فهرس الكتاب

شرح الزرقاني - بَابُ جَامِعِ الْجَنَائِزِ

رقم الحديث 573 حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ عَبَّادِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَتْهُ أَنَّهَا سَمِعَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ وَهُوَ مُسْتَنِدٌ إِلَى صَدْرِهَا وَأَصْغَتْ إِلَيْهِ يَقُولُ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي، وَارْحَمْنِي، وَأَلْحِقْنِي بِالرَّفِيقِ الْأَعْلَى.


( جامع الجنائز)

( مالك عن هشام بن عروة عن عباد) بشد الموحدة ( ابن عبد الله بن الزبير) بن العوام كان قاضي مكة زمن أبيه وخليفته إذا حج ( أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أخبرته أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت وهو مستند إلى صدرها وأصغت) بإسكان الصاد المهملة وفتح الغين المعجمة أي أمالت سمعها ( إليه يقول) وفي رواية قتيبة وهو يقول ( اللهم اغفر لي وارحمني) فيه ندب الدعاء بهما ولا سيما عند الموت وإذا دعا بذلك المصطفى فأين غيره منه والدعاء مخ العبادة لما فيه من الإخلاص والخضوع والضراعة والرجاء وذلك صريح الإيمان ( وألحقني) بهمزة قطع ( بالرفيق الأعلى) وفي البخاري من رواية ذكوان عن عائشة فجعل يقول في الرفيق الأعلى حتى قبض ومالت يده ولأحمد من رواية المطلب عن عائشة فقال مع الرفيق الأعلى مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين إلى قوله رفيقًا ومعنى كونهم رفيقًا تعاونهم على الطاعة وارتفاق بعضهم ببعض وأفرده إشارة إلى أن أهل الجنة يدخلون على قلب رجل واحد قاله السهيلي فالمراد بالرفيق هؤلاء المذكورون في الآية قال الحافظ وهو المعتمد وعليه الأكثر وفي حديث أبي موسى عند النسائي وصححه ابن حبان فقال اللهم الرفيق الأعلى الأسعد مع جبريل وميكائيل وإسرافيل وظاهره أن الرفيق المكان الذي تحصل المرافقة فيه مع المذكورين وهذه الأحاديث ترد زعم أن الرفيق تغيير من الراوي والصواب الرقيع بالقاف والعين المهملة وهو من أسماء السماء.
وقال ابن عبد البر هو أعلى الجنة والجوهري الجنة ويؤيده ما عند ابن إسحاق الرفيق الأعلى الجنة وقيل الرفيق الأعلى الله عز وجل لأنه من أسمائه ففي مسلم وأبي داود مرفوعًا أن الله رفيق يحب الرفيق وهو صفة ذات كالحليم أو صفة فعل وغلط الأزهري هذا القول ولا وجه له لأن تأويله على ما يليق بالله سائغ قال السهيلي الحكمة في اختتام كلام المصطفى بهذه الكلمة تضمنها التوحيد والذكر بالقلب حتى يستفاد منه الرخصة لغيره أنه لا يشترط أن يكون الذكر باللسان لأن بعض الناس قد يمنعه من النطق مانع فلا يضره إذا كان قلبه عامرًا بالذكر قال وفي بعض كتب الواقدي أول ما تكلم به صلى الله عليه وسلم وهو مسترضع عند حليمة الله أكبر وآخر ما تكلم به ما في حديث عائشة يعني في الصحيحين قالت عائشة فكانت آخر ما تكلم بها صلى الله عليه وسلم قوله اللهم الرفيق الأعلى وروى الحاكم عن أنس آخر ما تكلم به جلال ربي الرفيع قد بلغت ثم قضى وجمع بأن هذا آخر على الإطلاق بعد ما كرر اللهم الرفيق الأعلى قبل جلال أي أختار جلال ربي الرفيع قد بلغت ما أوحي إلي وحديث الباب رواه مسلم في المناقب حدثنا قتيبة بن سعيد عن مالك به وتابعه أبو أسامة وعبد الله بن نمير وعبدة بن سليمان كلهم عن هشام به في مسلم أيضًا وله طرق في الصحيحين وغيرهما ( مالك بلغه أن عائشة) أخرجه البخاري ومسلم من طريق إبراهيم بن سعد عن أبيه عن عروة عن عائشة ( قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما من نبي) أراد ما يشمل الرسول ( يموت حتى يخير) بضم أوله مبني للمفعول بين الدنيا والآخرة ( قالت فسمعته يقول) في مرضه الذي مات فيه وأخذته بحة شديدة كما في رواية سعد ( اللهم الرفيق الأعلى فعرفت أنه ذاهب) وفي الصحيحين من طريق الزهري عن عروة عنها كان صلى الله عليه وسلم وهو صحيح يقول أنه لم يقبض نبي قط حتى يرى مقعده ثم يحيا أو يخير فلما حضره القبض غشي عليه فلما أفاق شخص بصره نحو سقف البيت فقال اللهم في الرفيق الأعلى فقلت إذن لا يختارنا وعرفت أنه حديثه الذي كان يحدثنا وهو صحيح وفي مغازي أبي الأسود عن عروة أن جبريل نزل عليه في تلك الحالة فخيره وعند أحمد عن أبي مويهة قال قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم إني أوتيت مفاتيح خزائن الأرض والخلد ثم الجنة فخيرت بين ذلك وبين لقاء ربي والجنة فاخترت لقاء ربي والجنة ولعبد الرزاق من مرسل طاوس رفعه خيرت بين أن أبقى حتى أرى ما يفتح على أمتي وبين التعجيل فاخترت التعجيل ( مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر قال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي) أي فيهما قال الباجي العرض لا يكون إلا على حي يعلم ما يعرض عليه ويفهم ما يخاطب به قال ويحتمل غداة واحدة وعشية واحدة ويحتمل كل غداة وكل عشي وقال ابن التين يحتمل غداة واحدة وعشية واحدة يكون العرض فيهما ويكون معنى حتى يبعثك أي لا تصل إليه إلى يوم البعث ويحتمل كل غداة وعشي وهو محمول على أنه يحيا منه جزء ليدرك ذلك فغير ممتنع أن تعاد الحياة إلى جزء من الميت أو أجزاء وتصح مخاطبته والعرض عليه قال الحافظ والأول موافق لأحاديث سياق المسألة وعرض المقعدين على كل أحد وقال القرطبي يجوز أن هذا العرض على الروح فقط ويجوز أن يكون عليه مع جزء من البدن قال والمراد بالغداة والعشي وقتهما وإلا فالموتى لا صباح عندهم ولا مساء قال وهذا في حق المؤمن والكافر واضح وأما المؤمن المخلط فمحتمل أيضًا في حقه لأنه يدخل الجنة في الجملة ثم هو مخصوص بغير الشهداء ويحتمل أن يقال فائدة العرض في حقهم تبشير أرواحهم باستقرارها في الجنة مقترنة بأجسادها فإن فيه قدرًا زائدًا على ما هي فيه الآن ( إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة) اتحد فيه الشرط والجزاء لفظًا فلا بد من تقدير قال التوربشتي التقدير فمقعد من مقاعد أهل الجنة يعرض عليه وقال الطيبي الشرط والجزاء إذا اتحدا لفظًا دل على الفخامة والمراد أنه يرى بعد البعث من كرامة الله ما ينسيه هذا المقعد انتهى.
وعند مسلم بلفظ إن كان من أهل الجنة فالجنة أي فالمعروض الجنة ( وإن كان من أهل النار فمن أهل النار) أي فمقعده من مقاعد أهلها يعرض عليه أو يعلم بالعكس مما يسر به أهل الجنة لأن هذه المنزلة طليعة تباشير أهل السعادة الكبرى ومقدمة تباريح الشقاوة العظمى وفي ذلك تنعيم لمن هو من أهل الجنة وتعذيب لمن هو من أهل النار بمعاينة ما أعد له وانتظاره ذلك اليوم الموعود ( يقال له هذا مقعدك حتى يبعثك الله إلى يوم القيامة) كذا في رواية يحيى بلفظ إلى وللأكثر بحذفها وليحيى النيسابوري وابن القاسم إليه بالضمير حكاه ابن عبد البر قال والمعنى حتى يبعثك الله إلى هذا المقعد ويحتمل أن الضمير يعود إلى الله فإلى الله ترجع الأمور والأول أظهر قال الحافظ ويؤيده رواية الزهري عن سالم عن أبيه بلفظ ثم يقال هذا مقعدك الذي تبعث إليه يوم القيامة أخرجه مسلم وأخرج النسائي رواية ابن القاسم لكن بحذف إليه كالأكثرين وفيه إثبات عذاب القبر وأن الروح لا تفنى بفناء الجسد لأن العرض لا يقع إلا على حي قال ابن عبد البر واستدل به على أن الأرواح على أفنية القبور وهو الصحيح لأن الأحاديث بذلك أصح من غيرها والمعنى عندي أنها قد تكون على أفنية القبور لا أنها لا تفارقها بل هي كما قال مالك بلغني أن الأرواح تسرح حيث شاءت والحديث رواه البخاري عن إسماعيل ومسلم عن يحيى كلاهما عن مالك به ( مالك عن أبي الزناد) عبد الله بن ذكوان ( عن الأعرج) عبد الرحمن بن هرمز ( عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال كل ابن آدم تأكله الأرض) أي جميع جسمه وينعدم بالكلية أو المراد أنها باقية لكن زالت أعراضها المعهودة قال إمام الحرمين لم يدل قاطع سمعي على تعيين أحدهما ولا بعد أن تصير أجسام العباد بصفة أجسام التراب ثم تعاد بتركيبها إلى المعهود ( إلا عجب الذنب) بفتح العين وسكون الجيم وبالموحدة ويقال بالميم وهو العصعص أسفل العظم الهابط من الصلب فإنه قاعدة البدن كقاعدة الجدار فلا تأكله الأرض ( لأنه منه خلق) أي ابتدئ خلقه ( ومنه يركب) خلقه عند قيام الساعة وهذا أظهر من احتمال أن المراد منه ابتداء الخلق وابتداء التركيب وبالأول جزم الباجي فقال لأنه أول ما خلق من الإنسان وهو الذي يبقى منه ليعاد تركيب الخلق عليه قال ابن عبد البر هذا عموم يراد به الخصوص لما روي في أجساد الأنبياء والشهداء أن الأرض لا تأكلهم وحسبك ما جاء في شهداء أحد إذ أخرجوا بعد ست وأربعين سنة لينة أجسادهم يعني أطرافهم فكأنه قال من تأكله الأرض فلا تأكل منه عجب الذنب وإذا جاز أن لا تأكله جاز أن لا تأكل الشهداء وإنما في هذا التسليم لمن يجب له التسليم صلى الله عليه وسلم انتهى.
وزاد غيره الصديقين والعلماء العاملين والمؤذن المحتسب وحامل القرآن العامل به والمرابط والميت بالطاعون صابرًا محتسبًا والمكثر من ذكر الله والمحبين لله فتلك عشرة كاملة ( مالك عن ابن شهاب عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك الأنصاري) أبي الخطاب المدني من كبار التابعين ويقال ولد في العهد النبوي ومات في خلافة سليمان ( أنه أخبره أن أباه كعب بن مالك) السلمي المدني الصحابي المشهور أحد الثلاثة الذين خلفوا مات في خلافة علي رضي الله عنهما ( كان يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إنما نسمة المؤمن) بفتح النون والسين أي روحه وفي كتاب أبي القاسم الجوهري النسمة الروح والنفس والبدن وإنما يعني في هذا الحديث الروح قال الباجي ويحتمل عندي أن يريد به ما يكون فيه الروح من الميت قبل البعث ويحتمل أنه شيء من محل الروح تبقى فيه الروح ( طير يعلق) بالتحتية صفة طير وبفتح اللام رواية الأكثر كما قال ابن عبد البر وروي بضمها قال والمعنى واحد وهو الأكل والرعي ( في شجر الجنة) لتأكل من ثمارها وقال البوني معنى رواية الفتح تأوي والضم ترعى تقول العرب ما ذقت اليوم علوقًا وقال السهيلي يعلق بفتح اللام يتشبث بها ويرى مقعده منها ومن رواه بضم اللام فمعناه يصيب منها العلقة من الطعام فقد أصاب دون ما أصاب غيره ممن أدرك الرغد أي العيش الواسع فهو مثل مضروب يفهم منه هذا المعنى وإن أراد بتعلق الأكل نفسه فهو مخصوص بالشهيد فتكون رواية الضم للشهيد والفتح لمن دونهم والله أعلم بمراد رسوله انتهى واختلف في أن هذا الحديث عام في الشهداء وغيرهم إذا لم يحبسهم عن الجنة كبيرة ولا دين أو خاص بالشهداء دون غيرهم لأن القرآن والسنة لا يدلان إلا على ذلك حكاهما ابن عبد البر وذكر بعض أدلة الثاني وقال بحمله على الشهداء يزول ما ظنه قوم من معارضة هذا الحديث للحديث قبله في عرض المقعد لأنه إذا كان يسرح في الجنة فهو يراها في جميع أحيانه وليس كما قالوا إنما هذا في الشهداء خاصة وما قبله في سائر الناس واختار الأول ابن كثير فقال في هذا الحديث إن روح المؤمن تكون على شكل طير في الجنة وأما أرواح الشهداء ففي حواصل طير خضر ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها وتأوي إلى قناديل من ذهب في ظل العرش كما رواه أحمد عن ابن عباس مرفوعًا فهي كالراكب بالنسبة إلى أرواح عموم المؤمنين فإنها تطير بأنفسها فهو بشرى لكل مؤمن بأن روحه تكون في الجنة أيضًا وتسرح فيها وتأكل من ثمارها وترى ما فيها من النضرة والسرور ( حتى يرجعه الله إلى جسده يوم يبعثه) يوم القيامة قال وهذا حديث صحيح عزيز عظيم اجتمع فيه ثلاثة أئمة فرواه أحمد عن الشافعي عن مالك به انتهى ( مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: قال) الله ( تبارك وتعالى) هذا من الأحاديث الإلهية فيحتمل أن يكون صلى الله عليه وسلم تلقاه عن الله بلا واسطة أو بواسطة قاله الحافظ ( إذا أحب عبدي لقائي) عند حضور أجله إن عاين ما يحب أحب لقاء الله وإن عاين ما يكره لم يحب الخروج من الدنيا هذا معناه كما تشهد به الآثار المرفوعة وذلك حين لا تقبل توبة وليس المراد الموت لأنه لا يخلو من كراهته نبي ولا غيره ولكن المكروه من ذلك إيثار الدنيا وكراهة أن يصير إلى الله قاله ابن عبد البر ( أحببت لقاءه) أي أردت له الخير ( وإذا كره لقائي كرهت لقاءه) زاد في حديث عبادة في الصحيحين فقالت عائشة إنا لنكره الموت قال صلى الله عليه وسلم ليس ذاك ولكن المؤمن إذا حضره الموت بشر برضوان الله وكرامته فليس شيء أحب إليه مما أمامه فأحب لقاء الله وأحب الله لقاءه وأن الكافر إذا حضر بشر بعذاب الله وعقوبته فليس شيء أكره إليه مما أمامه فكره لقاء الله وكره الله لقاءه ولأحمد عن عائشة مرفوعًا إذا أراد الله بعبد خيرًا قيض الله له قبل موته بعام ملكًا يسدده ويوفقه حتى يقال مات بخير ما كان فإذا حضر ورأى إلى ثوابه اشتاقت نفسه فذلك حين أحب لقاء الله وأحب الله لقاءه وإذا أراد الله بعبد شرًا قيض الله له قبل موته بشهر شيطانًا فأضله وفتنه حتى يقال مات بشر ما كان عليه فإذا حضر ورأى ما أعد الله له من العذاب جزعت نفسه فذلك حين كره لقاء الله وكره الله لقاءه وقال الخطابي معنى محبة لقاء الله إيثار العبد الآخرة على الدنيا ولا يحب طول القيام فيها لكن يستعد للارتحال عنها واللقاء على وجوه منها الرؤية ومنها البعث كقوله تعالى { { قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله } } أي البعث ومنها الموت كقوله تعالى { { من كان يرجو لقاء الله فإن أجل الله لآت } } وقال ابن الأثير المراد باللقاء المصير إلى الدار الآخرة وطلب ما عند الله وليس الغرض به الموت لأن كلا يكرهه فمن ترك الدنيا وأبغضها أحب لقاء الله ومن آثرها وركن إليها كره لقاء الله ومحبة الله لقاء عبده إرادة الخير له وإنعامه عليه وفي الكواكب إن قيل الشرط ليس سببًا للجزاء بل الأمر بالعكس قلت مثله يؤول بالإخبار أي أخبره بأني أحببت لقاءه وكذا الكراهة والحديث رواه البخاري في التوحيد عن إسماعيل عن مالك به ( مالك عن أبي الزناد) بكسر الزاي والتخفيف ( عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال) هكذا رفعه أكثر رواة الموطأ ووقفه القعنبي ومصعب وذلك لا يضر في رفعه لأن رواته ثقات حفاظ ( قال رجل) قال الحافظ قيل اسمه جهينة وذلك أن في صحيح أبي عوانة أن هذا الرجل هو آخر أهل النار خروجًا منها وفي رواية مالك للخطيب عن ابن عمر آخر من يدخل الجنة رجل من جهينة يقول أهل الجنة عند جهينة الخبر اليقين ( لم يعمل حسنة قط) ليس فيه ما ينفي التوحيد عنه والعرب تقول مثل هذا في الأكثر من فعله كحديث لا يضع عصاه عن عاتقه وفي رواية لم يعمل خيرًا قط إلا التوحيد قاله ابن عبد البر وفي الصحيح ممن كان قبلكم يسيء الظن بعمله وفي رواية يسرف على نفسه وفي ابن حبان أنه كان نباشًا أي للقبور يسرق أكفان الموتى ( لأهله) وفي الصحيح من طريق ابن شهاب عن حميد عن أبي هريرة مرفوعًا فلما حضره الموت قال لبنيه ( إذا مات فحرقوه) وفي رواية الزهري إذا أنا مت فأحرقوني ثم اطحنوني ( ثم أذروا نصفه في البر ونصفه في البحر فوالله لئن قدر الله عليه) بخفة الدال وشدها من القدر وهو القضاء لا من القدرة والاستطاعة كقوله فظن أن لن نقدر عليه أو بمعنى ضيق كقوله تعالى { { ومن قدر عليه رزقه } } وقال بعض العلماء هذا رجل جهل بعض صفات الله وهي القدرة ولا يكفر جاهل بعضها وإنما يكفر من عاند الحق قاله أبو عمر ( ليعذبنه عذابًا لا يعذبه أحدًا من العالمين) الموحدين ( فلما مات الرجل فعلوا ما أمرهم به فأمر الله البر فجمع ما فيه وأمر الله البحر فجمع ما فيه) زاد في رواية الزهري فإذا هو قائم وزاد أبو عوانة في أسرع من طرفة عين وفيه دلالة على رد من زعم أن الخطاب لروحه لأن التحريق والتذرية إنما وقعا على الجسد وهو الذي جمع وأعيد ( ثم قال لم فعلت هذا قال من خشيتك يا رب وأنت أعلم) إني إنما فعلته من خشيتك أي خوف عقابك قال ابن عبد البر وذلك دليل على إيمانه إذ الخشية لا تكون إلا لمؤمن بل لعالم قال تعالى { { إنما يخشى الله من عباده العلماء } } ويستحيل أن يخافه من لا يؤمن به وقد روى الحديث قال رجل لم يعمل خيرًا قط إلا التوحيد وهذه اللفظة ترفع الإشكال في إيمانه والأصول تعضدها إن الله لا يغفر أن يشرك به وقد ( قال فغفر له) ولأبي عوانة من حديث حذيفة عن الصديق أنه آخر أهل الجنة دخولاً قال ابن التين ذهب المعتزلة إلى أن هذا الرجل إنما غفر له لتوبته التي تابها لأن قبولها واجب عقلاً عندهم والأشعري قطع بها سمعًا وغيره جوز القبول كسائر الطاعات وقال ابن المنير قبول التوبة عند المعتزلة واجب على الله تعالى عقلاً وعندنا واجب بحكم الوعد والفضل والإحسان إذ لو وجب القبول على الله عقلاً لاستحق الذم إن لم يقبل وهو محال لأن من كان كذلك يكون مستكملاً بالقبول والمستكمل بالغير ناقص بذاته وذلك في حق الله محال ولأن الذم إنما يمنع من الفعل من يتأذى لسماعه وينفر عنه طبعه ويظهر له بسببه نقص حال أما المتعالي عن الشهوة والنفرة والزيادة والنقص فلا يعقل تحقق الوجوب في حقه بهذا المعنى ولأنه تعالى تمدح بقبول التوبة في قوله { { ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده } } ولو كان واجبًا ما تمدح به لأن أداء الواجب لا يفيد المدح والثناء والتعظيم قال بعض المفسرين قبول التوبة من الكفر يقطع به على الله تعالى إجماعًا وهذا محمل الآية وأما المعاصي فيقطع بأنه يقبل التوبة منها من طائفة من الأمة واختلف هل يقبل توبة الجميع وأما إذا عين إنسان تائب فيرجى قبول توبته بلا قطع وأما إذا فرضنا تائبًا غير معين صحيح التوبة فقيل يقطع بقبول توبته وعليه طائفة منها الفقهاء والمحدثون لأنه تعالى أخبر عن نفسه بذلك وعلى هذا يلزم أن تقبل توبة جميع التائبين وذهب أبو المعالي وغيره إلى أن ذلك لا يقطع به على الله بل يقوي في الرجاء والقول الأول أرجح ولا فرق بين التوبة من الكفر والتوبة من المعاصي بدليل أن الإسلام يجب ما قبله والتوبة تجب ما قبلها انتهى.
والحديث رواه البخاري في التوحيد عن إسماعيل ومسلم من طريق روح كلاهما عن مالك به ( مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال كل مولود) أي من بني آدم صرح به جعفر بن ربيعة عن الأعرج عن أبي هريرة بلفظ كل بني آدم وكذا رواه خالد الواسطي عن عبد الرحمن بن إسحاق عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة ذكرهما ابن عبد البر ( يولد على الفطرة) عام في جميع المولودين على ظاهره وأصرح منه رواية البخاري ما من مولود إلا يولد على الفطرة ولمسلم ما من مولود إلا وهو على الملة وحكى ابن عبد البر عن قوم أنه لا يقتضي العموم وأن المراد كل من يولد على الفطرة وله أبوان غير مسلمين نقلاه إلى دينهما فالتقدير كل مولود يولد على الفطرة وأبواه يهوديان مثلاً فإنهما يهودانه ثم يصير عند بلوغه إلى ما يحكم به عليه ويكفي في الرد عليهم رواية مسلم عن أبي صالح عن أبي هريرة ليس من مولود إلا على هذه الفطرة حتى يعرب عنه لسانه وأصرح منها رواية كل بني آدم وأشهر الأقوال أن المراد بالفطرة الإسلام قال ابن عبد البر وهو المعروف عند عامة السلف وأجمع علماء التأويل على أن المراد بقوله تعالى { { فطرة الله التي فطر الناس عليها } } الإسلام واحتجوا بقول أبي هريرة عند الشيخين في آخر الحديث اقرؤوا إن شئتم { { فطرة الله } } الآية وبحديث عياض بن حماد عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه إني خلقت عبادي حنفاء كلهم فاختالتهم الشياطين عن دينهم الحديث ورواه غيره فقال حنفاء مسلمين ورجح بقوله تعالى { { فأقم وجهك للدين حنيفًا فطرة الله } } لأنها إضافة مدح وقد أمر الله نبيه بلزومها فعلم أنها الإسلام وحكى ابن عبد البر عن الأوزاعي وسحنون ورواه أبو داود عن حماد بن سلمة أن المراد حين أخذ الله العهد فقال ألست بربكم قالوا بلى قال الطيبي ويؤيده وجوه أحدها أن التعريف في الفطرة إشارة إلى معهود وهو قوله { { فطرة الله } } ومعنى { { فأقم وجهك } } أثبت على العهد القديم ثانيها مجيء رواية بلفظ الملة بدل الفطرة والدين في قوله { { للدين حنيفًا } } فهو عين الملة قال تعالى { { دينًا قيمًا ملة إبراهيم حنيفًا } } ثالثها التشبيه بالمحسوس المعاين ليفيد أن ظهوره يقع في البيان مبلغ هذا المحسوس قال والمراد تمكن الناس من الهدي في أصل الجبلة والتهيؤ لقبول الدين فلو ترك المرء عليها لاستمر على لزومها ولم يفارقها إلى غيرها لأن حسن هذا الدين ثابت في النفوس وإنما يعدل عنه لآفة من الآفات البشرية كالتقليد انتهى وإلى هذا مال القرطبي في المفهم فقال المعنى أن الله خلق قلوب بني آدم متأهلة لقبول الحق كما خلق أعينهم وأسماعهم قابلة للمرئيات والمسموعات فما دامت باقية على ذلك القبول وعلى تلك الأهلية أدركت الحق ودين الإسلام هو الدين الحق ودل على هذا المعنى بقية الحديث وقال ابن القيم ليس المراد أنه خرج من بطن أمه يعلم الدين لأن الله يقول { { والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئًا } } ولكن المراد أن فطرته مقتضية لمعرفة دين الإسلام ومحبته فنفس الفطرة تستلزم الإقرار والمحبة وليس المراد مجرد قبول الفطرة لذلك فإنه لا يتغير بتهويد الأبوين مثلاً بحيث يخرجان الفطرة عن القبول وإنما المراد أن كل مولود يولد على إقراره بالربوبية فلو خلى وعدم المعارض لم يعدل عن ذلك إلى غيره كما أنه يولد على محبة ما يلائم بدنه من ارتضاع اللبن حتى يصرفه عنه الصارف ومن ثم شبهت الفطرة باللبن بل كانت إياه في تأويل الرؤيا انتهى وقيل معناه أنه يولد على ما يصير إليه من شقاوة أو سعادة فمن علم الله أنه يصير مسلمًا ولد على الإسلام ومن علم أنه يصير كافرًا ولد على الكفر فكأنه أول الفطرة بالعلم وتعقب بأنه لو كان كذلك لم يكن لقوله فأبواه إلى آخره معنى لفعلهما به ما هو الفطرة التي ولد عليها فينافي التمثيل بحال البهيمة وقيل معناه أنه تعالى خلق فيهم المعرفة والإنكار فلما أخذ الميثاق من الذرية قالوا جميعًا بلى أما أهل السعادة فطوعًا وأما أهل الشقاوة فكرها وتعقب بأنه يحتاج إلى نقل صحيح فإنه لا يعرف هذا التفصيل عند أخذ الميثاق إلا عن السدي ولم يسنده وكأنه أخذه من الإسرائيليات وقيل الفطرة الخلقة أي يولد سالمًا لا يعرف كفرًا ولا إيمانًا ثم يعتقد إذا بلغ التكليف ورجحه ابن عبد البر وقال إنه يطابق التمثيل بالبهيمة ولا يخالف حديث عياض لأن المراد بقوله حنفاء أي على الاستقامة وتعقب بأنه لو كان كذلك لم يقتصر في أحوال التبديل على الكفر دون ملة الإسلام ولم يكن لاستشهاد أبي هريرة بالآية معنى وقيل اللام في الفطرة للعهد أي فطرة أبويه وهو متعقب بما ذكر في الذي قبله وحمله محمد بن الحسن الشيباني على أحكام الدنيا فادعى فيه النسخ فقال هذا في أول الإسلام قبل أن تنزل الفرائض والأمر بالجهاد قال أبو عبيد كأنه عنى أنه لو كان يولد على الإسلام فمات قبل أن يهوده أبواه مثلاً لم يرثاه والحكم أنهما يرثاه فدل على تغير الحكم ورده ابن عبد البر بأنه حاد عن الجواب وفي حديث الأسود بن سريع أن ذلك كان بعد الأمر بالجهاد وكذا رده غيره والحق أنه إخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم بما وقع في نفس الأمر ولم يرد إثبات أحكام الدنيا قال ابن القيم وسبب اختلاف العلماء في معنى الفطرة أن القدرية احتجوا بالحديث على أن الكفر والمعصية ليسا بقضاء الله بل مما ابتدأ الناس إحداثه فحاول جماعة من العلماء مخالفتهم بتأويل الفطرة على غير معنى الإسلام ولا يلزم من حملها عليه موافقة القدرية لحمله على أن ذلك يقع بتقدير الله ولذا احتج مالك عليهم بقوله الله أعلم بما كانوا عاملين انتهى.
روى أبو داود عن ابن وهب سمعت مالكًا وقيل له أن أهل الأهواء يحتجون علينا بهذا الحديث فقال مالك احتج عليهم بآخره الله أعلم بما كانوا عاملين ووجه ذلك أن القدرية استدلوا به على أن الله فطر العباد على الإسلام وأنه لا يضل أحدًا فإنما يضل الكافر أبواه فأشار مالك إلى رده بقوله الله أعلم فإنه دال على علمه بما يصيرون إليه بعد إيجادهم على الفطرة فهو دليل على تقدم العلم الذي ينكره غلاتهم ومن ثم قال الشافعي أهل القدر إن أثبتوا العلم خصموا ( فأبواه يهودانه أو ينصرانه) زاد ابن شهاب عن أبي سلمة عن أبي هريرة في الصحيحين أو يمجسانه قال الطيبي الفاء إما للتعقيب أو للسببية أو جزاء شرط مقدر أي إذا تقرر ذلك فمن تغير كان بسبب أبويه إما بتعليمهما إياه أو ترغيبهما فيه أو كونه تبعًا لهما في الدين يقتضي أن حكمه حكمهما وخص الأبوان بالذكر للغالب فلا حجة فيه لمن حكم بإسلام الطفل الذي يموت أبواه كافرين كما هو أحد قولي أحمد فقال استقر عمل الصحابة فمن بعدهم على عدم التعرض لأطفال أهل الذمة واستشكل الحديث بأنه يقتضي أن كل مولود يقع له التهود أو غيره مما ذكر مع أن كثيرًا يبقى مسلمًا لا يقع له شيء وأجيب بأن المراد أن الكفر ليس من ذات المولود ومقتضى طبعه بل إنما يحصل بسبب خارجي فإن سلم منه استمر على الحق ( كما تناتج) بفوقية فنون فألف ففوقية فجيم أي يولد ( الإبل من بهيمة جمعاء) بضم الجيم وسكون الميم والمد نعت لبهيمة أي لم يذهب من بدنها شيء سميت بذلك لاجتماع أعضائها ( هل تحس) بضم أوله وكسر ثانيه أي تبصر وفي رواية هل ترى ( فيها من جدعاء) بفتح الجيم وإسكان المهملة والمد أي مقطوعة الأنف أو الأذن أو الأطراف والجملة صفة أو حال أي بهيمة تقول فيها هذا القول أي كل من نظر إليها قاله لظهور سلامتها زاد في رواية في الصحيح حتى تكونوا أنتم تجدعونها قال الباجي يريد أن المولود يولد على الفطرة ثم يغيره بعد ذلك أبواه كما أن البهيمة تولد تامة لا جدع فيها من أصل الخلقة وإنما تجدع بعد ذلك ويغير خلقها وقال في المفهم يعني أن البهيمة تلد الولد كامل الخلقة فلو ترك كذلك كان بريا من العيب لكنهم تصرفوا فيه بقطع أذنه مثلاً فخرج عن الأصل وهو تشبيه واقع ووجهه واضح وقال الطيبي كما حال من الضمير المنصوب في يهودانه أي يهودان المولود بعد خلقه على الفطرة حال كونه شبيها بالبهيمة التي جدعت بعد أن خلقت سليمة أو صفة مصدر محذوف أي يغيرانه مثل تغييرهم البهيمة السليمة وقد تنازعت الأفعال الثلاثة في كما على التقديرين ( قالوا يا رسول الله أرأيت) أي أخبرنا من إطلاق السبب على المسبب لأن مشاهدة الأشياء طريق إلى الإخبار عنها أي قد رأيت ( الذي يموت وهو صغير) لم يبلغ الحلم أيدخل الجنة ( قال الله أعلم بما كانوا عاملين) قال ابن قتيبة أي لو أبقاهم فلا تحكموا عليهم بشيء وقال غيره أي علم أنهم لا يعملون شيئًا ولا يرجعون فيعملون أو أخبر بعلم الشيء لو وجد كيف يكون ولم يرد أنهم يجازون بذلك في الآخرة لأن العبد لا يجازى بما لم يعمل أو معناه أنه علم أنهم لم يعملوا ما يقتضي تعذيبهم ضرورة أنهم غير مكلفين وقال البيضاوي فيه إشارة إلى أن الثواب والعقاب لا لأجل الأعمال وإلا لزم أن تكون ذراري المسلمين والكافرين لا من أهل الجنة ولا من أهل النار بل الموجب لهما اللطف الرباني والخذلان الإلهي المقدر لهما في الأزل فالأولى فيهما التوقف وعدم الجزم بشيء فإن أعمالهم موكولة إلى علم الله فيما يعود إلى أمر الآخرة من الثواب والعقاب وقال النووي أجمع من يعتد به من علماء المسلمين أن من مات من أطفال المسلمين فهو من أهل الجنة لأنه ليس مكلفًا وتوقف فيه بعض من لا يعتد به لحديث عائشة في مسلم أنه صلى الله عليه وسلم دعي لجنازة صبي من الأنصار فقلت طوبى له عصفور من عصافير الجنة لم يعمل السوء ولم يدركه فقال أو غير ذلك يا عائشة أن الله خلق للجنة أهلا خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم وخلق للنار أهلا خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم وأجابوا عن هذا بأنه لعله نهاها عن المسارعة إلى القطع من غير أن يكون عندها دليل قاطع أو قاله قبل أن يعلم أن أطفال المسلمين في الجنة انتهى وأطلق ابن أبي زيد الإجماع في ذلك ولعله أراد إجماع من يعتد به وقال المازري الخلاف في غير أولاد الأنبياء انتهى وأما أطفال الكفار فاختلف العلماء قديمًا وحديثها فيهم على عشرة أقوال أحدها أنهم في المشيئة ونقل عن الحمادين وإسحاق وابن المبارك والشافعي قال ابن عبد البر وهو مقتضى صنيع مالك ولا نص عنه لكن صرح أصحابه بأن أطفال المسلمين في الجنة وأطفال الكفار في المشيئة والحجة فيه حديث ابن عباس وأبي هريرة في الصحيحين سئل صلى الله عليه وسلم عن أولاد المشركين فقال الله أعلم بما كانوا عاملين ثانيها أنهم تبع لآبائهم حكاه ابن حزم عن الأزارقة والخوارج ولأحمد عن عائشة سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ولدان المسلمين قال في الجنة وعن أولاد المشركين قال في النار فقلت لم يدركوا الأعمال قال ربك أعلم بما كانوا عاملين لو شئت أسمعتك تضاغيهم في النار وهو حديث ضعيف جدًا لأن في إسناده أبا عقيل مولى بهية وهو متروك ثالثها أنهم في برزخ بين الجنة والنار إذ لا حسنات لهم يدخلون بها الجنة ولا سيئات يدخلون بها النار رابعها أنهم خدم أهل الجنة روى الطيالسي وأبو يعلى والطبري والبزار مرفوعًا أولاد المشركين خدم أهل الجنة وإسناده ضعيف خامسها يصيرون ترابًا سادسها في النار حكاه عياض عن أحمد وغلطه ابن تيمية بأنه قول لبعض أصحابه ولا يحفظ عن الإمام أصلاً وهو غير الثاني لأنهم تبع لآبائهم لأنه لا يلزم من كونهم في النار أن يكونوا مع آبائهم كما أن عصاة الموحدين في النار لا مع الكفار سابعها يمتحنون في الآخرة بأن ترفع لهم نار فمن دخلها كانت عليه بردًا وسلامًا ومن أبى عذب أخرجه البزار من حديث أنس وأبي سعيد والطبراني من حديث معاذ وقد صحت مسألة الامتحان في حق المجنون ومن مات في الفترة من طرق صحيحة وحكى البيهقي أنه المذهب الصحيح وتعقب بأن الآخرة ليست دار تكليف فلا عمل فيها ولا ابتلاء وأجيب بأن ذلك بعد الاستقرار في الجنة أو النار وأما في عرصات القيامة فلا مانع من ذلك وقد قال تعالى { { يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون } } وفي الصحيحين أن الناس يؤمرون بالسجود فيصير ظهر المنافق طبقًا فلا يستطيع أن يسجد ثامنها الوقف تاسعها الإمساك وفي الفرق بينهما دقة عاشرها أنهم في الجنة قال النووي وهو المذهب الصحيح المختار الذي صار إليه المحققون لقوله تعالى { { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً } } وإذا لم يعذب العاقل لأنه لم تبلغه دعوة فأولى غيره انتهى.
وفي حديث سمرة عند البخاري في رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم الشيخ في أصل الشجرة إبراهيم والصبيان حوله فأولاد الناس وهو عام يشمل أولاد المسلمين وغيرهم وروى ابن عبد البر من طريق أبي معاذ عن الزهري عن عروة عن عائشة قال سألت خديجة النبي صلى الله عليه وسلم عن أولاد المشركين فقال هم مع آبائهم ثم سألته بعد ذلك فقال الله أعلم بما كانوا عاملين ثم سألته بعدما استحكم الإسلام فنزلت { { ولا تزر وازرة وزر أخرى } } فقال هم على الفطرة وقال في الجنة قال الحافظ وأبو معاذ هو سليمان بن أرقم وهو ضعيف ولو صح هذا لكان قاطعًا للنزاع انتهى.
وحديث الباب له طرق كثيرة في الصحيحين وغيرهما ( مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل بقبر الرجل فيقول يا ليتني مكانه) أي ميتًا وذلك عند ظهور الفتن وخوف ذهاب الدين لغلبة الباطل وأهله وظهور المعاصي أو ما يقع لبعضهم من المصيبة في نفسه أو أهله أو دنياه وإن لم يكن في ذلك شيء يتعلق بدينه وعند مسلم من طريق أبي حازم عن أبي هريرة مرفوعًا لا تذهب الدنيا حتى يمر الرجل على القبر فيتمرغ عليه ويقول يا ليتني مكان صاحب هذا القبر وليس به الدين إلا البلاء وعن ابن مسعود قال سيأتي عليكم زمان لو وجد أحدكم الموت يباع لاشتراه وعليه قول الشاعر

