعد عن طاوس عن ابن عباس كان صلى الله عليه وسلم إذا قام للتهجد قال بعد ما يكبر ( اللهم لك الحمد) الوصف بالجميل على التفضيل وأل فيه للاستغراق ( أنت نور السموات والأرض) أي منورهما وبك يهتدي من فيهما وقيل معناه أنت المنزه من كل عيب يقال فلان منور أي مبرأ من كل عيب ويقال هو مدح تقول فلان نور البلد أي مزينه ( ولك الحمد أنت قيام) بفتح التحتية المشددة فألف وكذا في رواية قيس بن سعد الحنظلي المكي عند مسلم وأبي داود بزنة فعال صيغة مبالغة وفي رواية سليمان الأحول عن طاوس في الصحيحين قيم وهما والقيوم بمعنى واحد ( السموات والأرض) زاد في رواية ومن فيهن أي أنت الذي تقوم بحفظهما وحفظ من أحاطت به واشتملت عليه تؤتي كلا ما به قوامه وتقوم كل شيء من خلقك بما تراه من تدبيرك وفي البخاري قال مجاهد القيوم القائم على كل شيء وقرأ عمر القيام أي في آية الكرسي وكلاهما مدح أي بخلاف القيم فيستعمل في المدح والذم وقيل القيم القائم بأمور الخلق ومدبر العالم في جميع أحواله ومنه قيم الطفل والقيوم والقيام القائم بنفسه مطلقا لا بغيره ويقوم به كل موجود حتى لا يتصور وجود شيء ولا دوام وجوده إلا به فمن عرف ذلك استراح عن كد التدبير وتعب الاشتغال وعاش براحة التفويض فلا يضن بكريمة ولا يجعل في قلبه للدنيا كثر قيمة.

( ولك الحمد أنت رب السموات والأرض ومن فيهن) عبر بمن تغليبًا للعقلاء على غيرهم فهو رب كل شيء ومليكه وكافله ومغذيه ومصلحه العواد عليه بنعمه وتكرير الحمد للاهتمام بشأنه وليناط به كل مرة معنى آخر وتقديم الجار والمجرور إفادة التخصيص وكأنه لما خص الحمد بالله قيل له لم خصصتني قال لأنك القائم بحفظ المخلوقات إلى غير ذلك.
( أنت الحق) أي المتحقق الوجود الثابت بلا شك فيه قال القرطبي هذا الوصف له سبحانه وتعالى بالحقيقة خاص به لا ينبغي لغيره إذ وجوده بنفسه فلم يسبقه عدم ولا يلحقه عدم بخلاف غيره وقال ابن التين يحتمل أنت الحق بالنسبة إلى من يدعي أنه إله أو بمعنى من سماك إلها فقد قال الحق ( وقولك الحق) أي مدلوله ثابت ( ووعدك الحق) لا يدخله خلف ولا شك في وقوعه وهو من الخاص بعد العام ( ولقاؤك حق) المراد به البعث بعد الموت وهو عبارة عن مآل الخلق في الآخرة بالنسبة إلى الجزاء على الأعمال وقيل معناه رؤيتك في الآخرة حيث لا مانع وقيل الموت قال النووي وهو باطل هنا قال الحافظ وهذا وما بعده داخل تحت الوعد لكن الوعد مصدر وما بعده هو الموعود به ويحتمل أنه من الخاص بعد العام.
( والجنة حق والنار حق) أي كل منهما موجود ( والساعة حق) أي يوم القيامة وأصل الساعة القطعة من الزمان وإطلاق اسم الحق على ما ذكر من الأمور معناه أنه لا بد من كونها وأنها مما يجب أن يصدق بها وتكرار لفظ حق مبالغة في التأكيد زاد في رواية سليمان عن طاوس عند الشيخين والنبيون حق ومحمد حق وعرف الحق في الثلاثة الأول قال الطيبي للحصر لأن الله هو الحق الثابت وما سواه في معرض الزوال قال لبيد:

ألا كل شيء ما خلا الله باطل

وكذا قوله: وكذا وعده مختص بالإنجاز دون وعد غيره والتنكير في البواقي للتعظيم.

وقال السهيلي التعريف للدلالة على أنه المستحق لهذا الاسم بالحقيقة إذ هو مقتضى الأداة وكذا قوله ووعده لأن وعده كلامه وتركت في البواقي لأنها أمور محدثة والمحدث لا يجب له البقاء من جهة ذاته وبقاء ما يدوم منه علم مخبر الصادق لا من جهة استحالة فنائه قال الطيبي وهنا سر دقيق وهو أنه صلى الله عليه وسلم لما نظر إلى المقام الإلهي ومقربي حضرة الربوبية عظم شأنه وفخم منزلته حيث ذكر النبيين وعرفها بلام الاستغراق ثم خص محمدا صلى الله عليه وسلم من بينهم وعطفه عليهم إيذانا بالتغاير وأنه فائق عليهم بأوصاف مختصة به فإن تغاير الوصف بمنزلة التغاير في الذات ثم حكم عليه استقلالا بأنه حق وجرده عن ذاته كأنه غيره وأوجب عليه تصديقه ولما رجع إلى مقام العبودية ونظر إلى افتقار نفسه نادى بلسان الاضطرار في مطاوي الانكسار فقال:

( اللهم لك أسلمت) انقدت وخضعت لأمرك ونهيك ( وبك آمنت) أي صدقت ( وعليك توكلت) أي فوضت أموري تاركًا النظر في الأسباب العادية ( وإليك أنبت) رجعت إليك مقبلاً بقلبي عليك ( وبك) أي بما أعطيتني من البرهان وبما لقنتني من الحجة ( خاصمت) من خاصمني من الكفار أو بتأييدك ونصرك قاتلت ( وإليك حاكمت) كل من جحد الحق وما أرسلتني به لا إلى من كانت الجاهلية تتحاكم إليه من كاهن ونحوه وقدم جميع صلات هذه الأفعال عليها إشعارًا بالتخصيص وإفادة للحصر وكذا قوله ولك الحمد.
( فاغفر لي ما قدمت) قبل هذا الوقت ( وأخرت) عنه ( وأسررت) أخفيت ( وأعلنت) أظهرت أو ما حدثت به نفسي وما تحرك به لساني زاد في رواية للبخاري وما أنت أعلم به مني وهو من العام بعد الخاص وقال ذلك مع أنه مغفور له إما تواضعا وهضما لنفسه وإجلالا وتعظيما لربه أو تعليمًا لأمته ليقتدى به قال الحافظ كذا قيل والأولى أنه لمجموع ذلك إذ لو كان للتعليم فقط لكفي فيه أمرهم بأن يقولوا زاد في رواية سليمان عن طاوس أنت المقدم والمؤخر أي المقدم لي في البعث يوم القيامة والمؤخر لي في البعث في الدنيا.

( أنت إلهي لا إله إلا أنت) زاد في رواية للبخاري: ولا حول ولا قوة إلا بالله.
قال الكرماني: هذا الحديث من جوامع الكلم لأن لفظ القيم إشارة إلى أن وجود الجواهر وقوامها منه والنور إلى أن الأعراض أيضا منه والملك إلى أنه حاكم عليها إيجادا وعدما يفعل ما يشاء وكل ذلك من نعمه على عباده فلذا قرن كلا منها بالحمد وخصص الحمد به ثم قوله أنت الحق إشارة إلى المبتدأ والقول ونحوه إلى المعاش والساعة ونحوها إشارة إلى المعاد وفيه الإشارة إلى النبوة وإلى الجزاء ثوابا وعقابا ووجوب الإيمان به والإسلام والتوكل والإنابة والتضرع إلى الله والخضوع له انتهى وفيه زيادة معرفته صلى الله عليه وسلم بعظمة ربه وعظيم قدرته ومواظبته على الذكر والدعاء والثناء على ربه والاعتراف لله بحقوقه والإقرار بصدق وعده.

وأخرجه مسلم في الصلاة عن قتيبة بن سعيد والترمذي في الدعوات من طريق معن كليهما عن مالك به وله طرق في الصحيحين وغيرهما.

( مالك عن عبد الله بن عبد الله بن جابر) وقيل جبر ( بن عتيك) بفتح العين المهملة وكسر الفوقية وإسكان التحتية وكاف الأنصاري المدني تابعي صغير من الثقات ( أنه قال جاءنا عبد الله بن عمر) بن الخطاب هكذا رواه يحيى وطائفة لم يجعلوا بين عبد الله شيخ مالك وبين ابن عمر أحدًا.
ومنهم من أدخل بينهما عتيك بن الحارث بن عتيك، وهي رواية ابن القاسم ومنهم من جعل بينهما جابر بن عتيك وهي رواية القعنبي ومطرف قال ابن عبد البر ورواية يحيى أولى بالصواب ( في بني معاوية وهي قرية من قرى الأنصار) بالمدينة والنسبة إليها المعاوي بضم الميم ( فقال) زاد في رواية ابن وضاح لي ( هل تدرون أين صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من مسجدكم هذا) لأصلي فيه وأتبرك به لأنه كان حريصًا على اقتفاء آثاره ( فقلت له نعم وأشرت له إلى ناحية منه) من المسجد ( فقال لي هل تدري ما الثلاث) دعوات ( التي دعا بهن فيه فقلت نعم) فيه طرح العالم المسألة على من دونه ليعلم ما عنده ( قال فأخبرني بهن فقلت دعا بأن لا يظهر) الله ( عليهم عدوا من غيرهم) أي من غير المؤمنين يعني يستأصل جميعهم ( ولا يهلكهم بالسنين) أي بالمحل والجدب والجوع ( فأعطيهما) بالبناء للمفعول ( ودعا بأن لا يجعل بأسهم بينهم) أي الحرب والفتن والاختلاف ( فمنعها قال صدقت) يدل على أنه كان يعلم ما سأله عنه ( قال ابن عمر فلن يزال الهرج) بفتح الهاء وسكون الراء وبالجيم القتل ( إلى يوم القيامة) قضاء نافذ من الله ففي مسلم عن ثوبان رفعه: إن الله زوى لي مشارق الأرض ومغاربها وسيبلغ ملك أمتي ما زوى لي منها الحديث، وفيه: وإني سألت الله أن لا يهلك أمتي بسنة عامة ولا يسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم وأن لا يلبسهم شيعا ويذيق بعضهم بأس بعض فقال يا محمد إني إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد وإني أعطيتك لأمتك أن لا أهلكهم بسنة عامة وأن لا أسلط عليهم عدوا من غيرهم ولو اجتمع عليهم من بين أقطارها حتى يكون بعضهم يهلك بعضًا.

قال ابن عبد البر: دعا صلى الله عليه وسلم في مسجد الفتح يوم الإثنين ويوم الثلاثاء ويوم الأربعاء فاستجيب له يوم الأربعاء بين الصلاتين فعرف البشر في وجهه قال جابر فما نزل بي أمر يهمني إلا توخيت تلك الساعة فأعرف الإجابة.

( مالك عن زيد بن أسلم أنه كان يقول ما من داع يدعو إلا كان بين إحدى ثلاث إما أن يستجاب له) بعين ما سأل ( وإما أن يدخر له) يوم القيامة ( وإما أن يكفر عنه) من الذنوب في نظير دعائه.
قال ابن عبد البر: هذا لا يكون رأيًا بل توقيف وهو خبر محفوظ عن النبي صلى الله عليه وسلم ثم أخرج عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال دعاء المسلم بين إحدى ثلاث إما أن يعطى مسألته التي سأل أو يرفع بها درجة أو يحط بها عنه خطيئة ما لم يدع بقطيعة رحم أو مأثم أو يستعجل قال وأخرج ابن جرير وابن أبي شيبة عن أبي سعيد قال صلى الله عليه وسلم إن دعوة المسلم لا ترد ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم إما أن تعجل له في الدنيا وإما أن تدخر له في الآخرة وإما أن يصرف عنه من السوء بقدر ما دعاه وهذا من التفسير المسند لقوله تعالى: { { ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ } } فهذه كلمة استجابة والله تعالى لا تنقضي حكمته ولذا لا تقع الإجابة في كل دعوة { { وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ } } وفي الحديث إن الله ليبتلي العبد وهو يحبه ليسمع تضرعه انتهى.



رقم الحديث 504 وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، أَنَّهُ بَلَغَهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَدْعُو فَيَقُولُ: اللَّهُمَّ فَالِقَ الْإِصْبَاحِ، وَجَاعِلَ اللَّيْلِ سَكَنًا، وَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ حُسْبَانًا، اقْضِ عَنِّي الدَّيْنَ، وَأَغْنِنِي مِنَ الْفَقْرِ، وَأَمْتِعْنِي بِسَمْعِي وَبَصَرِي، وَقُوَّتِي فِي سَبِيلِكَ.


( مالك عن أبي الزناد) عبد الله بن ذكوان ( عن الأعرج) عبد الرحمن بن هرمز ( عن أبي هريرة) عبد الرحمن بن صخر أو عمرو بن عامر ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لكل نبي دعوة) مستجابة ( يدعو بها) بهذه الدعوة مقطوع فيها بالإجابة وما عداها على رجاء الإجابة على غير يقين ولا وعد وبهذا أجيب عن إشكال ظاهره بما وقع لكثير من الأنبياء من الدعوات المجابة ولا سيما نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وبأن معناه أفضل دعوات كل نبي ولهم دعوات أخرى وبأن معناه لكل منهم دعوة عامة مستجابة في أمته إما بإهلاكهم وإما بنجاتهم وأما الدعوات الخاصة فمنها ما يستجاب ومنها ما لا يستجاب وقيل لكل منهم دعوة تخصه لدنياه أو لنفسه كقول نوح: { { رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا } } وقول زكريا: { { رب هب لي من لدنك وليا } } وقول سليمان: { { رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لاَّ يَنبَغِي لأحَدٍ مِّن بَعْدِي } } حكاه ابن التين.

وقال ابن عبد البر: معناه عندي أن كل نبي أعطي أمنية يتمنى بها لأنه محال أن يكون نبينا أو غيره من الأنبياء لا يجاب من دعائه إلا دعوة واحدة وما يكاد أحد يخلو من إجابة دعوته إذا شاء ربه قال تعالى: { { فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ } } وقال صلى الله عليه وسلم: دعوة المظلوم لا ترد ولو كانت من كافر.
وقال عليه السلام: ما من داع إلا كان بين إحدى ثلاث إما أن يستجاب له فيما دعا وإما أن يدخر له مثله وإما أن يكفر عنه وجاء في ساعة الجمعة لا يسأل فيها عبد ربه شيئا إلا أعطاه وقال في الدعاء بين الأذان والإقامة وعند الصف في سبيل الله وعند الغيث وغير ذلك أنها أوقات ترجى فيها إجابة الدعاء ( فأريد أن أختبئ) بسكون المعجمة وفتح الفوقية وكسر الموحدة، فهمزة أي أدخر ( دعوتي) المقطوع بإجابتها ( شفاعة لأمتي في الآخرة) في أهم أوقات حاجتهم ففيه كمال شفقته على أمته ورأفته بهم واعتناؤه بالنظر في مصالحهم جزاه الله عنا أفضل ما جزى نبيًا عن أمته.

قال ابن بطال في الحديث بيان فضيلة نبينا على سائر الأنبياء حيث آثر أمته على نفسه وأهل بيته بدعوته المجابة ولم يجعلها أيضًا دعاء عليهم كما وقع لغيره ممن تقدم وقال ابن الجوزي هذا من حسن تصرفه صلى الله عليه وسلم لأنه جعل الدعوة فيما ينبغي ومن كثرة كرمه لأنه آثر أمته على نفسه ومن صحة نظره لأنه جعلها للمذنبين من أمته لكونهم أحوج إليها من الطائعين هذا وقول بعض شراح المصابيح جميع دعوات الأنبياء مجابة والمراد بهذا الحديث أن كل نبي دعا على أمته بالإهلاك إلا أنا فلم أدع فأعطيت الشفاعة عوضا عن ذلك للصبر على أذاهم والمراد بالأمة أمة الدعوة لا أمة الإجابة تعقبه الطيبي بأنه صلى الله عليه وسلم دعا على أحياء العرب وعلى أناس من قريش بأسمائهم ودعا على رعل وذكوان ومضر قال والأولى أن يقال جعل الله لكل نبي دعوة تستجاب في حق أمته فنالها كل منهم في الدنيا وأما نبينا فإنه لما دعا على بعض أمته نزل عليه { { لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ } } فأبقى تلك الدعوة المستجابة مدخرة للآخرة وغالب من دعا عليهم لم يرد إهلاكهم وإنما أراد ردعهم ليتوبوا قال وأما جزمه أولا بأن جميع أدعية الأنبياء مجابة فغفلة عن الحديث سألت الله ثلاثا فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة الحديث انتهى وفيه إثبات الشفاعة.

قال ابن عبد البر: وهي ركن من أركان اعتقاد أهل السنة قال: وأجمعوا على أن قوله تعالى: { { عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا } } هو الشفاعة في المذنبين من أمته إلا ما روي عن مجاهد أنه جلوسه على العرش وروى عنه كالجماعة فصار إجماعا وقد صح نصا عن النبي صلى الله عليه وسلم وأحاديث الشفاعة متواترة صحاح منها شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي وقال جابر من لم يكن من أهل الكبائر فما له وللشفاعة ولا ينازع في ذلك إلا أهل البدع انتهى.

وهذا الحديث رواه البخاري في الدعوات حدثني إسماعيل قال: حدثني مالك به.
ومسلم من طريق ابن وهب عن مالك عن ابن شهاب عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة مرفوعًا به فلمالك فيه إسنادان.

( مالك عن يحيى بن سعيد أنه بلغه) قال أبو عمر: لم تختلف الرواة عن مالك في سنده ولا في متنه ورواه أبو شيبة عن أبي خالد الأحمر عن يحيى بن سعيد عن مسلم بن يسار ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو فيقول) وهو مرسل فمسلم تابعي ( اللهم فالق الإصباح) قال الباجي: أي خلقه وابتدأه وأظهره ( وجاعل الليل سكنًا) أي يسكن فيه قال الباجي: الجعل لغة الخلق والحكم والتسمية فإذا تعدى إلى مفعول واحد فهو بمعنى الخلق كقوله { { وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ } } وإلى مفعولين فيكون بمعنى الحكم والتسمية نحو: { { وَجَعَلُوا الْمَلاَئِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا } } وبمعنى الخلق كقولهم: الحمد لله الذي جعلني مسلمًا فقوله: ( وجاعل الليل سكنا) يحتمل الوجهين ( والشمس والقمر حسبانًا) قال أبو عمر: أي حسابًا أي بحساب معلوم وقد يكون جمع حساب كشهاب وشهبان وقال الباجي: أي يحسب بهما الأيام والشهور والأعوام قال تعالى: { { هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ } } ( اقض عني الدين) قال ابن عبد البر: الأظهر فيه ديون الناس ويدخل في ذلك ديون الله تعالى وفي الحديث دين الله أحق أن يقضى ( واغنني من الفقر) لأنه بئس الضجيع وهذا الفقر هو الذي لا يدرك معه القوت وقد أغناه الله تعالى كما قال: { { وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى } } ولم يكن غناه أكثر من اتخاذ قوت سنة لنفسه وعياله والغنى كله في قلبه ثقة بربه وقال: اللهم ارزق آل محمد قوتًا ولم يرد بهم إلا الأفضل وقال ما قل وكفى خير مما كثر وألهى وكان يستعيذ من فقر مبئس وغنى مطغ ويستعيذ من فتنة الغنى والفقر وقال: اللهم أحيني مسكينًا وأمتني مسكينًا واحشرني في زمرة المساكين ولا تجعلني جبارًا شقيًا.
والمسكين هنا المتواضع لا السائل لأنه صلى الله عليه وسلم كره السؤال ونهى عنه وحرمه على من يجد ما يغديه ويعشيه والآثار في هذا كثيرة وربما ظهر في بعضها تعارض وبهذا التأويل تتقارب معانيها فمن آتاه الله سعة وجب شكره عليها ومن ابتلي بالفقر وجب عليه الصبر إلا أن الفرائض تتوجه على الغني وهي ساقطة عن الفقير وللقيام بها فضل عظيم وللصبر على الفقر ثواب جسيم { { إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } } وخير الأمور أوساطها أشار له أبو عمر.

وقال أبو عبد الملك قيل أراد فقر النفس وقيل الفقر من الحسنات وقيل الفقر من المال الذي يخشى على صاحبه إذا استولى عليه نسيان الفرائض وذكر الله وجاء في الأثر اللهم إني أعوذ بك من فقر ينسيني وغنى يطغيني وهذا التأويل يدل على أن الكفاف أفضل من الفقر والغنى لأنهما بليتان يختبر الله بهما عباده.
( وأمتعني بسمعي) لما فيه من التنعم بالذكر وسماع ما يسر ( وبصري) لما فيه من رؤية مخلوقات الله والتدبر فيها وغير ذلك وفيه لغيره تلاوة القرآن في المصحف ( و) أمتعني ( بقوتي) بفوقية قبل الياء واحدة القوي ويروى وقوني بنون بدل الفوقية قال ابن عبد البر والأول أكثر عند الرواة ( في سبيلك) قال الباجي يحتمل أن يريد الجهاد وأن يريد جميع أعمال البر من تبليغ الرسالة وغيرها فذلك كله سبيل الله وقد قال مالك من قال مالي في سبيل الله سبل الله تعالى كثيرة ولكن يوضع في الغزو فخصه بالعرف قال ابن عبد البر ولا يعارض هذا ما جاء عن الله تعالى إذا أخذت كريمتي عبدي فصبر واحتسب لم يكن له جزاء إلا الجنة لأن هذا من الفرائض والحض على الصبر بعد الوقوع فلا ينافي الدعاء بالإمتاع قبل وقوعه لأنه أقرب إلى الشكر قال مطرف بن الشخير لأن أعافى فأشكر أحب إلي من أن ابتلى فأصبر.
( مالك عن أبي الزناد) بكسر الزاي ( عن الأعرج) عبد الرحمن بن هرمز ( عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا يقل أحدكم إذا دعا) طلب من الله ( اللهم اغفر لي إن شئت اللهم ارحمني إن شئت) زاد في رواية همام عن أبي هريرة عند البخاري: اللهم ارزقني إن شئت لأن التعليق بالمشيئة إنما يحتاج إليه إذا كان المطلوب منه يتأتى إكراهه على الشيء فيخفف الأمر عليه ويعلمه بأنه لا يطلب منه ذلك الشيء إلا برضاه والله تعالى منزه عن ذلك فلا فائدة للتعليق وقيل لأن فيه صورة الاستغناء عن المطلوب والمطلوب منه والأول أولى قال ابن عبد البر لا يجوز لأحد أن يقول اللهم أعطني إن شئت وغير ذلك من أمور الدين والدنيا لأنه كلام مستحيل لا وجه له إذ لا يفعل إلا ما يشاء وظاهره أنه حمل النهي على التحريم وهو الظاهر وحمله النووي على كراهة التنزيه وهو أولى ( ليعزم المسألة) قال الداودي أي يجتهد ويلح ولا يقول إن شئت كالمستثنى ولكن دعاء البائس الفقير وكأنه أشار بقوله كالمستثنى إلى أنه إذا قالها على سبيل التبرك لا يمنع وهو جيد قاله الحافظ وقال الباجي أي يخلي سؤاله ودعاءه من لفظ المشيئة لأنها إنما تشترط فيمن يصح أن يفعل دون أن يشاء لإكراه أو غيره فينبغي أن يسأل سؤال من يعلم أنه لا يفعل إلا ما يشاء وقد بين ذلك صلى الله عليه وسلم بقوله ( فإنه) تعالى ( لا مكره له) بكسر الراء.

قال ابن بطال فيه أنه ينبغي للداعي أن يجتهد في الدعاء ويكون على رجاء الإجابة ولا يقنط من الرحمة فإنه يدعو كريما قال ابن عيينة لا يمنعن أحدا الدعاء ما يعلم من نفسه يعني من التقصير فإن الله تعالى قد أجاب دعاء شر خلقه وهو إبليس حين قال رب { { أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ } } وفي الترمذي: وقال غريب عن أبي هريرة مرفوعا ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة واعلموا أن الله لا يستجيب دعاء من قلب غافل لاه قال التوربشتي أي كونوا على حالة تستحقون فيها الإجابة وذلك بإتيان المعروف واجتناب المنكر وغير ذلك من مراعاة أركان الدعاء وآدابه حتى تكون الإجابة على القلب أغلب من الرد أو المراد ادعوه معتقدين وقوع الإجابة لأن الداعي إذا لم يكن متحققا في الرجاء لم يكن رجاؤه صادقا وإذا لم يصدق رجاؤه لم يكن الرجاء خالصا والداعي مخلصا فإن الرجاء هو الباعث على الطلب ولا يتحقق الفرع إلا بتحقق الأصل وهذا الحديث رواه البخاري وأبو داود عن القعنبي عن مالك به وهو في الصحيحين من حديث أنس بنحوه.

( مالك عن ابن شهاب عن أبي عبيد) بضم العين وتنوين الدال واسمه سعد بسكون العين ابن عبيد ثقة من كبار التابعين وقيل له إدراك مات بالمدينة سنة ثمان وتسعين ( مولى ابن أزهر) بفتح الهمزة والهاء بينهما زاي ساكنة آخره راء عبد الرحمن الزهري المدني صحابي صغير ( عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يستجاب لأحدكم ما لم يعجل) بفتح التحتية والجيم بينهما عين ساكنة من الاستجابة بمعنى الإجابة قال الشاعر:

فلم يستجبه عند ذاك مجيب

أي يجاب دعاء كل واحد منكم لأن الاسم المضاف مفيد للعموم على الأصح ( فيقول) بالفاء بيان لقوله ما لم يعجل ( قد دعوت فلم يستجب لي) بضم التحتية وفتح الجيم.
قال الباجي: يحتمل أن يريد بقوله يستجاب الإخبار عن وجوب وقوع الإجابة أي تحقق وقوعها أو الإخبار عن جواز وقوعها فإن أريد الوجوب فهو بأحد ثلاثة أشياء تعجيل ما سأله أو يكفر عنه به أو يدخر له فإذا قال دعوت إلخ بطل وجوب أحد هذه الثلاثة وعرى الدعاء عن جميعها وإن أريد الجواز فيكون الإجابة بفعل ما دعا به ومنعه قوله دعوت فلم يستجب لأنه من ضعف اليقين والتسخط وفي مسلم والترمذي عن أبي هريرة مرفوعا لا يزال يستجاب للعبد ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم وما لم يستعجل قيل وما الاستعجال قال يقول قد دعوت وقد دعوت فلم أر يستجاب لي فيستحسر عند ذلك ويدع الدعاء ويستحسر بمهملات استفعال من حسر إذا أعيا وتعب وتكرار دعوت للاستمرار أي دعوت مرارًا كثيرة قال المظهري من له ملالة من الدعاء لا يقبل دعاؤه لأن الدعاء عبادة حصلت الإجابة أو لم تحصل فلا ينبغي للمؤمن أن يمل من العبادة وتأخير الإجابة إما لأنه لم يأت وقتها وإما لأنه لم يقدر في الأزل قبول دعائه في الدنيا ليعطى عوضه في الآخرة وإما أن يؤخر القبول ليلح ويبالغ في ذلك فإن الله يحب الملحين في الدعاء مع ما في ذلك من الانقياد والاستسلام وإظهار الافتقار ومن يكثر قرع الباب يوشك أن يفتح له ومن يكثر الدعاء يوشك أن يستجاب له.

والحديث رواه البخاري عن عبد الله بن يوسف ومسلم عن يحيى بن يحيى كلاهما عن مالك به.

( مالك عن ابن شهاب عن أبي عبد الله) سلمان بسكون اللام ( الأغر) بفتح الغين المعجمة وشد الراء الجهني مولاهم المدني وأصله من أصبهان ( وعن أبي سلمة بن عبد الرحمن) بن عوف القرشي الزهري ( عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ينزل ربنا) اختلف فيه فالراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا على طريق الإجمال منزهين لله تعالى عن الكيفية والتشبيه ونقله البيهقي وغيره عن الأئمة الأربعة والسفيانين والحمادين والليث والأوزاعي وغيرهم قال البيهقي وهو أسلم ويدل عليه اتفاقهم على أن التأويل المعين لا يجب فحينئذ التفويض أسلم وقال ابن العربي النزول راجع إلى أفعاله لا إلى ذاته بل ذلك عبارة عن ملكه الذي ينزل بأمره ونهيه فالنزول حسي صفة الملك المبعوث بذلك أو معنوي بمعنى لم يفعل ثم فعل فسمي ذلك نزولا عن مرتبة إلى مرتبة فهي عربية صحيحة والحاصل أنه تأوله بوجهين إما أن المعنى ينزل أمره أو الملك وإما أنه استعارة بمعنى التلطف بالداعين والإجابة لهم ونحوه وكذا حكي عن مالك أنه أوله بنزول رحمته وأمره أو ملائكته كما يقال فعل الملك كذا أي أتباعه بأمره لكن قال ابن عبد البر قال قوم ينزل أمره ورحمته وليس بشيء لأن أمره بما يشاء من رحمته ونعمته ينزل بالليل والنهار بلا توقيت ثلث الليل ولا غيره ولو صح ذلك عن مالك لكان معناه أن الأغلب في الاستجابة ذلك الوقت وقال الباجي هو إخبار عن إجابة الداعي وغفرانه للمستغفرين وتنبيه على فضل الوقت كحديث إذا تقرب إلي عبدي شبرًا تقربت إليه ذراعًا الحديث لم يرد قرب المسافة لعدم إمكانه وإنما أراد العمل من العبد ومنه تعالى الإجابة وحكى ابن فورك أن بعض المشايخ ضبطه بضم أوله على حذف المفعول أي ينزل ملكا قال الحافظ ويقويه ما رواه النسائي من طريق الأغر عن أبي هريرة وأبي سعيد أن الله يمهل حتى يمضي شطر الليل ثم يأمر مناديا يقول هل من داع فيستجاب له الحديث وحديث عثمان بن أبي العاص عند أحمد ينادي مناد هل من داع يستجاب له الحديث قال القرطبي وبهذا يرتفع الإشكال ولا يعكر عليه حديث رفاعة الجهني عند النسائي ينزل الله إلى سماء الدنيا فيقول لا أسأل عن عبادي غيري لأنه لا يلزم من إنزاله الملك أن يسأله عن صنع العباد بل يجوز أنه مأمور بالمناداة ولا يسأل البتة عما بعدها فهو أعلم سبحانه بما كان وما يكون انتهى ولك أن تقول الإشكال مدفوع حتى على أنه ينزل بفتح أوله الذي هو الرواية الصحيحة وكل من حديثي النسائي وأحمد يقوي تأويله بأنه من مجاز الحذف أو الاستعارة وقال البيضاوي لما ثبت بالقواطع أنه سبحانه منزه عن الجسمية والتحيز امتنع عليه النزول على معنى الانتقال من موضع إلى موضع أخفض منه فالمراد دنو رحمته أي ينتقل من مقتضى صفة الجلال التي تقتضي الغضب والانتقام إلى مقتضى صفة الإكرام التي تقتضي الرأفة والرحمة ( تبارك وتعالى) جملتان معترضتان بين الفعل وظرفه وهو ( كل ليلة) لما أسند النزول إلى ما لا يليق إسناده حقيقة إليه اعترض بما يدل على التنزيه كقوله تعالى { { وَيَجْعَلُونَ للهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُم مَّا يَشْتَهُونَ } } ( إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر) برفعه صفة ثلث وتخصيصه بالليل وثلثه الآخر لأنه وقت التهجد وغفلة الناس عن التعرض لنفحات رحمة الله وعند ذلك تكون النية خالصة والرغبة إلى الله وافرة وذلك مظنة القبول والإجابة ولم تختلف الروايات عن الزهري في تعيين الوقت واختلف عن أبي هريرة وغيره.

قال الترمذي: رواية أبي هريرة أصح الروايات في ذلك ويقويه أن الروايات المخالفة له اختلف فيها على راويها وانحصرت في ستة هذه، ثانيها: إذا مضى الثلث الأول.
ثالثها: الثلث الأول أو النصف.
رابعها: النصف.
خامسها: الثلث الأخير أو النصف.
سادسها: الإطلاق فجمع بينها بحمل المطلقة على المقيدة، وأما التي بأو فإن كانت للشك فالجزم مقدم على الشك، وإن كانت للتردد بين حالتين فيجمع بأن ذلك يقع بحسب اختلاف الأحوال لأن أوقات الليل تختلف في الزيادة وفي الأوقات باختلاف تقدم الليل عند قوم وتأخره عند قوم أو النزول يقع في الثلث الأول والقول يقع في النصف وفي الثلث الثاني أو يحمل ذلك على وقوعه في جميع الأوقات التي وردت بها الأحاديث ويحمل على أنه صلى الله عليه وسلم أعلم بأحد الأمور في وقت فأخبر به ثم أعلم به في وقت آخر فأخبر به فنقل الصحابة ذلك عنه ( فيقول من يدعوني فأستجيب) أي أجيب ( له) دعاءه فليست السين للطلب ( من يسألني فأعطيه) مسؤوله ( من يستغفرني فأغفر له) ذنوبه بنصب الأفعال الثلاثة في جواب الاستفهام وبالرفع على الاستئناف وبهما قرئ { { مَن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ } } ولم تختلف الروايات عن الزهري في الاقتصار على الثلاثة والفرق بينها أن المطلوب إما رفع المضار أو جلب المسار وذلك إما دنيوي أو ديني ففي الاستغفار إشارة إلى الأول والدعاء إشارة إلى الثاني والسؤال إشارة إلى الثالث وقال الكرماني يحتمل أن الدعاء ما لا طلب فيه والسؤال الطلب ويحتمل أن المقصود واحد وإن اختلف اللفظ انتهى.

وزاد سعيد المقبري عن أبي هريرة هل من تائب فأتوب عليه، وزاد أبو جعفر عنه من ذا الذي يسترزقني فأرزقه من ذا الذي يستكشف الضر فأكشف عنه وزاد عطاء مولى أم صبية بضم الصاد المهملة وموحدة عنه ألا سقيم يستشفي فيشفى رواها النسائي ومعانيها داخلة فيما تقدم وزاد سعيد بن مرجانة عنه من يقرض غير عديم ولا ظلوم رواه مسلم وفيه تحريض على عمل الطاعة وإشارة إلى جزيل ثوابها وزاد حجاج بن أبي منيع عن الزهري عند الدارقطني حتى الفجر وفي رواية يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة حتى يطلع الفجر وعليه اتفق معظم الروايات وللنسائي عن نافع بن جبير عن أبي هريرة حتى تحل الشمس وهي شاذة وفي الحديث تفضيل آخر الليل على أوله وأنه أفضل للدعاء والاستغفار ويشهد له قوله تعالى: { { وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأسْحَارِ } } وأن الدعاء ذلك الوقت مجاب ولا يعترض بتخلفه عن بعض الداعين لأن سببه وقوع الخلل في شرط من شروط الدعاء كالاحتراز في المطعم والمشرب والملبس أو لاستعجال الداعي أو بأن يكون الدعاء بإثم أو قطيعة رحم أو تحصل الإجابة ويتأخر وجود المطلوب لمصلحة العبد أو لأمر يريده الله تعالى هذا وقد حمل المشبهة الحديث وأحاديث التشبيه كلها على ظاهرها تعالى الله عن قولهم وأما المعتزلة والخوارج فأنكروا صحتها جملة وهو مكابرة والعجب أنهم أولوا ما في القرآن من نحو ذلك وأنكروا الأحاديث جهلا أو عنادا ومن العلماء من فرق بين التأويل القريب المستعمل لغة وبين البعيد المهجور فأول في بعض وفوض في بعض وجزم به من المتأخرين ابن دقيق العيد ونقل عن الإمام قال الباجي منع مالك في العتبية التحديث بحديث اهتز العرش لموت سعد بن معاذ وحديث إن الله خلق آدم على صورته وحديث الساق وقال ما يدعو الإنسان إلى أن يحدث به وهو يرى ما فيه من التغرير ولم ير مثله حديث إن الله يضحك وحديث ينزل ربنا فأجاز التحديث بهما قال فيحتمل الفرق بينهما بأن حديث التنزل والضحك أحاديث صحاح لم يطعن في شيء منهما وحديث العرش والصورة والساق لا تبلغ أحاديثها في الصحة درجة التنزل والضحك وبأن التأويل في حديث التنزل أقرب وأبين والعذر بسوء التأويل فيها أبعد انتهى.

وأخرجه البخاري في الصلاة عن القعنبي وفي الدعوات عن عبد العزيز بن عبد الله الأويسي وفي التوحيد عن إسماعيل ومسلم في الصلاة عن يحيى بن يحيى كلهم عن مالك به.

( مالك عن يحيى بن سعيد) الأنصاري ( عن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي) تيم قريش ( أن عائشة أم المؤمنين) قال ابن عبد البر: لم يختلف عن مالك في إرساله وهو مسند من حديث الأعرج عن أبي هريرة عن عائشة ومن حديث عروة عن عائشة من طرق صحاح ثم أخرجه من الوجهين وطريق الأعرج أخرجها مسلم وأبو داود والنسائي من طريق عبيد الله بن عمر عن محمد بن يحيى بن حبان عن الأعرج عن أبي هريرة عن عائشة ( قالت كنت نائمة إلى جنب رسول الله صلى الله عليه وسلم ففقدته) بفتح القاف، وفي رواية افتقدته وهما لغتان بمعنى عدمته ( من الليل) وفي رواية عروة وكان معي على فراشي ( فلمسته بيدي) وفي رواية فالتمسته في البيت وجعلت أطلبه بيدي ( فوضعت يدي على قدميه) زاد في رواية وهما منتصبتان ( وهو ساجد) وفيه أن اللمس بلا لذة لا ينقض الوضوء واحتمال أنه كان فوق حائل خلاف الأصل فسمعته ( يقول) زاد في رواية اللهم إني ( أعوذ برضاك من سخطك) أي بما يرضيك مما يسخطك فخرج عن حظ نفسه بإقامة حرمة محبوبه فهذا لله ثم الذي لنفسه قوله ( وبمعافاتك من عقوبتك) وفي إضافتها كالسخط إليه دليل لأهل السنة على جواز إضافة الشر إليه تعالى كالخير واستعاذ بها بعد استعاذته برضاه لأنه يحتمل أن يرضى من جهة حقوقه ويعاقب على حقوق غيره ( وبك منك) قال عياض: ترق من الأفعال إلى منشئ الأفعال مشاهدة للحق وغيبة عن الخلق الذي هو محض المعرفة الذي لا يعبر عنه قول ولا يضبطه وصف فهو محض التوحيد وقطع الالتفات إلى غيره وإفراده بالاستعانة وغيرها.

قال الخطابي وفيه معنى لطيف لأنه استعاذ بالله وسأله أن يجيره برضاه من سخطه وبمعافاته من عقوبته والرضا والسخط ضدان كالمعافاة والعقوبة فلما ذكر ما لا ضد له وهو الله سبحانه وتعالى استعاذ به منه لا غير ومعناه الاستغفار من التقصير في بلوغ الواجب من عبادته والثناء عليه ولذا قال ( لا أحصي ثناء عليك) قال ابن الأثير: أي لا أبلغ الواجب في الثناء عليك وقال الراغب أي لا أحصل ثناء لعجزي عنه إذ هو نعمة تستدعي شكرًا وهكذا إلى غير نهاية وقيل معناه لا أعد كما في الصحاح لأن معنى الإحصاء العد بالحصى كما قال:

ولست بالأكثر منهم حصى
وإنما العزة للكاثر

وعليه فهو من نفي الملزوم المعبر عنه بالإحصاء المفسر بالعد وإرادة نفي اللازم وهو استيعاب المعدود فكأنه قيل لا أستوعب فالمراد نفي القدرة عن الإتيان بجميع الثناءات أو فرد منها يفي بنعمة من نعمه لا عدها إذ لا يمكن عد أفراد كثيرة من الثناء وقال ابن عبد البر روينا عن مالك أن معناه وإن اجتهدت في الثناء عليك فلن أحصي نعمك ومننك وإحسانك ( أنت) مبتدأ خبره ( كما أثنيت) أي الثناء عليك هو المماثل لثنائك ( على نفسك) ولا قدرة لأحد عليه ويحتمل أن أنت تأكيد للكاف من عليك باستعارة الضمير المنفصل للمتصل، والثناء بتقديم المثلثة والمد الوصف بالجميل على المشهور لغة، واستعماله في الشر مجاز وقال المجد: وصف بمدح أو ذم أو خاص بالمدح.
قال ابن عبد البر فيه دليل على أنه لا يبلغ وصفه وأنه إنما يوصف بما وصف به نفسه انتهى وقال النووي فيه اعتراف بالعجز عن الثناء عليه وأنه لا يقدر على بلوغ حقيقته ورد الثناء إلى الجملة دون التفصيل والتعيين فوكل ذلك إليه سبحانه المحيط بكل شيء جملة وتفصيلا وكما أنه لا نهاية لصفاته لا نهاية للثناء عليه لأن الثناء تابع للمثني عليه فكل شيء أثنى عليه به وإن كثر وطال وبولغ فيه فقدر الله أعظم وسلطانه أعز وصفاته أكثر وأكبر وفضله أوسع وأسبغ.

( مالك عن زياد بن أبي زياد) ميسرة المخزومي مولاهم المدني الثقة العابد قال مالك: كان يلبس الصوف ويكون وحده ولا يجالس أحدًا.
لمالك عنه مرفوعًا هذا الحديث الواحد رواه هنا.
وفي الحج ونسبه فزاد مولى عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة المخزومي ( عن طلحة بن عبيد الله) بضم العين ( بن كريز) بفتح الكاف وكسر الراء وإسكان التحتية وزاي منقوطة الخزاعي أبي المطرف المدني وثقه أحمد والنسائي وروى له مسلم وأصحاب السنن وهو تابعي قال الولي العراقي ووهم من ظنه أحد العشرة قال ابن عبد البر لا خلاف عن مالك في إرساله ولا أحفظه بهذا الإسناد مسندا من وجه يحتج به وقد جاء مسندا من حديث علي وابن عمرو والفضائل لا تحتاج إلى من يحتج به ثم أخرج حديث علي من طريق ابن أبي شيبة وجاء أيضا من حديث أبي هريرة أخرجه هو وحديث ابن عمر والبيهقي في الشعب.

( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أفضل الدعاء) مبتدأ خبره ( دعاء يوم عرفة) قال الباجي: أي أعظمه ثوابًا وأقربه إجابة ويحتمل أن يريد به اليوم ويحتمل أن يريد الحاج خاصة ( وأفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي) ولفظ حديث علي أكثر دعائي ودعاء الأنبياء قبلي بعرفة ( لا إله إلا الله وحده لا شريك له) زاد في حديث أبي هريرة: له الملك وله الحمد يحيي ويميت، بيده الخير وهو على كل شيء قدير.
وكذا في حديث علي لكن ليس فيه بيده الخير وفي حديث ابن عمر ولكن ليس فيه يحيي ويميت وفيه بيده الخير قال ابن عبد البر فيه أن الثناء دعاء وفي المرفوع يقول الله عز وجل من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين وفيه تفضيل الدعاء بعضه على بعض والأيام بعضها على بعض وأن ذلك أفضل الذكر لأنها كلمة الإسلام والتقوى وقال آخرون أفضله الحمد لله رب العالمين لأن فيه معنى الشكر وفيه من الإخلاص ما في لا إله إلا الله وافتتح الله كلامه به وختم به وهو آخر دعوى أهل الجنة وروت كل فرقة بما قالت أحاديث كثيرة وساق جملة منها في التمهيد ووقع في تجريد الصحاح لرزين بن معاوية الأندلسي زيادة في أول هذا الحديث وهي أفضل الأيام يوم عرفة وافق يوم جمعة وهو أفضل من سبعين حجة في غير يوم الجمعة وأفضل الدعاء إلخ وتعقبه الحافظ فقال حديث لا أعرف حاله لأنه لم يذكر صحابيه ولا من خرجه بل أدرجه في حديث الموطأ هذا وليست هذه الزيادة في شيء من الموطآت فإن كان له أصل احتمل أن يراد بالسبعين التحديد أو المبالغة في الكثرة وعلى كل حال منهما ثبتت المزية انتهى وفي الهدي لابن القيم ما استفاض على ألسنة العوام أن وقفة الجمعة تعدل ثنتين وسبعين حجة فباطل لا أصل له عن رسول الله ولا عن أحد من الصحابة والتابعين انتهى.

( مالك عن أبي الزبير) محمد بن مسلم ( المكي) الأسدي مولاهم صدوق وقال ابن معين ثقة وقال أحمد لا بأس به وقال أبو عمر ثقة حافظ متقن.
روى عنه مالك والسفيانان والليث وابن جريج وجماعة من الأئمة لا يلتفت إلى قول شعبة فيه وروى له الجميع مات بمكة سنة ست وعشرين وقيل ثمان وعشرين ومائة ( عن طاوس) بن كيسان ( اليماني) الحضرمي مولاهم الفارسي يقال: اسمه ذكوان وطاوس لقب، ثقة فقيه فاضل مات سنة ست ومائة وقيل بعدها ( عن عبد الله بن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعلمهم هذا الدعاء كما يعلمهم السورة من القرآن) تشبيه في تحفيظ حروفه وترتيب كلماته ومنع الزيادة والنقص منه والدرس له والمحافظة عليه ( يقول اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم) أي عقوبتها والإضافة مجازية أو من إضافة المظروف إلى ظرفه ( وأعوذ بك من عذاب القبر) العذاب اسم للعقوبة والمصدر التعذيب فهو مضاف إلى الفاعل مجازًا أو الإضافة من إضافة المظروف إلى ظرفه على تقدير في أي من عذاب في القبر وفيه رد على من أنكره ( وأعوذ بك من فتنة) امتحان واختبار ( المسيح) بفتح الميم وخفة السين المكسورة وحاء مهملة وصحف من أعجمها يطلق على الدجال وعلى عيسى عليه السلام لكن إذا أريد الأول قيد كما قال ( الدجال) وقال أبو داود: المسيح مثقل الدجال ومخفف عيسى والمشهور الأول، ونقل المستملي عن الفربري عن خلف بن عامر الهمداني أحد الحفاظ المسيح بالتشديد والتخفيف واحد يقال للدجال ولعيسى لا فرق بينهما بمعنى لا اختصاص لأحدهما بأحد الأمرين لقب بذلك لأنه ممسوح العين أو لأن أحد شقي وجهه خلق ممسوحا لا عين فيه ولا حاجب أو لأنه يمسح الأرض إذا خرج وقال الجوهري من خففه فلمسحه الأرض ومن شدد فلأنه ممسوح العين وأما عيسى فقيل لأنه خرج من بطن أمه ممسوحا بالدهن أو لأن زكريا مسحه أو لأنه كان لا يمسح ذا عاهة إلا برئ أو لمسحه الأرض بسباحته أو لأن رجله لا أخمص لها أو للبسه المسوح وقيل هو بالعبرانية ماسح فعرب المسيح وقيل المسيح الصديق ( وأعوذ بك من فتنة المحيا) هي ما يعرض للإنسان مدة حياته من الافتتان بالدنيا والشهوات والجهالات وأعظمها والعياذ بالله أمر الخاتمة عند الموت ( و) فتنة ( الممات) قال الباجي: هي فتنة القبر.
وقال أبو عمر: يحتمل إذا احتضر ويحتمل في القبر أيضًا.
وقال ابن دقيق العيد: يجوز أنها الفتنة عند الموت أضيفت إليه لقربها منه وفتنة المحيا ما قبل ذلك ويجوز أنها فتنة القبر وقد صح إنكم تفتنون في قبوركم مثل أو قريبًا من فتنة الدجال ولا يتكرر مع قوله عذاب القبر لأن العذاب مرتب على الفتنة والسبب غير المسبب وقيل فتنة المحيا الابتلاء مع زوال الصبر والممات السؤال في القبر مع الحيرة وهو من العام بعد الخاص لأن عذاب القبر داخل تحت فتنة الممات وفتنة الدجال داخلة تحت فتنة المحيا وروى الترمذي الحكيم عن سفيان الثوري إن الميت إذا سئل من ربك تراءى له الشيطان فيشير إلى نفسه أنا ربك فلذا ورد سؤال الثبات له حين يسأل ثم روي بسند جيد عن عمرو بن مرة كانوا يستحبون إذا وضع الميت في قبره أن يقولوا اللهم أعذه من الشيطان وفي مسلم عن أبي هريرة مرفوعًا إذا فرغ أحدكم من التشهد الآخر فليتعوذ من أربع من عذاب جهنم ومن عذاب القبر ومن فتنة المحيا والممات ومن شر المسيح الدجال قال الحافظ فهذا يعين أن هذه الاستعاذة بعد الفراغ من التشهد فيكون سابقا على غيره من الأدعية وما ورد أن المصلي يتخير من الدعاء ما شاء يكون بعد هذه الاستعاذة وقبل السلام انتهى وحديث ابن عباس أخرجه مسلم عن قتيبة بن سعيد عن مالك به وقال مسلم بعده بلغني أن طاوسا قال لابنه أدعوت بها في صلاتك قال لا قال أعد صلاتك لأن طاوسا رواه عن ثلاثة أو أربعة وهذا البلاغ أخرجه عبد الرزاق بسند صحيح وهو يدل على أنه يرى وجوبه وبه قال بعض أهل الظاهر.

( مالك عن أبي الزبير) محمد بن مسلم ( المكي عن طاوس اليماني عن عبد الله بن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قام إلى الصلاة من جوف الليل يقول) في موضع نصب خبر كان وقال الطيبي: الظاهر أنه جواب إذا والجملة الشرطية خبر كان وظاهره أنه كان يقول أول ما يقوم إلى الصلاة ولابن خزيمة من طريق قيس بن سعد عن طاوس عن ابن عباس كان صلى الله عليه وسلم إذا قام للتهجد قال بعد ما يكبر ( اللهم لك الحمد) الوصف بالجميل على التفضيل وأل فيه للاستغراق ( أنت نور السموات والأرض) أي منورهما وبك يهتدي من فيهما وقيل معناه أنت المنزه من كل عيب يقال فلان منور أي مبرأ من كل عيب ويقال هو مدح تقول فلان نور البلد أي مزينه ( ولك الحمد أنت قيام) بفتح التحتية المشددة فألف وكذا في رواية قيس بن سعد الحنظلي المكي عند مسلم وأبي داود بزنة فعال صيغة مبالغة وفي رواية سليمان الأحول عن طاوس في الصحيحين قيم وهما والقيوم بمعنى واحد ( السموات والأرض) زاد في رواية ومن فيهن أي أنت الذي تقوم بحفظهما وحفظ من أحاطت به واشتملت عليه تؤتي كلا ما به قوامه وتقوم كل شيء من خلقك بما تراه من تدبيرك وفي البخاري قال مجاهد القيوم القائم على كل شيء وقرأ عمر القيام أي في آية الكرسي وكلاهما مدح أي بخلاف القيم فيستعمل في المدح والذم وقيل القيم القائم بأمور الخلق ومدبر العالم في جميع أحواله ومنه قيم الطفل والقيوم والقيام القائم بنفسه مطلقا لا بغيره ويقوم به كل موجود حتى لا يتصور وجود شيء ولا دوام وجوده إلا به فمن عرف ذلك استراح عن كد التدبير وتعب الاشتغال وعاش براحة التفويض فلا يضن بكريمة ولا يجعل في قلبه للدنيا كثر قيمة.

( ولك الحمد أنت رب السموات والأرض ومن فيهن) عبر بمن تغليبًا للعقلاء على غيرهم فهو رب كل شيء ومليكه وكافله ومغذيه ومصلحه العواد عليه بنعمه وتكرير الحمد للاهتمام بشأنه وليناط به كل مرة معنى آخر وتقديم الجار والمجرور إفادة التخصيص وكأنه لما خص الحمد بالله قيل له لم خصصتني قال لأنك القائم بحفظ المخلوقات إلى غير ذلك.
( أنت الحق) أي المتحقق الوجود الثابت بلا شك فيه قال القرطبي هذا الوصف له سبحانه وتعالى بالحقيقة خاص به لا ينبغي لغيره إذ وجوده بنفسه فلم يسبقه عدم ولا يلحقه عدم بخلاف غيره وقال ابن التين يحتمل أنت الحق بالنسبة إلى من يدعي أنه إله أو بمعنى من سماك إلها فقد قال الحق ( وقولك الحق) أي مدلوله ثابت ( ووعدك الحق) لا يدخله خلف ولا شك في وقوعه وهو من الخاص بعد العام ( ولقاؤك حق) المراد به البعث بعد الموت وهو عبارة عن مآل الخلق في الآخرة بالنسبة إلى الجزاء على الأعمال وقيل معناه رؤيتك في الآخرة حيث لا مانع وقيل الموت قال النووي وهو باطل هنا قال الحافظ وهذا وما بعده داخل تحت الوعد لكن الوعد مصدر وما بعده هو الموعود به ويحتمل أنه من الخاص بعد العام.
( والجنة حق والنار حق) أي كل منهما موجود ( والساعة حق) أي يوم القيامة وأصل الساعة القطعة من الزمان وإطلاق اسم الحق على ما ذكر من الأمور معناه أنه لا بد من كونها وأنها مما يجب أن يصدق بها وتكرار لفظ حق مبالغة في التأكيد زاد في رواية سليمان عن طاوس عند الشيخين والنبيون حق ومحمد حق وعرف الحق في الثلاثة الأول قال الطيبي للحصر لأن الله هو الحق الثابت وما سواه في معرض الزوال قال لبيد:

ألا كل شيء ما خلا الله باطل

وكذا قوله: وكذا وعده مختص بالإنجاز دون وعد غيره والتنكير في البواقي للتعظيم.

وقال السهيلي التعريف للدلالة على أنه المستحق لهذا الاسم بالحقيقة إذ هو مقتضى الأداة وكذا قوله ووعده لأن وعده كلامه وتركت في البواقي لأنها أمور محدثة والمحدث لا يجب له البقاء من جهة ذاته وبقاء ما يدوم منه علم مخبر الصادق لا من جهة استحالة فنائه قال الطيبي وهنا سر دقيق وهو أنه صلى الله عليه وسلم لما نظر إلى المقام الإلهي ومقربي حضرة الربوبية عظم شأنه وفخم منزلته حيث ذكر النبيين وعرفها بلام الاستغراق ثم خص محمدا صلى الله عليه وسلم من بينهم وعطفه عليهم إيذانا بالتغاير وأنه فائق عليهم بأوصاف مختصة به فإن تغاير الوصف بمنزلة التغاير في الذات ثم حكم عليه استقلالا بأنه حق وجرده عن ذاته كأنه غيره وأوجب عليه تصديقه ولما رجع إلى مقام العبودية ونظر إلى افتقار نفسه نادى بلسان الاضطرار في مطاوي الانكسار فقال:

( اللهم لك أسلمت) انقدت وخضعت لأمرك ونهيك ( وبك آمنت) أي صدقت ( وعليك توكلت) أي فوضت أموري تاركًا النظر في الأسباب العادية ( وإليك أنبت) رجعت إليك مقبلاً بقلبي عليك ( وبك) أي بما أعطيتني من البرهان وبما لقنتني من الحجة ( خاصمت) من خاصمني من الكفار أو بتأييدك ونصرك قاتلت ( وإليك حاكمت) كل من جحد الحق وما أرسلتني به لا إلى من كانت الجاهلية تتحاكم إليه من كاهن ونحوه وقدم جميع صلات هذه الأفعال عليها إشعارًا بالتخصيص وإفادة للحصر وكذا قوله ولك الحمد.
( فاغفر لي ما قدمت) قبل هذا الوقت ( وأخرت) عنه ( وأسررت) أخفيت ( وأعلنت) أظهرت أو ما حدثت به نفسي وما تحرك به لساني زاد في رواية للبخاري وما أنت أعلم به مني وهو من العام بعد الخاص وقال ذلك مع أنه مغفور له إما تواضعا وهضما لنفسه وإجلالا وتعظيما لربه أو تعليمًا لأمته ليقتدى به قال الحافظ كذا قيل والأولى أنه لمجموع ذلك إذ لو كان للتعليم فقط لكفي فيه أمرهم بأن يقولوا زاد في رواية سليمان عن طاوس أنت المقدم والمؤخر أي المقدم لي في البعث يوم القيامة والمؤخر لي في البعث في الدنيا.

( أنت إلهي لا إله إلا أنت) زاد في رواية للبخاري: ولا حول ولا قوة إلا بالله.
قال الكرماني: هذا الحديث من جوامع الكلم لأن لفظ القيم إشارة إلى أن وجود الجواهر وقوامها منه والنور إلى أن الأعراض أيضا منه والملك إلى أنه حاكم عليها إيجادا وعدما يفعل ما يشاء وكل ذلك من نعمه على عباده فلذا قرن كلا منها بالحمد وخصص الحمد به ثم قوله أنت الحق إشارة إلى المبتدأ والقول ونحوه إلى المعاش والساعة ونحوها إشارة إلى المعاد وفيه الإشارة إلى النبوة وإلى الجزاء ثوابا وعقابا ووجوب الإيمان به والإسلام والتوكل والإنابة والتضرع إلى الله والخضوع له انتهى وفيه زيادة معرفته صلى الله عليه وسلم بعظمة ربه وعظيم قدرته ومواظبته على الذكر والدعاء والثناء على ربه والاعتراف لله بحقوقه والإقرار بصدق وعده.

وأخرجه مسلم في الصلاة عن قتيبة بن سعيد والترمذي في الدعوات من طريق معن كليهما عن مالك به وله طرق في الصحيحين وغيرهما.

( مالك عن عبد الله بن عبد الله بن جابر) وقيل جبر ( بن عتيك) بفتح العين المهملة وكسر الفوقية وإسكان التحتية وكاف الأنصاري المدني تابعي صغير من الثقات ( أنه قال جاءنا عبد الله بن عمر) بن الخطاب هكذا رواه يحيى وطائفة لم يجعلوا بين عبد الله شيخ مالك وبين ابن عمر أحدًا.
ومنهم من أدخل بينهما عتيك بن الحارث بن عتيك، وهي رواية ابن القاسم ومنهم من جعل بينهما جابر بن عتيك وهي رواية القعنبي ومطرف قال ابن عبد البر ورواية يحيى أولى بالصواب ( في بني معاوية وهي قرية من قرى الأنصار) بالمدينة والنسبة إليها المعاوي بضم الميم ( فقال) زاد في رواية ابن وضاح لي ( هل تدرون أين صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من مسجدكم هذا) لأصلي فيه وأتبرك به لأنه كان حريصًا على اقتفاء آثاره ( فقلت له نعم وأشرت له إلى ناحية منه) من المسجد ( فقال لي هل تدري ما الثلاث) دعوات ( التي دعا بهن فيه فقلت نعم) فيه طرح العالم المسألة على من دونه ليعلم ما عنده ( قال فأخبرني بهن فقلت دعا بأن لا يظهر) الله ( عليهم عدوا من غيرهم) أي من غير المؤمنين يعني يستأصل جميعهم ( ولا يهلكهم بالسنين) أي بالمحل والجدب والجوع ( فأعطيهما) بالبناء للمفعول ( ودعا بأن لا يجعل بأسهم بينهم) أي الحرب والفتن والاختلاف ( فمنعها قال صدقت) يدل على أنه كان يعلم ما سأله عنه ( قال ابن عمر فلن يزال الهرج) بفتح الهاء وسكون الراء وبالجيم القتل ( إلى يوم القيامة) قضاء نافذ من الله ففي مسلم عن ثوبان رفعه: إن الله زوى لي مشارق الأرض ومغاربها وسيبلغ ملك أمتي ما زوى لي منها الحديث، وفيه: وإني سألت الله أن لا يهلك أمتي بسنة عامة ولا يسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم وأن لا يلبسهم شيعا ويذيق بعضهم بأس بعض فقال يا محمد إني إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد وإني أعطيتك لأمتك أن لا أهلكهم بسنة عامة وأن لا أسلط عليهم عدوا من غيرهم ولو اجتمع عليهم من بين أقطارها حتى يكون بعضهم يهلك بعضًا.

قال ابن عبد البر: دعا صلى الله عليه وسلم في مسجد الفتح يوم الإثنين ويوم الثلاثاء ويوم الأربعاء فاستجيب له يوم الأربعاء بين الصلاتين فعرف البشر في وجهه قال جابر فما نزل بي أمر يهمني إلا توخيت تلك الساعة فأعرف الإجابة.

( مالك عن زيد بن أسلم أنه كان يقول ما من داع يدعو إلا كان بين إحدى ثلاث إما أن يستجاب له) بعين ما سأل ( وإما أن يدخر له) يوم القيامة ( وإما أن يكفر عنه) من الذنوب في نظير دعائه.
قال ابن عبد البر: هذا لا يكون رأيًا بل توقيف وهو خبر محفوظ عن النبي صلى الله عليه وسلم ثم أخرج عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال دعاء المسلم بين إحدى ثلاث إما أن يعطى مسألته التي سأل أو يرفع بها درجة أو يحط بها عنه خطيئة ما لم يدع بقطيعة رحم أو مأثم أو يستعجل قال وأخرج ابن جرير وابن أبي شيبة عن أبي سعيد قال صلى الله عليه وسلم إن دعوة المسلم لا ترد ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم إما أن تعجل له في الدنيا وإما أن تدخر له في الآخرة وإما أن يصرف عنه من السوء بقدر ما دعاه وهذا من التفسير المسند لقوله تعالى: { { ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ } } فهذه كلمة استجابة والله تعالى لا تنقضي حكمته ولذا لا تقع الإجابة في كل دعوة { { وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ } } وفي الحديث إن الله ليبتلي العبد وهو يحبه ليسمع تضرعه انتهى.



رقم الحديث 505 وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لَا يَقُلْ أَحَدُكُمْ إِذَا دَعَا: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي إِنْ شِئْتَ.
اللَّهُمَّ ارْحَمْنِي إِنْ شِئْتَ.
لِيَعْزِمِ الْمَسْأَلَةَ فَإِنَّهُ لَا مُكْرِهَ لَهُ.


( مالك عن أبي الزناد) عبد الله بن ذكوان ( عن الأعرج) عبد الرحمن بن هرمز ( عن أبي هريرة) عبد الرحمن بن صخر أو عمرو بن عامر ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لكل نبي دعوة) مستجابة ( يدعو بها) بهذه الدعوة مقطوع فيها بالإجابة وما عداها على رجاء الإجابة على غير يقين ولا وعد وبهذا أجيب عن إشكال ظاهره بما وقع لكثير من الأنبياء من الدعوات المجابة ولا سيما نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وبأن معناه أفضل دعوات كل نبي ولهم دعوات أخرى وبأن معناه لكل منهم دعوة عامة مستجابة في أمته إما بإهلاكهم وإما بنجاتهم وأما الدعوات الخاصة فمنها ما يستجاب ومنها ما لا يستجاب وقيل لكل منهم دعوة تخصه لدنياه أو لنفسه كقول نوح: { { رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا } } وقول زكريا: { { رب هب لي من لدنك وليا } } وقول سليمان: { { رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لاَّ يَنبَغِي لأحَدٍ مِّن بَعْدِي } } حكاه ابن التين.

وقال ابن عبد البر: معناه عندي أن كل نبي أعطي أمنية يتمنى بها لأنه محال أن يكون نبينا أو غيره من الأنبياء لا يجاب من دعائه إلا دعوة واحدة وما يكاد أحد يخلو من إجابة دعوته إذا شاء ربه قال تعالى: { { فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ } } وقال صلى الله عليه وسلم: دعوة المظلوم لا ترد ولو كانت من كافر.
وقال عليه السلام: ما من داع إلا كان بين إحدى ثلاث إما أن يستجاب له فيما دعا وإما أن يدخر له مثله وإما أن يكفر عنه وجاء في ساعة الجمعة لا يسأل فيها عبد ربه شيئا إلا أعطاه وقال في الدعاء بين الأذان والإقامة وعند الصف في سبيل الله وعند الغيث وغير ذلك أنها أوقات ترجى فيها إجابة الدعاء ( فأريد أن أختبئ) بسكون المعجمة وفتح الفوقية وكسر الموحدة، فهمزة أي أدخر ( دعوتي) المقطوع بإجابتها ( شفاعة لأمتي في الآخرة) في أهم أوقات حاجتهم ففيه كمال شفقته على أمته ورأفته بهم واعتناؤه بالنظر في مصالحهم جزاه الله عنا أفضل ما جزى نبيًا عن أمته.

قال ابن بطال في الحديث بيان فضيلة نبينا على سائر الأنبياء حيث آثر أمته على نفسه وأهل بيته بدعوته المجابة ولم يجعلها أيضًا دعاء عليهم كما وقع لغيره ممن تقدم وقال ابن الجوزي هذا من حسن تصرفه صلى الله عليه وسلم لأنه جعل الدعوة فيما ينبغي ومن كثرة كرمه لأنه آثر أمته على نفسه ومن صحة نظره لأنه جعلها للمذنبين من أمته لكونهم أحوج إليها من الطائعين هذا وقول بعض شراح المصابيح جميع دعوات الأنبياء مجابة والمراد بهذا الحديث أن كل نبي دعا على أمته بالإهلاك إلا أنا فلم أدع فأعطيت الشفاعة عوضا عن ذلك للصبر على أذاهم والمراد بالأمة أمة الدعوة لا أمة الإجابة تعقبه الطيبي بأنه صلى الله عليه وسلم دعا على أحياء العرب وعلى أناس من قريش بأسمائهم ودعا على رعل وذكوان ومضر قال والأولى أن يقال جعل الله لكل نبي دعوة تستجاب في حق أمته فنالها كل منهم في الدنيا وأما نبينا فإنه لما دعا على بعض أمته نزل عليه { { لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ } } فأبقى تلك الدعوة المستجابة مدخرة للآخرة وغالب من دعا عليهم لم يرد إهلاكهم وإنما أراد ردعهم ليتوبوا قال وأما جزمه أولا بأن جميع أدعية الأنبياء مجابة فغفلة عن الحديث سألت الله ثلاثا فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة الحديث انتهى وفيه إثبات الشفاعة.

قال ابن عبد البر: وهي ركن من أركان اعتقاد أهل السنة قال: وأجمعوا على أن قوله تعالى: { { عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا } } هو الشفاعة في المذنبين من أمته إلا ما روي عن مجاهد أنه جلوسه على العرش وروى عنه كالجماعة فصار إجماعا وقد صح نصا عن النبي صلى الله عليه وسلم وأحاديث الشفاعة متواترة صحاح منها شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي وقال جابر من لم يكن من أهل الكبائر فما له وللشفاعة ولا ينازع في ذلك إلا أهل البدع انتهى.

وهذا الحديث رواه البخاري في الدعوات حدثني إسماعيل قال: حدثني مالك به.
ومسلم من طريق ابن وهب عن مالك عن ابن شهاب عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة مرفوعًا به فلمالك فيه إسنادان.

( مالك عن يحيى بن سعيد أنه بلغه) قال أبو عمر: لم تختلف الرواة عن مالك في سنده ولا في متنه ورواه أبو شيبة عن أبي خالد الأحمر عن يحيى بن سعيد عن مسلم بن يسار ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو فيقول) وهو مرسل فمسلم تابعي ( اللهم فالق الإصباح) قال الباجي: أي خلقه وابتدأه وأظهره ( وجاعل الليل سكنًا) أي يسكن فيه قال الباجي: الجعل لغة الخلق والحكم والتسمية فإذا تعدى إلى مفعول واحد فهو بمعنى الخلق كقوله { { وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ } } وإلى مفعولين فيكون بمعنى الحكم والتسمية نحو: { { وَجَعَلُوا الْمَلاَئِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا } } وبمعنى الخلق كقولهم: الحمد لله الذي جعلني مسلمًا فقوله: ( وجاعل الليل سكنا) يحتمل الوجهين ( والشمس والقمر حسبانًا) قال أبو عمر: أي حسابًا أي بحساب معلوم وقد يكون جمع حساب كشهاب وشهبان وقال الباجي: أي يحسب بهما الأيام والشهور والأعوام قال تعالى: { { هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ } } ( اقض عني الدين) قال ابن عبد البر: الأظهر فيه ديون الناس ويدخل في ذلك ديون الله تعالى وفي الحديث دين الله أحق أن يقضى ( واغنني من الفقر) لأنه بئس الضجيع وهذا الفقر هو الذي لا يدرك معه القوت وقد أغناه الله تعالى كما قال: { { وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى } } ولم يكن غناه أكثر من اتخاذ قوت سنة لنفسه وعياله والغنى كله في قلبه ثقة بربه وقال: اللهم ارزق آل محمد قوتًا ولم يرد بهم إلا الأفضل وقال ما قل وكفى خير مما كثر وألهى وكان يستعيذ من فقر مبئس وغنى مطغ ويستعيذ من فتنة الغنى والفقر وقال: اللهم أحيني مسكينًا وأمتني مسكينًا واحشرني في زمرة المساكين ولا تجعلني جبارًا شقيًا.
والمسكين هنا المتواضع لا السائل لأنه صلى الله عليه وسلم كره السؤال ونهى عنه وحرمه على من يجد ما يغديه ويعشيه والآثار في هذا كثيرة وربما ظهر في بعضها تعارض وبهذا التأويل تتقارب معانيها فمن آتاه الله سعة وجب شكره عليها ومن ابتلي بالفقر وجب عليه الصبر إلا أن الفرائض تتوجه على الغني وهي ساقطة عن الفقير وللقيام بها فضل عظيم وللصبر على الفقر ثواب جسيم { { إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } } وخير الأمور أوساطها أشار له أبو عمر.

وقال أبو عبد الملك قيل أراد فقر النفس وقيل الفقر من الحسنات وقيل الفقر من المال الذي يخشى على صاحبه إذا استولى عليه نسيان الفرائض وذكر الله وجاء في الأثر اللهم إني أعوذ بك من فقر ينسيني وغنى يطغيني وهذا التأويل يدل على أن الكفاف أفضل من الفقر والغنى لأنهما بليتان يختبر الله بهما عباده.
( وأمتعني بسمعي) لما فيه من التنعم بالذكر وسماع ما يسر ( وبصري) لما فيه من رؤية مخلوقات الله والتدبر فيها وغير ذلك وفيه لغيره تلاوة القرآن في المصحف ( و) أمتعني ( بقوتي) بفوقية قبل الياء واحدة القوي ويروى وقوني بنون بدل الفوقية قال ابن عبد البر والأول أكثر عند الرواة ( في سبيلك) قال الباجي يحتمل أن يريد الجهاد وأن يريد جميع أعمال البر من تبليغ الرسالة وغيرها فذلك كله سبيل الله وقد قال مالك من قال مالي في سبيل الله سبل الله تعالى كثيرة ولكن يوضع في الغزو فخصه بالعرف قال ابن عبد البر ولا يعارض هذا ما جاء عن الله تعالى إذا أخذت كريمتي عبدي فصبر واحتسب لم يكن له جزاء إلا الجنة لأن هذا من الفرائض والحض على الصبر بعد الوقوع فلا ينافي الدعاء بالإمتاع قبل وقوعه لأنه أقرب إلى الشكر قال مطرف بن الشخير لأن أعافى فأشكر أحب إلي من أن ابتلى فأصبر.
( مالك عن أبي الزناد) بكسر الزاي ( عن الأعرج) عبد الرحمن بن هرمز ( عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا يقل أحدكم إذا دعا) طلب من الله ( اللهم اغفر لي إن شئت اللهم ارحمني إن شئت) زاد في رواية همام عن أبي هريرة عند البخاري: اللهم ارزقني إن شئت لأن التعليق بالمشيئة إنما يحتاج إليه إذا كان المطلوب منه يتأتى إكراهه على الشيء فيخفف الأمر عليه ويعلمه بأنه لا يطلب منه ذلك الشيء إلا برضاه والله تعالى منزه عن ذلك فلا فائدة للتعليق وقيل لأن فيه صورة الاستغناء عن المطلوب والمطلوب منه والأول أولى قال ابن عبد البر لا يجوز لأحد أن يقول اللهم أعطني إن شئت وغير ذلك من أمور الدين والدنيا لأنه كلام مستحيل لا وجه له إذ لا يفعل إلا ما يشاء وظاهره أنه حمل النهي على التحريم وهو الظاهر وحمله النووي على كراهة التنزيه وهو أولى ( ليعزم المسألة) قال الداودي أي يجتهد ويلح ولا يقول إن شئت كالمستثنى ولكن دعاء البائس الفقير وكأنه أشار بقوله كالمستثنى إلى أنه إذا قالها على سبيل التبرك لا يمنع وهو جيد قاله الحافظ وقال الباجي أي يخلي سؤاله ودعاءه من لفظ المشيئة لأنها إنما تشترط فيمن يصح أن يفعل دون أن يشاء لإكراه أو غيره فينبغي أن يسأل سؤال من يعلم أنه لا يفعل إلا ما يشاء وقد بين ذلك صلى الله عليه وسلم بقوله ( فإنه) تعالى ( لا مكره له) بكسر الراء.

قال ابن بطال فيه أنه ينبغي للداعي أن يجتهد في الدعاء ويكون على رجاء الإجابة ولا يقنط من الرحمة فإنه يدعو كريما قال ابن عيينة لا يمنعن أحدا الدعاء ما يعلم من نفسه يعني من التقصير فإن الله تعالى قد أجاب دعاء شر خلقه وهو إبليس حين قال رب { { أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ } } وفي الترمذي: وقال غريب عن أبي هريرة مرفوعا ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة واعلموا أن الله لا يستجيب دعاء من قلب غافل لاه قال التوربشتي أي كونوا على حالة تستحقون فيها الإجابة وذلك بإتيان المعروف واجتناب المنكر وغير ذلك من مراعاة أركان الدعاء وآدابه حتى تكون الإجابة على القلب أغلب من الرد أو المراد ادعوه معتقدين وقوع الإجابة لأن الداعي إذا لم يكن متحققا في الرجاء لم يكن رجاؤه صادقا وإذا لم يصدق رجاؤه لم يكن الرجاء خالصا والداعي مخلصا فإن الرجاء هو الباعث على الطلب ولا يتحقق الفرع إلا بتحقق الأصل وهذا الحديث رواه البخاري وأبو داود عن القعنبي عن مالك به وهو في الصحيحين من حديث أنس بنحوه.

( مالك عن ابن شهاب عن أبي عبيد) بضم العين وتنوين الدال واسمه سعد بسكون العين ابن عبيد ثقة من كبار التابعين وقيل له إدراك مات بالمدينة سنة ثمان وتسعين ( مولى ابن أزهر) بفتح الهمزة والهاء بينهما زاي ساكنة آخره راء عبد الرحمن الزهري المدني صحابي صغير ( عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يستجاب لأحدكم ما لم يعجل) بفتح التحتية والجيم بينهما عين ساكنة من الاستجابة بمعنى الإجابة قال الشاعر:

فلم يستجبه عند ذاك مجيب

أي يجاب دعاء كل واحد منكم لأن الاسم المضاف مفيد للعموم على الأصح ( فيقول) بالفاء بيان لقوله ما لم يعجل ( قد دعوت فلم يستجب لي) بضم التحتية وفتح الجيم.
قال الباجي: يحتمل أن يريد بقوله يستجاب الإخبار عن وجوب وقوع الإجابة أي تحقق وقوعها أو الإخبار عن جواز وقوعها فإن أريد الوجوب فهو بأحد ثلاثة أشياء تعجيل ما سأله أو يكفر عنه به أو يدخر له فإذا قال دعوت إلخ بطل وجوب أحد هذه الثلاثة وعرى الدعاء عن جميعها وإن أريد الجواز فيكون الإجابة بفعل ما دعا به ومنعه قوله دعوت فلم يستجب لأنه من ضعف اليقين والتسخط وفي مسلم والترمذي عن أبي هريرة مرفوعا لا يزال يستجاب للعبد ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم وما لم يستعجل قيل وما الاستعجال قال يقول قد دعوت وقد دعوت فلم أر يستجاب لي فيستحسر عند ذلك ويدع الدعاء ويستحسر بمهملات استفعال من حسر إذا أعيا وتعب وتكرار دعوت للاستمرار أي دعوت مرارًا كثيرة قال المظهري من له ملالة من الدعاء لا يقبل دعاؤه لأن الدعاء عبادة حصلت الإجابة أو لم تحصل فلا ينبغي للمؤمن أن يمل من العبادة وتأخير الإجابة إما لأنه لم يأت وقتها وإما لأنه لم يقدر في الأزل قبول دعائه في الدنيا ليعطى عوضه في الآخرة وإما أن يؤخر القبول ليلح ويبالغ في ذلك فإن الله يحب الملحين في الدعاء مع ما في ذلك من الانقياد والاستسلام وإظهار الافتقار ومن يكثر قرع الباب يوشك أن يفتح له ومن يكثر الدعاء يوشك أن يستجاب له.

والحديث رواه البخاري عن عبد الله بن يوسف ومسلم عن يحيى بن يحيى كلاهما عن مالك به.

( مالك عن ابن شهاب عن أبي عبد الله) سلمان بسكون اللام ( الأغر) بفتح الغين المعجمة وشد الراء الجهني مولاهم المدني وأصله من أصبهان ( وعن أبي سلمة بن عبد الرحمن) بن عوف القرشي الزهري ( عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ينزل ربنا) اختلف فيه فالراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا على طريق الإجمال منزهين لله تعالى عن الكيفية والتشبيه ونقله البيهقي وغيره عن الأئمة الأربعة والسفيانين والحمادين والليث والأوزاعي وغيرهم قال البيهقي وهو أسلم ويدل عليه اتفاقهم على أن التأويل المعين لا يجب فحينئذ التفويض أسلم وقال ابن العربي النزول راجع إلى أفعاله لا إلى ذاته بل ذلك عبارة عن ملكه الذي ينزل بأمره ونهيه فالنزول حسي صفة الملك المبعوث بذلك أو معنوي بمعنى لم يفعل ثم فعل فسمي ذلك نزولا عن مرتبة إلى مرتبة فهي عربية صحيحة والحاصل أنه تأوله بوجهين إما أن المعنى ينزل أمره أو الملك وإما أنه استعارة بمعنى التلطف بالداعين والإجابة لهم ونحوه وكذا حكي عن مالك أنه أوله بنزول رحمته وأمره أو ملائكته كما يقال فعل الملك كذا أي أتباعه بأمره لكن قال ابن عبد البر قال قوم ينزل أمره ورحمته وليس بشيء لأن أمره بما يشاء من رحمته ونعمته ينزل بالليل والنهار بلا توقيت ثلث الليل ولا غيره ولو صح ذلك عن مالك لكان معناه أن الأغلب في الاستجابة ذلك الوقت وقال الباجي هو إخبار عن إجابة الداعي وغفرانه للمستغفرين وتنبيه على فضل الوقت كحديث إذا تقرب إلي عبدي شبرًا تقربت إليه ذراعًا الحديث لم يرد قرب المسافة لعدم إمكانه وإنما أراد العمل من العبد ومنه تعالى الإجابة وحكى ابن فورك أن بعض المشايخ ضبطه بضم أوله على حذف المفعول أي ينزل ملكا قال الحافظ ويقويه ما رواه النسائي من طريق الأغر عن أبي هريرة وأبي سعيد أن الله يمهل حتى يمضي شطر الليل ثم يأمر مناديا يقول هل من داع فيستجاب له الحديث وحديث عثمان بن أبي العاص عند أحمد ينادي مناد هل من داع يستجاب له الحديث قال القرطبي وبهذا يرتفع الإشكال ولا يعكر عليه حديث رفاعة الجهني عند النسائي ينزل الله إلى سماء الدنيا فيقول لا أسأل عن عبادي غيري لأنه لا يلزم من إنزاله الملك أن يسأله عن صنع العباد بل يجوز أنه مأمور بالمناداة ولا يسأل البتة عما بعدها فهو أعلم سبحانه بما كان وما يكون انتهى ولك أن تقول الإشكال مدفوع حتى على أنه ينزل بفتح أوله الذي هو الرواية الصحيحة وكل من حديثي النسائي وأحمد يقوي تأويله بأنه من مجاز الحذف أو الاستعارة وقال البيضاوي لما ثبت بالقواطع أنه سبحانه منزه عن الجسمية والتحيز امتنع عليه النزول على معنى الانتقال من موضع إلى موضع أخفض منه فالمراد دنو رحمته أي ينتقل من مقتضى صفة الجلال التي تقتضي الغضب والانتقام إلى مقتضى صفة الإكرام التي تقتضي الرأفة والرحمة ( تبارك وتعالى) جملتان معترضتان بين الفعل وظرفه وهو ( كل ليلة) لما أسند النزول إلى ما لا يليق إسناده حقيقة إليه اعترض بما يدل على التنزيه كقوله تعالى { { وَيَجْعَلُونَ للهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُم مَّا يَشْتَهُونَ } } ( إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر) برفعه صفة ثلث وتخصيصه بالليل وثلثه الآخر لأنه وقت التهجد وغفلة الناس عن التعرض لنفحات رحمة الله وعند ذلك تكون النية خالصة والرغبة إلى الله وافرة وذلك مظنة القبول والإجابة ولم تختلف الروايات عن الزهري في تعيين الوقت واختلف عن أبي هريرة وغيره.

قال الترمذي: رواية أبي هريرة أصح الروايات في ذلك ويقويه أن الروايات المخالفة له اختلف فيها على راويها وانحصرت في ستة هذه، ثانيها: إذا مضى الثلث الأول.
ثالثها: الثلث الأول أو النصف.
رابعها: النصف.
خامسها: الثلث الأخير أو النصف.
سادسها: الإطلاق فجمع بينها بحمل المطلقة على المقيدة، وأما التي بأو فإن كانت للشك فالجزم مقدم على الشك، وإن كانت للتردد بين حالتين فيجمع بأن ذلك يقع بحسب اختلاف الأحوال لأن أوقات الليل تختلف في الزيادة وفي الأوقات باختلاف تقدم الليل عند قوم وتأخره عند قوم أو النزول يقع في الثلث الأول والقول يقع في النصف وفي الثلث الثاني أو يحمل ذلك على وقوعه في جميع الأوقات التي وردت بها الأحاديث ويحمل على أنه صلى الله عليه وسلم أعلم بأحد الأمور في وقت فأخبر به ثم أعلم به في وقت آخر فأخبر به فنقل الصحابة ذلك عنه ( فيقول من يدعوني فأستجيب) أي أجيب ( له) دعاءه فليست السين للطلب ( من يسألني فأعطيه) مسؤوله ( من يستغفرني فأغفر له) ذنوبه بنصب الأفعال الثلاثة في جواب الاستفهام وبالرفع على الاستئناف وبهما قرئ { { مَن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ } } ولم تختلف الروايات عن الزهري في الاقتصار على الثلاثة والفرق بينها أن المطلوب إما رفع المضار أو جلب المسار وذلك إما دنيوي أو ديني ففي الاستغفار إشارة إلى الأول والدعاء إشارة إلى الثاني والسؤال إشارة إلى الثالث وقال الكرماني يحتمل أن الدعاء ما لا طلب فيه والسؤال الطلب ويحتمل أن المقصود واحد وإن اختلف اللفظ انتهى.

وزاد سعيد المقبري عن أبي هريرة هل من تائب فأتوب عليه، وزاد أبو جعفر عنه من ذا الذي يسترزقني فأرزقه من ذا الذي يستكشف الضر فأكشف عنه وزاد عطاء مولى أم صبية بضم الصاد المهملة وموحدة عنه ألا سقيم يستشفي فيشفى رواها النسائي ومعانيها داخلة فيما تقدم وزاد سعيد بن مرجانة عنه من يقرض غير عديم ولا ظلوم رواه مسلم وفيه تحريض على عمل الطاعة وإشارة إلى جزيل ثوابها وزاد حجاج بن أبي منيع عن الزهري عند الدارقطني حتى الفجر وفي رواية يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة حتى يطلع الفجر وعليه اتفق معظم الروايات وللنسائي عن نافع بن جبير عن أبي هريرة حتى تحل الشمس وهي شاذة وفي الحديث تفضيل آخر الليل على أوله وأنه أفضل للدعاء والاستغفار ويشهد له قوله تعالى: { { وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأسْحَارِ } } وأن الدعاء ذلك الوقت مجاب ولا يعترض بتخلفه عن بعض الداعين لأن سببه وقوع الخلل في شرط من شروط الدعاء كالاحتراز في المطعم والمشرب والملبس أو لاستعجال الداعي أو بأن يكون الدعاء بإثم أو قطيعة رحم أو تحصل الإجابة ويتأخر وجود المطلوب لمصلحة العبد أو لأمر يريده الله تعالى هذا وقد حمل المشبهة الحديث وأحاديث التشبيه كلها على ظاهرها تعالى الله عن قولهم وأما المعتزلة والخوارج فأنكروا صحتها جملة وهو مكابرة والعجب أنهم أولوا ما في القرآن من نحو ذلك وأنكروا الأحاديث جهلا أو عنادا ومن العلماء من فرق بين التأويل القريب المستعمل لغة وبين البعيد المهجور فأول في بعض وفوض في بعض وجزم به من المتأخرين ابن دقيق العيد ونقل عن الإمام قال الباجي منع مالك في العتبية التحديث بحديث اهتز العرش لموت سعد بن معاذ وحديث إن الله خلق آدم على صورته وحديث الساق وقال ما يدعو الإنسان إلى أن يحدث به وهو يرى ما فيه من التغرير ولم ير مثله حديث إن الله يضحك وحديث ينزل ربنا فأجاز التحديث بهما قال فيحتمل الفرق بينهما بأن حديث التنزل والضحك أحاديث صحاح لم يطعن في شيء منهما وحديث العرش والصورة والساق لا تبلغ أحاديثها في الصحة درجة التنزل والضحك وبأن التأويل في حديث التنزل أقرب وأبين والعذر بسوء التأويل فيها أبعد انتهى.

وأخرجه البخاري في الصلاة عن القعنبي وفي الدعوات عن عبد العزيز بن عبد الله الأويسي وفي التوحيد عن إسماعيل ومسلم في الصلاة عن يحيى بن يحيى كلهم عن مالك به.

( مالك عن يحيى بن سعيد) الأنصاري ( عن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي) تيم قريش ( أن عائشة أم المؤمنين) قال ابن عبد البر: لم يختلف عن مالك في إرساله وهو مسند من حديث الأعرج عن أبي هريرة عن عائشة ومن حديث عروة عن عائشة من طرق صحاح ثم أخرجه من الوجهين وطريق الأعرج أخرجها مسلم وأبو داود والنسائي من طريق عبيد الله بن عمر عن محمد بن يحيى بن حبان عن الأعرج عن أبي هريرة عن عائشة ( قالت كنت نائمة إلى جنب رسول الله صلى الله عليه وسلم ففقدته) بفتح القاف، وفي رواية افتقدته وهما لغتان بمعنى عدمته ( من الليل) وفي رواية عروة وكان معي على فراشي ( فلمسته بيدي) وفي رواية فالتمسته في البيت وجعلت أطلبه بيدي ( فوضعت يدي على قدميه) زاد في رواية وهما منتصبتان ( وهو ساجد) وفيه أن اللمس بلا لذة لا ينقض الوضوء واحتمال أنه كان فوق حائل خلاف الأصل فسمعته ( يقول) زاد في رواية اللهم إني ( أعوذ برضاك من سخطك) أي بما يرضيك مما يسخطك فخرج عن حظ نفسه بإقامة حرمة محبوبه فهذا لله ثم الذي لنفسه قوله ( وبمعافاتك من عقوبتك) وفي إضافتها كالسخط إليه دليل لأهل السنة على جواز إضافة الشر إليه تعالى كالخير واستعاذ بها بعد استعاذته برضاه لأنه يحتمل أن يرضى من جهة حقوقه ويعاقب على حقوق غيره ( وبك منك) قال عياض: ترق من الأفعال إلى منشئ الأفعال مشاهدة للحق وغيبة عن الخلق الذي هو محض المعرفة الذي لا يعبر عنه قول ولا يضبطه وصف فهو محض التوحيد وقطع الالتفات إلى غيره وإفراده بالاستعانة وغيرها.

قال الخطابي وفيه معنى لطيف لأنه استعاذ بالله وسأله أن يجيره برضاه من سخطه وبمعافاته من عقوبته والرضا والسخط ضدان كالمعافاة والعقوبة فلما ذكر ما لا ضد له وهو الله سبحانه وتعالى استعاذ به منه لا غير ومعناه الاستغفار من التقصير في بلوغ الواجب من عبادته والثناء عليه ولذا قال ( لا أحصي ثناء عليك) قال ابن الأثير: أي لا أبلغ الواجب في الثناء عليك وقال الراغب أي لا أحصل ثناء لعجزي عنه إذ هو نعمة تستدعي شكرًا وهكذا إلى غير نهاية وقيل معناه لا أعد كما في الصحاح لأن معنى الإحصاء العد بالحصى كما قال:

ولست بالأكثر منهم حصى
وإنما العزة للكاثر

وعليه فهو من نفي الملزوم المعبر عنه بالإحصاء المفسر بالعد وإرادة نفي اللازم وهو استيعاب المعدود فكأنه قيل لا أستوعب فالمراد نفي القدرة عن الإتيان بجميع الثناءات أو فرد منها يفي بنعمة من نعمه لا عدها إذ لا يمكن عد أفراد كثيرة من الثناء وقال ابن عبد البر روينا عن مالك أن معناه وإن اجتهدت في الثناء عليك فلن أحصي نعمك ومننك وإحسانك ( أنت) مبتدأ خبره ( كما أثنيت) أي الثناء عليك هو المماثل لثنائك ( على نفسك) ولا قدرة لأحد عليه ويحتمل أن أنت تأكيد للكاف من عليك باستعارة الضمير المنفصل للمتصل، والثناء بتقديم المثلثة والمد الوصف بالجميل على المشهور لغة، واستعماله في الشر مجاز وقال المجد: وصف بمدح أو ذم أو خاص بالمدح.
قال ابن عبد البر فيه دليل على أنه لا يبلغ وصفه وأنه إنما يوصف بما وصف به نفسه انتهى وقال النووي فيه اعتراف بالعجز عن الثناء عليه وأنه لا يقدر على بلوغ حقيقته ورد الثناء إلى الجملة دون التفصيل والتعيين فوكل ذلك إليه سبحانه المحيط بكل شيء جملة وتفصيلا وكما أنه لا نهاية لصفاته لا نهاية للثناء عليه لأن الثناء تابع للمثني عليه فكل شيء أثنى عليه به وإن كثر وطال وبولغ فيه فقدر الله أعظم وسلطانه أعز وصفاته أكثر وأكبر وفضله أوسع وأسبغ.

( مالك عن زياد بن أبي زياد) ميسرة المخزومي مولاهم المدني الثقة العابد قال مالك: كان يلبس الصوف ويكون وحده ولا يجالس أحدًا.
لمالك عنه مرفوعًا هذا الحديث الواحد رواه هنا.
وفي الحج ونسبه فزاد مولى عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة المخزومي ( عن طلحة بن عبيد الله) بضم العين ( بن كريز) بفتح الكاف وكسر الراء وإسكان التحتية وزاي منقوطة الخزاعي أبي المطرف المدني وثقه أحمد والنسائي وروى له مسلم وأصحاب السنن وهو تابعي قال الولي العراقي ووهم من ظنه أحد العشرة قال ابن عبد البر لا خلاف عن مالك في إرساله ولا أحفظه بهذا الإسناد مسندا من وجه يحتج به وقد جاء مسندا من حديث علي وابن عمرو والفضائل لا تحتاج إلى من يحتج به ثم أخرج حديث علي من طريق ابن أبي شيبة وجاء أيضا من حديث أبي هريرة أخرجه هو وحديث ابن عمر والبيهقي في الشعب.

( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أفضل الدعاء) مبتدأ خبره ( دعاء يوم عرفة) قال الباجي: أي أعظمه ثوابًا وأقربه إجابة ويحتمل أن يريد به اليوم ويحتمل أن يريد الحاج خاصة ( وأفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي) ولفظ حديث علي أكثر دعائي ودعاء الأنبياء قبلي بعرفة ( لا إله إلا الله وحده لا شريك له) زاد في حديث أبي هريرة: له الملك وله الحمد يحيي ويميت، بيده الخير وهو على كل شيء قدير.
وكذا في حديث علي لكن ليس فيه بيده الخير وفي حديث ابن عمر ولكن ليس فيه يحيي ويميت وفيه بيده الخير قال ابن عبد البر فيه أن الثناء دعاء وفي المرفوع يقول الله عز وجل من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين وفيه تفضيل الدعاء بعضه على بعض والأيام بعضها على بعض وأن ذلك أفضل الذكر لأنها كلمة الإسلام والتقوى وقال آخرون أفضله الحمد لله رب العالمين لأن فيه معنى الشكر وفيه من الإخلاص ما في لا إله إلا الله وافتتح الله كلامه به وختم به وهو آخر دعوى أهل الجنة وروت كل فرقة بما قالت أحاديث كثيرة وساق جملة منها في التمهيد ووقع في تجريد الصحاح لرزين بن معاوية الأندلسي زيادة في أول هذا الحديث وهي أفضل الأيام يوم عرفة وافق يوم جمعة وهو أفضل من سبعين حجة في غير يوم الجمعة وأفضل الدعاء إلخ وتعقبه الحافظ فقال حديث لا أعرف حاله لأنه لم يذكر صحابيه ولا من خرجه بل أدرجه في حديث الموطأ هذا وليست هذه الزيادة في شيء من الموطآت فإن كان له أصل احتمل أن يراد بالسبعين التحديد أو المبالغة في الكثرة وعلى كل حال منهما ثبتت المزية انتهى وفي الهدي لابن القيم ما استفاض على ألسنة العوام أن وقفة الجمعة تعدل ثنتين وسبعين حجة فباطل لا أصل له عن رسول الله ولا عن أحد من الصحابة والتابعين انتهى.

( مالك عن أبي الزبير) محمد بن مسلم ( المكي) الأسدي مولاهم صدوق وقال ابن معين ثقة وقال أحمد لا بأس به وقال أبو عمر ثقة حافظ متقن.
روى عنه مالك والسفيانان والليث وابن جريج وجماعة من الأئمة لا يلتفت إلى قول شعبة فيه وروى له الجميع مات بمكة سنة ست وعشرين وقيل ثمان وعشرين ومائة ( عن طاوس) بن كيسان ( اليماني) الحضرمي مولاهم الفارسي يقال: اسمه ذكوان وطاوس لقب، ثقة فقيه فاضل مات سنة ست ومائة وقيل بعدها ( عن عبد الله بن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعلمهم هذا الدعاء كما يعلمهم السورة من القرآن) تشبيه في تحفيظ حروفه وترتيب كلماته ومنع الزيادة والنقص منه والدرس له والمحافظة عليه ( يقول اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم) أي عقوبتها والإضافة مجازية أو من إضافة المظروف إلى ظرفه ( وأعوذ بك من عذاب القبر) العذاب اسم للعقوبة والمصدر التعذيب فهو مضاف إلى الفاعل مجازًا أو الإضافة من إضافة المظروف إلى ظرفه على تقدير في أي من عذاب في القبر وفيه رد على من أنكره ( وأعوذ بك من فتنة) امتحان واختبار ( المسيح) بفتح الميم وخفة السين المكسورة وحاء مهملة وصحف من أعجمها يطلق على الدجال وعلى عيسى عليه السلام لكن إذا أريد الأول قيد كما قال ( الدجال) وقال أبو داود: المسيح مثقل الدجال ومخفف عيسى والمشهور الأول، ونقل المستملي عن الفربري عن خلف بن عامر الهمداني أحد الحفاظ المسيح بالتشديد والتخفيف واحد يقال للدجال ولعيسى لا فرق بينهما بمعنى لا اختصاص لأحدهما بأحد الأمرين لقب بذلك لأنه ممسوح العين أو لأن أحد شقي وجهه خلق ممسوحا لا عين فيه ولا حاجب أو لأنه يمسح الأرض إذا خرج وقال الجوهري من خففه فلمسحه الأرض ومن شدد فلأنه ممسوح العين وأما عيسى فقيل لأنه خرج من بطن أمه ممسوحا بالدهن أو لأن زكريا مسحه أو لأنه كان لا يمسح ذا عاهة إلا برئ أو لمسحه الأرض بسباحته أو لأن رجله لا أخمص لها أو للبسه المسوح وقيل هو بالعبرانية ماسح فعرب المسيح وقيل المسيح الصديق ( وأعوذ بك من فتنة المحيا) هي ما يعرض للإنسان مدة حياته من الافتتان بالدنيا والشهوات والجهالات وأعظمها والعياذ بالله أمر الخاتمة عند الموت ( و) فتنة ( الممات) قال الباجي: هي فتنة القبر.
وقال أبو عمر: يحتمل إذا احتضر ويحتمل في القبر أيضًا.
وقال ابن دقيق العيد: يجوز أنها الفتنة عند الموت أضيفت إليه لقربها منه وفتنة المحيا ما قبل ذلك ويجوز أنها فتنة القبر وقد صح إنكم تفتنون في قبوركم مثل أو قريبًا من فتنة الدجال ولا يتكرر مع قوله عذاب القبر لأن العذاب مرتب على الفتنة والسبب غير المسبب وقيل فتنة المحيا الابتلاء مع زوال الصبر والممات السؤال في القبر مع الحيرة وهو من العام بعد الخاص لأن عذاب القبر داخل تحت فتنة الممات وفتنة الدجال داخلة تحت فتنة المحيا وروى الترمذي الحكيم عن سفيان الثوري إن الميت إذا سئل من ربك تراءى له الشيطان فيشير إلى نفسه أنا ربك فلذا ورد سؤال الثبات له حين يسأل ثم روي بسند جيد عن عمرو بن مرة كانوا يستحبون إذا وضع الميت في قبره أن يقولوا اللهم أعذه من الشيطان وفي مسلم عن أبي هريرة مرفوعًا إذا فرغ أحدكم من التشهد الآخر فليتعوذ من أربع من عذاب جهنم ومن عذاب القبر ومن فتنة المحيا والممات ومن شر المسيح الدجال قال الحافظ فهذا يعين أن هذه الاستعاذة بعد الفراغ من التشهد فيكون سابقا على غيره من الأدعية وما ورد أن المصلي يتخير من الدعاء ما شاء يكون بعد هذه الاستعاذة وقبل السلام انتهى وحديث ابن عباس أخرجه مسلم عن قتيبة بن سعيد عن مالك به وقال مسلم بعده بلغني أن طاوسا قال لابنه أدعوت بها في صلاتك قال لا قال أعد صلاتك لأن طاوسا رواه عن ثلاثة أو أربعة وهذا البلاغ أخرجه عبد الرزاق بسند صحيح وهو يدل على أنه يرى وجوبه وبه قال بعض أهل الظاهر.

( مالك عن أبي الزبير) محمد بن مسلم ( المكي عن طاوس اليماني عن عبد الله بن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قام إلى الصلاة من جوف الليل يقول) في موضع نصب خبر كان وقال الطيبي: الظاهر أنه جواب إذا والجملة الشرطية خبر كان وظاهره أنه كان يقول أول ما يقوم إلى الصلاة ولابن خزيمة من طريق قيس بن سعد عن طاوس عن ابن عباس كان صلى الله عليه وسلم إذا قام للتهجد قال بعد ما يكبر ( اللهم لك الحمد) الوصف بالجميل على التفضيل وأل فيه للاستغراق ( أنت نور السموات والأرض) أي منورهما وبك يهتدي من فيهما وقيل معناه أنت المنزه من كل عيب يقال فلان منور أي مبرأ من كل عيب ويقال هو مدح تقول فلان نور البلد أي مزينه ( ولك الحمد أنت قيام) بفتح التحتية المشددة فألف وكذا في رواية قيس بن سعد الحنظلي المكي عند مسلم وأبي داود بزنة فعال صيغة مبالغة وفي رواية سليمان الأحول عن طاوس في الصحيحين قيم وهما والقيوم بمعنى واحد ( السموات والأرض) زاد في رواية ومن فيهن أي أنت الذي تقوم بحفظهما وحفظ من أحاطت به واشتملت عليه تؤتي كلا ما به قوامه وتقوم كل شيء من خلقك بما تراه من تدبيرك وفي البخاري قال مجاهد القيوم القائم على كل شيء وقرأ عمر القيام أي في آية الكرسي وكلاهما مدح أي بخلاف القيم فيستعمل في المدح والذم وقيل القيم القائم بأمور الخلق ومدبر العالم في جميع أحواله ومنه قيم الطفل والقيوم والقيام القائم بنفسه مطلقا لا بغيره ويقوم به كل موجود حتى لا يتصور وجود شيء ولا دوام وجوده إلا به فمن عرف ذلك استراح عن كد التدبير وتعب الاشتغال وعاش براحة التفويض فلا يضن بكريمة ولا يجعل في قلبه للدنيا كثر قيمة.

( ولك الحمد أنت رب السموات والأرض ومن فيهن) عبر بمن تغليبًا للعقلاء على غيرهم فهو رب كل شيء ومليكه وكافله ومغذيه ومصلحه العواد عليه بنعمه وتكرير الحمد للاهتمام بشأنه وليناط به كل مرة معنى آخر وتقديم الجار والمجرور إفادة التخصيص وكأنه لما خص الحمد بالله قيل له لم خصصتني قال لأنك القائم بحفظ المخلوقات إلى غير ذلك.
( أنت الحق) أي المتحقق الوجود الثابت بلا شك فيه قال القرطبي هذا الوصف له سبحانه وتعالى بالحقيقة خاص به لا ينبغي لغيره إذ وجوده بنفسه فلم يسبقه عدم ولا يلحقه عدم بخلاف غيره وقال ابن التين يحتمل أنت الحق بالنسبة إلى من يدعي أنه إله أو بمعنى من سماك إلها فقد قال الحق ( وقولك الحق) أي مدلوله ثابت ( ووعدك الحق) لا يدخله خلف ولا شك في وقوعه وهو من الخاص بعد العام ( ولقاؤك حق) المراد به البعث بعد الموت وهو عبارة عن مآل الخلق في الآخرة بالنسبة إلى الجزاء على الأعمال وقيل معناه رؤيتك في الآخرة حيث لا مانع وقيل الموت قال النووي وهو باطل هنا قال الحافظ وهذا وما بعده داخل تحت الوعد لكن الوعد مصدر وما بعده هو الموعود به ويحتمل أنه من الخاص بعد العام.
( والجنة حق والنار حق) أي كل منهما موجود ( والساعة حق) أي يوم القيامة وأصل الساعة القطعة من الزمان وإطلاق اسم الحق على ما ذكر من الأمور معناه أنه لا بد من كونها وأنها مما يجب أن يصدق بها وتكرار لفظ حق مبالغة في التأكيد زاد في رواية سليمان عن طاوس عند الشيخين والنبيون حق ومحمد حق وعرف الحق في الثلاثة الأول قال الطيبي للحصر لأن الله هو الحق الثابت وما سواه في معرض الزوال قال لبيد:

ألا كل شيء ما خلا الله باطل

وكذا قوله: وكذا وعده مختص بالإنجاز دون وعد غيره والتنكير في البواقي للتعظيم.

وقال السهيلي التعريف للدلالة على أنه المستحق لهذا الاسم بالحقيقة إذ هو مقتضى الأداة وكذا قوله ووعده لأن وعده كلامه وتركت في البواقي لأنها أمور محدثة والمحدث لا يجب له البقاء من جهة ذاته وبقاء ما يدوم منه علم مخبر الصادق لا من جهة استحالة فنائه قال الطيبي وهنا سر دقيق وهو أنه صلى الله عليه وسلم لما نظر إلى المقام الإلهي ومقربي حضرة الربوبية عظم شأنه وفخم منزلته حيث ذكر النبيين وعرفها بلام الاستغراق ثم خص محمدا صلى الله عليه وسلم من بينهم وعطفه عليهم إيذانا بالتغاير وأنه فائق عليهم بأوصاف مختصة به فإن تغاير الوصف بمنزلة التغاير في الذات ثم حكم عليه استقلالا بأنه حق وجرده عن ذاته كأنه غيره وأوجب عليه تصديقه ولما رجع إلى مقام العبودية ونظر إلى افتقار نفسه نادى بلسان الاضطرار في مطاوي الانكسار فقال:

( اللهم لك أسلمت) انقدت وخضعت لأمرك ونهيك ( وبك آمنت) أي صدقت ( وعليك توكلت) أي فوضت أموري تاركًا النظر في الأسباب العادية ( وإليك أنبت) رجعت إليك مقبلاً بقلبي عليك ( وبك) أي بما أعطيتني من البرهان وبما لقنتني من الحجة ( خاصمت) من خاصمني من الكفار أو بتأييدك ونصرك قاتلت ( وإليك حاكمت) كل من جحد الحق وما أرسلتني به لا إلى من كانت الجاهلية تتحاكم إليه من كاهن ونحوه وقدم جميع صلات هذه الأفعال عليها إشعارًا بالتخصيص وإفادة للحصر وكذا قوله ولك الحمد.
( فاغفر لي ما قدمت) قبل هذا الوقت ( وأخرت) عنه ( وأسررت) أخفيت ( وأعلنت) أظهرت أو ما حدثت به نفسي وما تحرك به لساني زاد في رواية للبخاري وما أنت أعلم به مني وهو من العام بعد الخاص وقال ذلك مع أنه مغفور له إما تواضعا وهضما لنفسه وإجلالا وتعظيما لربه أو تعليمًا لأمته ليقتدى به قال الحافظ كذا قيل والأولى أنه لمجموع ذلك إذ لو كان للتعليم فقط لكفي فيه أمرهم بأن يقولوا زاد في رواية سليمان عن طاوس أنت المقدم والمؤخر أي المقدم لي في البعث يوم القيامة والمؤخر لي في البعث في الدنيا.

( أنت إلهي لا إله إلا أنت) زاد في رواية للبخاري: ولا حول ولا قوة إلا بالله.
قال الكرماني: هذا الحديث من جوامع الكلم لأن لفظ القيم إشارة إلى أن وجود الجواهر وقوامها منه والنور إلى أن الأعراض أيضا منه والملك إلى أنه حاكم عليها إيجادا وعدما يفعل ما يشاء وكل ذلك من نعمه على عباده فلذا قرن كلا منها بالحمد وخصص الحمد به ثم قوله أنت الحق إشارة إلى المبتدأ والقول ونحوه إلى المعاش والساعة ونحوها إشارة إلى المعاد وفيه الإشارة إلى النبوة وإلى الجزاء ثوابا وعقابا ووجوب الإيمان به والإسلام والتوكل والإنابة والتضرع إلى الله والخضوع له انتهى وفيه زيادة معرفته صلى الله عليه وسلم بعظمة ربه وعظيم قدرته ومواظبته على الذكر والدعاء والثناء على ربه والاعتراف لله بحقوقه والإقرار بصدق وعده.

وأخرجه مسلم في الصلاة عن قتيبة بن سعيد والترمذي في الدعوات من طريق معن كليهما عن مالك به وله طرق في الصحيحين وغيرهما.

( مالك عن عبد الله بن عبد الله بن جابر) وقيل جبر ( بن عتيك) بفتح العين المهملة وكسر الفوقية وإسكان التحتية وكاف الأنصاري المدني تابعي صغير من الثقات ( أنه قال جاءنا عبد الله بن عمر) بن الخطاب هكذا رواه يحيى وطائفة لم يجعلوا بين عبد الله شيخ مالك وبين ابن عمر أحدًا.
ومنهم من أدخل بينهما عتيك بن الحارث بن عتيك، وهي رواية ابن القاسم ومنهم من جعل بينهما جابر بن عتيك وهي رواية القعنبي ومطرف قال ابن عبد البر ورواية يحيى أولى بالصواب ( في بني معاوية وهي قرية من قرى الأنصار) بالمدينة والنسبة إليها المعاوي بضم الميم ( فقال) زاد في رواية ابن وضاح لي ( هل تدرون أين صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من مسجدكم هذا) لأصلي فيه وأتبرك به لأنه كان حريصًا على اقتفاء آثاره ( فقلت له نعم وأشرت له إلى ناحية منه) من المسجد ( فقال لي هل تدري ما الثلاث) دعوات ( التي دعا بهن فيه فقلت نعم) فيه طرح العالم المسألة على من دونه ليعلم ما عنده ( قال فأخبرني بهن فقلت دعا بأن لا يظهر) الله ( عليهم عدوا من غيرهم) أي من غير المؤمنين يعني يستأصل جميعهم ( ولا يهلكهم بالسنين) أي بالمحل والجدب والجوع ( فأعطيهما) بالبناء للمفعول ( ودعا بأن لا يجعل بأسهم بينهم) أي الحرب والفتن والاختلاف ( فمنعها قال صدقت) يدل على أنه كان يعلم ما سأله عنه ( قال ابن عمر فلن يزال الهرج) بفتح الهاء وسكون الراء وبالجيم القتل ( إلى يوم القيامة) قضاء نافذ من الله ففي مسلم عن ثوبان رفعه: إن الله زوى لي مشارق الأرض ومغاربها وسيبلغ ملك أمتي ما زوى لي منها الحديث، وفيه: وإني سألت الله أن لا يهلك أمتي بسنة عامة ولا يسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم وأن لا يلبسهم شيعا ويذيق بعضهم بأس بعض فقال يا محمد إني إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد وإني أعطيتك لأمتك أن لا أهلكهم بسنة عامة وأن لا أسلط عليهم عدوا من غيرهم ولو اجتمع عليهم من بين أقطارها حتى يكون بعضهم يهلك بعضًا.

قال ابن عبد البر: دعا صلى الله عليه وسلم في مسجد الفتح يوم الإثنين ويوم الثلاثاء ويوم الأربعاء فاستجيب له يوم الأربعاء بين الصلاتين فعرف البشر في وجهه قال جابر فما نزل بي أمر يهمني إلا توخيت تلك الساعة فأعرف الإجابة.

( مالك عن زيد بن أسلم أنه كان يقول ما من داع يدعو إلا كان بين إحدى ثلاث إما أن يستجاب له) بعين ما سأل ( وإما أن يدخر له) يوم القيامة ( وإما أن يكفر عنه) من الذنوب في نظير دعائه.
قال ابن عبد البر: هذا لا يكون رأيًا بل توقيف وهو خبر محفوظ عن النبي صلى الله عليه وسلم ثم أخرج عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال دعاء المسلم بين إحدى ثلاث إما أن يعطى مسألته التي سأل أو يرفع بها درجة أو يحط بها عنه خطيئة ما لم يدع بقطيعة رحم أو مأثم أو يستعجل قال وأخرج ابن جرير وابن أبي شيبة عن أبي سعيد قال صلى الله عليه وسلم إن دعوة المسلم لا ترد ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم إما أن تعجل له في الدنيا وإما أن تدخر له في الآخرة وإما أن يصرف عنه من السوء بقدر ما دعاه وهذا من التفسير المسند لقوله تعالى: { { ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ } } فهذه كلمة استجابة والله تعالى لا تنقضي حكمته ولذا لا تقع الإجابة في كل دعوة { { وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ } } وفي الحديث إن الله ليبتلي العبد وهو يحبه ليسمع تضرعه انتهى.



رقم الحديث 506 وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ مَوْلَى ابْنِ أَزْهَرَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: يُسْتَجَابُ لِأَحَدِكُمْ مَا لَمْ يَعْجَلْ، فَيَقُولُ: قَدْ دَعَوْتُ فَلَمْ يُسْتَجَبْ لِي.


( مالك عن أبي الزناد) عبد الله بن ذكوان ( عن الأعرج) عبد الرحمن بن هرمز ( عن أبي هريرة) عبد الرحمن بن صخر أو عمرو بن عامر ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لكل نبي دعوة) مستجابة ( يدعو بها) بهذه الدعوة مقطوع فيها بالإجابة وما عداها على رجاء الإجابة على غير يقين ولا وعد وبهذا أجيب عن إشكال ظاهره بما وقع لكثير من الأنبياء من الدعوات المجابة ولا سيما نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وبأن معناه أفضل دعوات كل نبي ولهم دعوات أخرى وبأن معناه لكل منهم دعوة عامة مستجابة في أمته إما بإهلاكهم وإما بنجاتهم وأما الدعوات الخاصة فمنها ما يستجاب ومنها ما لا يستجاب وقيل لكل منهم دعوة تخصه لدنياه أو لنفسه كقول نوح: { { رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا } } وقول زكريا: { { رب هب لي من لدنك وليا } } وقول سليمان: { { رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لاَّ يَنبَغِي لأحَدٍ مِّن بَعْدِي } } حكاه ابن التين.

وقال ابن عبد البر: معناه عندي أن كل نبي أعطي أمنية يتمنى بها لأنه محال أن يكون نبينا أو غيره من الأنبياء لا يجاب من دعائه إلا دعوة واحدة وما يكاد أحد يخلو من إجابة دعوته إذا شاء ربه قال تعالى: { { فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ } } وقال صلى الله عليه وسلم: دعوة المظلوم لا ترد ولو كانت من كافر.
وقال عليه السلام: ما من داع إلا كان بين إحدى ثلاث إما أن يستجاب له فيما دعا وإما أن يدخر له مثله وإما أن يكفر عنه وجاء في ساعة الجمعة لا يسأل فيها عبد ربه شيئا إلا أعطاه وقال في الدعاء بين الأذان والإقامة وعند الصف في سبيل الله وعند الغيث وغير ذلك أنها أوقات ترجى فيها إجابة الدعاء ( فأريد أن أختبئ) بسكون المعجمة وفتح الفوقية وكسر الموحدة، فهمزة أي أدخر ( دعوتي) المقطوع بإجابتها ( شفاعة لأمتي في الآخرة) في أهم أوقات حاجتهم ففيه كمال شفقته على أمته ورأفته بهم واعتناؤه بالنظر في مصالحهم جزاه الله عنا أفضل ما جزى نبيًا عن أمته.

قال ابن بطال في الحديث بيان فضيلة نبينا على سائر الأنبياء حيث آثر أمته على نفسه وأهل بيته بدعوته المجابة ولم يجعلها أيضًا دعاء عليهم كما وقع لغيره ممن تقدم وقال ابن الجوزي هذا من حسن تصرفه صلى الله عليه وسلم لأنه جعل الدعوة فيما ينبغي ومن كثرة كرمه لأنه آثر أمته على نفسه ومن صحة نظره لأنه جعلها للمذنبين من أمته لكونهم أحوج إليها من الطائعين هذا وقول بعض شراح المصابيح جميع دعوات الأنبياء مجابة والمراد بهذا الحديث أن كل نبي دعا على أمته بالإهلاك إلا أنا فلم أدع فأعطيت الشفاعة عوضا عن ذلك للصبر على أذاهم والمراد بالأمة أمة الدعوة لا أمة الإجابة تعقبه الطيبي بأنه صلى الله عليه وسلم دعا على أحياء العرب وعلى أناس من قريش بأسمائهم ودعا على رعل وذكوان ومضر قال والأولى أن يقال جعل الله لكل نبي دعوة تستجاب في حق أمته فنالها كل منهم في الدنيا وأما نبينا فإنه لما دعا على بعض أمته نزل عليه { { لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ } } فأبقى تلك الدعوة المستجابة مدخرة للآخرة وغالب من دعا عليهم لم يرد إهلاكهم وإنما أراد ردعهم ليتوبوا قال وأما جزمه أولا بأن جميع أدعية الأنبياء مجابة فغفلة عن الحديث سألت الله ثلاثا فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة الحديث انتهى وفيه إثبات الشفاعة.