وهذا العيش ما لا خير فيه
ألا موت يباع فأشتريه

وسبب ذلك أنه يقع البلاء والشدة حتى يكون الموت الذي هو أعظم المصائب أهون على المرء فيتمنى أهون المصيبتين في اعتقاده وذكر الرجل للغالب وإلا فالمرأة يمكن أن تتمنى الموت لذلك أيضًا لكن لما كان الغالب أن الرجال هم المبتلون بالشدائد والنساء محجبات لا يصلين نار الفتنة خصهم كما قيل

كتب القتل والقتال علينا
وعلى الغانيات جر الذيول

قال الحافظ العراقي ولا يلزم كونه في كل بلد ولا كل زمن ولا في جميع الناس بل يصدق على اتفاقه للبعض في بعض الأقطار في بعض الأزمان وفي تعليق تمنيه بالمرور إشعار بشدة ما نزل بالناس من فساد الحال حالتئذ إذ المرء قد يتمنى الموت من غير استحضار شيء فإذا شاهد الموتى ورأى القبور نشز بطبعه ونفر بسجيته من تمنيه فلقوة الشدة لم يصرفه عنه ما شاهده من وحشة القبور ولا يناقض هذا النهي عن تمني الموت لأن هذا الحديث إخبار عما يكون وليس فيه تعرض لحكم شرعي وقال ابن عبد البر لا يعارض هذا قوله صلى الله عليه وسلم لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به وقول خباب بن الأرت لولا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهانا أن ندعو بالموت لدعوت به لأنه إخبار بشدة ما ينزل بالناس من فساد الدين لا لضرر يصيب جسمه يحط خطاياه وقد قال عتيق الغفاري زمن الطاعون يا طاعون خذني إليك فقيل ألم يأت النهي عن تمني الموت فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول بادروا بالموت إمرة السفهاء وكثرة الشرط وبيع الحكم واستخفافًا بالدم وقطيعة الرحم , ونساء يتخذون مزامير يقدمون الرجل يغنيهم بالقرآن وإن كان أقلهم فقهًا ويوضح ذلك قوله صلى الله عليه وسلم وإذا أردت بالناس فتنة فاقبضني إليك غير مفتون وقول عمر اللهم قد ضعفت قوتي وكبرت سني وانتشرت رعيتي فاقبضني إليك غير مضيع ولا مفرط انتهى.
وهو ناظر إلى أن المعنى الأول هو المراد بالحديث ورواه الشيخان في الفتن البخاري عن إسماعيل ومسلم عن قتيبة بن سعيد كلاهما عن مالك به ( مالك عن محمد بن عمرو) بفتح العين ( ابن حلحلة) بحاءين مهملتين مفتوحتين ولامين أولاهما ساكنة والثانية مفتوحة زاد ابن وضاح ( الديلي) بكسر الدال وسكون التحتية المدني ( عن معبد) بفتح الميم وسكون العين وموحدة ( ابن كعب بن مالك) الأنصاري السلمي المدني ( عن أبي قتادة) الحارث ويقال عمرو ويقال النعمان ( ابن ربعي) بكسر الراء وسكون الموحدة وعين مهملة السلمي المدني شهد أحدًا وما بعدها ولم يصح شهوده بدرًا ومات سنة أربع وخمسين وقيل سنة ثمان وثلاثين والأول أصح وأشهر قال ابن عبد البر هكذا الحديث في الموطآت بهذا الإسناد وأخطأ فيه سويد بن سعيد عن مالك فقال عن معبد بن كعب عن أبيه وليس بشيء ( أنه كان يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر) بضم الميم وشد الراء ( عليه بجنازة فقال مستريح ومستراح منه) قال ابن الأثير يقال أراح الرجل واستراح إذا رجعت إليه نفسه بعد الإعياء انتهى والواو بمعنى أو فهي للتنويع أي لا يخلو ابن آدم من هذين المعنيين فلا يختص بصاحب الجنازة ( قالوا يا رسول الله ما المستريح والمستراح منه) وفي رواية الدارقطني بإعادة ما ( قال العبد المؤمن) المتقي خاصة أو كل مؤمن ( يستريح من نصب الدنيا) بفتحتين تعبها ومشقتها ( وأذاها) وهو عطف عام على خاص ( إلى رحمة الله) تعالى قال مسروق ما غبطت شيئًا لشيء كمؤمن في لحده أمن من عذاب الله واستراح من الدنيا ( والعبد الفاجر) الكافر أو العاصي ( يستريح منه العباد) أي من ظلمه لهم وقول الداودي لما يأتي به من المنكر فإن أنكروا آذاهم وإن تركوه أثموا رده الباجي بأنه لا يأثم تارك الإنكار إذا ناله أذى ويكفيه أن ينكر بقلبه ( والبلاد) بما يفعله فيها من المعاصي فيحصل الجدب فيهلك الحرث والنسل أو لغصبها ومنعها من حقها ( والشجر) لقلعه إياها غصبًا أو غصب ثمرها ( والدواب) لاستعماله لها فوق طاقتها وتقصيره في علفها وسقيها وقال الطيبي أما استراحة البلاد والأشجار فإن الله تعالى بفقده يرسل السماء مدرارًا ويحيي به الأرض والشجر والدواب بعدما حبس بشؤم ذنوبه الأمطار لكن إسناد الراحة إليها مجاز إذ الراحة إنما هي لمالكها والحديث رواه البخاري عن إسماعيل ومسلم عن قتيبة بن سعيد كلاهما عن مالك به ( مالك عن أبي النضر) سالم بن أبي أمية ( مولى عمر بن عبيد الله) بضم العينين القرشي ( أنه قال) وصله ابن عبد البر من طريق يحيى بن سعيد عن القاسم عن عائشة ( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما مات عثمان بن مظعون) بالظاء المعجمة ابن حبيب بن وهب بن حذافة القرشي الجمحي أسلم قديمًا وهاجر إلى الحبشة الهجرة الأولى وروى ابن شاهين والبيهقي عنه قلت يا رسول الله إني رجل تشق علي الغربة في المغازي فتأذن لي في الخصاء فأختصي فقال لا ولكن عليك يا ابن مظعون بالصوم وفي الصحيحين عن سعد بن أبي وقاص رد النبي صلى الله عليه وسلم على عثمان بن مظعون التبتل ولو أذن له لاختصينا توفي بعد شهوده بدرًا في السنة الثانية من الهجرة وهو أول من مات بالمدينة من المهاجرين وأول من دفن منهم بالبقيع ( ومر بجنازته) عليه ( ذهبت ولم تلبس) بحذف إحدى التاءين ولابن وضاح تتلبس بتاءين ( منها) أي الدنيا ( بشيء) كثير لأنه تلبس بشيء منها لا محالة وفيه مدح الزهد في الدنيا وذم الاستكثار منها والثناء على المرء بما فيه وروى الترمذي عن عائشة قبل النبي صلى الله عليه وسلم عثمان بن مظعون وهو ميت وهو يبكي وعيناه تذرفان فلما توفي ابنه إبراهيم قال ألحق بسلفنا الصالح عثمان بن مظعون ( مالك عن علقمة بن أبي علقمة) بلال المدني مولى عائشة وهو علقمة ابن أم علقمة ثقة علامة مات سنة بضع وثلاثين ومائة ( عن أمه) مرجانة وتكنى بابنها تابعية ثقة وهي مولاة عائشة بلا خلاف ( أنها قالت سمعت عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم تقول قام رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فلبس ثيابه ثم خرج فأمرت جاريتي بريرة) بموحدة مفتوحة وراءين بلا نقط بينهما تحتية ساكنة ثم هاء صحابية مشهورة عاشت إلى زمن يزيد بن معاوية ( تتبعه) لتستفيد علمًا ويحتمل غيرة منها مخافة أن يأتي بعض حجر نسائه وقد روي ذلك قاله الباجي ( فتبعته حتى جاء البقيع) بالموحدة اتفاقًا ( فوقف في أدناه) أقربه ( ما شاء الله أن يقف ثم انصرف فسبقته بريرة فأخبرتني) بما فعل ( فلم أذكر له شيئًا حتى أصبح ثم ذكرت ذلك له فقال إني بعثت إلى أهل البقيع لأصلي عليهم) قال ابن عبد البر يحتمل أن الصلاة هنا الدعاء والاستغفار وأن تكون كالصلاة على الموتى خصوصية له لأن صلاته على من صلى عليه رحمة فكأنه أمر أن يستغفر لهم وللإجماع على أنه لا يصلي على قبر مرتين ولا يصلي على قبر من صلى إلا بحدثان ذلك وأكثر ما قيل ستة أشهر قال وإما بعثه ومسيره إليهم فلا يدرى لمثل هذا علة ويحتمل أن يكون ليعلمهم بالصلاة منه عليهم لأنه ربما دفن منهم من لم يصل عليه كالمسكينة ومثلها من دفن ليلاً ولم يشعر به ليكون مساويًا بينهم في صلاته عليهم ولا يؤثر بعضهم بذلك ليتم عدله وجاء حديث حسن يدل على أن ذلك كان منه حين خير فخرج إليه كالمودع للأحياء والأموات ثم أخرجه عن أبي مويهة مرفوعًا إني قد أمرت أن أستغفر لأهل البقيع فاستغفر لهم ثم انصرف فأقبل علي فقال يا أبا مويهة إن الله قد خيرني في مفاتيح خزائن الدنيا والخلد فيها ثم الجنة ولقاء ربي فاخترت لقاء ربي فأصبح من تلك الليلة فبدأه وجعه الذي مات منه صلى الله عليه وسلم وهذا الحديث رواه النسائي عن محمد بن سلمة والحارث بن مسكين كلاهما عن ابن القاسم عن مالك به ( مالك عن نافع أن أبا هريرة قال) كذا وقفه جمهور رواة الموطأ ورواه الوليد بن مسلم عن مالك عن نافع عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يتابع على ذلك عن مالك ولكنه مرفوع من طريق أيوب عن نافع عن أبي هريرة ومن طريق الزهري عن ابن المسيب عن أبي هريرة قاله ابن عبد البر ومن طريق الزهري رواه البخاري ومسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال ( أسرعوا) بهمزة قطع ( بجنائزكم) أي بحملها إلى قبرها إسراعًا خفيفًا فوق المشي المعتاد والخبب بحيث لا يشق على ضعفة من يتبعها ولا على حاملها ولا يحدث مفسدة بالميت والأمر للاستحباب باتفاق العلماء وشذ ابن حزم فقال بوجوبه وقيل المراد شدة المشي وهو قول الحنفية وبعض السلف ومال عياض إلى نفي الخلاف فقال من استحبه أراد الزيادة على المشي المعتاد ومن كرهه أراد الإفراط كالرمل والحاصل أنه يستحب الإسراع لكن بحيث لا ينتهي إلى شدة يخاف منها حدوث مفسدة بالميت ومشقة على الحامل أو المشيع لئلا ينافي المقصود من النظافة وإدخال المشقة على المسلم قال القرطبي مقصود الحديث أن لا يبطأ بالميت عن الدفن ولأن البطء ربما أدى إلى التباهي والاحتفال قال ابن عبد البر وتأوله قوم على تعجيل الدفن لا المشي وليس كما ظنوا ويرده قوله تضعونه عن رقابكم وتبعه النووي فقال إنه باطل مردود بهذا وتعقبه الفاكهاني بأن الحمل على الرقاب قد يعبر به عن المعاني كما يقول حمل فلان على رقبته ديونًا فيكون المعنى استريحوا من نظر من لا خير فيه قال ويؤيده أن الكل لا يحملونه قال الحافظ ويؤيده حديث ابن عمر سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إذا مات أحدكم فلا تحبسوه وأسرعوا به إلى قبره أخرجه الطبراني بإسناد حسن ولأبي داود عن حصين بن وحوح مرفوعًا لا ينبغي لجيفة مسلم أن تبقى بين ظهراني أهله ( فإنما هو خير تقدمونه) كذا في الأصول والقياس تقدمونها أي الجنائز ( إليه) أي الخير باعتبار الثواب والإكرام الحاصل له في قبره فيسرع به ليلقاه قريبًا قال ابن مالك وروي إليها بتأنيث الضمير على تأويل الخبر بالرحمة أو الحسنى ( أو شر تضعونه عن رقابكم) فلا مصلحة لكم في مصاحبته لأنها بعيدة من الرحمة ويؤخذ منه ترك صحبة أهل البطالة وغير الصالحين وفيه ندب المبادرة بدفن الميت لكن بعد تحقق أنه مات أما مثل المطعون والمسبوت والمفلوج فينبغي أن لا يسرع بتجهيزهم حتى يمضي يوم وليلة ليتحقق موتهم نبه عليه ابن بزيزة، والله تعالى أعلم.



رقم الحديث 574 وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا مَاتَ عُرِضَ عَلَيْهِ مَقْعَدُهُ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ.
إِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَمِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ.
وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، فَمِنْ أَهْلِ النَّارِ.
يُقَالُ لَهُ: هَذَا مَقْعَدُكَ حَتَّى يَبْعَثَكَ اللَّهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.


( جامع الجنائز)

( مالك عن هشام بن عروة عن عباد) بشد الموحدة ( ابن عبد الله بن الزبير) بن العوام كان قاضي مكة زمن أبيه وخليفته إذا حج ( أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أخبرته أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت وهو مستند إلى صدرها وأصغت) بإسكان الصاد المهملة وفتح الغين المعجمة أي أمالت سمعها ( إليه يقول) وفي رواية قتيبة وهو يقول ( اللهم اغفر لي وارحمني) فيه ندب الدعاء بهما ولا سيما عند الموت وإذا دعا بذلك المصطفى فأين غيره منه والدعاء مخ العبادة لما فيه من الإخلاص والخضوع والضراعة والرجاء وذلك صريح الإيمان ( وألحقني) بهمزة قطع ( بالرفيق الأعلى) وفي البخاري من رواية ذكوان عن عائشة فجعل يقول في الرفيق الأعلى حتى قبض ومالت يده ولأحمد من رواية المطلب عن عائشة فقال مع الرفيق الأعلى مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين إلى قوله رفيقًا ومعنى كونهم رفيقًا تعاونهم على الطاعة وارتفاق بعضهم ببعض وأفرده إشارة إلى أن أهل الجنة يدخلون على قلب رجل واحد قاله السهيلي فالمراد بالرفيق هؤلاء المذكورون في الآية قال الحافظ وهو المعتمد وعليه الأكثر وفي حديث أبي موسى عند النسائي وصححه ابن حبان فقال اللهم الرفيق الأعلى الأسعد مع جبريل وميكائيل وإسرافيل وظاهره أن الرفيق المكان الذي تحصل المرافقة فيه مع المذكورين وهذه الأحاديث ترد زعم أن الرفيق تغيير من الراوي والصواب الرقيع بالقاف والعين المهملة وهو من أسماء السماء.
وقال ابن عبد البر هو أعلى الجنة والجوهري الجنة ويؤيده ما عند ابن إسحاق الرفيق الأعلى الجنة وقيل الرفيق الأعلى الله عز وجل لأنه من أسمائه ففي مسلم وأبي داود مرفوعًا أن الله رفيق يحب الرفيق وهو صفة ذات كالحليم أو صفة فعل وغلط الأزهري هذا القول ولا وجه له لأن تأويله على ما يليق بالله سائغ قال السهيلي الحكمة في اختتام كلام المصطفى بهذه الكلمة تضمنها التوحيد والذكر بالقلب حتى يستفاد منه الرخصة لغيره أنه لا يشترط أن يكون الذكر باللسان لأن بعض الناس قد يمنعه من النطق مانع فلا يضره إذا كان قلبه عامرًا بالذكر قال وفي بعض كتب الواقدي أول ما تكلم به صلى الله عليه وسلم وهو مسترضع عند حليمة الله أكبر وآخر ما تكلم به ما في حديث عائشة يعني في الصحيحين قالت عائشة فكانت آخر ما تكلم بها صلى الله عليه وسلم قوله اللهم الرفيق الأعلى وروى الحاكم عن أنس آخر ما تكلم به جلال ربي الرفيع قد بلغت ثم قضى وجمع بأن هذا آخر على الإطلاق بعد ما كرر اللهم الرفيق الأعلى قبل جلال أي أختار جلال ربي الرفيع قد بلغت ما أوحي إلي وحديث الباب رواه مسلم في المناقب حدثنا قتيبة بن سعيد عن مالك به وتابعه أبو أسامة وعبد الله بن نمير وعبدة بن سليمان كلهم عن هشام به في مسلم أيضًا وله طرق في الصحيحين وغيرهما ( مالك بلغه أن عائشة) أخرجه البخاري ومسلم من طريق إبراهيم بن سعد عن أبيه عن عروة عن عائشة ( قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما من نبي) أراد ما يشمل الرسول ( يموت حتى يخير) بضم أوله مبني للمفعول بين الدنيا والآخرة ( قالت فسمعته يقول) في مرضه الذي مات فيه وأخذته بحة شديدة كما في رواية سعد ( اللهم الرفيق الأعلى فعرفت أنه ذاهب) وفي الصحيحين من طريق الزهري عن عروة عنها كان صلى الله عليه وسلم وهو صحيح يقول أنه لم يقبض نبي قط حتى يرى مقعده ثم يحيا أو يخير فلما حضره القبض غشي عليه فلما أفاق شخص بصره نحو سقف البيت فقال اللهم في الرفيق الأعلى فقلت إذن لا يختارنا وعرفت أنه حديثه الذي كان يحدثنا وهو صحيح وفي مغازي أبي الأسود عن عروة أن جبريل نزل عليه في تلك الحالة فخيره وعند أحمد عن أبي مويهة قال قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم إني أوتيت مفاتيح خزائن الأرض والخلد ثم الجنة فخيرت بين ذلك وبين لقاء ربي والجنة فاخترت لقاء ربي والجنة ولعبد الرزاق من مرسل طاوس رفعه خيرت بين أن أبقى حتى أرى ما يفتح على أمتي وبين التعجيل فاخترت التعجيل ( مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر قال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي) أي فيهما قال الباجي العرض لا يكون إلا على حي يعلم ما يعرض عليه ويفهم ما يخاطب به قال ويحتمل غداة واحدة وعشية واحدة ويحتمل كل غداة وكل عشي وقال ابن التين يحتمل غداة واحدة وعشية واحدة يكون العرض فيهما ويكون معنى حتى يبعثك أي لا تصل إليه إلى يوم البعث ويحتمل كل غداة وعشي وهو محمول على أنه يحيا منه جزء ليدرك ذلك فغير ممتنع أن تعاد الحياة إلى جزء من الميت أو أجزاء وتصح مخاطبته والعرض عليه قال الحافظ والأول موافق لأحاديث سياق المسألة وعرض المقعدين على كل أحد وقال القرطبي يجوز أن هذا العرض على الروح فقط ويجوز أن يكون عليه مع جزء من البدن قال والمراد بالغداة والعشي وقتهما وإلا فالموتى لا صباح عندهم ولا مساء قال وهذا في حق المؤمن والكافر واضح وأما المؤمن المخلط فمحتمل أيضًا في حقه لأنه يدخل الجنة في الجملة ثم هو مخصوص بغير الشهداء ويحتمل أن يقال فائدة العرض في حقهم تبشير أرواحهم باستقرارها في الجنة مقترنة بأجسادها فإن فيه قدرًا زائدًا على ما هي فيه الآن ( إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة) اتحد فيه الشرط والجزاء لفظًا فلا بد من تقدير قال التوربشتي التقدير فمقعد من مقاعد أهل الجنة يعرض عليه وقال الطيبي الشرط والجزاء إذا اتحدا لفظًا دل على الفخامة والمراد أنه يرى بعد البعث من كرامة الله ما ينسيه هذا المقعد انتهى.
وعند مسلم بلفظ إن كان من أهل الجنة فالجنة أي فالمعروض الجنة ( وإن كان من أهل النار فمن أهل النار) أي فمقعده من مقاعد أهلها يعرض عليه أو يعلم بالعكس مما يسر به أهل الجنة لأن هذه المنزلة طليعة تباشير أهل السعادة الكبرى ومقدمة تباريح الشقاوة العظمى وفي ذلك تنعيم لمن هو من أهل الجنة وتعذيب لمن هو من أهل النار بمعاينة ما أعد له وانتظاره ذلك اليوم الموعود ( يقال له هذا مقعدك حتى يبعثك الله إلى يوم القيامة) كذا في رواية يحيى بلفظ إلى وللأكثر بحذفها وليحيى النيسابوري وابن القاسم إليه بالضمير حكاه ابن عبد البر قال والمعنى حتى يبعثك الله إلى هذا المقعد ويحتمل أن الضمير يعود إلى الله فإلى الله ترجع الأمور والأول أظهر قال الحافظ ويؤيده رواية الزهري عن سالم عن أبيه بلفظ ثم يقال هذا مقعدك الذي تبعث إليه يوم القيامة أخرجه مسلم وأخرج النسائي رواية ابن القاسم لكن بحذف إليه كالأكثرين وفيه إثبات عذاب القبر وأن الروح لا تفنى بفناء الجسد لأن العرض لا يقع إلا على حي قال ابن عبد البر واستدل به على أن الأرواح على أفنية القبور وهو الصحيح لأن الأحاديث بذلك أصح من غيرها والمعنى عندي أنها قد تكون على أفنية القبور لا أنها لا تفارقها بل هي كما قال مالك بلغني أن الأرواح تسرح حيث شاءت والحديث رواه البخاري عن إسماعيل ومسلم عن يحيى كلاهما عن مالك به ( مالك عن أبي الزناد) عبد الله بن ذكوان ( عن الأعرج) عبد الرحمن بن هرمز ( عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال كل ابن آدم تأكله الأرض) أي جميع جسمه وينعدم بالكلية أو المراد أنها باقية لكن زالت أعراضها المعهودة قال إمام الحرمين لم يدل قاطع سمعي على تعيين أحدهما ولا بعد أن تصير أجسام العباد بصفة أجسام التراب ثم تعاد بتركيبها إلى المعهود ( إلا عجب الذنب) بفتح العين وسكون الجيم وبالموحدة ويقال بالميم وهو العصعص أسفل العظم الهابط من الصلب فإنه قاعدة البدن كقاعدة الجدار فلا تأكله الأرض ( لأنه منه خلق) أي ابتدئ خلقه ( ومنه يركب) خلقه عند قيام الساعة وهذا أظهر من احتمال أن المراد منه ابتداء الخلق وابتداء التركيب وبالأول جزم الباجي فقال لأنه أول ما خلق من الإنسان وهو الذي يبقى منه ليعاد تركيب الخلق عليه قال ابن عبد البر هذا عموم يراد به الخصوص لما روي في أجساد الأنبياء والشهداء أن الأرض لا تأكلهم وحسبك ما جاء في شهداء أحد إذ أخرجوا بعد ست وأربعين سنة لينة أجسادهم يعني أطرافهم فكأنه قال من تأكله الأرض فلا تأكل منه عجب الذنب وإذا جاز أن لا تأكله جاز أن لا تأكل الشهداء وإنما في هذا التسليم لمن يجب له التسليم صلى الله عليه وسلم انتهى.
وزاد غيره الصديقين والعلماء العاملين والمؤذن المحتسب وحامل القرآن العامل به والمرابط والميت بالطاعون صابرًا محتسبًا والمكثر من ذكر الله والمحبين لله فتلك عشرة كاملة ( مالك عن ابن شهاب عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك الأنصاري) أبي الخطاب المدني من كبار التابعين ويقال ولد في العهد النبوي ومات في خلافة سليمان ( أنه أخبره أن أباه كعب بن مالك) السلمي المدني الصحابي المشهور أحد الثلاثة الذين خلفوا مات في خلافة علي رضي الله عنهما ( كان يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إنما نسمة المؤمن) بفتح النون والسين أي روحه وفي كتاب أبي القاسم الجوهري النسمة الروح والنفس والبدن وإنما يعني في هذا الحديث الروح قال الباجي ويحتمل عندي أن يريد به ما يكون فيه الروح من الميت قبل البعث ويحتمل أنه شيء من محل الروح تبقى فيه الروح ( طير يعلق) بالتحتية صفة طير وبفتح اللام رواية الأكثر كما قال ابن عبد البر وروي بضمها قال والمعنى واحد وهو الأكل والرعي ( في شجر الجنة) لتأكل من ثمارها وقال البوني معنى رواية الفتح تأوي والضم ترعى تقول العرب ما ذقت اليوم علوقًا وقال السهيلي يعلق بفتح اللام يتشبث بها ويرى مقعده منها ومن رواه بضم اللام فمعناه يصيب منها العلقة من الطعام فقد أصاب دون ما أصاب غيره ممن أدرك الرغد أي العيش الواسع فهو مثل مضروب يفهم منه هذا المعنى وإن أراد بتعلق الأكل نفسه فهو مخصوص بالشهيد فتكون رواية الضم للشهيد والفتح لمن دونهم والله أعلم بمراد رسوله انتهى واختلف في أن هذا الحديث عام في الشهداء وغيرهم إذا لم يحبسهم عن الجنة كبيرة ولا دين أو خاص بالشهداء دون غيرهم لأن القرآن والسنة لا يدلان إلا على ذلك حكاهما ابن عبد البر وذكر بعض أدلة الثاني وقال بحمله على الشهداء يزول ما ظنه قوم من معارضة هذا الحديث للحديث قبله في عرض المقعد لأنه إذا كان يسرح في الجنة فهو يراها في جميع أحيانه وليس كما قالوا إنما هذا في الشهداء خاصة وما قبله في سائر الناس واختار الأول ابن كثير فقال في هذا الحديث إن روح المؤمن تكون على شكل طير في الجنة وأما أرواح الشهداء ففي حواصل طير خضر ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها وتأوي إلى قناديل من ذهب في ظل العرش كما رواه أحمد عن ابن عباس مرفوعًا فهي كالراكب بالنسبة إلى أرواح عموم المؤمنين فإنها تطير بأنفسها فهو بشرى لكل مؤمن بأن روحه تكون في الجنة أيضًا وتسرح فيها وتأكل من ثمارها وترى ما فيها من النضرة والسرور ( حتى يرجعه الله إلى جسده يوم يبعثه) يوم القيامة قال وهذا حديث صحيح عزيز عظيم اجتمع فيه ثلاثة أئمة فرواه أحمد عن الشافعي عن مالك به انتهى ( مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: قال) الله ( تبارك وتعالى) هذا من الأحاديث الإلهية فيحتمل أن يكون صلى الله عليه وسلم تلقاه عن الله بلا واسطة أو بواسطة قاله الحافظ ( إذا أحب عبدي لقائي) عند حضور أجله إن عاين ما يحب أحب لقاء الله وإن عاين ما يكره لم يحب الخروج من الدنيا هذا معناه كما تشهد به الآثار المرفوعة وذلك حين لا تقبل توبة وليس المراد الموت لأنه لا يخلو من كراهته نبي ولا غيره ولكن المكروه من ذلك إيثار الدنيا وكراهة أن يصير إلى الله قاله ابن عبد البر ( أحببت لقاءه) أي أردت له الخير ( وإذا كره لقائي كرهت لقاءه) زاد في حديث عبادة في الصحيحين فقالت عائشة إنا لنكره الموت قال صلى الله عليه وسلم ليس ذاك ولكن المؤمن إذا حضره الموت بشر برضوان الله وكرامته فليس شيء أحب إليه مما أمامه فأحب لقاء الله وأحب الله لقاءه وأن الكافر إذا حضر بشر بعذاب الله وعقوبته فليس شيء أكره إليه مما أمامه فكره لقاء الله وكره الله لقاءه ولأحمد عن عائشة مرفوعًا إذا أراد الله بعبد خيرًا قيض الله له قبل موته بعام ملكًا يسدده ويوفقه حتى يقال مات بخير ما كان فإذا حضر ورأى إلى ثوابه اشتاقت نفسه فذلك حين أحب لقاء الله وأحب الله لقاءه وإذا أراد الله بعبد شرًا قيض الله له قبل موته بشهر شيطانًا فأضله وفتنه حتى يقال مات بشر ما كان عليه فإذا حضر ورأى ما أعد الله له من العذاب جزعت نفسه فذلك حين كره لقاء الله وكره الله لقاءه وقال الخطابي معنى محبة لقاء الله إيثار العبد الآخرة على الدنيا ولا يحب طول القيام فيها لكن يستعد للارتحال عنها واللقاء على وجوه منها الرؤية ومنها البعث كقوله تعالى { { قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله } } أي البعث ومنها الموت كقوله تعالى { { من كان يرجو لقاء الله فإن أجل الله لآت } } وقال ابن الأثير المراد باللقاء المصير إلى الدار الآخرة وطلب ما عند الله وليس الغرض به الموت لأن كلا يكرهه فمن ترك الدنيا وأبغضها أحب لقاء الله ومن آثرها وركن إليها كره لقاء الله ومحبة الله لقاء عبده إرادة الخير له وإنعامه عليه وفي الكواكب إن قيل الشرط ليس سببًا للجزاء بل الأمر بالعكس قلت مثله يؤول بالإخبار أي أخبره بأني أحببت لقاءه وكذا الكراهة والحديث رواه البخاري في التوحيد عن إسماعيل عن مالك به ( مالك عن أبي الزناد) بكسر الزاي والتخفيف ( عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال) هكذا رفعه أكثر رواة الموطأ ووقفه القعنبي ومصعب وذلك لا يضر في رفعه لأن رواته ثقات حفاظ ( قال رجل) قال الحافظ قيل اسمه جهينة وذلك أن في صحيح أبي عوانة أن هذا الرجل هو آخر أهل النار خروجًا منها وفي رواية مالك للخطيب عن ابن عمر آخر من يدخل الجنة رجل من جهينة يقول أهل الجنة عند جهينة الخبر اليقين ( لم يعمل حسنة قط) ليس فيه ما ينفي التوحيد عنه والعرب تقول مثل هذا في الأكثر من فعله كحديث لا يضع عصاه عن عاتقه وفي رواية لم يعمل خيرًا قط إلا التوحيد قاله ابن عبد البر وفي الصحيح ممن كان قبلكم يسيء الظن بعمله وفي رواية يسرف على نفسه وفي ابن حبان أنه كان نباشًا أي للقبور يسرق أكفان الموتى ( لأهله) وفي الصحيح من طريق ابن شهاب عن حميد عن أبي هريرة مرفوعًا فلما حضره الموت قال لبنيه ( إذا مات فحرقوه) وفي رواية الزهري إذا أنا مت فأحرقوني ثم اطحنوني ( ثم أذروا نصفه في البر ونصفه في البحر فوالله لئن قدر الله عليه) بخفة الدال وشدها من القدر وهو القضاء لا من القدرة والاستطاعة كقوله فظن أن لن نقدر عليه أو بمعنى ضيق كقوله تعالى { { ومن قدر عليه رزقه } } وقال بعض العلماء هذا رجل جهل بعض صفات الله وهي القدرة ولا يكفر جاهل بعضها وإنما يكفر من عاند الحق قاله أبو عمر ( ليعذبنه عذابًا لا يعذبه أحدًا من العالمين) الموحدين ( فلما مات الرجل فعلوا ما أمرهم به فأمر الله البر فجمع ما فيه وأمر الله البحر فجمع ما فيه) زاد في رواية الزهري فإذا هو قائم وزاد أبو عوانة في أسرع من طرفة عين وفيه دلالة على رد من زعم أن الخطاب لروحه لأن التحريق والتذرية إنما وقعا على الجسد وهو الذي جمع وأعيد ( ثم قال لم فعلت هذا قال من خشيتك يا رب وأنت أعلم) إني إنما فعلته من خشيتك أي خوف عقابك قال ابن عبد البر وذلك دليل على إيمانه إذ الخشية لا تكون إلا لمؤمن بل لعالم قال تعالى { { إنما يخشى الله من عباده العلماء } } ويستحيل أن يخافه من لا يؤمن به وقد روى الحديث قال رجل لم يعمل خيرًا قط إلا التوحيد وهذه اللفظة ترفع الإشكال في إيمانه والأصول تعضدها إن الله لا يغفر أن يشرك به وقد ( قال فغفر له) ولأبي عوانة من حديث حذيفة عن الصديق أنه آخر أهل الجنة دخولاً قال ابن التين ذهب المعتزلة إلى أن هذا الرجل إنما غفر له لتوبته التي تابها لأن قبولها واجب عقلاً عندهم والأشعري قطع بها سمعًا وغيره جوز القبول كسائر الطاعات وقال ابن المنير قبول التوبة عند المعتزلة واجب على الله تعالى عقلاً وعندنا واجب بحكم الوعد والفضل والإحسان إذ لو وجب القبول على الله عقلاً لاستحق الذم إن لم يقبل وهو محال لأن من كان كذلك يكون مستكملاً بالقبول والمستكمل بالغير ناقص بذاته وذلك في حق الله محال ولأن الذم إنما يمنع من الفعل من يتأذى لسماعه وينفر عنه طبعه ويظهر له بسببه نقص حال أما المتعالي عن الشهوة والنفرة والزيادة والنقص فلا يعقل تحقق الوجوب في حقه بهذا المعنى ولأنه تعالى تمدح بقبول التوبة في قوله { { ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده } } ولو كان واجبًا ما تمدح به لأن أداء الواجب لا يفيد المدح والثناء والتعظيم قال بعض المفسرين قبول التوبة من الكفر يقطع به على الله تعالى إجماعًا وهذا محمل الآية وأما المعاصي فيقطع بأنه يقبل التوبة منها من طائفة من الأمة واختلف هل يقبل توبة الجميع وأما إذا عين إنسان تائب فيرجى قبول توبته بلا قطع وأما إذا فرضنا تائبًا غير معين صحيح التوبة فقيل يقطع بقبول توبته وعليه طائفة منها الفقهاء والمحدثون لأنه تعالى أخبر عن نفسه بذلك وعلى هذا يلزم أن تقبل توبة جميع التائبين وذهب أبو المعالي وغيره إلى أن ذلك لا يقطع به على الله بل يقوي في الرجاء والقول الأول أرجح ولا فرق بين التوبة من الكفر والتوبة من المعاصي بدليل أن الإسلام يجب ما قبله والتوبة تجب ما قبلها انتهى.
والحديث رواه البخاري في التوحيد عن إسماعيل ومسلم من طريق روح كلاهما عن مالك به ( مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال كل مولود) أي من بني آدم صرح به جعفر بن ربيعة عن الأعرج عن أبي هريرة بلفظ كل بني آدم وكذا رواه خالد الواسطي عن عبد الرحمن بن إسحاق عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة ذكرهما ابن عبد البر ( يولد على الفطرة) عام في جميع المولودين على ظاهره وأصرح منه رواية البخاري ما من مولود إلا يولد على الفطرة ولمسلم ما من مولود إلا وهو على الملة وحكى ابن عبد البر عن قوم أنه لا يقتضي العموم وأن المراد كل من يولد على الفطرة وله أبوان غير مسلمين نقلاه إلى دينهما فالتقدير كل مولود يولد على الفطرة وأبواه يهوديان مثلاً فإنهما يهودانه ثم يصير عند بلوغه إلى ما يحكم به عليه ويكفي في الرد عليهم رواية مسلم عن أبي صالح عن أبي هريرة ليس من مولود إلا على هذه الفطرة حتى يعرب عنه لسانه وأصرح منها رواية كل بني آدم وأشهر الأقوال أن المراد بالفطرة الإسلام قال ابن عبد البر وهو المعروف عند عامة السلف وأجمع علماء التأويل على أن المراد بقوله تعالى { { فطرة الله التي فطر الناس عليها } } الإسلام واحتجوا بقول أبي هريرة عند الشيخين في آخر الحديث اقرؤوا إن شئتم { { فطرة الله } } الآية وبحديث عياض بن حماد عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه إني خلقت عبادي حنفاء كلهم فاختالتهم الشياطين عن دينهم الحديث ورواه غيره فقال حنفاء مسلمين ورجح بقوله تعالى { { فأقم وجهك للدين حنيفًا فطرة الله } } لأنها إضافة مدح وقد أمر الله نبيه بلزومها فعلم أنها الإسلام وحكى ابن عبد البر عن الأوزاعي وسحنون ورواه أبو داود عن حماد بن سلمة أن المراد حين أخذ الله العهد فقال ألست بربكم قالوا بلى قال الطيبي ويؤيده وجوه أحدها أن التعريف في الفطرة إشارة إلى معهود وهو قوله { { فطرة الله } } ومعنى { { فأقم وجهك } } أثبت على العهد القديم ثانيها مجيء رواية بلفظ الملة بدل الفطرة والدين في قوله { { للدين حنيفًا } } فهو عين الملة قال تعالى { { دينًا قيمًا ملة إبراهيم حنيفًا } } ثالثها التشبيه بالمحسوس المعاين ليفيد أن ظهوره يقع في البيان مبلغ هذا المحسوس قال والمراد تمكن الناس من الهدي في أصل الجبلة والتهيؤ لقبول الدين فلو ترك المرء عليها لاستمر على لزومها ولم يفارقها إلى غيرها لأن حسن هذا الدين ثابت في النفوس وإنما يعدل عنه لآفة من الآفات البشرية كالتقليد انتهى وإلى هذا مال القرطبي في المفهم فقال المعنى أن الله خلق قلوب بني آدم متأهلة لقبول الحق كما خلق أعينهم وأسماعهم قابلة للمرئيات والمسموعات فما دامت باقية على ذلك القبول وعلى تلك الأهلية أدركت الحق ودين الإسلام هو الدين الحق ودل على هذا المعنى بقية الحديث وقال ابن القيم ليس المراد أنه خرج من بطن أمه يعلم الدين لأن الله يقول { { والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئًا } } ولكن المراد أن فطرته مقتضية لمعرفة دين الإسلام ومحبته فنفس الفطرة تستلزم الإقرار والمحبة وليس المراد مجرد قبول الفطرة لذلك فإنه لا يتغير بتهويد الأبوين مثلاً بحيث يخرجان الفطرة عن القبول وإنما المراد أن كل مولود يولد على إقراره بالربوبية فلو خلى وعدم المعارض لم يعدل عن ذلك إلى غيره كما أنه يولد على محبة ما يلائم بدنه من ارتضاع اللبن حتى يصرفه عنه الصارف ومن ثم شبهت الفطرة باللبن بل كانت إياه في تأويل الرؤيا انتهى وقيل معناه أنه يولد على ما يصير إليه من شقاوة أو سعادة فمن علم الله أنه يصير مسلمًا ولد على الإسلام ومن علم أنه يصير كافرًا ولد على الكفر فكأنه أول الفطرة بالعلم وتعقب بأنه لو كان كذلك لم يكن لقوله فأبواه إلى آخره معنى لفعلهما به ما هو الفطرة التي ولد عليها فينافي التمثيل بحال البهيمة وقيل معناه أنه تعالى خلق فيهم المعرفة والإنكار فلما أخذ الميثاق من الذرية قالوا جميعًا بلى أما أهل السعادة فطوعًا وأما أهل الشقاوة فكرها وتعقب بأنه يحتاج إلى نقل صحيح فإنه لا يعرف هذا التفصيل عند أخذ الميثاق إلا عن السدي ولم يسنده وكأنه أخذه من الإسرائيليات وقيل الفطرة الخلقة أي يولد سالمًا لا يعرف كفرًا ولا إيمانًا ثم يعتقد إذا بلغ التكليف ورجحه ابن عبد البر وقال إنه يطابق التمثيل بالبهيمة ولا يخالف حديث عياض لأن المراد بقوله حنفاء أي على الاستقامة وتعقب بأنه لو كان كذلك لم يقتصر في أحوال التبديل على الكفر دون ملة الإسلام ولم يكن لاستشهاد أبي هريرة بالآية معنى وقيل اللام في الفطرة للعهد أي فطرة أبويه وهو متعقب بما ذكر في الذي قبله وحمله محمد بن الحسن الشيباني على أحكام الدنيا فادعى فيه النسخ فقال هذا في أول الإسلام قبل أن تنزل الفرائض والأمر بالجهاد قال أبو عبيد كأنه عنى أنه لو كان يولد على الإسلام فمات قبل أن يهوده أبواه مثلاً لم يرثاه والحكم أنهما يرثاه فدل على تغير الحكم ورده ابن عبد البر بأنه حاد عن الجواب وفي حديث الأسود بن سريع أن ذلك كان بعد الأمر بالجهاد وكذا رده غيره والحق أنه إخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم بما وقع في نفس الأمر ولم يرد إثبات أحكام الدنيا قال ابن القيم وسبب اختلاف العلماء في معنى الفطرة أن القدرية احتجوا بالحديث على أن الكفر والمعصية ليسا بقضاء الله بل مما ابتدأ الناس إحداثه فحاول جماعة من العلماء مخالفتهم بتأويل الفطرة على غير معنى الإسلام ولا يلزم من حملها عليه موافقة القدرية لحمله على أن ذلك يقع بتقدير الله ولذا احتج مالك عليهم بقوله الله أعلم بما كانوا عاملين انتهى.
روى أبو داود عن ابن وهب سمعت مالكًا وقيل له أن أهل الأهواء يحتجون علينا بهذا الحديث فقال مالك احتج عليهم بآخره الله أعلم بما كانوا عاملين ووجه ذلك أن القدرية استدلوا به على أن الله فطر العباد على الإسلام وأنه لا يضل أحدًا فإنما يضل الكافر أبواه فأشار مالك إلى رده بقوله الله أعلم فإنه دال على علمه بما يصيرون إليه بعد إيجادهم على الفطرة فهو دليل على تقدم العلم الذي ينكره غلاتهم ومن ثم قال الشافعي أهل القدر إن أثبتوا العلم خصموا ( فأبواه يهودانه أو ينصرانه) زاد ابن شهاب عن أبي سلمة عن أبي هريرة في الصحيحين أو يمجسانه قال الطيبي الفاء إما للتعقيب أو للسببية أو جزاء شرط مقدر أي إذا تقرر ذلك فمن تغير كان بسبب أبويه إما بتعليمهما إياه أو ترغيبهما فيه أو كونه تبعًا لهما في الدين يقتضي أن حكمه حكمهما وخص الأبوان بالذكر للغالب فلا حجة فيه لمن حكم بإسلام الطفل الذي يموت أبواه كافرين كما هو أحد قولي أحمد فقال استقر عمل الصحابة فمن بعدهم على عدم التعرض لأطفال أهل الذمة واستشكل الحديث بأنه يقتضي أن كل مولود يقع له التهود أو غيره مما ذكر مع أن كثيرًا يبقى مسلمًا لا يقع له شيء وأجيب بأن المراد أن الكفر ليس من ذات المولود ومقتضى طبعه بل إنما يحصل بسبب خارجي فإن سلم منه استمر على الحق ( كما تناتج) بفوقية فنون فألف ففوقية فجيم أي يولد ( الإبل من بهيمة جمعاء) بضم الجيم وسكون الميم والمد نعت لبهيمة أي لم يذهب من بدنها شيء سميت بذلك لاجتماع أعضائها ( هل تحس) بضم أوله وكسر ثانيه أي تبصر وفي رواية هل ترى ( فيها من جدعاء) بفتح الجيم وإسكان المهملة والمد أي مقطوعة الأنف أو الأذن أو الأطراف والجملة صفة أو حال أي بهيمة تقول فيها هذا القول أي كل من نظر إليها قاله لظهور سلامتها زاد في رواية في الصحيح حتى تكونوا أنتم تجدعونها قال الباجي يريد أن المولود يولد على الفطرة ثم يغيره بعد ذلك أبواه كما أن البهيمة تولد تامة لا جدع فيها من أصل الخلقة وإنما تجدع بعد ذلك ويغير خلقها وقال في المفهم يعني أن البهيمة تلد الولد كامل الخلقة فلو ترك كذلك كان بريا من العيب لكنهم تصرفوا فيه بقطع أذنه مثلاً فخرج عن الأصل وهو تشبيه واقع ووجهه واضح وقال الطيبي كما حال من الضمير المنصوب في يهودانه أي يهودان المولود بعد خلقه على الفطرة حال كونه شبيها بالبهيمة التي جدعت بعد أن خلقت سليمة أو صفة مصدر محذوف أي يغيرانه مثل تغييرهم البهيمة السليمة وقد تنازعت الأفعال الثلاثة في كما على التقديرين ( قالوا يا رسول الله أرأيت) أي أخبرنا من إطلاق السبب على المسبب لأن مشاهدة الأشياء طريق إلى الإخبار عنها أي قد رأيت ( الذي يموت وهو صغير) لم يبلغ الحلم أيدخل الجنة ( قال الله أعلم بما كانوا عاملين) قال ابن قتيبة أي لو أبقاهم فلا تحكموا عليهم بشيء وقال غيره أي علم أنهم لا يعملون شيئًا ولا يرجعون فيعملون أو أخبر بعلم الشيء لو وجد كيف يكون ولم يرد أنهم يجازون بذلك في الآخرة لأن العبد لا يجازى بما لم يعمل أو معناه أنه علم أنهم لم يعملوا ما يقتضي تعذيبهم ضرورة أنهم غير مكلفين وقال البيضاوي فيه إشارة إلى أن الثواب والعقاب لا لأجل الأعمال وإلا لزم أن تكون ذراري المسلمين والكافرين لا من أهل الجنة ولا من أهل النار بل الموجب لهما اللطف الرباني والخذلان الإلهي المقدر لهما في الأزل فالأولى فيهما التوقف وعدم الجزم بشيء فإن أعمالهم موكولة إلى علم الله فيما يعود إلى أمر الآخرة من الثواب والعقاب وقال النووي أجمع من يعتد به من علماء المسلمين أن من مات من أطفال المسلمين فهو من أهل الجنة لأنه ليس مكلفًا وتوقف فيه بعض من لا يعتد به لحديث عائشة في مسلم أنه صلى الله عليه وسلم دعي لجنازة صبي من الأنصار فقلت طوبى له عصفور من عصافير الجنة لم يعمل السوء ولم يدركه فقال أو غير ذلك يا عائشة أن الله خلق للجنة أهلا خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم وخلق للنار أهلا خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم وأجابوا عن هذا بأنه لعله نهاها عن المسارعة إلى القطع من غير أن يكون عندها دليل قاطع أو قاله قبل أن يعلم أن أطفال المسلمين في الجنة انتهى وأطلق ابن أبي زيد الإجماع في ذلك ولعله أراد إجماع من يعتد به وقال المازري الخلاف في غير أولاد الأنبياء انتهى وأما أطفال الكفار فاختلف العلماء قديمًا وحديثها فيهم على عشرة أقوال أحدها أنهم في المشيئة ونقل عن الحمادين وإسحاق وابن المبارك والشافعي قال ابن عبد البر وهو مقتضى صنيع مالك ولا نص عنه لكن صرح أصحابه بأن أطفال المسلمين في الجنة وأطفال الكفار في المشيئة والحجة فيه حديث ابن عباس وأبي هريرة في الصحيحين سئل صلى الله عليه وسلم عن أولاد المشركين فقال الله أعلم بما كانوا عاملين ثانيها أنهم تبع لآبائهم حكاه ابن حزم عن الأزارقة والخوارج ولأحمد عن عائشة سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ولدان المسلمين قال في الجنة وعن أولاد المشركين قال في النار فقلت لم يدركوا الأعمال قال ربك أعلم بما كانوا عاملين لو شئت أسمعتك تضاغيهم في النار وهو حديث ضعيف جدًا لأن في إسناده أبا عقيل مولى بهية وهو متروك ثالثها أنهم في برزخ بين الجنة والنار إذ لا حسنات لهم يدخلون بها الجنة ولا سيئات يدخلون بها النار رابعها أنهم خدم أهل الجنة روى الطيالسي وأبو يعلى والطبري والبزار مرفوعًا أولاد المشركين خدم أهل الجنة وإسناده ضعيف خامسها يصيرون ترابًا سادسها في النار حكاه عياض عن أحمد وغلطه ابن تيمية بأنه قول لبعض أصحابه ولا يحفظ عن الإمام أصلاً وهو غير الثاني لأنهم تبع لآبائهم لأنه لا يلزم من كونهم في النار أن يكونوا مع آبائهم كما أن عصاة الموحدين في النار لا مع الكفار سابعها يمتحنون في الآخرة بأن ترفع لهم نار فمن دخلها كانت عليه بردًا وسلامًا ومن أبى عذب أخرجه البزار من حديث أنس وأبي سعيد والطبراني من حديث معاذ وقد صحت مسألة الامتحان في حق المجنون ومن مات في الفترة من طرق صحيحة وحكى البيهقي أنه المذهب الصحيح وتعقب بأن الآخرة ليست دار تكليف فلا عمل فيها ولا ابتلاء وأجيب بأن ذلك بعد الاستقرار في الجنة أو النار وأما في عرصات القيامة فلا مانع من ذلك وقد قال تعالى { { يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون } } وفي الصحيحين أن الناس يؤمرون بالسجود فيصير ظهر المنافق طبقًا فلا يستطيع أن يسجد ثامنها الوقف تاسعها الإمساك وفي الفرق بينهما دقة عاشرها أنهم في الجنة قال النووي وهو المذهب الصحيح المختار الذي صار إليه المحققون لقوله تعالى { { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً } } وإذا لم يعذب العاقل لأنه لم تبلغه دعوة فأولى غيره انتهى.
وفي حديث سمرة عند البخاري في رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم الشيخ في أصل الشجرة إبراهيم والصبيان حوله فأولاد الناس وهو عام يشمل أولاد المسلمين وغيرهم وروى ابن عبد البر من طريق أبي معاذ عن الزهري عن عروة عن عائشة قال سألت خديجة النبي صلى الله عليه وسلم عن أولاد المشركين فقال هم مع آبائهم ثم سألته بعد ذلك فقال الله أعلم بما كانوا عاملين ثم سألته بعدما استحكم الإسلام فنزلت { { ولا تزر وازرة وزر أخرى } } فقال هم على الفطرة وقال في الجنة قال الحافظ وأبو معاذ هو سليمان بن أرقم وهو ضعيف ولو صح هذا لكان قاطعًا للنزاع انتهى.
وحديث الباب له طرق كثيرة في الصحيحين وغيرهما ( مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل بقبر الرجل فيقول يا ليتني مكانه) أي ميتًا وذلك عند ظهور الفتن وخوف ذهاب الدين لغلبة الباطل وأهله وظهور المعاصي أو ما يقع لبعضهم من المصيبة في نفسه أو أهله أو دنياه وإن لم يكن في ذلك شيء يتعلق بدينه وعند مسلم من طريق أبي حازم عن أبي هريرة مرفوعًا لا تذهب الدنيا حتى يمر الرجل على القبر فيتمرغ عليه ويقول يا ليتني مكان صاحب هذا القبر وليس به الدين إلا البلاء وعن ابن مسعود قال سيأتي عليكم زمان لو وجد أحدكم الموت يباع لاشتراه وعليه قول الشاعر