قال ابن عبد البر: وهي ركن من أركان اعتقاد أهل السنة قال: وأجمعوا على أن قوله تعالى: { { عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا } } هو الشفاعة في المذنبين من أمته إلا ما روي عن مجاهد أنه جلوسه على العرش وروى عنه كالجماعة فصار إجماعا وقد صح نصا عن النبي صلى الله عليه وسلم وأحاديث الشفاعة متواترة صحاح منها شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي وقال جابر من لم يكن من أهل الكبائر فما له وللشفاعة ولا ينازع في ذلك إلا أهل البدع انتهى.

وهذا الحديث رواه البخاري في الدعوات حدثني إسماعيل قال: حدثني مالك به.
ومسلم من طريق ابن وهب عن مالك عن ابن شهاب عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة مرفوعًا به فلمالك فيه إسنادان.

( مالك عن يحيى بن سعيد أنه بلغه) قال أبو عمر: لم تختلف الرواة عن مالك في سنده ولا في متنه ورواه أبو شيبة عن أبي خالد الأحمر عن يحيى بن سعيد عن مسلم بن يسار ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو فيقول) وهو مرسل فمسلم تابعي ( اللهم فالق الإصباح) قال الباجي: أي خلقه وابتدأه وأظهره ( وجاعل الليل سكنًا) أي يسكن فيه قال الباجي: الجعل لغة الخلق والحكم والتسمية فإذا تعدى إلى مفعول واحد فهو بمعنى الخلق كقوله { { وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ } } وإلى مفعولين فيكون بمعنى الحكم والتسمية نحو: { { وَجَعَلُوا الْمَلاَئِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا } } وبمعنى الخلق كقولهم: الحمد لله الذي جعلني مسلمًا فقوله: ( وجاعل الليل سكنا) يحتمل الوجهين ( والشمس والقمر حسبانًا) قال أبو عمر: أي حسابًا أي بحساب معلوم وقد يكون جمع حساب كشهاب وشهبان وقال الباجي: أي يحسب بهما الأيام والشهور والأعوام قال تعالى: { { هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ } } ( اقض عني الدين) قال ابن عبد البر: الأظهر فيه ديون الناس ويدخل في ذلك ديون الله تعالى وفي الحديث دين الله أحق أن يقضى ( واغنني من الفقر) لأنه بئس الضجيع وهذا الفقر هو الذي لا يدرك معه القوت وقد أغناه الله تعالى كما قال: { { وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى } } ولم يكن غناه أكثر من اتخاذ قوت سنة لنفسه وعياله والغنى كله في قلبه ثقة بربه وقال: اللهم ارزق آل محمد قوتًا ولم يرد بهم إلا الأفضل وقال ما قل وكفى خير مما كثر وألهى وكان يستعيذ من فقر مبئس وغنى مطغ ويستعيذ من فتنة الغنى والفقر وقال: اللهم أحيني مسكينًا وأمتني مسكينًا واحشرني في زمرة المساكين ولا تجعلني جبارًا شقيًا.
والمسكين هنا المتواضع لا السائل لأنه صلى الله عليه وسلم كره السؤال ونهى عنه وحرمه على من يجد ما يغديه ويعشيه والآثار في هذا كثيرة وربما ظهر في بعضها تعارض وبهذا التأويل تتقارب معانيها فمن آتاه الله سعة وجب شكره عليها ومن ابتلي بالفقر وجب عليه الصبر إلا أن الفرائض تتوجه على الغني وهي ساقطة عن الفقير وللقيام بها فضل عظيم وللصبر على الفقر ثواب جسيم { { إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } } وخير الأمور أوساطها أشار له أبو عمر.

وقال أبو عبد الملك قيل أراد فقر النفس وقيل الفقر من الحسنات وقيل الفقر من المال الذي يخشى على صاحبه إذا استولى عليه نسيان الفرائض وذكر الله وجاء في الأثر اللهم إني أعوذ بك من فقر ينسيني وغنى يطغيني وهذا التأويل يدل على أن الكفاف أفضل من الفقر والغنى لأنهما بليتان يختبر الله بهما عباده.
( وأمتعني بسمعي) لما فيه من التنعم بالذكر وسماع ما يسر ( وبصري) لما فيه من رؤية مخلوقات الله والتدبر فيها وغير ذلك وفيه لغيره تلاوة القرآن في المصحف ( و) أمتعني ( بقوتي) بفوقية قبل الياء واحدة القوي ويروى وقوني بنون بدل الفوقية قال ابن عبد البر والأول أكثر عند الرواة ( في سبيلك) قال الباجي يحتمل أن يريد الجهاد وأن يريد جميع أعمال البر من تبليغ الرسالة وغيرها فذلك كله سبيل الله وقد قال مالك من قال مالي في سبيل الله سبل الله تعالى كثيرة ولكن يوضع في الغزو فخصه بالعرف قال ابن عبد البر ولا يعارض هذا ما جاء عن الله تعالى إذا أخذت كريمتي عبدي فصبر واحتسب لم يكن له جزاء إلا الجنة لأن هذا من الفرائض والحض على الصبر بعد الوقوع فلا ينافي الدعاء بالإمتاع قبل وقوعه لأنه أقرب إلى الشكر قال مطرف بن الشخير لأن أعافى فأشكر أحب إلي من أن ابتلى فأصبر.
( مالك عن أبي الزناد) بكسر الزاي ( عن الأعرج) عبد الرحمن بن هرمز ( عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا يقل أحدكم إذا دعا) طلب من الله ( اللهم اغفر لي إن شئت اللهم ارحمني إن شئت) زاد في رواية همام عن أبي هريرة عند البخاري: اللهم ارزقني إن شئت لأن التعليق بالمشيئة إنما يحتاج إليه إذا كان المطلوب منه يتأتى إكراهه على الشيء فيخفف الأمر عليه ويعلمه بأنه لا يطلب منه ذلك الشيء إلا برضاه والله تعالى منزه عن ذلك فلا فائدة للتعليق وقيل لأن فيه صورة الاستغناء عن المطلوب والمطلوب منه والأول أولى قال ابن عبد البر لا يجوز لأحد أن يقول اللهم أعطني إن شئت وغير ذلك من أمور الدين والدنيا لأنه كلام مستحيل لا وجه له إذ لا يفعل إلا ما يشاء وظاهره أنه حمل النهي على التحريم وهو الظاهر وحمله النووي على كراهة التنزيه وهو أولى ( ليعزم المسألة) قال الداودي أي يجتهد ويلح ولا يقول إن شئت كالمستثنى ولكن دعاء البائس الفقير وكأنه أشار بقوله كالمستثنى إلى أنه إذا قالها على سبيل التبرك لا يمنع وهو جيد قاله الحافظ وقال الباجي أي يخلي سؤاله ودعاءه من لفظ المشيئة لأنها إنما تشترط فيمن يصح أن يفعل دون أن يشاء لإكراه أو غيره فينبغي أن يسأل سؤال من يعلم أنه لا يفعل إلا ما يشاء وقد بين ذلك صلى الله عليه وسلم بقوله ( فإنه) تعالى ( لا مكره له) بكسر الراء.

قال ابن بطال فيه أنه ينبغي للداعي أن يجتهد في الدعاء ويكون على رجاء الإجابة ولا يقنط من الرحمة فإنه يدعو كريما قال ابن عيينة لا يمنعن أحدا الدعاء ما يعلم من نفسه يعني من التقصير فإن الله تعالى قد أجاب دعاء شر خلقه وهو إبليس حين قال رب { { أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ } } وفي الترمذي: وقال غريب عن أبي هريرة مرفوعا ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة واعلموا أن الله لا يستجيب دعاء من قلب غافل لاه قال التوربشتي أي كونوا على حالة تستحقون فيها الإجابة وذلك بإتيان المعروف واجتناب المنكر وغير ذلك من مراعاة أركان الدعاء وآدابه حتى تكون الإجابة على القلب أغلب من الرد أو المراد ادعوه معتقدين وقوع الإجابة لأن الداعي إذا لم يكن متحققا في الرجاء لم يكن رجاؤه صادقا وإذا لم يصدق رجاؤه لم يكن الرجاء خالصا والداعي مخلصا فإن الرجاء هو الباعث على الطلب ولا يتحقق الفرع إلا بتحقق الأصل وهذا الحديث رواه البخاري وأبو داود عن القعنبي عن مالك به وهو في الصحيحين من حديث أنس بنحوه.

( مالك عن ابن شهاب عن أبي عبيد) بضم العين وتنوين الدال واسمه سعد بسكون العين ابن عبيد ثقة من كبار التابعين وقيل له إدراك مات بالمدينة سنة ثمان وتسعين ( مولى ابن أزهر) بفتح الهمزة والهاء بينهما زاي ساكنة آخره راء عبد الرحمن الزهري المدني صحابي صغير ( عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يستجاب لأحدكم ما لم يعجل) بفتح التحتية والجيم بينهما عين ساكنة من الاستجابة بمعنى الإجابة قال الشاعر:

فلم يستجبه عند ذاك مجيب

أي يجاب دعاء كل واحد منكم لأن الاسم المضاف مفيد للعموم على الأصح ( فيقول) بالفاء بيان لقوله ما لم يعجل ( قد دعوت فلم يستجب لي) بضم التحتية وفتح الجيم.
قال الباجي: يحتمل أن يريد بقوله يستجاب الإخبار عن وجوب وقوع الإجابة أي تحقق وقوعها أو الإخبار عن جواز وقوعها فإن أريد الوجوب فهو بأحد ثلاثة أشياء تعجيل ما سأله أو يكفر عنه به أو يدخر له فإذا قال دعوت إلخ بطل وجوب أحد هذه الثلاثة وعرى الدعاء عن جميعها وإن أريد الجواز فيكون الإجابة بفعل ما دعا به ومنعه قوله دعوت فلم يستجب لأنه من ضعف اليقين والتسخط وفي مسلم والترمذي عن أبي هريرة مرفوعا لا يزال يستجاب للعبد ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم وما لم يستعجل قيل وما الاستعجال قال يقول قد دعوت وقد دعوت فلم أر يستجاب لي فيستحسر عند ذلك ويدع الدعاء ويستحسر بمهملات استفعال من حسر إذا أعيا وتعب وتكرار دعوت للاستمرار أي دعوت مرارًا كثيرة قال المظهري من له ملالة من الدعاء لا يقبل دعاؤه لأن الدعاء عبادة حصلت الإجابة أو لم تحصل فلا ينبغي للمؤمن أن يمل من العبادة وتأخير الإجابة إما لأنه لم يأت وقتها وإما لأنه لم يقدر في الأزل قبول دعائه في الدنيا ليعطى عوضه في الآخرة وإما أن يؤخر القبول ليلح ويبالغ في ذلك فإن الله يحب الملحين في الدعاء مع ما في ذلك من الانقياد والاستسلام وإظهار الافتقار ومن يكثر قرع الباب يوشك أن يفتح له ومن يكثر الدعاء يوشك أن يستجاب له.

والحديث رواه البخاري عن عبد الله بن يوسف ومسلم عن يحيى بن يحيى كلاهما عن مالك به.

( مالك عن ابن شهاب عن أبي عبد الله) سلمان بسكون اللام ( الأغر) بفتح الغين المعجمة وشد الراء الجهني مولاهم المدني وأصله من أصبهان ( وعن أبي سلمة بن عبد الرحمن) بن عوف القرشي الزهري ( عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ينزل ربنا) اختلف فيه فالراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا على طريق الإجمال منزهين لله تعالى عن الكيفية والتشبيه ونقله البيهقي وغيره عن الأئمة الأربعة والسفيانين والحمادين والليث والأوزاعي وغيرهم قال البيهقي وهو أسلم ويدل عليه اتفاقهم على أن التأويل المعين لا يجب فحينئذ التفويض أسلم وقال ابن العربي النزول راجع إلى أفعاله لا إلى ذاته بل ذلك عبارة عن ملكه الذي ينزل بأمره ونهيه فالنزول حسي صفة الملك المبعوث بذلك أو معنوي بمعنى لم يفعل ثم فعل فسمي ذلك نزولا عن مرتبة إلى مرتبة فهي عربية صحيحة والحاصل أنه تأوله بوجهين إما أن المعنى ينزل أمره أو الملك وإما أنه استعارة بمعنى التلطف بالداعين والإجابة لهم ونحوه وكذا حكي عن مالك أنه أوله بنزول رحمته وأمره أو ملائكته كما يقال فعل الملك كذا أي أتباعه بأمره لكن قال ابن عبد البر قال قوم ينزل أمره ورحمته وليس بشيء لأن أمره بما يشاء من رحمته ونعمته ينزل بالليل والنهار بلا توقيت ثلث الليل ولا غيره ولو صح ذلك عن مالك لكان معناه أن الأغلب في الاستجابة ذلك الوقت وقال الباجي هو إخبار عن إجابة الداعي وغفرانه للمستغفرين وتنبيه على فضل الوقت كحديث إذا تقرب إلي عبدي شبرًا تقربت إليه ذراعًا الحديث لم يرد قرب المسافة لعدم إمكانه وإنما أراد العمل من العبد ومنه تعالى الإجابة وحكى ابن فورك أن بعض المشايخ ضبطه بضم أوله على حذف المفعول أي ينزل ملكا قال الحافظ ويقويه ما رواه النسائي من طريق الأغر عن أبي هريرة وأبي سعيد أن الله يمهل حتى يمضي شطر الليل ثم يأمر مناديا يقول هل من داع فيستجاب له الحديث وحديث عثمان بن أبي العاص عند أحمد ينادي مناد هل من داع يستجاب له الحديث قال القرطبي وبهذا يرتفع الإشكال ولا يعكر عليه حديث رفاعة الجهني عند النسائي ينزل الله إلى سماء الدنيا فيقول لا أسأل عن عبادي غيري لأنه لا يلزم من إنزاله الملك أن يسأله عن صنع العباد بل يجوز أنه مأمور بالمناداة ولا يسأل البتة عما بعدها فهو أعلم سبحانه بما كان وما يكون انتهى ولك أن تقول الإشكال مدفوع حتى على أنه ينزل بفتح أوله الذي هو الرواية الصحيحة وكل من حديثي النسائي وأحمد يقوي تأويله بأنه من مجاز الحذف أو الاستعارة وقال البيضاوي لما ثبت بالقواطع أنه سبحانه منزه عن الجسمية والتحيز امتنع عليه النزول على معنى الانتقال من موضع إلى موضع أخفض منه فالمراد دنو رحمته أي ينتقل من مقتضى صفة الجلال التي تقتضي الغضب والانتقام إلى مقتضى صفة الإكرام التي تقتضي الرأفة والرحمة ( تبارك وتعالى) جملتان معترضتان بين الفعل وظرفه وهو ( كل ليلة) لما أسند النزول إلى ما لا يليق إسناده حقيقة إليه اعترض بما يدل على التنزيه كقوله تعالى { { وَيَجْعَلُونَ للهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُم مَّا يَشْتَهُونَ } } ( إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر) برفعه صفة ثلث وتخصيصه بالليل وثلثه الآخر لأنه وقت التهجد وغفلة الناس عن التعرض لنفحات رحمة الله وعند ذلك تكون النية خالصة والرغبة إلى الله وافرة وذلك مظنة القبول والإجابة ولم تختلف الروايات عن الزهري في تعيين الوقت واختلف عن أبي هريرة وغيره.

قال الترمذي: رواية أبي هريرة أصح الروايات في ذلك ويقويه أن الروايات المخالفة له اختلف فيها على راويها وانحصرت في ستة هذه، ثانيها: إذا مضى الثلث الأول.
ثالثها: الثلث الأول أو النصف.
رابعها: النصف.
خامسها: الثلث الأخير أو النصف.
سادسها: الإطلاق فجمع بينها بحمل المطلقة على المقيدة، وأما التي بأو فإن كانت للشك فالجزم مقدم على الشك، وإن كانت للتردد بين حالتين فيجمع بأن ذلك يقع بحسب اختلاف الأحوال لأن أوقات الليل تختلف في الزيادة وفي الأوقات باختلاف تقدم الليل عند قوم وتأخره عند قوم أو النزول يقع في الثلث الأول والقول يقع في النصف وفي الثلث الثاني أو يحمل ذلك على وقوعه في جميع الأوقات التي وردت بها الأحاديث ويحمل على أنه صلى الله عليه وسلم أعلم بأحد الأمور في وقت فأخبر به ثم أعلم به في وقت آخر فأخبر به فنقل الصحابة ذلك عنه ( فيقول من يدعوني فأستجيب) أي أجيب ( له) دعاءه فليست السين للطلب ( من يسألني فأعطيه) مسؤوله ( من يستغفرني فأغفر له) ذنوبه بنصب الأفعال الثلاثة في جواب الاستفهام وبالرفع على الاستئناف وبهما قرئ { { مَن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ } } ولم تختلف الروايات عن الزهري في الاقتصار على الثلاثة والفرق بينها أن المطلوب إما رفع المضار أو جلب المسار وذلك إما دنيوي أو ديني ففي الاستغفار إشارة إلى الأول والدعاء إشارة إلى الثاني والسؤال إشارة إلى الثالث وقال الكرماني يحتمل أن الدعاء ما لا طلب فيه والسؤال الطلب ويحتمل أن المقصود واحد وإن اختلف اللفظ انتهى.

وزاد سعيد المقبري عن أبي هريرة هل من تائب فأتوب عليه، وزاد أبو جعفر عنه من ذا الذي يسترزقني فأرزقه من ذا الذي يستكشف الضر فأكشف عنه وزاد عطاء مولى أم صبية بضم الصاد المهملة وموحدة عنه ألا سقيم يستشفي فيشفى رواها النسائي ومعانيها داخلة فيما تقدم وزاد سعيد بن مرجانة عنه من يقرض غير عديم ولا ظلوم رواه مسلم وفيه تحريض على عمل الطاعة وإشارة إلى جزيل ثوابها وزاد حجاج بن أبي منيع عن الزهري عند الدارقطني حتى الفجر وفي رواية يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة حتى يطلع الفجر وعليه اتفق معظم الروايات وللنسائي عن نافع بن جبير عن أبي هريرة حتى تحل الشمس وهي شاذة وفي الحديث تفضيل آخر الليل على أوله وأنه أفضل للدعاء والاستغفار ويشهد له قوله تعالى: { { وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأسْحَارِ } } وأن الدعاء ذلك الوقت مجاب ولا يعترض بتخلفه عن بعض الداعين لأن سببه وقوع الخلل في شرط من شروط الدعاء كالاحتراز في المطعم والمشرب والملبس أو لاستعجال الداعي أو بأن يكون الدعاء بإثم أو قطيعة رحم أو تحصل الإجابة ويتأخر وجود المطلوب لمصلحة العبد أو لأمر يريده الله تعالى هذا وقد حمل المشبهة الحديث وأحاديث التشبيه كلها على ظاهرها تعالى الله عن قولهم وأما المعتزلة والخوارج فأنكروا صحتها جملة وهو مكابرة والعجب أنهم أولوا ما في القرآن من نحو ذلك وأنكروا الأحاديث جهلا أو عنادا ومن العلماء من فرق بين التأويل القريب المستعمل لغة وبين البعيد المهجور فأول في بعض وفوض في بعض وجزم به من المتأخرين ابن دقيق العيد ونقل عن الإمام قال الباجي منع مالك في العتبية التحديث بحديث اهتز العرش لموت سعد بن معاذ وحديث إن الله خلق آدم على صورته وحديث الساق وقال ما يدعو الإنسان إلى أن يحدث به وهو يرى ما فيه من التغرير ولم ير مثله حديث إن الله يضحك وحديث ينزل ربنا فأجاز التحديث بهما قال فيحتمل الفرق بينهما بأن حديث التنزل والضحك أحاديث صحاح لم يطعن في شيء منهما وحديث العرش والصورة والساق لا تبلغ أحاديثها في الصحة درجة التنزل والضحك وبأن التأويل في حديث التنزل أقرب وأبين والعذر بسوء التأويل فيها أبعد انتهى.

وأخرجه البخاري في الصلاة عن القعنبي وفي الدعوات عن عبد العزيز بن عبد الله الأويسي وفي التوحيد عن إسماعيل ومسلم في الصلاة عن يحيى بن يحيى كلهم عن مالك به.

( مالك عن يحيى بن سعيد) الأنصاري ( عن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي) تيم قريش ( أن عائشة أم المؤمنين) قال ابن عبد البر: لم يختلف عن مالك في إرساله وهو مسند من حديث الأعرج عن أبي هريرة عن عائشة ومن حديث عروة عن عائشة من طرق صحاح ثم أخرجه من الوجهين وطريق الأعرج أخرجها مسلم وأبو داود والنسائي من طريق عبيد الله بن عمر عن محمد بن يحيى بن حبان عن الأعرج عن أبي هريرة عن عائشة ( قالت كنت نائمة إلى جنب رسول الله صلى الله عليه وسلم ففقدته) بفتح القاف، وفي رواية افتقدته وهما لغتان بمعنى عدمته ( من الليل) وفي رواية عروة وكان معي على فراشي ( فلمسته بيدي) وفي رواية فالتمسته في البيت وجعلت أطلبه بيدي ( فوضعت يدي على قدميه) زاد في رواية وهما منتصبتان ( وهو ساجد) وفيه أن اللمس بلا لذة لا ينقض الوضوء واحتمال أنه كان فوق حائل خلاف الأصل فسمعته ( يقول) زاد في رواية اللهم إني ( أعوذ برضاك من سخطك) أي بما يرضيك مما يسخطك فخرج عن حظ نفسه بإقامة حرمة محبوبه فهذا لله ثم الذي لنفسه قوله ( وبمعافاتك من عقوبتك) وفي إضافتها كالسخط إليه دليل لأهل السنة على جواز إضافة الشر إليه تعالى كالخير واستعاذ بها بعد استعاذته برضاه لأنه يحتمل أن يرضى من جهة حقوقه ويعاقب على حقوق غيره ( وبك منك) قال عياض: ترق من الأفعال إلى منشئ الأفعال مشاهدة للحق وغيبة عن الخلق الذي هو محض المعرفة الذي لا يعبر عنه قول ولا يضبطه وصف فهو محض التوحيد وقطع الالتفات إلى غيره وإفراده بالاستعانة وغيرها.

قال الخطابي وفيه معنى لطيف لأنه استعاذ بالله وسأله أن يجيره برضاه من سخطه وبمعافاته من عقوبته والرضا والسخط ضدان كالمعافاة والعقوبة فلما ذكر ما لا ضد له وهو الله سبحانه وتعالى استعاذ به منه لا غير ومعناه الاستغفار من التقصير في بلوغ الواجب من عبادته والثناء عليه ولذا قال ( لا أحصي ثناء عليك) قال ابن الأثير: أي لا أبلغ الواجب في الثناء عليك وقال الراغب أي لا أحصل ثناء لعجزي عنه إذ هو نعمة تستدعي شكرًا وهكذا إلى غير نهاية وقيل معناه لا أعد كما في الصحاح لأن معنى الإحصاء العد بالحصى كما قال:

ولست بالأكثر منهم حصى
وإنما العزة للكاثر

وعليه فهو من نفي الملزوم المعبر عنه بالإحصاء المفسر بالعد وإرادة نفي اللازم وهو استيعاب المعدود فكأنه قيل لا أستوعب فالمراد نفي القدرة عن الإتيان بجميع الثناءات أو فرد منها يفي بنعمة من نعمه لا عدها إذ لا يمكن عد أفراد كثيرة من الثناء وقال ابن عبد البر روينا عن مالك أن معناه وإن اجتهدت في الثناء عليك فلن أحصي نعمك ومننك وإحسانك ( أنت) مبتدأ خبره ( كما أثنيت) أي الثناء عليك هو المماثل لثنائك ( على نفسك) ولا قدرة لأحد عليه ويحتمل أن أنت تأكيد للكاف من عليك باستعارة الضمير المنفصل للمتصل، والثناء بتقديم المثلثة والمد الوصف بالجميل على المشهور لغة، واستعماله في الشر مجاز وقال المجد: وصف بمدح أو ذم أو خاص بالمدح.
قال ابن عبد البر فيه دليل على أنه لا يبلغ وصفه وأنه إنما يوصف بما وصف به نفسه انتهى وقال النووي فيه اعتراف بالعجز عن الثناء عليه وأنه لا يقدر على بلوغ حقيقته ورد الثناء إلى الجملة دون التفصيل والتعيين فوكل ذلك إليه سبحانه المحيط بكل شيء جملة وتفصيلا وكما أنه لا نهاية لصفاته لا نهاية للثناء عليه لأن الثناء تابع للمثني عليه فكل شيء أثنى عليه به وإن كثر وطال وبولغ فيه فقدر الله أعظم وسلطانه أعز وصفاته أكثر وأكبر وفضله أوسع وأسبغ.

( مالك عن زياد بن أبي زياد) ميسرة المخزومي مولاهم المدني الثقة العابد قال مالك: كان يلبس الصوف ويكون وحده ولا يجالس أحدًا.
لمالك عنه مرفوعًا هذا الحديث الواحد رواه هنا.
وفي الحج ونسبه فزاد مولى عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة المخزومي ( عن طلحة بن عبيد الله) بضم العين ( بن كريز) بفتح الكاف وكسر الراء وإسكان التحتية وزاي منقوطة الخزاعي أبي المطرف المدني وثقه أحمد والنسائي وروى له مسلم وأصحاب السنن وهو تابعي قال الولي العراقي ووهم من ظنه أحد العشرة قال ابن عبد البر لا خلاف عن مالك في إرساله ولا أحفظه بهذا الإسناد مسندا من وجه يحتج به وقد جاء مسندا من حديث علي وابن عمرو والفضائل لا تحتاج إلى من يحتج به ثم أخرج حديث علي من طريق ابن أبي شيبة وجاء أيضا من حديث أبي هريرة أخرجه هو وحديث ابن عمر والبيهقي في الشعب.

( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أفضل الدعاء) مبتدأ خبره ( دعاء يوم عرفة) قال الباجي: أي أعظمه ثوابًا وأقربه إجابة ويحتمل أن يريد به اليوم ويحتمل أن يريد الحاج خاصة ( وأفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي) ولفظ حديث علي أكثر دعائي ودعاء الأنبياء قبلي بعرفة ( لا إله إلا الله وحده لا شريك له) زاد في حديث أبي هريرة: له الملك وله الحمد يحيي ويميت، بيده الخير وهو على كل شيء قدير.
وكذا في حديث علي لكن ليس فيه بيده الخير وفي حديث ابن عمر ولكن ليس فيه يحيي ويميت وفيه بيده الخير قال ابن عبد البر فيه أن الثناء دعاء وفي المرفوع يقول الله عز وجل من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين وفيه تفضيل الدعاء بعضه على بعض والأيام بعضها على بعض وأن ذلك أفضل الذكر لأنها كلمة الإسلام والتقوى وقال آخرون أفضله الحمد لله رب العالمين لأن فيه معنى الشكر وفيه من الإخلاص ما في لا إله إلا الله وافتتح الله كلامه به وختم به وهو آخر دعوى أهل الجنة وروت كل فرقة بما قالت أحاديث كثيرة وساق جملة منها في التمهيد ووقع في تجريد الصحاح لرزين بن معاوية الأندلسي زيادة في أول هذا الحديث وهي أفضل الأيام يوم عرفة وافق يوم جمعة وهو أفضل من سبعين حجة في غير يوم الجمعة وأفضل الدعاء إلخ وتعقبه الحافظ فقال حديث لا أعرف حاله لأنه لم يذكر صحابيه ولا من خرجه بل أدرجه في حديث الموطأ هذا وليست هذه الزيادة في شيء من الموطآت فإن كان له أصل احتمل أن يراد بالسبعين التحديد أو المبالغة في الكثرة وعلى كل حال منهما ثبتت المزية انتهى وفي الهدي لابن القيم ما استفاض على ألسنة العوام أن وقفة الجمعة تعدل ثنتين وسبعين حجة فباطل لا أصل له عن رسول الله ولا عن أحد من الصحابة والتابعين انتهى.

( مالك عن أبي الزبير) محمد بن مسلم ( المكي) الأسدي مولاهم صدوق وقال ابن معين ثقة وقال أحمد لا بأس به وقال أبو عمر ثقة حافظ متقن.
روى عنه مالك والسفيانان والليث وابن جريج وجماعة من الأئمة لا يلتفت إلى قول شعبة فيه وروى له الجميع مات بمكة سنة ست وعشرين وقيل ثمان وعشرين ومائة ( عن طاوس) بن كيسان ( اليماني) الحضرمي مولاهم الفارسي يقال: اسمه ذكوان وطاوس لقب، ثقة فقيه فاضل مات سنة ست ومائة وقيل بعدها ( عن عبد الله بن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعلمهم هذا الدعاء كما يعلمهم السورة من القرآن) تشبيه في تحفيظ حروفه وترتيب كلماته ومنع الزيادة والنقص منه والدرس له والمحافظة عليه ( يقول اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم) أي عقوبتها والإضافة مجازية أو من إضافة المظروف إلى ظرفه ( وأعوذ بك من عذاب القبر) العذاب اسم للعقوبة والمصدر التعذيب فهو مضاف إلى الفاعل مجازًا أو الإضافة من إضافة المظروف إلى ظرفه على تقدير في أي من عذاب في القبر وفيه رد على من أنكره ( وأعوذ بك من فتنة) امتحان واختبار ( المسيح) بفتح الميم وخفة السين المكسورة وحاء مهملة وصحف من أعجمها يطلق على الدجال وعلى عيسى عليه السلام لكن إذا أريد الأول قيد كما قال ( الدجال) وقال أبو داود: المسيح مثقل الدجال ومخفف عيسى والمشهور الأول، ونقل المستملي عن الفربري عن خلف بن عامر الهمداني أحد الحفاظ المسيح بالتشديد والتخفيف واحد يقال للدجال ولعيسى لا فرق بينهما بمعنى لا اختصاص لأحدهما بأحد الأمرين لقب بذلك لأنه ممسوح العين أو لأن أحد شقي وجهه خلق ممسوحا لا عين فيه ولا حاجب أو لأنه يمسح الأرض إذا خرج وقال الجوهري من خففه فلمسحه الأرض ومن شدد فلأنه ممسوح العين وأما عيسى فقيل لأنه خرج من بطن أمه ممسوحا بالدهن أو لأن زكريا مسحه أو لأنه كان لا يمسح ذا عاهة إلا برئ أو لمسحه الأرض بسباحته أو لأن رجله لا أخمص لها أو للبسه المسوح وقيل هو بالعبرانية ماسح فعرب المسيح وقيل المسيح الصديق ( وأعوذ بك من فتنة المحيا) هي ما يعرض للإنسان مدة حياته من الافتتان بالدنيا والشهوات والجهالات وأعظمها والعياذ بالله أمر الخاتمة عند الموت ( و) فتنة ( الممات) قال الباجي: هي فتنة القبر.
وقال أبو عمر: يحتمل إذا احتضر ويحتمل في القبر أيضًا.
وقال ابن دقيق العيد: يجوز أنها الفتنة عند الموت أضيفت إليه لقربها منه وفتنة المحيا ما قبل ذلك ويجوز أنها فتنة القبر وقد صح إنكم تفتنون في قبوركم مثل أو قريبًا من فتنة الدجال ولا يتكرر مع قوله عذاب القبر لأن العذاب مرتب على الفتنة والسبب غير المسبب وقيل فتنة المحيا الابتلاء مع زوال الصبر والممات السؤال في القبر مع الحيرة وهو من العام بعد الخاص لأن عذاب القبر داخل تحت فتنة الممات وفتنة الدجال داخلة تحت فتنة المحيا وروى الترمذي الحكيم عن سفيان الثوري إن الميت إذا سئل من ربك تراءى له الشيطان فيشير إلى نفسه أنا ربك فلذا ورد سؤال الثبات له حين يسأل ثم روي بسند جيد عن عمرو بن مرة كانوا يستحبون إذا وضع الميت في قبره أن يقولوا اللهم أعذه من الشيطان وفي مسلم عن أبي هريرة مرفوعًا إذا فرغ أحدكم من التشهد الآخر فليتعوذ من أربع من عذاب جهنم ومن عذاب القبر ومن فتنة المحيا والممات ومن شر المسيح الدجال قال الحافظ فهذا يعين أن هذه الاستعاذة بعد الفراغ من التشهد فيكون سابقا على غيره من الأدعية وما ورد أن المصلي يتخير من الدعاء ما شاء يكون بعد هذه الاستعاذة وقبل السلام انتهى وحديث ابن عباس أخرجه مسلم عن قتيبة بن سعيد عن مالك به وقال مسلم بعده بلغني أن طاوسا قال لابنه أدعوت بها في صلاتك قال لا قال أعد صلاتك لأن طاوسا رواه عن ثلاثة أو أربعة وهذا البلاغ أخرجه عبد الرزاق بسند صحيح وهو يدل على أنه يرى وجوبه وبه قال بعض أهل الظاهر.

( مالك عن أبي الزبير) محمد بن مسلم ( المكي عن طاوس اليماني عن عبد الله بن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قام إلى الصلاة من جوف الليل يقول) في موضع نصب خبر كان وقال الطيبي: الظاهر أنه جواب إذا والجملة الشرطية خبر كان وظاهره أنه كان يقول أول ما يقوم إلى الصلاة ولابن خزيمة من طريق قيس بن سعد عن طاوس عن ابن عباس كان صلى الله عليه وسلم إذا قام للتهجد قال بعد ما يكبر ( اللهم لك الحمد) الوصف بالجميل على التفضيل وأل فيه للاستغراق ( أنت نور السموات والأرض) أي منورهما وبك يهتدي من فيهما وقيل معناه أنت المنزه من كل عيب يقال فلان منور أي مبرأ من كل عيب ويقال هو مدح تقول فلان نور البلد أي مزينه ( ولك الحمد أنت قيام) بفتح التحتية المشددة فألف وكذا في رواية قيس بن سعد الحنظلي المكي عند مسلم وأبي داود بزنة فعال صيغة مبالغة وفي رواية سليمان الأحول عن طاوس في الصحيحين قيم وهما والقيوم بمعنى واحد ( السموات والأرض) زاد في رواية ومن فيهن أي أنت الذي تقوم بحفظهما وحفظ من أحاطت به واشتملت عليه تؤتي كلا ما به قوامه وتقوم كل شيء من خلقك بما تراه من تدبيرك وفي البخاري قال مجاهد القيوم القائم على كل شيء وقرأ عمر القيام أي في آية الكرسي وكلاهما مدح أي بخلاف القيم فيستعمل في المدح والذم وقيل القيم القائم بأمور الخلق ومدبر العالم في جميع أحواله ومنه قيم الطفل والقيوم والقيام القائم بنفسه مطلقا لا بغيره ويقوم به كل موجود حتى لا يتصور وجود شيء ولا دوام وجوده إلا به فمن عرف ذلك استراح عن كد التدبير وتعب الاشتغال وعاش براحة التفويض فلا يضن بكريمة ولا يجعل في قلبه للدنيا كثر قيمة.

( ولك الحمد أنت رب السموات والأرض ومن فيهن) عبر بمن تغليبًا للعقلاء على غيرهم فهو رب كل شيء ومليكه وكافله ومغذيه ومصلحه العواد عليه بنعمه وتكرير الحمد للاهتمام بشأنه وليناط به كل مرة معنى آخر وتقديم الجار والمجرور إفادة التخصيص وكأنه لما خص الحمد بالله قيل له لم خصصتني قال لأنك القائم بحفظ المخلوقات إلى غير ذلك.
( أنت الحق) أي المتحقق الوجود الثابت بلا شك فيه قال القرطبي هذا الوصف له سبحانه وتعالى بالحقيقة خاص به لا ينبغي لغيره إذ وجوده بنفسه فلم يسبقه عدم ولا يلحقه عدم بخلاف غيره وقال ابن التين يحتمل أنت الحق بالنسبة إلى من يدعي أنه إله أو بمعنى من سماك إلها فقد قال الحق ( وقولك الحق) أي مدلوله ثابت ( ووعدك الحق) لا يدخله خلف ولا شك في وقوعه وهو من الخاص بعد العام ( ولقاؤك حق) المراد به البعث بعد الموت وهو عبارة عن مآل الخلق في الآخرة بالنسبة إلى الجزاء على الأعمال وقيل معناه رؤيتك في الآخرة حيث لا مانع وقيل الموت قال النووي وهو باطل هنا قال الحافظ وهذا وما بعده داخل تحت الوعد لكن الوعد مصدر وما بعده هو الموعود به ويحتمل أنه من الخاص بعد العام.
( والجنة حق والنار حق) أي كل منهما موجود ( والساعة حق) أي يوم القيامة وأصل الساعة القطعة من الزمان وإطلاق اسم الحق على ما ذكر من الأمور معناه أنه لا بد من كونها وأنها مما يجب أن يصدق بها وتكرار لفظ حق مبالغة في التأكيد زاد في رواية سليمان عن طاوس عند الشيخين والنبيون حق ومحمد حق وعرف الحق في الثلاثة الأول قال الطيبي للحصر لأن الله هو الحق الثابت وما سواه في معرض الزوال قال لبيد:

ألا كل شيء ما خلا الله باطل

وكذا قوله: وكذا وعده مختص بالإنجاز دون وعد غيره والتنكير في البواقي للتعظيم.

وقال السهيلي التعريف للدلالة على أنه المستحق لهذا الاسم بالحقيقة إذ هو مقتضى الأداة وكذا قوله ووعده لأن وعده كلامه وتركت في البواقي لأنها أمور محدثة والمحدث لا يجب له البقاء من جهة ذاته وبقاء ما يدوم منه علم مخبر الصادق لا من جهة استحالة فنائه قال الطيبي وهنا سر دقيق وهو أنه صلى الله عليه وسلم لما نظر إلى المقام الإلهي ومقربي حضرة الربوبية عظم شأنه وفخم منزلته حيث ذكر النبيين وعرفها بلام الاستغراق ثم خص محمدا صلى الله عليه وسلم من بينهم وعطفه عليهم إيذانا بالتغاير وأنه فائق عليهم بأوصاف مختصة به فإن تغاير الوصف بمنزلة التغاير في الذات ثم حكم عليه استقلالا بأنه حق وجرده عن ذاته كأنه غيره وأوجب عليه تصديقه ولما رجع إلى مقام العبودية ونظر إلى افتقار نفسه نادى بلسان الاضطرار في مطاوي الانكسار فقال:

( اللهم لك أسلمت) انقدت وخضعت لأمرك ونهيك ( وبك آمنت) أي صدقت ( وعليك توكلت) أي فوضت أموري تاركًا النظر في الأسباب العادية ( وإليك أنبت) رجعت إليك مقبلاً بقلبي عليك ( وبك) أي بما أعطيتني من البرهان وبما لقنتني من الحجة ( خاصمت) من خاصمني من الكفار أو بتأييدك ونصرك قاتلت ( وإليك حاكمت) كل من جحد الحق وما أرسلتني به لا إلى من كانت الجاهلية تتحاكم إليه من كاهن ونحوه وقدم جميع صلات هذه الأفعال عليها إشعارًا بالتخصيص وإفادة للحصر وكذا قوله ولك الحمد.
( فاغفر لي ما قدمت) قبل هذا الوقت ( وأخرت) عنه ( وأسررت) أخفيت ( وأعلنت) أظهرت أو ما حدثت به نفسي وما تحرك به لساني زاد في رواية للبخاري وما أنت أعلم به مني وهو من العام بعد الخاص وقال ذلك مع أنه مغفور له إما تواضعا وهضما لنفسه وإجلالا وتعظيما لربه أو تعليمًا لأمته ليقتدى به قال الحافظ كذا قيل والأولى أنه لمجموع ذلك إذ لو كان للتعليم فقط لكفي فيه أمرهم بأن يقولوا زاد في رواية سليمان عن طاوس أنت المقدم والمؤخر أي المقدم لي في البعث يوم القيامة والمؤخر لي في البعث في الدنيا.

( أنت إلهي لا إله إلا أنت) زاد في رواية للبخاري: ولا حول ولا قوة إلا بالله.
قال الكرماني: هذا الحديث من جوامع الكلم لأن لفظ القيم إشارة إلى أن وجود الجواهر وقوامها منه والنور إلى أن الأعراض أيضا منه والملك إلى أنه حاكم عليها إيجادا وعدما يفعل ما يشاء وكل ذلك من نعمه على عباده فلذا قرن كلا منها بالحمد وخصص الحمد به ثم قوله أنت الحق إشارة إلى المبتدأ والقول ونحوه إلى المعاش والساعة ونحوها إشارة إلى المعاد وفيه الإشارة إلى النبوة وإلى الجزاء ثوابا وعقابا ووجوب الإيمان به والإسلام والتوكل والإنابة والتضرع إلى الله والخضوع له انتهى وفيه زيادة معرفته صلى الله عليه وسلم بعظمة ربه وعظيم قدرته ومواظبته على الذكر والدعاء والثناء على ربه والاعتراف لله بحقوقه والإقرار بصدق وعده.

وأخرجه مسلم في الصلاة عن قتيبة بن سعيد والترمذي في الدعوات من طريق معن كليهما عن مالك به وله طرق في الصحيحين وغيرهما.

( مالك عن عبد الله بن عبد الله بن جابر) وقيل جبر ( بن عتيك) بفتح العين المهملة وكسر الفوقية وإسكان التحتية وكاف الأنصاري المدني تابعي صغير من الثقات ( أنه قال جاءنا عبد الله بن عمر) بن الخطاب هكذا رواه يحيى وطائفة لم يجعلوا بين عبد الله شيخ مالك وبين ابن عمر أحدًا.
ومنهم من أدخل بينهما عتيك بن الحارث بن عتيك، وهي رواية ابن القاسم ومنهم من جعل بينهما جابر بن عتيك وهي رواية القعنبي ومطرف قال ابن عبد البر ورواية يحيى أولى بالصواب ( في بني معاوية وهي قرية من قرى الأنصار) بالمدينة والنسبة إليها المعاوي بضم الميم ( فقال) زاد في رواية ابن وضاح لي ( هل تدرون أين صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من مسجدكم هذا) لأصلي فيه وأتبرك به لأنه كان حريصًا على اقتفاء آثاره ( فقلت له نعم وأشرت له إلى ناحية منه) من المسجد ( فقال لي هل تدري ما الثلاث) دعوات ( التي دعا بهن فيه فقلت نعم) فيه طرح العالم المسألة على من دونه ليعلم ما عنده ( قال فأخبرني بهن فقلت دعا بأن لا يظهر) الله ( عليهم عدوا من غيرهم) أي من غير المؤمنين يعني يستأصل جميعهم ( ولا يهلكهم بالسنين) أي بالمحل والجدب والجوع ( فأعطيهما) بالبناء للمفعول ( ودعا بأن لا يجعل بأسهم بينهم) أي الحرب والفتن والاختلاف ( فمنعها قال صدقت) يدل على أنه كان يعلم ما سأله عنه ( قال ابن عمر فلن يزال الهرج) بفتح الهاء وسكون الراء وبالجيم القتل ( إلى يوم القيامة) قضاء نافذ من الله ففي مسلم عن ثوبان رفعه: إن الله زوى لي مشارق الأرض ومغاربها وسيبلغ ملك أمتي ما زوى لي منها الحديث، وفيه: وإني سألت الله أن لا يهلك أمتي بسنة عامة ولا يسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم وأن لا يلبسهم شيعا ويذيق بعضهم بأس بعض فقال يا محمد إني إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد وإني أعطيتك لأمتك أن لا أهلكهم بسنة عامة وأن لا أسلط عليهم عدوا من غيرهم ولو اجتمع عليهم من بين أقطارها حتى يكون بعضهم يهلك بعضًا.

قال ابن عبد البر: دعا صلى الله عليه وسلم في مسجد الفتح يوم الإثنين ويوم الثلاثاء ويوم الأربعاء فاستجيب له يوم الأربعاء بين الصلاتين فعرف البشر في وجهه قال جابر فما نزل بي أمر يهمني إلا توخيت تلك الساعة فأعرف الإجابة.

( مالك عن زيد بن أسلم أنه كان يقول ما من داع يدعو إلا كان بين إحدى ثلاث إما أن يستجاب له) بعين ما سأل ( وإما أن يدخر له) يوم القيامة ( وإما أن يكفر عنه) من الذنوب في نظير دعائه.
قال ابن عبد البر: هذا لا يكون رأيًا بل توقيف وهو خبر محفوظ عن النبي صلى الله عليه وسلم ثم أخرج عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال دعاء المسلم بين إحدى ثلاث إما أن يعطى مسألته التي سأل أو يرفع بها درجة أو يحط بها عنه خطيئة ما لم يدع بقطيعة رحم أو مأثم أو يستعجل قال وأخرج ابن جرير وابن أبي شيبة عن أبي سعيد قال صلى الله عليه وسلم إن دعوة المسلم لا ترد ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم إما أن تعجل له في الدنيا وإما أن تدخر له في الآخرة وإما أن يصرف عنه من السوء بقدر ما دعاه وهذا من التفسير المسند لقوله تعالى: { { ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ } } فهذه كلمة استجابة والله تعالى لا تنقضي حكمته ولذا لا تقع الإجابة في كل دعوة { { وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ } } وفي الحديث إن الله ليبتلي العبد وهو يحبه ليسمع تضرعه انتهى.



رقم الحديث 507 وَحَدَّثَنِي عَنْ مالِكٍ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْأَغَرِّ، وَعَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: يَنْزِلُ رَبُّنَا، تَبَارَكَ وَتَعَالَى، كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا.
حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الْآخِرُ، فَيَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ؟ مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ؟ مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ؟.


( مالك عن أبي الزناد) عبد الله بن ذكوان ( عن الأعرج) عبد الرحمن بن هرمز ( عن أبي هريرة) عبد الرحمن بن صخر أو عمرو بن عامر ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لكل نبي دعوة) مستجابة ( يدعو بها) بهذه الدعوة مقطوع فيها بالإجابة وما عداها على رجاء الإجابة على غير يقين ولا وعد وبهذا أجيب عن إشكال ظاهره بما وقع لكثير من الأنبياء من الدعوات المجابة ولا سيما نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وبأن معناه أفضل دعوات كل نبي ولهم دعوات أخرى وبأن معناه لكل منهم دعوة عامة مستجابة في أمته إما بإهلاكهم وإما بنجاتهم وأما الدعوات الخاصة فمنها ما يستجاب ومنها ما لا يستجاب وقيل لكل منهم دعوة تخصه لدنياه أو لنفسه كقول نوح: { { رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا } } وقول زكريا: { { رب هب لي من لدنك وليا } } وقول سليمان: { { رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لاَّ يَنبَغِي لأحَدٍ مِّن بَعْدِي } } حكاه ابن التين.

وقال ابن عبد البر: معناه عندي أن كل نبي أعطي أمنية يتمنى بها لأنه محال أن يكون نبينا أو غيره من الأنبياء لا يجاب من دعائه إلا دعوة واحدة وما يكاد أحد يخلو من إجابة دعوته إذا شاء ربه قال تعالى: { { فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ } } وقال صلى الله عليه وسلم: دعوة المظلوم لا ترد ولو كانت من كافر.
وقال عليه السلام: ما من داع إلا كان بين إحدى ثلاث إما أن يستجاب له فيما دعا وإما أن يدخر له مثله وإما أن يكفر عنه وجاء في ساعة الجمعة لا يسأل فيها عبد ربه شيئا إلا أعطاه وقال في الدعاء بين الأذان والإقامة وعند الصف في سبيل الله وعند الغيث وغير ذلك أنها أوقات ترجى فيها إجابة الدعاء ( فأريد أن أختبئ) بسكون المعجمة وفتح الفوقية وكسر الموحدة، فهمزة أي أدخر ( دعوتي) المقطوع بإجابتها ( شفاعة لأمتي في الآخرة) في أهم أوقات حاجتهم ففيه كمال شفقته على أمته ورأفته بهم واعتناؤه بالنظر في مصالحهم جزاه الله عنا أفضل ما جزى نبيًا عن أمته.

قال ابن بطال في الحديث بيان فضيلة نبينا على سائر الأنبياء حيث آثر أمته على نفسه وأهل بيته بدعوته المجابة ولم يجعلها أيضًا دعاء عليهم كما وقع لغيره ممن تقدم وقال ابن الجوزي هذا من حسن تصرفه صلى الله عليه وسلم لأنه جعل الدعوة فيما ينبغي ومن كثرة كرمه لأنه آثر أمته على نفسه ومن صحة نظره لأنه جعلها للمذنبين من أمته لكونهم أحوج إليها من الطائعين هذا وقول بعض شراح المصابيح جميع دعوات الأنبياء مجابة والمراد بهذا الحديث أن كل نبي دعا على أمته بالإهلاك إلا أنا فلم أدع فأعطيت الشفاعة عوضا عن ذلك للصبر على أذاهم والمراد بالأمة أمة الدعوة لا أمة الإجابة تعقبه الطيبي بأنه صلى الله عليه وسلم دعا على أحياء العرب وعلى أناس من قريش بأسمائهم ودعا على رعل وذكوان ومضر قال والأولى أن يقال جعل الله لكل نبي دعوة تستجاب في حق أمته فنالها كل منهم في الدنيا وأما نبينا فإنه لما دعا على بعض أمته نزل عليه { { لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ } } فأبقى تلك الدعوة المستجابة مدخرة للآخرة وغالب من دعا عليهم لم يرد إهلاكهم وإنما أراد ردعهم ليتوبوا قال وأما جزمه أولا بأن جميع أدعية الأنبياء مجابة فغفلة عن الحديث سألت الله ثلاثا فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة الحديث انتهى وفيه إثبات الشفاعة.

قال ابن عبد البر: وهي ركن من أركان اعتقاد أهل السنة قال: وأجمعوا على أن قوله تعالى: { { عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا } } هو الشفاعة في المذنبين من أمته إلا ما روي عن مجاهد أنه جلوسه على العرش وروى عنه كالجماعة فصار إجماعا وقد صح نصا عن النبي صلى الله عليه وسلم وأحاديث الشفاعة متواترة صحاح منها شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي وقال جابر من لم يكن من أهل الكبائر فما له وللشفاعة ولا ينازع في ذلك إلا أهل البدع انتهى.

وهذا الحديث رواه البخاري في الدعوات حدثني إسماعيل قال: حدثني مالك به.
ومسلم من طريق ابن وهب عن مالك عن ابن شهاب عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة مرفوعًا به فلمالك فيه إسنادان.

( مالك عن يحيى بن سعيد أنه بلغه) قال أبو عمر: لم تختلف الرواة عن مالك في سنده ولا في متنه ورواه أبو شيبة عن أبي خالد الأحمر عن يحيى بن سعيد عن مسلم بن يسار ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو فيقول) وهو مرسل فمسلم تابعي ( اللهم فالق الإصباح) قال الباجي: أي خلقه وابتدأه وأظهره ( وجاعل الليل سكنًا) أي يسكن فيه قال الباجي: الجعل لغة الخلق والحكم والتسمية فإذا تعدى إلى مفعول واحد فهو بمعنى الخلق كقوله { { وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ } } وإلى مفعولين فيكون بمعنى الحكم والتسمية نحو: { { وَجَعَلُوا الْمَلاَئِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا } } وبمعنى الخلق كقولهم: الحمد لله الذي جعلني مسلمًا فقوله: ( وجاعل الليل سكنا) يحتمل الوجهين ( والشمس والقمر حسبانًا) قال أبو عمر: أي حسابًا أي بحساب معلوم وقد يكون جمع حساب كشهاب وشهبان وقال الباجي: أي يحسب بهما الأيام والشهور والأعوام قال تعالى: { { هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ } } ( اقض عني الدين) قال ابن عبد البر: الأظهر فيه ديون الناس ويدخل في ذلك ديون الله تعالى وفي الحديث دين الله أحق أن يقضى ( واغنني من الفقر) لأنه بئس الضجيع وهذا الفقر هو الذي لا يدرك معه القوت وقد أغناه الله تعالى كما قال: { { وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى } } ولم يكن غناه أكثر من اتخاذ قوت سنة لنفسه وعياله والغنى كله في قلبه ثقة بربه وقال: اللهم ارزق آل محمد قوتًا ولم يرد بهم إلا الأفضل وقال ما قل وكفى خير مما كثر وألهى وكان يستعيذ من فقر مبئس وغنى مطغ ويستعيذ من فتنة الغنى والفقر وقال: اللهم أحيني مسكينًا وأمتني مسكينًا واحشرني في زمرة المساكين ولا تجعلني جبارًا شقيًا.
والمسكين هنا المتواضع لا السائل لأنه صلى الله عليه وسلم كره السؤال ونهى عنه وحرمه على من يجد ما يغديه ويعشيه والآثار في هذا كثيرة وربما ظهر في بعضها تعارض وبهذا التأويل تتقارب معانيها فمن آتاه الله سعة وجب شكره عليها ومن ابتلي بالفقر وجب عليه الصبر إلا أن الفرائض تتوجه على الغني وهي ساقطة عن الفقير وللقيام بها فضل عظيم وللصبر على الفقر ثواب جسيم { { إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } } وخير الأمور أوساطها أشار له أبو عمر.

وقال أبو عبد الملك قيل أراد فقر النفس وقيل الفقر من الحسنات وقيل الفقر من المال الذي يخشى على صاحبه إذا استولى عليه نسيان الفرائض وذكر الله وجاء في الأثر اللهم إني أعوذ بك من فقر ينسيني وغنى يطغيني وهذا التأويل يدل على أن الكفاف أفضل من الفقر والغنى لأنهما بليتان يختبر الله بهما عباده.
( وأمتعني بسمعي) لما فيه من التنعم بالذكر وسماع ما يسر ( وبصري) لما فيه من رؤية مخلوقات الله والتدبر فيها وغير ذلك وفيه لغيره تلاوة القرآن في المصحف ( و) أمتعني ( بقوتي) بفوقية قبل الياء واحدة القوي ويروى وقوني بنون بدل الفوقية قال ابن عبد البر والأول أكثر عند الرواة ( في سبيلك) قال الباجي يحتمل أن يريد الجهاد وأن يريد جميع أعمال البر من تبليغ الرسالة وغيرها فذلك كله سبيل الله وقد قال مالك من قال مالي في سبيل الله سبل الله تعالى كثيرة ولكن يوضع في الغزو فخصه بالعرف قال ابن عبد البر ولا يعارض هذا ما جاء عن الله تعالى إذا أخذت كريمتي عبدي فصبر واحتسب لم يكن له جزاء إلا الجنة لأن هذا من الفرائض والحض على الصبر بعد الوقوع فلا ينافي الدعاء بالإمتاع قبل وقوعه لأنه أقرب إلى الشكر قال مطرف بن الشخير لأن أعافى فأشكر أحب إلي من أن ابتلى فأصبر.
( مالك عن أبي الزناد) بكسر الزاي ( عن الأعرج) عبد الرحمن بن هرمز ( عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا يقل أحدكم إذا دعا) طلب من الله ( اللهم اغفر لي إن شئت اللهم ارحمني إن شئت) زاد في رواية همام عن أبي هريرة عند البخاري: اللهم ارزقني إن شئت لأن التعليق بالمشيئة إنما يحتاج إليه إذا كان المطلوب منه يتأتى إكراهه على الشيء فيخفف الأمر عليه ويعلمه بأنه لا يطلب منه ذلك الشيء إلا برضاه والله تعالى منزه عن ذلك فلا فائدة للتعليق وقيل لأن فيه صورة الاستغناء عن المطلوب والمطلوب منه والأول أولى قال ابن عبد البر لا يجوز لأحد أن يقول اللهم أعطني إن شئت وغير ذلك من أمور الدين والدنيا لأنه كلام مستحيل لا وجه له إذ لا يفعل إلا ما يشاء وظاهره أنه حمل النهي على التحريم وهو الظاهر وحمله النووي على كراهة التنزيه وهو أولى ( ليعزم المسألة) قال الداودي أي يجتهد ويلح ولا يقول إن شئت كالمستثنى ولكن دعاء البائس الفقير وكأنه أشار بقوله كالمستثنى إلى أنه إذا قالها على سبيل التبرك لا يمنع وهو جيد قاله الحافظ وقال الباجي أي يخلي سؤاله ودعاءه من لفظ المشيئة لأنها إنما تشترط فيمن يصح أن يفعل دون أن يشاء لإكراه أو غيره فينبغي أن يسأل سؤال من يعلم أنه لا يفعل إلا ما يشاء وقد بين ذلك صلى الله عليه وسلم بقوله ( فإنه) تعالى ( لا مكره له) بكسر الراء.

قال ابن بطال فيه أنه ينبغي للداعي أن يجتهد في الدعاء ويكون على رجاء الإجابة ولا يقنط من الرحمة فإنه يدعو كريما قال ابن عيينة لا يمنعن أحدا الدعاء ما يعلم من نفسه يعني من التقصير فإن الله تعالى قد أجاب دعاء شر خلقه وهو إبليس حين قال رب { { أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ } } وفي الترمذي: وقال غريب عن أبي هريرة مرفوعا ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة واعلموا أن الله لا يستجيب دعاء من قلب غافل لاه قال التوربشتي أي كونوا على حالة تستحقون فيها الإجابة وذلك بإتيان المعروف واجتناب المنكر وغير ذلك من مراعاة أركان الدعاء وآدابه حتى تكون الإجابة على القلب أغلب من الرد أو المراد ادعوه معتقدين وقوع الإجابة لأن الداعي إذا لم يكن متحققا في الرجاء لم يكن رجاؤه صادقا وإذا لم يصدق رجاؤه لم يكن الرجاء خالصا والداعي مخلصا فإن الرجاء هو الباعث على الطلب ولا يتحقق الفرع إلا بتحقق الأصل وهذا الحديث رواه البخاري وأبو داود عن القعنبي عن مالك به وهو في الصحيحين من حديث أنس بنحوه.

( مالك عن ابن شهاب عن أبي عبيد) بضم العين وتنوين الدال واسمه سعد بسكون العين ابن عبيد ثقة من كبار التابعين وقيل له إدراك مات بالمدينة سنة ثمان وتسعين ( مولى ابن أزهر) بفتح الهمزة والهاء بينهما زاي ساكنة آخره راء عبد الرحمن الزهري المدني صحابي صغير ( عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يستجاب لأحدكم ما لم يعجل) بفتح التحتية والجيم بينهما عين ساكنة من الاستجابة بمعنى الإجابة قال الشاعر:

فلم يستجبه عند ذاك مجيب

أي يجاب دعاء كل واحد منكم لأن الاسم المضاف مفيد للعموم على الأصح ( فيقول) بالفاء بيان لقوله ما لم يعجل ( قد دعوت فلم يستجب لي) بضم التحتية وفتح الجيم.
قال الباجي: يحتمل أن يريد بقوله يستجاب الإخبار عن وجوب وقوع الإجابة أي تحقق وقوعها أو الإخبار عن جواز وقوعها فإن أريد الوجوب فهو بأحد ثلاثة أشياء تعجيل ما سأله أو يكفر عنه به أو يدخر له فإذا قال دعوت إلخ بطل وجوب أحد هذه الثلاثة وعرى الدعاء عن جميعها وإن أريد الجواز فيكون الإجابة بفعل ما دعا به ومنعه قوله دعوت فلم يستجب لأنه من ضعف اليقين والتسخط وفي مسلم والترمذي عن أبي هريرة مرفوعا لا يزال يستجاب للعبد ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم وما لم يستعجل قيل وما الاستعجال قال يقول قد دعوت وقد دعوت فلم أر يستجاب لي فيستحسر عند ذلك ويدع الدعاء ويستحسر بمهملات استفعال من حسر إذا أعيا وتعب وتكرار دعوت للاستمرار أي دعوت مرارًا كثيرة قال المظهري من له ملالة من الدعاء لا يقبل دعاؤه لأن الدعاء عبادة حصلت الإجابة أو لم تحصل فلا ينبغي للمؤمن أن يمل من العبادة وتأخير الإجابة إما لأنه لم يأت وقتها وإما لأنه لم يقدر في الأزل قبول دعائه في الدنيا ليعطى عوضه في الآخرة وإما أن يؤخر القبول ليلح ويبالغ في ذلك فإن الله يحب الملحين في الدعاء مع ما في ذلك من الانقياد والاستسلام وإظهار الافتقار ومن يكثر قرع الباب يوشك أن يفتح له ومن يكثر الدعاء يوشك أن يستجاب له.

والحديث رواه البخاري عن عبد الله بن يوسف ومسلم عن يحيى بن يحيى كلاهما عن مالك به.

( مالك عن ابن شهاب عن أبي عبد الله) سلمان بسكون اللام ( الأغر) بفتح الغين المعجمة وشد الراء الجهني مولاهم المدني وأصله من أصبهان ( وعن أبي سلمة بن عبد الرحمن) بن عوف القرشي الزهري ( عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ينزل ربنا) اختلف فيه فالراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا على طريق الإجمال منزهين لله تعالى عن الكيفية والتشبيه ونقله البيهقي وغيره عن الأئمة الأربعة والسفيانين والحمادين والليث والأوزاعي وغيرهم قال البيهقي وهو أسلم ويدل عليه اتفاقهم على أن التأويل المعين لا يجب فحينئذ التفويض أسلم وقال ابن العربي النزول راجع إلى أفعاله لا إلى ذاته بل ذلك عبارة عن ملكه الذي ينزل بأمره ونهيه فالنزول حسي صفة الملك المبعوث بذلك أو معنوي بمعنى لم يفعل ثم فعل فسمي ذلك نزولا عن مرتبة إلى مرتبة فهي عربية صحيحة والحاصل أنه تأوله بوجهين إما أن المعنى ينزل أمره أو الملك وإما أنه استعارة بمعنى التلطف بالداعين والإجابة لهم ونحوه وكذا حكي عن مالك أنه أوله بنزول رحمته وأمره أو ملائكته كما يقال فعل الملك كذا أي أتباعه بأمره لكن قال ابن عبد البر قال قوم ينزل أمره ورحمته وليس بشيء لأن أمره بما يشاء من رحمته ونعمته ينزل بالليل والنهار بلا توقيت ثلث الليل ولا غيره ولو صح ذلك عن مالك لكان معناه أن الأغلب في الاستجابة ذلك الوقت وقال الباجي هو إخبار عن إجابة الداعي وغفرانه للمستغفرين وتنبيه على فضل الوقت كحديث إذا تقرب إلي عبدي شبرًا تقربت إليه ذراعًا الحديث لم يرد قرب المسافة لعدم إمكانه وإنما أراد العمل من العبد ومنه تعالى الإجابة وحكى ابن فورك أن بعض المشايخ ضبطه بضم أوله على حذف المفعول أي ينزل ملكا قال الحافظ ويقويه ما رواه النسائي من طريق الأغر عن أبي هريرة وأبي سعيد أن الله يمهل حتى يمضي شطر الليل ثم يأمر مناديا يقول هل من داع فيستجاب له الحديث وحديث عثمان بن أبي العاص عند أحمد ينادي مناد هل من داع يستجاب له الحديث قال القرطبي وبهذا يرتفع الإشكال ولا يعكر عليه حديث رفاعة الجهني عند النسائي ينزل الله إلى سماء الدنيا فيقول لا أسأل عن عبادي غيري لأنه لا يلزم من إنزاله الملك أن يسأله عن صنع العباد بل يجوز أنه مأمور بالمناداة ولا يسأل البتة عما بعدها فهو أعلم سبحانه بما كان وما يكون انتهى ولك أن تقول الإشكال مدفوع حتى على أنه ينزل بفتح أوله الذي هو الرواية الصحيحة وكل من حديثي النسائي وأحمد يقوي تأويله بأنه من مجاز الحذف أو الاستعارة وقال البيضاوي لما ثبت بالقواطع أنه سبحانه منزه عن الجسمية والتحيز امتنع عليه النزول على معنى الانتقال من موضع إلى موضع أخفض منه فالمراد دنو رحمته أي ينتقل من مقتضى صفة الجلال التي تقتضي الغضب والانتقام إلى مقتضى صفة الإكرام التي تقتضي الرأفة والرحمة ( تبارك وتعالى) جملتان معترضتان بين الفعل وظرفه وهو ( كل ليلة) لما أسند النزول إلى ما لا يليق إسناده حقيقة إليه اعترض بما يدل على التنزيه كقوله تعالى { { وَيَجْعَلُونَ للهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُم مَّا يَشْتَهُونَ } } ( إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر) برفعه صفة ثلث وتخصيصه بالليل وثلثه الآخر لأنه وقت التهجد وغفلة الناس عن التعرض لنفحات رحمة الله وعند ذلك تكون النية خالصة والرغبة إلى الله وافرة وذلك مظنة القبول والإجابة ولم تختلف الروايات عن الزهري في تعيين الوقت واختلف عن أبي هريرة وغيره.

قال الترمذي: رواية أبي هريرة أصح الروايات في ذلك ويقويه أن الروايات المخالفة له اختلف فيها على راويها وانحصرت في ستة هذه، ثانيها: إذا مضى الثلث الأول.
ثالثها: الثلث الأول أو النصف.
رابعها: النصف.
خامسها: الثلث الأخير أو النصف.
سادسها: الإطلاق فجمع بينها بحمل المطلقة على المقيدة، وأما التي بأو فإن كانت للشك فالجزم مقدم على الشك، وإن كانت للتردد بين حالتين فيجمع بأن ذلك يقع بحسب اختلاف الأحوال لأن أوقات الليل تختلف في الزيادة وفي الأوقات باختلاف تقدم الليل عند قوم وتأخره عند قوم أو النزول يقع في الثلث الأول والقول يقع في النصف وفي الثلث الثاني أو يحمل ذلك على وقوعه في جميع الأوقات التي وردت بها الأحاديث ويحمل على أنه صلى الله عليه وسلم أعلم بأحد الأمور في وقت فأخبر به ثم أعلم به في وقت آخر فأخبر به فنقل الصحابة ذلك عنه ( فيقول من يدعوني فأستجيب) أي أجيب ( له) دعاءه فليست السين للطلب ( من يسألني فأعطيه) مسؤوله ( من يستغفرني فأغفر له) ذنوبه بنصب الأفعال الثلاثة في جواب الاستفهام وبالرفع على الاستئناف وبهما قرئ { { مَن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ } } ولم تختلف الروايات عن الزهري في الاقتصار على الثلاثة والفرق بينها أن المطلوب إما رفع المضار أو جلب المسار وذلك إما دنيوي أو ديني ففي الاستغفار إشارة إلى الأول والدعاء إشارة إلى الثاني والسؤال إشارة إلى الثالث وقال الكرماني يحتمل أن الدعاء ما لا طلب فيه والسؤال الطلب ويحتمل أن المقصود واحد وإن اختلف اللفظ انتهى.

وزاد سعيد المقبري عن أبي هريرة هل من تائب فأتوب عليه، وزاد أبو جعفر عنه من ذا الذي يسترزقني فأرزقه من ذا الذي يستكشف الضر فأكشف عنه وزاد عطاء مولى أم صبية بضم الصاد المهملة وموحدة عنه ألا سقيم يستشفي فيشفى رواها النسائي ومعانيها داخلة فيما تقدم وزاد سعيد بن مرجانة عنه من يقرض غير عديم ولا ظلوم رواه مسلم وفيه تحريض على عمل الطاعة وإشارة إلى جزيل ثوابها وزاد حجاج بن أبي منيع عن الزهري عند الدارقطني حتى الفجر وفي رواية يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة حتى يطلع الفجر وعليه اتفق معظم الروايات وللنسائي عن نافع بن جبير عن أبي هريرة حتى تحل الشمس وهي شاذة وفي الحديث تفضيل آخر الليل على أوله وأنه أفضل للدعاء والاستغفار ويشهد له قوله تعالى: { { وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأسْحَارِ } } وأن الدعاء ذلك الوقت مجاب ولا يعترض بتخلفه عن بعض الداعين لأن سببه وقوع الخلل في شرط من شروط الدعاء كالاحتراز في المطعم والمشرب والملبس أو لاستعجال الداعي أو بأن يكون الدعاء بإثم أو قطيعة رحم أو تحصل الإجابة ويتأخر وجود المطلوب لمصلحة العبد أو لأمر يريده الله تعالى هذا وقد حمل المشبهة الحديث وأحاديث التشبيه كلها على ظاهرها تعالى الله عن قولهم وأما المعتزلة والخوارج فأنكروا صحتها جملة وهو مكابرة والعجب أنهم أولوا ما في القرآن من نحو ذلك وأنكروا الأحاديث جهلا أو عنادا ومن العلماء من فرق بين التأويل القريب المستعمل لغة وبين البعيد المهجور فأول في بعض وفوض في بعض وجزم به من المتأخرين ابن دقيق العيد ونقل عن الإمام قال الباجي منع مالك في العتبية التحديث بحديث اهتز العرش لموت سعد بن معاذ وحديث إن الله خلق آدم على صورته وحديث الساق وقال ما يدعو الإنسان إلى أن يحدث به وهو يرى ما فيه من التغرير ولم ير مثله حديث إن الله يضحك وحديث ينزل ربنا فأجاز التحديث بهما قال فيحتمل الفرق بينهما بأن حديث التنزل والضحك أحاديث صحاح لم يطعن في شيء منهما وحديث العرش والصورة والساق لا تبلغ أحاديثها في الصحة درجة التنزل والضحك وبأن التأويل في حديث التنزل أقرب وأبين والعذر بسوء التأويل فيها أبعد انتهى.

وأخرجه البخاري في الصلاة عن القعنبي وفي الدعوات عن عبد العزيز بن عبد الله الأويسي وفي التوحيد عن إسماعيل ومسلم في الصلاة عن يحيى بن يحيى كلهم عن مالك به.

( مالك عن يحيى بن سعيد) الأنصاري ( عن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي) تيم قريش ( أن عائشة أم المؤمنين) قال ابن عبد البر: لم يختلف عن مالك في إرساله وهو مسند من حديث الأعرج عن أبي هريرة عن عائشة ومن حديث عروة عن عائشة من طرق صحاح ثم أخرجه من الوجهين وطريق الأعرج أخرجها مسلم وأبو داود والنسائي من طريق عبيد الله بن عمر عن محمد بن يحيى بن حبان عن الأعرج عن أبي هريرة عن عائشة ( قالت كنت نائمة إلى جنب رسول الله صلى الله عليه وسلم ففقدته) بفتح القاف، وفي رواية افتقدته وهما لغتان بمعنى عدمته ( من الليل) وفي رواية عروة وكان معي على فراشي ( فلمسته بيدي) وفي رواية فالتمسته في البيت وجعلت أطلبه بيدي ( فوضعت يدي على قدميه) زاد في رواية وهما منتصبتان ( وهو ساجد) وفيه أن اللمس بلا لذة لا ينقض الوضوء واحتمال أنه كان فوق حائل خلاف الأصل فسمعته ( يقول) زاد في رواية اللهم إني ( أعوذ برضاك من سخطك) أي بما يرضيك مما يسخطك فخرج عن حظ نفسه بإقامة حرمة محبوبه فهذا لله ثم الذي لنفسه قوله ( وبمعافاتك من عقوبتك) وفي إضافتها كالسخط إليه دليل لأهل السنة على جواز إضافة الشر إليه تعالى كالخير واستعاذ بها بعد استعاذته برضاه لأنه يحتمل أن يرضى من جهة حقوقه ويعاقب على حقوق غيره ( وبك منك) قال عياض: ترق من الأفعال إلى منشئ الأفعال مشاهدة للحق وغيبة عن الخلق الذي هو محض المعرفة الذي لا يعبر عنه قول ولا يضبطه وصف فهو محض التوحيد وقطع الالتفات إلى غيره وإفراده بالاستعانة وغيرها.

قال الخطابي وفيه معنى لطيف لأنه استعاذ بالله وسأله أن يجيره برضاه من سخطه وبمعافاته من عقوبته والرضا والسخط ضدان كالمعافاة والعقوبة فلما ذكر ما لا ضد له وهو الله سبحانه وتعالى استعاذ به منه لا غير ومعناه الاستغفار من التقصير في بلوغ الواجب من عبادته والثناء عليه ولذا قال ( لا أحصي ثناء عليك) قال ابن الأثير: أي لا أبلغ الواجب في الثناء عليك وقال الراغب أي لا أحصل ثناء لعجزي عنه إذ هو نعمة تستدعي شكرًا وهكذا إلى غير نهاية وقيل معناه لا أعد كما في الصحاح لأن معنى الإحصاء العد بالحصى كما قال:

ولست بالأكثر منهم حصى
وإنما العزة للكاثر

وعليه فهو من نفي الملزوم المعبر عنه بالإحصاء المفسر بالعد وإرادة نفي اللازم وهو استيعاب المعدود فكأنه قيل لا أستوعب فالمراد نفي القدرة عن الإتيان بجميع الثناءات أو فرد منها يفي بنعمة من نعمه لا عدها إذ لا يمكن عد أفراد كثيرة من الثناء وقال ابن عبد البر روينا عن مالك أن معناه وإن اجتهدت في الثناء عليك فلن أحصي نعمك ومننك وإحسانك ( أنت) مبتدأ خبره ( كما أثنيت) أي الثناء عليك هو المماثل لثنائك ( على نفسك) ولا قدرة لأحد عليه ويحتمل أن أنت تأكيد للكاف من عليك باستعارة الضمير المنفصل للمتصل، والثناء بتقديم المثلثة والمد الوصف بالجميل على المشهور لغة، واستعماله في الشر مجاز وقال المجد: وصف بمدح أو ذم أو خاص بالمدح.
قال ابن عبد البر فيه دليل على أنه لا يبلغ وصفه وأنه إنما يوصف بما وصف به نفسه انتهى وقال النووي فيه اعتراف بالعجز عن الثناء عليه وأنه لا يقدر على بلوغ حقيقته ورد الثناء إلى الجملة دون التفصيل والتعيين فوكل ذلك إليه سبحانه المحيط بكل شيء جملة وتفصيلا وكما أنه لا نهاية لصفاته لا نهاية للثناء عليه لأن الثناء تابع للمثني عليه فكل شيء أثنى عليه به وإن كثر وطال وبولغ فيه فقدر الله أعظم وسلطانه أعز وصفاته أكثر وأكبر وفضله أوسع وأسبغ.

( مالك عن زياد بن أبي زياد) ميسرة المخزومي مولاهم المدني الثقة العابد قال مالك: كان يلبس الصوف ويكون وحده ولا يجالس أحدًا.
لمالك عنه مرفوعًا هذا الحديث الواحد رواه هنا.
وفي الحج ونسبه فزاد مولى عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة المخزومي ( عن طلحة بن عبيد الله) بضم العين ( بن كريز) بفتح الكاف وكسر الراء وإسكان التحتية وزاي منقوطة الخزاعي أبي المطرف المدني وثقه أحمد والنسائي وروى له مسلم وأصحاب السنن وهو تابعي قال الولي العراقي ووهم من ظنه أحد العشرة قال ابن عبد البر لا خلاف عن مالك في إرساله ولا أحفظه بهذا الإسناد مسندا من وجه يحتج به وقد جاء مسندا من حديث علي وابن عمرو والفضائل لا تحتاج إلى من يحتج به ثم أخرج حديث علي من طريق ابن أبي شيبة وجاء أيضا من حديث أبي هريرة أخرجه هو وحديث ابن عمر والبيهقي في الشعب.

( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أفضل الدعاء) مبتدأ خبره ( دعاء يوم عرفة) قال الباجي: أي أعظمه ثوابًا وأقربه إجابة ويحتمل أن يريد به اليوم ويحتمل أن يريد الحاج خاصة ( وأفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي) ولفظ حديث علي أكثر دعائي ودعاء الأنبياء قبلي بعرفة ( لا إله إلا الله وحده لا شريك له) زاد في حديث أبي هريرة: له الملك وله الحمد يحيي ويميت، بيده الخير وهو على كل شيء قدير.
وكذا في حديث علي لكن ليس فيه بيده الخير وفي حديث ابن عمر ولكن ليس فيه يحيي ويميت وفيه بيده الخير قال ابن عبد البر فيه أن الثناء دعاء وفي المرفوع يقول الله عز وجل من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين وفيه تفضيل الدعاء بعضه على بعض والأيام بعضها على بعض وأن ذلك أفضل الذكر لأنها كلمة الإسلام والتقوى وقال آخرون أفضله الحمد لله رب العالمين لأن فيه معنى الشكر وفيه من الإخلاص ما في لا إله إلا الله وافتتح الله كلامه به وختم به وهو آخر دعوى أهل الجنة وروت كل فرقة بما قالت أحاديث كثيرة وساق جملة منها في التمهيد ووقع في تجريد الصحاح لرزين بن معاوية الأندلسي زيادة في أول هذا الحديث وهي أفضل الأيام يوم عرفة وافق يوم جمعة وهو أفضل من سبعين حجة في غير يوم الجمعة وأفضل الدعاء إلخ وتعقبه الحافظ فقال حديث لا أعرف حاله لأنه لم يذكر صحابيه ولا من خرجه بل أدرجه في حديث الموطأ هذا وليست هذه الزيادة في شيء من الموطآت فإن كان له أصل احتمل أن يراد بالسبعين التحديد أو المبالغة في الكثرة وعلى كل حال منهما ثبتت المزية انتهى وفي الهدي لابن القيم ما استفاض على ألسنة العوام أن وقفة الجمعة تعدل ثنتين وسبعين حجة فباطل لا أصل له عن رسول الله ولا عن أحد من الصحابة والتابعين انتهى.

( مالك عن أبي الزبير) محمد بن مسلم ( المكي) الأسدي مولاهم صدوق وقال ابن معين ثقة وقال أحمد لا بأس به وقال أبو عمر ثقة حافظ متقن.
روى عنه مالك والسفيانان والليث وابن جريج وجماعة من الأئمة لا يلتفت إلى قول شعبة فيه وروى له الجميع مات بمكة سنة ست وعشرين وقيل ثمان وعشرين ومائة ( عن طاوس) بن كيسان ( اليماني) الحضرمي مولاهم الفارسي يقال: اسمه ذكوان وطاوس لقب، ثقة فقيه فاضل مات سنة ست ومائة وقيل بعدها ( عن عبد الله بن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعلمهم هذا الدعاء كما يعلمهم السورة من القرآن) تشبيه في تحفيظ حروفه وترتيب كلماته ومنع الزيادة والنقص منه والدرس له والمحافظة عليه ( يقول اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم) أي عقوبتها والإضافة مجازية أو من إضافة المظروف إلى ظرفه ( وأعوذ بك من عذاب القبر) العذاب اسم للعقوبة والمصدر التعذيب فهو مضاف إلى الفاعل مجازًا أو الإضافة من إضافة المظروف إلى ظرفه على تقدير في أي من عذاب في القبر وفيه رد على من أنكره ( وأعوذ بك من فتنة) امتحان واختبار ( المسيح) بفتح الميم وخفة السين المكسورة وحاء مهملة وصحف من أعجمها يطلق على الدجال وعلى عيسى عليه السلام لكن إذا أريد الأول قيد كما قال ( الدجال) وقال أبو داود: المسيح مثقل الدجال ومخفف عيسى والمشهور الأول، ونقل المستملي عن الفربري عن خلف بن عامر الهمداني أحد الحفاظ المسيح بالتشديد والتخفيف واحد يقال للدجال ولعيسى لا فرق بينهما بمعنى لا اختصاص لأحدهما بأحد الأمرين لقب بذلك لأنه ممسوح العين أو لأن أحد شقي وجهه خلق ممسوحا لا عين فيه ولا حاجب أو لأنه يمسح الأرض إذا خرج وقال الجوهري من خففه فلمسحه الأرض ومن شدد فلأنه ممسوح العين وأما عيسى فقيل لأنه خرج من بطن أمه ممسوحا بالدهن أو لأن زكريا مسحه أو لأنه كان لا يمسح ذا عاهة إلا برئ أو لمسحه الأرض بسباحته أو لأن رجله لا أخمص لها أو للبسه المسوح وقيل هو بالعبرانية ماسح فعرب المسيح وقيل المسيح الصديق ( وأعوذ بك من فتنة المحيا) هي ما يعرض للإنسان مدة حياته من الافتتان بالدنيا والشهوات والجهالات وأعظمها والعياذ بالله أمر الخاتمة عند الموت ( و) فتنة ( الممات) قال الباجي: هي فتنة القبر.
وقال أبو عمر: يحتمل إذا احتضر ويحتمل في القبر أيضًا.
وقال ابن دقيق العيد: يجوز أنها الفتنة عند الموت أضيفت إليه لقربها منه وفتنة المحيا ما قبل ذلك ويجوز أنها فتنة القبر وقد صح إنكم تفتنون في قبوركم مثل أو قريبًا من فتنة الدجال ولا يتكرر مع قوله عذاب القبر لأن العذاب مرتب على الفتنة والسبب غير المسبب وقيل فتنة المحيا الابتلاء مع زوال الصبر والممات السؤال في القبر مع الحيرة وهو من العام بعد الخاص لأن عذاب القبر داخل تحت فتنة الممات وفتنة الدجال داخلة تحت فتنة المحيا وروى الترمذي الحكيم عن سفيان الثوري إن الميت إذا سئل من ربك تراءى له الشيطان فيشير إلى نفسه أنا ربك فلذا ورد سؤال الثبات له حين يسأل ثم روي بسند جيد عن عمرو بن مرة كانوا يستحبون إذا وضع الميت في قبره أن يقولوا اللهم أعذه من الشيطان وفي مسلم عن أبي هريرة مرفوعًا إذا فرغ أحدكم من التشهد الآخر فليتعوذ من أربع من عذاب جهنم ومن عذاب القبر ومن فتنة المحيا والممات ومن شر المسيح الدجال قال الحافظ فهذا يعين أن هذه الاستعاذة بعد الفراغ من التشهد فيكون سابقا على غيره من الأدعية وما ورد أن المصلي يتخير من الدعاء ما شاء يكون بعد هذه الاستعاذة وقبل السلام انتهى وحديث ابن عباس أخرجه مسلم عن قتيبة بن سعيد عن مالك به وقال مسلم بعده بلغني أن طاوسا قال لابنه أدعوت بها في صلاتك قال لا قال أعد صلاتك لأن طاوسا رواه عن ثلاثة أو أربعة وهذا البلاغ أخرجه عبد الرزاق بسند صحيح وهو يدل على أنه يرى وجوبه وبه قال بعض أهل الظاهر.

( مالك عن أبي الزبير) محمد بن مسلم ( المكي عن طاوس اليماني عن عبد الله بن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قام إلى الصلاة من جوف الليل يقول) في موضع نصب خبر كان وقال الطيبي: الظاهر أنه جواب إذا والجملة الشرطية خبر كان وظاهره أنه كان يقول أول ما يقوم إلى الصلاة ولابن خزيمة من طريق قيس بن سعد عن طاوس عن ابن عباس كان صلى الله عليه وسلم إذا قام للتهجد قال بعد ما يكبر ( اللهم لك الحمد) الوصف بالجميل على التفضيل وأل فيه للاستغراق ( أنت نور السموات والأرض) أي منورهما وبك يهتدي من فيهما وقيل معناه أنت المنزه من كل عيب يقال فلان منور أي مبرأ من كل عيب ويقال هو مدح تقول فلان نور البلد أي مزينه ( ولك الحمد أنت قيام) بفتح التحتية المشددة فألف وكذا في رواية قيس بن سعد الحنظلي المكي عند مسلم وأبي داود بزنة فعال صيغة مبالغة وفي رواية سليمان الأحول عن طاوس في الصحيحين قيم وهما والقيوم بمعنى واحد ( السموات والأرض) زاد في رواية ومن فيهن أي أنت الذي تقوم بحفظهما وحفظ من أحاطت به واشتملت عليه تؤتي كلا ما به قوامه وتقوم كل شيء من خلقك بما تراه من تدبيرك وفي البخاري قال مجاهد القيوم القائم على كل شيء وقرأ عمر القيام أي في آية الكرسي وكلاهما مدح أي بخلاف القيم فيستعمل في المدح والذم وقيل القيم القائم بأمور الخلق ومدبر العالم في جميع أحواله ومنه قيم الطفل والقيوم والقيام القائم بنفسه مطلقا لا بغيره ويقوم به كل موجود حتى لا يتصور وجود شيء ولا دوام وجوده إلا به فمن عرف ذلك استراح عن كد التدبير وتعب الاشتغال وعاش براحة التفويض فلا يضن بكريمة ولا يجعل في قلبه للدنيا كثر قيمة.

( ولك الحمد أنت رب السموات والأرض ومن فيهن) عبر بمن تغليبًا للعقلاء على غيرهم فهو رب كل شيء ومليكه وكافله ومغذيه ومصلحه العواد عليه بنعمه وتكرير الحمد للاهتمام بشأنه وليناط به كل مرة معنى آخر وتقديم الجار والمجرور إفادة التخصيص وكأنه لما خص الحمد بالله قيل له لم خصصتني قال لأنك القائم بحفظ المخلوقات إلى غير ذلك.
( أنت الحق) أي المتحقق الوجود الثابت بلا شك فيه قال القرطبي هذا الوصف له سبحانه وتعالى بالحقيقة خاص به لا ينبغي لغيره إذ وجوده بنفسه فلم يسبقه عدم ولا يلحقه عدم بخلاف غيره وقال ابن التين يحتمل أنت الحق بالنسبة إلى من يدعي أنه إله أو بمعنى من سماك إلها فقد قال الحق ( وقولك الحق) أي مدلوله ثابت ( ووعدك الحق) لا يدخله خلف ولا شك في وقوعه وهو من الخاص بعد العام ( ولقاؤك حق) المراد به البعث بعد الموت وهو عبارة عن مآل الخلق في الآخرة بالنسبة إلى الجزاء على الأعمال وقيل معناه رؤيتك في الآخرة حيث لا مانع وقيل الموت قال النووي وهو باطل هنا قال الحافظ وهذا وما بعده داخل تحت الوعد لكن الوعد مصدر وما بعده هو الموعود به ويحتمل أنه من الخاص بعد العام.
( والجنة حق والنار حق) أي كل منهما موجود ( والساعة حق) أي يوم القيامة وأصل الساعة القطعة من الزمان وإطلاق اسم الحق على ما ذكر من الأمور معناه أنه لا بد من كونها وأنها مما يجب أن يصدق بها وتكرار لفظ حق مبالغة في التأكيد زاد في رواية سليمان عن طاوس عند الشيخين والنبيون حق ومحمد حق وعرف الحق في الثلاثة الأول قال الطيبي للحصر لأن الله هو الحق الثابت وما سواه في معرض الزوال قال لبيد:

ألا كل شيء ما خلا الله باطل

وكذا قوله: وكذا وعده مختص بالإنجاز دون وعد غيره والتنكير في البواقي للتعظيم.

وقال السهيلي التعريف للدلالة على أنه المستحق لهذا الاسم بالحقيقة إذ هو مقتضى الأداة وكذا قوله ووعده لأن وعده كلامه وتركت في البواقي لأنها أمور محدثة والمحدث لا يجب له البقاء من جهة ذاته وبقاء ما يدوم منه علم مخبر الصادق لا من جهة استحالة فنائه قال الطيبي وهنا سر دقيق وهو أنه صلى الله عليه وسلم لما نظر إلى المقام الإلهي ومقربي حضرة الربوبية عظم شأنه وفخم منزلته حيث ذكر النبيين وعرفها بلام الاستغراق ثم خص محمدا صلى الله عليه وسلم من بينهم وعطفه عليهم إيذانا بالتغاير وأنه فائق عليهم بأوصاف مختصة به فإن تغاير الوصف بمنزلة التغاير في الذات ثم حكم عليه استقلالا بأنه حق وجرده عن ذاته كأنه غيره وأوجب عليه تصديقه ولما رجع إلى مقام العبودية ونظر إلى افتقار نفسه نادى بلسان الاضطرار في مطاوي الانكسار فقال:

( اللهم لك أسلمت) انقدت وخضعت لأمرك ونهيك ( وبك آمنت) أي صدقت ( وعليك توكلت) أي فوضت أموري تاركًا النظر في الأسباب العادية ( وإليك أنبت) رجعت إليك مقبلاً بقلبي عليك ( وبك) أي بما أعطيتني من البرهان وبما لقنتني من الحجة ( خاصمت) من خاصمني من الكفار أو بتأييدك ونصرك قاتلت ( وإليك حاكمت) كل من جحد الحق وما أرسلتني به لا إلى من كانت الجاهلية تتحاكم إليه من كاهن ونحوه وقدم جميع صلات هذه الأفعال عليها إشعارًا بالتخصيص وإفادة للحصر وكذا قوله ولك الحمد.
( فاغفر لي ما قدمت) قبل هذا الوقت ( وأخرت) عنه ( وأسررت) أخفيت ( وأعلنت) أظهرت أو ما حدثت به نفسي وما تحرك به لساني زاد في رواية للبخاري وما أنت أعلم به مني وهو من العام بعد الخاص وقال ذلك مع أنه مغفور له إما تواضعا وهضما لنفسه وإجلالا وتعظيما لربه أو تعليمًا لأمته ليقتدى به قال الحافظ كذا قيل والأولى أنه لمجموع ذلك إذ لو كان للتعليم فقط لكفي فيه أمرهم بأن يقولوا زاد في رواية سليمان عن طاوس أنت المقدم والمؤخر أي المقدم لي في البعث يوم القيامة والمؤخر لي في البعث في الدنيا.

( أنت إلهي لا إله إلا أنت) زاد في رواية للبخاري: ولا حول ولا قوة إلا بالله.
قال الكرماني: هذا الحديث من جوامع الكلم لأن لفظ القيم إشارة إلى أن وجود الجواهر وقوامها منه والنور إلى أن الأعراض أيضا منه والملك إلى أنه حاكم عليها إيجادا وعدما يفعل ما يشاء وكل ذلك من نعمه على عباده فلذا قرن كلا منها بالحمد وخصص الحمد به ثم قوله أنت الحق إشارة إلى المبتدأ والقول ونحوه إلى المعاش والساعة ونحوها إشارة إلى المعاد وفيه الإشارة إلى النبوة وإلى الجزاء ثوابا وعقابا ووجوب الإيمان به والإسلام والتوكل والإنابة والتضرع إلى الله والخضوع له انتهى وفيه زيادة معرفته صلى الله عليه وسلم بعظمة ربه وعظيم قدرته ومواظبته على الذكر والدعاء والثناء على ربه والاعتراف لله بحقوقه والإقرار بصدق وعده.

وأخرجه مسلم في الصلاة عن قتيبة بن سعيد والترمذي في الدعوات من طريق معن كليهما عن مالك به وله طرق في الصحيحين وغيرهما.

( مالك عن عبد الله بن عبد الله بن جابر) وقيل جبر ( بن عتيك) بفتح العين المهملة وكسر الفوقية وإسكان التحتية وكاف الأنصاري المدني تابعي صغير من الثقات ( أنه قال جاءنا عبد الله بن عمر) بن الخطاب هكذا رواه يحيى وطائفة لم يجعلوا بين عبد الله شيخ مالك وبين ابن عمر أحدًا.
ومنهم من أدخل بينهما عتيك بن الحارث بن عتيك، وهي رواية ابن القاسم ومنهم من جعل بينهما جابر بن عتيك وهي رواية القعنبي ومطرف قال ابن عبد البر ورواية يحيى أولى بالصواب ( في بني معاوية وهي قرية من قرى الأنصار) بالمدينة والنسبة إليها المعاوي بضم الميم ( فقال) زاد في رواية ابن وضاح لي ( هل تدرون أين صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من مسجدكم هذا) لأصلي فيه وأتبرك به لأنه كان حريصًا على اقتفاء آثاره ( فقلت له نعم وأشرت له إلى ناحية منه) من المسجد ( فقال لي هل تدري ما الثلاث) دعوات ( التي دعا بهن فيه فقلت نعم) فيه طرح العالم المسألة على من دونه ليعلم ما عنده ( قال فأخبرني بهن فقلت دعا بأن لا يظهر) الله ( عليهم عدوا من غيرهم) أي من غير المؤمنين يعني يستأصل جميعهم ( ولا يهلكهم بالسنين) أي بالمحل والجدب والجوع ( فأعطيهما) بالبناء للمفعول ( ودعا بأن لا يجعل بأسهم بينهم) أي الحرب والفتن والاختلاف ( فمنعها قال صدقت) يدل على أنه كان يعلم ما سأله عنه ( قال ابن عمر فلن يزال الهرج) بفتح الهاء وسكون الراء وبالجيم القتل ( إلى يوم القيامة) قضاء نافذ من الله ففي مسلم عن ثوبان رفعه: إن الله زوى لي مشارق الأرض ومغاربها وسيبلغ ملك أمتي ما زوى لي منها الحديث، وفيه: وإني سألت الله أن لا يهلك أمتي بسنة عامة ولا يسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم وأن لا يلبسهم شيعا ويذيق بعضهم بأس بعض فقال يا محمد إني إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد وإني أعطيتك لأمتك أن لا أهلكهم بسنة عامة وأن لا أسلط عليهم عدوا من غيرهم ولو اجتمع عليهم من بين أقطارها حتى يكون بعضهم يهلك بعضًا.

قال ابن عبد البر: دعا صلى الله عليه وسلم في مسجد الفتح يوم الإثنين ويوم الثلاثاء ويوم الأربعاء فاستجيب له يوم الأربعاء بين الصلاتين فعرف البشر في وجهه قال جابر فما نزل بي أمر يهمني إلا توخيت تلك الساعة فأعرف الإجابة.

( مالك عن زيد بن أسلم أنه كان يقول ما من داع يدعو إلا كان بين إحدى ثلاث إما أن يستجاب له) بعين ما سأل ( وإما أن يدخر له) يوم القيامة ( وإما أن يكفر عنه) من الذنوب في نظير دعائه.
قال ابن عبد البر: هذا لا يكون رأيًا بل توقيف وهو خبر محفوظ عن النبي صلى الله عليه وسلم ثم أخرج عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال دعاء المسلم بين إحدى ثلاث إما أن يعطى مسألته التي سأل أو يرفع بها درجة أو يحط بها عنه خطيئة ما لم يدع بقطيعة رحم أو مأثم أو يستعجل قال وأخرج ابن جرير وابن أبي شيبة عن أبي سعيد قال صلى الله عليه وسلم إن دعوة المسلم لا ترد ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم إما أن تعجل له في الدنيا وإما أن تدخر له في الآخرة وإما أن يصرف عنه من السوء بقدر ما دعاه وهذا من التفسير المسند لقوله تعالى: { { ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ } } فهذه كلمة استجابة والله تعالى لا تنقضي حكمته ولذا لا تقع الإجابة في كل دعوة { { وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ } } وفي الحديث إن الله ليبتلي العبد وهو يحبه ليسمع تضرعه انتهى.



رقم الحديث 508 وَحَدَّثَنِي عَنْ مالِكٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَارِثِ التَّيْمِيِّ، أَنَّ عَائِشَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ قَالَتْ: كُنْتُ نَائِمَةً إِلَى جَنْبِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فَفَقَدْتُهُ مِنَ اللَّيْلِ، فَلَمَسْتُهُ بِيَدِي، فَوَضَعْتُ يَدِي عَلَى قَدَمَيْهِ، وَهُوَ سَاجِدٌ، يَقُولُ: أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ، وَبِمُعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ، وَبِكَ مِنْكَ لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ، أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ.


( مالك عن أبي الزناد) عبد الله بن ذكوان ( عن الأعرج) عبد الرحمن بن هرمز ( عن أبي هريرة) عبد الرحمن بن صخر أو عمرو بن عامر ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لكل نبي دعوة) مستجابة ( يدعو بها) بهذه الدعوة مقطوع فيها بالإجابة وما عداها على رجاء الإجابة على غير يقين ولا وعد وبهذا أجيب عن إشكال ظاهره بما وقع لكثير من الأنبياء من الدعوات المجابة ولا سيما نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وبأن معناه أفضل دعوات كل نبي ولهم دعوات أخرى وبأن معناه لكل منهم دعوة عامة مستجابة في أمته إما بإهلاكهم وإما بنجاتهم وأما الدعوات الخاصة فمنها ما يستجاب ومنها ما لا يستجاب وقيل لكل منهم دعوة تخصه لدنياه أو لنفسه كقول نوح: { { رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا } } وقول زكريا: { { رب هب لي من لدنك وليا } } وقول سليمان: { { رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لاَّ يَنبَغِي لأحَدٍ مِّن بَعْدِي } } حكاه ابن التين.

وقال ابن عبد البر: معناه عندي أن كل نبي أعطي أمنية يتمنى بها لأنه محال أن يكون نبينا أو غيره من الأنبياء لا يجاب من دعائه إلا دعوة واحدة وما يكاد أحد يخلو من إجابة دعوته إذا شاء ربه قال تعالى: { { فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ } } وقال صلى الله عليه وسلم: دعوة المظلوم لا ترد ولو كانت من كافر.
وقال عليه السلام: ما من داع إلا كان بين إحدى ثلاث إما أن يستجاب له فيما دعا وإما أن يدخر له مثله وإما أن يكفر عنه وجاء في ساعة الجمعة لا يسأل فيها عبد ربه شيئا إلا أعطاه وقال في الدعاء بين الأذان والإقامة وعند الصف في سبيل الله وعند الغيث وغير ذلك أنها أوقات ترجى فيها إجابة الدعاء ( فأريد أن أختبئ) بسكون المعجمة وفتح الفوقية وكسر الموحدة، فهمزة أي أدخر ( دعوتي) المقطوع بإجابتها ( شفاعة لأمتي في الآخرة) في أهم أوقات حاجتهم ففيه كمال شفقته على أمته ورأفته بهم واعتناؤه بالنظر في مصالحهم جزاه الله عنا أفضل ما جزى نبيًا عن أمته.

قال ابن بطال في الحديث بيان فضيلة نبينا على سائر الأنبياء حيث آثر أمته على نفسه وأهل بيته بدعوته المجابة ولم يجعلها أيضًا دعاء عليهم كما وقع لغيره ممن تقدم وقال ابن الجوزي هذا من حسن تصرفه صلى الله عليه وسلم لأنه جعل الدعوة فيما ينبغي ومن كثرة كرمه لأنه آثر أمته على نفسه ومن صحة نظره لأنه جعلها للمذنبين من أمته لكونهم أحوج إليها من الطائعين هذا وقول بعض شراح المصابيح جميع دعوات الأنبياء مجابة والمراد بهذا الحديث أن كل نبي دعا على أمته بالإهلاك إلا أنا فلم أدع فأعطيت الشفاعة عوضا عن ذلك للصبر على أذاهم والمراد بالأمة أمة الدعوة لا أمة الإجابة تعقبه الطيبي بأنه صلى الله عليه وسلم دعا على أحياء العرب وعلى أناس من قريش بأسمائهم ودعا على رعل وذكوان ومضر قال والأولى أن يقال جعل الله لكل نبي دعوة تستجاب في حق أمته فنالها كل منهم في الدنيا وأما نبينا فإنه لما دعا على بعض أمته نزل عليه { { لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ } } فأبقى تلك الدعوة المستجابة مدخرة للآخرة وغالب من دعا عليهم لم يرد إهلاكهم وإنما أراد ردعهم ليتوبوا قال وأما جزمه أولا بأن جميع أدعية الأنبياء مجابة فغفلة عن الحديث سألت الله ثلاثا فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة الحديث انتهى وفيه إثبات الشفاعة.

قال ابن عبد البر: وهي ركن من أركان اعتقاد أهل السنة قال: وأجمعوا على أن قوله تعالى: { { عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا } } هو الشفاعة في المذنبين من أمته إلا ما روي عن مجاهد أنه جلوسه على العرش وروى عنه كالجماعة فصار إجماعا وقد صح نصا عن النبي صلى الله عليه وسلم وأحاديث الشفاعة متواترة صحاح منها شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي وقال جابر من لم يكن من أهل الكبائر فما له وللشفاعة ولا ينازع في ذلك إلا أهل البدع انتهى.

وهذا الحديث رواه البخاري في الدعوات حدثني إسماعيل قال: حدثني مالك به.
ومسلم من طريق ابن وهب عن مالك عن ابن شهاب عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة مرفوعًا به فلمالك فيه إسنادان.

( مالك عن يحيى بن سعيد أنه بلغه) قال أبو عمر: لم تختلف الرواة عن مالك في سنده ولا في متنه ورواه أبو شيبة عن أبي خالد الأحمر عن يحيى بن سعيد عن مسلم بن يسار ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو فيقول) وهو مرسل فمسلم تابعي ( اللهم فالق الإصباح) قال الباجي: أي خلقه وابتدأه وأظهره ( وجاعل الليل سكنًا) أي يسكن فيه قال الباجي: الجعل لغة الخلق والحكم والتسمية فإذا تعدى إلى مفعول واحد فهو بمعنى الخلق كقوله { { وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ } } وإلى مفعولين فيكون بمعنى الحكم والتسمية نحو: { { وَجَعَلُوا الْمَلاَئِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا } } وبمعنى الخلق كقولهم: الحمد لله الذي جعلني مسلمًا فقوله: ( وجاعل الليل سكنا) يحتمل الوجهين ( والشمس والقمر حسبانًا) قال أبو عمر: أي حسابًا أي بحساب معلوم وقد يكون جمع حساب كشهاب وشهبان وقال الباجي: أي يحسب بهما الأيام والشهور والأعوام قال تعالى: { { هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ } } ( اقض عني الدين) قال ابن عبد البر: الأظهر فيه ديون الناس ويدخل في ذلك ديون الله تعالى وفي الحديث دين الله أحق أن يقضى ( واغنني من الفقر) لأنه بئس الضجيع وهذا الفقر هو الذي لا يدرك معه القوت وقد أغناه الله تعالى كما قال: { { وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى } } ولم يكن غناه أكثر من اتخاذ قوت سنة لنفسه وعياله والغنى كله في قلبه ثقة بربه وقال: اللهم ارزق آل محمد قوتًا ولم يرد بهم إلا الأفضل وقال ما قل وكفى خير مما كثر وألهى وكان يستعيذ من فقر مبئس وغنى مطغ ويستعيذ من فتنة الغنى والفقر وقال: اللهم أحيني مسكينًا وأمتني مسكينًا واحشرني في زمرة المساكين ولا تجعلني جبارًا شقيًا.
والمسكين هنا المتواضع لا السائل لأنه صلى الله عليه وسلم كره السؤال ونهى عنه وحرمه على من يجد ما يغديه ويعشيه والآثار في هذا كثيرة وربما ظهر في بعضها تعارض وبهذا التأويل تتقارب معانيها فمن آتاه الله سعة وجب شكره عليها ومن ابتلي بالفقر وجب عليه الصبر إلا أن الفرائض تتوجه على الغني وهي ساقطة عن الفقير وللقيام بها فضل عظيم وللصبر على الفقر ثواب جسيم { { إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } } وخير الأمور أوساطها أشار له أبو عمر.

وقال أبو عبد الملك قيل أراد فقر النفس وقيل الفقر من الحسنات وقيل الفقر من المال الذي يخشى على صاحبه إذا استولى عليه نسيان الفرائض وذكر الله وجاء في الأثر اللهم إني أعوذ بك من فقر ينسيني وغنى يطغيني وهذا التأويل يدل على أن الكفاف أفضل من الفقر والغنى لأنهما بليتان يختبر الله بهما عباده.
( وأمتعني بسمعي) لما فيه من التنعم بالذكر وسماع ما يسر ( وبصري) لما فيه من رؤية مخلوقات الله والتدبر فيها وغير ذلك وفيه لغيره تلاوة القرآن في المصحف ( و) أمتعني ( بقوتي) بفوقية قبل الياء واحدة القوي ويروى وقوني بنون بدل الفوقية قال ابن عبد البر والأول أكثر عند الرواة ( في سبيلك) قال الباجي يحتمل أن يريد الجهاد وأن يريد جميع أعمال البر من تبليغ الرسالة وغيرها فذلك كله سبيل الله وقد قال مالك من قال مالي في سبيل الله سبل الله تعالى كثيرة ولكن يوضع في الغزو فخصه بالعرف قال ابن عبد البر ولا يعارض هذا ما جاء عن الله تعالى إذا أخذت كريمتي عبدي فصبر واحتسب لم يكن له جزاء إلا الجنة لأن هذا من الفرائض والحض على الصبر بعد الوقوع فلا ينافي الدعاء بالإمتاع قبل وقوعه لأنه أقرب إلى الشكر قال مطرف بن الشخير لأن أعافى فأشكر أحب إلي من أن ابتلى فأصبر.
( مالك عن أبي الزناد) بكسر الزاي ( عن الأعرج) عبد الرحمن بن هرمز ( عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا يقل أحدكم إذا دعا) طلب من الله ( اللهم اغفر لي إن شئت اللهم ارحمني إن شئت) زاد في رواية همام عن أبي هريرة عند البخاري: اللهم ارزقني إن شئت لأن التعليق بالمشيئة إنما يحتاج إليه إذا كان المطلوب منه يتأتى إكراهه على الشيء فيخفف الأمر عليه ويعلمه بأنه لا يطلب منه ذلك الشيء إلا برضاه والله تعالى منزه عن ذلك فلا فائدة للتعليق وقيل لأن فيه صورة الاستغناء عن المطلوب والمطلوب منه والأول أولى قال ابن عبد البر لا يجوز لأحد أن يقول اللهم أعطني إن شئت وغير ذلك من أمور الدين والدنيا لأنه كلام مستحيل لا وجه له إذ لا يفعل إلا ما يشاء وظاهره أنه حمل النهي على التحريم وهو الظاهر وحمله النووي على كراهة التنزيه وهو أولى ( ليعزم المسألة) قال الداودي أي يجتهد ويلح ولا يقول إن شئت كالمستثنى ولكن دعاء البائس الفقير وكأنه أشار بقوله كالمستثنى إلى أنه إذا قالها على سبيل التبرك لا يمنع وهو جيد قاله الحافظ وقال الباجي أي يخلي سؤاله ودعاءه من لفظ المشيئة لأنها إنما تشترط فيمن يصح أن يفعل دون أن يشاء لإكراه أو غيره فينبغي أن يسأل سؤال من يعلم أنه لا يفعل إلا ما يشاء وقد بين ذلك صلى الله عليه وسلم بقوله ( فإنه) تعالى ( لا مكره له) بكسر الراء.

قال ابن بطال فيه أنه ينبغي للداعي أن يجتهد في الدعاء ويكون على رجاء الإجابة ولا يقنط من الرحمة فإنه يدعو كريما قال ابن عيينة لا يمنعن أحدا الدعاء ما يعلم من نفسه يعني من التقصير فإن الله تعالى قد أجاب دعاء شر خلقه وهو إبليس حين قال رب { { أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ } } وفي الترمذي: وقال غريب عن أبي هريرة مرفوعا ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة واعلموا أن الله لا يستجيب دعاء من قلب غافل لاه قال التوربشتي أي كونوا على حالة تستحقون فيها الإجابة وذلك بإتيان المعروف واجتناب المنكر وغير ذلك من مراعاة أركان الدعاء وآدابه حتى تكون الإجابة على القلب أغلب من الرد أو المراد ادعوه معتقدين وقوع الإجابة لأن الداعي إذا لم يكن متحققا في الرجاء لم يكن رجاؤه صادقا وإذا لم يصدق رجاؤه لم يكن الرجاء خالصا والداعي مخلصا فإن الرجاء هو الباعث على الطلب ولا يتحقق الفرع إلا بتحقق الأصل وهذا الحديث رواه البخاري وأبو داود عن القعنبي عن مالك به وهو في الصحيحين من حديث أنس بنحوه.

( مالك عن ابن شهاب عن أبي عبيد) بضم العين وتنوين الدال واسمه سعد بسكون العين ابن عبيد ثقة من كبار التابعين وقيل له إدراك مات بالمدينة سنة ثمان وتسعين ( مولى ابن أزهر) بفتح الهمزة والهاء بينهما زاي ساكنة آخره راء عبد الرحمن الزهري المدني صحابي صغير ( عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يستجاب لأحدكم ما لم يعجل) بفتح التحتية والجيم بينهما عين ساكنة من الاستجابة بمعنى الإجابة قال الشاعر:

فلم يستجبه عند ذاك مجيب

أي يجاب دعاء كل واحد منكم لأن الاسم المضاف مفيد للعموم على الأصح ( فيقول) بالفاء بيان لقوله ما لم يعجل ( قد دعوت فلم يستجب لي) بضم التحتية وفتح الجيم.
قال الباجي: يحتمل أن يريد بقوله يستجاب الإخبار عن وجوب وقوع الإجابة أي تحقق وقوعها أو الإخبار عن جواز وقوعها فإن أريد الوجوب فهو بأحد ثلاثة أشياء تعجيل ما سأله أو يكفر عنه به أو يدخر له فإذا قال دعوت إلخ بطل وجوب أحد هذه الثلاثة وعرى الدعاء عن جميعها وإن أريد الجواز فيكون الإجابة بفعل ما دعا به ومنعه قوله دعوت فلم يستجب لأنه من ضعف اليقين والتسخط وفي مسلم والترمذي عن أبي هريرة مرفوعا لا يزال يستجاب للعبد ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم وما لم يستعجل قيل وما الاستعجال قال يقول قد دعوت وقد دعوت فلم أر يستجاب لي فيستحسر عند ذلك ويدع الدعاء ويستحسر بمهملات استفعال من حسر إذا أعيا وتعب وتكرار دعوت للاستمرار أي دعوت مرارًا كثيرة قال المظهري من له ملالة من الدعاء لا يقبل دعاؤه لأن الدعاء عبادة حصلت الإجابة أو لم تحصل فلا ينبغي للمؤمن أن يمل من العبادة وتأخير الإجابة إما لأنه لم يأت وقتها وإما لأنه لم يقدر في الأزل قبول دعائه في الدنيا ليعطى عوضه في الآخرة وإما أن يؤخر القبول ليلح ويبالغ في ذلك فإن الله يحب الملحين في الدعاء مع ما في ذلك من الانقياد والاستسلام وإظهار الافتقار ومن يكثر قرع الباب يوشك أن يفتح له ومن يكثر الدعاء يوشك أن يستجاب له.

والحديث رواه البخاري عن عبد الله بن يوسف ومسلم عن يحيى بن يحيى كلاهما عن مالك به.

( مالك عن ابن شهاب عن أبي عبد الله) سلمان بسكون اللام ( الأغر) بفتح الغين المعجمة وشد الراء الجهني مولاهم المدني وأصله من أصبهان ( وعن أبي سلمة بن عبد الرحمن) بن عوف القرشي الزهري ( عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ينزل ربنا) اختلف فيه فالراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا على طريق الإجمال منزهين لله تعالى عن الكيفية والتشبيه ونقله البيهقي وغيره عن الأئمة الأربعة والسفيانين والحمادين والليث والأوزاعي وغيرهم قال البيهقي وهو أسلم ويدل عليه اتفاقهم على أن التأويل المعين لا يجب فحينئذ التفويض أسلم وقال ابن العربي النزول راجع إلى أفعاله لا إلى ذاته بل ذلك عبارة عن ملكه الذي ينزل بأمره ونهيه فالنزول حسي صفة الملك المبعوث بذلك أو معنوي بمعنى لم يفعل ثم فعل فسمي ذلك نزولا عن مرتبة إلى مرتبة فهي عربية صحيحة والحاصل أنه تأوله بوجهين إما أن المعنى ينزل أمره أو الملك وإما أنه استعارة بمعنى التلطف بالداعين والإجابة لهم ونحوه وكذا حكي عن مالك أنه أوله بنزول رحمته وأمره أو ملائكته كما يقال فعل الملك كذا أي أتباعه بأمره لكن قال ابن عبد البر قال قوم ينزل أمره ورحمته وليس بشيء لأن أمره بما يشاء من رحمته ونعمته ينزل بالليل والنهار بلا توقيت ثلث الليل ولا غيره ولو صح ذلك عن مالك لكان معناه أن الأغلب في الاستجابة ذلك الوقت وقال الباجي هو إخبار عن إجابة الداعي وغفرانه للمستغفرين وتنبيه على فضل الوقت كحديث إذا تقرب إلي عبدي شبرًا تقربت إليه ذراعًا الحديث لم يرد قرب المسافة لعدم إمكانه وإنما أراد العمل من العبد ومنه تعالى الإجابة وحكى ابن فورك أن بعض المشايخ ضبطه بضم أوله على حذف المفعول أي ينزل ملكا قال الحافظ ويقويه ما رواه النسائي من طريق الأغر عن أبي هريرة وأبي سعيد أن الله يمهل حتى يمضي شطر الليل ثم يأمر مناديا يقول هل من داع فيستجاب له الحديث وحديث عثمان بن أبي العاص عند أحمد ينادي مناد هل من داع يستجاب له الحديث قال القرطبي وبهذا يرتفع الإشكال ولا يعكر عليه حديث رفاعة الجهني عند النسائي ينزل الله إلى سماء الدنيا فيقول لا أسأل عن عبادي غيري لأنه لا يلزم من إنزاله الملك أن يسأله عن صنع العباد بل يجوز أنه مأمور بالمناداة ولا يسأل البتة عما بعدها فهو أعلم سبحانه بما كان وما يكون انتهى ولك أن تقول الإشكال مدفوع حتى على أنه ينزل بفتح أوله الذي هو الرواية الصحيحة وكل من حديثي النسائي وأحمد يقوي تأويله بأنه من مجاز الحذف أو الاستعارة وقال البيضاوي لما ثبت بالقواطع أنه سبحانه منزه عن الجسمية والتحيز امتنع عليه النزول على معنى الانتقال من موضع إلى موضع أخفض منه فالمراد دنو رحمته أي ينتقل من مقتضى صفة الجلال التي تقتضي الغضب والانتقام إلى مقتضى صفة الإكرام التي تقتضي الرأفة والرحمة ( تبارك وتعالى) جملتان معترضتان بين الفعل وظرفه وهو ( كل ليلة) لما أسند النزول إلى ما لا يليق إسناده حقيقة إليه اعترض بما يدل على التنزيه كقوله تعالى { { وَيَجْعَلُونَ للهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُم مَّا يَشْتَهُونَ } } ( إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر) برفعه صفة ثلث وتخصيصه بالليل وثلثه الآخر لأنه وقت التهجد وغفلة الناس عن التعرض لنفحات رحمة الله وعند ذلك تكون النية خالصة والرغبة إلى الله وافرة وذلك مظنة القبول والإجابة ولم تختلف الروايات عن الزهري في تعيين الوقت واختلف عن أبي هريرة وغيره.