وهذا العيش ما لا خير فيه
ألا موت يباع فأشتريه

وسبب ذلك أنه يقع البلاء والشدة حتى يكون الموت الذي هو أعظم المصائب أهون على المرء فيتمنى أهون المصيبتين في اعتقاده وذكر الرجل للغالب وإلا فالمرأة يمكن أن تتمنى الموت لذلك أيضًا لكن لما كان الغالب أن الرجال هم المبتلون بالشدائد والنساء محجبات لا يصلين نار الفتنة خصهم كما قيل

كتب القتل والقتال علينا
وعلى الغانيات جر الذيول

قال الحافظ العراقي ولا يلزم كونه في كل بلد ولا كل زمن ولا في جميع الناس بل يصدق على اتفاقه للبعض في بعض الأقطار في بعض الأزمان وفي تعليق تمنيه بالمرور إشعار بشدة ما نزل بالناس من فساد الحال حالتئذ إذ المرء قد يتمنى الموت من غير استحضار شيء فإذا شاهد الموتى ورأى القبور نشز بطبعه ونفر بسجيته من تمنيه فلقوة الشدة لم يصرفه عنه ما شاهده من وحشة القبور ولا يناقض هذا النهي عن تمني الموت لأن هذا الحديث إخبار عما يكون وليس فيه تعرض لحكم شرعي وقال ابن عبد البر لا يعارض هذا قوله صلى الله عليه وسلم لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به وقول خباب بن الأرت لولا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهانا أن ندعو بالموت لدعوت به لأنه إخبار بشدة ما ينزل بالناس من فساد الدين لا لضرر يصيب جسمه يحط خطاياه وقد قال عتيق الغفاري زمن الطاعون يا طاعون خذني إليك فقيل ألم يأت النهي عن تمني الموت فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول بادروا بالموت إمرة السفهاء وكثرة الشرط وبيع الحكم واستخفافًا بالدم وقطيعة الرحم , ونساء يتخذون مزامير يقدمون الرجل يغنيهم بالقرآن وإن كان أقلهم فقهًا ويوضح ذلك قوله صلى الله عليه وسلم وإذا أردت بالناس فتنة فاقبضني إليك غير مفتون وقول عمر اللهم قد ضعفت قوتي وكبرت سني وانتشرت رعيتي فاقبضني إليك غير مضيع ولا مفرط انتهى.
وهو ناظر إلى أن المعنى الأول هو المراد بالحديث ورواه الشيخان في الفتن البخاري عن إسماعيل ومسلم عن قتيبة بن سعيد كلاهما عن مالك به ( مالك عن محمد بن عمرو) بفتح العين ( ابن حلحلة) بحاءين مهملتين مفتوحتين ولامين أولاهما ساكنة والثانية مفتوحة زاد ابن وضاح ( الديلي) بكسر الدال وسكون التحتية المدني ( عن معبد) بفتح الميم وسكون العين وموحدة ( ابن كعب بن مالك) الأنصاري السلمي المدني ( عن أبي قتادة) الحارث ويقال عمرو ويقال النعمان ( ابن ربعي) بكسر الراء وسكون الموحدة وعين مهملة السلمي المدني شهد أحدًا وما بعدها ولم يصح شهوده بدرًا ومات سنة أربع وخمسين وقيل سنة ثمان وثلاثين والأول أصح وأشهر قال ابن عبد البر هكذا الحديث في الموطآت بهذا الإسناد وأخطأ فيه سويد بن سعيد عن مالك فقال عن معبد بن كعب عن أبيه وليس بشيء ( أنه كان يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر) بضم الميم وشد الراء ( عليه بجنازة فقال مستريح ومستراح منه) قال ابن الأثير يقال أراح الرجل واستراح إذا رجعت إليه نفسه بعد الإعياء انتهى والواو بمعنى أو فهي للتنويع أي لا يخلو ابن آدم من هذين المعنيين فلا يختص بصاحب الجنازة ( قالوا يا رسول الله ما المستريح والمستراح منه) وفي رواية الدارقطني بإعادة ما ( قال العبد المؤمن) المتقي خاصة أو كل مؤمن ( يستريح من نصب الدنيا) بفتحتين تعبها ومشقتها ( وأذاها) وهو عطف عام على خاص ( إلى رحمة الله) تعالى قال مسروق ما غبطت شيئًا لشيء كمؤمن في لحده أمن من عذاب الله واستراح من الدنيا ( والعبد الفاجر) الكافر أو العاصي ( يستريح منه العباد) أي من ظلمه لهم وقول الداودي لما يأتي به من المنكر فإن أنكروا آذاهم وإن تركوه أثموا رده الباجي بأنه لا يأثم تارك الإنكار إذا ناله أذى ويكفيه أن ينكر بقلبه ( والبلاد) بما يفعله فيها من المعاصي فيحصل الجدب فيهلك الحرث والنسل أو لغصبها ومنعها من حقها ( والشجر) لقلعه إياها غصبًا أو غصب ثمرها ( والدواب) لاستعماله لها فوق طاقتها وتقصيره في علفها وسقيها وقال الطيبي أما استراحة البلاد والأشجار فإن الله تعالى بفقده يرسل السماء مدرارًا ويحيي به الأرض والشجر والدواب بعدما حبس بشؤم ذنوبه الأمطار لكن إسناد الراحة إليها مجاز إذ الراحة إنما هي لمالكها والحديث رواه البخاري عن إسماعيل ومسلم عن قتيبة بن سعيد كلاهما عن مالك به ( مالك عن أبي النضر) سالم بن أبي أمية ( مولى عمر بن عبيد الله) بضم العينين القرشي ( أنه قال) وصله ابن عبد البر من طريق يحيى بن سعيد عن القاسم عن عائشة ( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما مات عثمان بن مظعون) بالظاء المعجمة ابن حبيب بن وهب بن حذافة القرشي الجمحي أسلم قديمًا وهاجر إلى الحبشة الهجرة الأولى وروى ابن شاهين والبيهقي عنه قلت يا رسول الله إني رجل تشق علي الغربة في المغازي فتأذن لي في الخصاء فأختصي فقال لا ولكن عليك يا ابن مظعون بالصوم وفي الصحيحين عن سعد بن أبي وقاص رد النبي صلى الله عليه وسلم على عثمان بن مظعون التبتل ولو أذن له لاختصينا توفي بعد شهوده بدرًا في السنة الثانية من الهجرة وهو أول من مات بالمدينة من المهاجرين وأول من دفن منهم بالبقيع ( ومر بجنازته) عليه ( ذهبت ولم تلبس) بحذف إحدى التاءين ولابن وضاح تتلبس بتاءين ( منها) أي الدنيا ( بشيء) كثير لأنه تلبس بشيء منها لا محالة وفيه مدح الزهد في الدنيا وذم الاستكثار منها والثناء على المرء بما فيه وروى الترمذي عن عائشة قبل النبي صلى الله عليه وسلم عثمان بن مظعون وهو ميت وهو يبكي وعيناه تذرفان فلما توفي ابنه إبراهيم قال ألحق بسلفنا الصالح عثمان بن مظعون ( مالك عن علقمة بن أبي علقمة) بلال المدني مولى عائشة وهو علقمة ابن أم علقمة ثقة علامة مات سنة بضع وثلاثين ومائة ( عن أمه) مرجانة وتكنى بابنها تابعية ثقة وهي مولاة عائشة بلا خلاف ( أنها قالت سمعت عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم تقول قام رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فلبس ثيابه ثم خرج فأمرت جاريتي بريرة) بموحدة مفتوحة وراءين بلا نقط بينهما تحتية ساكنة ثم هاء صحابية مشهورة عاشت إلى زمن يزيد بن معاوية ( تتبعه) لتستفيد علمًا ويحتمل غيرة منها مخافة أن يأتي بعض حجر نسائه وقد روي ذلك قاله الباجي ( فتبعته حتى جاء البقيع) بالموحدة اتفاقًا ( فوقف في أدناه) أقربه ( ما شاء الله أن يقف ثم انصرف فسبقته بريرة فأخبرتني) بما فعل ( فلم أذكر له شيئًا حتى أصبح ثم ذكرت ذلك له فقال إني بعثت إلى أهل البقيع لأصلي عليهم) قال ابن عبد البر يحتمل أن الصلاة هنا الدعاء والاستغفار وأن تكون كالصلاة على الموتى خصوصية له لأن صلاته على من صلى عليه رحمة فكأنه أمر أن يستغفر لهم وللإجماع على أنه لا يصلي على قبر مرتين ولا يصلي على قبر من صلى إلا بحدثان ذلك وأكثر ما قيل ستة أشهر قال وإما بعثه ومسيره إليهم فلا يدرى لمثل هذا علة ويحتمل أن يكون ليعلمهم بالصلاة منه عليهم لأنه ربما دفن منهم من لم يصل عليه كالمسكينة ومثلها من دفن ليلاً ولم يشعر به ليكون مساويًا بينهم في صلاته عليهم ولا يؤثر بعضهم بذلك ليتم عدله وجاء حديث حسن يدل على أن ذلك كان منه حين خير فخرج إليه كالمودع للأحياء والأموات ثم أخرجه عن أبي مويهة مرفوعًا إني قد أمرت أن أستغفر لأهل البقيع فاستغفر لهم ثم انصرف فأقبل علي فقال يا أبا مويهة إن الله قد خيرني في مفاتيح خزائن الدنيا والخلد فيها ثم الجنة ولقاء ربي فاخترت لقاء ربي فأصبح من تلك الليلة فبدأه وجعه الذي مات منه صلى الله عليه وسلم وهذا الحديث رواه النسائي عن محمد بن سلمة والحارث بن مسكين كلاهما عن ابن القاسم عن مالك به ( مالك عن نافع أن أبا هريرة قال) كذا وقفه جمهور رواة الموطأ ورواه الوليد بن مسلم عن مالك عن نافع عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يتابع على ذلك عن مالك ولكنه مرفوع من طريق أيوب عن نافع عن أبي هريرة ومن طريق الزهري عن ابن المسيب عن أبي هريرة قاله ابن عبد البر ومن طريق الزهري رواه البخاري ومسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال ( أسرعوا) بهمزة قطع ( بجنائزكم) أي بحملها إلى قبرها إسراعًا خفيفًا فوق المشي المعتاد والخبب بحيث لا يشق على ضعفة من يتبعها ولا على حاملها ولا يحدث مفسدة بالميت والأمر للاستحباب باتفاق العلماء وشذ ابن حزم فقال بوجوبه وقيل المراد شدة المشي وهو قول الحنفية وبعض السلف ومال عياض إلى نفي الخلاف فقال من استحبه أراد الزيادة على المشي المعتاد ومن كرهه أراد الإفراط كالرمل والحاصل أنه يستحب الإسراع لكن بحيث لا ينتهي إلى شدة يخاف منها حدوث مفسدة بالميت ومشقة على الحامل أو المشيع لئلا ينافي المقصود من النظافة وإدخال المشقة على المسلم قال القرطبي مقصود الحديث أن لا يبطأ بالميت عن الدفن ولأن البطء ربما أدى إلى التباهي والاحتفال قال ابن عبد البر وتأوله قوم على تعجيل الدفن لا المشي وليس كما ظنوا ويرده قوله تضعونه عن رقابكم وتبعه النووي فقال إنه باطل مردود بهذا وتعقبه الفاكهاني بأن الحمل على الرقاب قد يعبر به عن المعاني كما يقول حمل فلان على رقبته ديونًا فيكون المعنى استريحوا من نظر من لا خير فيه قال ويؤيده أن الكل لا يحملونه قال الحافظ ويؤيده حديث ابن عمر سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إذا مات أحدكم فلا تحبسوه وأسرعوا به إلى قبره أخرجه الطبراني بإسناد حسن ولأبي داود عن حصين بن وحوح مرفوعًا لا ينبغي لجيفة مسلم أن تبقى بين ظهراني أهله ( فإنما هو خير تقدمونه) كذا في الأصول والقياس تقدمونها أي الجنائز ( إليه) أي الخير باعتبار الثواب والإكرام الحاصل له في قبره فيسرع به ليلقاه قريبًا قال ابن مالك وروي إليها بتأنيث الضمير على تأويل الخبر بالرحمة أو الحسنى ( أو شر تضعونه عن رقابكم) فلا مصلحة لكم في مصاحبته لأنها بعيدة من الرحمة ويؤخذ منه ترك صحبة أهل البطالة وغير الصالحين وفيه ندب المبادرة بدفن الميت لكن بعد تحقق أنه مات أما مثل المطعون والمسبوت والمفلوج فينبغي أن لا يسرع بتجهيزهم حتى يمضي يوم وليلة ليتحقق موتهم نبه عليه ابن بزيزة، والله تعالى أعلم.



رقم الحديث 575 وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: كُلُّ ابْنِ آدَمَ تَأْكُلُهُ الْأَرْضُ، إِلَّا عَجْبَ الذَّنَبِ مِنْهُ خُلِقَ، وَفِيهِ يُرَكَّبُ.


( جامع الجنائز)