قال الترمذي: رواية أبي هريرة أصح الروايات في ذلك ويقويه أن الروايات المخالفة له اختلف فيها على راويها وانحصرت في ستة هذه، ثانيها: إذا مضى الثلث الأول.
ثالثها: الثلث الأول أو النصف.
رابعها: النصف.
خامسها: الثلث الأخير أو النصف.
سادسها: الإطلاق فجمع بينها بحمل المطلقة على المقيدة، وأما التي بأو فإن كانت للشك فالجزم مقدم على الشك، وإن كانت للتردد بين حالتين فيجمع بأن ذلك يقع بحسب اختلاف الأحوال لأن أوقات الليل تختلف في الزيادة وفي الأوقات باختلاف تقدم الليل عند قوم وتأخره عند قوم أو النزول يقع في الثلث الأول والقول يقع في النصف وفي الثلث الثاني أو يحمل ذلك على وقوعه في جميع الأوقات التي وردت بها الأحاديث ويحمل على أنه صلى الله عليه وسلم أعلم بأحد الأمور في وقت فأخبر به ثم أعلم به في وقت آخر فأخبر به فنقل الصحابة ذلك عنه ( فيقول من يدعوني فأستجيب) أي أجيب ( له) دعاءه فليست السين للطلب ( من يسألني فأعطيه) مسؤوله ( من يستغفرني فأغفر له) ذنوبه بنصب الأفعال الثلاثة في جواب الاستفهام وبالرفع على الاستئناف وبهما قرئ { { مَن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ } } ولم تختلف الروايات عن الزهري في الاقتصار على الثلاثة والفرق بينها أن المطلوب إما رفع المضار أو جلب المسار وذلك إما دنيوي أو ديني ففي الاستغفار إشارة إلى الأول والدعاء إشارة إلى الثاني والسؤال إشارة إلى الثالث وقال الكرماني يحتمل أن الدعاء ما لا طلب فيه والسؤال الطلب ويحتمل أن المقصود واحد وإن اختلف اللفظ انتهى.

وزاد سعيد المقبري عن أبي هريرة هل من تائب فأتوب عليه، وزاد أبو جعفر عنه من ذا الذي يسترزقني فأرزقه من ذا الذي يستكشف الضر فأكشف عنه وزاد عطاء مولى أم صبية بضم الصاد المهملة وموحدة عنه ألا سقيم يستشفي فيشفى رواها النسائي ومعانيها داخلة فيما تقدم وزاد سعيد بن مرجانة عنه من يقرض غير عديم ولا ظلوم رواه مسلم وفيه تحريض على عمل الطاعة وإشارة إلى جزيل ثوابها وزاد حجاج بن أبي منيع عن الزهري عند الدارقطني حتى الفجر وفي رواية يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة حتى يطلع الفجر وعليه اتفق معظم الروايات وللنسائي عن نافع بن جبير عن أبي هريرة حتى تحل الشمس وهي شاذة وفي الحديث تفضيل آخر الليل على أوله وأنه أفضل للدعاء والاستغفار ويشهد له قوله تعالى: { { وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأسْحَارِ } } وأن الدعاء ذلك الوقت مجاب ولا يعترض بتخلفه عن بعض الداعين لأن سببه وقوع الخلل في شرط من شروط الدعاء كالاحتراز في المطعم والمشرب والملبس أو لاستعجال الداعي أو بأن يكون الدعاء بإثم أو قطيعة رحم أو تحصل الإجابة ويتأخر وجود المطلوب لمصلحة العبد أو لأمر يريده الله تعالى هذا وقد حمل المشبهة الحديث وأحاديث التشبيه كلها على ظاهرها تعالى الله عن قولهم وأما المعتزلة والخوارج فأنكروا صحتها جملة وهو مكابرة والعجب أنهم أولوا ما في القرآن من نحو ذلك وأنكروا الأحاديث جهلا أو عنادا ومن العلماء من فرق بين التأويل القريب المستعمل لغة وبين البعيد المهجور فأول في بعض وفوض في بعض وجزم به من المتأخرين ابن دقيق العيد ونقل عن الإمام قال الباجي منع مالك في العتبية التحديث بحديث اهتز العرش لموت سعد بن معاذ وحديث إن الله خلق آدم على صورته وحديث الساق وقال ما يدعو الإنسان إلى أن يحدث به وهو يرى ما فيه من التغرير ولم ير مثله حديث إن الله يضحك وحديث ينزل ربنا فأجاز التحديث بهما قال فيحتمل الفرق بينهما بأن حديث التنزل والضحك أحاديث صحاح لم يطعن في شيء منهما وحديث العرش والصورة والساق لا تبلغ أحاديثها في الصحة درجة التنزل والضحك وبأن التأويل في حديث التنزل أقرب وأبين والعذر بسوء التأويل فيها أبعد انتهى.

وأخرجه البخاري في الصلاة عن القعنبي وفي الدعوات عن عبد العزيز بن عبد الله الأويسي وفي التوحيد عن إسماعيل ومسلم في الصلاة عن يحيى بن يحيى كلهم عن مالك به.

( مالك عن يحيى بن سعيد) الأنصاري ( عن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي) تيم قريش ( أن عائشة أم المؤمنين) قال ابن عبد البر: لم يختلف عن مالك في إرساله وهو مسند من حديث الأعرج عن أبي هريرة عن عائشة ومن حديث عروة عن عائشة من طرق صحاح ثم أخرجه من الوجهين وطريق الأعرج أخرجها مسلم وأبو داود والنسائي من طريق عبيد الله بن عمر عن محمد بن يحيى بن حبان عن الأعرج عن أبي هريرة عن عائشة ( قالت كنت نائمة إلى جنب رسول الله صلى الله عليه وسلم ففقدته) بفتح القاف، وفي رواية افتقدته وهما لغتان بمعنى عدمته ( من الليل) وفي رواية عروة وكان معي على فراشي ( فلمسته بيدي) وفي رواية فالتمسته في البيت وجعلت أطلبه بيدي ( فوضعت يدي على قدميه) زاد في رواية وهما منتصبتان ( وهو ساجد) وفيه أن اللمس بلا لذة لا ينقض الوضوء واحتمال أنه كان فوق حائل خلاف الأصل فسمعته ( يقول) زاد في رواية اللهم إني ( أعوذ برضاك من سخطك) أي بما يرضيك مما يسخطك فخرج عن حظ نفسه بإقامة حرمة محبوبه فهذا لله ثم الذي لنفسه قوله ( وبمعافاتك من عقوبتك) وفي إضافتها كالسخط إليه دليل لأهل السنة على جواز إضافة الشر إليه تعالى كالخير واستعاذ بها بعد استعاذته برضاه لأنه يحتمل أن يرضى من جهة حقوقه ويعاقب على حقوق غيره ( وبك منك) قال عياض: ترق من الأفعال إلى منشئ الأفعال مشاهدة للحق وغيبة عن الخلق الذي هو محض المعرفة الذي لا يعبر عنه قول ولا يضبطه وصف فهو محض التوحيد وقطع الالتفات إلى غيره وإفراده بالاستعانة وغيرها.

قال الخطابي وفيه معنى لطيف لأنه استعاذ بالله وسأله أن يجيره برضاه من سخطه وبمعافاته من عقوبته والرضا والسخط ضدان كالمعافاة والعقوبة فلما ذكر ما لا ضد له وهو الله سبحانه وتعالى استعاذ به منه لا غير ومعناه الاستغفار من التقصير في بلوغ الواجب من عبادته والثناء عليه ولذا قال ( لا أحصي ثناء عليك) قال ابن الأثير: أي لا أبلغ الواجب في الثناء عليك وقال الراغب أي لا أحصل ثناء لعجزي عنه إذ هو نعمة تستدعي شكرًا وهكذا إلى غير نهاية وقيل معناه لا أعد كما في الصحاح لأن معنى الإحصاء العد بالحصى كما قال:

ولست بالأكثر منهم حصى
وإنما العزة للكاثر

وعليه فهو من نفي الملزوم المعبر عنه بالإحصاء المفسر بالعد وإرادة نفي اللازم وهو استيعاب المعدود فكأنه قيل لا أستوعب فالمراد نفي القدرة عن الإتيان بجميع الثناءات أو فرد منها يفي بنعمة من نعمه لا عدها إذ لا يمكن عد أفراد كثيرة من الثناء وقال ابن عبد البر روينا عن مالك أن معناه وإن اجتهدت في الثناء عليك فلن أحصي نعمك ومننك وإحسانك ( أنت) مبتدأ خبره ( كما أثنيت) أي الثناء عليك هو المماثل لثنائك ( على نفسك) ولا قدرة لأحد عليه ويحتمل أن أنت تأكيد للكاف من عليك باستعارة الضمير المنفصل للمتصل، والثناء بتقديم المثلثة والمد الوصف بالجميل على المشهور لغة، واستعماله في الشر مجاز وقال المجد: وصف بمدح أو ذم أو خاص بالمدح.
قال ابن عبد البر فيه دليل على أنه لا يبلغ وصفه وأنه إنما يوصف بما وصف به نفسه انتهى وقال النووي فيه اعتراف بالعجز عن الثناء عليه وأنه لا يقدر على بلوغ حقيقته ورد الثناء إلى الجملة دون التفصيل والتعيين فوكل ذلك إليه سبحانه المحيط بكل شيء جملة وتفصيلا وكما أنه لا نهاية لصفاته لا نهاية للثناء عليه لأن الثناء تابع للمثني عليه فكل شيء أثنى عليه به وإن كثر وطال وبولغ فيه فقدر الله أعظم وسلطانه أعز وصفاته أكثر وأكبر وفضله أوسع وأسبغ.

( مالك عن زياد بن أبي زياد) ميسرة المخزومي مولاهم المدني الثقة العابد قال مالك: كان يلبس الصوف ويكون وحده ولا يجالس أحدًا.
لمالك عنه مرفوعًا هذا الحديث الواحد رواه هنا.
وفي الحج ونسبه فزاد مولى عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة المخزومي ( عن طلحة بن عبيد الله) بضم العين ( بن كريز) بفتح الكاف وكسر الراء وإسكان التحتية وزاي منقوطة الخزاعي أبي المطرف المدني وثقه أحمد والنسائي وروى له مسلم وأصحاب السنن وهو تابعي قال الولي العراقي ووهم من ظنه أحد العشرة قال ابن عبد البر لا خلاف عن مالك في إرساله ولا أحفظه بهذا الإسناد مسندا من وجه يحتج به وقد جاء مسندا من حديث علي وابن عمرو والفضائل لا تحتاج إلى من يحتج به ثم أخرج حديث علي من طريق ابن أبي شيبة وجاء أيضا من حديث أبي هريرة أخرجه هو وحديث ابن عمر والبيهقي في الشعب.

( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أفضل الدعاء) مبتدأ خبره ( دعاء يوم عرفة) قال الباجي: أي أعظمه ثوابًا وأقربه إجابة ويحتمل أن يريد به اليوم ويحتمل أن يريد الحاج خاصة ( وأفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي) ولفظ حديث علي أكثر دعائي ودعاء الأنبياء قبلي بعرفة ( لا إله إلا الله وحده لا شريك له) زاد في حديث أبي هريرة: له الملك وله الحمد يحيي ويميت، بيده الخير وهو على كل شيء قدير.
وكذا في حديث علي لكن ليس فيه بيده الخير وفي حديث ابن عمر ولكن ليس فيه يحيي ويميت وفيه بيده الخير قال ابن عبد البر فيه أن الثناء دعاء وفي المرفوع يقول الله عز وجل من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين وفيه تفضيل الدعاء بعضه على بعض والأيام بعضها على بعض وأن ذلك أفضل الذكر لأنها كلمة الإسلام والتقوى وقال آخرون أفضله الحمد لله رب العالمين لأن فيه معنى الشكر وفيه من الإخلاص ما في لا إله إلا الله وافتتح الله كلامه به وختم به وهو آخر دعوى أهل الجنة وروت كل فرقة بما قالت أحاديث كثيرة وساق جملة منها في التمهيد ووقع في تجريد الصحاح لرزين بن معاوية الأندلسي زيادة في أول هذا الحديث وهي أفضل الأيام يوم عرفة وافق يوم جمعة وهو أفضل من سبعين حجة في غير يوم الجمعة وأفضل الدعاء إلخ وتعقبه الحافظ فقال حديث لا أعرف حاله لأنه لم يذكر صحابيه ولا من خرجه بل أدرجه في حديث الموطأ هذا وليست هذه الزيادة في شيء من الموطآت فإن كان له أصل احتمل أن يراد بالسبعين التحديد أو المبالغة في الكثرة وعلى كل حال منهما ثبتت المزية انتهى وفي الهدي لابن القيم ما استفاض على ألسنة العوام أن وقفة الجمعة تعدل ثنتين وسبعين حجة فباطل لا أصل له عن رسول الله ولا عن أحد من الصحابة والتابعين انتهى.

( مالك عن أبي الزبير) محمد بن مسلم ( المكي) الأسدي مولاهم صدوق وقال ابن معين ثقة وقال أحمد لا بأس به وقال أبو عمر ثقة حافظ متقن.
روى عنه مالك والسفيانان والليث وابن جريج وجماعة من الأئمة لا يلتفت إلى قول شعبة فيه وروى له الجميع مات بمكة سنة ست وعشرين وقيل ثمان وعشرين ومائة ( عن طاوس) بن كيسان ( اليماني) الحضرمي مولاهم الفارسي يقال: اسمه ذكوان وطاوس لقب، ثقة فقيه فاضل مات سنة ست ومائة وقيل بعدها ( عن عبد الله بن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعلمهم هذا الدعاء كما يعلمهم السورة من القرآن) تشبيه في تحفيظ حروفه وترتيب كلماته ومنع الزيادة والنقص منه والدرس له والمحافظة عليه ( يقول اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم) أي عقوبتها والإضافة مجازية أو من إضافة المظروف إلى ظرفه ( وأعوذ بك من عذاب القبر) العذاب اسم للعقوبة والمصدر التعذيب فهو مضاف إلى الفاعل مجازًا أو الإضافة من إضافة المظروف إلى ظرفه على تقدير في أي من عذاب في القبر وفيه رد على من أنكره ( وأعوذ بك من فتنة) امتحان واختبار ( المسيح) بفتح الميم وخفة السين المكسورة وحاء مهملة وصحف من أعجمها يطلق على الدجال وعلى عيسى عليه السلام لكن إذا أريد الأول قيد كما قال ( الدجال) وقال أبو داود: المسيح مثقل الدجال ومخفف عيسى والمشهور الأول، ونقل المستملي عن الفربري عن خلف بن عامر الهمداني أحد الحفاظ المسيح بالتشديد والتخفيف واحد يقال للدجال ولعيسى لا فرق بينهما بمعنى لا اختصاص لأحدهما بأحد الأمرين لقب بذلك لأنه ممسوح العين أو لأن أحد شقي وجهه خلق ممسوحا لا عين فيه ولا حاجب أو لأنه يمسح الأرض إذا خرج وقال الجوهري من خففه فلمسحه الأرض ومن شدد فلأنه ممسوح العين وأما عيسى فقيل لأنه خرج من بطن أمه ممسوحا بالدهن أو لأن زكريا مسحه أو لأنه كان لا يمسح ذا عاهة إلا برئ أو لمسحه الأرض بسباحته أو لأن رجله لا أخمص لها أو للبسه المسوح وقيل هو بالعبرانية ماسح فعرب المسيح وقيل المسيح الصديق ( وأعوذ بك من فتنة المحيا) هي ما يعرض للإنسان مدة حياته من الافتتان بالدنيا والشهوات والجهالات وأعظمها والعياذ بالله أمر الخاتمة عند الموت ( و) فتنة ( الممات) قال الباجي: هي فتنة القبر.
وقال أبو عمر: يحتمل إذا احتضر ويحتمل في القبر أيضًا.
وقال ابن دقيق العيد: يجوز أنها الفتنة عند الموت أضيفت إليه لقربها منه وفتنة المحيا ما قبل ذلك ويجوز أنها فتنة القبر وقد صح إنكم تفتنون في قبوركم مثل أو قريبًا من فتنة الدجال ولا يتكرر مع قوله عذاب القبر لأن العذاب مرتب على الفتنة والسبب غير المسبب وقيل فتنة المحيا الابتلاء مع زوال الصبر والممات السؤال في القبر مع الحيرة وهو من العام بعد الخاص لأن عذاب القبر داخل تحت فتنة الممات وفتنة الدجال داخلة تحت فتنة المحيا وروى الترمذي الحكيم عن سفيان الثوري إن الميت إذا سئل من ربك تراءى له الشيطان فيشير إلى نفسه أنا ربك فلذا ورد سؤال الثبات له حين يسأل ثم روي بسند جيد عن عمرو بن مرة كانوا يستحبون إذا وضع الميت في قبره أن يقولوا اللهم أعذه من الشيطان وفي مسلم عن أبي هريرة مرفوعًا إذا فرغ أحدكم من التشهد الآخر فليتعوذ من أربع من عذاب جهنم ومن عذاب القبر ومن فتنة المحيا والممات ومن شر المسيح الدجال قال الحافظ فهذا يعين أن هذه الاستعاذة بعد الفراغ من التشهد فيكون سابقا على غيره من الأدعية وما ورد أن المصلي يتخير من الدعاء ما شاء يكون بعد هذه الاستعاذة وقبل السلام انتهى وحديث ابن عباس أخرجه مسلم عن قتيبة بن سعيد عن مالك به وقال مسلم بعده بلغني أن طاوسا قال لابنه أدعوت بها في صلاتك قال لا قال أعد صلاتك لأن طاوسا رواه عن ثلاثة أو أربعة وهذا البلاغ أخرجه عبد الرزاق بسند صحيح وهو يدل على أنه يرى وجوبه وبه قال بعض أهل الظاهر.

( مالك عن أبي الزبير) محمد بن مسلم ( المكي عن طاوس اليماني عن عبد الله بن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قام إلى الصلاة من جوف الليل يقول) في موضع نصب خبر كان وقال الطيبي: الظاهر أنه جواب إذا والجملة الشرطية خبر كان وظاهره أنه كان يقول أول ما يقوم إلى الصلاة ولابن خزيمة من طريق قيس بن سعد عن طاوس عن ابن عباس كان صلى الله عليه وسلم إذا قام للتهجد قال بعد ما يكبر ( اللهم لك الحمد) الوصف بالجميل على التفضيل وأل فيه للاستغراق ( أنت نور السموات والأرض) أي منورهما وبك يهتدي من فيهما وقيل معناه أنت المنزه من كل عيب يقال فلان منور أي مبرأ من كل عيب ويقال هو مدح تقول فلان نور البلد أي مزينه ( ولك الحمد أنت قيام) بفتح التحتية المشددة فألف وكذا في رواية قيس بن سعد الحنظلي المكي عند مسلم وأبي داود بزنة فعال صيغة مبالغة وفي رواية سليمان الأحول عن طاوس في الصحيحين قيم وهما والقيوم بمعنى واحد ( السموات والأرض) زاد في رواية ومن فيهن أي أنت الذي تقوم بحفظهما وحفظ من أحاطت به واشتملت عليه تؤتي كلا ما به قوامه وتقوم كل شيء من خلقك بما تراه من تدبيرك وفي البخاري قال مجاهد القيوم القائم على كل شيء وقرأ عمر القيام أي في آية الكرسي وكلاهما مدح أي بخلاف القيم فيستعمل في المدح والذم وقيل القيم القائم بأمور الخلق ومدبر العالم في جميع أحواله ومنه قيم الطفل والقيوم والقيام القائم بنفسه مطلقا لا بغيره ويقوم به كل موجود حتى لا يتصور وجود شيء ولا دوام وجوده إلا به فمن عرف ذلك استراح عن كد التدبير وتعب الاشتغال وعاش براحة التفويض فلا يضن بكريمة ولا يجعل في قلبه للدنيا كثر قيمة.

( ولك الحمد أنت رب السموات والأرض ومن فيهن) عبر بمن تغليبًا للعقلاء على غيرهم فهو رب كل شيء ومليكه وكافله ومغذيه ومصلحه العواد عليه بنعمه وتكرير الحمد للاهتمام بشأنه وليناط به كل مرة معنى آخر وتقديم الجار والمجرور إفادة التخصيص وكأنه لما خص الحمد بالله قيل له لم خصصتني قال لأنك القائم بحفظ المخلوقات إلى غير ذلك.
( أنت الحق) أي المتحقق الوجود الثابت بلا شك فيه قال القرطبي هذا الوصف له سبحانه وتعالى بالحقيقة خاص به لا ينبغي لغيره إذ وجوده بنفسه فلم يسبقه عدم ولا يلحقه عدم بخلاف غيره وقال ابن التين يحتمل أنت الحق بالنسبة إلى من يدعي أنه إله أو بمعنى من سماك إلها فقد قال الحق ( وقولك الحق) أي مدلوله ثابت ( ووعدك الحق) لا يدخله خلف ولا شك في وقوعه وهو من الخاص بعد العام ( ولقاؤك حق) المراد به البعث بعد الموت وهو عبارة عن مآل الخلق في الآخرة بالنسبة إلى الجزاء على الأعمال وقيل معناه رؤيتك في الآخرة حيث لا مانع وقيل الموت قال النووي وهو باطل هنا قال الحافظ وهذا وما بعده داخل تحت الوعد لكن الوعد مصدر وما بعده هو الموعود به ويحتمل أنه من الخاص بعد العام.
( والجنة حق والنار حق) أي كل منهما موجود ( والساعة حق) أي يوم القيامة وأصل الساعة القطعة من الزمان وإطلاق اسم الحق على ما ذكر من الأمور معناه أنه لا بد من كونها وأنها مما يجب أن يصدق بها وتكرار لفظ حق مبالغة في التأكيد زاد في رواية سليمان عن طاوس عند الشيخين والنبيون حق ومحمد حق وعرف الحق في الثلاثة الأول قال الطيبي للحصر لأن الله هو الحق الثابت وما سواه في معرض الزوال قال لبيد:

ألا كل شيء ما خلا الله باطل

وكذا قوله: وكذا وعده مختص بالإنجاز دون وعد غيره والتنكير في البواقي للتعظيم.

وقال السهيلي التعريف للدلالة على أنه المستحق لهذا الاسم بالحقيقة إذ هو مقتضى الأداة وكذا قوله ووعده لأن وعده كلامه وتركت في البواقي لأنها أمور محدثة والمحدث لا يجب له البقاء من جهة ذاته وبقاء ما يدوم منه علم مخبر الصادق لا من جهة استحالة فنائه قال الطيبي وهنا سر دقيق وهو أنه صلى الله عليه وسلم لما نظر إلى المقام الإلهي ومقربي حضرة الربوبية عظم شأنه وفخم منزلته حيث ذكر النبيين وعرفها بلام الاستغراق ثم خص محمدا صلى الله عليه وسلم من بينهم وعطفه عليهم إيذانا بالتغاير وأنه فائق عليهم بأوصاف مختصة به فإن تغاير الوصف بمنزلة التغاير في الذات ثم حكم عليه استقلالا بأنه حق وجرده عن ذاته كأنه غيره وأوجب عليه تصديقه ولما رجع إلى مقام العبودية ونظر إلى افتقار نفسه نادى بلسان الاضطرار في مطاوي الانكسار فقال:

( اللهم لك أسلمت) انقدت وخضعت لأمرك ونهيك ( وبك آمنت) أي صدقت ( وعليك توكلت) أي فوضت أموري تاركًا النظر في الأسباب العادية ( وإليك أنبت) رجعت إليك مقبلاً بقلبي عليك ( وبك) أي بما أعطيتني من البرهان وبما لقنتني من الحجة ( خاصمت) من خاصمني من الكفار أو بتأييدك ونصرك قاتلت ( وإليك حاكمت) كل من جحد الحق وما أرسلتني به لا إلى من كانت الجاهلية تتحاكم إليه من كاهن ونحوه وقدم جميع صلات هذه الأفعال عليها إشعارًا بالتخصيص وإفادة للحصر وكذا قوله ولك الحمد.
( فاغفر لي ما قدمت) قبل هذا الوقت ( وأخرت) عنه ( وأسررت) أخفيت ( وأعلنت) أظهرت أو ما حدثت به نفسي وما تحرك به لساني زاد في رواية للبخاري وما أنت أعلم به مني وهو من العام بعد الخاص وقال ذلك مع أنه مغفور له إما تواضعا وهضما لنفسه وإجلالا وتعظيما لربه أو تعليمًا لأمته ليقتدى به قال الحافظ كذا قيل والأولى أنه لمجموع ذلك إذ لو كان للتعليم فقط لكفي فيه أمرهم بأن يقولوا زاد في رواية سليمان عن طاوس أنت المقدم والمؤخر أي المقدم لي في البعث يوم القيامة والمؤخر لي في البعث في الدنيا.

( أنت إلهي لا إله إلا أنت) زاد في رواية للبخاري: ولا حول ولا قوة إلا بالله.
قال الكرماني: هذا الحديث من جوامع الكلم لأن لفظ القيم إشارة إلى أن وجود الجواهر وقوامها منه والنور إلى أن الأعراض أيضا منه والملك إلى أنه حاكم عليها إيجادا وعدما يفعل ما يشاء وكل ذلك من نعمه على عباده فلذا قرن كلا منها بالحمد وخصص الحمد به ثم قوله أنت الحق إشارة إلى المبتدأ والقول ونحوه إلى المعاش والساعة ونحوها إشارة إلى المعاد وفيه الإشارة إلى النبوة وإلى الجزاء ثوابا وعقابا ووجوب الإيمان به والإسلام والتوكل والإنابة والتضرع إلى الله والخضوع له انتهى وفيه زيادة معرفته صلى الله عليه وسلم بعظمة ربه وعظيم قدرته ومواظبته على الذكر والدعاء والثناء على ربه والاعتراف لله بحقوقه والإقرار بصدق وعده.

وأخرجه مسلم في الصلاة عن قتيبة بن سعيد والترمذي في الدعوات من طريق معن كليهما عن مالك به وله طرق في الصحيحين وغيرهما.

( مالك عن عبد الله بن عبد الله بن جابر) وقيل جبر ( بن عتيك) بفتح العين المهملة وكسر الفوقية وإسكان التحتية وكاف الأنصاري المدني تابعي صغير من الثقات ( أنه قال جاءنا عبد الله بن عمر) بن الخطاب هكذا رواه يحيى وطائفة لم يجعلوا بين عبد الله شيخ مالك وبين ابن عمر أحدًا.
ومنهم من أدخل بينهما عتيك بن الحارث بن عتيك، وهي رواية ابن القاسم ومنهم من جعل بينهما جابر بن عتيك وهي رواية القعنبي ومطرف قال ابن عبد البر ورواية يحيى أولى بالصواب ( في بني معاوية وهي قرية من قرى الأنصار) بالمدينة والنسبة إليها المعاوي بضم الميم ( فقال) زاد في رواية ابن وضاح لي ( هل تدرون أين صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من مسجدكم هذا) لأصلي فيه وأتبرك به لأنه كان حريصًا على اقتفاء آثاره ( فقلت له نعم وأشرت له إلى ناحية منه) من المسجد ( فقال لي هل تدري ما الثلاث) دعوات ( التي دعا بهن فيه فقلت نعم) فيه طرح العالم المسألة على من دونه ليعلم ما عنده ( قال فأخبرني بهن فقلت دعا بأن لا يظهر) الله ( عليهم عدوا من غيرهم) أي من غير المؤمنين يعني يستأصل جميعهم ( ولا يهلكهم بالسنين) أي بالمحل والجدب والجوع ( فأعطيهما) بالبناء للمفعول ( ودعا بأن لا يجعل بأسهم بينهم) أي الحرب والفتن والاختلاف ( فمنعها قال صدقت) يدل على أنه كان يعلم ما سأله عنه ( قال ابن عمر فلن يزال الهرج) بفتح الهاء وسكون الراء وبالجيم القتل ( إلى يوم القيامة) قضاء نافذ من الله ففي مسلم عن ثوبان رفعه: إن الله زوى لي مشارق الأرض ومغاربها وسيبلغ ملك أمتي ما زوى لي منها الحديث، وفيه: وإني سألت الله أن لا يهلك أمتي بسنة عامة ولا يسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم وأن لا يلبسهم شيعا ويذيق بعضهم بأس بعض فقال يا محمد إني إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد وإني أعطيتك لأمتك أن لا أهلكهم بسنة عامة وأن لا أسلط عليهم عدوا من غيرهم ولو اجتمع عليهم من بين أقطارها حتى يكون بعضهم يهلك بعضًا.

قال ابن عبد البر: دعا صلى الله عليه وسلم في مسجد الفتح يوم الإثنين ويوم الثلاثاء ويوم الأربعاء فاستجيب له يوم الأربعاء بين الصلاتين فعرف البشر في وجهه قال جابر فما نزل بي أمر يهمني إلا توخيت تلك الساعة فأعرف الإجابة.

( مالك عن زيد بن أسلم أنه كان يقول ما من داع يدعو إلا كان بين إحدى ثلاث إما أن يستجاب له) بعين ما سأل ( وإما أن يدخر له) يوم القيامة ( وإما أن يكفر عنه) من الذنوب في نظير دعائه.
قال ابن عبد البر: هذا لا يكون رأيًا بل توقيف وهو خبر محفوظ عن النبي صلى الله عليه وسلم ثم أخرج عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال دعاء المسلم بين إحدى ثلاث إما أن يعطى مسألته التي سأل أو يرفع بها درجة أو يحط بها عنه خطيئة ما لم يدع بقطيعة رحم أو مأثم أو يستعجل قال وأخرج ابن جرير وابن أبي شيبة عن أبي سعيد قال صلى الله عليه وسلم إن دعوة المسلم لا ترد ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم إما أن تعجل له في الدنيا وإما أن تدخر له في الآخرة وإما أن يصرف عنه من السوء بقدر ما دعاه وهذا من التفسير المسند لقوله تعالى: { { ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ } } فهذه كلمة استجابة والله تعالى لا تنقضي حكمته ولذا لا تقع الإجابة في كل دعوة { { وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ } } وفي الحديث إن الله ليبتلي العبد وهو يحبه ليسمع تضرعه انتهى.



رقم الحديث 510 وَحَدَّثَنِي عَنْ مالِكٍ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ الْمَكِّيِّ، عَنْ طَاوُسٍ الْيَمَانِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُعَلِّمُهُمْ هَذَا الدُّعَاءَ.
كَمَا يُعَلِّمُهُمُ السُّورَةَ مِنَ الْقُرْآنِ، يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ.


( مالك عن أبي الزناد) عبد الله بن ذكوان ( عن الأعرج) عبد الرحمن بن هرمز ( عن أبي هريرة) عبد الرحمن بن صخر أو عمرو بن عامر ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لكل نبي دعوة) مستجابة ( يدعو بها) بهذه الدعوة مقطوع فيها بالإجابة وما عداها على رجاء الإجابة على غير يقين ولا وعد وبهذا أجيب عن إشكال ظاهره بما وقع لكثير من الأنبياء من الدعوات المجابة ولا سيما نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وبأن معناه أفضل دعوات كل نبي ولهم دعوات أخرى وبأن معناه لكل منهم دعوة عامة مستجابة في أمته إما بإهلاكهم وإما بنجاتهم وأما الدعوات الخاصة فمنها ما يستجاب ومنها ما لا يستجاب وقيل لكل منهم دعوة تخصه لدنياه أو لنفسه كقول نوح: { { رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا } } وقول زكريا: { { رب هب لي من لدنك وليا } } وقول سليمان: { { رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لاَّ يَنبَغِي لأحَدٍ مِّن بَعْدِي } } حكاه ابن التين.

وقال ابن عبد البر: معناه عندي أن كل نبي أعطي أمنية يتمنى بها لأنه محال أن يكون نبينا أو غيره من الأنبياء لا يجاب من دعائه إلا دعوة واحدة وما يكاد أحد يخلو من إجابة دعوته إذا شاء ربه قال تعالى: { { فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ } } وقال صلى الله عليه وسلم: دعوة المظلوم لا ترد ولو كانت من كافر.
وقال عليه السلام: ما من داع إلا كان بين إحدى ثلاث إما أن يستجاب له فيما دعا وإما أن يدخر له مثله وإما أن يكفر عنه وجاء في ساعة الجمعة لا يسأل فيها عبد ربه شيئا إلا أعطاه وقال في الدعاء بين الأذان والإقامة وعند الصف في سبيل الله وعند الغيث وغير ذلك أنها أوقات ترجى فيها إجابة الدعاء ( فأريد أن أختبئ) بسكون المعجمة وفتح الفوقية وكسر الموحدة، فهمزة أي أدخر ( دعوتي) المقطوع بإجابتها ( شفاعة لأمتي في الآخرة) في أهم أوقات حاجتهم ففيه كمال شفقته على أمته ورأفته بهم واعتناؤه بالنظر في مصالحهم جزاه الله عنا أفضل ما جزى نبيًا عن أمته.

قال ابن بطال في الحديث بيان فضيلة نبينا على سائر الأنبياء حيث آثر أمته على نفسه وأهل بيته بدعوته المجابة ولم يجعلها أيضًا دعاء عليهم كما وقع لغيره ممن تقدم وقال ابن الجوزي هذا من حسن تصرفه صلى الله عليه وسلم لأنه جعل الدعوة فيما ينبغي ومن كثرة كرمه لأنه آثر أمته على نفسه ومن صحة نظره لأنه جعلها للمذنبين من أمته لكونهم أحوج إليها من الطائعين هذا وقول بعض شراح المصابيح جميع دعوات الأنبياء مجابة والمراد بهذا الحديث أن كل نبي دعا على أمته بالإهلاك إلا أنا فلم أدع فأعطيت الشفاعة عوضا عن ذلك للصبر على أذاهم والمراد بالأمة أمة الدعوة لا أمة الإجابة تعقبه الطيبي بأنه صلى الله عليه وسلم دعا على أحياء العرب وعلى أناس من قريش بأسمائهم ودعا على رعل وذكوان ومضر قال والأولى أن يقال جعل الله لكل نبي دعوة تستجاب في حق أمته فنالها كل منهم في الدنيا وأما نبينا فإنه لما دعا على بعض أمته نزل عليه { { لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ } } فأبقى تلك الدعوة المستجابة مدخرة للآخرة وغالب من دعا عليهم لم يرد إهلاكهم وإنما أراد ردعهم ليتوبوا قال وأما جزمه أولا بأن جميع أدعية الأنبياء مجابة فغفلة عن الحديث سألت الله ثلاثا فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة الحديث انتهى وفيه إثبات الشفاعة.

قال ابن عبد البر: وهي ركن من أركان اعتقاد أهل السنة قال: وأجمعوا على أن قوله تعالى: { { عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا } } هو الشفاعة في المذنبين من أمته إلا ما روي عن مجاهد أنه جلوسه على العرش وروى عنه كالجماعة فصار إجماعا وقد صح نصا عن النبي صلى الله عليه وسلم وأحاديث الشفاعة متواترة صحاح منها شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي وقال جابر من لم يكن من أهل الكبائر فما له وللشفاعة ولا ينازع في ذلك إلا أهل البدع انتهى.

وهذا الحديث رواه البخاري في الدعوات حدثني إسماعيل قال: حدثني مالك به.
ومسلم من طريق ابن وهب عن مالك عن ابن شهاب عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة مرفوعًا به فلمالك فيه إسنادان.

( مالك عن يحيى بن سعيد أنه بلغه) قال أبو عمر: لم تختلف الرواة عن مالك في سنده ولا في متنه ورواه أبو شيبة عن أبي خالد الأحمر عن يحيى بن سعيد عن مسلم بن يسار ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو فيقول) وهو مرسل فمسلم تابعي ( اللهم فالق الإصباح) قال الباجي: أي خلقه وابتدأه وأظهره ( وجاعل الليل سكنًا) أي يسكن فيه قال الباجي: الجعل لغة الخلق والحكم والتسمية فإذا تعدى إلى مفعول واحد فهو بمعنى الخلق كقوله { { وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ } } وإلى مفعولين فيكون بمعنى الحكم والتسمية نحو: { { وَجَعَلُوا الْمَلاَئِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا } } وبمعنى الخلق كقولهم: الحمد لله الذي جعلني مسلمًا فقوله: ( وجاعل الليل سكنا) يحتمل الوجهين ( والشمس والقمر حسبانًا) قال أبو عمر: أي حسابًا أي بحساب معلوم وقد يكون جمع حساب كشهاب وشهبان وقال الباجي: أي يحسب بهما الأيام والشهور والأعوام قال تعالى: { { هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ } } ( اقض عني الدين) قال ابن عبد البر: الأظهر فيه ديون الناس ويدخل في ذلك ديون الله تعالى وفي الحديث دين الله أحق أن يقضى ( واغنني من الفقر) لأنه بئس الضجيع وهذا الفقر هو الذي لا يدرك معه القوت وقد أغناه الله تعالى كما قال: { { وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى } } ولم يكن غناه أكثر من اتخاذ قوت سنة لنفسه وعياله والغنى كله في قلبه ثقة بربه وقال: اللهم ارزق آل محمد قوتًا ولم يرد بهم إلا الأفضل وقال ما قل وكفى خير مما كثر وألهى وكان يستعيذ من فقر مبئس وغنى مطغ ويستعيذ من فتنة الغنى والفقر وقال: اللهم أحيني مسكينًا وأمتني مسكينًا واحشرني في زمرة المساكين ولا تجعلني جبارًا شقيًا.
والمسكين هنا المتواضع لا السائل لأنه صلى الله عليه وسلم كره السؤال ونهى عنه وحرمه على من يجد ما يغديه ويعشيه والآثار في هذا كثيرة وربما ظهر في بعضها تعارض وبهذا التأويل تتقارب معانيها فمن آتاه الله سعة وجب شكره عليها ومن ابتلي بالفقر وجب عليه الصبر إلا أن الفرائض تتوجه على الغني وهي ساقطة عن الفقير وللقيام بها فضل عظيم وللصبر على الفقر ثواب جسيم { { إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } } وخير الأمور أوساطها أشار له أبو عمر.

وقال أبو عبد الملك قيل أراد فقر النفس وقيل الفقر من الحسنات وقيل الفقر من المال الذي يخشى على صاحبه إذا استولى عليه نسيان الفرائض وذكر الله وجاء في الأثر اللهم إني أعوذ بك من فقر ينسيني وغنى يطغيني وهذا التأويل يدل على أن الكفاف أفضل من الفقر والغنى لأنهما بليتان يختبر الله بهما عباده.
( وأمتعني بسمعي) لما فيه من التنعم بالذكر وسماع ما يسر ( وبصري) لما فيه من رؤية مخلوقات الله والتدبر فيها وغير ذلك وفيه لغيره تلاوة القرآن في المصحف ( و) أمتعني ( بقوتي) بفوقية قبل الياء واحدة القوي ويروى وقوني بنون بدل الفوقية قال ابن عبد البر والأول أكثر عند الرواة ( في سبيلك) قال الباجي يحتمل أن يريد الجهاد وأن يريد جميع أعمال البر من تبليغ الرسالة وغيرها فذلك كله سبيل الله وقد قال مالك من قال مالي في سبيل الله سبل الله تعالى كثيرة ولكن يوضع في الغزو فخصه بالعرف قال ابن عبد البر ولا يعارض هذا ما جاء عن الله تعالى إذا أخذت كريمتي عبدي فصبر واحتسب لم يكن له جزاء إلا الجنة لأن هذا من الفرائض والحض على الصبر بعد الوقوع فلا ينافي الدعاء بالإمتاع قبل وقوعه لأنه أقرب إلى الشكر قال مطرف بن الشخير لأن أعافى فأشكر أحب إلي من أن ابتلى فأصبر.
( مالك عن أبي الزناد) بكسر الزاي ( عن الأعرج) عبد الرحمن بن هرمز ( عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا يقل أحدكم إذا دعا) طلب من الله ( اللهم اغفر لي إن شئت اللهم ارحمني إن شئت) زاد في رواية همام عن أبي هريرة عند البخاري: اللهم ارزقني إن شئت لأن التعليق بالمشيئة إنما يحتاج إليه إذا كان المطلوب منه يتأتى إكراهه على الشيء فيخفف الأمر عليه ويعلمه بأنه لا يطلب منه ذلك الشيء إلا برضاه والله تعالى منزه عن ذلك فلا فائدة للتعليق وقيل لأن فيه صورة الاستغناء عن المطلوب والمطلوب منه والأول أولى قال ابن عبد البر لا يجوز لأحد أن يقول اللهم أعطني إن شئت وغير ذلك من أمور الدين والدنيا لأنه كلام مستحيل لا وجه له إذ لا يفعل إلا ما يشاء وظاهره أنه حمل النهي على التحريم وهو الظاهر وحمله النووي على كراهة التنزيه وهو أولى ( ليعزم المسألة) قال الداودي أي يجتهد ويلح ولا يقول إن شئت كالمستثنى ولكن دعاء البائس الفقير وكأنه أشار بقوله كالمستثنى إلى أنه إذا قالها على سبيل التبرك لا يمنع وهو جيد قاله الحافظ وقال الباجي أي يخلي سؤاله ودعاءه من لفظ المشيئة لأنها إنما تشترط فيمن يصح أن يفعل دون أن يشاء لإكراه أو غيره فينبغي أن يسأل سؤال من يعلم أنه لا يفعل إلا ما يشاء وقد بين ذلك صلى الله عليه وسلم بقوله ( فإنه) تعالى ( لا مكره له) بكسر الراء.

قال ابن بطال فيه أنه ينبغي للداعي أن يجتهد في الدعاء ويكون على رجاء الإجابة ولا يقنط من الرحمة فإنه يدعو كريما قال ابن عيينة لا يمنعن أحدا الدعاء ما يعلم من نفسه يعني من التقصير فإن الله تعالى قد أجاب دعاء شر خلقه وهو إبليس حين قال رب { { أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ } } وفي الترمذي: وقال غريب عن أبي هريرة مرفوعا ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة واعلموا أن الله لا يستجيب دعاء من قلب غافل لاه قال التوربشتي أي كونوا على حالة تستحقون فيها الإجابة وذلك بإتيان المعروف واجتناب المنكر وغير ذلك من مراعاة أركان الدعاء وآدابه حتى تكون الإجابة على القلب أغلب من الرد أو المراد ادعوه معتقدين وقوع الإجابة لأن الداعي إذا لم يكن متحققا في الرجاء لم يكن رجاؤه صادقا وإذا لم يصدق رجاؤه لم يكن الرجاء خالصا والداعي مخلصا فإن الرجاء هو الباعث على الطلب ولا يتحقق الفرع إلا بتحقق الأصل وهذا الحديث رواه البخاري وأبو داود عن القعنبي عن مالك به وهو في الصحيحين من حديث أنس بنحوه.

( مالك عن ابن شهاب عن أبي عبيد) بضم العين وتنوين الدال واسمه سعد بسكون العين ابن عبيد ثقة من كبار التابعين وقيل له إدراك مات بالمدينة سنة ثمان وتسعين ( مولى ابن أزهر) بفتح الهمزة والهاء بينهما زاي ساكنة آخره راء عبد الرحمن الزهري المدني صحابي صغير ( عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يستجاب لأحدكم ما لم يعجل) بفتح التحتية والجيم بينهما عين ساكنة من الاستجابة بمعنى الإجابة قال الشاعر:

فلم يستجبه عند ذاك مجيب

أي يجاب دعاء كل واحد منكم لأن الاسم المضاف مفيد للعموم على الأصح ( فيقول) بالفاء بيان لقوله ما لم يعجل ( قد دعوت فلم يستجب لي) بضم التحتية وفتح الجيم.
قال الباجي: يحتمل أن يريد بقوله يستجاب الإخبار عن وجوب وقوع الإجابة أي تحقق وقوعها أو الإخبار عن جواز وقوعها فإن أريد الوجوب فهو بأحد ثلاثة أشياء تعجيل ما سأله أو يكفر عنه به أو يدخر له فإذا قال دعوت إلخ بطل وجوب أحد هذه الثلاثة وعرى الدعاء عن جميعها وإن أريد الجواز فيكون الإجابة بفعل ما دعا به ومنعه قوله دعوت فلم يستجب لأنه من ضعف اليقين والتسخط وفي مسلم والترمذي عن أبي هريرة مرفوعا لا يزال يستجاب للعبد ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم وما لم يستعجل قيل وما الاستعجال قال يقول قد دعوت وقد دعوت فلم أر يستجاب لي فيستحسر عند ذلك ويدع الدعاء ويستحسر بمهملات استفعال من حسر إذا أعيا وتعب وتكرار دعوت للاستمرار أي دعوت مرارًا كثيرة قال المظهري من له ملالة من الدعاء لا يقبل دعاؤه لأن الدعاء عبادة حصلت الإجابة أو لم تحصل فلا ينبغي للمؤمن أن يمل من العبادة وتأخير الإجابة إما لأنه لم يأت وقتها وإما لأنه لم يقدر في الأزل قبول دعائه في الدنيا ليعطى عوضه في الآخرة وإما أن يؤخر القبول ليلح ويبالغ في ذلك فإن الله يحب الملحين في الدعاء مع ما في ذلك من الانقياد والاستسلام وإظهار الافتقار ومن يكثر قرع الباب يوشك أن يفتح له ومن يكثر الدعاء يوشك أن يستجاب له.

والحديث رواه البخاري عن عبد الله بن يوسف ومسلم عن يحيى بن يحيى كلاهما عن مالك به.

( مالك عن ابن شهاب عن أبي عبد الله) سلمان بسكون اللام ( الأغر) بفتح الغين المعجمة وشد الراء الجهني مولاهم المدني وأصله من أصبهان ( وعن أبي سلمة بن عبد الرحمن) بن عوف القرشي الزهري ( عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ينزل ربنا) اختلف فيه فالراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا على طريق الإجمال منزهين لله تعالى عن الكيفية والتشبيه ونقله البيهقي وغيره عن الأئمة الأربعة والسفيانين والحمادين والليث والأوزاعي وغيرهم قال البيهقي وهو أسلم ويدل عليه اتفاقهم على أن التأويل المعين لا يجب فحينئذ التفويض أسلم وقال ابن العربي النزول راجع إلى أفعاله لا إلى ذاته بل ذلك عبارة عن ملكه الذي ينزل بأمره ونهيه فالنزول حسي صفة الملك المبعوث بذلك أو معنوي بمعنى لم يفعل ثم فعل فسمي ذلك نزولا عن مرتبة إلى مرتبة فهي عربية صحيحة والحاصل أنه تأوله بوجهين إما أن المعنى ينزل أمره أو الملك وإما أنه استعارة بمعنى التلطف بالداعين والإجابة لهم ونحوه وكذا حكي عن مالك أنه أوله بنزول رحمته وأمره أو ملائكته كما يقال فعل الملك كذا أي أتباعه بأمره لكن قال ابن عبد البر قال قوم ينزل أمره ورحمته وليس بشيء لأن أمره بما يشاء من رحمته ونعمته ينزل بالليل والنهار بلا توقيت ثلث الليل ولا غيره ولو صح ذلك عن مالك لكان معناه أن الأغلب في الاستجابة ذلك الوقت وقال الباجي هو إخبار عن إجابة الداعي وغفرانه للمستغفرين وتنبيه على فضل الوقت كحديث إذا تقرب إلي عبدي شبرًا تقربت إليه ذراعًا الحديث لم يرد قرب المسافة لعدم إمكانه وإنما أراد العمل من العبد ومنه تعالى الإجابة وحكى ابن فورك أن بعض المشايخ ضبطه بضم أوله على حذف المفعول أي ينزل ملكا قال الحافظ ويقويه ما رواه النسائي من طريق الأغر عن أبي هريرة وأبي سعيد أن الله يمهل حتى يمضي شطر الليل ثم يأمر مناديا يقول هل من داع فيستجاب له الحديث وحديث عثمان بن أبي العاص عند أحمد ينادي مناد هل من داع يستجاب له الحديث قال القرطبي وبهذا يرتفع الإشكال ولا يعكر عليه حديث رفاعة الجهني عند النسائي ينزل الله إلى سماء الدنيا فيقول لا أسأل عن عبادي غيري لأنه لا يلزم من إنزاله الملك أن يسأله عن صنع العباد بل يجوز أنه مأمور بالمناداة ولا يسأل البتة عما بعدها فهو أعلم سبحانه بما كان وما يكون انتهى ولك أن تقول الإشكال مدفوع حتى على أنه ينزل بفتح أوله الذي هو الرواية الصحيحة وكل من حديثي النسائي وأحمد يقوي تأويله بأنه من مجاز الحذف أو الاستعارة وقال البيضاوي لما ثبت بالقواطع أنه سبحانه منزه عن الجسمية والتحيز امتنع عليه النزول على معنى الانتقال من موضع إلى موضع أخفض منه فالمراد دنو رحمته أي ينتقل من مقتضى صفة الجلال التي تقتضي الغضب والانتقام إلى مقتضى صفة الإكرام التي تقتضي الرأفة والرحمة ( تبارك وتعالى) جملتان معترضتان بين الفعل وظرفه وهو ( كل ليلة) لما أسند النزول إلى ما لا يليق إسناده حقيقة إليه اعترض بما يدل على التنزيه كقوله تعالى { { وَيَجْعَلُونَ للهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُم مَّا يَشْتَهُونَ } } ( إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر) برفعه صفة ثلث وتخصيصه بالليل وثلثه الآخر لأنه وقت التهجد وغفلة الناس عن التعرض لنفحات رحمة الله وعند ذلك تكون النية خالصة والرغبة إلى الله وافرة وذلك مظنة القبول والإجابة ولم تختلف الروايات عن الزهري في تعيين الوقت واختلف عن أبي هريرة وغيره.

قال الترمذي: رواية أبي هريرة أصح الروايات في ذلك ويقويه أن الروايات المخالفة له اختلف فيها على راويها وانحصرت في ستة هذه، ثانيها: إذا مضى الثلث الأول.
ثالثها: الثلث الأول أو النصف.
رابعها: النصف.
خامسها: الثلث الأخير أو النصف.
سادسها: الإطلاق فجمع بينها بحمل المطلقة على المقيدة، وأما التي بأو فإن كانت للشك فالجزم مقدم على الشك، وإن كانت للتردد بين حالتين فيجمع بأن ذلك يقع بحسب اختلاف الأحوال لأن أوقات الليل تختلف في الزيادة وفي الأوقات باختلاف تقدم الليل عند قوم وتأخره عند قوم أو النزول يقع في الثلث الأول والقول يقع في النصف وفي الثلث الثاني أو يحمل ذلك على وقوعه في جميع الأوقات التي وردت بها الأحاديث ويحمل على أنه صلى الله عليه وسلم أعلم بأحد الأمور في وقت فأخبر به ثم أعلم به في وقت آخر فأخبر به فنقل الصحابة ذلك عنه ( فيقول من يدعوني فأستجيب) أي أجيب ( له) دعاءه فليست السين للطلب ( من يسألني فأعطيه) مسؤوله ( من يستغفرني فأغفر له) ذنوبه بنصب الأفعال الثلاثة في جواب الاستفهام وبالرفع على الاستئناف وبهما قرئ { { مَن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ } } ولم تختلف الروايات عن الزهري في الاقتصار على الثلاثة والفرق بينها أن المطلوب إما رفع المضار أو جلب المسار وذلك إما دنيوي أو ديني ففي الاستغفار إشارة إلى الأول والدعاء إشارة إلى الثاني والسؤال إشارة إلى الثالث وقال الكرماني يحتمل أن الدعاء ما لا طلب فيه والسؤال الطلب ويحتمل أن المقصود واحد وإن اختلف اللفظ انتهى.

وزاد سعيد المقبري عن أبي هريرة هل من تائب فأتوب عليه، وزاد أبو جعفر عنه من ذا الذي يسترزقني فأرزقه من ذا الذي يستكشف الضر فأكشف عنه وزاد عطاء مولى أم صبية بضم الصاد المهملة وموحدة عنه ألا سقيم يستشفي فيشفى رواها النسائي ومعانيها داخلة فيما تقدم وزاد سعيد بن مرجانة عنه من يقرض غير عديم ولا ظلوم رواه مسلم وفيه تحريض على عمل الطاعة وإشارة إلى جزيل ثوابها وزاد حجاج بن أبي منيع عن الزهري عند الدارقطني حتى الفجر وفي رواية يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة حتى يطلع الفجر وعليه اتفق معظم الروايات وللنسائي عن نافع بن جبير عن أبي هريرة حتى تحل الشمس وهي شاذة وفي الحديث تفضيل آخر الليل على أوله وأنه أفضل للدعاء والاستغفار ويشهد له قوله تعالى: { { وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأسْحَارِ } } وأن الدعاء ذلك الوقت مجاب ولا يعترض بتخلفه عن بعض الداعين لأن سببه وقوع الخلل في شرط من شروط الدعاء كالاحتراز في المطعم والمشرب والملبس أو لاستعجال الداعي أو بأن يكون الدعاء بإثم أو قطيعة رحم أو تحصل الإجابة ويتأخر وجود المطلوب لمصلحة العبد أو لأمر يريده الله تعالى هذا وقد حمل المشبهة الحديث وأحاديث التشبيه كلها على ظاهرها تعالى الله عن قولهم وأما المعتزلة والخوارج فأنكروا صحتها جملة وهو مكابرة والعجب أنهم أولوا ما في القرآن من نحو ذلك وأنكروا الأحاديث جهلا أو عنادا ومن العلماء من فرق بين التأويل القريب المستعمل لغة وبين البعيد المهجور فأول في بعض وفوض في بعض وجزم به من المتأخرين ابن دقيق العيد ونقل عن الإمام قال الباجي منع مالك في العتبية التحديث بحديث اهتز العرش لموت سعد بن معاذ وحديث إن الله خلق آدم على صورته وحديث الساق وقال ما يدعو الإنسان إلى أن يحدث به وهو يرى ما فيه من التغرير ولم ير مثله حديث إن الله يضحك وحديث ينزل ربنا فأجاز التحديث بهما قال فيحتمل الفرق بينهما بأن حديث التنزل والضحك أحاديث صحاح لم يطعن في شيء منهما وحديث العرش والصورة والساق لا تبلغ أحاديثها في الصحة درجة التنزل والضحك وبأن التأويل في حديث التنزل أقرب وأبين والعذر بسوء التأويل فيها أبعد انتهى.

وأخرجه البخاري في الصلاة عن القعنبي وفي الدعوات عن عبد العزيز بن عبد الله الأويسي وفي التوحيد عن إسماعيل ومسلم في الصلاة عن يحيى بن يحيى كلهم عن مالك به.

( مالك عن يحيى بن سعيد) الأنصاري ( عن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي) تيم قريش ( أن عائشة أم المؤمنين) قال ابن عبد البر: لم يختلف عن مالك في إرساله وهو مسند من حديث الأعرج عن أبي هريرة عن عائشة ومن حديث عروة عن عائشة من طرق صحاح ثم أخرجه من الوجهين وطريق الأعرج أخرجها مسلم وأبو داود والنسائي من طريق عبيد الله بن عمر عن محمد بن يحيى بن حبان عن الأعرج عن أبي هريرة عن عائشة ( قالت كنت نائمة إلى جنب رسول الله صلى الله عليه وسلم ففقدته) بفتح القاف، وفي رواية افتقدته وهما لغتان بمعنى عدمته ( من الليل) وفي رواية عروة وكان معي على فراشي ( فلمسته بيدي) وفي رواية فالتمسته في البيت وجعلت أطلبه بيدي ( فوضعت يدي على قدميه) زاد في رواية وهما منتصبتان ( وهو ساجد) وفيه أن اللمس بلا لذة لا ينقض الوضوء واحتمال أنه كان فوق حائل خلاف الأصل فسمعته ( يقول) زاد في رواية اللهم إني ( أعوذ برضاك من سخطك) أي بما يرضيك مما يسخطك فخرج عن حظ نفسه بإقامة حرمة محبوبه فهذا لله ثم الذي لنفسه قوله ( وبمعافاتك من عقوبتك) وفي إضافتها كالسخط إليه دليل لأهل السنة على جواز إضافة الشر إليه تعالى كالخير واستعاذ بها بعد استعاذته برضاه لأنه يحتمل أن يرضى من جهة حقوقه ويعاقب على حقوق غيره ( وبك منك) قال عياض: ترق من الأفعال إلى منشئ الأفعال مشاهدة للحق وغيبة عن الخلق الذي هو محض المعرفة الذي لا يعبر عنه قول ولا يضبطه وصف فهو محض التوحيد وقطع الالتفات إلى غيره وإفراده بالاستعانة وغيرها.

قال الخطابي وفيه معنى لطيف لأنه استعاذ بالله وسأله أن يجيره برضاه من سخطه وبمعافاته من عقوبته والرضا والسخط ضدان كالمعافاة والعقوبة فلما ذكر ما لا ضد له وهو الله سبحانه وتعالى استعاذ به منه لا غير ومعناه الاستغفار من التقصير في بلوغ الواجب من عبادته والثناء عليه ولذا قال ( لا أحصي ثناء عليك) قال ابن الأثير: أي لا أبلغ الواجب في الثناء عليك وقال الراغب أي لا أحصل ثناء لعجزي عنه إذ هو نعمة تستدعي شكرًا وهكذا إلى غير نهاية وقيل معناه لا أعد كما في الصحاح لأن معنى الإحصاء العد بالحصى كما قال:

ولست بالأكثر منهم حصى
وإنما العزة للكاثر

وعليه فهو من نفي الملزوم المعبر عنه بالإحصاء المفسر بالعد وإرادة نفي اللازم وهو استيعاب المعدود فكأنه قيل لا أستوعب فالمراد نفي القدرة عن الإتيان بجميع الثناءات أو فرد منها يفي بنعمة من نعمه لا عدها إذ لا يمكن عد أفراد كثيرة من الثناء وقال ابن عبد البر روينا عن مالك أن معناه وإن اجتهدت في الثناء عليك فلن أحصي نعمك ومننك وإحسانك ( أنت) مبتدأ خبره ( كما أثنيت) أي الثناء عليك هو المماثل لثنائك ( على نفسك) ولا قدرة لأحد عليه ويحتمل أن أنت تأكيد للكاف من عليك باستعارة الضمير المنفصل للمتصل، والثناء بتقديم المثلثة والمد الوصف بالجميل على المشهور لغة، واستعماله في الشر مجاز وقال المجد: وصف بمدح أو ذم أو خاص بالمدح.
قال ابن عبد البر فيه دليل على أنه لا يبلغ وصفه وأنه إنما يوصف بما وصف به نفسه انتهى وقال النووي فيه اعتراف بالعجز عن الثناء عليه وأنه لا يقدر على بلوغ حقيقته ورد الثناء إلى الجملة دون التفصيل والتعيين فوكل ذلك إليه سبحانه المحيط بكل شيء جملة وتفصيلا وكما أنه لا نهاية لصفاته لا نهاية للثناء عليه لأن الثناء تابع للمثني عليه فكل شيء أثنى عليه به وإن كثر وطال وبولغ فيه فقدر الله أعظم وسلطانه أعز وصفاته أكثر وأكبر وفضله أوسع وأسبغ.

( مالك عن زياد بن أبي زياد) ميسرة المخزومي مولاهم المدني الثقة العابد قال مالك: كان يلبس الصوف ويكون وحده ولا يجالس أحدًا.
لمالك عنه مرفوعًا هذا الحديث الواحد رواه هنا.
وفي الحج ونسبه فزاد مولى عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة المخزومي ( عن طلحة بن عبيد الله) بضم العين ( بن كريز) بفتح الكاف وكسر الراء وإسكان التحتية وزاي منقوطة الخزاعي أبي المطرف المدني وثقه أحمد والنسائي وروى له مسلم وأصحاب السنن وهو تابعي قال الولي العراقي ووهم من ظنه أحد العشرة قال ابن عبد البر لا خلاف عن مالك في إرساله ولا أحفظه بهذا الإسناد مسندا من وجه يحتج به وقد جاء مسندا من حديث علي وابن عمرو والفضائل لا تحتاج إلى من يحتج به ثم أخرج حديث علي من طريق ابن أبي شيبة وجاء أيضا من حديث أبي هريرة أخرجه هو وحديث ابن عمر والبيهقي في الشعب.

( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أفضل الدعاء) مبتدأ خبره ( دعاء يوم عرفة) قال الباجي: أي أعظمه ثوابًا وأقربه إجابة ويحتمل أن يريد به اليوم ويحتمل أن يريد الحاج خاصة ( وأفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي) ولفظ حديث علي أكثر دعائي ودعاء الأنبياء قبلي بعرفة ( لا إله إلا الله وحده لا شريك له) زاد في حديث أبي هريرة: له الملك وله الحمد يحيي ويميت، بيده الخير وهو على كل شيء قدير.
وكذا في حديث علي لكن ليس فيه بيده الخير وفي حديث ابن عمر ولكن ليس فيه يحيي ويميت وفيه بيده الخير قال ابن عبد البر فيه أن الثناء دعاء وفي المرفوع يقول الله عز وجل من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين وفيه تفضيل الدعاء بعضه على بعض والأيام بعضها على بعض وأن ذلك أفضل الذكر لأنها كلمة الإسلام والتقوى وقال آخرون أفضله الحمد لله رب العالمين لأن فيه معنى الشكر وفيه من الإخلاص ما في لا إله إلا الله وافتتح الله كلامه به وختم به وهو آخر دعوى أهل الجنة وروت كل فرقة بما قالت أحاديث كثيرة وساق جملة منها في التمهيد ووقع في تجريد الصحاح لرزين بن معاوية الأندلسي زيادة في أول هذا الحديث وهي أفضل الأيام يوم عرفة وافق يوم جمعة وهو أفضل من سبعين حجة في غير يوم الجمعة وأفضل الدعاء إلخ وتعقبه الحافظ فقال حديث لا أعرف حاله لأنه لم يذكر صحابيه ولا من خرجه بل أدرجه في حديث الموطأ هذا وليست هذه الزيادة في شيء من الموطآت فإن كان له أصل احتمل أن يراد بالسبعين التحديد أو المبالغة في الكثرة وعلى كل حال منهما ثبتت المزية انتهى وفي الهدي لابن القيم ما استفاض على ألسنة العوام أن وقفة الجمعة تعدل ثنتين وسبعين حجة فباطل لا أصل له عن رسول الله ولا عن أحد من الصحابة والتابعين انتهى.

( مالك عن أبي الزبير) محمد بن مسلم ( المكي) الأسدي مولاهم صدوق وقال ابن معين ثقة وقال أحمد لا بأس به وقال أبو عمر ثقة حافظ متقن.
روى عنه مالك والسفيانان والليث وابن جريج وجماعة من الأئمة لا يلتفت إلى قول شعبة فيه وروى له الجميع مات بمكة سنة ست وعشرين وقيل ثمان وعشرين ومائة ( عن طاوس) بن كيسان ( اليماني) الحضرمي مولاهم الفارسي يقال: اسمه ذكوان وطاوس لقب، ثقة فقيه فاضل مات سنة ست ومائة وقيل بعدها ( عن عبد الله بن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعلمهم هذا الدعاء كما يعلمهم السورة من القرآن) تشبيه في تحفيظ حروفه وترتيب كلماته ومنع الزيادة والنقص منه والدرس له والمحافظة عليه ( يقول اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم) أي عقوبتها والإضافة مجازية أو من إضافة المظروف إلى ظرفه ( وأعوذ بك من عذاب القبر) العذاب اسم للعقوبة والمصدر التعذيب فهو مضاف إلى الفاعل مجازًا أو الإضافة من إضافة المظروف إلى ظرفه على تقدير في أي من عذاب في القبر وفيه رد على من أنكره ( وأعوذ بك من فتنة) امتحان واختبار ( المسيح) بفتح الميم وخفة السين المكسورة وحاء مهملة وصحف من أعجمها يطلق على الدجال وعلى عيسى عليه السلام لكن إذا أريد الأول قيد كما قال ( الدجال) وقال أبو داود: المسيح مثقل الدجال ومخفف عيسى والمشهور الأول، ونقل المستملي عن الفربري عن خلف بن عامر الهمداني أحد الحفاظ المسيح بالتشديد والتخفيف واحد يقال للدجال ولعيسى لا فرق بينهما بمعنى لا اختصاص لأحدهما بأحد الأمرين لقب بذلك لأنه ممسوح العين أو لأن أحد شقي وجهه خلق ممسوحا لا عين فيه ولا حاجب أو لأنه يمسح الأرض إذا خرج وقال الجوهري من خففه فلمسحه الأرض ومن شدد فلأنه ممسوح العين وأما عيسى فقيل لأنه خرج من بطن أمه ممسوحا بالدهن أو لأن زكريا مسحه أو لأنه كان لا يمسح ذا عاهة إلا برئ أو لمسحه الأرض بسباحته أو لأن رجله لا أخمص لها أو للبسه المسوح وقيل هو بالعبرانية ماسح فعرب المسيح وقيل المسيح الصديق ( وأعوذ بك من فتنة المحيا) هي ما يعرض للإنسان مدة حياته من الافتتان بالدنيا والشهوات والجهالات وأعظمها والعياذ بالله أمر الخاتمة عند الموت ( و) فتنة ( الممات) قال الباجي: هي فتنة القبر.
وقال أبو عمر: يحتمل إذا احتضر ويحتمل في القبر أيضًا.
وقال ابن دقيق العيد: يجوز أنها الفتنة عند الموت أضيفت إليه لقربها منه وفتنة المحيا ما قبل ذلك ويجوز أنها فتنة القبر وقد صح إنكم تفتنون في قبوركم مثل أو قريبًا من فتنة الدجال ولا يتكرر مع قوله عذاب القبر لأن العذاب مرتب على الفتنة والسبب غير المسبب وقيل فتنة المحيا الابتلاء مع زوال الصبر والممات السؤال في القبر مع الحيرة وهو من العام بعد الخاص لأن عذاب القبر داخل تحت فتنة الممات وفتنة الدجال داخلة تحت فتنة المحيا وروى الترمذي الحكيم عن سفيان الثوري إن الميت إذا سئل من ربك تراءى له الشيطان فيشير إلى نفسه أنا ربك فلذا ورد سؤال الثبات له حين يسأل ثم روي بسند جيد عن عمرو بن مرة كانوا يستحبون إذا وضع الميت في قبره أن يقولوا اللهم أعذه من الشيطان وفي مسلم عن أبي هريرة مرفوعًا إذا فرغ أحدكم من التشهد الآخر فليتعوذ من أربع من عذاب جهنم ومن عذاب القبر ومن فتنة المحيا والممات ومن شر المسيح الدجال قال الحافظ فهذا يعين أن هذه الاستعاذة بعد الفراغ من التشهد فيكون سابقا على غيره من الأدعية وما ورد أن المصلي يتخير من الدعاء ما شاء يكون بعد هذه الاستعاذة وقبل السلام انتهى وحديث ابن عباس أخرجه مسلم عن قتيبة بن سعيد عن مالك به وقال مسلم بعده بلغني أن طاوسا قال لابنه أدعوت بها في صلاتك قال لا قال أعد صلاتك لأن طاوسا رواه عن ثلاثة أو أربعة وهذا البلاغ أخرجه عبد الرزاق بسند صحيح وهو يدل على أنه يرى وجوبه وبه قال بعض أهل الظاهر.

( مالك عن أبي الزبير) محمد بن مسلم ( المكي عن طاوس اليماني عن عبد الله بن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قام إلى الصلاة من جوف الليل يقول) في موضع نصب خبر كان وقال الطيبي: الظاهر أنه جواب إذا والجملة الشرطية خبر كان وظاهره أنه كان يقول أول ما يقوم إلى الصلاة ولابن خزيمة من طريق قيس بن سعد عن طاوس عن ابن عباس كان صلى الله عليه وسلم إذا قام للتهجد قال بعد ما يكبر ( اللهم لك الحمد) الوصف بالجميل على التفضيل وأل فيه للاستغراق ( أنت نور السموات والأرض) أي منورهما وبك يهتدي من فيهما وقيل معناه أنت المنزه من كل عيب يقال فلان منور أي مبرأ من كل عيب ويقال هو مدح تقول فلان نور البلد أي مزينه ( ولك الحمد أنت قيام) بفتح التحتية المشددة فألف وكذا في رواية قيس بن سعد الحنظلي المكي عند مسلم وأبي داود بزنة فعال صيغة مبالغة وفي رواية سليمان الأحول عن طاوس في الصحيحين قيم وهما والقيوم بمعنى واحد ( السموات والأرض) زاد في رواية ومن فيهن أي أنت الذي تقوم بحفظهما وحفظ من أحاطت به واشتملت عليه تؤتي كلا ما به قوامه وتقوم كل شيء من خلقك بما تراه من تدبيرك وفي البخاري قال مجاهد القيوم القائم على كل شيء وقرأ عمر القيام أي في آية الكرسي وكلاهما مدح أي بخلاف القيم فيستعمل في المدح والذم وقيل القيم القائم بأمور الخلق ومدبر العالم في جميع أحواله ومنه قيم الطفل والقيوم والقيام القائم بنفسه مطلقا لا بغيره ويقوم به كل موجود حتى لا يتصور وجود شيء ولا دوام وجوده إلا به فمن عرف ذلك استراح عن كد التدبير وتعب الاشتغال وعاش براحة التفويض فلا يضن بكريمة ولا يجعل في قلبه للدنيا كثر قيمة.

( ولك الحمد أنت رب السموات والأرض ومن فيهن) عبر بمن تغليبًا للعقلاء على غيرهم فهو رب كل شيء ومليكه وكافله ومغذيه ومصلحه العواد عليه بنعمه وتكرير الحمد للاهتمام بشأنه وليناط به كل مرة معنى آخر وتقديم الجار والمجرور إفادة التخصيص وكأنه لما خص الحمد بالله قيل له لم خصصتني قال لأنك القائم بحفظ المخلوقات إلى غير ذلك.
( أنت الحق) أي المتحقق الوجود الثابت بلا شك فيه قال القرطبي هذا الوصف له سبحانه وتعالى بالحقيقة خاص به لا ينبغي لغيره إذ وجوده بنفسه فلم يسبقه عدم ولا يلحقه عدم بخلاف غيره وقال ابن التين يحتمل أنت الحق بالنسبة إلى من يدعي أنه إله أو بمعنى من سماك إلها فقد قال الحق ( وقولك الحق) أي مدلوله ثابت ( ووعدك الحق) لا يدخله خلف ولا شك في وقوعه وهو من الخاص بعد العام ( ولقاؤك حق) المراد به البعث بعد الموت وهو عبارة عن مآل الخلق في الآخرة بالنسبة إلى الجزاء على الأعمال وقيل معناه رؤيتك في الآخرة حيث لا مانع وقيل الموت قال النووي وهو باطل هنا قال الحافظ وهذا وما بعده داخل تحت الوعد لكن الوعد مصدر وما بعده هو الموعود به ويحتمل أنه من الخاص بعد العام.
( والجنة حق والنار حق) أي كل منهما موجود ( والساعة حق) أي يوم القيامة وأصل الساعة القطعة من الزمان وإطلاق اسم الحق على ما ذكر من الأمور معناه أنه لا بد من كونها وأنها مما يجب أن يصدق بها وتكرار لفظ حق مبالغة في التأكيد زاد في رواية سليمان عن طاوس عند الشيخين والنبيون حق ومحمد حق وعرف الحق في الثلاثة الأول قال الطيبي للحصر لأن الله هو الحق الثابت وما سواه في معرض الزوال قال لبيد:

ألا كل شيء ما خلا الله باطل

وكذا قوله: وكذا وعده مختص بالإنجاز دون وعد غيره والتنكير في البواقي للتعظيم.

وقال السهيلي التعريف للدلالة على أنه المستحق لهذا الاسم بالحقيقة إذ هو مقتضى الأداة وكذا قوله ووعده لأن وعده كلامه وتركت في البواقي لأنها أمور محدثة والمحدث لا يجب له البقاء من جهة ذاته وبقاء ما يدوم منه علم مخبر الصادق لا من جهة استحالة فنائه قال الطيبي وهنا سر دقيق وهو أنه صلى الله عليه وسلم لما نظر إلى المقام الإلهي ومقربي حضرة الربوبية عظم شأنه وفخم منزلته حيث ذكر النبيين وعرفها بلام الاستغراق ثم خص محمدا صلى الله عليه وسلم من بينهم وعطفه عليهم إيذانا بالتغاير وأنه فائق عليهم بأوصاف مختصة به فإن تغاير الوصف بمنزلة التغاير في الذات ثم حكم عليه استقلالا بأنه حق وجرده عن ذاته كأنه غيره وأوجب عليه تصديقه ولما رجع إلى مقام العبودية ونظر إلى افتقار نفسه نادى بلسان الاضطرار في مطاوي الانكسار فقال:

( اللهم لك أسلمت) انقدت وخضعت لأمرك ونهيك ( وبك آمنت) أي صدقت ( وعليك توكلت) أي فوضت أموري تاركًا النظر في الأسباب العادية ( وإليك أنبت) رجعت إليك مقبلاً بقلبي عليك ( وبك) أي بما أعطيتني من البرهان وبما لقنتني من الحجة ( خاصمت) من خاصمني من الكفار أو بتأييدك ونصرك قاتلت ( وإليك حاكمت) كل من جحد الحق وما أرسلتني به لا إلى من كانت الجاهلية تتحاكم إليه من كاهن ونحوه وقدم جميع صلات هذه الأفعال عليها إشعارًا بالتخصيص وإفادة للحصر وكذا قوله ولك الحمد.
( فاغفر لي ما قدمت) قبل هذا الوقت ( وأخرت) عنه ( وأسررت) أخفيت ( وأعلنت) أظهرت أو ما حدثت به نفسي وما تحرك به لساني زاد في رواية للبخاري وما أنت أعلم به مني وهو من العام بعد الخاص وقال ذلك مع أنه مغفور له إما تواضعا وهضما لنفسه وإجلالا وتعظيما لربه أو تعليمًا لأمته ليقتدى به قال الحافظ كذا قيل والأولى أنه لمجموع ذلك إذ لو كان للتعليم فقط لكفي فيه أمرهم بأن يقولوا زاد في رواية سليمان عن طاوس أنت المقدم والمؤخر أي المقدم لي في البعث يوم القيامة والمؤخر لي في البعث في الدنيا.

( أنت إلهي لا إله إلا أنت) زاد في رواية للبخاري: ولا حول ولا قوة إلا بالله.
قال الكرماني: هذا الحديث من جوامع الكلم لأن لفظ القيم إشارة إلى أن وجود الجواهر وقوامها منه والنور إلى أن الأعراض أيضا منه والملك إلى أنه حاكم عليها إيجادا وعدما يفعل ما يشاء وكل ذلك من نعمه على عباده فلذا قرن كلا منها بالحمد وخصص الحمد به ثم قوله أنت الحق إشارة إلى المبتدأ والقول ونحوه إلى المعاش والساعة ونحوها إشارة إلى المعاد وفيه الإشارة إلى النبوة وإلى الجزاء ثوابا وعقابا ووجوب الإيمان به والإسلام والتوكل والإنابة والتضرع إلى الله والخضوع له انتهى وفيه زيادة معرفته صلى الله عليه وسلم بعظمة ربه وعظيم قدرته ومواظبته على الذكر والدعاء والثناء على ربه والاعتراف لله بحقوقه والإقرار بصدق وعده.

وأخرجه مسلم في الصلاة عن قتيبة بن سعيد والترمذي في الدعوات من طريق معن كليهما عن مالك به وله طرق في الصحيحين وغيرهما.

( مالك عن عبد الله بن عبد الله بن جابر) وقيل جبر ( بن عتيك) بفتح العين المهملة وكسر الفوقية وإسكان التحتية وكاف الأنصاري المدني تابعي صغير من الثقات ( أنه قال جاءنا عبد الله بن عمر) بن الخطاب هكذا رواه يحيى وطائفة لم يجعلوا بين عبد الله شيخ مالك وبين ابن عمر أحدًا.
ومنهم من أدخل بينهما عتيك بن الحارث بن عتيك، وهي رواية ابن القاسم ومنهم من جعل بينهما جابر بن عتيك وهي رواية القعنبي ومطرف قال ابن عبد البر ورواية يحيى أولى بالصواب ( في بني معاوية وهي قرية من قرى الأنصار) بالمدينة والنسبة إليها المعاوي بضم الميم ( فقال) زاد في رواية ابن وضاح لي ( هل تدرون أين صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من مسجدكم هذا) لأصلي فيه وأتبرك به لأنه كان حريصًا على اقتفاء آثاره ( فقلت له نعم وأشرت له إلى ناحية منه) من المسجد ( فقال لي هل تدري ما الثلاث) دعوات ( التي دعا بهن فيه فقلت نعم) فيه طرح العالم المسألة على من دونه ليعلم ما عنده ( قال فأخبرني بهن فقلت دعا بأن لا يظهر) الله ( عليهم عدوا من غيرهم) أي من غير المؤمنين يعني يستأصل جميعهم ( ولا يهلكهم بالسنين) أي بالمحل والجدب والجوع ( فأعطيهما) بالبناء للمفعول ( ودعا بأن لا يجعل بأسهم بينهم) أي الحرب والفتن والاختلاف ( فمنعها قال صدقت) يدل على أنه كان يعلم ما سأله عنه ( قال ابن عمر فلن يزال الهرج) بفتح الهاء وسكون الراء وبالجيم القتل ( إلى يوم القيامة) قضاء نافذ من الله ففي مسلم عن ثوبان رفعه: إن الله زوى لي مشارق الأرض ومغاربها وسيبلغ ملك أمتي ما زوى لي منها الحديث، وفيه: وإني سألت الله أن لا يهلك أمتي بسنة عامة ولا يسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم وأن لا يلبسهم شيعا ويذيق بعضهم بأس بعض فقال يا محمد إني إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد وإني أعطيتك لأمتك أن لا أهلكهم بسنة عامة وأن لا أسلط عليهم عدوا من غيرهم ولو اجتمع عليهم من بين أقطارها حتى يكون بعضهم يهلك بعضًا.

قال ابن عبد البر: دعا صلى الله عليه وسلم في مسجد الفتح يوم الإثنين ويوم الثلاثاء ويوم الأربعاء فاستجيب له يوم الأربعاء بين الصلاتين فعرف البشر في وجهه قال جابر فما نزل بي أمر يهمني إلا توخيت تلك الساعة فأعرف الإجابة.

( مالك عن زيد بن أسلم أنه كان يقول ما من داع يدعو إلا كان بين إحدى ثلاث إما أن يستجاب له) بعين ما سأل ( وإما أن يدخر له) يوم القيامة ( وإما أن يكفر عنه) من الذنوب في نظير دعائه.
قال ابن عبد البر: هذا لا يكون رأيًا بل توقيف وهو خبر محفوظ عن النبي صلى الله عليه وسلم ثم أخرج عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال دعاء المسلم بين إحدى ثلاث إما أن يعطى مسألته التي سأل أو يرفع بها درجة أو يحط بها عنه خطيئة ما لم يدع بقطيعة رحم أو مأثم أو يستعجل قال وأخرج ابن جرير وابن أبي شيبة عن أبي سعيد قال صلى الله عليه وسلم إن دعوة المسلم لا ترد ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم إما أن تعجل له في الدنيا وإما أن تدخر له في الآخرة وإما أن يصرف عنه من السوء بقدر ما دعاه وهذا من التفسير المسند لقوله تعالى: { { ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ } } فهذه كلمة استجابة والله تعالى لا تنقضي حكمته ولذا لا تقع الإجابة في كل دعوة { { وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ } } وفي الحديث إن الله ليبتلي العبد وهو يحبه ليسمع تضرعه انتهى.



رقم الحديث 511 وَحَدَّثَنِي عَنْ مالِكٍ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ الْمَكِّيِّ، عَنْ طَاوُسٍ الْيَمَانِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ مِنْ جَوْفِ اللَّيْلِ، يَقُولُ: اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ.
أَنْتَ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ.
وَلَكَ الْحَمْدُ.
أَنْتَ قَيَّامُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَلَكَ الْحَمْدُ.
أَنْتَ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ، أَنْتَ الْحَقُّ، وَقَوْلُكَ الْحَقُّ، وَوَعْدُكَ الْحَقُّ، وَلِقَاؤُكَ حَقٌّ، وَالْجَنَّةُ حَقٌّ، وَالنَّارُ حَقٌّ، وَالسَّاعَةُ حَقٌّ، اللَّهُمَّ لَكَ أَسْلَمْتُ، وَبِكَ آمَنْتُ، وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ، وَإِلَيْكَ أَنَبْتُ، وَبِكَ خَاصَمْتُ، وَإِلَيْكَ حَاكَمْتُ.
فَاغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَأَخَّرْتُ.
وَأَسْرَرْتُ وَأَعْلَنْتُ.
أَنْتَ إِلَهِي لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ.


( مالك عن أبي الزناد) عبد الله بن ذكوان ( عن الأعرج) عبد الرحمن بن هرمز ( عن أبي هريرة) عبد الرحمن بن صخر أو عمرو بن عامر ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لكل نبي دعوة) مستجابة ( يدعو بها) بهذه الدعوة مقطوع فيها بالإجابة وما عداها على رجاء الإجابة على غير يقين ولا وعد وبهذا أجيب عن إشكال ظاهره بما وقع لكثير من الأنبياء من الدعوات المجابة ولا سيما نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وبأن معناه أفضل دعوات كل نبي ولهم دعوات أخرى وبأن معناه لكل منهم دعوة عامة مستجابة في أمته إما بإهلاكهم وإما بنجاتهم وأما الدعوات الخاصة فمنها ما يستجاب ومنها ما لا يستجاب وقيل لكل منهم دعوة تخصه لدنياه أو لنفسه كقول نوح: { { رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا } } وقول زكريا: { { رب هب لي من لدنك وليا } } وقول سليمان: { { رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لاَّ يَنبَغِي لأحَدٍ مِّن بَعْدِي } } حكاه ابن التين.

وقال ابن عبد البر: معناه عندي أن كل نبي أعطي أمنية يتمنى بها لأنه محال أن يكون نبينا أو غيره من الأنبياء لا يجاب من دعائه إلا دعوة واحدة وما يكاد أحد يخلو من إجابة دعوته إذا شاء ربه قال تعالى: { { فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ } } وقال صلى الله عليه وسلم: دعوة المظلوم لا ترد ولو كانت من كافر.
وقال عليه السلام: ما من داع إلا كان بين إحدى ثلاث إما أن يستجاب له فيما دعا وإما أن يدخر له مثله وإما أن يكفر عنه وجاء في ساعة الجمعة لا يسأل فيها عبد ربه شيئا إلا أعطاه وقال في الدعاء بين الأذان والإقامة وعند الصف في سبيل الله وعند الغيث وغير ذلك أنها أوقات ترجى فيها إجابة الدعاء ( فأريد أن أختبئ) بسكون المعجمة وفتح الفوقية وكسر الموحدة، فهمزة أي أدخر ( دعوتي) المقطوع بإجابتها ( شفاعة لأمتي في الآخرة) في أهم أوقات حاجتهم ففيه كمال شفقته على أمته ورأفته بهم واعتناؤه بالنظر في مصالحهم جزاه الله عنا أفضل ما جزى نبيًا عن أمته.

قال ابن بطال في الحديث بيان فضيلة نبينا على سائر الأنبياء حيث آثر أمته على نفسه وأهل بيته بدعوته المجابة ولم يجعلها أيضًا دعاء عليهم كما وقع لغيره ممن تقدم وقال ابن الجوزي هذا من حسن تصرفه صلى الله عليه وسلم لأنه جعل الدعوة فيما ينبغي ومن كثرة كرمه لأنه آثر أمته على نفسه ومن صحة نظره لأنه جعلها للمذنبين من أمته لكونهم أحوج إليها من الطائعين هذا وقول بعض شراح المصابيح جميع دعوات الأنبياء مجابة والمراد بهذا الحديث أن كل نبي دعا على أمته بالإهلاك إلا أنا فلم أدع فأعطيت الشفاعة عوضا عن ذلك للصبر على أذاهم والمراد بالأمة أمة الدعوة لا أمة الإجابة تعقبه الطيبي بأنه صلى الله عليه وسلم دعا على أحياء العرب وعلى أناس من قريش بأسمائهم ودعا على رعل وذكوان ومضر قال والأولى أن يقال جعل الله لكل نبي دعوة تستجاب في حق أمته فنالها كل منهم في الدنيا وأما نبينا فإنه لما دعا على بعض أمته نزل عليه { { لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ } } فأبقى تلك الدعوة المستجابة مدخرة للآخرة وغالب من دعا عليهم لم يرد إهلاكهم وإنما أراد ردعهم ليتوبوا قال وأما جزمه أولا بأن جميع أدعية الأنبياء مجابة فغفلة عن الحديث سألت الله ثلاثا فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة الحديث انتهى وفيه إثبات الشفاعة.

قال ابن عبد البر: وهي ركن من أركان اعتقاد أهل السنة قال: وأجمعوا على أن قوله تعالى: { { عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا } } هو الشفاعة في المذنبين من أمته إلا ما روي عن مجاهد أنه جلوسه على العرش وروى عنه كالجماعة فصار إجماعا وقد صح نصا عن النبي صلى الله عليه وسلم وأحاديث الشفاعة متواترة صحاح منها شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي وقال جابر من لم يكن من أهل الكبائر فما له وللشفاعة ولا ينازع في ذلك إلا أهل البدع انتهى.

وهذا الحديث رواه البخاري في الدعوات حدثني إسماعيل قال: حدثني مالك به.
ومسلم من طريق ابن وهب عن مالك عن ابن شهاب عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة مرفوعًا به فلمالك فيه إسنادان.

( مالك عن يحيى بن سعيد أنه بلغه) قال أبو عمر: لم تختلف الرواة عن مالك في سنده ولا في متنه ورواه أبو شيبة عن أبي خالد الأحمر عن يحيى بن سعيد عن مسلم بن يسار ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو فيقول) وهو مرسل فمسلم تابعي ( اللهم فالق الإصباح) قال الباجي: أي خلقه وابتدأه وأظهره ( وجاعل الليل سكنًا) أي يسكن فيه قال الباجي: الجعل لغة الخلق والحكم والتسمية فإذا تعدى إلى مفعول واحد فهو بمعنى الخلق كقوله { { وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ } } وإلى مفعولين فيكون بمعنى الحكم والتسمية نحو: { { وَجَعَلُوا الْمَلاَئِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا } } وبمعنى الخلق كقولهم: الحمد لله الذي جعلني مسلمًا فقوله: ( وجاعل الليل سكنا) يحتمل الوجهين ( والشمس والقمر حسبانًا) قال أبو عمر: أي حسابًا أي بحساب معلوم وقد يكون جمع حساب كشهاب وشهبان وقال الباجي: أي يحسب بهما الأيام والشهور والأعوام قال تعالى: { { هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ } } ( اقض عني الدين) قال ابن عبد البر: الأظهر فيه ديون الناس ويدخل في ذلك ديون الله تعالى وفي الحديث دين الله أحق أن يقضى ( واغنني من الفقر) لأنه بئس الضجيع وهذا الفقر هو الذي لا يدرك معه القوت وقد أغناه الله تعالى كما قال: { { وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى } } ولم يكن غناه أكثر من اتخاذ قوت سنة لنفسه وعياله والغنى كله في قلبه ثقة بربه وقال: اللهم ارزق آل محمد قوتًا ولم يرد بهم إلا الأفضل وقال ما قل وكفى خير مما كثر وألهى وكان يستعيذ من فقر مبئس وغنى مطغ ويستعيذ من فتنة الغنى والفقر وقال: اللهم أحيني مسكينًا وأمتني مسكينًا واحشرني في زمرة المساكين ولا تجعلني جبارًا شقيًا.
والمسكين هنا المتواضع لا السائل لأنه صلى الله عليه وسلم كره السؤال ونهى عنه وحرمه على من يجد ما يغديه ويعشيه والآثار في هذا كثيرة وربما ظهر في بعضها تعارض وبهذا التأويل تتقارب معانيها فمن آتاه الله سعة وجب شكره عليها ومن ابتلي بالفقر وجب عليه الصبر إلا أن الفرائض تتوجه على الغني وهي ساقطة عن الفقير وللقيام بها فضل عظيم وللصبر على الفقر ثواب جسيم { { إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } } وخير الأمور أوساطها أشار له أبو عمر.

وقال أبو عبد الملك قيل أراد فقر النفس وقيل الفقر من الحسنات وقيل الفقر من المال الذي يخشى على صاحبه إذا استولى عليه نسيان الفرائض وذكر الله وجاء في الأثر اللهم إني أعوذ بك من فقر ينسيني وغنى يطغيني وهذا التأويل يدل على أن الكفاف أفضل من الفقر والغنى لأنهما بليتان يختبر الله بهما عباده.
( وأمتعني بسمعي) لما فيه من التنعم بالذكر وسماع ما يسر ( وبصري) لما فيه من رؤية مخلوقات الله والتدبر فيها وغير ذلك وفيه لغيره تلاوة القرآن في المصحف ( و) أمتعني ( بقوتي) بفوقية قبل الياء واحدة القوي ويروى وقوني بنون بدل الفوقية قال ابن عبد البر والأول أكثر عند الرواة ( في سبيلك) قال الباجي يحتمل أن يريد الجهاد وأن يريد جميع أعمال البر من تبليغ الرسالة وغيرها فذلك كله سبيل الله وقد قال مالك من قال مالي في سبيل الله سبل الله تعالى كثيرة ولكن يوضع في الغزو فخصه بالعرف قال ابن عبد البر ولا يعارض هذا ما جاء عن الله تعالى إذا أخذت كريمتي عبدي فصبر واحتسب لم يكن له جزاء إلا الجنة لأن هذا من الفرائض والحض على الصبر بعد الوقوع فلا ينافي الدعاء بالإمتاع قبل وقوعه لأنه أقرب إلى الشكر قال مطرف بن الشخير لأن أعافى فأشكر أحب إلي من أن ابتلى فأصبر.
( مالك عن أبي الزناد) بكسر الزاي ( عن الأعرج) عبد الرحمن بن هرمز ( عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا يقل أحدكم إذا دعا) طلب من الله ( اللهم اغفر لي إن شئت اللهم ارحمني إن شئت) زاد في رواية همام عن أبي هريرة عند البخاري: اللهم ارزقني إن شئت لأن التعليق بالمشيئة إنما يحتاج إليه إذا كان المطلوب منه يتأتى إكراهه على الشيء فيخفف الأمر عليه ويعلمه بأنه لا يطلب منه ذلك الشيء إلا برضاه والله تعالى منزه عن ذلك فلا فائدة للتعليق وقيل لأن فيه صورة الاستغناء عن المطلوب والمطلوب منه والأول أولى قال ابن عبد البر لا يجوز لأحد أن يقول اللهم أعطني إن شئت وغير ذلك من أمور الدين والدنيا لأنه كلام مستحيل لا وجه له إذ لا يفعل إلا ما يشاء وظاهره أنه حمل النهي على التحريم وهو الظاهر وحمله النووي على كراهة التنزيه وهو أولى ( ليعزم المسألة) قال الداودي أي يجتهد ويلح ولا يقول إن شئت كالمستثنى ولكن دعاء البائس الفقير وكأنه أشار بقوله كالمستثنى إلى أنه إذا قالها على سبيل التبرك لا يمنع وهو جيد قاله الحافظ وقال الباجي أي يخلي سؤاله ودعاءه من لفظ المشيئة لأنها إنما تشترط فيمن يصح أن يفعل دون أن يشاء لإكراه أو غيره فينبغي أن يسأل سؤال من يعلم أنه لا يفعل إلا ما يشاء وقد بين ذلك صلى الله عليه وسلم بقوله ( فإنه) تعالى ( لا مكره له) بكسر الراء.

قال ابن بطال فيه أنه ينبغي للداعي أن يجتهد في الدعاء ويكون على رجاء الإجابة ولا يقنط من الرحمة فإنه يدعو كريما قال ابن عيينة لا يمنعن أحدا الدعاء ما يعلم من نفسه يعني من التقصير فإن الله تعالى قد أجاب دعاء شر خلقه وهو إبليس حين قال رب { { أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ } } وفي الترمذي: وقال غريب عن أبي هريرة مرفوعا ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة واعلموا أن الله لا يستجيب دعاء من قلب غافل لاه قال التوربشتي أي كونوا على حالة تستحقون فيها الإجابة وذلك بإتيان المعروف واجتناب المنكر وغير ذلك من مراعاة أركان الدعاء وآدابه حتى تكون الإجابة على القلب أغلب من الرد أو المراد ادعوه معتقدين وقوع الإجابة لأن الداعي إذا لم يكن متحققا في الرجاء لم يكن رجاؤه صادقا وإذا لم يصدق رجاؤه لم يكن الرجاء خالصا والداعي مخلصا فإن الرجاء هو الباعث على الطلب ولا يتحقق الفرع إلا بتحقق الأصل وهذا الحديث رواه البخاري وأبو داود عن القعنبي عن مالك به وهو في الصحيحين من حديث أنس بنحوه.

( مالك عن ابن شهاب عن أبي عبيد) بضم العين وتنوين الدال واسمه سعد بسكون العين ابن عبيد ثقة من كبار التابعين وقيل له إدراك مات بالمدينة سنة ثمان وتسعين ( مولى ابن أزهر) بفتح الهمزة والهاء بينهما زاي ساكنة آخره راء عبد الرحمن الزهري المدني صحابي صغير ( عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يستجاب لأحدكم ما لم يعجل) بفتح التحتية والجيم بينهما عين ساكنة من الاستجابة بمعنى الإجابة قال الشاعر:

فلم يستجبه عند ذاك مجيب

أي يجاب دعاء كل واحد منكم لأن الاسم المضاف مفيد للعموم على الأصح ( فيقول) بالفاء بيان لقوله ما لم يعجل ( قد دعوت فلم يستجب لي) بضم التحتية وفتح الجيم.
قال الباجي: يحتمل أن يريد بقوله يستجاب الإخبار عن وجوب وقوع الإجابة أي تحقق وقوعها أو الإخبار عن جواز وقوعها فإن أريد الوجوب فهو بأحد ثلاثة أشياء تعجيل ما سأله أو يكفر عنه به أو يدخر له فإذا قال دعوت إلخ بطل وجوب أحد هذه الثلاثة وعرى الدعاء عن جميعها وإن أريد الجواز فيكون الإجابة بفعل ما دعا به ومنعه قوله دعوت فلم يستجب لأنه من ضعف اليقين والتسخط وفي مسلم والترمذي عن أبي هريرة مرفوعا لا يزال يستجاب للعبد ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم وما لم يستعجل قيل وما الاستعجال قال يقول قد دعوت وقد دعوت فلم أر يستجاب لي فيستحسر عند ذلك ويدع الدعاء ويستحسر بمهملات استفعال من حسر إذا أعيا وتعب وتكرار دعوت للاستمرار أي دعوت مرارًا كثيرة قال المظهري من له ملالة من الدعاء لا يقبل دعاؤه لأن الدعاء عبادة حصلت الإجابة أو لم تحصل فلا ينبغي للمؤمن أن يمل من العبادة وتأخير الإجابة إما لأنه لم يأت وقتها وإما لأنه لم يقدر في الأزل قبول دعائه في الدنيا ليعطى عوضه في الآخرة وإما أن يؤخر القبول ليلح ويبالغ في ذلك فإن الله يحب الملحين في الدعاء مع ما في ذلك من الانقياد والاستسلام وإظهار الافتقار ومن يكثر قرع الباب يوشك أن يفتح له ومن يكثر الدعاء يوشك أن يستجاب له.

والحديث رواه البخاري عن عبد الله بن يوسف ومسلم عن يحيى بن يحيى كلاهما عن مالك به.

( مالك عن ابن شهاب عن أبي عبد الله) سلمان بسكون اللام ( الأغر) بفتح الغين المعجمة وشد الراء الجهني مولاهم المدني وأصله من أصبهان ( وعن أبي سلمة بن عبد الرحمن) بن عوف القرشي الزهري ( عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ينزل ربنا) اختلف فيه فالراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا على طريق الإجمال منزهين لله تعالى عن الكيفية والتشبيه ونقله البيهقي وغيره عن الأئمة الأربعة والسفيانين والحمادين والليث والأوزاعي وغيرهم قال البيهقي وهو أسلم ويدل عليه اتفاقهم على أن التأويل المعين لا يجب فحينئذ التفويض أسلم وقال ابن العربي النزول راجع إلى أفعاله لا إلى ذاته بل ذلك عبارة عن ملكه الذي ينزل بأمره ونهيه فالنزول حسي صفة الملك المبعوث بذلك أو معنوي بمعنى لم يفعل ثم فعل فسمي ذلك نزولا عن مرتبة إلى مرتبة فهي عربية صحيحة والحاصل أنه تأوله بوجهين إما أن المعنى ينزل أمره أو الملك وإما أنه استعارة بمعنى التلطف بالداعين والإجابة لهم ونحوه وكذا حكي عن مالك أنه أوله بنزول رحمته وأمره أو ملائكته كما يقال فعل الملك كذا أي أتباعه بأمره لكن قال ابن عبد البر قال قوم ينزل أمره ورحمته وليس بشيء لأن أمره بما يشاء من رحمته ونعمته ينزل بالليل والنهار بلا توقيت ثلث الليل ولا غيره ولو صح ذلك عن مالك لكان معناه أن الأغلب في الاستجابة ذلك الوقت وقال الباجي هو إخبار عن إجابة الداعي وغفرانه للمستغفرين وتنبيه على فضل الوقت كحديث إذا تقرب إلي عبدي شبرًا تقربت إليه ذراعًا الحديث لم يرد قرب المسافة لعدم إمكانه وإنما أراد العمل من العبد ومنه تعالى الإجابة وحكى ابن فورك أن بعض المشايخ ضبطه بضم أوله على حذف المفعول أي ينزل ملكا قال الحافظ ويقويه ما رواه النسائي من طريق الأغر عن أبي هريرة وأبي سعيد أن الله يمهل حتى يمضي شطر الليل ثم يأمر مناديا يقول هل من داع فيستجاب له الحديث وحديث عثمان بن أبي العاص عند أحمد ينادي مناد هل من داع يستجاب له الحديث قال القرطبي وبهذا يرتفع الإشكال ولا يعكر عليه حديث رفاعة الجهني عند النسائي ينزل الله إلى سماء الدنيا فيقول لا أسأل عن عبادي غيري لأنه لا يلزم من إنزاله الملك أن يسأله عن صنع العباد بل يجوز أنه مأمور بالمناداة ولا يسأل البتة عما بعدها فهو أعلم سبحانه بما كان وما يكون انتهى ولك أن تقول الإشكال مدفوع حتى على أنه ينزل بفتح أوله الذي هو الرواية الصحيحة وكل من حديثي النسائي وأحمد يقوي تأويله بأنه من مجاز الحذف أو الاستعارة وقال البيضاوي لما ثبت بالقواطع أنه سبحانه منزه عن الجسمية والتحيز امتنع عليه النزول على معنى الانتقال من موضع إلى موضع أخفض منه فالمراد دنو رحمته أي ينتقل من مقتضى صفة الجلال التي تقتضي الغضب والانتقام إلى مقتضى صفة الإكرام التي تقتضي الرأفة والرحمة ( تبارك وتعالى) جملتان معترضتان بين الفعل وظرفه وهو ( كل ليلة) لما أسند النزول إلى ما لا يليق إسناده حقيقة إليه اعترض بما يدل على التنزيه كقوله تعالى { { وَيَجْعَلُونَ للهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُم مَّا يَشْتَهُونَ } } ( إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر) برفعه صفة ثلث وتخصيصه بالليل وثلثه الآخر لأنه وقت التهجد وغفلة الناس عن التعرض لنفحات رحمة الله وعند ذلك تكون النية خالصة والرغبة إلى الله وافرة وذلك مظنة القبول والإجابة ولم تختلف الروايات عن الزهري في تعيين الوقت واختلف عن أبي هريرة وغيره.

قال الترمذي: رواية أبي هريرة أصح الروايات في ذلك ويقويه أن الروايات المخالفة له اختلف فيها على راويها وانحصرت في ستة هذه، ثانيها: إذا مضى الثلث الأول.
ثالثها: الثلث الأول أو النصف.
رابعها: النصف.
خامسها: الثلث الأخير أو النصف.
سادسها: الإطلاق فجمع بينها بحمل المطلقة على المقيدة، وأما التي بأو فإن كانت للشك فالجزم مقدم على الشك، وإن كانت للتردد بين حالتين فيجمع بأن ذلك يقع بحسب اختلاف الأحوال لأن أوقات الليل تختلف في الزيادة وفي الأوقات باختلاف تقدم الليل عند قوم وتأخره عند قوم أو النزول يقع في الثلث الأول والقول يقع في النصف وفي الثلث الثاني أو يحمل ذلك على وقوعه في جميع الأوقات التي وردت بها الأحاديث ويحمل على أنه صلى الله عليه وسلم أعلم بأحد الأمور في وقت فأخبر به ثم أعلم به في وقت آخر فأخبر به فنقل الصحابة ذلك عنه ( فيقول من يدعوني فأستجيب) أي أجيب ( له) دعاءه فليست السين للطلب ( من يسألني فأعطيه) مسؤوله ( من يستغفرني فأغفر له) ذنوبه بنصب الأفعال الثلاثة في جواب الاستفهام وبالرفع على الاستئناف وبهما قرئ { { مَن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ } } ولم تختلف الروايات عن الزهري في الاقتصار على الثلاثة والفرق بينها أن المطلوب إما رفع المضار أو جلب المسار وذلك إما دنيوي أو ديني ففي الاستغفار إشارة إلى الأول والدعاء إشارة إلى الثاني والسؤال إشارة إلى الثالث وقال الكرماني يحتمل أن الدعاء ما لا طلب فيه والسؤال الطلب ويحتمل أن المقصود واحد وإن اختلف اللفظ انتهى.

وزاد سعيد المقبري عن أبي هريرة هل من تائب فأتوب عليه، وزاد أبو جعفر عنه من ذا الذي يسترزقني فأرزقه من ذا الذي يستكشف الضر فأكشف عنه وزاد عطاء مولى أم صبية بضم الصاد المهملة وموحدة عنه ألا سقيم يستشفي فيشفى رواها النسائي ومعانيها داخلة فيما تقدم وزاد سعيد بن مرجانة عنه من يقرض غير عديم ولا ظلوم رواه مسلم وفيه تحريض على عمل الطاعة وإشارة إلى جزيل ثوابها وزاد حجاج بن أبي منيع عن الزهري عند الدارقطني حتى الفجر وفي رواية يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة حتى يطلع الفجر وعليه اتفق معظم الروايات وللنسائي عن نافع بن جبير عن أبي هريرة حتى تحل الشمس وهي شاذة وفي الحديث تفضيل آخر الليل على أوله وأنه أفضل للدعاء والاستغفار ويشهد له قوله تعالى: { { وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأسْحَارِ } } وأن الدعاء ذلك الوقت مجاب ولا يعترض بتخلفه عن بعض الداعين لأن سببه وقوع الخلل في شرط من شروط الدعاء كالاحتراز في المطعم والمشرب والملبس أو لاستعجال الداعي أو بأن يكون الدعاء بإثم أو قطيعة رحم أو تحصل الإجابة ويتأخر وجود المطلوب لمصلحة العبد أو لأمر يريده الله تعالى هذا وقد حمل المشبهة الحديث وأحاديث التشبيه كلها على ظاهرها تعالى الله عن قولهم وأما المعتزلة والخوارج فأنكروا صحتها جملة وهو مكابرة والعجب أنهم أولوا ما في القرآن من نحو ذلك وأنكروا الأحاديث جهلا أو عنادا ومن العلماء من فرق بين التأويل القريب المستعمل لغة وبين البعيد المهجور فأول في بعض وفوض في بعض وجزم به من المتأخرين ابن دقيق العيد ونقل عن الإمام قال الباجي منع مالك في العتبية التحديث بحديث اهتز العرش لموت سعد بن معاذ وحديث إن الله خلق آدم على صورته وحديث الساق وقال ما يدعو الإنسان إلى أن يحدث به وهو يرى ما فيه من التغرير ولم ير مثله حديث إن الله يضحك وحديث ينزل ربنا فأجاز التحديث بهما قال فيحتمل الفرق بينهما بأن حديث التنزل والضحك أحاديث صحاح لم يطعن في شيء منهما وحديث العرش والصورة والساق لا تبلغ أحاديثها في الصحة درجة التنزل والضحك وبأن التأويل في حديث التنزل أقرب وأبين والعذر بسوء التأويل فيها أبعد انتهى.

وأخرجه البخاري في الصلاة عن القعنبي وفي الدعوات عن عبد العزيز بن عبد الله الأويسي وفي التوحيد عن إسماعيل ومسلم في الصلاة عن يحيى بن يحيى كلهم عن مالك به.

( مالك عن يحيى بن سعيد) الأنصاري ( عن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي) تيم قريش ( أن عائشة أم المؤمنين) قال ابن عبد البر: لم يختلف عن مالك في إرساله وهو مسند من حديث الأعرج عن أبي هريرة عن عائشة ومن حديث عروة عن عائشة من طرق صحاح ثم أخرجه من الوجهين وطريق الأعرج أخرجها مسلم وأبو داود والنسائي من طريق عبيد الله بن عمر عن محمد بن يحيى بن حبان عن الأعرج عن أبي هريرة عن عائشة ( قالت كنت نائمة إلى جنب رسول الله صلى الله عليه وسلم ففقدته) بفتح القاف، وفي رواية افتقدته وهما لغتان بمعنى عدمته ( من الليل) وفي رواية عروة وكان معي على فراشي ( فلمسته بيدي) وفي رواية فالتمسته في البيت وجعلت أطلبه بيدي ( فوضعت يدي على قدميه) زاد في رواية وهما منتصبتان ( وهو ساجد) وفيه أن اللمس بلا لذة لا ينقض الوضوء واحتمال أنه كان فوق حائل خلاف الأصل فسمعته ( يقول) زاد في رواية اللهم إني ( أعوذ برضاك من سخطك) أي بما يرضيك مما يسخطك فخرج عن حظ نفسه بإقامة حرمة محبوبه فهذا لله ثم الذي لنفسه قوله ( وبمعافاتك من عقوبتك) وفي إضافتها كالسخط إليه دليل لأهل السنة على جواز إضافة الشر إليه تعالى كالخير واستعاذ بها بعد استعاذته برضاه لأنه يحتمل أن يرضى من جهة حقوقه ويعاقب على حقوق غيره ( وبك منك) قال عياض: ترق من الأفعال إلى منشئ الأفعال مشاهدة للحق وغيبة عن الخلق الذي هو محض المعرفة الذي لا يعبر عنه قول ولا يضبطه وصف فهو محض التوحيد وقطع الالتفات إلى غيره وإفراده بالاستعانة وغيرها.

قال الخطابي وفيه معنى لطيف لأنه استعاذ بالله وسأله أن يجيره برضاه من سخطه وبمعافاته من عقوبته والرضا والسخط ضدان كالمعافاة والعقوبة فلما ذكر ما لا ضد له وهو الله سبحانه وتعالى استعاذ به منه لا غير ومعناه الاستغفار من التقصير في بلوغ الواجب من عبادته والثناء عليه ولذا قال ( لا أحصي ثناء عليك) قال ابن الأثير: أي لا أبلغ الواجب في الثناء عليك وقال الراغب أي لا أحصل ثناء لعجزي عنه إذ هو نعمة تستدعي شكرًا وهكذا إلى غير نهاية وقيل معناه لا أعد كما في الصحاح لأن معنى الإحصاء العد بالحصى كما قال:

ولست بالأكثر منهم حصى
وإنما العزة للكاثر

وعليه فهو من نفي الملزوم المعبر عنه بالإحصاء المفسر بالعد وإرادة نفي اللازم وهو استيعاب المعدود فكأنه قيل لا أستوعب فالمراد نفي القدرة عن الإتيان بجميع الثناءات أو فرد منها يفي بنعمة من نعمه لا عدها إذ لا يمكن عد أفراد كثيرة من الثناء وقال ابن عبد البر روينا عن مالك أن معناه وإن اجتهدت في الثناء عليك فلن أحصي نعمك ومننك وإحسانك ( أنت) مبتدأ خبره ( كما أثنيت) أي الثناء عليك هو المماثل لثنائك ( على نفسك) ولا قدرة لأحد عليه ويحتمل أن أنت تأكيد للكاف من عليك باستعارة الضمير المنفصل للمتصل، والثناء بتقديم المثلثة والمد الوصف بالجميل على المشهور لغة، واستعماله في الشر مجاز وقال المجد: وصف بمدح أو ذم أو خاص بالمدح.
قال ابن عبد البر فيه دليل على أنه لا يبلغ وصفه وأنه إنما يوصف بما وصف به نفسه انتهى وقال النووي فيه اعتراف بالعجز عن الثناء عليه وأنه لا يقدر على بلوغ حقيقته ورد الثناء إلى الجملة دون التفصيل والتعيين فوكل ذلك إليه سبحانه المحيط بكل شيء جملة وتفصيلا وكما أنه لا نهاية لصفاته لا نهاية للثناء عليه لأن الثناء تابع للمثني عليه فكل شيء أثنى عليه به وإن كثر وطال وبولغ فيه فقدر الله أعظم وسلطانه أعز وصفاته أكثر وأكبر وفضله أوسع وأسبغ.

( مالك عن زياد بن أبي زياد) ميسرة المخزومي مولاهم المدني الثقة العابد قال مالك: كان يلبس الصوف ويكون وحده ولا يجالس أحدًا.
لمالك عنه مرفوعًا هذا الحديث الواحد رواه هنا.
وفي الحج ونسبه فزاد مولى عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة المخزومي ( عن طلحة بن عبيد الله) بضم العين ( بن كريز) بفتح الكاف وكسر الراء وإسكان التحتية وزاي منقوطة الخزاعي أبي المطرف المدني وثقه أحمد والنسائي وروى له مسلم وأصحاب السنن وهو تابعي قال الولي العراقي ووهم من ظنه أحد العشرة قال ابن عبد البر لا خلاف عن مالك في إرساله ولا أحفظه بهذا الإسناد مسندا من وجه يحتج به وقد جاء مسندا من حديث علي وابن عمرو والفضائل لا تحتاج إلى من يحتج به ثم أخرج حديث علي من طريق ابن أبي شيبة وجاء أيضا من حديث أبي هريرة أخرجه هو وحديث ابن عمر والبيهقي في الشعب.

( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أفضل الدعاء) مبتدأ خبره ( دعاء يوم عرفة) قال الباجي: أي أعظمه ثوابًا وأقربه إجابة ويحتمل أن يريد به اليوم ويحتمل أن يريد الحاج خاصة ( وأفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي) ولفظ حديث علي أكثر دعائي ودعاء الأنبياء قبلي بعرفة ( لا إله إلا الله وحده لا شريك له) زاد في حديث أبي هريرة: له الملك وله الحمد يحيي ويميت، بيده الخير وهو على كل شيء قدير.
وكذا في حديث علي لكن ليس فيه بيده الخير وفي حديث ابن عمر ولكن ليس فيه يحيي ويميت وفيه بيده الخير قال ابن عبد البر فيه أن الثناء دعاء وفي المرفوع يقول الله عز وجل من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين وفيه تفضيل الدعاء بعضه على بعض والأيام بعضها على بعض وأن ذلك أفضل الذكر لأنها كلمة الإسلام والتقوى وقال آخرون أفضله الحمد لله رب العالمين لأن فيه معنى الشكر وفيه من الإخلاص ما في لا إله إلا الله وافتتح الله كلامه به وختم به وهو آخر دعوى أهل الجنة وروت كل فرقة بما قالت أحاديث كثيرة وساق جملة منها في التمهيد ووقع في تجريد الصحاح لرزين بن معاوية الأندلسي زيادة في أول هذا الحديث وهي أفضل الأيام يوم عرفة وافق يوم جمعة وهو أفضل من سبعين حجة في غير يوم الجمعة وأفضل الدعاء إلخ وتعقبه الحافظ فقال حديث لا أعرف حاله لأنه لم يذكر صحابيه ولا من خرجه بل أدرجه في حديث الموطأ هذا وليست هذه الزيادة في شيء من الموطآت فإن كان له أصل احتمل أن يراد بالسبعين التحديد أو المبالغة في الكثرة وعلى كل حال منهما ثبتت المزية انتهى وفي الهدي لابن القيم ما استفاض على ألسنة العوام أن وقفة الجمعة تعدل ثنتين وسبعين حجة فباطل لا أصل له عن رسول الله ولا عن أحد من الصحابة والتابعين انتهى.