( مالك عن هشام بن عروة عن عباد) بشد الموحدة ( ابن عبد الله بن الزبير) بن العوام كان قاضي مكة زمن أبيه وخليفته إذا حج ( أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أخبرته أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت وهو مستند إلى صدرها وأصغت) بإسكان الصاد المهملة وفتح الغين المعجمة أي أمالت سمعها ( إليه يقول) وفي رواية قتيبة وهو يقول ( اللهم اغفر لي وارحمني) فيه ندب الدعاء بهما ولا سيما عند الموت وإذا دعا بذلك المصطفى فأين غيره منه والدعاء مخ العبادة لما فيه من الإخلاص والخضوع والضراعة والرجاء وذلك صريح الإيمان ( وألحقني) بهمزة قطع ( بالرفيق الأعلى) وفي البخاري من رواية ذكوان عن عائشة فجعل يقول في الرفيق الأعلى حتى قبض ومالت يده ولأحمد من رواية المطلب عن عائشة فقال مع الرفيق الأعلى مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين إلى قوله رفيقًا ومعنى كونهم رفيقًا تعاونهم على الطاعة وارتفاق بعضهم ببعض وأفرده إشارة إلى أن أهل الجنة يدخلون على قلب رجل واحد قاله السهيلي فالمراد بالرفيق هؤلاء المذكورون في الآية قال الحافظ وهو المعتمد وعليه الأكثر وفي حديث أبي موسى عند النسائي وصححه ابن حبان فقال اللهم الرفيق الأعلى الأسعد مع جبريل وميكائيل وإسرافيل وظاهره أن الرفيق المكان الذي تحصل المرافقة فيه مع المذكورين وهذه الأحاديث ترد زعم أن الرفيق تغيير من الراوي والصواب الرقيع بالقاف والعين المهملة وهو من أسماء السماء.
وقال ابن عبد البر هو أعلى الجنة والجوهري الجنة ويؤيده ما عند ابن إسحاق الرفيق الأعلى الجنة وقيل الرفيق الأعلى الله عز وجل لأنه من أسمائه ففي مسلم وأبي داود مرفوعًا أن الله رفيق يحب الرفيق وهو صفة ذات كالحليم أو صفة فعل وغلط الأزهري هذا القول ولا وجه له لأن تأويله على ما يليق بالله سائغ قال السهيلي الحكمة في اختتام كلام المصطفى بهذه الكلمة تضمنها التوحيد والذكر بالقلب حتى يستفاد منه الرخصة لغيره أنه لا يشترط أن يكون الذكر باللسان لأن بعض الناس قد يمنعه من النطق مانع فلا يضره إذا كان قلبه عامرًا بالذكر قال وفي بعض كتب الواقدي أول ما تكلم به صلى الله عليه وسلم وهو مسترضع عند حليمة الله أكبر وآخر ما تكلم به ما في حديث عائشة يعني في الصحيحين قالت عائشة فكانت آخر ما تكلم بها صلى الله عليه وسلم قوله اللهم الرفيق الأعلى وروى الحاكم عن أنس آخر ما تكلم به جلال ربي الرفيع قد بلغت ثم قضى وجمع بأن هذا آخر على الإطلاق بعد ما كرر اللهم الرفيق الأعلى قبل جلال أي أختار جلال ربي الرفيع قد بلغت ما أوحي إلي وحديث الباب رواه مسلم في المناقب حدثنا قتيبة بن سعيد عن مالك به وتابعه أبو أسامة وعبد الله بن نمير وعبدة بن سليمان كلهم عن هشام به في مسلم أيضًا وله طرق في الصحيحين وغيرهما ( مالك بلغه أن عائشة) أخرجه البخاري ومسلم من طريق إبراهيم بن سعد عن أبيه عن عروة عن عائشة ( قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما من نبي) أراد ما يشمل الرسول ( يموت حتى يخير) بضم أوله مبني للمفعول بين الدنيا والآخرة ( قالت فسمعته يقول) في مرضه الذي مات فيه وأخذته بحة شديدة كما في رواية سعد ( اللهم الرفيق الأعلى فعرفت أنه ذاهب) وفي الصحيحين من طريق الزهري عن عروة عنها كان صلى الله عليه وسلم وهو صحيح يقول أنه لم يقبض نبي قط حتى يرى مقعده ثم يحيا أو يخير فلما حضره القبض غشي عليه فلما أفاق شخص بصره نحو سقف البيت فقال اللهم في الرفيق الأعلى فقلت إذن لا يختارنا وعرفت أنه حديثه الذي كان يحدثنا وهو صحيح وفي مغازي أبي الأسود عن عروة أن جبريل نزل عليه في تلك الحالة فخيره وعند أحمد عن أبي مويهة قال قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم إني أوتيت مفاتيح خزائن الأرض والخلد ثم الجنة فخيرت بين ذلك وبين لقاء ربي والجنة فاخترت لقاء ربي والجنة ولعبد الرزاق من مرسل طاوس رفعه خيرت بين أن أبقى حتى أرى ما يفتح على أمتي وبين التعجيل فاخترت التعجيل ( مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر قال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي) أي فيهما قال الباجي العرض لا يكون إلا على حي يعلم ما يعرض عليه ويفهم ما يخاطب به قال ويحتمل غداة واحدة وعشية واحدة ويحتمل كل غداة وكل عشي وقال ابن التين يحتمل غداة واحدة وعشية واحدة يكون العرض فيهما ويكون معنى حتى يبعثك أي لا تصل إليه إلى يوم البعث ويحتمل كل غداة وعشي وهو محمول على أنه يحيا منه جزء ليدرك ذلك فغير ممتنع أن تعاد الحياة إلى جزء من الميت أو أجزاء وتصح مخاطبته والعرض عليه قال الحافظ والأول موافق لأحاديث سياق المسألة وعرض المقعدين على كل أحد وقال القرطبي يجوز أن هذا العرض على الروح فقط ويجوز أن يكون عليه مع جزء من البدن قال والمراد بالغداة والعشي وقتهما وإلا فالموتى لا صباح عندهم ولا مساء قال وهذا في حق المؤمن والكافر واضح وأما المؤمن المخلط فمحتمل أيضًا في حقه لأنه يدخل الجنة في الجملة ثم هو مخصوص بغير الشهداء ويحتمل أن يقال فائدة العرض في حقهم تبشير أرواحهم باستقرارها في الجنة مقترنة بأجسادها فإن فيه قدرًا زائدًا على ما هي فيه الآن ( إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة) اتحد فيه الشرط والجزاء لفظًا فلا بد من تقدير قال التوربشتي التقدير فمقعد من مقاعد أهل الجنة يعرض عليه وقال الطيبي الشرط والجزاء إذا اتحدا لفظًا دل على الفخامة والمراد أنه يرى بعد البعث من كرامة الله ما ينسيه هذا المقعد انتهى.
وعند مسلم بلفظ إن كان من أهل الجنة فالجنة أي فالمعروض الجنة ( وإن كان من أهل النار فمن أهل النار) أي فمقعده من مقاعد أهلها يعرض عليه أو يعلم بالعكس مما يسر به أهل الجنة لأن هذه المنزلة طليعة تباشير أهل السعادة الكبرى ومقدمة تباريح الشقاوة العظمى وفي ذلك تنعيم لمن هو من أهل الجنة وتعذيب لمن هو من أهل النار بمعاينة ما أعد له وانتظاره ذلك اليوم الموعود ( يقال له هذا مقعدك حتى يبعثك الله إلى يوم القيامة) كذا في رواية يحيى بلفظ إلى وللأكثر بحذفها وليحيى النيسابوري وابن القاسم إليه بالضمير حكاه ابن عبد البر قال والمعنى حتى يبعثك الله إلى هذا المقعد ويحتمل أن الضمير يعود إلى الله فإلى الله ترجع الأمور والأول أظهر قال الحافظ ويؤيده رواية الزهري عن سالم عن أبيه بلفظ ثم يقال هذا مقعدك الذي تبعث إليه يوم القيامة أخرجه مسلم وأخرج النسائي رواية ابن القاسم لكن بحذف إليه كالأكثرين وفيه إثبات عذاب القبر وأن الروح لا تفنى بفناء الجسد لأن العرض لا يقع إلا على حي قال ابن عبد البر واستدل به على أن الأرواح على أفنية القبور وهو الصحيح لأن الأحاديث بذلك أصح من غيرها والمعنى عندي أنها قد تكون على أفنية القبور لا أنها لا تفارقها بل هي كما قال مالك بلغني أن الأرواح تسرح حيث شاءت والحديث رواه البخاري عن إسماعيل ومسلم عن يحيى كلاهما عن مالك به ( مالك عن أبي الزناد) عبد الله بن ذكوان ( عن الأعرج) عبد الرحمن بن هرمز ( عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال كل ابن آدم تأكله الأرض) أي جميع جسمه وينعدم بالكلية أو المراد أنها باقية لكن زالت أعراضها المعهودة قال إمام الحرمين لم يدل قاطع سمعي على تعيين أحدهما ولا بعد أن تصير أجسام العباد بصفة أجسام التراب ثم تعاد بتركيبها إلى المعهود ( إلا عجب الذنب) بفتح العين وسكون الجيم وبالموحدة ويقال بالميم وهو العصعص أسفل العظم الهابط من الصلب فإنه قاعدة البدن كقاعدة الجدار فلا تأكله الأرض ( لأنه منه خلق) أي ابتدئ خلقه ( ومنه يركب) خلقه عند قيام الساعة وهذا أظهر من احتمال أن المراد منه ابتداء الخلق وابتداء التركيب وبالأول جزم الباجي فقال لأنه أول ما خلق من الإنسان وهو الذي يبقى منه ليعاد تركيب الخلق عليه قال ابن عبد البر هذا عموم يراد به الخصوص لما روي في أجساد الأنبياء والشهداء أن الأرض لا تأكلهم وحسبك ما جاء في شهداء أحد إذ أخرجوا بعد ست وأربعين سنة لينة أجسادهم يعني أطرافهم فكأنه قال من تأكله الأرض فلا تأكل منه عجب الذنب وإذا جاز أن لا تأكله جاز أن لا تأكل الشهداء وإنما في هذا التسليم لمن يجب له التسليم صلى الله عليه وسلم انتهى.
وزاد غيره الصديقين والعلماء العاملين والمؤذن المحتسب وحامل القرآن العامل به والمرابط والميت بالطاعون صابرًا محتسبًا والمكثر من ذكر الله والمحبين لله فتلك عشرة كاملة ( مالك عن ابن شهاب عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك الأنصاري) أبي الخطاب المدني من كبار التابعين ويقال ولد في العهد النبوي ومات في خلافة سليمان ( أنه أخبره أن أباه كعب بن مالك) السلمي المدني الصحابي المشهور أحد الثلاثة الذين خلفوا مات في خلافة علي رضي الله عنهما ( كان يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إنما نسمة المؤمن) بفتح النون والسين أي روحه وفي كتاب أبي القاسم الجوهري النسمة الروح والنفس والبدن وإنما يعني في هذا الحديث الروح قال الباجي ويحتمل عندي أن يريد به ما يكون فيه الروح من الميت قبل البعث ويحتمل أنه شيء من محل الروح تبقى فيه الروح ( طير يعلق) بالتحتية صفة طير وبفتح اللام رواية الأكثر كما قال ابن عبد البر وروي بضمها قال والمعنى واحد وهو الأكل والرعي ( في شجر الجنة) لتأكل من ثمارها وقال البوني معنى رواية الفتح تأوي والضم ترعى تقول العرب ما ذقت اليوم علوقًا وقال السهيلي يعلق بفتح اللام يتشبث بها ويرى مقعده منها ومن رواه بضم اللام فمعناه يصيب منها العلقة من الطعام فقد أصاب دون ما أصاب غيره ممن أدرك الرغد أي العيش الواسع فهو مثل مضروب يفهم منه هذا المعنى وإن أراد بتعلق الأكل نفسه فهو مخصوص بالشهيد فتكون رواية الضم للشهيد والفتح لمن دونهم والله أعلم بمراد رسوله انتهى واختلف في أن هذا الحديث عام في الشهداء وغيرهم إذا لم يحبسهم عن الجنة كبيرة ولا دين أو خاص بالشهداء دون غيرهم لأن القرآن والسنة لا يدلان إلا على ذلك حكاهما ابن عبد البر وذكر بعض أدلة الثاني وقال بحمله على الشهداء يزول ما ظنه قوم من معارضة هذا الحديث للحديث قبله في عرض المقعد لأنه إذا كان يسرح في الجنة فهو يراها في جميع أحيانه وليس كما قالوا إنما هذا في الشهداء خاصة وما قبله في سائر الناس واختار الأول ابن كثير فقال في هذا الحديث إن روح المؤمن تكون على شكل طير في الجنة وأما أرواح الشهداء ففي حواصل طير خضر ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها وتأوي إلى قناديل من ذهب في ظل العرش كما رواه أحمد عن ابن عباس مرفوعًا فهي كالراكب بالنسبة إلى أرواح عموم المؤمنين فإنها تطير بأنفسها فهو بشرى لكل مؤمن بأن روحه تكون في الجنة أيضًا وتسرح فيها وتأكل من ثمارها وترى ما فيها من النضرة والسرور ( حتى يرجعه الله إلى جسده يوم يبعثه) يوم القيامة قال وهذا حديث صحيح عزيز عظيم اجتمع فيه ثلاثة أئمة فرواه أحمد عن الشافعي عن مالك به انتهى ( مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: قال) الله ( تبارك وتعالى) هذا من الأحاديث الإلهية فيحتمل أن يكون صلى الله عليه وسلم تلقاه عن الله بلا واسطة أو بواسطة قاله الحافظ ( إذا أحب عبدي لقائي) عند حضور أجله إن عاين ما يحب أحب لقاء الله وإن عاين ما يكره لم يحب الخروج من الدنيا هذا معناه كما تشهد به الآثار المرفوعة وذلك حين لا تقبل توبة وليس المراد الموت لأنه لا يخلو من كراهته نبي ولا غيره ولكن المكروه من ذلك إيثار الدنيا وكراهة أن يصير إلى الله قاله ابن عبد البر ( أحببت لقاءه) أي أردت له الخير ( وإذا كره لقائي كرهت لقاءه) زاد في حديث عبادة في الصحيحين فقالت عائشة إنا لنكره الموت قال صلى الله عليه وسلم ليس ذاك ولكن المؤمن إذا حضره الموت بشر برضوان الله وكرامته فليس شيء أحب إليه مما أمامه فأحب لقاء الله وأحب الله لقاءه وأن الكافر إذا حضر بشر بعذاب الله وعقوبته فليس شيء أكره إليه مما أمامه فكره لقاء الله وكره الله لقاءه ولأحمد عن عائشة مرفوعًا إذا أراد الله بعبد خيرًا قيض الله له قبل موته بعام ملكًا يسدده ويوفقه حتى يقال مات بخير ما كان فإذا حضر ورأى إلى ثوابه اشتاقت نفسه فذلك حين أحب لقاء الله وأحب الله لقاءه وإذا أراد الله بعبد شرًا قيض الله له قبل موته بشهر شيطانًا فأضله وفتنه حتى يقال مات بشر ما كان عليه فإذا حضر ورأى ما أعد الله له من العذاب جزعت نفسه فذلك حين كره لقاء الله وكره الله لقاءه وقال الخطابي معنى محبة لقاء الله إيثار العبد الآخرة على الدنيا ولا يحب طول القيام فيها لكن يستعد للارتحال عنها واللقاء على وجوه منها الرؤية ومنها البعث كقوله تعالى { { قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله } } أي البعث ومنها الموت كقوله تعالى { { من كان يرجو لقاء الله فإن أجل الله لآت } } وقال ابن الأثير المراد باللقاء المصير إلى الدار الآخرة وطلب ما عند الله وليس الغرض به الموت لأن كلا يكرهه فمن ترك الدنيا وأبغضها أحب لقاء الله ومن آثرها وركن إليها كره لقاء الله ومحبة الله لقاء عبده إرادة الخير له وإنعامه عليه وفي الكواكب إن قيل الشرط ليس سببًا للجزاء بل الأمر بالعكس قلت مثله يؤول بالإخبار أي أخبره بأني أحببت لقاءه وكذا الكراهة والحديث رواه البخاري في التوحيد عن إسماعيل عن مالك به ( مالك عن أبي الزناد) بكسر الزاي والتخفيف ( عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال) هكذا رفعه أكثر رواة الموطأ ووقفه القعنبي ومصعب وذلك لا يضر في رفعه لأن رواته ثقات حفاظ ( قال رجل) قال الحافظ قيل اسمه جهينة وذلك أن في صحيح أبي عوانة أن هذا الرجل هو آخر أهل النار خروجًا منها وفي رواية مالك للخطيب عن ابن عمر آخر من يدخل الجنة رجل من جهينة يقول أهل الجنة عند جهينة الخبر اليقين ( لم يعمل حسنة قط) ليس فيه ما ينفي التوحيد عنه والعرب تقول مثل هذا في الأكثر من فعله كحديث لا يضع عصاه عن عاتقه وفي رواية لم يعمل خيرًا قط إلا التوحيد قاله ابن عبد البر وفي الصحيح ممن كان قبلكم يسيء الظن بعمله وفي رواية يسرف على نفسه وفي ابن حبان أنه كان نباشًا أي للقبور يسرق أكفان الموتى ( لأهله) وفي الصحيح من طريق ابن شهاب عن حميد عن أبي هريرة مرفوعًا فلما حضره الموت قال لبنيه ( إذا مات فحرقوه) وفي رواية الزهري إذا أنا مت فأحرقوني ثم اطحنوني ( ثم أذروا نصفه في البر ونصفه في البحر فوالله لئن قدر الله عليه) بخفة الدال وشدها من القدر وهو القضاء لا من القدرة والاستطاعة كقوله فظن أن لن نقدر عليه أو بمعنى ضيق كقوله تعالى { { ومن قدر عليه رزقه } } وقال بعض العلماء هذا رجل جهل بعض صفات الله وهي القدرة ولا يكفر جاهل بعضها وإنما يكفر من عاند الحق قاله أبو عمر ( ليعذبنه عذابًا لا يعذبه أحدًا من العالمين) الموحدين ( فلما مات الرجل فعلوا ما أمرهم به فأمر الله البر فجمع ما فيه وأمر الله البحر فجمع ما فيه) زاد في رواية الزهري فإذا هو قائم وزاد أبو عوانة في أسرع من طرفة عين وفيه دلالة على رد من زعم أن الخطاب لروحه لأن التحريق والتذرية إنما وقعا على الجسد وهو الذي جمع وأعيد ( ثم قال لم فعلت هذا قال من خشيتك يا رب وأنت أعلم) إني إنما فعلته من خشيتك أي خوف عقابك قال ابن عبد البر وذلك دليل على إيمانه إذ الخشية لا تكون إلا لمؤمن بل لعالم قال تعالى { { إنما يخشى الله من عباده العلماء } } ويستحيل أن يخافه من لا يؤمن به وقد روى الحديث قال رجل لم يعمل خيرًا قط إلا التوحيد وهذه اللفظة ترفع الإشكال في إيمانه والأصول تعضدها إن الله لا يغفر أن يشرك به وقد ( قال فغفر له) ولأبي عوانة من حديث حذيفة عن الصديق أنه آخر أهل الجنة دخولاً قال ابن التين ذهب المعتزلة إلى أن هذا الرجل إنما غفر له لتوبته التي تابها لأن قبولها واجب عقلاً عندهم والأشعري قطع بها سمعًا وغيره جوز القبول كسائر الطاعات وقال ابن المنير قبول التوبة عند المعتزلة واجب على الله تعالى عقلاً وعندنا واجب بحكم الوعد والفضل والإحسان إذ لو وجب القبول على الله عقلاً لاستحق الذم إن لم يقبل وهو محال لأن من كان كذلك يكون مستكملاً بالقبول والمستكمل بالغير ناقص بذاته وذلك في حق الله محال ولأن الذم إنما يمنع من الفعل من يتأذى لسماعه وينفر عنه طبعه ويظهر له بسببه نقص حال أما المتعالي عن الشهوة والنفرة والزيادة والنقص فلا يعقل تحقق الوجوب في حقه بهذا المعنى ولأنه تعالى تمدح بقبول التوبة في قوله { { ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده } } ولو كان واجبًا ما تمدح به لأن أداء الواجب لا يفيد المدح والثناء والتعظيم قال بعض المفسرين قبول التوبة من الكفر يقطع به على الله تعالى إجماعًا وهذا محمل الآية وأما المعاصي فيقطع بأنه يقبل التوبة منها من طائفة من الأمة واختلف هل يقبل توبة الجميع وأما إذا عين إنسان تائب فيرجى قبول توبته بلا قطع وأما إذا فرضنا تائبًا غير معين صحيح التوبة فقيل يقطع بقبول توبته وعليه طائفة منها الفقهاء والمحدثون لأنه تعالى أخبر عن نفسه بذلك وعلى هذا يلزم أن تقبل توبة جميع التائبين وذهب أبو المعالي وغيره إلى أن ذلك لا يقطع به على الله بل يقوي في الرجاء والقول الأول أرجح ولا فرق بين التوبة من الكفر والتوبة من المعاصي بدليل أن الإسلام يجب ما قبله والتوبة تجب ما قبلها انتهى.
والحديث رواه البخاري في التوحيد عن إسماعيل ومسلم من طريق روح كلاهما عن مالك به ( مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال كل مولود) أي من بني آدم صرح به جعفر بن ربيعة عن الأعرج عن أبي هريرة بلفظ كل بني آدم وكذا رواه خالد الواسطي عن عبد الرحمن بن إسحاق عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة ذكرهما ابن عبد البر ( يولد على الفطرة) عام في جميع المولودين على ظاهره وأصرح منه رواية البخاري ما من مولود إلا يولد على الفطرة ولمسلم ما من مولود إلا وهو على الملة وحكى ابن عبد البر عن قوم أنه لا يقتضي العموم وأن المراد كل من يولد على الفطرة وله أبوان غير مسلمين نقلاه إلى دينهما فالتقدير كل مولود يولد على الفطرة وأبواه يهوديان مثلاً فإنهما يهودانه ثم يصير عند بلوغه إلى ما يحكم به عليه ويكفي في الرد عليهم رواية مسلم عن أبي صالح عن أبي هريرة ليس من مولود إلا على هذه الفطرة حتى يعرب عنه لسانه وأصرح منها رواية كل بني آدم وأشهر الأقوال أن المراد بالفطرة الإسلام قال ابن عبد البر وهو المعروف عند عامة السلف وأجمع علماء التأويل على أن المراد بقوله تعالى { { فطرة الله التي فطر الناس عليها } } الإسلام واحتجوا بقول أبي هريرة عند الشيخين في آخر الحديث اقرؤوا إن شئتم { { فطرة الله } } الآية وبحديث عياض بن حماد عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه إني خلقت عبادي حنفاء كلهم فاختالتهم الشياطين عن دينهم الحديث ورواه غيره فقال حنفاء مسلمين ورجح بقوله تعالى { { فأقم وجهك للدين حنيفًا فطرة الله } } لأنها إضافة مدح وقد أمر الله نبيه بلزومها فعلم أنها الإسلام وحكى ابن عبد البر عن الأوزاعي وسحنون ورواه أبو داود عن حماد بن سلمة أن المراد حين أخذ الله العهد فقال ألست بربكم قالوا بلى قال الطيبي ويؤيده وجوه أحدها أن التعريف في الفطرة إشارة إلى معهود وهو قوله { { فطرة الله } } ومعنى { { فأقم وجهك } } أثبت على العهد القديم ثانيها مجيء رواية بلفظ الملة بدل الفطرة والدين في قوله { { للدين حنيفًا } } فهو عين الملة قال تعالى { { دينًا قيمًا ملة إبراهيم حنيفًا } } ثالثها التشبيه بالمحسوس المعاين ليفيد أن ظهوره يقع في البيان مبلغ هذا المحسوس قال والمراد تمكن الناس من الهدي في أصل الجبلة والتهيؤ لقبول الدين فلو ترك المرء عليها لاستمر على لزومها ولم يفارقها إلى غيرها لأن حسن هذا الدين ثابت في النفوس وإنما يعدل عنه لآفة من الآفات البشرية كالتقليد انتهى وإلى هذا مال القرطبي في المفهم فقال المعنى أن الله خلق قلوب بني آدم متأهلة لقبول الحق كما خلق أعينهم وأسماعهم قابلة للمرئيات والمسموعات فما دامت باقية على ذلك القبول وعلى تلك الأهلية أدركت الحق ودين الإسلام هو الدين الحق ودل على هذا المعنى بقية الحديث وقال ابن القيم ليس المراد أنه خرج من بطن أمه يعلم الدين لأن الله يقول { { والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئًا } } ولكن المراد أن فطرته مقتضية لمعرفة دين الإسلام ومحبته فنفس الفطرة تستلزم الإقرار والمحبة وليس المراد مجرد قبول الفطرة لذلك فإنه لا يتغير بتهويد الأبوين مثلاً بحيث يخرجان الفطرة عن القبول وإنما المراد أن كل مولود يولد على إقراره بالربوبية فلو خلى وعدم المعارض لم يعدل عن ذلك إلى غيره كما أنه يولد على محبة ما يلائم بدنه من ارتضاع اللبن حتى يصرفه عنه الصارف ومن ثم شبهت الفطرة باللبن بل كانت إياه في تأويل الرؤيا انتهى وقيل معناه أنه يولد على ما يصير إليه من شقاوة أو سعادة فمن علم الله أنه يصير مسلمًا ولد على الإسلام ومن علم أنه يصير كافرًا ولد على الكفر فكأنه أول الفطرة بالعلم وتعقب بأنه لو كان كذلك لم يكن لقوله فأبواه إلى آخره معنى لفعلهما به ما هو الفطرة التي ولد عليها فينافي التمثيل بحال البهيمة وقيل معناه أنه تعالى خلق فيهم المعرفة والإنكار فلما أخذ الميثاق من الذرية قالوا جميعًا بلى أما أهل السعادة فطوعًا وأما أهل الشقاوة فكرها وتعقب بأنه يحتاج إلى نقل صحيح فإنه لا يعرف هذا التفصيل عند أخذ الميثاق إلا عن السدي ولم يسنده وكأنه أخذه من الإسرائيليات وقيل الفطرة الخلقة أي يولد سالمًا لا يعرف كفرًا ولا إيمانًا ثم يعتقد إذا بلغ التكليف ورجحه ابن عبد البر وقال إنه يطابق التمثيل بالبهيمة ولا يخالف حديث عياض لأن المراد بقوله حنفاء أي على الاستقامة وتعقب بأنه لو كان كذلك لم يقتصر في أحوال التبديل على الكفر دون ملة الإسلام ولم يكن لاستشهاد أبي هريرة بالآية معنى وقيل اللام في الفطرة للعهد أي فطرة أبويه وهو متعقب بما ذكر في الذي قبله وحمله محمد بن الحسن الشيباني على أحكام الدنيا فادعى فيه النسخ فقال هذا في أول الإسلام قبل أن تنزل الفرائض والأمر بالجهاد قال أبو عبيد كأنه عنى أنه لو كان يولد على الإسلام فمات قبل أن يهوده أبواه مثلاً لم يرثاه والحكم أنهما يرثاه فدل على تغير الحكم ورده ابن عبد البر بأنه حاد عن الجواب وفي حديث الأسود بن سريع أن ذلك كان بعد الأمر بالجهاد وكذا رده غيره والحق أنه إخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم بما وقع في نفس الأمر ولم يرد إثبات أحكام الدنيا قال ابن القيم وسبب اختلاف العلماء في معنى الفطرة أن القدرية احتجوا بالحديث على أن الكفر والمعصية ليسا بقضاء الله بل مما ابتدأ الناس إحداثه فحاول جماعة من العلماء مخالفتهم بتأويل الفطرة على غير معنى الإسلام ولا يلزم من حملها عليه موافقة القدرية لحمله على أن ذلك يقع بتقدير الله ولذا احتج مالك عليهم بقوله الله أعلم بما كانوا عاملين انتهى.
روى أبو داود عن ابن وهب سمعت مالكًا وقيل له أن أهل الأهواء يحتجون علينا بهذا الحديث فقال مالك احتج عليهم بآخره الله أعلم بما كانوا عاملين ووجه ذلك أن القدرية استدلوا به على أن الله فطر العباد على الإسلام وأنه لا يضل أحدًا فإنما يضل الكافر أبواه فأشار مالك إلى رده بقوله الله أعلم فإنه دال على علمه بما يصيرون إليه بعد إيجادهم على الفطرة فهو دليل على تقدم العلم الذي ينكره غلاتهم ومن ثم قال الشافعي أهل القدر إن أثبتوا العلم خصموا ( فأبواه يهودانه أو ينصرانه) زاد ابن شهاب عن أبي سلمة عن أبي هريرة في الصحيحين أو يمجسانه قال الطيبي الفاء إما للتعقيب أو للسببية أو جزاء شرط مقدر أي إذا تقرر ذلك فمن تغير كان بسبب أبويه إما بتعليمهما إياه أو ترغيبهما فيه أو كونه تبعًا لهما في الدين يقتضي أن حكمه حكمهما وخص الأبوان بالذكر للغالب فلا حجة فيه لمن حكم بإسلام الطفل الذي يموت أبواه كافرين كما هو أحد قولي أحمد فقال استقر عمل الصحابة فمن بعدهم على عدم التعرض لأطفال أهل الذمة واستشكل الحديث بأنه يقتضي أن كل مولود يقع له التهود أو غيره مما ذكر مع أن كثيرًا يبقى مسلمًا لا يقع له شيء وأجيب بأن المراد أن الكفر ليس من ذات المولود ومقتضى طبعه بل إنما يحصل بسبب خارجي فإن سلم منه استمر على الحق ( كما تناتج) بفوقية فنون فألف ففوقية فجيم أي يولد ( الإبل من بهيمة جمعاء) بضم الجيم وسكون الميم والمد نعت لبهيمة أي لم يذهب من بدنها شيء سميت بذلك لاجتماع أعضائها ( هل تحس) بضم أوله وكسر ثانيه أي تبصر وفي رواية هل ترى ( فيها من جدعاء) بفتح الجيم وإسكان المهملة والمد أي مقطوعة الأنف أو الأذن أو الأطراف والجملة صفة أو حال أي بهيمة تقول فيها هذا القول أي كل من نظر إليها قاله لظهور سلامتها زاد في رواية في الصحيح حتى تكونوا أنتم تجدعونها قال الباجي يريد أن المولود يولد على الفطرة ثم يغيره بعد ذلك أبواه كما أن البهيمة تولد تامة لا جدع فيها من أصل الخلقة وإنما تجدع بعد ذلك ويغير خلقها وقال في المفهم يعني أن البهيمة تلد الولد كامل الخلقة فلو ترك كذلك كان بريا من العيب لكنهم تصرفوا فيه بقطع أذنه مثلاً فخرج عن الأصل وهو تشبيه واقع ووجهه واضح وقال الطيبي كما حال من الضمير المنصوب في يهودانه أي يهودان المولود بعد خلقه على الفطرة حال كونه شبيها بالبهيمة التي جدعت بعد أن خلقت سليمة أو صفة مصدر محذوف أي يغيرانه مثل تغييرهم البهيمة السليمة وقد تنازعت الأفعال الثلاثة في كما على التقديرين ( قالوا يا رسول الله أرأيت) أي أخبرنا من إطلاق السبب على المسبب لأن مشاهدة الأشياء طريق إلى الإخبار عنها أي قد رأيت ( الذي يموت وهو صغير) لم يبلغ الحلم أيدخل الجنة ( قال الله أعلم بما كانوا عاملين) قال ابن قتيبة أي لو أبقاهم فلا تحكموا عليهم بشيء وقال غيره أي علم أنهم لا يعملون شيئًا ولا يرجعون فيعملون أو أخبر بعلم الشيء لو وجد كيف يكون ولم يرد أنهم يجازون بذلك في الآخرة لأن العبد لا يجازى بما لم يعمل أو معناه أنه علم أنهم لم يعملوا ما يقتضي تعذيبهم ضرورة أنهم غير مكلفين وقال البيضاوي فيه إشارة إلى أن الثواب والعقاب لا لأجل الأعمال وإلا لزم أن تكون ذراري المسلمين والكافرين لا من أهل الجنة ولا من أهل النار بل الموجب لهما اللطف الرباني والخذلان الإلهي المقدر لهما في الأزل فالأولى فيهما التوقف وعدم الجزم بشيء فإن أعمالهم موكولة إلى علم الله فيما يعود إلى أمر الآخرة من الثواب والعقاب وقال النووي أجمع من يعتد به من علماء المسلمين أن من مات من أطفال المسلمين فهو من أهل الجنة لأنه ليس مكلفًا وتوقف فيه بعض من لا يعتد به لحديث عائشة في مسلم أنه صلى الله عليه وسلم دعي لجنازة صبي من الأنصار فقلت طوبى له عصفور من عصافير الجنة لم يعمل السوء ولم يدركه فقال أو غير ذلك يا عائشة أن الله خلق للجنة أهلا خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم وخلق للنار أهلا خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم وأجابوا عن هذا بأنه لعله نهاها عن المسارعة إلى القطع من غير أن يكون عندها دليل قاطع أو قاله قبل أن يعلم أن أطفال المسلمين في الجنة انتهى وأطلق ابن أبي زيد الإجماع في ذلك ولعله أراد إجماع من يعتد به وقال المازري الخلاف في غير أولاد الأنبياء انتهى وأما أطفال الكفار فاختلف العلماء قديمًا وحديثها فيهم على عشرة أقوال أحدها أنهم في المشيئة ونقل عن الحمادين وإسحاق وابن المبارك والشافعي قال ابن عبد البر وهو مقتضى صنيع مالك ولا نص عنه لكن صرح أصحابه بأن أطفال المسلمين في الجنة وأطفال الكفار في المشيئة والحجة فيه حديث ابن عباس وأبي هريرة في الصحيحين سئل صلى الله عليه وسلم عن أولاد المشركين فقال الله أعلم بما كانوا عاملين ثانيها أنهم تبع لآبائهم حكاه ابن حزم عن الأزارقة والخوارج ولأحمد عن عائشة سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ولدان المسلمين قال في الجنة وعن أولاد المشركين قال في النار فقلت لم يدركوا الأعمال قال ربك أعلم بما كانوا عاملين لو شئت أسمعتك تضاغيهم في النار وهو حديث ضعيف جدًا لأن في إسناده أبا عقيل مولى بهية وهو متروك ثالثها أنهم في برزخ بين الجنة والنار إذ لا حسنات لهم يدخلون بها الجنة ولا سيئات يدخلون بها النار رابعها أنهم خدم أهل الجنة روى الطيالسي وأبو يعلى والطبري والبزار مرفوعًا أولاد المشركين خدم أهل الجنة وإسناده ضعيف خامسها يصيرون ترابًا سادسها في النار حكاه عياض عن أحمد وغلطه ابن تيمية بأنه قول لبعض أصحابه ولا يحفظ عن الإمام أصلاً وهو غير الثاني لأنهم تبع لآبائهم لأنه لا يلزم من كونهم في النار أن يكونوا مع آبائهم كما أن عصاة الموحدين في النار لا مع الكفار سابعها يمتحنون في الآخرة بأن ترفع لهم نار فمن دخلها كانت عليه بردًا وسلامًا ومن أبى عذب أخرجه البزار من حديث أنس وأبي سعيد والطبراني من حديث معاذ وقد صحت مسألة الامتحان في حق المجنون ومن مات في الفترة من طرق صحيحة وحكى البيهقي أنه المذهب الصحيح وتعقب بأن الآخرة ليست دار تكليف فلا عمل فيها ولا ابتلاء وأجيب بأن ذلك بعد الاستقرار في الجنة أو النار وأما في عرصات القيامة فلا مانع من ذلك وقد قال تعالى { { يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون } } وفي الصحيحين أن الناس يؤمرون بالسجود فيصير ظهر المنافق طبقًا فلا يستطيع أن يسجد ثامنها الوقف تاسعها الإمساك وفي الفرق بينهما دقة عاشرها أنهم في الجنة قال النووي وهو المذهب الصحيح المختار الذي صار إليه المحققون لقوله تعالى { { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً } } وإذا لم يعذب العاقل لأنه لم تبلغه دعوة فأولى غيره انتهى.
وفي حديث سمرة عند البخاري في رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم الشيخ في أصل الشجرة إبراهيم والصبيان حوله فأولاد الناس وهو عام يشمل أولاد المسلمين وغيرهم وروى ابن عبد البر من طريق أبي معاذ عن الزهري عن عروة عن عائشة قال سألت خديجة النبي صلى الله عليه وسلم عن أولاد المشركين فقال هم مع آبائهم ثم سألته بعد ذلك فقال الله أعلم بما كانوا عاملين ثم سألته بعدما استحكم الإسلام فنزلت { { ولا تزر وازرة وزر أخرى } } فقال هم على الفطرة وقال في الجنة قال الحافظ وأبو معاذ هو سليمان بن أرقم وهو ضعيف ولو صح هذا لكان قاطعًا للنزاع انتهى.
وحديث الباب له طرق كثيرة في الصحيحين وغيرهما ( مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل بقبر الرجل فيقول يا ليتني مكانه) أي ميتًا وذلك عند ظهور الفتن وخوف ذهاب الدين لغلبة الباطل وأهله وظهور المعاصي أو ما يقع لبعضهم من المصيبة في نفسه أو أهله أو دنياه وإن لم يكن في ذلك شيء يتعلق بدينه وعند مسلم من طريق أبي حازم عن أبي هريرة مرفوعًا لا تذهب الدنيا حتى يمر الرجل على القبر فيتمرغ عليه ويقول يا ليتني مكان صاحب هذا القبر وليس به الدين إلا البلاء وعن ابن مسعود قال سيأتي عليكم زمان لو وجد أحدكم الموت يباع لاشتراه وعليه قول الشاعر

وهذا العيش ما لا خير فيه
ألا موت يباع فأشتريه

وسبب ذلك أنه يقع البلاء والشدة حتى يكون الموت الذي هو أعظم المصائب أهون على المرء فيتمنى أهون المصيبتين في اعتقاده وذكر الرجل للغالب وإلا فالمرأة يمكن أن تتمنى الموت لذلك أيضًا لكن لما كان الغالب أن الرجال هم المبتلون بالشدائد والنساء محجبات لا يصلين نار الفتنة خصهم كما قيل