( مالك عن أبي الزبير) محمد بن مسلم ( المكي) الأسدي مولاهم صدوق وقال ابن معين ثقة وقال أحمد لا بأس به وقال أبو عمر ثقة حافظ متقن.
روى عنه مالك والسفيانان والليث وابن جريج وجماعة من الأئمة لا يلتفت إلى قول شعبة فيه وروى له الجميع مات بمكة سنة ست وعشرين وقيل ثمان وعشرين ومائة ( عن طاوس) بن كيسان ( اليماني) الحضرمي مولاهم الفارسي يقال: اسمه ذكوان وطاوس لقب، ثقة فقيه فاضل مات سنة ست ومائة وقيل بعدها ( عن عبد الله بن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعلمهم هذا الدعاء كما يعلمهم السورة من القرآن) تشبيه في تحفيظ حروفه وترتيب كلماته ومنع الزيادة والنقص منه والدرس له والمحافظة عليه ( يقول اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم) أي عقوبتها والإضافة مجازية أو من إضافة المظروف إلى ظرفه ( وأعوذ بك من عذاب القبر) العذاب اسم للعقوبة والمصدر التعذيب فهو مضاف إلى الفاعل مجازًا أو الإضافة من إضافة المظروف إلى ظرفه على تقدير في أي من عذاب في القبر وفيه رد على من أنكره ( وأعوذ بك من فتنة) امتحان واختبار ( المسيح) بفتح الميم وخفة السين المكسورة وحاء مهملة وصحف من أعجمها يطلق على الدجال وعلى عيسى عليه السلام لكن إذا أريد الأول قيد كما قال ( الدجال) وقال أبو داود: المسيح مثقل الدجال ومخفف عيسى والمشهور الأول، ونقل المستملي عن الفربري عن خلف بن عامر الهمداني أحد الحفاظ المسيح بالتشديد والتخفيف واحد يقال للدجال ولعيسى لا فرق بينهما بمعنى لا اختصاص لأحدهما بأحد الأمرين لقب بذلك لأنه ممسوح العين أو لأن أحد شقي وجهه خلق ممسوحا لا عين فيه ولا حاجب أو لأنه يمسح الأرض إذا خرج وقال الجوهري من خففه فلمسحه الأرض ومن شدد فلأنه ممسوح العين وأما عيسى فقيل لأنه خرج من بطن أمه ممسوحا بالدهن أو لأن زكريا مسحه أو لأنه كان لا يمسح ذا عاهة إلا برئ أو لمسحه الأرض بسباحته أو لأن رجله لا أخمص لها أو للبسه المسوح وقيل هو بالعبرانية ماسح فعرب المسيح وقيل المسيح الصديق ( وأعوذ بك من فتنة المحيا) هي ما يعرض للإنسان مدة حياته من الافتتان بالدنيا والشهوات والجهالات وأعظمها والعياذ بالله أمر الخاتمة عند الموت ( و) فتنة ( الممات) قال الباجي: هي فتنة القبر.
وقال أبو عمر: يحتمل إذا احتضر ويحتمل في القبر أيضًا.
وقال ابن دقيق العيد: يجوز أنها الفتنة عند الموت أضيفت إليه لقربها منه وفتنة المحيا ما قبل ذلك ويجوز أنها فتنة القبر وقد صح إنكم تفتنون في قبوركم مثل أو قريبًا من فتنة الدجال ولا يتكرر مع قوله عذاب القبر لأن العذاب مرتب على الفتنة والسبب غير المسبب وقيل فتنة المحيا الابتلاء مع زوال الصبر والممات السؤال في القبر مع الحيرة وهو من العام بعد الخاص لأن عذاب القبر داخل تحت فتنة الممات وفتنة الدجال داخلة تحت فتنة المحيا وروى الترمذي الحكيم عن سفيان الثوري إن الميت إذا سئل من ربك تراءى له الشيطان فيشير إلى نفسه أنا ربك فلذا ورد سؤال الثبات له حين يسأل ثم روي بسند جيد عن عمرو بن مرة كانوا يستحبون إذا وضع الميت في قبره أن يقولوا اللهم أعذه من الشيطان وفي مسلم عن أبي هريرة مرفوعًا إذا فرغ أحدكم من التشهد الآخر فليتعوذ من أربع من عذاب جهنم ومن عذاب القبر ومن فتنة المحيا والممات ومن شر المسيح الدجال قال الحافظ فهذا يعين أن هذه الاستعاذة بعد الفراغ من التشهد فيكون سابقا على غيره من الأدعية وما ورد أن المصلي يتخير من الدعاء ما شاء يكون بعد هذه الاستعاذة وقبل السلام انتهى وحديث ابن عباس أخرجه مسلم عن قتيبة بن سعيد عن مالك به وقال مسلم بعده بلغني أن طاوسا قال لابنه أدعوت بها في صلاتك قال لا قال أعد صلاتك لأن طاوسا رواه عن ثلاثة أو أربعة وهذا البلاغ أخرجه عبد الرزاق بسند صحيح وهو يدل على أنه يرى وجوبه وبه قال بعض أهل الظاهر.

( مالك عن أبي الزبير) محمد بن مسلم ( المكي عن طاوس اليماني عن عبد الله بن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قام إلى الصلاة من جوف الليل يقول) في موضع نصب خبر كان وقال الطيبي: الظاهر أنه جواب إذا والجملة الشرطية خبر كان وظاهره أنه كان يقول أول ما يقوم إلى الصلاة ولابن خزيمة من طريق قيس بن سعد عن طاوس عن ابن عباس كان صلى الله عليه وسلم إذا قام للتهجد قال بعد ما يكبر ( اللهم لك الحمد) الوصف بالجميل على التفضيل وأل فيه للاستغراق ( أنت نور السموات والأرض) أي منورهما وبك يهتدي من فيهما وقيل معناه أنت المنزه من كل عيب يقال فلان منور أي مبرأ من كل عيب ويقال هو مدح تقول فلان نور البلد أي مزينه ( ولك الحمد أنت قيام) بفتح التحتية المشددة فألف وكذا في رواية قيس بن سعد الحنظلي المكي عند مسلم وأبي داود بزنة فعال صيغة مبالغة وفي رواية سليمان الأحول عن طاوس في الصحيحين قيم وهما والقيوم بمعنى واحد ( السموات والأرض) زاد في رواية ومن فيهن أي أنت الذي تقوم بحفظهما وحفظ من أحاطت به واشتملت عليه تؤتي كلا ما به قوامه وتقوم كل شيء من خلقك بما تراه من تدبيرك وفي البخاري قال مجاهد القيوم القائم على كل شيء وقرأ عمر القيام أي في آية الكرسي وكلاهما مدح أي بخلاف القيم فيستعمل في المدح والذم وقيل القيم القائم بأمور الخلق ومدبر العالم في جميع أحواله ومنه قيم الطفل والقيوم والقيام القائم بنفسه مطلقا لا بغيره ويقوم به كل موجود حتى لا يتصور وجود شيء ولا دوام وجوده إلا به فمن عرف ذلك استراح عن كد التدبير وتعب الاشتغال وعاش براحة التفويض فلا يضن بكريمة ولا يجعل في قلبه للدنيا كثر قيمة.

( ولك الحمد أنت رب السموات والأرض ومن فيهن) عبر بمن تغليبًا للعقلاء على غيرهم فهو رب كل شيء ومليكه وكافله ومغذيه ومصلحه العواد عليه بنعمه وتكرير الحمد للاهتمام بشأنه وليناط به كل مرة معنى آخر وتقديم الجار والمجرور إفادة التخصيص وكأنه لما خص الحمد بالله قيل له لم خصصتني قال لأنك القائم بحفظ المخلوقات إلى غير ذلك.
( أنت الحق) أي المتحقق الوجود الثابت بلا شك فيه قال القرطبي هذا الوصف له سبحانه وتعالى بالحقيقة خاص به لا ينبغي لغيره إذ وجوده بنفسه فلم يسبقه عدم ولا يلحقه عدم بخلاف غيره وقال ابن التين يحتمل أنت الحق بالنسبة إلى من يدعي أنه إله أو بمعنى من سماك إلها فقد قال الحق ( وقولك الحق) أي مدلوله ثابت ( ووعدك الحق) لا يدخله خلف ولا شك في وقوعه وهو من الخاص بعد العام ( ولقاؤك حق) المراد به البعث بعد الموت وهو عبارة عن مآل الخلق في الآخرة بالنسبة إلى الجزاء على الأعمال وقيل معناه رؤيتك في الآخرة حيث لا مانع وقيل الموت قال النووي وهو باطل هنا قال الحافظ وهذا وما بعده داخل تحت الوعد لكن الوعد مصدر وما بعده هو الموعود به ويحتمل أنه من الخاص بعد العام.
( والجنة حق والنار حق) أي كل منهما موجود ( والساعة حق) أي يوم القيامة وأصل الساعة القطعة من الزمان وإطلاق اسم الحق على ما ذكر من الأمور معناه أنه لا بد من كونها وأنها مما يجب أن يصدق بها وتكرار لفظ حق مبالغة في التأكيد زاد في رواية سليمان عن طاوس عند الشيخين والنبيون حق ومحمد حق وعرف الحق في الثلاثة الأول قال الطيبي للحصر لأن الله هو الحق الثابت وما سواه في معرض الزوال قال لبيد:

ألا كل شيء ما خلا الله باطل

وكذا قوله: وكذا وعده مختص بالإنجاز دون وعد غيره والتنكير في البواقي للتعظيم.

وقال السهيلي التعريف للدلالة على أنه المستحق لهذا الاسم بالحقيقة إذ هو مقتضى الأداة وكذا قوله ووعده لأن وعده كلامه وتركت في البواقي لأنها أمور محدثة والمحدث لا يجب له البقاء من جهة ذاته وبقاء ما يدوم منه علم مخبر الصادق لا من جهة استحالة فنائه قال الطيبي وهنا سر دقيق وهو أنه صلى الله عليه وسلم لما نظر إلى المقام الإلهي ومقربي حضرة الربوبية عظم شأنه وفخم منزلته حيث ذكر النبيين وعرفها بلام الاستغراق ثم خص محمدا صلى الله عليه وسلم من بينهم وعطفه عليهم إيذانا بالتغاير وأنه فائق عليهم بأوصاف مختصة به فإن تغاير الوصف بمنزلة التغاير في الذات ثم حكم عليه استقلالا بأنه حق وجرده عن ذاته كأنه غيره وأوجب عليه تصديقه ولما رجع إلى مقام العبودية ونظر إلى افتقار نفسه نادى بلسان الاضطرار في مطاوي الانكسار فقال:

( اللهم لك أسلمت) انقدت وخضعت لأمرك ونهيك ( وبك آمنت) أي صدقت ( وعليك توكلت) أي فوضت أموري تاركًا النظر في الأسباب العادية ( وإليك أنبت) رجعت إليك مقبلاً بقلبي عليك ( وبك) أي بما أعطيتني من البرهان وبما لقنتني من الحجة ( خاصمت) من خاصمني من الكفار أو بتأييدك ونصرك قاتلت ( وإليك حاكمت) كل من جحد الحق وما أرسلتني به لا إلى من كانت الجاهلية تتحاكم إليه من كاهن ونحوه وقدم جميع صلات هذه الأفعال عليها إشعارًا بالتخصيص وإفادة للحصر وكذا قوله ولك الحمد.
( فاغفر لي ما قدمت) قبل هذا الوقت ( وأخرت) عنه ( وأسررت) أخفيت ( وأعلنت) أظهرت أو ما حدثت به نفسي وما تحرك به لساني زاد في رواية للبخاري وما أنت أعلم به مني وهو من العام بعد الخاص وقال ذلك مع أنه مغفور له إما تواضعا وهضما لنفسه وإجلالا وتعظيما لربه أو تعليمًا لأمته ليقتدى به قال الحافظ كذا قيل والأولى أنه لمجموع ذلك إذ لو كان للتعليم فقط لكفي فيه أمرهم بأن يقولوا زاد في رواية سليمان عن طاوس أنت المقدم والمؤخر أي المقدم لي في البعث يوم القيامة والمؤخر لي في البعث في الدنيا.

( أنت إلهي لا إله إلا أنت) زاد في رواية للبخاري: ولا حول ولا قوة إلا بالله.
قال الكرماني: هذا الحديث من جوامع الكلم لأن لفظ القيم إشارة إلى أن وجود الجواهر وقوامها منه والنور إلى أن الأعراض أيضا منه والملك إلى أنه حاكم عليها إيجادا وعدما يفعل ما يشاء وكل ذلك من نعمه على عباده فلذا قرن كلا منها بالحمد وخصص الحمد به ثم قوله أنت الحق إشارة إلى المبتدأ والقول ونحوه إلى المعاش والساعة ونحوها إشارة إلى المعاد وفيه الإشارة إلى النبوة وإلى الجزاء ثوابا وعقابا ووجوب الإيمان به والإسلام والتوكل والإنابة والتضرع إلى الله والخضوع له انتهى وفيه زيادة معرفته صلى الله عليه وسلم بعظمة ربه وعظيم قدرته ومواظبته على الذكر والدعاء والثناء على ربه والاعتراف لله بحقوقه والإقرار بصدق وعده.

وأخرجه مسلم في الصلاة عن قتيبة بن سعيد والترمذي في الدعوات من طريق معن كليهما عن مالك به وله طرق في الصحيحين وغيرهما.

( مالك عن عبد الله بن عبد الله بن جابر) وقيل جبر ( بن عتيك) بفتح العين المهملة وكسر الفوقية وإسكان التحتية وكاف الأنصاري المدني تابعي صغير من الثقات ( أنه قال جاءنا عبد الله بن عمر) بن الخطاب هكذا رواه يحيى وطائفة لم يجعلوا بين عبد الله شيخ مالك وبين ابن عمر أحدًا.
ومنهم من أدخل بينهما عتيك بن الحارث بن عتيك، وهي رواية ابن القاسم ومنهم من جعل بينهما جابر بن عتيك وهي رواية القعنبي ومطرف قال ابن عبد البر ورواية يحيى أولى بالصواب ( في بني معاوية وهي قرية من قرى الأنصار) بالمدينة والنسبة إليها المعاوي بضم الميم ( فقال) زاد في رواية ابن وضاح لي ( هل تدرون أين صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من مسجدكم هذا) لأصلي فيه وأتبرك به لأنه كان حريصًا على اقتفاء آثاره ( فقلت له نعم وأشرت له إلى ناحية منه) من المسجد ( فقال لي هل تدري ما الثلاث) دعوات ( التي دعا بهن فيه فقلت نعم) فيه طرح العالم المسألة على من دونه ليعلم ما عنده ( قال فأخبرني بهن فقلت دعا بأن لا يظهر) الله ( عليهم عدوا من غيرهم) أي من غير المؤمنين يعني يستأصل جميعهم ( ولا يهلكهم بالسنين) أي بالمحل والجدب والجوع ( فأعطيهما) بالبناء للمفعول ( ودعا بأن لا يجعل بأسهم بينهم) أي الحرب والفتن والاختلاف ( فمنعها قال صدقت) يدل على أنه كان يعلم ما سأله عنه ( قال ابن عمر فلن يزال الهرج) بفتح الهاء وسكون الراء وبالجيم القتل ( إلى يوم القيامة) قضاء نافذ من الله ففي مسلم عن ثوبان رفعه: إن الله زوى لي مشارق الأرض ومغاربها وسيبلغ ملك أمتي ما زوى لي منها الحديث، وفيه: وإني سألت الله أن لا يهلك أمتي بسنة عامة ولا يسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم وأن لا يلبسهم شيعا ويذيق بعضهم بأس بعض فقال يا محمد إني إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد وإني أعطيتك لأمتك أن لا أهلكهم بسنة عامة وأن لا أسلط عليهم عدوا من غيرهم ولو اجتمع عليهم من بين أقطارها حتى يكون بعضهم يهلك بعضًا.

قال ابن عبد البر: دعا صلى الله عليه وسلم في مسجد الفتح يوم الإثنين ويوم الثلاثاء ويوم الأربعاء فاستجيب له يوم الأربعاء بين الصلاتين فعرف البشر في وجهه قال جابر فما نزل بي أمر يهمني إلا توخيت تلك الساعة فأعرف الإجابة.

( مالك عن زيد بن أسلم أنه كان يقول ما من داع يدعو إلا كان بين إحدى ثلاث إما أن يستجاب له) بعين ما سأل ( وإما أن يدخر له) يوم القيامة ( وإما أن يكفر عنه) من الذنوب في نظير دعائه.
قال ابن عبد البر: هذا لا يكون رأيًا بل توقيف وهو خبر محفوظ عن النبي صلى الله عليه وسلم ثم أخرج عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال دعاء المسلم بين إحدى ثلاث إما أن يعطى مسألته التي سأل أو يرفع بها درجة أو يحط بها عنه خطيئة ما لم يدع بقطيعة رحم أو مأثم أو يستعجل قال وأخرج ابن جرير وابن أبي شيبة عن أبي سعيد قال صلى الله عليه وسلم إن دعوة المسلم لا ترد ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم إما أن تعجل له في الدنيا وإما أن تدخر له في الآخرة وإما أن يصرف عنه من السوء بقدر ما دعاه وهذا من التفسير المسند لقوله تعالى: { { ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ } } فهذه كلمة استجابة والله تعالى لا تنقضي حكمته ولذا لا تقع الإجابة في كل دعوة { { وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ } } وفي الحديث إن الله ليبتلي العبد وهو يحبه ليسمع تضرعه انتهى.



رقم الحديث 512 وَحَدَّثَنِي عَنْ مالِكٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَابِرِ بْنِ عَتِيكٍ، أَنَّهُ قَالَ: جَاءَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ فِي بَنِي مُعَاوِيَةَ، وَهِيَ قَرْيَةٌ مِنْ قُرَى الْأَنْصَارِ، فَقَالَ: هَلْ تَدْرُونَ أَيْنَ صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مَسْجِدِكُمْ هَذَا؟ فَقُلْتُ لَهُ: نَعَمْ، وَأَشَرْتُ لَهُ إِلَى نَاحِيَةٍ مِنْهُ.
فَقَالَ: هَلْ تَدْرِي مَا الثَّلَاثُ الَّتِي دَعَا بِهِنَّ فِيهِ؟ فَقُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: فَأَخْبِرْنِي بِهِنَّ.
فَقُلْتُ: دَعَا بِأَنْ لَا يُظْهِرَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ غَيْرِهِمْ.
وَلَا يُهْلِكَهُمْ بِالسِّنِينَ.
فَأُعْطِيَهُمَا.
وَدَعَا بِأَنْ لَا يَجْعَلَ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ.
فَمُنِعَهَا
قَالَ: صَدَقْتَ، قَالَ ابْنُ عُمَرَ فَلَنْ يَزَالَ الْهَرْجُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.


( مالك عن أبي الزناد) عبد الله بن ذكوان ( عن الأعرج) عبد الرحمن بن هرمز ( عن أبي هريرة) عبد الرحمن بن صخر أو عمرو بن عامر ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لكل نبي دعوة) مستجابة ( يدعو بها) بهذه الدعوة مقطوع فيها بالإجابة وما عداها على رجاء الإجابة على غير يقين ولا وعد وبهذا أجيب عن إشكال ظاهره بما وقع لكثير من الأنبياء من الدعوات المجابة ولا سيما نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وبأن معناه أفضل دعوات كل نبي ولهم دعوات أخرى وبأن معناه لكل منهم دعوة عامة مستجابة في أمته إما بإهلاكهم وإما بنجاتهم وأما الدعوات الخاصة فمنها ما يستجاب ومنها ما لا يستجاب وقيل لكل منهم دعوة تخصه لدنياه أو لنفسه كقول نوح: { { رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا } } وقول زكريا: { { رب هب لي من لدنك وليا } } وقول سليمان: { { رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لاَّ يَنبَغِي لأحَدٍ مِّن بَعْدِي } } حكاه ابن التين.

وقال ابن عبد البر: معناه عندي أن كل نبي أعطي أمنية يتمنى بها لأنه محال أن يكون نبينا أو غيره من الأنبياء لا يجاب من دعائه إلا دعوة واحدة وما يكاد أحد يخلو من إجابة دعوته إذا شاء ربه قال تعالى: { { فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ } } وقال صلى الله عليه وسلم: دعوة المظلوم لا ترد ولو كانت من كافر.
وقال عليه السلام: ما من داع إلا كان بين إحدى ثلاث إما أن يستجاب له فيما دعا وإما أن يدخر له مثله وإما أن يكفر عنه وجاء في ساعة الجمعة لا يسأل فيها عبد ربه شيئا إلا أعطاه وقال في الدعاء بين الأذان والإقامة وعند الصف في سبيل الله وعند الغيث وغير ذلك أنها أوقات ترجى فيها إجابة الدعاء ( فأريد أن أختبئ) بسكون المعجمة وفتح الفوقية وكسر الموحدة، فهمزة أي أدخر ( دعوتي) المقطوع بإجابتها ( شفاعة لأمتي في الآخرة) في أهم أوقات حاجتهم ففيه كمال شفقته على أمته ورأفته بهم واعتناؤه بالنظر في مصالحهم جزاه الله عنا أفضل ما جزى نبيًا عن أمته.

قال ابن بطال في الحديث بيان فضيلة نبينا على سائر الأنبياء حيث آثر أمته على نفسه وأهل بيته بدعوته المجابة ولم يجعلها أيضًا دعاء عليهم كما وقع لغيره ممن تقدم وقال ابن الجوزي هذا من حسن تصرفه صلى الله عليه وسلم لأنه جعل الدعوة فيما ينبغي ومن كثرة كرمه لأنه آثر أمته على نفسه ومن صحة نظره لأنه جعلها للمذنبين من أمته لكونهم أحوج إليها من الطائعين هذا وقول بعض شراح المصابيح جميع دعوات الأنبياء مجابة والمراد بهذا الحديث أن كل نبي دعا على أمته بالإهلاك إلا أنا فلم أدع فأعطيت الشفاعة عوضا عن ذلك للصبر على أذاهم والمراد بالأمة أمة الدعوة لا أمة الإجابة تعقبه الطيبي بأنه صلى الله عليه وسلم دعا على أحياء العرب وعلى أناس من قريش بأسمائهم ودعا على رعل وذكوان ومضر قال والأولى أن يقال جعل الله لكل نبي دعوة تستجاب في حق أمته فنالها كل منهم في الدنيا وأما نبينا فإنه لما دعا على بعض أمته نزل عليه { { لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ } } فأبقى تلك الدعوة المستجابة مدخرة للآخرة وغالب من دعا عليهم لم يرد إهلاكهم وإنما أراد ردعهم ليتوبوا قال وأما جزمه أولا بأن جميع أدعية الأنبياء مجابة فغفلة عن الحديث سألت الله ثلاثا فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة الحديث انتهى وفيه إثبات الشفاعة.

قال ابن عبد البر: وهي ركن من أركان اعتقاد أهل السنة قال: وأجمعوا على أن قوله تعالى: { { عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا } } هو الشفاعة في المذنبين من أمته إلا ما روي عن مجاهد أنه جلوسه على العرش وروى عنه كالجماعة فصار إجماعا وقد صح نصا عن النبي صلى الله عليه وسلم وأحاديث الشفاعة متواترة صحاح منها شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي وقال جابر من لم يكن من أهل الكبائر فما له وللشفاعة ولا ينازع في ذلك إلا أهل البدع انتهى.

وهذا الحديث رواه البخاري في الدعوات حدثني إسماعيل قال: حدثني مالك به.
ومسلم من طريق ابن وهب عن مالك عن ابن شهاب عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة مرفوعًا به فلمالك فيه إسنادان.

( مالك عن يحيى بن سعيد أنه بلغه) قال أبو عمر: لم تختلف الرواة عن مالك في سنده ولا في متنه ورواه أبو شيبة عن أبي خالد الأحمر عن يحيى بن سعيد عن مسلم بن يسار ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو فيقول) وهو مرسل فمسلم تابعي ( اللهم فالق الإصباح) قال الباجي: أي خلقه وابتدأه وأظهره ( وجاعل الليل سكنًا) أي يسكن فيه قال الباجي: الجعل لغة الخلق والحكم والتسمية فإذا تعدى إلى مفعول واحد فهو بمعنى الخلق كقوله { { وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ } } وإلى مفعولين فيكون بمعنى الحكم والتسمية نحو: { { وَجَعَلُوا الْمَلاَئِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا } } وبمعنى الخلق كقولهم: الحمد لله الذي جعلني مسلمًا فقوله: ( وجاعل الليل سكنا) يحتمل الوجهين ( والشمس والقمر حسبانًا) قال أبو عمر: أي حسابًا أي بحساب معلوم وقد يكون جمع حساب كشهاب وشهبان وقال الباجي: أي يحسب بهما الأيام والشهور والأعوام قال تعالى: { { هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ } } ( اقض عني الدين) قال ابن عبد البر: الأظهر فيه ديون الناس ويدخل في ذلك ديون الله تعالى وفي الحديث دين الله أحق أن يقضى ( واغنني من الفقر) لأنه بئس الضجيع وهذا الفقر هو الذي لا يدرك معه القوت وقد أغناه الله تعالى كما قال: { { وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى } } ولم يكن غناه أكثر من اتخاذ قوت سنة لنفسه وعياله والغنى كله في قلبه ثقة بربه وقال: اللهم ارزق آل محمد قوتًا ولم يرد بهم إلا الأفضل وقال ما قل وكفى خير مما كثر وألهى وكان يستعيذ من فقر مبئس وغنى مطغ ويستعيذ من فتنة الغنى والفقر وقال: اللهم أحيني مسكينًا وأمتني مسكينًا واحشرني في زمرة المساكين ولا تجعلني جبارًا شقيًا.
والمسكين هنا المتواضع لا السائل لأنه صلى الله عليه وسلم كره السؤال ونهى عنه وحرمه على من يجد ما يغديه ويعشيه والآثار في هذا كثيرة وربما ظهر في بعضها تعارض وبهذا التأويل تتقارب معانيها فمن آتاه الله سعة وجب شكره عليها ومن ابتلي بالفقر وجب عليه الصبر إلا أن الفرائض تتوجه على الغني وهي ساقطة عن الفقير وللقيام بها فضل عظيم وللصبر على الفقر ثواب جسيم { { إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } } وخير الأمور أوساطها أشار له أبو عمر.

وقال أبو عبد الملك قيل أراد فقر النفس وقيل الفقر من الحسنات وقيل الفقر من المال الذي يخشى على صاحبه إذا استولى عليه نسيان الفرائض وذكر الله وجاء في الأثر اللهم إني أعوذ بك من فقر ينسيني وغنى يطغيني وهذا التأويل يدل على أن الكفاف أفضل من الفقر والغنى لأنهما بليتان يختبر الله بهما عباده.
( وأمتعني بسمعي) لما فيه من التنعم بالذكر وسماع ما يسر ( وبصري) لما فيه من رؤية مخلوقات الله والتدبر فيها وغير ذلك وفيه لغيره تلاوة القرآن في المصحف ( و) أمتعني ( بقوتي) بفوقية قبل الياء واحدة القوي ويروى وقوني بنون بدل الفوقية قال ابن عبد البر والأول أكثر عند الرواة ( في سبيلك) قال الباجي يحتمل أن يريد الجهاد وأن يريد جميع أعمال البر من تبليغ الرسالة وغيرها فذلك كله سبيل الله وقد قال مالك من قال مالي في سبيل الله سبل الله تعالى كثيرة ولكن يوضع في الغزو فخصه بالعرف قال ابن عبد البر ولا يعارض هذا ما جاء عن الله تعالى إذا أخذت كريمتي عبدي فصبر واحتسب لم يكن له جزاء إلا الجنة لأن هذا من الفرائض والحض على الصبر بعد الوقوع فلا ينافي الدعاء بالإمتاع قبل وقوعه لأنه أقرب إلى الشكر قال مطرف بن الشخير لأن أعافى فأشكر أحب إلي من أن ابتلى فأصبر.
( مالك عن أبي الزناد) بكسر الزاي ( عن الأعرج) عبد الرحمن بن هرمز ( عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا يقل أحدكم إذا دعا) طلب من الله ( اللهم اغفر لي إن شئت اللهم ارحمني إن شئت) زاد في رواية همام عن أبي هريرة عند البخاري: اللهم ارزقني إن شئت لأن التعليق بالمشيئة إنما يحتاج إليه إذا كان المطلوب منه يتأتى إكراهه على الشيء فيخفف الأمر عليه ويعلمه بأنه لا يطلب منه ذلك الشيء إلا برضاه والله تعالى منزه عن ذلك فلا فائدة للتعليق وقيل لأن فيه صورة الاستغناء عن المطلوب والمطلوب منه والأول أولى قال ابن عبد البر لا يجوز لأحد أن يقول اللهم أعطني إن شئت وغير ذلك من أمور الدين والدنيا لأنه كلام مستحيل لا وجه له إذ لا يفعل إلا ما يشاء وظاهره أنه حمل النهي على التحريم وهو الظاهر وحمله النووي على كراهة التنزيه وهو أولى ( ليعزم المسألة) قال الداودي أي يجتهد ويلح ولا يقول إن شئت كالمستثنى ولكن دعاء البائس الفقير وكأنه أشار بقوله كالمستثنى إلى أنه إذا قالها على سبيل التبرك لا يمنع وهو جيد قاله الحافظ وقال الباجي أي يخلي سؤاله ودعاءه من لفظ المشيئة لأنها إنما تشترط فيمن يصح أن يفعل دون أن يشاء لإكراه أو غيره فينبغي أن يسأل سؤال من يعلم أنه لا يفعل إلا ما يشاء وقد بين ذلك صلى الله عليه وسلم بقوله ( فإنه) تعالى ( لا مكره له) بكسر الراء.

قال ابن بطال فيه أنه ينبغي للداعي أن يجتهد في الدعاء ويكون على رجاء الإجابة ولا يقنط من الرحمة فإنه يدعو كريما قال ابن عيينة لا يمنعن أحدا الدعاء ما يعلم من نفسه يعني من التقصير فإن الله تعالى قد أجاب دعاء شر خلقه وهو إبليس حين قال رب { { أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ } } وفي الترمذي: وقال غريب عن أبي هريرة مرفوعا ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة واعلموا أن الله لا يستجيب دعاء من قلب غافل لاه قال التوربشتي أي كونوا على حالة تستحقون فيها الإجابة وذلك بإتيان المعروف واجتناب المنكر وغير ذلك من مراعاة أركان الدعاء وآدابه حتى تكون الإجابة على القلب أغلب من الرد أو المراد ادعوه معتقدين وقوع الإجابة لأن الداعي إذا لم يكن متحققا في الرجاء لم يكن رجاؤه صادقا وإذا لم يصدق رجاؤه لم يكن الرجاء خالصا والداعي مخلصا فإن الرجاء هو الباعث على الطلب ولا يتحقق الفرع إلا بتحقق الأصل وهذا الحديث رواه البخاري وأبو داود عن القعنبي عن مالك به وهو في الصحيحين من حديث أنس بنحوه.

( مالك عن ابن شهاب عن أبي عبيد) بضم العين وتنوين الدال واسمه سعد بسكون العين ابن عبيد ثقة من كبار التابعين وقيل له إدراك مات بالمدينة سنة ثمان وتسعين ( مولى ابن أزهر) بفتح الهمزة والهاء بينهما زاي ساكنة آخره راء عبد الرحمن الزهري المدني صحابي صغير ( عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يستجاب لأحدكم ما لم يعجل) بفتح التحتية والجيم بينهما عين ساكنة من الاستجابة بمعنى الإجابة قال الشاعر:

فلم يستجبه عند ذاك مجيب

أي يجاب دعاء كل واحد منكم لأن الاسم المضاف مفيد للعموم على الأصح ( فيقول) بالفاء بيان لقوله ما لم يعجل ( قد دعوت فلم يستجب لي) بضم التحتية وفتح الجيم.
قال الباجي: يحتمل أن يريد بقوله يستجاب الإخبار عن وجوب وقوع الإجابة أي تحقق وقوعها أو الإخبار عن جواز وقوعها فإن أريد الوجوب فهو بأحد ثلاثة أشياء تعجيل ما سأله أو يكفر عنه به أو يدخر له فإذا قال دعوت إلخ بطل وجوب أحد هذه الثلاثة وعرى الدعاء عن جميعها وإن أريد الجواز فيكون الإجابة بفعل ما دعا به ومنعه قوله دعوت فلم يستجب لأنه من ضعف اليقين والتسخط وفي مسلم والترمذي عن أبي هريرة مرفوعا لا يزال يستجاب للعبد ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم وما لم يستعجل قيل وما الاستعجال قال يقول قد دعوت وقد دعوت فلم أر يستجاب لي فيستحسر عند ذلك ويدع الدعاء ويستحسر بمهملات استفعال من حسر إذا أعيا وتعب وتكرار دعوت للاستمرار أي دعوت مرارًا كثيرة قال المظهري من له ملالة من الدعاء لا يقبل دعاؤه لأن الدعاء عبادة حصلت الإجابة أو لم تحصل فلا ينبغي للمؤمن أن يمل من العبادة وتأخير الإجابة إما لأنه لم يأت وقتها وإما لأنه لم يقدر في الأزل قبول دعائه في الدنيا ليعطى عوضه في الآخرة وإما أن يؤخر القبول ليلح ويبالغ في ذلك فإن الله يحب الملحين في الدعاء مع ما في ذلك من الانقياد والاستسلام وإظهار الافتقار ومن يكثر قرع الباب يوشك أن يفتح له ومن يكثر الدعاء يوشك أن يستجاب له.

والحديث رواه البخاري عن عبد الله بن يوسف ومسلم عن يحيى بن يحيى كلاهما عن مالك به.

( مالك عن ابن شهاب عن أبي عبد الله) سلمان بسكون اللام ( الأغر) بفتح الغين المعجمة وشد الراء الجهني مولاهم المدني وأصله من أصبهان ( وعن أبي سلمة بن عبد الرحمن) بن عوف القرشي الزهري ( عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ينزل ربنا) اختلف فيه فالراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا على طريق الإجمال منزهين لله تعالى عن الكيفية والتشبيه ونقله البيهقي وغيره عن الأئمة الأربعة والسفيانين والحمادين والليث والأوزاعي وغيرهم قال البيهقي وهو أسلم ويدل عليه اتفاقهم على أن التأويل المعين لا يجب فحينئذ التفويض أسلم وقال ابن العربي النزول راجع إلى أفعاله لا إلى ذاته بل ذلك عبارة عن ملكه الذي ينزل بأمره ونهيه فالنزول حسي صفة الملك المبعوث بذلك أو معنوي بمعنى لم يفعل ثم فعل فسمي ذلك نزولا عن مرتبة إلى مرتبة فهي عربية صحيحة والحاصل أنه تأوله بوجهين إما أن المعنى ينزل أمره أو الملك وإما أنه استعارة بمعنى التلطف بالداعين والإجابة لهم ونحوه وكذا حكي عن مالك أنه أوله بنزول رحمته وأمره أو ملائكته كما يقال فعل الملك كذا أي أتباعه بأمره لكن قال ابن عبد البر قال قوم ينزل أمره ورحمته وليس بشيء لأن أمره بما يشاء من رحمته ونعمته ينزل بالليل والنهار بلا توقيت ثلث الليل ولا غيره ولو صح ذلك عن مالك لكان معناه أن الأغلب في الاستجابة ذلك الوقت وقال الباجي هو إخبار عن إجابة الداعي وغفرانه للمستغفرين وتنبيه على فضل الوقت كحديث إذا تقرب إلي عبدي شبرًا تقربت إليه ذراعًا الحديث لم يرد قرب المسافة لعدم إمكانه وإنما أراد العمل من العبد ومنه تعالى الإجابة وحكى ابن فورك أن بعض المشايخ ضبطه بضم أوله على حذف المفعول أي ينزل ملكا قال الحافظ ويقويه ما رواه النسائي من طريق الأغر عن أبي هريرة وأبي سعيد أن الله يمهل حتى يمضي شطر الليل ثم يأمر مناديا يقول هل من داع فيستجاب له الحديث وحديث عثمان بن أبي العاص عند أحمد ينادي مناد هل من داع يستجاب له الحديث قال القرطبي وبهذا يرتفع الإشكال ولا يعكر عليه حديث رفاعة الجهني عند النسائي ينزل الله إلى سماء الدنيا فيقول لا أسأل عن عبادي غيري لأنه لا يلزم من إنزاله الملك أن يسأله عن صنع العباد بل يجوز أنه مأمور بالمناداة ولا يسأل البتة عما بعدها فهو أعلم سبحانه بما كان وما يكون انتهى ولك أن تقول الإشكال مدفوع حتى على أنه ينزل بفتح أوله الذي هو الرواية الصحيحة وكل من حديثي النسائي وأحمد يقوي تأويله بأنه من مجاز الحذف أو الاستعارة وقال البيضاوي لما ثبت بالقواطع أنه سبحانه منزه عن الجسمية والتحيز امتنع عليه النزول على معنى الانتقال من موضع إلى موضع أخفض منه فالمراد دنو رحمته أي ينتقل من مقتضى صفة الجلال التي تقتضي الغضب والانتقام إلى مقتضى صفة الإكرام التي تقتضي الرأفة والرحمة ( تبارك وتعالى) جملتان معترضتان بين الفعل وظرفه وهو ( كل ليلة) لما أسند النزول إلى ما لا يليق إسناده حقيقة إليه اعترض بما يدل على التنزيه كقوله تعالى { { وَيَجْعَلُونَ للهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُم مَّا يَشْتَهُونَ } } ( إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر) برفعه صفة ثلث وتخصيصه بالليل وثلثه الآخر لأنه وقت التهجد وغفلة الناس عن التعرض لنفحات رحمة الله وعند ذلك تكون النية خالصة والرغبة إلى الله وافرة وذلك مظنة القبول والإجابة ولم تختلف الروايات عن الزهري في تعيين الوقت واختلف عن أبي هريرة وغيره.

قال الترمذي: رواية أبي هريرة أصح الروايات في ذلك ويقويه أن الروايات المخالفة له اختلف فيها على راويها وانحصرت في ستة هذه، ثانيها: إذا مضى الثلث الأول.
ثالثها: الثلث الأول أو النصف.
رابعها: النصف.
خامسها: الثلث الأخير أو النصف.
سادسها: الإطلاق فجمع بينها بحمل المطلقة على المقيدة، وأما التي بأو فإن كانت للشك فالجزم مقدم على الشك، وإن كانت للتردد بين حالتين فيجمع بأن ذلك يقع بحسب اختلاف الأحوال لأن أوقات الليل تختلف في الزيادة وفي الأوقات باختلاف تقدم الليل عند قوم وتأخره عند قوم أو النزول يقع في الثلث الأول والقول يقع في النصف وفي الثلث الثاني أو يحمل ذلك على وقوعه في جميع الأوقات التي وردت بها الأحاديث ويحمل على أنه صلى الله عليه وسلم أعلم بأحد الأمور في وقت فأخبر به ثم أعلم به في وقت آخر فأخبر به فنقل الصحابة ذلك عنه ( فيقول من يدعوني فأستجيب) أي أجيب ( له) دعاءه فليست السين للطلب ( من يسألني فأعطيه) مسؤوله ( من يستغفرني فأغفر له) ذنوبه بنصب الأفعال الثلاثة في جواب الاستفهام وبالرفع على الاستئناف وبهما قرئ { { مَن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ } } ولم تختلف الروايات عن الزهري في الاقتصار على الثلاثة والفرق بينها أن المطلوب إما رفع المضار أو جلب المسار وذلك إما دنيوي أو ديني ففي الاستغفار إشارة إلى الأول والدعاء إشارة إلى الثاني والسؤال إشارة إلى الثالث وقال الكرماني يحتمل أن الدعاء ما لا طلب فيه والسؤال الطلب ويحتمل أن المقصود واحد وإن اختلف اللفظ انتهى.

وزاد سعيد المقبري عن أبي هريرة هل من تائب فأتوب عليه، وزاد أبو جعفر عنه من ذا الذي يسترزقني فأرزقه من ذا الذي يستكشف الضر فأكشف عنه وزاد عطاء مولى أم صبية بضم الصاد المهملة وموحدة عنه ألا سقيم يستشفي فيشفى رواها النسائي ومعانيها داخلة فيما تقدم وزاد سعيد بن مرجانة عنه من يقرض غير عديم ولا ظلوم رواه مسلم وفيه تحريض على عمل الطاعة وإشارة إلى جزيل ثوابها وزاد حجاج بن أبي منيع عن الزهري عند الدارقطني حتى الفجر وفي رواية يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة حتى يطلع الفجر وعليه اتفق معظم الروايات وللنسائي عن نافع بن جبير عن أبي هريرة حتى تحل الشمس وهي شاذة وفي الحديث تفضيل آخر الليل على أوله وأنه أفضل للدعاء والاستغفار ويشهد له قوله تعالى: { { وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأسْحَارِ } } وأن الدعاء ذلك الوقت مجاب ولا يعترض بتخلفه عن بعض الداعين لأن سببه وقوع الخلل في شرط من شروط الدعاء كالاحتراز في المطعم والمشرب والملبس أو لاستعجال الداعي أو بأن يكون الدعاء بإثم أو قطيعة رحم أو تحصل الإجابة ويتأخر وجود المطلوب لمصلحة العبد أو لأمر يريده الله تعالى هذا وقد حمل المشبهة الحديث وأحاديث التشبيه كلها على ظاهرها تعالى الله عن قولهم وأما المعتزلة والخوارج فأنكروا صحتها جملة وهو مكابرة والعجب أنهم أولوا ما في القرآن من نحو ذلك وأنكروا الأحاديث جهلا أو عنادا ومن العلماء من فرق بين التأويل القريب المستعمل لغة وبين البعيد المهجور فأول في بعض وفوض في بعض وجزم به من المتأخرين ابن دقيق العيد ونقل عن الإمام قال الباجي منع مالك في العتبية التحديث بحديث اهتز العرش لموت سعد بن معاذ وحديث إن الله خلق آدم على صورته وحديث الساق وقال ما يدعو الإنسان إلى أن يحدث به وهو يرى ما فيه من التغرير ولم ير مثله حديث إن الله يضحك وحديث ينزل ربنا فأجاز التحديث بهما قال فيحتمل الفرق بينهما بأن حديث التنزل والضحك أحاديث صحاح لم يطعن في شيء منهما وحديث العرش والصورة والساق لا تبلغ أحاديثها في الصحة درجة التنزل والضحك وبأن التأويل في حديث التنزل أقرب وأبين والعذر بسوء التأويل فيها أبعد انتهى.

وأخرجه البخاري في الصلاة عن القعنبي وفي الدعوات عن عبد العزيز بن عبد الله الأويسي وفي التوحيد عن إسماعيل ومسلم في الصلاة عن يحيى بن يحيى كلهم عن مالك به.

( مالك عن يحيى بن سعيد) الأنصاري ( عن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي) تيم قريش ( أن عائشة أم المؤمنين) قال ابن عبد البر: لم يختلف عن مالك في إرساله وهو مسند من حديث الأعرج عن أبي هريرة عن عائشة ومن حديث عروة عن عائشة من طرق صحاح ثم أخرجه من الوجهين وطريق الأعرج أخرجها مسلم وأبو داود والنسائي من طريق عبيد الله بن عمر عن محمد بن يحيى بن حبان عن الأعرج عن أبي هريرة عن عائشة ( قالت كنت نائمة إلى جنب رسول الله صلى الله عليه وسلم ففقدته) بفتح القاف، وفي رواية افتقدته وهما لغتان بمعنى عدمته ( من الليل) وفي رواية عروة وكان معي على فراشي ( فلمسته بيدي) وفي رواية فالتمسته في البيت وجعلت أطلبه بيدي ( فوضعت يدي على قدميه) زاد في رواية وهما منتصبتان ( وهو ساجد) وفيه أن اللمس بلا لذة لا ينقض الوضوء واحتمال أنه كان فوق حائل خلاف الأصل فسمعته ( يقول) زاد في رواية اللهم إني ( أعوذ برضاك من سخطك) أي بما يرضيك مما يسخطك فخرج عن حظ نفسه بإقامة حرمة محبوبه فهذا لله ثم الذي لنفسه قوله ( وبمعافاتك من عقوبتك) وفي إضافتها كالسخط إليه دليل لأهل السنة على جواز إضافة الشر إليه تعالى كالخير واستعاذ بها بعد استعاذته برضاه لأنه يحتمل أن يرضى من جهة حقوقه ويعاقب على حقوق غيره ( وبك منك) قال عياض: ترق من الأفعال إلى منشئ الأفعال مشاهدة للحق وغيبة عن الخلق الذي هو محض المعرفة الذي لا يعبر عنه قول ولا يضبطه وصف فهو محض التوحيد وقطع الالتفات إلى غيره وإفراده بالاستعانة وغيرها.

قال الخطابي وفيه معنى لطيف لأنه استعاذ بالله وسأله أن يجيره برضاه من سخطه وبمعافاته من عقوبته والرضا والسخط ضدان كالمعافاة والعقوبة فلما ذكر ما لا ضد له وهو الله سبحانه وتعالى استعاذ به منه لا غير ومعناه الاستغفار من التقصير في بلوغ الواجب من عبادته والثناء عليه ولذا قال ( لا أحصي ثناء عليك) قال ابن الأثير: أي لا أبلغ الواجب في الثناء عليك وقال الراغب أي لا أحصل ثناء لعجزي عنه إذ هو نعمة تستدعي شكرًا وهكذا إلى غير نهاية وقيل معناه لا أعد كما في الصحاح لأن معنى الإحصاء العد بالحصى كما قال:

ولست بالأكثر منهم حصى
وإنما العزة للكاثر

وعليه فهو من نفي الملزوم المعبر عنه بالإحصاء المفسر بالعد وإرادة نفي اللازم وهو استيعاب المعدود فكأنه قيل لا أستوعب فالمراد نفي القدرة عن الإتيان بجميع الثناءات أو فرد منها يفي بنعمة من نعمه لا عدها إذ لا يمكن عد أفراد كثيرة من الثناء وقال ابن عبد البر روينا عن مالك أن معناه وإن اجتهدت في الثناء عليك فلن أحصي نعمك ومننك وإحسانك ( أنت) مبتدأ خبره ( كما أثنيت) أي الثناء عليك هو المماثل لثنائك ( على نفسك) ولا قدرة لأحد عليه ويحتمل أن أنت تأكيد للكاف من عليك باستعارة الضمير المنفصل للمتصل، والثناء بتقديم المثلثة والمد الوصف بالجميل على المشهور لغة، واستعماله في الشر مجاز وقال المجد: وصف بمدح أو ذم أو خاص بالمدح.
قال ابن عبد البر فيه دليل على أنه لا يبلغ وصفه وأنه إنما يوصف بما وصف به نفسه انتهى وقال النووي فيه اعتراف بالعجز عن الثناء عليه وأنه لا يقدر على بلوغ حقيقته ورد الثناء إلى الجملة دون التفصيل والتعيين فوكل ذلك إليه سبحانه المحيط بكل شيء جملة وتفصيلا وكما أنه لا نهاية لصفاته لا نهاية للثناء عليه لأن الثناء تابع للمثني عليه فكل شيء أثنى عليه به وإن كثر وطال وبولغ فيه فقدر الله أعظم وسلطانه أعز وصفاته أكثر وأكبر وفضله أوسع وأسبغ.

( مالك عن زياد بن أبي زياد) ميسرة المخزومي مولاهم المدني الثقة العابد قال مالك: كان يلبس الصوف ويكون وحده ولا يجالس أحدًا.
لمالك عنه مرفوعًا هذا الحديث الواحد رواه هنا.
وفي الحج ونسبه فزاد مولى عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة المخزومي ( عن طلحة بن عبيد الله) بضم العين ( بن كريز) بفتح الكاف وكسر الراء وإسكان التحتية وزاي منقوطة الخزاعي أبي المطرف المدني وثقه أحمد والنسائي وروى له مسلم وأصحاب السنن وهو تابعي قال الولي العراقي ووهم من ظنه أحد العشرة قال ابن عبد البر لا خلاف عن مالك في إرساله ولا أحفظه بهذا الإسناد مسندا من وجه يحتج به وقد جاء مسندا من حديث علي وابن عمرو والفضائل لا تحتاج إلى من يحتج به ثم أخرج حديث علي من طريق ابن أبي شيبة وجاء أيضا من حديث أبي هريرة أخرجه هو وحديث ابن عمر والبيهقي في الشعب.

( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أفضل الدعاء) مبتدأ خبره ( دعاء يوم عرفة) قال الباجي: أي أعظمه ثوابًا وأقربه إجابة ويحتمل أن يريد به اليوم ويحتمل أن يريد الحاج خاصة ( وأفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي) ولفظ حديث علي أكثر دعائي ودعاء الأنبياء قبلي بعرفة ( لا إله إلا الله وحده لا شريك له) زاد في حديث أبي هريرة: له الملك وله الحمد يحيي ويميت، بيده الخير وهو على كل شيء قدير.
وكذا في حديث علي لكن ليس فيه بيده الخير وفي حديث ابن عمر ولكن ليس فيه يحيي ويميت وفيه بيده الخير قال ابن عبد البر فيه أن الثناء دعاء وفي المرفوع يقول الله عز وجل من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين وفيه تفضيل الدعاء بعضه على بعض والأيام بعضها على بعض وأن ذلك أفضل الذكر لأنها كلمة الإسلام والتقوى وقال آخرون أفضله الحمد لله رب العالمين لأن فيه معنى الشكر وفيه من الإخلاص ما في لا إله إلا الله وافتتح الله كلامه به وختم به وهو آخر دعوى أهل الجنة وروت كل فرقة بما قالت أحاديث كثيرة وساق جملة منها في التمهيد ووقع في تجريد الصحاح لرزين بن معاوية الأندلسي زيادة في أول هذا الحديث وهي أفضل الأيام يوم عرفة وافق يوم جمعة وهو أفضل من سبعين حجة في غير يوم الجمعة وأفضل الدعاء إلخ وتعقبه الحافظ فقال حديث لا أعرف حاله لأنه لم يذكر صحابيه ولا من خرجه بل أدرجه في حديث الموطأ هذا وليست هذه الزيادة في شيء من الموطآت فإن كان له أصل احتمل أن يراد بالسبعين التحديد أو المبالغة في الكثرة وعلى كل حال منهما ثبتت المزية انتهى وفي الهدي لابن القيم ما استفاض على ألسنة العوام أن وقفة الجمعة تعدل ثنتين وسبعين حجة فباطل لا أصل له عن رسول الله ولا عن أحد من الصحابة والتابعين انتهى.

( مالك عن أبي الزبير) محمد بن مسلم ( المكي) الأسدي مولاهم صدوق وقال ابن معين ثقة وقال أحمد لا بأس به وقال أبو عمر ثقة حافظ متقن.
روى عنه مالك والسفيانان والليث وابن جريج وجماعة من الأئمة لا يلتفت إلى قول شعبة فيه وروى له الجميع مات بمكة سنة ست وعشرين وقيل ثمان وعشرين ومائة ( عن طاوس) بن كيسان ( اليماني) الحضرمي مولاهم الفارسي يقال: اسمه ذكوان وطاوس لقب، ثقة فقيه فاضل مات سنة ست ومائة وقيل بعدها ( عن عبد الله بن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعلمهم هذا الدعاء كما يعلمهم السورة من القرآن) تشبيه في تحفيظ حروفه وترتيب كلماته ومنع الزيادة والنقص منه والدرس له والمحافظة عليه ( يقول اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم) أي عقوبتها والإضافة مجازية أو من إضافة المظروف إلى ظرفه ( وأعوذ بك من عذاب القبر) العذاب اسم للعقوبة والمصدر التعذيب فهو مضاف إلى الفاعل مجازًا أو الإضافة من إضافة المظروف إلى ظرفه على تقدير في أي من عذاب في القبر وفيه رد على من أنكره ( وأعوذ بك من فتنة) امتحان واختبار ( المسيح) بفتح الميم وخفة السين المكسورة وحاء مهملة وصحف من أعجمها يطلق على الدجال وعلى عيسى عليه السلام لكن إذا أريد الأول قيد كما قال ( الدجال) وقال أبو داود: المسيح مثقل الدجال ومخفف عيسى والمشهور الأول، ونقل المستملي عن الفربري عن خلف بن عامر الهمداني أحد الحفاظ المسيح بالتشديد والتخفيف واحد يقال للدجال ولعيسى لا فرق بينهما بمعنى لا اختصاص لأحدهما بأحد الأمرين لقب بذلك لأنه ممسوح العين أو لأن أحد شقي وجهه خلق ممسوحا لا عين فيه ولا حاجب أو لأنه يمسح الأرض إذا خرج وقال الجوهري من خففه فلمسحه الأرض ومن شدد فلأنه ممسوح العين وأما عيسى فقيل لأنه خرج من بطن أمه ممسوحا بالدهن أو لأن زكريا مسحه أو لأنه كان لا يمسح ذا عاهة إلا برئ أو لمسحه الأرض بسباحته أو لأن رجله لا أخمص لها أو للبسه المسوح وقيل هو بالعبرانية ماسح فعرب المسيح وقيل المسيح الصديق ( وأعوذ بك من فتنة المحيا) هي ما يعرض للإنسان مدة حياته من الافتتان بالدنيا والشهوات والجهالات وأعظمها والعياذ بالله أمر الخاتمة عند الموت ( و) فتنة ( الممات) قال الباجي: هي فتنة القبر.
وقال أبو عمر: يحتمل إذا احتضر ويحتمل في القبر أيضًا.
وقال ابن دقيق العيد: يجوز أنها الفتنة عند الموت أضيفت إليه لقربها منه وفتنة المحيا ما قبل ذلك ويجوز أنها فتنة القبر وقد صح إنكم تفتنون في قبوركم مثل أو قريبًا من فتنة الدجال ولا يتكرر مع قوله عذاب القبر لأن العذاب مرتب على الفتنة والسبب غير المسبب وقيل فتنة المحيا الابتلاء مع زوال الصبر والممات السؤال في القبر مع الحيرة وهو من العام بعد الخاص لأن عذاب القبر داخل تحت فتنة الممات وفتنة الدجال داخلة تحت فتنة المحيا وروى الترمذي الحكيم عن سفيان الثوري إن الميت إذا سئل من ربك تراءى له الشيطان فيشير إلى نفسه أنا ربك فلذا ورد سؤال الثبات له حين يسأل ثم روي بسند جيد عن عمرو بن مرة كانوا يستحبون إذا وضع الميت في قبره أن يقولوا اللهم أعذه من الشيطان وفي مسلم عن أبي هريرة مرفوعًا إذا فرغ أحدكم من التشهد الآخر فليتعوذ من أربع من عذاب جهنم ومن عذاب القبر ومن فتنة المحيا والممات ومن شر المسيح الدجال قال الحافظ فهذا يعين أن هذه الاستعاذة بعد الفراغ من التشهد فيكون سابقا على غيره من الأدعية وما ورد أن المصلي يتخير من الدعاء ما شاء يكون بعد هذه الاستعاذة وقبل السلام انتهى وحديث ابن عباس أخرجه مسلم عن قتيبة بن سعيد عن مالك به وقال مسلم بعده بلغني أن طاوسا قال لابنه أدعوت بها في صلاتك قال لا قال أعد صلاتك لأن طاوسا رواه عن ثلاثة أو أربعة وهذا البلاغ أخرجه عبد الرزاق بسند صحيح وهو يدل على أنه يرى وجوبه وبه قال بعض أهل الظاهر.

( مالك عن أبي الزبير) محمد بن مسلم ( المكي عن طاوس اليماني عن عبد الله بن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قام إلى الصلاة من جوف الليل يقول) في موضع نصب خبر كان وقال الطيبي: الظاهر أنه جواب إذا والجملة الشرطية خبر كان وظاهره أنه كان يقول أول ما يقوم إلى الصلاة ولابن خزيمة من طريق قيس بن سعد عن طاوس عن ابن عباس كان صلى الله عليه وسلم إذا قام للتهجد قال بعد ما يكبر ( اللهم لك الحمد) الوصف بالجميل على التفضيل وأل فيه للاستغراق ( أنت نور السموات والأرض) أي منورهما وبك يهتدي من فيهما وقيل معناه أنت المنزه من كل عيب يقال فلان منور أي مبرأ من كل عيب ويقال هو مدح تقول فلان نور البلد أي مزينه ( ولك الحمد أنت قيام) بفتح التحتية المشددة فألف وكذا في رواية قيس بن سعد الحنظلي المكي عند مسلم وأبي داود بزنة فعال صيغة مبالغة وفي رواية سليمان الأحول عن طاوس في الصحيحين قيم وهما والقيوم بمعنى واحد ( السموات والأرض) زاد في رواية ومن فيهن أي أنت الذي تقوم بحفظهما وحفظ من أحاطت به واشتملت عليه تؤتي كلا ما به قوامه وتقوم كل شيء من خلقك بما تراه من تدبيرك وفي البخاري قال مجاهد القيوم القائم على كل شيء وقرأ عمر القيام أي في آية الكرسي وكلاهما مدح أي بخلاف القيم فيستعمل في المدح والذم وقيل القيم القائم بأمور الخلق ومدبر العالم في جميع أحواله ومنه قيم الطفل والقيوم والقيام القائم بنفسه مطلقا لا بغيره ويقوم به كل موجود حتى لا يتصور وجود شيء ولا دوام وجوده إلا به فمن عرف ذلك استراح عن كد التدبير وتعب الاشتغال وعاش براحة التفويض فلا يضن بكريمة ولا يجعل في قلبه للدنيا كثر قيمة.

( ولك الحمد أنت رب السموات والأرض ومن فيهن) عبر بمن تغليبًا للعقلاء على غيرهم فهو رب كل شيء ومليكه وكافله ومغذيه ومصلحه العواد عليه بنعمه وتكرير الحمد للاهتمام بشأنه وليناط به كل مرة معنى آخر وتقديم الجار والمجرور إفادة التخصيص وكأنه لما خص الحمد بالله قيل له لم خصصتني قال لأنك القائم بحفظ المخلوقات إلى غير ذلك.
( أنت الحق) أي المتحقق الوجود الثابت بلا شك فيه قال القرطبي هذا الوصف له سبحانه وتعالى بالحقيقة خاص به لا ينبغي لغيره إذ وجوده بنفسه فلم يسبقه عدم ولا يلحقه عدم بخلاف غيره وقال ابن التين يحتمل أنت الحق بالنسبة إلى من يدعي أنه إله أو بمعنى من سماك إلها فقد قال الحق ( وقولك الحق) أي مدلوله ثابت ( ووعدك الحق) لا يدخله خلف ولا شك في وقوعه وهو من الخاص بعد العام ( ولقاؤك حق) المراد به البعث بعد الموت وهو عبارة عن مآل الخلق في الآخرة بالنسبة إلى الجزاء على الأعمال وقيل معناه رؤيتك في الآخرة حيث لا مانع وقيل الموت قال النووي وهو باطل هنا قال الحافظ وهذا وما بعده داخل تحت الوعد لكن الوعد مصدر وما بعده هو الموعود به ويحتمل أنه من الخاص بعد العام.
( والجنة حق والنار حق) أي كل منهما موجود ( والساعة حق) أي يوم القيامة وأصل الساعة القطعة من الزمان وإطلاق اسم الحق على ما ذكر من الأمور معناه أنه لا بد من كونها وأنها مما يجب أن يصدق بها وتكرار لفظ حق مبالغة في التأكيد زاد في رواية سليمان عن طاوس عند الشيخين والنبيون حق ومحمد حق وعرف الحق في الثلاثة الأول قال الطيبي للحصر لأن الله هو الحق الثابت وما سواه في معرض الزوال قال لبيد:

ألا كل شيء ما خلا الله باطل

وكذا قوله: وكذا وعده مختص بالإنجاز دون وعد غيره والتنكير في البواقي للتعظيم.

وقال السهيلي التعريف للدلالة على أنه المستحق لهذا الاسم بالحقيقة إذ هو مقتضى الأداة وكذا قوله ووعده لأن وعده كلامه وتركت في البواقي لأنها أمور محدثة والمحدث لا يجب له البقاء من جهة ذاته وبقاء ما يدوم منه علم مخبر الصادق لا من جهة استحالة فنائه قال الطيبي وهنا سر دقيق وهو أنه صلى الله عليه وسلم لما نظر إلى المقام الإلهي ومقربي حضرة الربوبية عظم شأنه وفخم منزلته حيث ذكر النبيين وعرفها بلام الاستغراق ثم خص محمدا صلى الله عليه وسلم من بينهم وعطفه عليهم إيذانا بالتغاير وأنه فائق عليهم بأوصاف مختصة به فإن تغاير الوصف بمنزلة التغاير في الذات ثم حكم عليه استقلالا بأنه حق وجرده عن ذاته كأنه غيره وأوجب عليه تصديقه ولما رجع إلى مقام العبودية ونظر إلى افتقار نفسه نادى بلسان الاضطرار في مطاوي الانكسار فقال:

( اللهم لك أسلمت) انقدت وخضعت لأمرك ونهيك ( وبك آمنت) أي صدقت ( وعليك توكلت) أي فوضت أموري تاركًا النظر في الأسباب العادية ( وإليك أنبت) رجعت إليك مقبلاً بقلبي عليك ( وبك) أي بما أعطيتني من البرهان وبما لقنتني من الحجة ( خاصمت) من خاصمني من الكفار أو بتأييدك ونصرك قاتلت ( وإليك حاكمت) كل من جحد الحق وما أرسلتني به لا إلى من كانت الجاهلية تتحاكم إليه من كاهن ونحوه وقدم جميع صلات هذه الأفعال عليها إشعارًا بالتخصيص وإفادة للحصر وكذا قوله ولك الحمد.
( فاغفر لي ما قدمت) قبل هذا الوقت ( وأخرت) عنه ( وأسررت) أخفيت ( وأعلنت) أظهرت أو ما حدثت به نفسي وما تحرك به لساني زاد في رواية للبخاري وما أنت أعلم به مني وهو من العام بعد الخاص وقال ذلك مع أنه مغفور له إما تواضعا وهضما لنفسه وإجلالا وتعظيما لربه أو تعليمًا لأمته ليقتدى به قال الحافظ كذا قيل والأولى أنه لمجموع ذلك إذ لو كان للتعليم فقط لكفي فيه أمرهم بأن يقولوا زاد في رواية سليمان عن طاوس أنت المقدم والمؤخر أي المقدم لي في البعث يوم القيامة والمؤخر لي في البعث في الدنيا.

( أنت إلهي لا إله إلا أنت) زاد في رواية للبخاري: ولا حول ولا قوة إلا بالله.
قال الكرماني: هذا الحديث من جوامع الكلم لأن لفظ القيم إشارة إلى أن وجود الجواهر وقوامها منه والنور إلى أن الأعراض أيضا منه والملك إلى أنه حاكم عليها إيجادا وعدما يفعل ما يشاء وكل ذلك من نعمه على عباده فلذا قرن كلا منها بالحمد وخصص الحمد به ثم قوله أنت الحق إشارة إلى المبتدأ والقول ونحوه إلى المعاش والساعة ونحوها إشارة إلى المعاد وفيه الإشارة إلى النبوة وإلى الجزاء ثوابا وعقابا ووجوب الإيمان به والإسلام والتوكل والإنابة والتضرع إلى الله والخضوع له انتهى وفيه زيادة معرفته صلى الله عليه وسلم بعظمة ربه وعظيم قدرته ومواظبته على الذكر والدعاء والثناء على ربه والاعتراف لله بحقوقه والإقرار بصدق وعده.

وأخرجه مسلم في الصلاة عن قتيبة بن سعيد والترمذي في الدعوات من طريق معن كليهما عن مالك به وله طرق في الصحيحين وغيرهما.

( مالك عن عبد الله بن عبد الله بن جابر) وقيل جبر ( بن عتيك) بفتح العين المهملة وكسر الفوقية وإسكان التحتية وكاف الأنصاري المدني تابعي صغير من الثقات ( أنه قال جاءنا عبد الله بن عمر) بن الخطاب هكذا رواه يحيى وطائفة لم يجعلوا بين عبد الله شيخ مالك وبين ابن عمر أحدًا.
ومنهم من أدخل بينهما عتيك بن الحارث بن عتيك، وهي رواية ابن القاسم ومنهم من جعل بينهما جابر بن عتيك وهي رواية القعنبي ومطرف قال ابن عبد البر ورواية يحيى أولى بالصواب ( في بني معاوية وهي قرية من قرى الأنصار) بالمدينة والنسبة إليها المعاوي بضم الميم ( فقال) زاد في رواية ابن وضاح لي ( هل تدرون أين صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من مسجدكم هذا) لأصلي فيه وأتبرك به لأنه كان حريصًا على اقتفاء آثاره ( فقلت له نعم وأشرت له إلى ناحية منه) من المسجد ( فقال لي هل تدري ما الثلاث) دعوات ( التي دعا بهن فيه فقلت نعم) فيه طرح العالم المسألة على من دونه ليعلم ما عنده ( قال فأخبرني بهن فقلت دعا بأن لا يظهر) الله ( عليهم عدوا من غيرهم) أي من غير المؤمنين يعني يستأصل جميعهم ( ولا يهلكهم بالسنين) أي بالمحل والجدب والجوع ( فأعطيهما) بالبناء للمفعول ( ودعا بأن لا يجعل بأسهم بينهم) أي الحرب والفتن والاختلاف ( فمنعها قال صدقت) يدل على أنه كان يعلم ما سأله عنه ( قال ابن عمر فلن يزال الهرج) بفتح الهاء وسكون الراء وبالجيم القتل ( إلى يوم القيامة) قضاء نافذ من الله ففي مسلم عن ثوبان رفعه: إن الله زوى لي مشارق الأرض ومغاربها وسيبلغ ملك أمتي ما زوى لي منها الحديث، وفيه: وإني سألت الله أن لا يهلك أمتي بسنة عامة ولا يسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم وأن لا يلبسهم شيعا ويذيق بعضهم بأس بعض فقال يا محمد إني إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد وإني أعطيتك لأمتك أن لا أهلكهم بسنة عامة وأن لا أسلط عليهم عدوا من غيرهم ولو اجتمع عليهم من بين أقطارها حتى يكون بعضهم يهلك بعضًا.

قال ابن عبد البر: دعا صلى الله عليه وسلم في مسجد الفتح يوم الإثنين ويوم الثلاثاء ويوم الأربعاء فاستجيب له يوم الأربعاء بين الصلاتين فعرف البشر في وجهه قال جابر فما نزل بي أمر يهمني إلا توخيت تلك الساعة فأعرف الإجابة.

( مالك عن زيد بن أسلم أنه كان يقول ما من داع يدعو إلا كان بين إحدى ثلاث إما أن يستجاب له) بعين ما سأل ( وإما أن يدخر له) يوم القيامة ( وإما أن يكفر عنه) من الذنوب في نظير دعائه.
قال ابن عبد البر: هذا لا يكون رأيًا بل توقيف وهو خبر محفوظ عن النبي صلى الله عليه وسلم ثم أخرج عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال دعاء المسلم بين إحدى ثلاث إما أن يعطى مسألته التي سأل أو يرفع بها درجة أو يحط بها عنه خطيئة ما لم يدع بقطيعة رحم أو مأثم أو يستعجل قال وأخرج ابن جرير وابن أبي شيبة عن أبي سعيد قال صلى الله عليه وسلم إن دعوة المسلم لا ترد ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم إما أن تعجل له في الدنيا وإما أن تدخر له في الآخرة وإما أن يصرف عنه من السوء بقدر ما دعاه وهذا من التفسير المسند لقوله تعالى: { { ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ } } فهذه كلمة استجابة والله تعالى لا تنقضي حكمته ولذا لا تقع الإجابة في كل دعوة { { وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ } } وفي الحديث إن الله ليبتلي العبد وهو يحبه ليسمع تضرعه انتهى.



رقم الحديث 513 وَحَدَّثَنِي عَنْ مالِكٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: مَا مِنْ دَاعٍ يَدْعُو، إِلَّا كَانَ بَيْنَ إِحْدَى ثَلَاثٍ: إِمَّا أَنْ يُسْتَجَابَ لَهُ، وَإِمَّا أَنْ يُدَّخَرَ لَهُ، وَإِمَّا أَنْ يُكَفَّرَ عَنْهُ.


( مالك عن أبي الزناد) عبد الله بن ذكوان ( عن الأعرج) عبد الرحمن بن هرمز ( عن أبي هريرة) عبد الرحمن بن صخر أو عمرو بن عامر ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لكل نبي دعوة) مستجابة ( يدعو بها) بهذه الدعوة مقطوع فيها بالإجابة وما عداها على رجاء الإجابة على غير يقين ولا وعد وبهذا أجيب عن إشكال ظاهره بما وقع لكثير من الأنبياء من الدعوات المجابة ولا سيما نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وبأن معناه أفضل دعوات كل نبي ولهم دعوات أخرى وبأن معناه لكل منهم دعوة عامة مستجابة في أمته إما بإهلاكهم وإما بنجاتهم وأما الدعوات الخاصة فمنها ما يستجاب ومنها ما لا يستجاب وقيل لكل منهم دعوة تخصه لدنياه أو لنفسه كقول نوح: { { رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا } } وقول زكريا: { { رب هب لي من لدنك وليا } } وقول سليمان: { { رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لاَّ يَنبَغِي لأحَدٍ مِّن بَعْدِي } } حكاه ابن التين.

وقال ابن عبد البر: معناه عندي أن كل نبي أعطي أمنية يتمنى بها لأنه محال أن يكون نبينا أو غيره من الأنبياء لا يجاب من دعائه إلا دعوة واحدة وما يكاد أحد يخلو من إجابة دعوته إذا شاء ربه قال تعالى: { { فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ } } وقال صلى الله عليه وسلم: دعوة المظلوم لا ترد ولو كانت من كافر.
وقال عليه السلام: ما من داع إلا كان بين إحدى ثلاث إما أن يستجاب له فيما دعا وإما أن يدخر له مثله وإما أن يكفر عنه وجاء في ساعة الجمعة لا يسأل فيها عبد ربه شيئا إلا أعطاه وقال في الدعاء بين الأذان والإقامة وعند الصف في سبيل الله وعند الغيث وغير ذلك أنها أوقات ترجى فيها إجابة الدعاء ( فأريد أن أختبئ) بسكون المعجمة وفتح الفوقية وكسر الموحدة، فهمزة أي أدخر ( دعوتي) المقطوع بإجابتها ( شفاعة لأمتي في الآخرة) في أهم أوقات حاجتهم ففيه كمال شفقته على أمته ورأفته بهم واعتناؤه بالنظر في مصالحهم جزاه الله عنا أفضل ما جزى نبيًا عن أمته.

قال ابن بطال في الحديث بيان فضيلة نبينا على سائر الأنبياء حيث آثر أمته على نفسه وأهل بيته بدعوته المجابة ولم يجعلها أيضًا دعاء عليهم كما وقع لغيره ممن تقدم وقال ابن الجوزي هذا من حسن تصرفه صلى الله عليه وسلم لأنه جعل الدعوة فيما ينبغي ومن كثرة كرمه لأنه آثر أمته على نفسه ومن صحة نظره لأنه جعلها للمذنبين من أمته لكونهم أحوج إليها من الطائعين هذا وقول بعض شراح المصابيح جميع دعوات الأنبياء مجابة والمراد بهذا الحديث أن كل نبي دعا على أمته بالإهلاك إلا أنا فلم أدع فأعطيت الشفاعة عوضا عن ذلك للصبر على أذاهم والمراد بالأمة أمة الدعوة لا أمة الإجابة تعقبه الطيبي بأنه صلى الله عليه وسلم دعا على أحياء العرب وعلى أناس من قريش بأسمائهم ودعا على رعل وذكوان ومضر قال والأولى أن يقال جعل الله لكل نبي دعوة تستجاب في حق أمته فنالها كل منهم في الدنيا وأما نبينا فإنه لما دعا على بعض أمته نزل عليه { { لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ } } فأبقى تلك الدعوة المستجابة مدخرة للآخرة وغالب من دعا عليهم لم يرد إهلاكهم وإنما أراد ردعهم ليتوبوا قال وأما جزمه أولا بأن جميع أدعية الأنبياء مجابة فغفلة عن الحديث سألت الله ثلاثا فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة الحديث انتهى وفيه إثبات الشفاعة.

قال ابن عبد البر: وهي ركن من أركان اعتقاد أهل السنة قال: وأجمعوا على أن قوله تعالى: { { عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا } } هو الشفاعة في المذنبين من أمته إلا ما روي عن مجاهد أنه جلوسه على العرش وروى عنه كالجماعة فصار إجماعا وقد صح نصا عن النبي صلى الله عليه وسلم وأحاديث الشفاعة متواترة صحاح منها شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي وقال جابر من لم يكن من أهل الكبائر فما له وللشفاعة ولا ينازع في ذلك إلا أهل البدع انتهى.

وهذا الحديث رواه البخاري في الدعوات حدثني إسماعيل قال: حدثني مالك به.
ومسلم من طريق ابن وهب عن مالك عن ابن شهاب عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة مرفوعًا به فلمالك فيه إسنادان.

( مالك عن يحيى بن سعيد أنه بلغه) قال أبو عمر: لم تختلف الرواة عن مالك في سنده ولا في متنه ورواه أبو شيبة عن أبي خالد الأحمر عن يحيى بن سعيد عن مسلم بن يسار ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو فيقول) وهو مرسل فمسلم تابعي ( اللهم فالق الإصباح) قال الباجي: أي خلقه وابتدأه وأظهره ( وجاعل الليل سكنًا) أي يسكن فيه قال الباجي: الجعل لغة الخلق والحكم والتسمية فإذا تعدى إلى مفعول واحد فهو بمعنى الخلق كقوله { { وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ } } وإلى مفعولين فيكون بمعنى الحكم والتسمية نحو: { { وَجَعَلُوا الْمَلاَئِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا } } وبمعنى الخلق كقولهم: الحمد لله الذي جعلني مسلمًا فقوله: ( وجاعل الليل سكنا) يحتمل الوجهين ( والشمس والقمر حسبانًا) قال أبو عمر: أي حسابًا أي بحساب معلوم وقد يكون جمع حساب كشهاب وشهبان وقال الباجي: أي يحسب بهما الأيام والشهور والأعوام قال تعالى: { { هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ } } ( اقض عني الدين) قال ابن عبد البر: الأظهر فيه ديون الناس ويدخل في ذلك ديون الله تعالى وفي الحديث دين الله أحق أن يقضى ( واغنني من الفقر) لأنه بئس الضجيع وهذا الفقر هو الذي لا يدرك معه القوت وقد أغناه الله تعالى كما قال: { { وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى } } ولم يكن غناه أكثر من اتخاذ قوت سنة لنفسه وعياله والغنى كله في قلبه ثقة بربه وقال: اللهم ارزق آل محمد قوتًا ولم يرد بهم إلا الأفضل وقال ما قل وكفى خير مما كثر وألهى وكان يستعيذ من فقر مبئس وغنى مطغ ويستعيذ من فتنة الغنى والفقر وقال: اللهم أحيني مسكينًا وأمتني مسكينًا واحشرني في زمرة المساكين ولا تجعلني جبارًا شقيًا.
والمسكين هنا المتواضع لا السائل لأنه صلى الله عليه وسلم كره السؤال ونهى عنه وحرمه على من يجد ما يغديه ويعشيه والآثار في هذا كثيرة وربما ظهر في بعضها تعارض وبهذا التأويل تتقارب معانيها فمن آتاه الله سعة وجب شكره عليها ومن ابتلي بالفقر وجب عليه الصبر إلا أن الفرائض تتوجه على الغني وهي ساقطة عن الفقير وللقيام بها فضل عظيم وللصبر على الفقر ثواب جسيم { { إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } } وخير الأمور أوساطها أشار له أبو عمر.

وقال أبو عبد الملك قيل أراد فقر النفس وقيل الفقر من الحسنات وقيل الفقر من المال الذي يخشى على صاحبه إذا استولى عليه نسيان الفرائض وذكر الله وجاء في الأثر اللهم إني أعوذ بك من فقر ينسيني وغنى يطغيني وهذا التأويل يدل على أن الكفاف أفضل من الفقر والغنى لأنهما بليتان يختبر الله بهما عباده.
( وأمتعني بسمعي) لما فيه من التنعم بالذكر وسماع ما يسر ( وبصري) لما فيه من رؤية مخلوقات الله والتدبر فيها وغير ذلك وفيه لغيره تلاوة القرآن في المصحف ( و) أمتعني ( بقوتي) بفوقية قبل الياء واحدة القوي ويروى وقوني بنون بدل الفوقية قال ابن عبد البر والأول أكثر عند الرواة ( في سبيلك) قال الباجي يحتمل أن يريد الجهاد وأن يريد جميع أعمال البر من تبليغ الرسالة وغيرها فذلك كله سبيل الله وقد قال مالك من قال مالي في سبيل الله سبل الله تعالى كثيرة ولكن يوضع في الغزو فخصه بالعرف قال ابن عبد البر ولا يعارض هذا ما جاء عن الله تعالى إذا أخذت كريمتي عبدي فصبر واحتسب لم يكن له جزاء إلا الجنة لأن هذا من الفرائض والحض على الصبر بعد الوقوع فلا ينافي الدعاء بالإمتاع قبل وقوعه لأنه أقرب إلى الشكر قال مطرف بن الشخير لأن أعافى فأشكر أحب إلي من أن ابتلى فأصبر.
( مالك عن أبي الزناد) بكسر الزاي ( عن الأعرج) عبد الرحمن بن هرمز ( عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا يقل أحدكم إذا دعا) طلب من الله ( اللهم اغفر لي إن شئت اللهم ارحمني إن شئت) زاد في رواية همام عن أبي هريرة عند البخاري: اللهم ارزقني إن شئت لأن التعليق بالمشيئة إنما يحتاج إليه إذا كان المطلوب منه يتأتى إكراهه على الشيء فيخفف الأمر عليه ويعلمه بأنه لا يطلب منه ذلك الشيء إلا برضاه والله تعالى منزه عن ذلك فلا فائدة للتعليق وقيل لأن فيه صورة الاستغناء عن المطلوب والمطلوب منه والأول أولى قال ابن عبد البر لا يجوز لأحد أن يقول اللهم أعطني إن شئت وغير ذلك من أمور الدين والدنيا لأنه كلام مستحيل لا وجه له إذ لا يفعل إلا ما يشاء وظاهره أنه حمل النهي على التحريم وهو الظاهر وحمله النووي على كراهة التنزيه وهو أولى ( ليعزم المسألة) قال الداودي أي يجتهد ويلح ولا يقول إن شئت كالمستثنى ولكن دعاء البائس الفقير وكأنه أشار بقوله كالمستثنى إلى أنه إذا قالها على سبيل التبرك لا يمنع وهو جيد قاله الحافظ وقال الباجي أي يخلي سؤاله ودعاءه من لفظ المشيئة لأنها إنما تشترط فيمن يصح أن يفعل دون أن يشاء لإكراه أو غيره فينبغي أن يسأل سؤال من يعلم أنه لا يفعل إلا ما يشاء وقد بين ذلك صلى الله عليه وسلم بقوله ( فإنه) تعالى ( لا مكره له) بكسر الراء.

قال ابن بطال فيه أنه ينبغي للداعي أن يجتهد في الدعاء ويكون على رجاء الإجابة ولا يقنط من الرحمة فإنه يدعو كريما قال ابن عيينة لا يمنعن أحدا الدعاء ما يعلم من نفسه يعني من التقصير فإن الله تعالى قد أجاب دعاء شر خلقه وهو إبليس حين قال رب { { أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ } } وفي الترمذي: وقال غريب عن أبي هريرة مرفوعا ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة واعلموا أن الله لا يستجيب دعاء من قلب غافل لاه قال التوربشتي أي كونوا على حالة تستحقون فيها الإجابة وذلك بإتيان المعروف واجتناب المنكر وغير ذلك من مراعاة أركان الدعاء وآدابه حتى تكون الإجابة على القلب أغلب من الرد أو المراد ادعوه معتقدين وقوع الإجابة لأن الداعي إذا لم يكن متحققا في الرجاء لم يكن رجاؤه صادقا وإذا لم يصدق رجاؤه لم يكن الرجاء خالصا والداعي مخلصا فإن الرجاء هو الباعث على الطلب ولا يتحقق الفرع إلا بتحقق الأصل وهذا الحديث رواه البخاري وأبو داود عن القعنبي عن مالك به وهو في الصحيحين من حديث أنس بنحوه.

( مالك عن ابن شهاب عن أبي عبيد) بضم العين وتنوين الدال واسمه سعد بسكون العين ابن عبيد ثقة من كبار التابعين وقيل له إدراك مات بالمدينة سنة ثمان وتسعين ( مولى ابن أزهر) بفتح الهمزة والهاء بينهما زاي ساكنة آخره راء عبد الرحمن الزهري المدني صحابي صغير ( عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يستجاب لأحدكم ما لم يعجل) بفتح التحتية والجيم بينهما عين ساكنة من الاستجابة بمعنى الإجابة قال الشاعر:

فلم يستجبه عند ذاك مجيب

أي يجاب دعاء كل واحد منكم لأن الاسم المضاف مفيد للعموم على الأصح ( فيقول) بالفاء بيان لقوله ما لم يعجل ( قد دعوت فلم يستجب لي) بضم التحتية وفتح الجيم.
قال الباجي: يحتمل أن يريد بقوله يستجاب الإخبار عن وجوب وقوع الإجابة أي تحقق وقوعها أو الإخبار عن جواز وقوعها فإن أريد الوجوب فهو بأحد ثلاثة أشياء تعجيل ما سأله أو يكفر عنه به أو يدخر له فإذا قال دعوت إلخ بطل وجوب أحد هذه الثلاثة وعرى الدعاء عن جميعها وإن أريد الجواز فيكون الإجابة بفعل ما دعا به ومنعه قوله دعوت فلم يستجب لأنه من ضعف اليقين والتسخط وفي مسلم والترمذي عن أبي هريرة مرفوعا لا يزال يستجاب للعبد ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم وما لم يستعجل قيل وما الاستعجال قال يقول قد دعوت وقد دعوت فلم أر يستجاب لي فيستحسر عند ذلك ويدع الدعاء ويستحسر بمهملات استفعال من حسر إذا أعيا وتعب وتكرار دعوت للاستمرار أي دعوت مرارًا كثيرة قال المظهري من له ملالة من الدعاء لا يقبل دعاؤه لأن الدعاء عبادة حصلت الإجابة أو لم تحصل فلا ينبغي للمؤمن أن يمل من العبادة وتأخير الإجابة إما لأنه لم يأت وقتها وإما لأنه لم يقدر في الأزل قبول دعائه في الدنيا ليعطى عوضه في الآخرة وإما أن يؤخر القبول ليلح ويبالغ في ذلك فإن الله يحب الملحين في الدعاء مع ما في ذلك من الانقياد والاستسلام وإظهار الافتقار ومن يكثر قرع الباب يوشك أن يفتح له ومن يكثر الدعاء يوشك أن يستجاب له.

والحديث رواه البخاري عن عبد الله بن يوسف ومسلم عن يحيى بن يحيى كلاهما عن مالك به.

( مالك عن ابن شهاب عن أبي عبد الله) سلمان بسكون اللام ( الأغر) بفتح الغين المعجمة وشد الراء الجهني مولاهم المدني وأصله من أصبهان ( وعن أبي سلمة بن عبد الرحمن) بن عوف القرشي الزهري ( عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ينزل ربنا) اختلف فيه فالراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا على طريق الإجمال منزهين لله تعالى عن الكيفية والتشبيه ونقله البيهقي وغيره عن الأئمة الأربعة والسفيانين والحمادين والليث والأوزاعي وغيرهم قال البيهقي وهو أسلم ويدل عليه اتفاقهم على أن التأويل المعين لا يجب فحينئذ التفويض أسلم وقال ابن العربي النزول راجع إلى أفعاله لا إلى ذاته بل ذلك عبارة عن ملكه الذي ينزل بأمره ونهيه فالنزول حسي صفة الملك المبعوث بذلك أو معنوي بمعنى لم يفعل ثم فعل فسمي ذلك نزولا عن مرتبة إلى مرتبة فهي عربية صحيحة والحاصل أنه تأوله بوجهين إما أن المعنى ينزل أمره أو الملك وإما أنه استعارة بمعنى التلطف بالداعين والإجابة لهم ونحوه وكذا حكي عن مالك أنه أوله بنزول رحمته وأمره أو ملائكته كما يقال فعل الملك كذا أي أتباعه بأمره لكن قال ابن عبد البر قال قوم ينزل أمره ورحمته وليس بشيء لأن أمره بما يشاء من رحمته ونعمته ينزل بالليل والنهار بلا توقيت ثلث الليل ولا غيره ولو صح ذلك عن مالك لكان معناه أن الأغلب في الاستجابة ذلك الوقت وقال الباجي هو إخبار عن إجابة الداعي وغفرانه للمستغفرين وتنبيه على فضل الوقت كحديث إذا تقرب إلي عبدي شبرًا تقربت إليه ذراعًا الحديث لم يرد قرب المسافة لعدم إمكانه وإنما أراد العمل من العبد ومنه تعالى الإجابة وحكى ابن فورك أن بعض المشايخ ضبطه بضم أوله على حذف المفعول أي ينزل ملكا قال الحافظ ويقويه ما رواه النسائي من طريق الأغر عن أبي هريرة وأبي سعيد أن الله يمهل حتى يمضي شطر الليل ثم يأمر مناديا يقول هل من داع فيستجاب له الحديث وحديث عثمان بن أبي العاص عند أحمد ينادي مناد هل من داع يستجاب له الحديث قال القرطبي وبهذا يرتفع الإشكال ولا يعكر عليه حديث رفاعة الجهني عند النسائي ينزل الله إلى سماء الدنيا فيقول لا أسأل عن عبادي غيري لأنه لا يلزم من إنزاله الملك أن يسأله عن صنع العباد بل يجوز أنه مأمور بالمناداة ولا يسأل البتة عما بعدها فهو أعلم سبحانه بما كان وما يكون انتهى ولك أن تقول الإشكال مدفوع حتى على أنه ينزل بفتح أوله الذي هو الرواية الصحيحة وكل من حديثي النسائي وأحمد يقوي تأويله بأنه من مجاز الحذف أو الاستعارة وقال البيضاوي لما ثبت بالقواطع أنه سبحانه منزه عن الجسمية والتحيز امتنع عليه النزول على معنى الانتقال من موضع إلى موضع أخفض منه فالمراد دنو رحمته أي ينتقل من مقتضى صفة الجلال التي تقتضي الغضب والانتقام إلى مقتضى صفة الإكرام التي تقتضي الرأفة والرحمة ( تبارك وتعالى) جملتان معترضتان بين الفعل وظرفه وهو ( كل ليلة) لما أسند النزول إلى ما لا يليق إسناده حقيقة إليه اعترض بما يدل على التنزيه كقوله تعالى { { وَيَجْعَلُونَ للهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُم مَّا يَشْتَهُونَ } } ( إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر) برفعه صفة ثلث وتخصيصه بالليل وثلثه الآخر لأنه وقت التهجد وغفلة الناس عن التعرض لنفحات رحمة الله وعند ذلك تكون النية خالصة والرغبة إلى الله وافرة وذلك مظنة القبول والإجابة ولم تختلف الروايات عن الزهري في تعيين الوقت واختلف عن أبي هريرة وغيره.

قال الترمذي: رواية أبي هريرة أصح الروايات في ذلك ويقويه أن الروايات المخالفة له اختلف فيها على راويها وانحصرت في ستة هذه، ثانيها: إذا مضى الثلث الأول.
ثالثها: الثلث الأول أو النصف.
رابعها: النصف.
خامسها: الثلث الأخير أو النصف.
سادسها: الإطلاق فجمع بينها بحمل المطلقة على المقيدة، وأما التي بأو فإن كانت للشك فالجزم مقدم على الشك، وإن كانت للتردد بين حالتين فيجمع بأن ذلك يقع بحسب اختلاف الأحوال لأن أوقات الليل تختلف في الزيادة وفي الأوقات باختلاف تقدم الليل عند قوم وتأخره عند قوم أو النزول يقع في الثلث الأول والقول يقع في النصف وفي الثلث الثاني أو يحمل ذلك على وقوعه في جميع الأوقات التي وردت بها الأحاديث ويحمل على أنه صلى الله عليه وسلم أعلم بأحد الأمور في وقت فأخبر به ثم أعلم به في وقت آخر فأخبر به فنقل الصحابة ذلك عنه ( فيقول من يدعوني فأستجيب) أي أجيب ( له) دعاءه فليست السين للطلب ( من يسألني فأعطيه) مسؤوله ( من يستغفرني فأغفر له) ذنوبه بنصب الأفعال الثلاثة في جواب الاستفهام وبالرفع على الاستئناف وبهما قرئ { { مَن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ } } ولم تختلف الروايات عن الزهري في الاقتصار على الثلاثة والفرق بينها أن المطلوب إما رفع المضار أو جلب المسار وذلك إما دنيوي أو ديني ففي الاستغفار إشارة إلى الأول والدعاء إشارة إلى الثاني والسؤال إشارة إلى الثالث وقال الكرماني يحتمل أن الدعاء ما لا طلب فيه والسؤال الطلب ويحتمل أن المقصود واحد وإن اختلف اللفظ انتهى.

وزاد سعيد المقبري عن أبي هريرة هل من تائب فأتوب عليه، وزاد أبو جعفر عنه من ذا الذي يسترزقني فأرزقه من ذا الذي يستكشف الضر فأكشف عنه وزاد عطاء مولى أم صبية بضم الصاد المهملة وموحدة عنه ألا سقيم يستشفي فيشفى رواها النسائي ومعانيها داخلة فيما تقدم وزاد سعيد بن مرجانة عنه من يقرض غير عديم ولا ظلوم رواه مسلم وفيه تحريض على عمل الطاعة وإشارة إلى جزيل ثوابها وزاد حجاج بن أبي منيع عن الزهري عند الدارقطني حتى الفجر وفي رواية يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة حتى يطلع الفجر وعليه اتفق معظم الروايات وللنسائي عن نافع بن جبير عن أبي هريرة حتى تحل الشمس وهي شاذة وفي الحديث تفضيل آخر الليل على أوله وأنه أفضل للدعاء والاستغفار ويشهد له قوله تعالى: { { وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأسْحَارِ } } وأن الدعاء ذلك الوقت مجاب ولا يعترض بتخلفه عن بعض الداعين لأن سببه وقوع الخلل في شرط من شروط الدعاء كالاحتراز في المطعم والمشرب والملبس أو لاستعجال الداعي أو بأن يكون الدعاء بإثم أو قطيعة رحم أو تحصل الإجابة ويتأخر وجود المطلوب لمصلحة العبد أو لأمر يريده الله تعالى هذا وقد حمل المشبهة الحديث وأحاديث التشبيه كلها على ظاهرها تعالى الله عن قولهم وأما المعتزلة والخوارج فأنكروا صحتها جملة وهو مكابرة والعجب أنهم أولوا ما في القرآن من نحو ذلك وأنكروا الأحاديث جهلا أو عنادا ومن العلماء من فرق بين التأويل القريب المستعمل لغة وبين البعيد المهجور فأول في بعض وفوض في بعض وجزم به من المتأخرين ابن دقيق العيد ونقل عن الإمام قال الباجي منع مالك في العتبية التحديث بحديث اهتز العرش لموت سعد بن معاذ وحديث إن الله خلق آدم على صورته وحديث الساق وقال ما يدعو الإنسان إلى أن يحدث به وهو يرى ما فيه من التغرير ولم ير مثله حديث إن الله يضحك وحديث ينزل ربنا فأجاز التحديث بهما قال فيحتمل الفرق بينهما بأن حديث التنزل والضحك أحاديث صحاح لم يطعن في شيء منهما وحديث العرش والصورة والساق لا تبلغ أحاديثها في الصحة درجة التنزل والضحك وبأن التأويل في حديث التنزل أقرب وأبين والعذر بسوء التأويل فيها أبعد انتهى.

وأخرجه البخاري في الصلاة عن القعنبي وفي الدعوات عن عبد العزيز بن عبد الله الأويسي وفي التوحيد عن إسماعيل ومسلم في الصلاة عن يحيى بن يحيى كلهم عن مالك به.

( مالك عن يحيى بن سعيد) الأنصاري ( عن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي) تيم قريش ( أن عائشة أم المؤمنين) قال ابن عبد البر: لم يختلف عن مالك في إرساله وهو مسند من حديث الأعرج عن أبي هريرة عن عائشة ومن حديث عروة عن عائشة من طرق صحاح ثم أخرجه من الوجهين وطريق الأعرج أخرجها مسلم وأبو داود والنسائي من طريق عبيد الله بن عمر عن محمد بن يحيى بن حبان عن الأعرج عن أبي هريرة عن عائشة ( قالت كنت نائمة إلى جنب رسول الله صلى الله عليه وسلم ففقدته) بفتح القاف، وفي رواية افتقدته وهما لغتان بمعنى عدمته ( من الليل) وفي رواية عروة وكان معي على فراشي ( فلمسته بيدي) وفي رواية فالتمسته في البيت وجعلت أطلبه بيدي ( فوضعت يدي على قدميه) زاد في رواية وهما منتصبتان ( وهو ساجد) وفيه أن اللمس بلا لذة لا ينقض الوضوء واحتمال أنه كان فوق حائل خلاف الأصل فسمعته ( يقول) زاد في رواية اللهم إني ( أعوذ برضاك من سخطك) أي بما يرضيك مما يسخطك فخرج عن حظ نفسه بإقامة حرمة محبوبه فهذا لله ثم الذي لنفسه قوله ( وبمعافاتك من عقوبتك) وفي إضافتها كالسخط إليه دليل لأهل السنة على جواز إضافة الشر إليه تعالى كالخير واستعاذ بها بعد استعاذته برضاه لأنه يحتمل أن يرضى من جهة حقوقه ويعاقب على حقوق غيره ( وبك منك) قال عياض: ترق من الأفعال إلى منشئ الأفعال مشاهدة للحق وغيبة عن الخلق الذي هو محض المعرفة الذي لا يعبر عنه قول ولا يضبطه وصف فهو محض التوحيد وقطع الالتفات إلى غيره وإفراده بالاستعانة وغيرها.

قال الخطابي وفيه معنى لطيف لأنه استعاذ بالله وسأله أن يجيره برضاه من سخطه وبمعافاته من عقوبته والرضا والسخط ضدان كالمعافاة والعقوبة فلما ذكر ما لا ضد له وهو الله سبحانه وتعالى استعاذ به منه لا غير ومعناه الاستغفار من التقصير في بلوغ الواجب من عبادته والثناء عليه ولذا قال ( لا أحصي ثناء عليك) قال ابن الأثير: أي لا أبلغ الواجب في الثناء عليك وقال الراغب أي لا أحصل ثناء لعجزي عنه إذ هو نعمة تستدعي شكرًا وهكذا إلى غير نهاية وقيل معناه لا أعد كما في الصحاح لأن معنى الإحصاء العد بالحصى كما قال:

ولست بالأكثر منهم حصى
وإنما العزة للكاثر

وعليه فهو من نفي الملزوم المعبر عنه بالإحصاء المفسر بالعد وإرادة نفي اللازم وهو استيعاب المعدود فكأنه قيل لا أستوعب فالمراد نفي القدرة عن الإتيان بجميع الثناءات أو فرد منها يفي بنعمة من نعمه لا عدها إذ لا يمكن عد أفراد كثيرة من الثناء وقال ابن عبد البر روينا عن مالك أن معناه وإن اجتهدت في الثناء عليك فلن أحصي نعمك ومننك وإحسانك ( أنت) مبتدأ خبره ( كما أثنيت) أي الثناء عليك هو المماثل لثنائك ( على نفسك) ولا قدرة لأحد عليه ويحتمل أن أنت تأكيد للكاف من عليك باستعارة الضمير المنفصل للمتصل، والثناء بتقديم المثلثة والمد الوصف بالجميل على المشهور لغة، واستعماله في الشر مجاز وقال المجد: وصف بمدح أو ذم أو خاص بالمدح.
قال ابن عبد البر فيه دليل على أنه لا يبلغ وصفه وأنه إنما يوصف بما وصف به نفسه انتهى وقال النووي فيه اعتراف بالعجز عن الثناء عليه وأنه لا يقدر على بلوغ حقيقته ورد الثناء إلى الجملة دون التفصيل والتعيين فوكل ذلك إليه سبحانه المحيط بكل شيء جملة وتفصيلا وكما أنه لا نهاية لصفاته لا نهاية للثناء عليه لأن الثناء تابع للمثني عليه فكل شيء أثنى عليه به وإن كثر وطال وبولغ فيه فقدر الله أعظم وسلطانه أعز وصفاته أكثر وأكبر وفضله أوسع وأسبغ.

( مالك عن زياد بن أبي زياد) ميسرة المخزومي مولاهم المدني الثقة العابد قال مالك: كان يلبس الصوف ويكون وحده ولا يجالس أحدًا.
لمالك عنه مرفوعًا هذا الحديث الواحد رواه هنا.
وفي الحج ونسبه فزاد مولى عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة المخزومي ( عن طلحة بن عبيد الله) بضم العين ( بن كريز) بفتح الكاف وكسر الراء وإسكان التحتية وزاي منقوطة الخزاعي أبي المطرف المدني وثقه أحمد والنسائي وروى له مسلم وأصحاب السنن وهو تابعي قال الولي العراقي ووهم من ظنه أحد العشرة قال ابن عبد البر لا خلاف عن مالك في إرساله ولا أحفظه بهذا الإسناد مسندا من وجه يحتج به وقد جاء مسندا من حديث علي وابن عمرو والفضائل لا تحتاج إلى من يحتج به ثم أخرج حديث علي من طريق ابن أبي شيبة وجاء أيضا من حديث أبي هريرة أخرجه هو وحديث ابن عمر والبيهقي في الشعب.

( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أفضل الدعاء) مبتدأ خبره ( دعاء يوم عرفة) قال الباجي: أي أعظمه ثوابًا وأقربه إجابة ويحتمل أن يريد به اليوم ويحتمل أن يريد الحاج خاصة ( وأفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي) ولفظ حديث علي أكثر دعائي ودعاء الأنبياء قبلي بعرفة ( لا إله إلا الله وحده لا شريك له) زاد في حديث أبي هريرة: له الملك وله الحمد يحيي ويميت، بيده الخير وهو على كل شيء قدير.
وكذا في حديث علي لكن ليس فيه بيده الخير وفي حديث ابن عمر ولكن ليس فيه يحيي ويميت وفيه بيده الخير قال ابن عبد البر فيه أن الثناء دعاء وفي المرفوع يقول الله عز وجل من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين وفيه تفضيل الدعاء بعضه على بعض والأيام بعضها على بعض وأن ذلك أفضل الذكر لأنها كلمة الإسلام والتقوى وقال آخرون أفضله الحمد لله رب العالمين لأن فيه معنى الشكر وفيه من الإخلاص ما في لا إله إلا الله وافتتح الله كلامه به وختم به وهو آخر دعوى أهل الجنة وروت كل فرقة بما قالت أحاديث كثيرة وساق جملة منها في التمهيد ووقع في تجريد الصحاح لرزين بن معاوية الأندلسي زيادة في أول هذا الحديث وهي أفضل الأيام يوم عرفة وافق يوم جمعة وهو أفضل من سبعين حجة في غير يوم الجمعة وأفضل الدعاء إلخ وتعقبه الحافظ فقال حديث لا أعرف حاله لأنه لم يذكر صحابيه ولا من خرجه بل أدرجه في حديث الموطأ هذا وليست هذه الزيادة في شيء من الموطآت فإن كان له أصل احتمل أن يراد بالسبعين التحديد أو المبالغة في الكثرة وعلى كل حال منهما ثبتت المزية انتهى وفي الهدي لابن القيم ما استفاض على ألسنة العوام أن وقفة الجمعة تعدل ثنتين وسبعين حجة فباطل لا أصل له عن رسول الله ولا عن أحد من الصحابة والتابعين انتهى.

( مالك عن أبي الزبير) محمد بن مسلم ( المكي) الأسدي مولاهم صدوق وقال ابن معين ثقة وقال أحمد لا بأس به وقال أبو عمر ثقة حافظ متقن.
روى عنه مالك والسفيانان والليث وابن جريج وجماعة من الأئمة لا يلتفت إلى قول شعبة فيه وروى له الجميع مات بمكة سنة ست وعشرين وقيل ثمان وعشرين ومائة ( عن طاوس) بن كيسان ( اليماني) الحضرمي مولاهم الفارسي يقال: اسمه ذكوان وطاوس لقب، ثقة فقيه فاضل مات سنة ست ومائة وقيل بعدها ( عن عبد الله بن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعلمهم هذا الدعاء كما يعلمهم السورة من القرآن) تشبيه في تحفيظ حروفه وترتيب كلماته ومنع الزيادة والنقص منه والدرس له والمحافظة عليه ( يقول اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم) أي عقوبتها والإضافة مجازية أو من إضافة المظروف إلى ظرفه ( وأعوذ بك من عذاب القبر) العذاب اسم للعقوبة والمصدر التعذيب فهو مضاف إلى الفاعل مجازًا أو الإضافة من إضافة المظروف إلى ظرفه على تقدير في أي من عذاب في القبر وفيه رد على من أنكره ( وأعوذ بك من فتنة) امتحان واختبار ( المسيح) بفتح الميم وخفة السين المكسورة وحاء مهملة وصحف من أعجمها يطلق على الدجال وعلى عيسى عليه السلام لكن إذا أريد الأول قيد كما قال ( الدجال) وقال أبو داود: المسيح مثقل الدجال ومخفف عيسى والمشهور الأول، ونقل المستملي عن الفربري عن خلف بن عامر الهمداني أحد الحفاظ المسيح بالتشديد والتخفيف واحد يقال للدجال ولعيسى لا فرق بينهما بمعنى لا اختصاص لأحدهما بأحد الأمرين لقب بذلك لأنه ممسوح العين أو لأن أحد شقي وجهه خلق ممسوحا لا عين فيه ولا حاجب أو لأنه يمسح الأرض إذا خرج وقال الجوهري من خففه فلمسحه الأرض ومن شدد فلأنه ممسوح العين وأما عيسى فقيل لأنه خرج من بطن أمه ممسوحا بالدهن أو لأن زكريا مسحه أو لأنه كان لا يمسح ذا عاهة إلا برئ أو لمسحه الأرض بسباحته أو لأن رجله لا أخمص لها أو للبسه المسوح وقيل هو بالعبرانية ماسح فعرب المسيح وقيل المسيح الصديق ( وأعوذ بك من فتنة المحيا) هي ما يعرض للإنسان مدة حياته من الافتتان بالدنيا والشهوات والجهالات وأعظمها والعياذ بالله أمر الخاتمة عند الموت ( و) فتنة ( الممات) قال الباجي: هي فتنة القبر.
وقال أبو عمر: يحتمل إذا احتضر ويحتمل في القبر أيضًا.
وقال ابن دقيق العيد: يجوز أنها الفتنة عند الموت أضيفت إليه لقربها منه وفتنة المحيا ما قبل ذلك ويجوز أنها فتنة القبر وقد صح إنكم تفتنون في قبوركم مثل أو قريبًا من فتنة الدجال ولا يتكرر مع قوله عذاب القبر لأن العذاب مرتب على الفتنة والسبب غير المسبب وقيل فتنة المحيا الابتلاء مع زوال الصبر والممات السؤال في القبر مع الحيرة وهو من العام بعد الخاص لأن عذاب القبر داخل تحت فتنة الممات وفتنة الدجال داخلة تحت فتنة المحيا وروى الترمذي الحكيم عن سفيان الثوري إن الميت إذا سئل من ربك تراءى له الشيطان فيشير إلى نفسه أنا ربك فلذا ورد سؤال الثبات له حين يسأل ثم روي بسند جيد عن عمرو بن مرة كانوا يستحبون إذا وضع الميت في قبره أن يقولوا اللهم أعذه من الشيطان وفي مسلم عن أبي هريرة مرفوعًا إذا فرغ أحدكم من التشهد الآخر فليتعوذ من أربع من عذاب جهنم ومن عذاب القبر ومن فتنة المحيا والممات ومن شر المسيح الدجال قال الحافظ فهذا يعين أن هذه الاستعاذة بعد الفراغ من التشهد فيكون سابقا على غيره من الأدعية وما ورد أن المصلي يتخير من الدعاء ما شاء يكون بعد هذه الاستعاذة وقبل السلام انتهى وحديث ابن عباس أخرجه مسلم عن قتيبة بن سعيد عن مالك به وقال مسلم بعده بلغني أن طاوسا قال لابنه أدعوت بها في صلاتك قال لا قال أعد صلاتك لأن طاوسا رواه عن ثلاثة أو أربعة وهذا البلاغ أخرجه عبد الرزاق بسند صحيح وهو يدل على أنه يرى وجوبه وبه قال بعض أهل الظاهر.

( مالك عن أبي الزبير) محمد بن مسلم ( المكي عن طاوس اليماني عن عبد الله بن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قام إلى الصلاة من جوف الليل يقول) في موضع نصب خبر كان وقال الطيبي: الظاهر أنه جواب إذا والجملة الشرطية خبر كان وظاهره أنه كان يقول أول ما يقوم إلى الصلاة ولابن خزيمة من طريق قيس بن سعد عن طاوس عن ابن عباس كان صلى الله عليه وسلم إذا قام للتهجد قال بعد ما يكبر ( اللهم لك الحمد) الوصف بالجميل على التفضيل وأل فيه للاستغراق ( أنت نور السموات والأرض) أي منورهما وبك يهتدي من فيهما وقيل معناه أنت المنزه من كل عيب يقال فلان منور أي مبرأ من كل عيب ويقال هو مدح تقول فلان نور البلد أي مزينه ( ولك الحمد أنت قيام) بفتح التحتية المشددة فألف وكذا في رواية قيس بن سعد الحنظلي المكي عند مسلم وأبي داود بزنة فعال صيغة مبالغة وفي رواية سليمان الأحول عن طاوس في الصحيحين قيم وهما والقيوم بمعنى واحد ( السموات والأرض) زاد في رواية ومن فيهن أي أنت الذي تقوم بحفظهما وحفظ من أحاطت به واشتملت عليه تؤتي كلا ما به قوامه وتقوم كل شيء من خلقك بما تراه من تدبيرك وفي البخاري قال مجاهد القيوم القائم على كل شيء وقرأ عمر القيام أي في آية الكرسي وكلاهما مدح أي بخلاف القيم فيستعمل في المدح والذم وقيل القيم القائم بأمور الخلق ومدبر العالم في جميع أحواله ومنه قيم الطفل والقيوم والقيام القائم بنفسه مطلقا لا بغيره ويقوم به كل موجود حتى لا يتصور وجود شيء ولا دوام وجوده إلا به فمن عرف ذلك استراح عن كد التدبير وتعب الاشتغال وعاش براحة التفويض فلا يضن بكريمة ولا يجعل في قلبه للدنيا كثر قيمة.

( ولك الحمد أنت رب السموات والأرض ومن فيهن) عبر بمن تغليبًا للعقلاء على غيرهم فهو رب كل شيء ومليكه وكافله ومغذيه ومصلحه العواد عليه بنعمه وتكرير الحمد للاهتمام بشأنه وليناط به كل مرة معنى آخر وتقديم الجار والمجرور إفادة التخصيص وكأنه لما خص الحمد بالله قيل له لم خصصتني قال لأنك القائم بحفظ المخلوقات إلى غير ذلك.
( أنت الحق) أي المتحقق الوجود الثابت بلا شك فيه قال القرطبي هذا الوصف له سبحانه وتعالى بالحقيقة خاص به لا ينبغي لغيره إذ وجوده بنفسه فلم يسبقه عدم ولا يلحقه عدم بخلاف غيره وقال ابن التين يحتمل أنت الحق بالنسبة إلى من يدعي أنه إله أو بمعنى من سماك إلها فقد قال الحق ( وقولك الحق) أي مدلوله ثابت ( ووعدك الحق) لا يدخله خلف ولا شك في وقوعه وهو من الخاص بعد العام ( ولقاؤك حق) المراد به البعث بعد الموت وهو عبارة عن مآل الخلق في الآخرة بالنسبة إلى الجزاء على الأعمال وقيل معناه رؤيتك في الآخرة حيث لا مانع وقيل الموت قال النووي وهو باطل هنا قال الحافظ وهذا وما بعده داخل تحت الوعد لكن الوعد مصدر وما بعده هو الموعود به ويحتمل أنه من الخاص بعد العام.
( والجنة حق والنار حق) أي كل منهما موجود ( والساعة حق) أي يوم القيامة وأصل الساعة القطعة من الزمان وإطلاق اسم الحق على ما ذكر من الأمور معناه أنه لا بد من كونها وأنها مما يجب أن يصدق بها وتكرار لفظ حق مبالغة في التأكيد زاد في رواية سليمان عن طاوس عند الشيخين والنبيون حق ومحمد حق وعرف الحق في الثلاثة الأول قال الطيبي للحصر لأن الله هو الحق الثابت وما سواه في معرض الزوال قال لبيد:

ألا كل شيء ما خلا الله باطل

وكذا قوله: وكذا وعده مختص بالإنجاز دون وعد غيره والتنكير في البواقي للتعظيم.

وقال السهيلي التعريف للدلالة على أنه المستحق لهذا الاسم بالحقيقة إذ هو مقتضى الأداة وكذا قوله ووعده لأن وعده كلامه وتركت في البواقي لأنها أمور محدثة والمحدث لا يجب له البقاء من جهة ذاته وبقاء ما يدوم منه علم مخبر الصادق لا من جهة استحالة فنائه قال الطيبي وهنا سر دقيق وهو أنه صلى الله عليه وسلم لما نظر إلى المقام الإلهي ومقربي حضرة الربوبية عظم شأنه وفخم منزلته حيث ذكر النبيين وعرفها بلام الاستغراق ثم خص محمدا صلى الله عليه وسلم من بينهم وعطفه عليهم إيذانا بالتغاير وأنه فائق عليهم بأوصاف مختصة به فإن تغاير الوصف بمنزلة التغاير في الذات ثم حكم عليه استقلالا بأنه حق وجرده عن ذاته كأنه غيره وأوجب عليه تصديقه ولما رجع إلى مقام العبودية ونظر إلى افتقار نفسه نادى بلسان الاضطرار في مطاوي الانكسار فقال:

( اللهم لك أسلمت) انقدت وخضعت لأمرك ونهيك ( وبك آمنت) أي صدقت ( وعليك توكلت) أي فوضت أموري تاركًا النظر في الأسباب العادية ( وإليك أنبت) رجعت إليك مقبلاً بقلبي عليك ( وبك) أي بما أعطيتني من البرهان وبما لقنتني من الحجة ( خاصمت) من خاصمني من الكفار أو بتأييدك ونصرك قاتلت ( وإليك حاكمت) كل من جحد الحق وما أرسلتني به لا إلى من كانت الجاهلية تتحاكم إليه من كاهن ونحوه وقدم جميع صلات هذه الأفعال عليها إشعارًا بالتخصيص وإفادة للحصر وكذا قوله ولك الحمد.
( فاغفر لي ما قدمت) قبل هذا الوقت ( وأخرت) عنه ( وأسررت) أخفيت ( وأعلنت) أظهرت أو ما حدثت به نفسي وما تحرك به لساني زاد في رواية للبخاري وما أنت أعلم به مني وهو من العام بعد الخاص وقال ذلك مع أنه مغفور له إما تواضعا وهضما لنفسه وإجلالا وتعظيما لربه أو تعليمًا لأمته ليقتدى به قال الحافظ كذا قيل والأولى أنه لمجموع ذلك إذ لو كان للتعليم فقط لكفي فيه أمرهم بأن يقولوا زاد في رواية سليمان عن طاوس أنت المقدم والمؤخر أي المقدم لي في البعث يوم القيامة والمؤخر لي في البعث في الدنيا.

( أنت إلهي لا إله إلا أنت) زاد في رواية للبخاري: ولا حول ولا قوة إلا بالله.
قال الكرماني: هذا الحديث من جوامع الكلم لأن لفظ القيم إشارة إلى أن وجود الجواهر وقوامها منه والنور إلى أن الأعراض أيضا منه والملك إلى أنه حاكم عليها إيجادا وعدما يفعل ما يشاء وكل ذلك من نعمه على عباده فلذا قرن كلا منها بالحمد وخصص الحمد به ثم قوله أنت الحق إشارة إلى المبتدأ والقول ونحوه إلى المعاش والساعة ونحوها إشارة إلى المعاد وفيه الإشارة إلى النبوة وإلى الجزاء ثوابا وعقابا ووجوب الإيمان به والإسلام والتوكل والإنابة والتضرع إلى الله والخضوع له انتهى وفيه زيادة معرفته صلى الله عليه وسلم بعظمة ربه وعظيم قدرته ومواظبته على الذكر والدعاء والثناء على ربه والاعتراف لله بحقوقه والإقرار بصدق وعده.

وأخرجه مسلم في الصلاة عن قتيبة بن سعيد والترمذي في الدعوات من طريق معن كليهما عن مالك به وله طرق في الصحيحين وغيرهما.

( مالك عن عبد الله بن عبد الله بن جابر) وقيل جبر ( بن عتيك) بفتح العين المهملة وكسر الفوقية وإسكان التحتية وكاف الأنصاري المدني تابعي صغير من الثقات ( أنه قال جاءنا عبد الله بن عمر) بن الخطاب هكذا رواه يحيى وطائفة لم يجعلوا بين عبد الله شيخ مالك وبين ابن عمر أحدًا.
ومنهم من أدخل بينهما عتيك بن الحارث بن عتيك، وهي رواية ابن القاسم ومنهم من جعل بينهما جابر بن عتيك وهي رواية القعنبي ومطرف قال ابن عبد البر ورواية يحيى أولى بالصواب ( في بني معاوية وهي قرية من قرى الأنصار) بالمدينة والنسبة إليها المعاوي بضم الميم ( فقال) زاد في رواية ابن وضاح لي ( هل تدرون أين صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من مسجدكم هذا) لأصلي فيه وأتبرك به لأنه كان حريصًا على اقتفاء آثاره ( فقلت له نعم وأشرت له إلى ناحية منه) من المسجد ( فقال لي هل تدري ما الثلاث) دعوات ( التي دعا بهن فيه فقلت نعم) فيه طرح العالم المسألة على من دونه ليعلم ما عنده ( قال فأخبرني بهن فقلت دعا بأن لا يظهر) الله ( عليهم عدوا من غيرهم) أي من غير المؤمنين يعني يستأصل جميعهم ( ولا يهلكهم بالسنين) أي بالمحل والجدب والجوع ( فأعطيهما) بالبناء للمفعول ( ودعا بأن لا يجعل بأسهم بينهم) أي الحرب والفتن والاختلاف ( فمنعها قال صدقت) يدل على أنه كان يعلم ما سأله عنه ( قال ابن عمر فلن يزال الهرج) بفتح الهاء وسكون الراء وبالجيم القتل ( إلى يوم القيامة) قضاء نافذ من الله ففي مسلم عن ثوبان رفعه: إن الله زوى لي مشارق الأرض ومغاربها وسيبلغ ملك أمتي ما زوى لي منها الحديث، وفيه: وإني سألت الله أن لا يهلك أمتي بسنة عامة ولا يسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم وأن لا يلبسهم شيعا ويذيق بعضهم بأس بعض فقال يا محمد إني إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد وإني أعطيتك لأمتك أن لا أهلكهم بسنة عامة وأن لا أسلط عليهم عدوا من غيرهم ولو اجتمع عليهم من بين أقطارها حتى يكون بعضهم يهلك بعضًا.

قال ابن عبد البر: دعا صلى الله عليه وسلم في مسجد الفتح يوم الإثنين ويوم الثلاثاء ويوم الأربعاء فاستجيب له يوم الأربعاء بين الصلاتين فعرف البشر في وجهه قال جابر فما نزل بي أمر يهمني إلا توخيت تلك الساعة فأعرف الإجابة.

( مالك عن زيد بن أسلم أنه كان يقول ما من داع يدعو إلا كان بين إحدى ثلاث إما أن يستجاب له) بعين ما سأل ( وإما أن يدخر له) يوم القيامة ( وإما أن يكفر عنه) من الذنوب في نظير دعائه.
قال ابن عبد البر: هذا لا يكون رأيًا بل توقيف وهو خبر محفوظ عن النبي صلى الله عليه وسلم ثم أخرج عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال دعاء المسلم بين إحدى ثلاث إما أن يعطى مسألته التي سأل أو يرفع بها درجة أو يحط بها عنه خطيئة ما لم يدع بقطيعة رحم أو مأثم أو يستعجل قال وأخرج ابن جرير وابن أبي شيبة عن أبي سعيد قال صلى الله عليه وسلم إن دعوة المسلم لا ترد ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم إما أن تعجل له في الدنيا وإما أن تدخر له في الآخرة وإما أن يصرف عنه من السوء بقدر ما دعاه وهذا من التفسير المسند لقوله تعالى: { { ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ } } فهذه كلمة استجابة والله تعالى لا تنقضي حكمته ولذا لا تقع الإجابة في كل دعوة { { وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ } } وفي الحديث إن الله ليبتلي العبد وهو يحبه ليسمع تضرعه انتهى.