كتب القتل والقتال علينا
وعلى الغانيات جر الذيول

قال الحافظ العراقي ولا يلزم كونه في كل بلد ولا كل زمن ولا في جميع الناس بل يصدق على اتفاقه للبعض في بعض الأقطار في بعض الأزمان وفي تعليق تمنيه بالمرور إشعار بشدة ما نزل بالناس من فساد الحال حالتئذ إذ المرء قد يتمنى الموت من غير استحضار شيء فإذا شاهد الموتى ورأى القبور نشز بطبعه ونفر بسجيته من تمنيه فلقوة الشدة لم يصرفه عنه ما شاهده من وحشة القبور ولا يناقض هذا النهي عن تمني الموت لأن هذا الحديث إخبار عما يكون وليس فيه تعرض لحكم شرعي وقال ابن عبد البر لا يعارض هذا قوله صلى الله عليه وسلم لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به وقول خباب بن الأرت لولا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهانا أن ندعو بالموت لدعوت به لأنه إخبار بشدة ما ينزل بالناس من فساد الدين لا لضرر يصيب جسمه يحط خطاياه وقد قال عتيق الغفاري زمن الطاعون يا طاعون خذني إليك فقيل ألم يأت النهي عن تمني الموت فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول بادروا بالموت إمرة السفهاء وكثرة الشرط وبيع الحكم واستخفافًا بالدم وقطيعة الرحم , ونساء يتخذون مزامير يقدمون الرجل يغنيهم بالقرآن وإن كان أقلهم فقهًا ويوضح ذلك قوله صلى الله عليه وسلم وإذا أردت بالناس فتنة فاقبضني إليك غير مفتون وقول عمر اللهم قد ضعفت قوتي وكبرت سني وانتشرت رعيتي فاقبضني إليك غير مضيع ولا مفرط انتهى.
وهو ناظر إلى أن المعنى الأول هو المراد بالحديث ورواه الشيخان في الفتن البخاري عن إسماعيل ومسلم عن قتيبة بن سعيد كلاهما عن مالك به ( مالك عن محمد بن عمرو) بفتح العين ( ابن حلحلة) بحاءين مهملتين مفتوحتين ولامين أولاهما ساكنة والثانية مفتوحة زاد ابن وضاح ( الديلي) بكسر الدال وسكون التحتية المدني ( عن معبد) بفتح الميم وسكون العين وموحدة ( ابن كعب بن مالك) الأنصاري السلمي المدني ( عن أبي قتادة) الحارث ويقال عمرو ويقال النعمان ( ابن ربعي) بكسر الراء وسكون الموحدة وعين مهملة السلمي المدني شهد أحدًا وما بعدها ولم يصح شهوده بدرًا ومات سنة أربع وخمسين وقيل سنة ثمان وثلاثين والأول أصح وأشهر قال ابن عبد البر هكذا الحديث في الموطآت بهذا الإسناد وأخطأ فيه سويد بن سعيد عن مالك فقال عن معبد بن كعب عن أبيه وليس بشيء ( أنه كان يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر) بضم الميم وشد الراء ( عليه بجنازة فقال مستريح ومستراح منه) قال ابن الأثير يقال أراح الرجل واستراح إذا رجعت إليه نفسه بعد الإعياء انتهى والواو بمعنى أو فهي للتنويع أي لا يخلو ابن آدم من هذين المعنيين فلا يختص بصاحب الجنازة ( قالوا يا رسول الله ما المستريح والمستراح منه) وفي رواية الدارقطني بإعادة ما ( قال العبد المؤمن) المتقي خاصة أو كل مؤمن ( يستريح من نصب الدنيا) بفتحتين تعبها ومشقتها ( وأذاها) وهو عطف عام على خاص ( إلى رحمة الله) تعالى قال مسروق ما غبطت شيئًا لشيء كمؤمن في لحده أمن من عذاب الله واستراح من الدنيا ( والعبد الفاجر) الكافر أو العاصي ( يستريح منه العباد) أي من ظلمه لهم وقول الداودي لما يأتي به من المنكر فإن أنكروا آذاهم وإن تركوه أثموا رده الباجي بأنه لا يأثم تارك الإنكار إذا ناله أذى ويكفيه أن ينكر بقلبه ( والبلاد) بما يفعله فيها من المعاصي فيحصل الجدب فيهلك الحرث والنسل أو لغصبها ومنعها من حقها ( والشجر) لقلعه إياها غصبًا أو غصب ثمرها ( والدواب) لاستعماله لها فوق طاقتها وتقصيره في علفها وسقيها وقال الطيبي أما استراحة البلاد والأشجار فإن الله تعالى بفقده يرسل السماء مدرارًا ويحيي به الأرض والشجر والدواب بعدما حبس بشؤم ذنوبه الأمطار لكن إسناد الراحة إليها مجاز إذ الراحة إنما هي لمالكها والحديث رواه البخاري عن إسماعيل ومسلم عن قتيبة بن سعيد كلاهما عن مالك به ( مالك عن أبي النضر) سالم بن أبي أمية ( مولى عمر بن عبيد الله) بضم العينين القرشي ( أنه قال) وصله ابن عبد البر من طريق يحيى بن سعيد عن القاسم عن عائشة ( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما مات عثمان بن مظعون) بالظاء المعجمة ابن حبيب بن وهب بن حذافة القرشي الجمحي أسلم قديمًا وهاجر إلى الحبشة الهجرة الأولى وروى ابن شاهين والبيهقي عنه قلت يا رسول الله إني رجل تشق علي الغربة في المغازي فتأذن لي في الخصاء فأختصي فقال لا ولكن عليك يا ابن مظعون بالصوم وفي الصحيحين عن سعد بن أبي وقاص رد النبي صلى الله عليه وسلم على عثمان بن مظعون التبتل ولو أذن له لاختصينا توفي بعد شهوده بدرًا في السنة الثانية من الهجرة وهو أول من مات بالمدينة من المهاجرين وأول من دفن منهم بالبقيع ( ومر بجنازته) عليه ( ذهبت ولم تلبس) بحذف إحدى التاءين ولابن وضاح تتلبس بتاءين ( منها) أي الدنيا ( بشيء) كثير لأنه تلبس بشيء منها لا محالة وفيه مدح الزهد في الدنيا وذم الاستكثار منها والثناء على المرء بما فيه وروى الترمذي عن عائشة قبل النبي صلى الله عليه وسلم عثمان بن مظعون وهو ميت وهو يبكي وعيناه تذرفان فلما توفي ابنه إبراهيم قال ألحق بسلفنا الصالح عثمان بن مظعون ( مالك عن علقمة بن أبي علقمة) بلال المدني مولى عائشة وهو علقمة ابن أم علقمة ثقة علامة مات سنة بضع وثلاثين ومائة ( عن أمه) مرجانة وتكنى بابنها تابعية ثقة وهي مولاة عائشة بلا خلاف ( أنها قالت سمعت عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم تقول قام رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فلبس ثيابه ثم خرج فأمرت جاريتي بريرة) بموحدة مفتوحة وراءين بلا نقط بينهما تحتية ساكنة ثم هاء صحابية مشهورة عاشت إلى زمن يزيد بن معاوية ( تتبعه) لتستفيد علمًا ويحتمل غيرة منها مخافة أن يأتي بعض حجر نسائه وقد روي ذلك قاله الباجي ( فتبعته حتى جاء البقيع) بالموحدة اتفاقًا ( فوقف في أدناه) أقربه ( ما شاء الله أن يقف ثم انصرف فسبقته بريرة فأخبرتني) بما فعل ( فلم أذكر له شيئًا حتى أصبح ثم ذكرت ذلك له فقال إني بعثت إلى أهل البقيع لأصلي عليهم) قال ابن عبد البر يحتمل أن الصلاة هنا الدعاء والاستغفار وأن تكون كالصلاة على الموتى خصوصية له لأن صلاته على من صلى عليه رحمة فكأنه أمر أن يستغفر لهم وللإجماع على أنه لا يصلي على قبر مرتين ولا يصلي على قبر من صلى إلا بحدثان ذلك وأكثر ما قيل ستة أشهر قال وإما بعثه ومسيره إليهم فلا يدرى لمثل هذا علة ويحتمل أن يكون ليعلمهم بالصلاة منه عليهم لأنه ربما دفن منهم من لم يصل عليه كالمسكينة ومثلها من دفن ليلاً ولم يشعر به ليكون مساويًا بينهم في صلاته عليهم ولا يؤثر بعضهم بذلك ليتم عدله وجاء حديث حسن يدل على أن ذلك كان منه حين خير فخرج إليه كالمودع للأحياء والأموات ثم أخرجه عن أبي مويهة مرفوعًا إني قد أمرت أن أستغفر لأهل البقيع فاستغفر لهم ثم انصرف فأقبل علي فقال يا أبا مويهة إن الله قد خيرني في مفاتيح خزائن الدنيا والخلد فيها ثم الجنة ولقاء ربي فاخترت لقاء ربي فأصبح من تلك الليلة فبدأه وجعه الذي مات منه صلى الله عليه وسلم وهذا الحديث رواه النسائي عن محمد بن سلمة والحارث بن مسكين كلاهما عن ابن القاسم عن مالك به ( مالك عن نافع أن أبا هريرة قال) كذا وقفه جمهور رواة الموطأ ورواه الوليد بن مسلم عن مالك عن نافع عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يتابع على ذلك عن مالك ولكنه مرفوع من طريق أيوب عن نافع عن أبي هريرة ومن طريق الزهري عن ابن المسيب عن أبي هريرة قاله ابن عبد البر ومن طريق الزهري رواه البخاري ومسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال ( أسرعوا) بهمزة قطع ( بجنائزكم) أي بحملها إلى قبرها إسراعًا خفيفًا فوق المشي المعتاد والخبب بحيث لا يشق على ضعفة من يتبعها ولا على حاملها ولا يحدث مفسدة بالميت والأمر للاستحباب باتفاق العلماء وشذ ابن حزم فقال بوجوبه وقيل المراد شدة المشي وهو قول الحنفية وبعض السلف ومال عياض إلى نفي الخلاف فقال من استحبه أراد الزيادة على المشي المعتاد ومن كرهه أراد الإفراط كالرمل والحاصل أنه يستحب الإسراع لكن بحيث لا ينتهي إلى شدة يخاف منها حدوث مفسدة بالميت ومشقة على الحامل أو المشيع لئلا ينافي المقصود من النظافة وإدخال المشقة على المسلم قال القرطبي مقصود الحديث أن لا يبطأ بالميت عن الدفن ولأن البطء ربما أدى إلى التباهي والاحتفال قال ابن عبد البر وتأوله قوم على تعجيل الدفن لا المشي وليس كما ظنوا ويرده قوله تضعونه عن رقابكم وتبعه النووي فقال إنه باطل مردود بهذا وتعقبه الفاكهاني بأن الحمل على الرقاب قد يعبر به عن المعاني كما يقول حمل فلان على رقبته ديونًا فيكون المعنى استريحوا من نظر من لا خير فيه قال ويؤيده أن الكل لا يحملونه قال الحافظ ويؤيده حديث ابن عمر سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إذا مات أحدكم فلا تحبسوه وأسرعوا به إلى قبره أخرجه الطبراني بإسناد حسن ولأبي داود عن حصين بن وحوح مرفوعًا لا ينبغي لجيفة مسلم أن تبقى بين ظهراني أهله ( فإنما هو خير تقدمونه) كذا في الأصول والقياس تقدمونها أي الجنائز ( إليه) أي الخير باعتبار الثواب والإكرام الحاصل له في قبره فيسرع به ليلقاه قريبًا قال ابن مالك وروي إليها بتأنيث الضمير على تأويل الخبر بالرحمة أو الحسنى ( أو شر تضعونه عن رقابكم) فلا مصلحة لكم في مصاحبته لأنها بعيدة من الرحمة ويؤخذ منه ترك صحبة أهل البطالة وغير الصالحين وفيه ندب المبادرة بدفن الميت لكن بعد تحقق أنه مات أما مثل المطعون والمسبوت والمفلوج فينبغي أن لا يسرع بتجهيزهم حتى يمضي يوم وليلة ليتحقق موتهم نبه عليه ابن بزيزة، والله تعالى أعلم.



رقم الحديث 576 وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ الْأَنْصَارِيِّ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّ أَبَاهُ كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ كَانَ يُحَدِّثُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِنَّمَا نَسَمَةُ الْمُؤْمِنِ طَيْرٌ يَعْلَقُ فِي شَجَرِ الْجَنَّةِ، حَتَّى يَرْجِعَهُ اللَّهُ إِلَى جَسَدِهِ يَوْمَ يَبْعَثُهُ.


( جامع الجنائز)

( مالك عن هشام بن عروة عن عباد) بشد الموحدة ( ابن عبد الله بن الزبير) بن العوام كان قاضي مكة زمن أبيه وخليفته إذا حج ( أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أخبرته أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت وهو مستند إلى صدرها وأصغت) بإسكان الصاد المهملة وفتح الغين المعجمة أي أمالت سمعها ( إليه يقول) وفي رواية قتيبة وهو يقول ( اللهم اغفر لي وارحمني) فيه ندب الدعاء بهما ولا سيما عند الموت وإذا دعا بذلك المصطفى فأين غيره منه والدعاء مخ العبادة لما فيه من الإخلاص والخضوع والضراعة والرجاء وذلك صريح الإيمان ( وألحقني) بهمزة قطع ( بالرفيق الأعلى) وفي البخاري من رواية ذكوان عن عائشة فجعل يقول في الرفيق الأعلى حتى قبض ومالت يده ولأحمد من رواية المطلب عن عائشة فقال مع الرفيق الأعلى مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين إلى قوله رفيقًا ومعنى كونهم رفيقًا تعاونهم على الطاعة وارتفاق بعضهم ببعض وأفرده إشارة إلى أن أهل الجنة يدخلون على قلب رجل واحد قاله السهيلي فالمراد بالرفيق هؤلاء المذكورون في الآية قال الحافظ وهو المعتمد وعليه الأكثر وفي حديث أبي موسى عند النسائي وصححه ابن حبان فقال اللهم الرفيق الأعلى الأسعد مع جبريل وميكائيل وإسرافيل وظاهره أن الرفيق المكان الذي تحصل المرافقة فيه مع المذكورين وهذه الأحاديث ترد زعم أن الرفيق تغيير من الراوي والصواب الرقيع بالقاف والعين المهملة وهو من أسماء السماء.
وقال ابن عبد البر هو أعلى الجنة والجوهري الجنة ويؤيده ما عند ابن إسحاق الرفيق الأعلى الجنة وقيل الرفيق الأعلى الله عز وجل لأنه من أسمائه ففي مسلم وأبي داود مرفوعًا أن الله رفيق يحب الرفيق وهو صفة ذات كالحليم أو صفة فعل وغلط الأزهري هذا القول ولا وجه له لأن تأويله على ما يليق بالله سائغ قال السهيلي الحكمة في اختتام كلام المصطفى بهذه الكلمة تضمنها التوحيد والذكر بالقلب حتى يستفاد منه الرخصة لغيره أنه لا يشترط أن يكون الذكر باللسان لأن بعض الناس قد يمنعه من النطق مانع فلا يضره إذا كان قلبه عامرًا بالذكر قال وفي بعض كتب الواقدي أول ما تكلم به صلى الله عليه وسلم وهو مسترضع عند حليمة الله أكبر وآخر ما تكلم به ما في حديث عائشة يعني في الصحيحين قالت عائشة فكانت آخر ما تكلم بها صلى الله عليه وسلم قوله اللهم الرفيق الأعلى وروى الحاكم عن أنس آخر ما تكلم به جلال ربي الرفيع قد بلغت ثم قضى وجمع بأن هذا آخر على الإطلاق بعد ما كرر اللهم الرفيق الأعلى قبل جلال أي أختار جلال ربي الرفيع قد بلغت ما أوحي إلي وحديث الباب رواه مسلم في المناقب حدثنا قتيبة بن سعيد عن مالك به وتابعه أبو أسامة وعبد الله بن نمير وعبدة بن سليمان كلهم عن هشام به في مسلم أيضًا وله طرق في الصحيحين وغيرهما ( مالك بلغه أن عائشة) أخرجه البخاري ومسلم من طريق إبراهيم بن سعد عن أبيه عن عروة عن عائشة ( قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما من نبي) أراد ما يشمل الرسول ( يموت حتى يخير) بضم أوله مبني للمفعول بين الدنيا والآخرة ( قالت فسمعته يقول) في مرضه الذي مات فيه وأخذته بحة شديدة كما في رواية سعد ( اللهم الرفيق الأعلى فعرفت أنه ذاهب) وفي الصحيحين من طريق الزهري عن عروة عنها كان صلى الله عليه وسلم وهو صحيح يقول أنه لم يقبض نبي قط حتى يرى مقعده ثم يحيا أو يخير فلما حضره القبض غشي عليه فلما أفاق شخص بصره نحو سقف البيت فقال اللهم في الرفيق الأعلى فقلت إذن لا يختارنا وعرفت أنه حديثه الذي كان يحدثنا وهو صحيح وفي مغازي أبي الأسود عن عروة أن جبريل نزل عليه في تلك الحالة فخيره وعند أحمد عن أبي مويهة قال قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم إني أوتيت مفاتيح خزائن الأرض والخلد ثم الجنة فخيرت بين ذلك وبين لقاء ربي والجنة فاخترت لقاء ربي والجنة ولعبد الرزاق من مرسل طاوس رفعه خيرت بين أن أبقى حتى أرى ما يفتح على أمتي وبين التعجيل فاخترت التعجيل ( مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر قال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي) أي فيهما قال الباجي العرض لا يكون إلا على حي يعلم ما يعرض عليه ويفهم ما يخاطب به قال ويحتمل غداة واحدة وعشية واحدة ويحتمل كل غداة وكل عشي وقال ابن التين يحتمل غداة واحدة وعشية واحدة يكون العرض فيهما ويكون معنى حتى يبعثك أي لا تصل إليه إلى يوم البعث ويحتمل كل غداة وعشي وهو محمول على أنه يحيا منه جزء ليدرك ذلك فغير ممتنع أن تعاد الحياة إلى جزء من الميت أو أجزاء وتصح مخاطبته والعرض عليه قال الحافظ والأول موافق لأحاديث سياق المسألة وعرض المقعدين على كل أحد وقال القرطبي يجوز أن هذا العرض على الروح فقط ويجوز أن يكون عليه مع جزء من البدن قال والمراد بالغداة والعشي وقتهما وإلا فالموتى لا صباح عندهم ولا مساء قال وهذا في حق المؤمن والكافر واضح وأما المؤمن المخلط فمحتمل أيضًا في حقه لأنه يدخل الجنة في الجملة ثم هو مخصوص بغير الشهداء ويحتمل أن يقال فائدة العرض في حقهم تبشير أرواحهم باستقرارها في الجنة مقترنة بأجسادها فإن فيه قدرًا زائدًا على ما هي فيه الآن ( إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة) اتحد فيه الشرط والجزاء لفظًا فلا بد من تقدير قال التوربشتي التقدير فمقعد من مقاعد أهل الجنة يعرض عليه وقال الطيبي الشرط والجزاء إذا اتحدا لفظًا دل على الفخامة والمراد أنه يرى بعد البعث من كرامة الله ما ينسيه هذا المقعد انتهى.
وعند مسلم بلفظ إن كان من أهل الجنة فالجنة أي فالمعروض الجنة ( وإن كان من أهل النار فمن أهل النار) أي فمقعده من مقاعد أهلها يعرض عليه أو يعلم بالعكس مما يسر به أهل الجنة لأن هذه المنزلة طليعة تباشير أهل السعادة الكبرى ومقدمة تباريح الشقاوة العظمى وفي ذلك تنعيم لمن هو من أهل الجنة وتعذيب لمن هو من أهل النار بمعاينة ما أعد له وانتظاره ذلك اليوم الموعود ( يقال له هذا مقعدك حتى يبعثك الله إلى يوم القيامة) كذا في رواية يحيى بلفظ إلى وللأكثر بحذفها وليحيى النيسابوري وابن القاسم إليه بالضمير حكاه ابن عبد البر قال والمعنى حتى يبعثك الله إلى هذا المقعد ويحتمل أن الضمير يعود إلى الله فإلى الله ترجع الأمور والأول أظهر قال الحافظ ويؤيده رواية الزهري عن سالم عن أبيه بلفظ ثم يقال هذا مقعدك الذي تبعث إليه يوم القيامة أخرجه مسلم وأخرج النسائي رواية ابن القاسم لكن بحذف إليه كالأكثرين وفيه إثبات عذاب القبر وأن الروح لا تفنى بفناء الجسد لأن العرض لا يقع إلا على حي قال ابن عبد البر واستدل به على أن الأرواح على أفنية القبور وهو الصحيح لأن الأحاديث بذلك أصح من غيرها والمعنى عندي أنها قد تكون على أفنية القبور لا أنها لا تفارقها بل هي كما قال مالك بلغني أن الأرواح تسرح حيث شاءت والحديث رواه البخاري عن إسماعيل ومسلم عن يحيى كلاهما عن مالك به ( مالك عن أبي الزناد) عبد الله بن ذكوان ( عن الأعرج) عبد الرحمن بن هرمز ( عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال كل ابن آدم تأكله الأرض) أي جميع جسمه وينعدم بالكلية أو المراد أنها باقية لكن زالت أعراضها المعهودة قال إمام الحرمين لم يدل قاطع سمعي على تعيين أحدهما ولا بعد أن تصير أجسام العباد بصفة أجسام التراب ثم تعاد بتركيبها إلى المعهود ( إلا عجب الذنب) بفتح العين وسكون الجيم وبالموحدة ويقال بالميم وهو العصعص أسفل العظم الهابط من الصلب فإنه قاعدة البدن كقاعدة الجدار فلا تأكله الأرض ( لأنه منه خلق) أي ابتدئ خلقه ( ومنه يركب) خلقه عند قيام الساعة وهذا أظهر من احتمال أن المراد منه ابتداء الخلق وابتداء التركيب وبالأول جزم الباجي فقال لأنه أول ما خلق من الإنسان وهو الذي يبقى منه ليعاد تركيب الخلق عليه قال ابن عبد البر هذا عموم يراد به الخصوص لما روي في أجساد الأنبياء والشهداء أن الأرض لا تأكلهم وحسبك ما جاء في شهداء أحد إذ أخرجوا بعد ست وأربعين سنة لينة أجسادهم يعني أطرافهم فكأنه قال من تأكله الأرض فلا تأكل منه عجب الذنب وإذا جاز أن لا تأكله جاز أن لا تأكل الشهداء وإنما في هذا التسليم لمن يجب له التسليم صلى الله عليه وسلم انتهى.
وزاد غيره الصديقين والعلماء العاملين والمؤذن المحتسب وحامل القرآن العامل به والمرابط والميت بالطاعون صابرًا محتسبًا والمكثر من ذكر الله والمحبين لله فتلك عشرة كاملة ( مالك عن ابن شهاب عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك الأنصاري) أبي الخطاب المدني من كبار التابعين ويقال ولد في العهد النبوي ومات في خلافة سليمان ( أنه أخبره أن أباه كعب بن مالك) السلمي المدني الصحابي المشهور أحد الثلاثة الذين خلفوا مات في خلافة علي رضي الله عنهما ( كان يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إنما نسمة المؤمن) بفتح النون والسين أي روحه وفي كتاب أبي القاسم الجوهري النسمة الروح والنفس والبدن وإنما يعني في هذا الحديث الروح قال الباجي ويحتمل عندي أن يريد به ما يكون فيه الروح من الميت قبل البعث ويحتمل أنه شيء من محل الروح تبقى فيه الروح ( طير يعلق) بالتحتية صفة طير وبفتح اللام رواية الأكثر كما قال ابن عبد البر وروي بضمها قال والمعنى واحد وهو الأكل والرعي ( في شجر الجنة) لتأكل من ثمارها وقال البوني معنى رواية الفتح تأوي والضم ترعى تقول العرب ما ذقت اليوم علوقًا وقال السهيلي يعلق بفتح اللام يتشبث بها ويرى مقعده منها ومن رواه بضم اللام فمعناه يصيب منها العلقة من الطعام فقد أصاب دون ما أصاب غيره ممن أدرك الرغد أي العيش الواسع فهو مثل مضروب يفهم منه هذا المعنى وإن أراد بتعلق الأكل نفسه فهو مخصوص بالشهيد فتكون رواية الضم للشهيد والفتح لمن دونهم والله أعلم بمراد رسوله انتهى واختلف في أن هذا الحديث عام في الشهداء وغيرهم إذا لم يحبسهم عن الجنة كبيرة ولا دين أو خاص بالشهداء دون غيرهم لأن القرآن والسنة لا يدلان إلا على ذلك حكاهما ابن عبد البر وذكر بعض أدلة الثاني وقال بحمله على الشهداء يزول ما ظنه قوم من معارضة هذا الحديث للحديث قبله في عرض المقعد لأنه إذا كان يسرح في الجنة فهو يراها في جميع أحيانه وليس كما قالوا إنما هذا في الشهداء خاصة وما قبله في سائر الناس واختار الأول ابن كثير فقال في هذا الحديث إن روح المؤمن تكون على شكل طير في الجنة وأما أرواح الشهداء ففي حواصل طير خضر ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها وتأوي إلى قناديل من ذهب في ظل العرش كما رواه أحمد عن ابن عباس مرفوعًا فهي كالراكب بالنسبة إلى أرواح عموم المؤمنين فإنها تطير بأنفسها فهو بشرى لكل مؤمن بأن روحه تكون في الجنة أيضًا وتسرح فيها وتأكل من ثمارها وترى ما فيها من النضرة والسرور ( حتى يرجعه الله إلى جسده يوم يبعثه) يوم القيامة قال وهذا حديث صحيح عزيز عظيم اجتمع فيه ثلاثة أئمة فرواه أحمد عن الشافعي عن مالك به انتهى ( مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: قال) الله ( تبارك وتعالى) هذا من الأحاديث الإلهية فيحتمل أن يكون صلى الله عليه وسلم تلقاه عن الله بلا واسطة أو بواسطة قاله الحافظ ( إذا أحب عبدي لقائي) عند حضور أجله إن عاين ما يحب أحب لقاء الله وإن عاين ما يكره لم يحب الخروج من الدنيا هذا معناه كما تشهد به الآثار المرفوعة وذلك حين لا تقبل توبة وليس المراد الموت لأنه لا يخلو من كراهته نبي ولا غيره ولكن المكروه من ذلك إيثار الدنيا وكراهة أن يصير إلى الله قاله ابن عبد البر ( أحببت لقاءه) أي أردت له الخير ( وإذا كره لقائي كرهت لقاءه) زاد في حديث عبادة في الصحيحين فقالت عائشة إنا لنكره الموت قال صلى الله عليه وسلم ليس ذاك ولكن المؤمن إذا حضره الموت بشر برضوان الله وكرامته فليس شيء أحب إليه مما أمامه فأحب لقاء الله وأحب الله لقاءه وأن الكافر إذا حضر بشر بعذاب الله وعقوبته فليس شيء أكره إليه مما أمامه فكره لقاء الله وكره الله لقاءه ولأحمد عن عائشة مرفوعًا إذا أراد الله بعبد خيرًا قيض الله له قبل موته بعام ملكًا يسدده ويوفقه حتى يقال مات بخير ما كان فإذا حضر ورأى إلى ثوابه اشتاقت نفسه فذلك حين أحب لقاء الله وأحب الله لقاءه وإذا أراد الله بعبد شرًا قيض الله له قبل موته بشهر شيطانًا فأضله وفتنه حتى يقال مات بشر ما كان عليه فإذا حضر ورأى ما أعد الله له من العذاب جزعت نفسه فذلك حين كره لقاء الله وكره الله لقاءه وقال الخطابي معنى محبة لقاء الله إيثار العبد الآخرة على الدنيا ولا يحب طول القيام فيها لكن يستعد للارتحال عنها واللقاء على وجوه منها الرؤية ومنها البعث كقوله تعالى { { قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله } } أي البعث ومنها الموت كقوله تعالى { { من كان يرجو لقاء الله فإن أجل الله لآت } } وقال ابن الأثير المراد باللقاء المصير إلى الدار الآخرة وطلب ما عند الله وليس الغرض به الموت لأن كلا يكرهه فمن ترك الدنيا وأبغضها أحب لقاء الله ومن آثرها وركن إليها كره لقاء الله ومحبة الله لقاء عبده إرادة الخير له وإنعامه عليه وفي الكواكب إن قيل الشرط ليس سببًا للجزاء بل الأمر بالعكس قلت مثله يؤول بالإخبار أي أخبره بأني أحببت لقاءه وكذا الكراهة والحديث رواه البخاري في التوحيد عن إسماعيل عن مالك به ( مالك عن أبي الزناد) بكسر الزاي والتخفيف ( عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال) هكذا رفعه أكثر رواة الموطأ ووقفه القعنبي ومصعب وذلك لا يضر في رفعه لأن رواته ثقات حفاظ ( قال رجل) قال الحافظ قيل اسمه جهينة وذلك أن في صحيح أبي عوانة أن هذا الرجل هو آخر أهل النار خروجًا منها وفي رواية مالك للخطيب عن ابن عمر آخر من يدخل الجنة رجل من جهينة يقول أهل الجنة عند جهينة الخبر اليقين ( لم يعمل حسنة قط) ليس فيه ما ينفي التوحيد عنه والعرب تقول مثل هذا في الأكثر من فعله كحديث لا يضع عصاه عن عاتقه وفي رواية لم يعمل خيرًا قط إلا التوحيد قاله ابن عبد البر وفي الصحيح ممن كان قبلكم يسيء الظن بعمله وفي رواية يسرف على نفسه وفي ابن حبان أنه كان نباشًا أي للقبور يسرق أكفان الموتى ( لأهله) وفي الصحيح من طريق ابن شهاب عن حميد عن أبي هريرة مرفوعًا فلما حضره الموت قال لبنيه ( إذا مات فحرقوه) وفي رواية الزهري إذا أنا مت فأحرقوني ثم اطحنوني ( ثم أذروا نصفه في البر ونصفه في البحر فوالله لئن قدر الله عليه) بخفة الدال وشدها من القدر وهو القضاء لا من القدرة والاستطاعة كقوله فظن أن لن نقدر عليه أو بمعنى ضيق كقوله تعالى { { ومن قدر عليه رزقه } } وقال بعض العلماء هذا رجل جهل بعض صفات الله وهي القدرة ولا يكفر جاهل بعضها وإنما يكفر من عاند الحق قاله أبو عمر ( ليعذبنه عذابًا لا يعذبه أحدًا من العالمين) الموحدين ( فلما مات الرجل فعلوا ما أمرهم به فأمر الله البر فجمع ما فيه وأمر الله البحر فجمع ما فيه) زاد في رواية الزهري فإذا هو قائم وزاد أبو عوانة في أسرع من طرفة عين وفيه دلالة على رد من زعم أن الخطاب لروحه لأن التحريق والتذرية إنما وقعا على الجسد وهو الذي جمع وأعيد ( ثم قال لم فعلت هذا قال من خشيتك يا رب وأنت أعلم) إني إنما فعلته من خشيتك أي خوف عقابك قال ابن عبد البر وذلك دليل على إيمانه إذ الخشية لا تكون إلا لمؤمن بل لعالم قال تعالى { { إنما يخشى الله من عباده العلماء } } ويستحيل أن يخافه من لا يؤمن به وقد روى الحديث قال رجل لم يعمل خيرًا قط إلا التوحيد وهذه اللفظة ترفع الإشكال في إيمانه والأصول تعضدها إن الله لا يغفر أن يشرك به وقد ( قال فغفر له) ولأبي عوانة من حديث حذيفة عن الصديق أنه آخر أهل الجنة دخولاً قال ابن التين ذهب المعتزلة إلى أن هذا الرجل إنما غفر له لتوبته التي تابها لأن قبولها واجب عقلاً عندهم والأشعري قطع بها سمعًا وغيره جوز القبول كسائر الطاعات وقال ابن المنير قبول التوبة عند المعتزلة واجب على الله تعالى عقلاً وعندنا واجب بحكم الوعد والفضل والإحسان إذ لو وجب القبول على الله عقلاً لاستحق الذم إن لم يقبل وهو محال لأن من كان كذلك يكون مستكملاً بالقبول والمستكمل بالغير ناقص بذاته وذلك في حق الله محال ولأن الذم إنما يمنع من الفعل من يتأذى لسماعه وينفر عنه طبعه ويظهر له بسببه نقص حال أما المتعالي عن الشهوة والنفرة والزيادة والنقص فلا يعقل تحقق الوجوب في حقه بهذا المعنى ولأنه تعالى تمدح بقبول التوبة في قوله { { ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده } } ولو كان واجبًا ما تمدح به لأن أداء الواجب لا يفيد المدح والثناء والتعظيم قال بعض المفسرين قبول التوبة من الكفر يقطع به على الله تعالى إجماعًا وهذا محمل الآية وأما المعاصي فيقطع بأنه يقبل التوبة منها من طائفة من الأمة واختلف هل يقبل توبة الجميع وأما إذا عين إنسان تائب فيرجى قبول توبته بلا قطع وأما إذا فرضنا تائبًا غير معين صحيح التوبة فقيل يقطع بقبول توبته وعليه طائفة منها الفقهاء والمحدثون لأنه تعالى أخبر عن نفسه بذلك وعلى هذا يلزم أن تقبل توبة جميع التائبين وذهب أبو المعالي وغيره إلى أن ذلك لا يقطع به على الله بل يقوي في الرجاء والقول الأول أرجح ولا فرق بين التوبة من الكفر والتوبة من المعاصي بدليل أن الإسلام يجب ما قبله والتوبة تجب ما قبلها انتهى.
والحديث رواه البخاري في التوحيد عن إسماعيل ومسلم من طريق روح كلاهما عن مالك به ( مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال كل مولود) أي من بني آدم صرح به جعفر بن ربيعة عن الأعرج عن أبي هريرة بلفظ كل بني آدم وكذا رواه خالد الواسطي عن عبد الرحمن بن إسحاق عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة ذكرهما ابن عبد البر ( يولد على الفطرة) عام في جميع المولودين على ظاهره وأصرح منه رواية البخاري ما من مولود إلا يولد على الفطرة ولمسلم ما من مولود إلا وهو على الملة وحكى ابن عبد البر عن قوم أنه لا يقتضي العموم وأن المراد كل من يولد على الفطرة وله أبوان غير مسلمين نقلاه إلى دينهما فالتقدير كل مولود يولد على الفطرة وأبواه يهوديان مثلاً فإنهما يهودانه ثم يصير عند بلوغه إلى ما يحكم به عليه ويكفي في الرد عليهم رواية مسلم عن أبي صالح عن أبي هريرة ليس من مولود إلا على هذه الفطرة حتى يعرب عنه لسانه وأصرح منها رواية كل بني آدم وأشهر الأقوال أن المراد بالفطرة الإسلام قال ابن عبد البر وهو المعروف عند عامة السلف وأجمع علماء التأويل على أن المراد بقوله تعالى { { فطرة الله التي فطر الناس عليها } } الإسلام واحتجوا بقول أبي هريرة عند الشيخين في آخر الحديث اقرؤوا إن شئتم { { فطرة الله } } الآية وبحديث عياض بن حماد عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه إني خلقت عبادي حنفاء كلهم فاختالتهم الشياطين عن دينهم الحديث ورواه غيره فقال حنفاء مسلمين ورجح بقوله تعالى { { فأقم وجهك للدين حنيفًا فطرة الله } } لأنها إضافة مدح وقد أمر الله نبيه بلزومها فعلم أنها الإسلام وحكى ابن عبد البر عن الأوزاعي وسحنون ورواه أبو داود عن حماد بن سلمة أن المراد حين أخذ الله العهد فقال ألست بربكم قالوا بلى قال الطيبي ويؤيده وجوه أحدها أن التعريف في الفطرة إشارة إلى معهود وهو قوله { { فطرة الله } } ومعنى { { فأقم وجهك } } أثبت على العهد القديم ثانيها مجيء رواية بلفظ الملة بدل الفطرة والدين في قوله { { للدين حنيفًا } } فهو عين الملة قال تعالى { { دينًا قيمًا ملة إبراهيم حنيفًا } } ثالثها التشبيه بالمحسوس المعاين ليفيد أن ظهوره يقع في البيان مبلغ هذا المحسوس قال والمراد تمكن الناس من الهدي في أصل الجبلة والتهيؤ لقبول الدين فلو ترك المرء عليها لاستمر على لزومها ولم يفارقها إلى غيرها لأن حسن هذا الدين ثابت في النفوس وإنما يعدل عنه لآفة من الآفات البشرية كالتقليد انتهى وإلى هذا مال القرطبي في المفهم فقال المعنى أن الله خلق قلوب بني آدم متأهلة لقبول الحق كما خلق أعينهم وأسماعهم قابلة للمرئيات والمسموعات فما دامت باقية على ذلك القبول وعلى تلك الأهلية أدركت الحق ودين الإسلام هو الدين الحق ودل على هذا المعنى بقية الحديث وقال ابن القيم ليس المراد أنه خرج من بطن أمه يعلم الدين لأن الله يقول { { والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئًا } } ولكن المراد أن فطرته مقتضية لمعرفة دين الإسلام ومحبته فنفس الفطرة تستلزم الإقرار والمحبة وليس المراد مجرد قبول الفطرة لذلك فإنه لا يتغير بتهويد الأبوين مثلاً بحيث يخرجان الفطرة عن القبول وإنما المراد أن كل مولود يولد على إقراره بالربوبية فلو خلى وعدم المعارض لم يعدل عن ذلك إلى غيره كما أنه يولد على محبة ما يلائم بدنه من ارتضاع اللبن حتى يصرفه عنه الصارف ومن ثم شبهت الفطرة باللبن بل كانت إياه في تأويل الرؤيا انتهى وقيل معناه أنه يولد على ما يصير إليه من شقاوة أو سعادة فمن علم الله أنه يصير مسلمًا ولد على الإسلام ومن علم أنه يصير كافرًا ولد على الكفر فكأنه أول الفطرة بالعلم وتعقب بأنه لو كان كذلك لم يكن لقوله فأبواه إلى آخره معنى لفعلهما به ما هو الفطرة التي ولد عليها فينافي التمثيل بحال البهيمة وقيل معناه أنه تعالى خلق فيهم المعرفة والإنكار فلما أخذ الميثاق من الذرية قالوا جميعًا بلى أما أهل السعادة فطوعًا وأما أهل الشقاوة فكرها وتعقب بأنه يحتاج إلى نقل صحيح فإنه لا يعرف هذا التفصيل عند أخذ الميثاق إلا عن السدي ولم يسنده وكأنه أخذه من الإسرائيليات وقيل الفطرة الخلقة أي يولد سالمًا لا يعرف كفرًا ولا إيمانًا ثم يعتقد إذا بلغ التكليف ورجحه ابن عبد البر وقال إنه يطابق التمثيل بالبهيمة ولا يخالف حديث عياض لأن المراد بقوله حنفاء أي على الاستقامة وتعقب بأنه لو كان كذلك لم يقتصر في أحوال التبديل على الكفر دون ملة الإسلام ولم يكن لاستشهاد أبي هريرة بالآية معنى وقيل اللام في الفطرة للعهد أي فطرة أبويه وهو متعقب بما ذكر في الذي قبله وحمله محمد بن الحسن الشيباني على أحكام الدنيا فادعى فيه النسخ فقال هذا في أول الإسلام قبل أن تنزل الفرائض والأمر بالجهاد قال أبو عبيد كأنه عنى أنه لو كان يولد على الإسلام فمات قبل أن يهوده أبواه مثلاً لم يرثاه والحكم أنهما يرثاه فدل على تغير الحكم ورده ابن عبد البر بأنه حاد عن الجواب وفي حديث الأسود بن سريع أن ذلك كان بعد الأمر بالجهاد وكذا رده غيره والحق أنه إخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم بما وقع في نفس الأمر ولم يرد إثبات أحكام الدنيا قال ابن القيم وسبب اختلاف العلماء في معنى الفطرة أن القدرية احتجوا بالحديث على أن الكفر والمعصية ليسا بقضاء الله بل مما ابتدأ الناس إحداثه فحاول جماعة من العلماء مخالفتهم بتأويل الفطرة على غير معنى الإسلام ولا يلزم من حملها عليه موافقة القدرية لحمله على أن ذلك يقع بتقدير الله ولذا احتج مالك عليهم بقوله الله أعلم بما كانوا عاملين انتهى.
روى أبو داود عن ابن وهب سمعت مالكًا وقيل له أن أهل الأهواء يحتجون علينا بهذا الحديث فقال مالك احتج عليهم بآخره الله أعلم بما كانوا عاملين ووجه ذلك أن القدرية استدلوا به على أن الله فطر العباد على الإسلام وأنه لا يضل أحدًا فإنما يضل الكافر أبواه فأشار مالك إلى رده بقوله الله أعلم فإنه دال على علمه بما يصيرون إليه بعد إيجادهم على الفطرة فهو دليل على تقدم العلم الذي ينكره غلاتهم ومن ثم قال الشافعي أهل القدر إن أثبتوا العلم خصموا ( فأبواه يهودانه أو ينصرانه) زاد ابن شهاب عن أبي سلمة عن أبي هريرة في الصحيحين أو يمجسانه قال الطيبي الفاء إما للتعقيب أو للسببية أو جزاء شرط مقدر أي إذا تقرر ذلك فمن تغير كان بسبب أبويه إما بتعليمهما إياه أو ترغيبهما فيه أو كونه تبعًا لهما في الدين يقتضي أن حكمه حكمهما وخص الأبوان بالذكر للغالب فلا حجة فيه لمن حكم بإسلام الطفل الذي يموت أبواه كافرين كما هو أحد قولي أحمد فقال استقر عمل الصحابة فمن بعدهم على عدم التعرض لأطفال أهل الذمة واستشكل الحديث بأنه يقتضي أن كل مولود يقع له التهود أو غيره مما ذكر مع أن كثيرًا يبقى مسلمًا لا يقع له شيء وأجيب بأن المراد أن الكفر ليس من ذات المولود ومقتضى طبعه بل إنما يحصل بسبب خارجي فإن سلم منه استمر على الحق ( كما تناتج) بفوقية فنون فألف ففوقية فجيم أي يولد ( الإبل من بهيمة جمعاء) بضم الجيم وسكون الميم والمد نعت لبهيمة أي لم يذهب من بدنها شيء سميت بذلك لاجتماع أعضائها ( هل تحس) بضم أوله وكسر ثانيه أي تبصر وفي رواية هل ترى ( فيها من جدعاء) بفتح الجيم وإسكان المهملة والمد أي مقطوعة الأنف أو الأذن أو الأطراف والجملة صفة أو حال أي بهيمة تقول فيها هذا القول أي كل من نظر إليها قاله لظهور سلامتها زاد في رواية في الصحيح حتى تكونوا أنتم تجدعونها قال الباجي يريد أن المولود يولد على الفطرة ثم يغيره بعد ذلك أبواه كما أن البهيمة تولد تامة لا جدع فيها من أصل الخلقة وإنما تجدع بعد ذلك ويغير خلقها وقال في المفهم يعني أن البهيمة تلد الولد كامل الخلقة فلو ترك كذلك كان بريا من العيب لكنهم تصرفوا فيه بقطع أذنه مثلاً فخرج عن الأصل وهو تشبيه واقع ووجهه واضح وقال الطيبي كما حال من الضمير المنصوب في يهودانه أي يهودان المولود بعد خلقه على الفطرة حال كونه شبيها بالبهيمة التي جدعت بعد أن خلقت سليمة أو صفة مصدر محذوف أي يغيرانه مثل تغييرهم البهيمة السليمة وقد تنازعت الأفعال الثلاثة في كما على التقديرين ( قالوا يا رسول الله أرأيت) أي أخبرنا من إطلاق السبب على المسبب لأن مشاهدة الأشياء طريق إلى الإخبار عنها أي قد رأيت ( الذي يموت وهو صغير) لم يبلغ الحلم أيدخل الجنة ( قال الله أعلم بما كانوا عاملين) قال ابن قتيبة أي لو أبقاهم فلا تحكموا عليهم بشيء وقال غيره أي علم أنهم لا يعملون شيئًا ولا يرجعون فيعملون أو أخبر بعلم الشيء لو وجد كيف يكون ولم يرد أنهم يجازون بذلك في الآخرة لأن العبد لا يجازى بما لم يعمل أو معناه أنه علم أنهم لم يعملوا ما يقتضي تعذيبهم ضرورة أنهم غير مكلفين وقال البيضاوي فيه إشارة إلى أن الثواب والعقاب لا لأجل الأعمال وإلا لزم أن تكون ذراري المسلمين والكافرين لا من أهل الجنة ولا من أهل النار بل الموجب لهما اللطف الرباني والخذلان الإلهي المقدر لهما في الأزل فالأولى فيهما التوقف وعدم الجزم بشيء فإن أعمالهم موكولة إلى علم الله فيما يعود إلى أمر الآخرة من الثواب والعقاب وقال النووي أجمع من يعتد به من علماء المسلمين أن من مات من أطفال المسلمين فهو من أهل الجنة لأنه ليس مكلفًا وتوقف فيه بعض من لا يعتد به لحديث عائشة في مسلم أنه صلى الله عليه وسلم دعي لجنازة صبي من الأنصار فقلت طوبى له عصفور من عصافير الجنة لم يعمل السوء ولم يدركه فقال أو غير ذلك يا عائشة أن الله خلق للجنة أهلا خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم وخلق للنار أهلا خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم وأجابوا عن هذا بأنه لعله نهاها عن المسارعة إلى القطع من غير أن يكون عندها دليل قاطع أو قاله قبل أن يعلم أن أطفال المسلمين في الجنة انتهى وأطلق ابن أبي زيد الإجماع في ذلك ولعله أراد إجماع من يعتد به وقال المازري الخلاف في غير أولاد الأنبياء انتهى وأما أطفال الكفار فاختلف العلماء قديمًا وحديثها فيهم على عشرة أقوال أحدها أنهم في المشيئة ونقل عن الحمادين وإسحاق وابن المبارك والشافعي قال ابن عبد البر وهو مقتضى صنيع مالك ولا نص عنه لكن صرح أصحابه بأن أطفال المسلمين في الجنة وأطفال الكفار في المشيئة والحجة فيه حديث ابن عباس وأبي هريرة في الصحيحين سئل صلى الله عليه وسلم عن أولاد المشركين فقال الله أعلم بما كانوا عاملين ثانيها أنهم تبع لآبائهم حكاه ابن حزم عن الأزارقة والخوارج ولأحمد عن عائشة سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ولدان المسلمين قال في الجنة وعن أولاد المشركين قال في النار فقلت لم يدركوا الأعمال قال ربك أعلم بما كانوا عاملين لو شئت أسمعتك تضاغيهم في النار وهو حديث ضعيف جدًا لأن في إسناده أبا عقيل مولى بهية وهو متروك ثالثها أنهم في برزخ بين الجنة والنار إذ لا حسنات لهم يدخلون بها الجنة ولا سيئات يدخلون بها النار رابعها أنهم خدم أهل الجنة روى الطيالسي وأبو يعلى والطبري والبزار مرفوعًا أولاد المشركين خدم أهل الجنة وإسناده ضعيف خامسها يصيرون ترابًا سادسها في النار حكاه عياض عن أحمد وغلطه ابن تيمية بأنه قول لبعض أصحابه ولا يحفظ عن الإمام أصلاً وهو غير الثاني لأنهم تبع لآبائهم لأنه لا يلزم من كونهم في النار أن يكونوا مع آبائهم كما أن عصاة الموحدين في النار لا مع الكفار سابعها يمتحنون في الآخرة بأن ترفع لهم نار فمن دخلها كانت عليه بردًا وسلامًا ومن أبى عذب أخرجه البزار من حديث أنس وأبي سعيد والطبراني من حديث معاذ وقد صحت مسألة الامتحان في حق المجنون ومن مات في الفترة من طرق صحيحة وحكى البيهقي أنه المذهب الصحيح وتعقب بأن الآخرة ليست دار تكليف فلا عمل فيها ولا ابتلاء وأجيب بأن ذلك بعد الاستقرار في الجنة أو النار وأما في عرصات القيامة فلا مانع من ذلك وقد قال تعالى { { يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون } } وفي الصحيحين أن الناس يؤمرون بالسجود فيصير ظهر المنافق طبقًا فلا يستطيع أن يسجد ثامنها الوقف تاسعها الإمساك وفي الفرق بينهما دقة عاشرها أنهم في الجنة قال النووي وهو المذهب الصحيح المختار الذي صار إليه المحققون لقوله تعالى { { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً } } وإذا لم يعذب العاقل لأنه لم تبلغه دعوة فأولى غيره انتهى.
وفي حديث سمرة عند البخاري في رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم الشيخ في أصل الشجرة إبراهيم والصبيان حوله فأولاد الناس وهو عام يشمل أولاد المسلمين وغيرهم وروى ابن عبد البر من طريق أبي معاذ عن الزهري عن عروة عن عائشة قال سألت خديجة النبي صلى الله عليه وسلم عن أولاد المشركين فقال هم مع آبائهم ثم سألته بعد ذلك فقال الله أعلم بما كانوا عاملين ثم سألته بعدما استحكم الإسلام فنزلت { { ولا تزر وازرة وزر أخرى } } فقال هم على الفطرة وقال في الجنة قال الحافظ وأبو معاذ هو سليمان بن أرقم وهو ضعيف ولو صح هذا لكان قاطعًا للنزاع انتهى.
وحديث الباب له طرق كثيرة في الصحيحين وغيرهما ( مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل بقبر الرجل فيقول يا ليتني مكانه) أي ميتًا وذلك عند ظهور الفتن وخوف ذهاب الدين لغلبة الباطل وأهله وظهور المعاصي أو ما يقع لبعضهم من المصيبة في نفسه أو أهله أو دنياه وإن لم يكن في ذلك شيء يتعلق بدينه وعند مسلم من طريق أبي حازم عن أبي هريرة مرفوعًا لا تذهب الدنيا حتى يمر الرجل على القبر فيتمرغ عليه ويقول يا ليتني مكان صاحب هذا القبر وليس به الدين إلا البلاء وعن ابن مسعود قال سيأتي عليكم زمان لو وجد أحدكم الموت يباع لاشتراه وعليه قول الشاعر

وهذا العيش ما لا خير فيه
ألا موت يباع فأشتريه

وسبب ذلك أنه يقع البلاء والشدة حتى يكون الموت الذي هو أعظم المصائب أهون على المرء فيتمنى أهون المصيبتين في اعتقاده وذكر الرجل للغالب وإلا فالمرأة يمكن أن تتمنى الموت لذلك أيضًا لكن لما كان الغالب أن الرجال هم المبتلون بالشدائد والنساء محجبات لا يصلين نار الفتنة خصهم كما قيل

كتب القتل والقتال علينا
وعلى الغانيات جر الذيول

قال الحافظ العراقي ولا يلزم كونه في كل بلد ولا كل زمن ولا في جميع الناس بل يصدق على اتفاقه للبعض في بعض الأقطار في بعض الأزمان وفي تعليق تمنيه بالمرور إشعار بشدة ما نزل بالناس من فساد الحال حالتئذ إذ المرء قد يتمنى الموت من غير استحضار شيء فإذا شاهد الموتى ورأى القبور نشز بطبعه ونفر بسجيته من تمنيه فلقوة الشدة لم يصرفه عنه ما شاهده من وحشة القبور ولا يناقض هذا النهي عن تمني الموت لأن هذا الحديث إخبار عما يكون وليس فيه تعرض لحكم شرعي وقال ابن عبد البر لا يعارض هذا قوله صلى الله عليه وسلم لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به وقول خباب بن الأرت لولا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهانا أن ندعو بالموت لدعوت به لأنه إخبار بشدة ما ينزل بالناس من فساد الدين لا لضرر يصيب جسمه يحط خطاياه وقد قال عتيق الغفاري زمن الطاعون يا طاعون خذني إليك فقيل ألم يأت النهي عن تمني الموت فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول بادروا بالموت إمرة السفهاء وكثرة الشرط وبيع الحكم واستخفافًا بالدم وقطيعة الرحم , ونساء يتخذون مزامير يقدمون الرجل يغنيهم بالقرآن وإن كان أقلهم فقهًا ويوضح ذلك قوله صلى الله عليه وسلم وإذا أردت بالناس فتنة فاقبضني إليك غير مفتون وقول عمر اللهم قد ضعفت قوتي وكبرت سني وانتشرت رعيتي فاقبضني إليك غير مضيع ولا مفرط انتهى.
وهو ناظر إلى أن المعنى الأول هو المراد بالحديث ورواه الشيخان في الفتن البخاري عن إسماعيل ومسلم عن قتيبة بن سعيد كلاهما عن مالك به ( مالك عن محمد بن عمرو) بفتح العين ( ابن حلحلة) بحاءين مهملتين مفتوحتين ولامين أولاهما ساكنة والثانية مفتوحة زاد ابن وضاح ( الديلي) بكسر الدال وسكون التحتية المدني ( عن معبد) بفتح الميم وسكون العين وموحدة ( ابن كعب بن مالك) الأنصاري السلمي المدني ( عن أبي قتادة) الحارث ويقال عمرو ويقال النعمان ( ابن ربعي) بكسر الراء وسكون الموحدة وعين مهملة السلمي المدني شهد أحدًا وما بعدها ولم يصح شهوده بدرًا ومات سنة أربع وخمسين وقيل سنة ثمان وثلاثين والأول أصح وأشهر قال ابن عبد البر هكذا الحديث في الموطآت بهذا الإسناد وأخطأ فيه سويد بن سعيد عن مالك فقال عن معبد بن كعب عن أبيه وليس بشيء ( أنه كان يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر) بضم الميم وشد الراء ( عليه بجنازة فقال مستريح ومستراح منه) قال ابن الأثير يقال أراح الرجل واستراح إذا رجعت إليه نفسه بعد الإعياء انتهى والواو بمعنى أو فهي للتنويع أي لا يخلو ابن آدم من هذين المعنيين فلا يختص بصاحب الجنازة ( قالوا يا رسول الله ما المستريح والمستراح منه) وفي رواية الدارقطني بإعادة ما ( قال العبد المؤمن) المتقي خاصة أو كل مؤمن ( يستريح من نصب الدنيا) بفتحتين تعبها ومشقتها ( وأذاها) وهو عطف عام على خاص ( إلى رحمة الله) تعالى قال مسروق ما غبطت شيئًا لشيء كمؤمن في لحده أمن من عذاب الله واستراح من الدنيا ( والعبد الفاجر) الكافر أو العاصي ( يستريح منه العباد) أي من ظلمه لهم وقول الداودي لما يأتي به من المنكر فإن أنكروا آذاهم وإن تركوه أثموا رده الباجي بأنه لا يأثم تارك الإنكار إذا ناله أذى ويكفيه أن ينكر بقلبه ( والبلاد) بما يفعله فيها من المعاصي فيحصل الجدب فيهلك الحرث والنسل أو لغصبها ومنعها من حقها ( والشجر) لقلعه إياها غصبًا أو غصب ثمرها ( والدواب) لاستعماله لها فوق طاقتها وتقصيره في علفها وسقيها وقال الطيبي أما استراحة البلاد والأشجار فإن الله تعالى بفقده يرسل السماء مدرارًا ويحيي به الأرض والشجر والدواب بعدما حبس بشؤم ذنوبه الأمطار لكن إسناد الراحة إليها مجاز إذ الراحة إنما هي لمالكها والحديث رواه البخاري عن إسماعيل ومسلم عن قتيبة بن سعيد كلاهما عن مالك به ( مالك عن أبي النضر) سالم بن أبي أمية ( مولى عمر بن عبيد الله) بضم العينين القرشي ( أنه قال) وصله ابن عبد البر من طريق يحيى بن سعيد عن القاسم عن عائشة ( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما مات عثمان بن مظعون) بالظاء المعجمة ابن حبيب بن وهب بن حذافة القرشي الجمحي أسلم قديمًا وهاجر إلى الحبشة الهجرة الأولى وروى ابن شاهين والبيهقي عنه قلت يا رسول الله إني رجل تشق علي الغربة في المغازي فتأذن لي في الخصاء فأختصي فقال لا ولكن عليك يا ابن مظعون بالصوم وفي الصحيحين عن سعد بن أبي وقاص رد النبي صلى الله عليه وسلم على عثمان بن مظعون التبتل ولو أذن له لاختصينا توفي بعد شهوده بدرًا في السنة الثانية من الهجرة وهو أول من مات بالمدينة من المهاجرين وأول من دفن منهم بالبقيع ( ومر بجنازته) عليه ( ذهبت ولم تلبس) بحذف إحدى التاءين ولابن وضاح تتلبس بتاءين ( منها) أي الدنيا ( بشيء) كثير لأنه تلبس بشيء منها لا محالة وفيه مدح الزهد في الدنيا وذم الاستكثار منها والثناء على المرء بما فيه وروى الترمذي عن عائشة قبل النبي صلى الله عليه وسلم عثمان بن مظعون وهو ميت وهو يبكي وعيناه تذرفان فلما توفي ابنه إبراهيم قال ألحق بسلفنا الصالح عثمان بن مظعون ( مالك عن علقمة بن أبي علقمة) بلال المدني مولى عائشة وهو علقمة ابن أم علقمة ثقة علامة مات سنة بضع وثلاثين ومائة ( عن أمه) مرجانة وتكنى بابنها تابعية ثقة وهي مولاة عائشة بلا خلاف ( أنها قالت سمعت عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم تقول قام رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فلبس ثيابه ثم خرج فأمرت جاريتي بريرة) بموحدة مفتوحة وراءين بلا نقط بينهما تحتية ساكنة ثم هاء صحابية مشهورة عاشت إلى زمن يزيد بن معاوية ( تتبعه) لتستفيد علمًا ويحتمل غيرة منها مخافة أن يأتي بعض حجر نسائه وقد روي ذلك قاله الباجي ( فتبعته حتى جاء البقيع) بالموحدة اتفاقًا ( فوقف في أدناه) أقربه ( ما شاء الله أن يقف ثم انصرف فسبقته بريرة فأخبرتني) بما فعل ( فلم أذكر له شيئًا حتى أصبح ثم ذكرت ذلك له فقال إني بعثت إلى أهل البقيع لأصلي عليهم) قال ابن عبد البر يحتمل أن الصلاة هنا الدعاء والاستغفار وأن تكون كالصلاة على الموتى خصوصية له لأن صلاته على من صلى عليه رحمة فكأنه أمر أن يستغفر لهم وللإجماع على أنه لا يصلي على قبر مرتين ولا يصلي على قبر من صلى إلا بحدثان ذلك وأكثر ما قيل ستة أشهر قال وإما بعثه ومسيره إليهم فلا يدرى لمثل هذا علة ويحتمل أن يكون ليعلمهم بالصلاة منه عليهم لأنه ربما دفن منهم من لم يصل عليه كالمسكينة ومثلها من دفن ليلاً ولم يشعر به ليكون مساويًا بينهم في صلاته عليهم ولا يؤثر بعضهم بذلك ليتم عدله وجاء حديث حسن يدل على أن ذلك كان منه حين خير فخرج إليه كالمودع للأحياء والأموات ثم أخرجه عن أبي مويهة مرفوعًا إني قد أمرت أن أستغفر لأهل البقيع فاستغفر لهم ثم انصرف فأقبل علي فقال يا أبا مويهة إن الله قد خيرني في مفاتيح خزائن الدنيا والخلد فيها ثم الجنة ولقاء ربي فاخترت لقاء ربي فأصبح من تلك الليلة فبدأه وجعه الذي مات منه صلى الله عليه وسلم وهذا الحديث رواه النسائي عن محمد بن سلمة والحارث بن مسكين كلاهما عن ابن القاسم عن مالك به ( مالك عن نافع أن أبا هريرة قال) كذا وقفه جمهور رواة الموطأ ورواه الوليد بن مسلم عن مالك عن نافع عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يتابع على ذلك عن مالك ولكنه مرفوع من طريق أيوب عن نافع عن أبي هريرة ومن طريق الزهري عن ابن المسيب عن أبي هريرة قاله ابن عبد البر ومن طريق الزهري رواه البخاري ومسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال ( أسرعوا) بهمزة قطع ( بجنائزكم) أي بحملها إلى قبرها إسراعًا خفيفًا فوق المشي المعتاد والخبب بحيث لا يشق على ضعفة من يتبعها ولا على حاملها ولا يحدث مفسدة بالميت والأمر للاستحباب باتفاق العلماء وشذ ابن حزم فقال بوجوبه وقيل المراد شدة المشي وهو قول الحنفية وبعض السلف ومال عياض إلى نفي الخلاف فقال من استحبه أراد الزيادة على المشي المعتاد ومن كرهه أراد الإفراط كالرمل والحاصل أنه يستحب الإسراع لكن بحيث لا ينتهي إلى شدة يخاف منها حدوث مفسدة بالميت ومشقة على الحامل أو المشيع لئلا ينافي المقصود من النظافة وإدخال المشقة على المسلم قال القرطبي مقصود الحديث أن لا يبطأ بالميت عن الدفن ولأن البطء ربما أدى إلى التباهي والاحتفال قال ابن عبد البر وتأوله قوم على تعجيل الدفن لا المشي وليس كما ظنوا ويرده قوله تضعونه عن رقابكم وتبعه النووي فقال إنه باطل مردود بهذا وتعقبه الفاكهاني بأن الحمل على الرقاب قد يعبر به عن المعاني كما يقول حمل فلان على رقبته ديونًا فيكون المعنى استريحوا من نظر من لا خير فيه قال ويؤيده أن الكل لا يحملونه قال الحافظ ويؤيده حديث ابن عمر سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إذا مات أحدكم فلا تحبسوه وأسرعوا به إلى قبره أخرجه الطبراني بإسناد حسن ولأبي داود عن حصين بن وحوح مرفوعًا لا ينبغي لجيفة مسلم أن تبقى بين ظهراني أهله ( فإنما هو خير تقدمونه) كذا في الأصول والقياس تقدمونها أي الجنائز ( إليه) أي الخير باعتبار الثواب والإكرام الحاصل له في قبره فيسرع به ليلقاه قريبًا قال ابن مالك وروي إليها بتأنيث الضمير على تأويل الخبر بالرحمة أو الحسنى ( أو شر تضعونه عن رقابكم) فلا مصلحة لكم في مصاحبته لأنها بعيدة من الرحمة ويؤخذ منه ترك صحبة أهل البطالة وغير الصالحين وفيه ندب المبادرة بدفن الميت لكن بعد تحقق أنه مات أما مثل المطعون والمسبوت والمفلوج فينبغي أن لا يسرع بتجهيزهم حتى يمضي يوم وليلة ليتحقق موتهم نبه عليه ابن بزيزة، والله تعالى أعلم.



رقم الحديث 577 وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: إِذَا أَحَبَّ عَبْدِي لِقَائِي أَحْبَبْتُ لِقَاءَهُ وَإِذَا كَرِهَ لِقَائِي كَرِهْتُ لِقَاءَهُ.


( جامع الجنائز)

( مالك عن هشام بن عروة عن عباد) بشد الموحدة ( ابن عبد الله بن الزبير) بن العوام كان قاضي مكة زمن أبيه وخليفته إذا حج ( أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أخبرته أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت وهو مستند إلى صدرها وأصغت) بإسكان الصاد المهملة وفتح الغين المعجمة أي أمالت سمعها ( إليه يقول) وفي رواية قتيبة وهو يقول ( اللهم اغفر لي وارحمني) فيه ندب الدعاء بهما ولا سيما عند الموت وإذا دعا بذلك المصطفى فأين غيره منه والدعاء مخ العبادة لما فيه من الإخلاص والخضوع والضراعة والرجاء وذلك صريح الإيمان ( وألحقني) بهمزة قطع ( بالرفيق الأعلى) وفي البخاري من رواية ذكوان عن عائشة فجعل يقول في الرفيق الأعلى حتى قبض ومالت يده ولأحمد من رواية المطلب عن عائشة فقال مع الرفيق الأعلى مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين إلى قوله رفيقًا ومعنى كونهم رفيقًا تعاونهم على الطاعة وارتفاق بعضهم ببعض وأفرده إشارة إلى أن أهل الجنة يدخلون على قلب رجل واحد قاله السهيلي فالمراد بالرفيق هؤلاء المذكورون في الآية قال الحافظ وهو المعتمد وعليه الأكثر وفي حديث أبي موسى عند النسائي وصححه ابن حبان فقال اللهم الرفيق الأعلى الأسعد مع جبريل وميكائيل وإسرافيل وظاهره أن الرفيق المكان الذي تحصل المرافقة فيه مع المذكورين وهذه الأحاديث ترد زعم أن الرفيق تغيير من الراوي والصواب الرقيع بالقاف والعين المهملة وهو من أسماء السماء.
وقال ابن عبد البر هو أعلى الجنة والجوهري الجنة ويؤيده ما عند ابن إسحاق الرفيق الأعلى الجنة وقيل الرفيق الأعلى الله عز وجل لأنه من أسمائه ففي مسلم وأبي داود مرفوعًا أن الله رفيق يحب الرفيق وهو صفة ذات كالحليم أو صفة فعل وغلط الأزهري هذا القول ولا وجه له لأن تأويله على ما يليق بالله سائغ قال السهيلي الحكمة في اختتام كلام المصطفى بهذه الكلمة تضمنها التوحيد والذكر بالقلب حتى يستفاد منه الرخصة لغيره أنه لا يشترط أن يكون الذكر باللسان لأن بعض الناس قد يمنعه من النطق مانع فلا يضره إذا كان قلبه عامرًا بالذكر قال وفي بعض كتب الواقدي أول ما تكلم به صلى الله عليه وسلم وهو مسترضع عند حليمة الله أكبر وآخر ما تكلم به ما في حديث عائشة يعني في الصحيحين قالت عائشة فكانت آخر ما تكلم بها صلى الله عليه وسلم قوله اللهم الرفيق الأعلى وروى الحاكم عن أنس آخر ما تكلم به جلال ربي الرفيع قد بلغت ثم قضى وجمع بأن هذا آخر على الإطلاق بعد ما كرر اللهم الرفيق الأعلى قبل جلال أي أختار جلال ربي الرفيع قد بلغت ما أوحي إلي وحديث الباب رواه مسلم في المناقب حدثنا قتيبة بن سعيد عن مالك به وتابعه أبو أسامة وعبد الله بن نمير وعبدة بن سليمان كلهم عن هشام به في مسلم أيضًا وله طرق في الصحيحين وغيرهما ( مالك بلغه أن عائشة) أخرجه البخاري ومسلم من طريق إبراهيم بن سعد عن أبيه عن عروة عن عائشة ( قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما من نبي) أراد ما يشمل الرسول ( يموت حتى يخير) بضم أوله مبني للمفعول بين الدنيا والآخرة ( قالت فسمعته يقول) في مرضه الذي مات فيه وأخذته بحة شديدة كما في رواية سعد ( اللهم الرفيق الأعلى فعرفت أنه ذاهب) وفي الصحيحين من طريق الزهري عن عروة عنها كان صلى الله عليه وسلم وهو صحيح يقول أنه لم يقبض نبي قط حتى يرى مقعده ثم يحيا أو يخير فلما حضره القبض غشي عليه فلما أفاق شخص بصره نحو سقف البيت فقال اللهم في الرفيق الأعلى فقلت إذن لا يختارنا وعرفت أنه حديثه الذي كان يحدثنا وهو صحيح وفي مغازي أبي الأسود عن عروة أن جبريل نزل عليه في تلك الحالة فخيره وعند أحمد عن أبي مويهة قال قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم إني أوتيت مفاتيح خزائن الأرض والخلد ثم الجنة فخيرت بين ذلك وبين لقاء ربي والجنة فاخترت لقاء ربي والجنة ولعبد الرزاق من مرسل طاوس رفعه خيرت بين أن أبقى حتى أرى ما يفتح على أمتي وبين التعجيل فاخترت التعجيل ( مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر قال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي) أي فيهما قال الباجي العرض لا يكون إلا على حي يعلم ما يعرض عليه ويفهم ما يخاطب به قال ويحتمل غداة واحدة وعشية واحدة ويحتمل كل غداة وكل عشي وقال ابن التين يحتمل غداة واحدة وعشية واحدة يكون العرض فيهما ويكون معنى حتى يبعثك أي لا تصل إليه إلى يوم البعث ويحتمل كل غداة وعشي وهو محمول على أنه يحيا منه جزء ليدرك ذلك فغير ممتنع أن تعاد الحياة إلى جزء من الميت أو أجزاء وتصح مخاطبته والعرض عليه قال الحافظ والأول موافق لأحاديث سياق المسألة وعرض المقعدين على كل أحد وقال القرطبي يجوز أن هذا العرض على الروح فقط ويجوز أن يكون عليه مع جزء من البدن قال والمراد بالغداة والعشي وقتهما وإلا فالموتى لا صباح عندهم ولا مساء قال وهذا في حق المؤمن والكافر واضح وأما المؤمن المخلط فمحتمل أيضًا في حقه لأنه يدخل الجنة في الجملة ثم هو مخصوص بغير الشهداء ويحتمل أن يقال فائدة العرض في حقهم تبشير أرواحهم باستقرارها في الجنة مقترنة بأجسادها فإن فيه قدرًا زائدًا على ما هي فيه الآن ( إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة) اتحد فيه الشرط والجزاء لفظًا فلا بد من تقدير قال التوربشتي التقدير فمقعد من مقاعد أهل الجنة يعرض عليه وقال الطيبي الشرط والجزاء إذا اتحدا لفظًا دل على الفخامة والمراد أنه يرى بعد البعث من كرامة الله ما ينسيه هذا المقعد انتهى.
وعند مسلم بلفظ إن كان من أهل الجنة فالجنة أي فالمعروض الجنة ( وإن كان من أهل النار فمن أهل النار) أي فمقعده من مقاعد أهلها يعرض عليه أو يعلم بالعكس مما يسر به أهل الجنة لأن هذه المنزلة طليعة تباشير أهل السعادة الكبرى ومقدمة تباريح الشقاوة العظمى وفي ذلك تنعيم لمن هو من أهل الجنة وتعذيب لمن هو من أهل النار بمعاينة ما أعد له وانتظاره ذلك اليوم الموعود ( يقال له هذا مقعدك حتى يبعثك الله إلى يوم القيامة) كذا في رواية يحيى بلفظ إلى وللأكثر بحذفها وليحيى النيسابوري وابن القاسم إليه بالضمير حكاه ابن عبد البر قال والمعنى حتى يبعثك الله إلى هذا المقعد ويحتمل أن الضمير يعود إلى الله فإلى الله ترجع الأمور والأول أظهر قال الحافظ ويؤيده رواية الزهري عن سالم عن أبيه بلفظ ثم يقال هذا مقعدك الذي تبعث إليه يوم القيامة أخرجه مسلم وأخرج النسائي رواية ابن القاسم لكن بحذف إليه كالأكثرين وفيه إثبات عذاب القبر وأن الروح لا تفنى بفناء الجسد لأن العرض لا يقع إلا على حي قال ابن عبد البر واستدل به على أن الأرواح على أفنية القبور وهو الصحيح لأن الأحاديث بذلك أصح من غيرها والمعنى عندي أنها قد تكون على أفنية القبور لا أنها لا تفارقها بل هي كما قال مالك بلغني أن الأرواح تسرح حيث شاءت والحديث رواه البخاري عن إسماعيل ومسلم عن يحيى كلاهما عن مالك به ( مالك عن أبي الزناد) عبد الله بن ذكوان ( عن الأعرج) عبد الرحمن بن هرمز ( عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال كل ابن آدم تأكله الأرض) أي جميع جسمه وينعدم بالكلية أو المراد أنها باقية لكن زالت أعراضها المعهودة قال إمام الحرمين لم يدل قاطع سمعي على تعيين أحدهما ولا بعد أن تصير أجسام العباد بصفة أجسام التراب ثم تعاد بتركيبها إلى المعهود ( إلا عجب الذنب) بفتح العين وسكون الجيم وبالموحدة ويقال بالميم وهو العصعص أسفل العظم الهابط من الصلب فإنه قاعدة البدن كقاعدة الجدار فلا تأكله الأرض ( لأنه منه خلق) أي ابتدئ خلقه ( ومنه يركب) خلقه عند قيام الساعة وهذا أظهر من احتمال أن المراد منه ابتداء الخلق وابتداء التركيب وبالأول جزم الباجي فقال لأنه أول ما خلق من الإنسان وهو الذي يبقى منه ليعاد تركيب الخلق عليه قال ابن عبد البر هذا عموم يراد به الخصوص لما روي في أجساد الأنبياء والشهداء أن الأرض لا تأكلهم وحسبك ما جاء في شهداء أحد إذ أخرجوا بعد ست وأربعين سنة لينة أجسادهم يعني أطرافهم فكأنه قال من تأكله الأرض فلا تأكل منه عجب الذنب وإذا جاز أن لا تأكله جاز أن لا تأكل الشهداء وإنما في هذا التسليم لمن يجب له التسليم صلى الله عليه وسلم انتهى.
وزاد غيره الصديقين والعلماء العاملين والمؤذن المحتسب وحامل القرآن العامل به والمرابط والميت بالطاعون صابرًا محتسبًا والمكثر من ذكر الله والمحبين لله فتلك عشرة كاملة ( مالك عن ابن شهاب عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك الأنصاري) أبي الخطاب المدني من كبار التابعين ويقال ولد في العهد النبوي ومات في خلافة سليمان ( أنه أخبره أن أباه كعب بن مالك) السلمي المدني الصحابي المشهور أحد الثلاثة الذين خلفوا مات في خلافة علي رضي الله عنهما ( كان يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إنما نسمة المؤمن) بفتح النون والسين أي روحه وفي كتاب أبي القاسم الجوهري النسمة الروح والنفس والبدن وإنما يعني في هذا الحديث الروح قال الباجي ويحتمل عندي أن يريد به ما يكون فيه الروح من الميت قبل البعث ويحتمل أنه شيء من محل الروح تبقى فيه الروح ( طير يعلق) بالتحتية صفة طير وبفتح اللام رواية الأكثر كما قال ابن عبد البر وروي بضمها قال والمعنى واحد وهو الأكل والرعي ( في شجر الجنة) لتأكل من ثمارها وقال البوني معنى رواية الفتح تأوي والضم ترعى تقول العرب ما ذقت اليوم علوقًا وقال السهيلي يعلق بفتح اللام يتشبث بها ويرى مقعده منها ومن رواه بضم اللام فمعناه يصيب منها العلقة من الطعام فقد أصاب دون ما أصاب غيره ممن أدرك الرغد أي العيش الواسع فهو مثل مضروب يفهم منه هذا المعنى وإن أراد بتعلق الأكل نفسه فهو مخصوص بالشهيد فتكون رواية الضم للشهيد والفتح لمن دونهم والله أعلم بمراد رسوله انتهى واختلف في أن هذا الحديث عام في الشهداء وغيرهم إذا لم يحبسهم عن الجنة كبيرة ولا دين أو خاص بالشهداء دون غيرهم لأن القرآن والسنة لا يدلان إلا على ذلك حكاهما ابن عبد البر وذكر بعض أدلة الثاني وقال بحمله على الشهداء يزول ما ظنه قوم من معارضة هذا الحديث للحديث قبله في عرض المقعد لأنه إذا كان يسرح في الجنة فهو يراها في جميع أحيانه وليس كما قالوا إنما هذا في الشهداء خاصة وما قبله في سائر الناس واختار الأول ابن كثير فقال في هذا الحديث إن روح المؤمن تكون على شكل طير في الجنة وأما أرواح الشهداء ففي حواصل طير خضر ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها وتأوي إلى قناديل من ذهب في ظل العرش كما رواه أحمد عن ابن عباس مرفوعًا فهي كالراكب بالنسبة إلى أرواح عموم المؤمنين فإنها تطير بأنفسها فهو بشرى لكل مؤمن بأن روحه تكون في الجنة أيضًا وتسرح فيها وتأكل من ثمارها وترى ما فيها من النضرة والسرور ( حتى يرجعه الله إلى جسده يوم يبعثه) يوم القيامة قال وهذا حديث صحيح عزيز عظيم اجتمع فيه ثلاثة أئمة فرواه أحمد عن الشافعي عن مالك به انتهى ( مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: قال) الله ( تبارك وتعالى) هذا من الأحاديث الإلهية فيحتمل أن يكون صلى الله عليه وسلم تلقاه عن الله بلا واسطة أو بواسطة قاله الحافظ ( إذا أحب عبدي لقائي) عند حضور أجله إن عاين ما يحب أحب لقاء الله وإن عاين ما يكره لم يحب الخروج من الدنيا هذا معناه كما تشهد به الآثار المرفوعة وذلك حين لا تقبل توبة وليس المراد الموت لأنه لا يخلو من كراهته نبي ولا غيره ولكن المكروه من ذلك إيثار الدنيا وكراهة أن يصير إلى الله قاله ابن عبد البر ( أحببت لقاءه) أي أردت له الخير ( وإذا كره لقائي كرهت لقاءه) زاد في حديث عبادة في الصحيحين فقالت عائشة إنا لنكره الموت قال صلى الله عليه وسلم ليس ذاك ولكن المؤمن إذا حضره الموت بشر برضوان الله وكرامته فليس شيء أحب إليه مما أمامه فأحب لقاء الله وأحب الله لقاءه وأن الكافر إذا حضر بشر بعذاب الله وعقوبته فليس شيء أكره إليه مما أمامه فكره لقاء الله وكره الله لقاءه ولأحمد عن عائشة مرفوعًا إذا أراد الله بعبد خيرًا قيض الله له قبل موته بعام ملكًا يسدده ويوفقه حتى يقال مات بخير ما كان فإذا حضر ورأى إلى ثوابه اشتاقت نفسه فذلك حين أحب لقاء الله وأحب الله لقاءه وإذا أراد الله بعبد شرًا قيض الله له قبل موته بشهر شيطانًا فأضله وفتنه حتى يقال مات بشر ما كان عليه فإذا حضر ورأى ما أعد الله له من العذاب جزعت نفسه فذلك حين كره لقاء الله وكره الله لقاءه وقال الخطابي معنى محبة لقاء الله إيثار العبد الآخرة على الدنيا ولا يحب طول القيام فيها لكن يستعد للارتحال عنها واللقاء على وجوه منها الرؤية ومنها البعث كقوله تعالى { { قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله } } أي البعث ومنها الموت كقوله تعالى { { من كان يرجو لقاء الله فإن أجل الله لآت } } وقال ابن الأثير المراد باللقاء المصير إلى الدار الآخرة وطلب ما عند الله وليس الغرض به الموت لأن كلا يكرهه فمن ترك الدنيا وأبغضها أحب لقاء الله ومن آثرها وركن إليها كره لقاء الله ومحبة الله لقاء عبده إرادة الخير له وإنعامه عليه وفي الكواكب إن قيل الشرط ليس سببًا للجزاء بل الأمر بالعكس قلت مثله يؤول بالإخبار أي أخبره بأني أحببت لقاءه وكذا الكراهة والحديث رواه البخاري في التوحيد عن إسماعيل عن مالك به ( مالك عن أبي الزناد) بكسر الزاي والتخفيف ( عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال) هكذا رفعه أكثر رواة الموطأ ووقفه القعنبي ومصعب وذلك لا يضر في رفعه لأن رواته ثقات حفاظ ( قال رجل) قال الحافظ قيل اسمه جهينة وذلك أن في صحيح أبي عوانة أن هذا الرجل هو آخر أهل النار خروجًا منها وفي رواية مالك للخطيب عن ابن عمر آخر من يدخل الجنة رجل من جهينة يقول أهل الجنة عند جهينة الخبر اليقين ( لم يعمل حسنة قط) ليس فيه ما ينفي التوحيد عنه والعرب تقول مثل هذا في الأكثر من فعله كحديث لا يضع عصاه عن عاتقه وفي رواية لم يعمل خيرًا قط إلا التوحيد قاله ابن عبد البر وفي الصحيح ممن كان قبلكم يسيء الظن بعمله وفي رواية يسرف على نفسه وفي ابن حبان أنه كان نباشًا أي للقبور يسرق أكفان الموتى ( لأهله) وفي الصحيح من طريق ابن شهاب عن حميد عن أبي هريرة مرفوعًا فلما حضره الموت قال لبنيه ( إذا مات فحرقوه) وفي رواية الزهري إذا أنا مت فأحرقوني ثم اطحنوني ( ثم أذروا نصفه في البر ونصفه في البحر فوالله لئن قدر الله عليه) بخفة الدال وشدها من القدر وهو القضاء لا من القدرة والاستطاعة كقوله فظن أن لن نقدر عليه أو بمعنى ضيق كقوله تعالى { { ومن قدر عليه رزقه } } وقال بعض العلماء هذا رجل جهل بعض صفات الله وهي القدرة ولا يكفر جاهل بعضها وإنما يكفر من عاند الحق قاله أبو عمر ( ليعذبنه عذابًا لا يعذبه أحدًا من العالمين) الموحدين ( فلما مات الرجل فعلوا ما أمرهم به فأمر الله البر فجمع ما فيه وأمر الله البحر فجمع ما فيه) زاد في رواية الزهري فإذا هو قائم وزاد أبو عوانة في أسرع من طرفة عين وفيه دلالة على رد من زعم أن الخطاب لروحه لأن التحريق والتذرية إنما وقعا على الجسد وهو الذي جمع وأعيد ( ثم قال لم فعلت هذا قال من خشيتك يا رب وأنت أعلم) إني إنما فعلته من خشيتك أي خوف عقابك قال ابن عبد البر وذلك دليل على إيمانه إذ الخشية لا تكون إلا لمؤمن بل لعالم قال تعالى { { إنما يخشى الله من عباده العلماء } } ويستحيل أن يخافه من لا يؤمن به وقد روى الحديث قال رجل لم يعمل خيرًا قط إلا التوحيد وهذه اللفظة ترفع الإشكال في إيمانه والأصول تعضدها إن الله لا يغفر أن يشرك به وقد ( قال فغفر له) ولأبي عوانة من حديث حذيفة عن الصديق أنه آخر أهل الجنة دخولاً قال ابن التين ذهب المعتزلة إلى أن هذا الرجل إنما غفر له لتوبته التي تابها لأن قبولها واجب عقلاً عندهم والأشعري قطع بها سمعًا وغيره جوز القبول كسائر الطاعات وقال ابن المنير قبول التوبة عند المعتزلة واجب على الله تعالى عقلاً وعندنا واجب بحكم الوعد والفضل والإحسان إذ لو وجب القبول على الله عقلاً لاستحق الذم إن لم يقبل وهو محال لأن من كان كذلك يكون مستكملاً بالقبول والمستكمل بالغير ناقص بذاته وذلك في حق الله محال ولأن الذم إنما يمنع من الفعل من يتأذى لسماعه وينفر عنه طبعه ويظهر له بسببه نقص حال أما المتعالي عن الشهوة والنفرة والزيادة والنقص فلا يعقل تحقق الوجوب في حقه بهذا المعنى ولأنه تعالى تمدح بقبول التوبة في قوله { { ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده } } ولو كان واجبًا ما تمدح به لأن أداء الواجب لا يفيد المدح والثناء والتعظيم قال بعض المفسرين قبول التوبة من الكفر يقطع به على الله تعالى إجماعًا وهذا محمل الآية وأما المعاصي فيقطع بأنه يقبل التوبة منها من طائفة من الأمة واختلف هل يقبل توبة الجميع وأما إذا عين إنسان تائب فيرجى قبول توبته بلا قطع وأما إذا فرضنا تائبًا غير معين صحيح التوبة فقيل يقطع بقبول توبته وعليه طائفة منها الفقهاء والمحدثون لأنه تعالى أخبر عن نفسه بذلك وعلى هذا يلزم أن تقبل توبة جميع التائبين وذهب أبو المعالي وغيره إلى أن ذلك لا يقطع به على الله بل يقوي في الرجاء والقول الأول أرجح ولا فرق بين التوبة من الكفر والتوبة من المعاصي بدليل أن الإسلام يجب ما قبله والتوبة تجب ما قبلها انتهى.
والحديث رواه البخاري في التوحيد عن إسماعيل ومسلم من طريق روح كلاهما عن مالك به ( مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال كل مولود) أي من بني آدم صرح به جعفر بن ربيعة عن الأعرج عن أبي هريرة بلفظ كل بني آدم وكذا رواه خالد الواسطي عن عبد الرحمن بن إسحاق عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة ذكرهما ابن عبد البر ( يولد على الفطرة) عام في جميع المولودين على ظاهره وأصرح منه رواية البخاري ما من مولود إلا يولد على الفطرة ولمسلم ما من مولود إلا وهو على الملة وحكى ابن عبد البر عن قوم أنه لا يقتضي العموم وأن المراد كل من يولد على الفطرة وله أبوان غير مسلمين نقلاه إلى دينهما فالتقدير كل مولود يولد على الفطرة وأبواه يهوديان مثلاً فإنهما يهودانه ثم يصير عند بلوغه إلى ما يحكم به عليه ويكفي في الرد عليهم رواية مسلم عن أبي صالح عن أبي هريرة ليس من مولود إلا على هذه الفطرة حتى يعرب عنه لسانه وأصرح منها رواية كل بني آدم وأشهر الأقوال أن المراد بالفطرة الإسلام قال ابن عبد البر وهو المعروف عند عامة السلف وأجمع علماء التأويل على أن المراد بقوله تعالى { { فطرة الله التي فطر الناس عليها } } الإسلام واحتجوا بقول أبي هريرة عند الشيخين في آخر الحديث اقرؤوا إن شئتم { { فطرة الله } } الآية وبحديث عياض بن حماد عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه إني خلقت عبادي حنفاء كلهم فاختالتهم الشياطين عن دينهم الحديث ورواه غيره فقال حنفاء مسلمين ورجح بقوله تعالى { { فأقم وجهك للدين حنيفًا فطرة الله } } لأنها إضافة مدح وقد أمر الله نبيه بلزومها فعلم أنها الإسلام وحكى ابن عبد البر عن الأوزاعي وسحنون ورواه أبو داود عن حماد بن سلمة أن المراد حين أخذ الله العهد فقال ألست بربكم قالوا بلى قال الطيبي ويؤيده وجوه أحدها أن التعريف في الفطرة إشارة إلى معهود وهو قوله { { فطرة الله } } ومعنى { { فأقم وجهك } } أثبت على العهد القديم ثانيها مجيء رواية بلفظ الملة بدل الفطرة والدين في قوله { { للدين حنيفًا } } فهو عين الملة قال تعالى { { دينًا قيمًا ملة إبراهيم حنيفًا } } ثالثها التشبيه بالمحسوس المعاين ليفيد أن ظهوره يقع في البيان مبلغ هذا المحسوس قال والمراد تمكن الناس من الهدي في أصل الجبلة والتهيؤ لقبول الدين فلو ترك المرء عليها لاستمر على لزومها ولم يفارقها إلى غيرها لأن حسن هذا الدين ثابت في النفوس وإنما يعدل عنه لآفة من الآفات البشرية كالتقليد انتهى وإلى هذا مال القرطبي في المفهم فقال المعنى أن الله خلق قلوب بني آدم متأهلة لقبول الحق كما خلق أعينهم وأسماعهم قابلة للمرئيات والمسموعات فما دامت باقية على ذلك القبول وعلى تلك الأهلية أدركت الحق ودين الإسلام هو الدين الحق ودل على هذا المعنى بقية الحديث وقال ابن القيم ليس المراد أنه خرج من بطن أمه يعلم الدين لأن الله يقول { { والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئًا } } ولكن المراد أن فطرته مقتضية لمعرفة دين الإسلام ومحبته فنفس الفطرة تستلزم الإقرار والمحبة وليس المراد مجرد قبول الفطرة لذلك فإنه لا يتغير بتهويد الأبوين مثلاً بحيث يخرجان الفطرة عن القبول وإنما المراد أن كل مولود يولد على إقراره بالربوبية فلو خلى وعدم المعارض لم يعدل عن ذلك إلى غيره كما أنه يولد على محبة ما يلائم بدنه من ارتضاع اللبن حتى يصرفه عنه الصارف ومن ثم شبهت الفطرة باللبن بل كانت إياه في تأويل الرؤيا انتهى وقيل معناه أنه يولد على ما يصير إليه من شقاوة أو سعادة فمن علم الله أنه يصير مسلمًا ولد على الإسلام ومن علم أنه يصير كافرًا ولد على الكفر فكأنه أول الفطرة بالعلم وتعقب بأنه لو كان كذلك لم يكن لقوله فأبواه إلى آخره معنى لفعلهما به ما هو الفطرة التي ولد عليها فينافي التمثيل بحال البهيمة وقيل معناه أنه تعالى خلق فيهم المعرفة والإنكار فلما أخذ الميثاق من الذرية قالوا جميعًا بلى أما أهل السعادة فطوعًا وأما أهل الشقاوة فكرها وتعقب بأنه يحتاج إلى نقل صحيح فإنه لا يعرف هذا التفصيل عند أخذ الميثاق إلا عن السدي ولم يسنده وكأنه أخذه من الإسرائيليات وقيل الفطرة الخلقة أي يولد سالمًا لا يعرف كفرًا ولا إيمانًا ثم يعتقد إذا بلغ التكليف ورجحه ابن عبد البر وقال إنه يطابق التمثيل بالبهيمة ولا يخالف حديث عياض لأن المراد بقوله حنفاء أي على الاستقامة وتعقب بأنه لو كان كذلك لم يقتصر في أحوال التبديل على الكفر دون ملة الإسلام ولم يكن لاستشهاد أبي هريرة بالآية معنى وقيل اللام في الفطرة للعهد أي فطرة أبويه وهو متعقب بما ذكر في الذي قبله وحمله محمد بن الحسن الشيباني على أحكام الدنيا فادعى فيه النسخ فقال هذا في أول الإسلام قبل أن تنزل الفرائض والأمر بالجهاد قال أبو عبيد كأنه عنى أنه لو كان يولد على الإسلام فمات قبل أن يهوده أبواه مثلاً لم يرثاه والحكم أنهما يرثاه فدل على تغير الحكم ورده ابن عبد البر بأنه حاد عن الجواب وفي حديث الأسود بن سريع أن ذلك كان بعد الأمر بالجهاد وكذا رده غيره والحق أنه إخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم بما وقع في نفس الأمر ولم يرد إثبات أحكام الدنيا قال ابن القيم وسبب اختلاف العلماء في معنى الفطرة أن القدرية احتجوا بالحديث على أن الكفر والمعصية ليسا بقضاء الله بل مما ابتدأ الناس إحداثه فحاول جماعة من العلماء مخالفتهم بتأويل الفطرة على غير معنى الإسلام ولا يلزم من حملها عليه موافقة القدرية لحمله على أن ذلك يقع بتقدير الله ولذا احتج مالك عليهم بقوله الله أعلم بما كانوا عاملين انتهى.
روى أبو داود عن ابن وهب سمعت مالكًا وقيل له أن أهل الأهواء يحتجون علينا بهذا الحديث فقال مالك احتج عليهم بآخره الله أعلم بما كانوا عاملين ووجه ذلك أن القدرية استدلوا به على أن الله فطر العباد على الإسلام وأنه لا يضل أحدًا فإنما يضل الكافر أبواه فأشار مالك إلى رده بقوله الله أعلم فإنه دال على علمه بما يصيرون إليه بعد إيجادهم على الفطرة فهو دليل على تقدم العلم الذي ينكره غلاتهم ومن ثم قال الشافعي أهل القدر إن أثبتوا العلم خصموا ( فأبواه يهودانه أو ينصرانه) زاد ابن شهاب عن أبي سلمة عن أبي هريرة في الصحيحين أو يمجسانه قال الطيبي الفاء إما للتعقيب أو للسببية أو جزاء شرط مقدر أي إذا تقرر ذلك فمن تغير كان بسبب أبويه إما بتعليمهما إياه أو ترغيبهما فيه أو كونه تبعًا لهما في الدين يقتضي أن حكمه حكمهما وخص الأبوان بالذكر للغالب فلا حجة فيه لمن حكم بإسلام الطفل الذي يموت أبواه كافرين كما هو أحد قولي أحمد فقال استقر عمل الصحابة فمن بعدهم على عدم التعرض لأطفال أهل الذمة واستشكل الحديث بأنه يقتضي أن كل مولود يقع له التهود أو غيره مما ذكر مع أن كثيرًا يبقى مسلمًا لا يقع له شيء وأجيب بأن المراد أن الكفر ليس من ذات المولود ومقتضى طبعه بل إنما يحصل بسبب خارجي فإن سلم منه استمر على الحق ( كما تناتج) بفوقية فنون فألف ففوقية فجيم أي يولد ( الإبل من بهيمة جمعاء) بضم الجيم وسكون الميم والمد نعت لبهيمة أي لم يذهب من بدنها شيء سميت بذلك لاجتماع أعضائها ( هل تحس) بضم أوله وكسر ثانيه أي تبصر وفي رواية هل ترى ( فيها من جدعاء) بفتح الجيم وإسكان المهملة والمد أي مقطوعة الأنف أو الأذن أو الأطراف والجملة صفة أو حال أي بهيمة تقول فيها هذا القول أي كل من نظر إليها قاله لظهور سلامتها زاد في رواية في الصحيح حتى تكونوا أنتم تجدعونها قال الباجي يريد أن المولود يولد على الفطرة ثم يغيره بعد ذلك أبواه كما أن البهيمة تولد تامة لا جدع فيها من أصل الخلقة وإنما تجدع بعد ذلك ويغير خلقها وقال في المفهم يعني أن البهيمة تلد الولد كامل الخلقة فلو ترك كذلك كان بريا من العيب لكنهم تصرفوا فيه بقطع أذنه مثلاً فخرج عن الأصل وهو تشبيه واقع ووجهه واضح وقال الطيبي كما حال من الضمير المنصوب في يهودانه أي يهودان المولود بعد خلقه على الفطرة حال كونه شبيها بالبهيمة التي جدعت بعد أن خلقت سليمة أو صفة مصدر محذوف أي يغيرانه مثل تغييرهم البهيمة السليمة وقد تنازعت الأفعال الثلاثة في كما على التقديرين ( قالوا يا رسول الله أرأيت) أي أخبرنا من إطلاق السبب على المسبب لأن مشاهدة الأشياء طريق إلى الإخبار عنها أي قد رأيت ( الذي يموت وهو صغير) لم يبلغ الحلم أيدخل الجنة ( قال الله أعلم بما كانوا عاملين) قال ابن قتيبة أي لو أبقاهم فلا تحكموا عليهم بشيء وقال غيره أي علم أنهم لا يعملون شيئًا ولا يرجعون فيعملون أو أخبر بعلم الشيء لو وجد كيف يكون ولم يرد أنهم يجازون بذلك في الآخرة لأن العبد لا يجازى بما لم يعمل أو معناه أنه علم أنهم لم يعملوا ما يقتضي تعذيبهم ضرورة أنهم غير مكلفين وقال البيضاوي فيه إشارة إلى أن الثواب والعقاب لا لأجل الأعمال وإلا لزم أن تكون ذراري المسلمين والكافرين لا من أهل الجنة ولا من أهل النار بل الموجب لهما اللطف الرباني والخذلان الإلهي المقدر لهما في الأزل فالأولى فيهما التوقف وعدم الجزم بشيء فإن أعمالهم موكولة إلى علم الله فيما يعود إلى أمر الآخرة من الثواب والعقاب وقال النووي أجمع من يعتد به من علماء المسلمين أن من مات من أطفال المسلمين فهو من أهل الجنة لأنه ليس مكلفًا وتوقف فيه بعض من لا يعتد به لحديث عائشة في مسلم أنه صلى الله عليه وسلم دعي لجنازة صبي من الأنصار فقلت طوبى له عصفور من عصافير الجنة لم يعمل السوء ولم يدركه فقال أو غير ذلك يا عائشة أن الله خلق للجنة أهلا خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم وخلق للنار أهلا خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم وأجابوا عن هذا بأنه لعله نهاها عن المسارعة إلى القطع من غير أن يكون عندها دليل قاطع أو قاله قبل أن يعلم أن أطفال المسلمين في الجنة انتهى وأطلق ابن أبي زيد الإجماع في ذلك ولعله أراد إجماع من يعتد به وقال المازري الخلاف في غير أولاد الأنبياء انتهى وأما أطفال الكفار فاختلف العلماء قديمًا وحديثها فيهم على عشرة أقوال أحدها أنهم في المشيئة ونقل عن الحمادين وإسحاق وابن المبارك والشافعي قال ابن عبد البر وهو مقتضى صنيع مالك ولا نص عنه لكن صرح أصحابه بأن أطفال المسلمين في الجنة وأطفال الكفار في المشيئة والحجة فيه حديث ابن عباس وأبي هريرة في الصحيحين سئل صلى الله عليه وسلم عن أولاد المشركين فقال الله أعلم بما كانوا عاملين ثانيها أنهم تبع لآبائهم حكاه ابن حزم عن الأزارقة والخوارج ولأحمد عن عائشة سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ولدان المسلمين قال في الجنة وعن أولاد المشركين قال في النار فقلت لم يدركوا الأعمال قال ربك أعلم بما كانوا عاملين لو شئت أسمعتك تضاغيهم في النار وهو حديث ضعيف جدًا لأن في إسناده أبا عقيل مولى بهية وهو متروك ثالثها أنهم في برزخ بين الجنة والنار إذ لا حسنات لهم يدخلون بها الجنة ولا سيئات يدخلون بها النار رابعها أنهم خدم أهل الجنة روى الطيالسي وأبو يعلى والطبري والبزار مرفوعًا أولاد المشركين خدم أهل الجنة وإسناده ضعيف خامسها يصيرون ترابًا سادسها في النار حكاه عياض عن أحمد وغلطه ابن تيمية بأنه قول لبعض أصحابه ولا يحفظ عن الإمام أصلاً وهو غير الثاني لأنهم تبع لآبائهم لأنه لا يلزم من كونهم في النار أن يكونوا مع آبائهم كما أن عصاة الموحدين في النار لا مع الكفار سابعها يمتحنون في الآخرة بأن ترفع لهم نار فمن دخلها كانت عليه بردًا وسلامًا ومن أبى عذب أخرجه البزار من حديث أنس وأبي سعيد والطبراني من حديث معاذ وقد صحت مسألة الامتحان في حق المجنون ومن مات في الفترة من طرق صحيحة وحكى البيهقي أنه المذهب الصحيح وتعقب بأن الآخرة ليست دار تكليف فلا عمل فيها ولا ابتلاء وأجيب بأن ذلك بعد الاستقرار في الجنة أو النار وأما في عرصات القيامة فلا مانع من ذلك وقد قال تعالى { { يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون } } وفي الصحيحين أن الناس يؤمرون بالسجود فيصير ظهر المنافق طبقًا فلا يستطيع أن يسجد ثامنها الوقف تاسعها الإمساك وفي الفرق بينهما دقة عاشرها أنهم في الجنة قال النووي وهو المذهب الصحيح المختار الذي صار إليه المحققون لقوله تعالى { { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً } } وإذا لم يعذب العاقل لأنه لم تبلغه دعوة فأولى غيره انتهى.
وفي حديث سمرة عند البخاري في رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم الشيخ في أصل الشجرة إبراهيم والصبيان حوله فأولاد الناس وهو عام يشمل أولاد المسلمين وغيرهم وروى ابن عبد البر من طريق أبي معاذ عن الزهري عن عروة عن عائشة قال سألت خديجة النبي صلى الله عليه وسلم عن أولاد المشركين فقال هم مع آبائهم ثم سألته بعد ذلك فقال الله أعلم بما كانوا عاملين ثم سألته بعدما استحكم الإسلام فنزلت { { ولا تزر وازرة وزر أخرى } } فقال هم على الفطرة وقال في الجنة قال الحافظ وأبو معاذ هو سليمان بن أرقم وهو ضعيف ولو صح هذا لكان قاطعًا للنزاع انتهى.
وحديث الباب له طرق كثيرة في الصحيحين وغيرهما ( مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل بقبر الرجل فيقول يا ليتني مكانه) أي ميتًا وذلك عند ظهور الفتن وخوف ذهاب الدين لغلبة الباطل وأهله وظهور المعاصي أو ما يقع لبعضهم من المصيبة في نفسه أو أهله أو دنياه وإن لم يكن في ذلك شيء يتعلق بدينه وعند مسلم من طريق أبي حازم عن أبي هريرة مرفوعًا لا تذهب الدنيا حتى يمر الرجل على القبر فيتمرغ عليه ويقول يا ليتني مكان صاحب هذا القبر وليس به الدين إلا البلاء وعن ابن مسعود قال سيأتي عليكم زمان لو وجد أحدكم الموت يباع لاشتراه وعليه قول الشاعر

وهذا العيش ما لا خير فيه
ألا موت يباع فأشتريه

وسبب ذلك أنه يقع البلاء والشدة حتى يكون الموت الذي هو أعظم المصائب أهون على المرء فيتمنى أهون المصيبتين في اعتقاده وذكر الرجل للغالب وإلا فالمرأة يمكن أن تتمنى الموت لذلك أيضًا لكن لما كان الغالب أن الرجال هم المبتلون بالشدائد والنساء محجبات لا يصلين نار الفتنة خصهم كما قيل

كتب القتل والقتال علينا
وعلى الغانيات جر الذيول

قال الحافظ العراقي ولا يلزم كونه في كل بلد ولا كل زمن ولا في جميع الناس بل يصدق على اتفاقه للبعض في بعض الأقطار في بعض الأزمان وفي تعليق تمنيه بالمرور إشعار بشدة ما نزل بالناس من فساد الحال حالتئذ إذ المرء قد يتمنى الموت من غير استحضار شيء فإذا شاهد الموتى ورأى القبور نشز بطبعه ونفر بسجيته من تمنيه فلقوة الشدة لم يصرفه عنه ما شاهده من وحشة القبور ولا يناقض هذا النهي عن تمني الموت لأن هذا الحديث إخبار عما يكون وليس فيه تعرض لحكم شرعي وقال ابن عبد البر لا يعارض هذا قوله صلى الله عليه وسلم لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به وقول خباب بن الأرت لولا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهانا أن ندعو بالموت لدعوت به لأنه إخبار بشدة ما ينزل بالناس من فساد الدين لا لضرر يصيب جسمه يحط خطاياه وقد قال عتيق الغفاري زمن الطاعون يا طاعون خذني إليك فقيل ألم يأت النهي عن تمني الموت فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول بادروا بالموت إمرة السفهاء وكثرة الشرط وبيع الحكم واستخفافًا بالدم وقطيعة الرحم , ونساء يتخذون مزامير يقدمون الرجل يغنيهم بالقرآن وإن كان أقلهم فقهًا ويوضح ذلك قوله صلى الله عليه وسلم وإذا أردت بالناس فتنة فاقبضني إليك غير مفتون وقول عمر اللهم قد ضعفت قوتي وكبرت سني وانتشرت رعيتي فاقبضني إليك غير مضيع ولا مفرط انتهى.
وهو ناظر إلى أن المعنى الأول هو المراد بالحديث ورواه الشيخان في الفتن البخاري عن إسماعيل ومسلم عن قتيبة بن سعيد كلاهما عن مالك به ( مالك عن محمد بن عمرو) بفتح العين ( ابن حلحلة) بحاءين مهملتين مفتوحتين ولامين أولاهما ساكنة والثانية مفتوحة زاد ابن وضاح ( الديلي) بكسر الدال وسكون التحتية المدني ( عن معبد) بفتح الميم وسكون العين وموحدة ( ابن كعب بن مالك) الأنصاري السلمي المدني ( عن أبي قتادة) الحارث ويقال عمرو ويقال النعمان ( ابن ربعي) بكسر الراء وسكون الموحدة وعين مهملة السلمي المدني شهد أحدًا وما بعدها ولم يصح شهوده بدرًا ومات سنة أربع وخمسين وقيل سنة ثمان وثلاثين والأول أصح وأشهر قال ابن عبد البر هكذا الحديث في الموطآت بهذا الإسناد وأخطأ فيه سويد بن سعيد عن مالك فقال عن معبد بن كعب عن أبيه وليس بشيء ( أنه كان يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر) بضم الميم وشد الراء ( عليه بجنازة فقال مستريح ومستراح منه) قال ابن الأثير يقال أراح الرجل واستراح إذا رجعت إليه نفسه بعد الإعياء انتهى والواو بمعنى أو فهي للتنويع أي لا يخلو ابن آدم من هذين المعنيين فلا يختص بصاحب الجنازة ( قالوا يا رسول الله ما المستريح والمستراح منه) وفي رواية الدارقطني بإعادة ما ( قال العبد المؤمن) المتقي خاصة أو كل مؤمن ( يستريح من نصب الدنيا) بفتحتين تعبها ومشقتها ( وأذاها) وهو عطف عام على خاص ( إلى رحمة الله) تعالى قال مسروق ما غبطت شيئًا لشيء كمؤمن في لحده أمن من عذاب الله واستراح من الدنيا ( والعبد الفاجر) الكافر أو العاصي ( يستريح منه العباد) أي من ظلمه لهم وقول الداودي لما يأتي به من المنكر فإن أنكروا آذاهم وإن تركوه أثموا رده الباجي بأنه لا يأثم تارك الإنكار إذا ناله أذى ويكفيه أن ينكر بقلبه ( والبلاد) بما يفعله فيها من المعاصي فيحصل الجدب فيهلك الحرث والنسل أو لغصبها ومنعها من حقها ( والشجر) لقلعه إياها غصبًا أو غصب ثمرها ( والدواب) لاستعماله لها فوق طاقتها وتقصيره في علفها وسقيها وقال الطيبي أما استراحة البلاد والأشجار فإن الله تعالى بفقده يرسل السماء مدرارًا ويحيي به الأرض والشجر والدواب بعدما حبس بشؤم ذنوبه الأمطار لكن إسناد الراحة إليها مجاز إذ الراحة إنما هي لمالكها والحديث رواه البخاري عن إسماعيل ومسلم عن قتيبة بن سعيد كلاهما عن مالك به ( مالك عن أبي النضر) سالم بن أبي أمية ( مولى عمر بن عبيد الله) بضم العينين القرشي ( أنه قال) وصله ابن عبد البر من طريق يحيى بن سعيد عن القاسم عن عائشة ( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما مات عثمان بن مظعون) بالظاء المعجمة ابن حبيب بن وهب بن حذافة القرشي الجمحي أسلم قديمًا وهاجر إلى الحبشة الهجرة الأولى وروى ابن شاهين والبيهقي عنه قلت يا رسول الله إني رجل تشق علي الغربة في المغازي فتأذن لي في الخصاء فأختصي فقال لا ولكن عليك يا ابن مظعون بالصوم وفي الصحيحين عن سعد بن أبي وقاص رد النبي صلى الله عليه وسلم على عثمان بن مظعون التبتل ولو أذن له لاختصينا توفي بعد شهوده بدرًا في السنة الثانية من الهجرة وهو أول من مات بالمدينة من المهاجرين وأول من دفن منهم بالبقيع ( ومر بجنازته) عليه ( ذهبت ولم تلبس) بحذف إحدى التاءين ولابن وضاح تتلبس بتاءين ( منها) أي الدنيا ( بشيء) كثير لأنه تلبس بشيء منها لا محالة وفيه مدح الزهد في الدنيا وذم الاستكثار منها والثناء على المرء بما فيه وروى الترمذي عن عائشة قبل النبي صلى الله عليه وسلم عثمان بن مظعون وهو ميت وهو يبكي وعيناه تذرفان فلما توفي ابنه إبراهيم قال ألحق بسلفنا الصالح عثمان بن مظعون ( مالك عن علقمة بن أبي علقمة) بلال المدني مولى عائشة وهو علقمة ابن أم علقمة ثقة علامة مات سنة بضع وثلاثين ومائة ( عن أمه) مرجانة وتكنى بابنها تابعية ثقة وهي مولاة عائشة بلا خلاف ( أنها قالت سمعت عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم تقول قام رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فلبس ثيابه ثم خرج فأمرت جاريتي بريرة) بموحدة مفتوحة وراءين بلا نقط بينهما تحتية ساكنة ثم هاء صحابية مشهورة عاشت إلى زمن يزيد بن معاوية ( تتبعه) لتستفيد علمًا ويحتمل غيرة منها مخافة أن يأتي بعض حجر نسائه وقد روي ذلك قاله الباجي ( فتبعته حتى جاء البقيع) بالموحدة اتفاقًا ( فوقف في أدناه) أقربه ( ما شاء الله أن يقف ثم انصرف فسبقته بريرة فأخبرتني) بما فعل ( فلم أذكر له شيئًا حتى أصبح ثم ذكرت ذلك له فقال إني بعثت إلى أهل البقيع لأصلي عليهم) قال ابن عبد البر يحتمل أن الصلاة هنا الدعاء والاستغفار وأن تكون كالصلاة على الموتى خصوصية له لأن صلاته على من صلى عليه رحمة فكأنه أمر أن يستغفر لهم وللإجماع على أنه لا يصلي على قبر مرتين ولا يصلي على قبر من صلى إلا بحدثان ذلك وأكثر ما قيل ستة أشهر قال وإما بعثه ومسيره إليهم فلا يدرى لمثل هذا علة ويحتمل أن يكون ليعلمهم بالصلاة منه عليهم لأنه ربما دفن منهم من لم يصل عليه كالمسكينة ومثلها من دفن ليلاً ولم يشعر به ليكون مساويًا بينهم في صلاته عليهم ولا يؤثر بعضهم بذلك ليتم عدله وجاء حديث حسن يدل على أن ذلك كان منه حين خير فخرج إليه كالمودع للأحياء والأموات ثم أخرجه عن أبي مويهة مرفوعًا إني قد أمرت أن أستغفر لأهل البقيع فاستغفر لهم ثم انصرف فأقبل علي فقال يا أبا مويهة إن الله قد خيرني في مفاتيح خزائن الدنيا والخلد فيها ثم الجنة ولقاء ربي فاخترت لقاء ربي فأصبح من تلك الليلة فبدأه وجعه الذي مات منه صلى الله عليه وسلم وهذا الحديث رواه النسائي عن محمد بن سلمة والحارث بن مسكين كلاهما عن ابن القاسم عن مالك به ( مالك عن نافع أن أبا هريرة قال) كذا وقفه جمهور رواة الموطأ ورواه الوليد بن مسلم عن مالك عن نافع عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يتابع على ذلك عن مالك ولكنه مرفوع من طريق أيوب عن نافع عن أبي هريرة ومن طريق الزهري عن ابن المسيب عن أبي هريرة قاله ابن عبد البر ومن طريق الزهري رواه البخاري ومسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال ( أسرعوا) بهمزة قطع ( بجنائزكم) أي بحملها إلى قبرها إسراعًا خفيفًا فوق المشي المعتاد والخبب بحيث لا يشق على ضعفة من يتبعها ولا على حاملها ولا يحدث مفسدة بالميت والأمر للاستحباب باتفاق العلماء وشذ ابن حزم فقال بوجوبه وقيل المراد شدة المشي وهو قول الحنفية وبعض السلف ومال عياض إلى نفي الخلاف فقال من استحبه أراد الزيادة على المشي المعتاد ومن كرهه أراد الإفراط كالرمل والحاصل أنه يستحب الإسراع لكن بحيث لا ينتهي إلى شدة يخاف منها حدوث مفسدة بالميت ومشقة على الحامل أو المشيع لئلا ينافي المقصود من النظافة وإدخال المشقة على المسلم قال القرطبي مقصود الحديث أن لا يبطأ بالميت عن الدفن ولأن البطء ربما أدى إلى التباهي والاحتفال قال ابن عبد البر وتأوله قوم على تعجيل الدفن لا المشي وليس كما ظنوا ويرده قوله تضعونه عن رقابكم وتبعه النووي فقال إنه باطل مردود بهذا وتعقبه الفاكهاني بأن الحمل على الرقاب قد يعبر به عن المعاني كما يقول حمل فلان على رقبته ديونًا فيكون المعنى استريحوا من نظر من لا خير فيه قال ويؤيده أن الكل لا يحملونه قال الحافظ ويؤيده حديث ابن عمر سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إذا مات أحدكم فلا تحبسوه وأسرعوا به إلى قبره أخرجه الطبراني بإسناد حسن ولأبي داود عن حصين بن وحوح مرفوعًا لا ينبغي لجيفة مسلم أن تبقى بين ظهراني أهله ( فإنما هو خير تقدمونه) كذا في الأصول والقياس تقدمونها أي الجنائز ( إليه) أي الخير باعتبار الثواب والإكرام الحاصل له في قبره فيسرع به ليلقاه قريبًا قال ابن مالك وروي إليها بتأنيث الضمير على تأويل الخبر بالرحمة أو الحسنى ( أو شر تضعونه عن رقابكم) فلا مصلحة لكم في مصاحبته لأنها بعيدة من الرحمة ويؤخذ منه ترك صحبة أهل البطالة وغير الصالحين وفيه ندب المبادرة بدفن الميت لكن بعد تحقق أنه مات أما مثل المطعون والمسبوت والمفلوج فينبغي أن لا يسرع بتجهيزهم حتى يمضي يوم وليلة ليتحقق موتهم نبه عليه ابن بزيزة، والله تعالى أعلم.



رقم الحديث 578 وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ لَمْ يَعْمَلْ حَسَنَةً قَطُّ، لِأَهْلِهِ إِذَا مَاتَ فَحَرِّقُوهُ.
ثُمَّ أَذْرُوا نِصْفَهُ فِي الْبَرِّ، وَنِصْفَهُ فِي الْبَحْرِ، فَوَاللَّهِ لَئِنْ قَدَرَ اللَّهُ عَلَيْهِ لَيُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا لَا يُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ.
فَلَمَّا مَاتَ الرَّجُلُ، فَعَلُوا مَا أَمَرَهُمْ بِهِ.
فَأَمَرَ اللَّهُ الْبَرَّ فَجَمَعَ مَا فِيهِ، وَأَمَرَ الْبَحْرَ فَجَمَعَ مَا فِيهِ، ثُمَّ قَالَ: لِمَ فَعَلْتَ هَذَا؟ قَالَ: مِنْ خَشْيَتِكَ يَا رَبِّ، وَأَنْتَ أَعْلَمُ، قَالَ: فَغَفَرَ لَهُ.


( جامع الجنائز)

( مالك عن هشام بن عروة عن عباد) بشد الموحدة ( ابن عبد الله بن الزبير) بن العوام كان قاضي مكة زمن أبيه وخليفته إذا حج ( أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أخبرته أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت وهو مستند إلى صدرها وأصغت) بإسكان الصاد المهملة وفتح الغين المعجمة أي أمالت سمعها ( إليه يقول) وفي رواية قتيبة وهو يقول ( اللهم اغفر لي وارحمني) فيه ندب الدعاء بهما ولا سيما عند الموت وإذا دعا بذلك المصطفى فأين غيره منه والدعاء مخ العبادة لما فيه من الإخلاص والخضوع والضراعة والرجاء وذلك صريح الإيمان ( وألحقني) بهمزة قطع ( بالرفيق الأعلى) وفي البخاري من رواية ذكوان عن عائشة فجعل يقول في الرفيق الأعلى حتى قبض ومالت يده ولأحمد من رواية المطلب عن عائشة فقال مع الرفيق الأعلى مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين إلى قوله رفيقًا ومعنى كونهم رفيقًا تعاونهم على الطاعة وارتفاق بعضهم ببعض وأفرده إشارة إلى أن أهل الجنة يدخلون على قلب رجل واحد قاله السهيلي فالمراد بالرفيق هؤلاء المذكورون في الآية قال الحافظ وهو المعتمد وعليه الأكثر وفي حديث أبي موسى عند النسائي وصححه ابن حبان فقال اللهم الرفيق الأعلى الأسعد مع جبريل وميكائيل وإسرافيل وظاهره أن الرفيق المكان الذي تحصل المرافقة فيه مع المذكورين وهذه الأحاديث ترد زعم أن الرفيق تغيير من الراوي والصواب الرقيع بالقاف والعين المهملة وهو من أسماء السماء.
وقال ابن عبد البر هو أعلى الجنة والجوهري الجنة ويؤيده ما عند ابن إسحاق الرفيق الأعلى الجنة وقيل الرفيق الأعلى الله عز وجل لأنه من أسمائه ففي مسلم وأبي داود مرفوعًا أن الله رفيق يحب الرفيق وهو صفة ذات كالحليم أو صفة فعل وغلط الأزهري هذا القول ولا وجه له لأن تأويله على ما يليق بالله سائغ قال السهيلي الحكمة في اختتام كلام المصطفى بهذه الكلمة تضمنها التوحيد والذكر بالقلب حتى يستفاد منه الرخصة لغيره أنه لا يشترط أن يكون الذكر باللسان لأن بعض الناس قد يمنعه من النطق مانع فلا يضره إذا كان قلبه عامرًا بالذكر قال وفي بعض كتب الواقدي أول ما تكلم به صلى الله عليه وسلم وهو مسترضع عند حليمة الله أكبر وآخر ما تكلم به ما في حديث عائشة يعني في الصحيحين قالت عائشة فكانت آخر ما تكلم بها صلى الله عليه وسلم قوله اللهم الرفيق الأعلى وروى الحاكم عن أنس آخر ما تكلم به جلال ربي الرفيع قد بلغت ثم قضى وجمع بأن هذا آخر على الإطلاق بعد ما كرر اللهم الرفيق الأعلى قبل جلال أي أختار جلال ربي الرفيع قد بلغت ما أوحي إلي وحديث الباب رواه مسلم في المناقب حدثنا قتيبة بن سعيد عن مالك به وتابعه أبو أسامة وعبد الله بن نمير وعبدة بن سليمان كلهم عن هشام به في مسلم أيضًا وله طرق في الصحيحين وغيرهما ( مالك بلغه أن عائشة) أخرجه البخاري ومسلم من طريق إبراهيم بن سعد عن أبيه عن عروة عن عائشة ( قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما من نبي) أراد ما يشمل الرسول ( يموت حتى يخير) بضم أوله مبني للمفعول بين الدنيا والآخرة ( قالت فسمعته يقول) في مرضه الذي مات فيه وأخذته بحة شديدة كما في رواية سعد ( اللهم الرفيق الأعلى فعرفت أنه ذاهب) وفي الصحيحين من طريق الزهري عن عروة عنها كان صلى الله عليه وسلم وهو صحيح يقول أنه لم يقبض نبي قط حتى يرى مقعده ثم يحيا أو يخير فلما حضره القبض غشي عليه فلما أفاق شخص بصره نحو سقف البيت فقال اللهم في الرفيق الأعلى فقلت إذن لا يختارنا وعرفت أنه حديثه الذي كان يحدثنا وهو صحيح وفي مغازي أبي الأسود عن عروة أن جبريل نزل عليه في تلك الحالة فخيره وعند أحمد عن أبي مويهة قال قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم إني أوتيت مفاتيح خزائن الأرض والخلد ثم الجنة فخيرت بين ذلك وبين لقاء ربي والجنة فاخترت لقاء ربي والجنة ولعبد الرزاق من مرسل طاوس رفعه خيرت بين أن أبقى حتى أرى ما يفتح على أمتي وبين التعجيل فاخترت التعجيل ( مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر قال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي) أي فيهما قال الباجي العرض لا يكون إلا على حي يعلم ما يعرض عليه ويفهم ما يخاطب به قال ويحتمل غداة واحدة وعشية واحدة ويحتمل كل غداة وكل عشي وقال ابن التين يحتمل غداة واحدة وعشية واحدة يكون العرض فيهما ويكون معنى حتى يبعثك أي لا تصل إليه إلى يوم البعث ويحتمل كل غداة وعشي وهو محمول على أنه يحيا منه جزء ليدرك ذلك فغير ممتنع أن تعاد الحياة إلى جزء من الميت أو أجزاء وتصح مخاطبته والعرض عليه قال الحافظ والأول موافق لأحاديث سياق المسألة وعرض المقعدين على كل أحد وقال القرطبي يجوز أن هذا العرض على الروح فقط ويجوز أن يكون عليه مع جزء من البدن قال والمراد بالغداة والعشي وقتهما وإلا فالموتى لا صباح عندهم ولا مساء قال وهذا في حق المؤمن والكافر واضح وأما المؤمن المخلط فمحتمل أيضًا في حقه لأنه يدخل الجنة في الجملة ثم هو مخصوص بغير الشهداء ويحتمل أن يقال فائدة العرض في حقهم تبشير أرواحهم باستقرارها في الجنة مقترنة بأجسادها فإن فيه قدرًا زائدًا على ما هي فيه الآن ( إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة) اتحد فيه الشرط والجزاء لفظًا فلا بد من تقدير قال التوربشتي التقدير فمقعد من مقاعد أهل الجنة يعرض عليه وقال الطيبي الشرط والجزاء إذا اتحدا لفظًا دل على الفخامة والمراد أنه يرى بعد البعث من كرامة الله ما ينسيه هذا المقعد انتهى.
وعند مسلم بلفظ إن كان من أهل الجنة فالجنة أي فالمعروض الجنة ( وإن كان من أهل النار فمن أهل النار) أي فمقعده من مقاعد أهلها يعرض عليه أو يعلم بالعكس مما يسر به أهل الجنة لأن هذه المنزلة طليعة تباشير أهل السعادة الكبرى ومقدمة تباريح الشقاوة العظمى وفي ذلك تنعيم لمن هو من أهل الجنة وتعذيب لمن هو من أهل النار بمعاينة ما أعد له وانتظاره ذلك اليوم الموعود ( يقال له هذا مقعدك حتى يبعثك الله إلى يوم القيامة) كذا في رواية يحيى بلفظ إلى وللأكثر بحذفها وليحيى النيسابوري وابن القاسم إليه بالضمير حكاه ابن عبد البر قال والمعنى حتى يبعثك الله إلى هذا المقعد ويحتمل أن الضمير يعود إلى الله فإلى الله ترجع الأمور والأول أظهر قال الحافظ ويؤيده رواية الزهري عن سالم عن أبيه بلفظ ثم يقال هذا مقعدك الذي تبعث إليه يوم القيامة أخرجه مسلم وأخرج النسائي رواية ابن القاسم لكن بحذف إليه كالأكثرين وفيه إثبات عذاب القبر وأن الروح لا تفنى بفناء الجسد لأن العرض لا يقع إلا على حي قال ابن عبد البر واستدل به على أن الأرواح على أفنية القبور وهو الصحيح لأن الأحاديث بذلك أصح من غيرها والمعنى عندي أنها قد تكون على أفنية القبور لا أنها لا تفارقها بل هي كما قال مالك بلغني أن الأرواح تسرح حيث شاءت والحديث رواه البخاري عن إسماعيل ومسلم عن يحيى كلاهما عن مالك به ( مالك عن أبي الزناد) عبد الله بن ذكوان ( عن الأعرج) عبد الرحمن بن هرمز ( عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال كل ابن آدم تأكله الأرض) أي جميع جسمه وينعدم بالكلية أو المراد أنها باقية لكن زالت أعراضها المعهودة قال إمام الحرمين لم يدل قاطع سمعي على تعيين أحدهما ولا بعد أن تصير أجسام العباد بصفة أجسام التراب ثم تعاد بتركيبها إلى المعهود ( إلا عجب الذنب) بفتح العين وسكون الجيم وبالموحدة ويقال بالميم وهو العصعص أسفل العظم الهابط من الصلب فإنه قاعدة البدن كقاعدة الجدار فلا تأكله الأرض ( لأنه منه خلق) أي ابتدئ خلقه ( ومنه يركب) خلقه عند قيام الساعة وهذا أظهر من احتمال أن المراد منه ابتداء الخلق وابتداء التركيب وبالأول جزم الباجي فقال لأنه أول ما خلق من الإنسان وهو الذي يبقى منه ليعاد تركيب الخلق عليه قال ابن عبد البر هذا عموم يراد به الخصوص لما روي في أجساد الأنبياء والشهداء أن الأرض لا تأكلهم وحسبك ما جاء في شهداء أحد إذ أخرجوا بعد ست وأربعين سنة لينة أجسادهم يعني أطرافهم فكأنه قال من تأكله الأرض فلا تأكل منه عجب الذنب وإذا جاز أن لا تأكله جاز أن لا تأكل الشهداء وإنما في هذا التسليم لمن يجب له التسليم صلى الله عليه وسلم انتهى.
وزاد غيره الصديقين والعلماء العاملين والمؤذن المحتسب وحامل القرآن العامل به والمرابط والميت بالطاعون صابرًا محتسبًا والمكثر من ذكر الله والمحبين لله فتلك عشرة كاملة ( مالك عن ابن شهاب عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك الأنصاري) أبي الخطاب المدني من كبار التابعين ويقال ولد في العهد النبوي ومات في خلافة سليمان ( أنه أخبره أن أباه كعب بن مالك) السلمي المدني الصحابي المشهور أحد الثلاثة الذين خلفوا مات في خلافة علي رضي الله عنهما ( كان يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إنما نسمة المؤمن) بفتح النون والسين أي روحه وفي كتاب أبي القاسم الجوهري النسمة الروح والنفس والبدن وإنما يعني في هذا الحديث الروح قال الباجي ويحتمل عندي أن يريد به ما يكون فيه الروح من الميت قبل البعث ويحتمل أنه شيء من محل الروح تبقى فيه الروح ( طير يعلق) بالتحتية صفة طير وبفتح اللام رواية الأكثر كما قال ابن عبد البر وروي بضمها قال والمعنى واحد وهو الأكل والرعي ( في شجر الجنة) لتأكل من ثمارها وقال البوني معنى رواية الفتح تأوي والضم ترعى تقول العرب ما ذقت اليوم علوقًا وقال السهيلي يعلق بفتح اللام يتشبث بها ويرى مقعده منها ومن رواه بضم اللام فمعناه يصيب منها العلقة من الطعام فقد أصاب دون ما أصاب غيره ممن أدرك الرغد أي العيش الواسع فهو مثل مضروب يفهم منه هذا المعنى وإن أراد بتعلق الأكل نفسه فهو مخصوص بالشهيد فتكون رواية الضم للشهيد والفتح لمن دونهم والله أعلم بمراد رسوله انتهى واختلف في أن هذا الحديث عام في الشهداء وغيرهم إذا لم يحبسهم عن الجنة كبيرة ولا دين أو خاص بالشهداء دون غيرهم لأن القرآن والسنة لا يدلان إلا على ذلك حكاهما ابن عبد البر وذكر بعض أدلة الثاني وقال بحمله على الشهداء يزول ما ظنه قوم من معارضة هذا الحديث للحديث قبله في عرض المقعد لأنه إذا كان يسرح في الجنة فهو يراها في جميع أحيانه وليس كما قالوا إنما هذا في الشهداء خاصة وما قبله في سائر الناس واختار الأول ابن كثير فقال في هذا الحديث إن روح المؤمن تكون على شكل طير في الجنة وأما أرواح الشهداء ففي حواصل طير خضر ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها وتأوي إلى قناديل من ذهب في ظل العرش كما رواه أحمد عن ابن عباس مرفوعًا فهي كالراكب بالنسبة إلى أرواح عموم المؤمنين فإنها تطير بأنفسها فهو بشرى لكل مؤمن بأن روحه تكون في الجنة أيضًا وتسرح فيها وتأكل من ثمارها وترى ما فيها من النضرة والسرور ( حتى يرجعه الله إلى جسده يوم يبعثه) يوم القيامة قال وهذا حديث صحيح عزيز عظيم اجتمع فيه ثلاثة أئمة فرواه أحمد عن الشافعي عن مالك به انتهى ( مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: قال) الله ( تبارك وتعالى) هذا من الأحاديث الإلهية فيحتمل أن يكون صلى الله عليه وسلم تلقاه عن الله بلا واسطة أو بواسطة قاله الحافظ ( إذا أحب عبدي لقائي) عند حضور أجله إن عاين ما يحب أحب لقاء الله وإن عاين ما يكره لم يحب الخروج من الدنيا هذا معناه كما تشهد به الآثار المرفوعة وذلك حين لا تقبل توبة وليس المراد الموت لأنه لا يخلو من كراهته نبي ولا غيره ولكن المكروه من ذلك إيثار الدنيا وكراهة أن يصير إلى الله قاله ابن عبد البر ( أحببت لقاءه) أي أردت له الخير ( وإذا كره لقائي كرهت لقاءه) زاد في حديث عبادة في الصحيحين فقالت عائشة إنا لنكره الموت قال صلى الله عليه وسلم ليس ذاك ولكن المؤمن إذا حضره الموت بشر برضوان الله وكرامته فليس شيء أحب إليه مما أمامه فأحب لقاء الله وأحب الله لقاءه وأن الكافر إذا حضر بشر بعذاب الله وعقوبته فليس شيء أكره إليه مما أمامه فكره لقاء الله وكره الله لقاءه ولأحمد عن عائشة مرفوعًا إذا أراد الله بعبد خيرًا قيض الله له قبل موته بعام ملكًا يسدده ويوفقه حتى يقال مات بخير ما كان فإذا حضر ورأى إلى ثوابه اشتاقت نفسه فذلك حين أحب لقاء الله وأحب الله لقاءه وإذا أراد الله بعبد شرًا قيض الله له قبل موته بشهر شيطانًا فأضله وفتنه حتى يقال مات بشر ما كان عليه فإذا حضر ورأى ما أعد الله له من العذاب جزعت نفسه فذلك حين كره لقاء الله وكره الله لقاءه وقال الخطابي معنى محبة لقاء الله إيثار العبد الآخرة على الدنيا ولا يحب طول القيام فيها لكن يستعد للارتحال عنها واللقاء على وجوه منها الرؤية ومنها البعث كقوله تعالى { { قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله } } أي البعث ومنها الموت كقوله تعالى { { من كان يرجو لقاء الله فإن أجل الله لآت } } وقال ابن الأثير المراد باللقاء المصير إلى الدار الآخرة وطلب ما عند الله وليس الغرض به الموت لأن كلا يكرهه فمن ترك الدنيا وأبغضها أحب لقاء الله ومن آثرها وركن إليها كره لقاء الله ومحبة الله لقاء عبده إرادة الخير له وإنعامه عليه وفي الكواكب إن قيل الشرط ليس سببًا للجزاء بل الأمر بالعكس قلت مثله يؤول بالإخبار أي أخبره بأني أحببت لقاءه وكذا الكراهة والحديث رواه البخاري في التوحيد عن إسماعيل عن مالك به ( مالك عن أبي الزناد) بكسر الزاي والتخفيف ( عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال) هكذا رفعه أكثر رواة الموطأ ووقفه القعنبي ومصعب وذلك لا يضر في رفعه لأن رواته ثقات حفاظ ( قال رجل) قال الحافظ قيل اسمه جهينة وذلك أن في صحيح أبي عوانة أن هذا الرجل هو آخر أهل النار خروجًا منها وفي رواية مالك للخطيب عن ابن عمر آخر من يدخل الجنة رجل من جهينة يقول أهل الجنة عند جهينة الخبر اليقين ( لم يعمل حسنة قط) ليس فيه ما ينفي التوحيد عنه والعرب تقول مثل هذا في الأكثر من فعله كحديث لا يضع عصاه عن عاتقه وفي رواية لم يعمل خيرًا قط إلا التوحيد قاله ابن عبد البر وفي الصحيح ممن كان قبلكم يسيء الظن بعمله وفي رواية يسرف على نفسه وفي ابن حبان أنه كان نباشًا أي للقبور يسرق أكفان الموتى ( لأهله) وفي الصحيح من طريق ابن شهاب عن حميد عن أبي هريرة مرفوعًا فلما حضره الموت قال لبنيه ( إذا مات فحرقوه) وفي رواية الزهري إذا أنا مت فأحرقوني ثم اطحنوني ( ثم أذروا نصفه في البر ونصفه في البحر فوالله لئن قدر الله عليه) بخفة الدال وشدها من القدر وهو القضاء لا من القدرة والاستطاعة كقوله فظن أن لن نقدر عليه أو بمعنى ضيق كقوله تعالى { { ومن قدر عليه رزقه } } وقال بعض العلماء هذا رجل جهل بعض صفات الله وهي القدرة ولا يكفر جاهل بعضها وإنما يكفر من عاند الحق قاله أبو عمر ( ليعذبنه عذابًا لا يعذبه أحدًا من العالمين) الموحدين ( فلما مات الرجل فعلوا ما أمرهم به فأمر الله البر فجمع ما فيه وأمر الله البحر فجمع ما فيه) زاد في رواية الزهري فإذا هو قائم وزاد أبو عوانة في أسرع من طرفة عين وفيه دلالة على رد من زعم أن الخطاب لروحه لأن التحريق والتذرية إنما وقعا على الجسد وهو الذي جمع وأعيد ( ثم قال لم فعلت هذا قال من خشيتك يا رب وأنت أعلم) إني إنما فعلته من خشيتك أي خوف عقابك قال ابن عبد البر وذلك دليل على إيمانه إذ الخشية لا تكون إلا لمؤمن بل لعالم قال تعالى { { إنما يخشى الله من عباده العلماء } } ويستحيل أن يخافه من لا يؤمن به وقد روى الحديث قال رجل لم يعمل خيرًا قط إلا التوحيد وهذه اللفظة ترفع الإشكال في إيمانه والأصول تعضدها إن الله لا يغفر أن يشرك به وقد ( قال فغفر له) ولأبي عوانة من حديث حذيفة عن الصديق أنه آخر أهل الجنة دخولاً قال ابن التين ذهب المعتزلة إلى أن هذا الرجل إنما غفر له لتوبته التي تابها لأن قبولها واجب عقلاً عندهم والأشعري قطع بها سمعًا وغيره جوز القبول كسائر الطاعات وقال ابن المنير قبول التوبة عند المعتزلة واجب على الله تعالى عقلاً وعندنا واجب بحكم الوعد والفضل والإحسان إذ لو وجب القبول على الله عقلاً لاستحق الذم إن لم يقبل وهو محال لأن من كان كذلك يكون مستكملاً بالقبول والمستكمل بالغير ناقص بذاته وذلك في حق الله محال ولأن الذم إنما يمنع من الفعل من يتأذى لسماعه وينفر عنه طبعه ويظهر له بسببه نقص حال أما المتعالي عن الشهوة والنفرة والزيادة والنقص فلا يعقل تحقق الوجوب في حقه بهذا المعنى ولأنه تعالى تمدح بقبول التوبة في قوله { { ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده } } ولو كان واجبًا ما تمدح به لأن أداء الواجب لا يفيد المدح والثناء والتعظيم قال بعض المفسرين قبول التوبة من الكفر يقطع به على الله تعالى إجماعًا وهذا محمل الآية وأما المعاصي فيقطع بأنه يقبل التوبة منها من طائفة من الأمة واختلف هل يقبل توبة الجميع وأما إذا عين إنسان تائب فيرجى قبول توبته بلا قطع وأما إذا فرضنا تائبًا غير معين صحيح التوبة فقيل يقطع بقبول توبته وعليه طائفة منها الفقهاء والمحدثون لأنه تعالى أخبر عن نفسه بذلك وعلى هذا يلزم أن تقبل توبة جميع التائبين وذهب أبو المعالي وغيره إلى أن ذلك لا يقطع به على الله بل يقوي في الرجاء والقول الأول أرجح ولا فرق بين التوبة من الكفر والتوبة من المعاصي بدليل أن الإسلام يجب ما قبله والتوبة تجب ما قبلها انتهى.
والحديث رواه البخاري في التوحيد عن إسماعيل ومسلم من طريق روح كلاهما عن مالك به ( مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال كل مولود) أي من بني آدم صرح به جعفر بن ربيعة عن الأعرج عن أبي هريرة بلفظ كل بني آدم وكذا رواه خالد الواسطي عن عبد الرحمن بن إسحاق عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة ذكرهما ابن عبد البر ( يولد على الفطرة) عام في جميع المولودين على ظاهره وأصرح منه رواية البخاري ما من مولود إلا يولد على الفطرة ولمسلم ما من مولود إلا وهو على الملة وحكى ابن عبد البر عن قوم أنه لا يقتضي العموم وأن المراد كل من يولد على الفطرة وله أبوان غير مسلمين نقلاه إلى دينهما فالتقدير كل مولود يولد على الفطرة وأبواه يهوديان مثلاً فإنهما يهودانه ثم يصير عند بلوغه إلى ما يحكم به عليه ويكفي في الرد عليهم رواية مسلم عن أبي صالح عن أبي هريرة ليس من مولود إلا على هذه الفطرة حتى يعرب عنه لسانه وأصرح منها رواية كل بني آدم وأشهر الأقوال أن المراد بالفطرة الإسلام قال ابن عبد البر وهو المعروف عند عامة السلف وأجمع علماء التأويل على أن المراد بقوله تعالى { { فطرة الله التي فطر الناس عليها } } الإسلام واحتجوا بقول أبي هريرة عند الشيخين في آخر الحديث اقرؤوا إن شئتم { { فطرة الله } } الآية وبحديث عياض بن حماد عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه إني خلقت عبادي حنفاء كلهم فاختالتهم الشياطين عن دينهم الحديث ورواه غيره فقال حنفاء مسلمين ورجح بقوله تعالى { { فأقم وجهك للدين حنيفًا فطرة الله } } لأنها إضافة مدح وقد أمر الله نبيه بلزومها فعلم أنها الإسلام وحكى ابن عبد البر عن الأوزاعي وسحنون ورواه أبو داود عن حماد بن سلمة أن المراد حين أخذ الله العهد فقال ألست بربكم قالوا بلى قال الطيبي ويؤيده وجوه أحدها أن التعريف في الفطرة إشارة إلى معهود وهو قوله { { فطرة الله } } ومعنى { { فأقم وجهك } } أثبت على العهد القديم ثانيها مجيء رواية بلفظ الملة بدل الفطرة والدين في قوله { { للدين حنيفًا } } فهو عين الملة قال تعالى { { دينًا قيمًا ملة إبراهيم حنيفًا } } ثالثها التشبيه بالمحسوس المعاين ليفيد أن ظهوره يقع في البيان مبلغ هذا المحسوس قال والمراد تمكن الناس من الهدي في أصل الجبلة والتهيؤ لقبول الدين فلو ترك المرء عليها لاستمر على لزومها ولم يفارقها إلى غيرها لأن حسن هذا الدين ثابت في النفوس وإنما يعدل عنه لآفة من الآفات البشرية كالتقليد انتهى وإلى هذا مال القرطبي في المفهم فقال المعنى أن الله خلق قلوب بني آدم متأهلة لقبول الحق كما خلق أعينهم وأسماعهم قابلة للمرئيات والمسموعات فما دامت باقية على ذلك القبول وعلى تلك الأهلية أدركت الحق ودين الإسلام هو الدين الحق ودل على هذا المعنى بقية الحديث وقال ابن القيم ليس المراد أنه خرج من بطن أمه يعلم الدين لأن الله يقول { { والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئًا } } ولكن المراد أن فطرته مقتضية لمعرفة دين الإسلام ومحبته فنفس الفطرة تستلزم الإقرار والمحبة وليس المراد مجرد قبول الفطرة لذلك فإنه لا يتغير بتهويد الأبوين مثلاً بحيث يخرجان الفطرة عن القبول وإنما المراد أن كل مولود يولد على إقراره بالربوبية فلو خلى وعدم المعارض لم يعدل عن ذلك إلى غيره كما أنه يولد على محبة ما يلائم بدنه من ارتضاع اللبن حتى يصرفه عنه الصارف ومن ثم شبهت الفطرة باللبن بل كانت إياه في تأويل الرؤيا انتهى وقيل معناه أنه يولد على ما يصير إليه من شقاوة أو سعادة فمن علم الله أنه يصير مسلمًا ولد على الإسلام ومن علم أنه يصير كافرًا ولد على الكفر فكأنه أول الفطرة بالعلم وتعقب بأنه لو كان كذلك لم يكن لقوله فأبواه إلى آخره معنى لفعلهما به ما هو الفطرة التي ولد عليها فينافي التمثيل بحال البهيمة وقيل معناه أنه تعالى خلق فيهم المعرفة والإنكار فلما أخذ الميثاق من الذرية قالوا جميعًا بلى أما أهل السعادة فطوعًا وأما أهل الشقاوة فكرها وتعقب بأنه يحتاج إلى نقل صحيح فإنه لا يعرف هذا التفصيل عند أخذ الميثاق إلا عن السدي ولم يسنده وكأنه أخذه من الإسرائيليات وقيل الفطرة الخلقة أي يولد سالمًا لا يعرف كفرًا ولا إيمانًا ثم يعتقد إذا بلغ التكليف ورجحه ابن عبد البر وقال إنه يطابق التمثيل بالبهيمة ولا يخالف حديث عياض لأن المراد بقوله حنفاء أي على الاستقامة وتعقب بأنه لو كان كذلك لم يقتصر في أحوال التبديل على الكفر دون ملة الإسلام ولم يكن لاستشهاد أبي هريرة بالآية معنى وقيل اللام في الفطرة للعهد أي فطرة أبويه وهو متعقب بما ذكر في الذي قبله وحمله محمد بن الحسن الشيباني على أحكام الدنيا فادعى فيه النسخ فقال هذا في أول الإسلام قبل أن تنزل الفرائض والأمر بالجهاد قال أبو عبيد كأنه عنى أنه لو كان يولد على الإسلام فمات قبل أن يهوده أبواه مثلاً لم يرثاه والحكم أنهما يرثاه فدل على تغير الحكم ورده ابن عبد البر بأنه حاد عن الجواب وفي حديث الأسود بن سريع أن ذلك كان بعد الأمر بالجهاد وكذا رده غيره والحق أنه إخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم بما وقع في نفس الأمر ولم يرد إثبات أحكام الدنيا قال ابن القيم وسبب اختلاف العلماء في معنى الفطرة أن القدرية احتجوا بالحديث على أن الكفر والمعصية ليسا بقضاء الله بل مما ابتدأ الناس إحداثه فحاول جماعة من العلماء مخالفتهم بتأويل الفطرة على غير معنى الإسلام ولا يلزم من حملها عليه موافقة القدرية لحمله على أن ذلك يقع بتقدير الله ولذا احتج مالك عليهم بقوله الله أعلم بما كانوا عاملين انتهى.
روى أبو داود عن ابن وهب سمعت مالكًا وقيل له أن أهل الأهواء يحتجون علينا بهذا الحديث فقال مالك احتج عليهم بآخره الله أعلم بما كانوا عاملين ووجه ذلك أن القدرية استدلوا به على أن الله فطر العباد على الإسلام وأنه لا يضل أحدًا فإنما يضل الكافر أبواه فأشار مالك إلى رده بقوله الله أعلم فإنه دال على علمه بما يصيرون إليه بعد إيجادهم على الفطرة فهو دليل على تقدم العلم الذي ينكره غلاتهم ومن ثم قال الشافعي أهل القدر إن أثبتوا العلم خصموا ( فأبواه يهودانه أو ينصرانه) زاد ابن شهاب عن أبي سلمة عن أبي هريرة في الصحيحين أو يمجسانه قال الطيبي الفاء إما للتعقيب أو للسببية أو جزاء شرط مقدر أي إذا تقرر ذلك فمن تغير كان بسبب أبويه إما بتعليمهما إياه أو ترغيبهما فيه أو كونه تبعًا لهما في الدين يقتضي أن حكمه حكمهما وخص الأبوان بالذكر للغالب فلا حجة فيه لمن حكم بإسلام الطفل الذي يموت أبواه كافرين كما هو أحد قولي أحمد فقال استقر عمل الصحابة فمن بعدهم على عدم التعرض لأطفال أهل الذمة واستشكل الحديث بأنه يقتضي أن كل مولود يقع له التهود أو غيره مما ذكر مع أن كثيرًا يبقى مسلمًا لا يقع له شيء وأجيب بأن المراد أن الكفر ليس من ذات المولود ومقتضى طبعه بل إنما يحصل بسبب خارجي فإن سلم منه استمر على الحق ( كما تناتج) بفوقية فنون فألف ففوقية فجيم أي يولد ( الإبل من بهيمة جمعاء) بضم الجيم وسكون الميم والمد نعت لبهيمة أي لم يذهب من بدنها شيء سميت بذلك لاجتماع أعضائها ( هل تحس) بضم أوله وكسر ثانيه أي تبصر وفي رواية هل ترى ( فيها من جدعاء) بفتح الجيم وإسكان المهملة والمد أي مقطوعة الأنف أو الأذن أو الأطراف والجملة صفة أو حال أي بهيمة تقول فيها هذا القول أي كل من نظر إليها قاله لظهور سلامتها زاد في رواية في الصحيح حتى تكونوا أنتم تجدعونها قال الباجي يريد أن المولود يولد على الفطرة ثم يغيره بعد ذلك أبواه كما أن البهيمة تولد تامة لا جدع فيها من أصل الخلقة وإنما تجدع بعد ذلك ويغير خلقها وقال في المفهم يعني أن البهيمة تلد الولد كامل الخلقة فلو ترك كذلك كان بريا من العيب لكنهم تصرفوا فيه بقطع أذنه مثلاً فخرج عن الأصل وهو تشبيه واقع ووجهه واضح وقال الطيبي كما حال من الضمير المنصوب في يهودانه أي يهودان المولود بعد خلقه على الفطرة حال كونه شبيها بالبهيمة التي جدعت بعد أن خلقت سليمة أو صفة مصدر محذوف أي يغيرانه مثل تغييرهم البهيمة السليمة وقد تنازعت الأفعال الثلاثة في كما على التقديرين ( قالوا يا رسول الله أرأيت) أي أخبرنا من إطلاق السبب على المسبب لأن مشاهدة الأشياء طريق إلى الإخبار عنها أي قد رأيت ( الذي يموت وهو صغير) لم يبلغ الحلم أيدخل الجنة ( قال الله أعلم بما كانوا عاملين) قال ابن قتيبة أي لو أبقاهم فلا تحكموا عليهم بشيء وقال غيره أي علم أنهم لا يعملون شيئًا ولا يرجعون فيعملون أو أخبر بعلم الشيء لو وجد كيف يكون ولم يرد أنهم يجازون بذلك في الآخرة لأن العبد لا يجازى بما لم يعمل أو معناه أنه علم أنهم لم يعملوا ما يقتضي تعذيبهم ضرورة أنهم غير مكلفين وقال البيضاوي فيه إشارة إلى أن الثواب والعقاب لا لأجل الأعمال وإلا لزم أن تكون ذراري المسلمين والكافرين لا من أهل الجنة ولا من أهل النار بل الموجب لهما اللطف الرباني والخذلان الإلهي المقدر لهما في الأزل فالأولى فيهما التوقف وعدم الجزم بشيء فإن أعمالهم موكولة إلى علم الله فيما يعود إلى أمر الآخرة من الثواب والعقاب وقال النووي أجمع من يعتد به من علماء المسلمين أن من مات من أطفال المسلمين فهو من أهل الجنة لأنه ليس مكلفًا وتوقف فيه بعض من لا يعتد به لحديث عائشة في مسلم أنه صلى الله عليه وسلم دعي لجنازة صبي من الأنصار فقلت طوبى له عصفور من عصافير الجنة لم يعمل السوء ولم يدركه فقال أو غير ذلك يا عائشة أن الله خلق للجنة أهلا خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم وخلق للنار أهلا خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم وأجابوا عن هذا بأنه لعله نهاها عن المسارعة إلى القطع من غير أن يكون عندها دليل قاطع أو قاله قبل أن يعلم أن أطفال المسلمين في الجنة انتهى وأطلق ابن أبي زيد الإجماع في ذلك ولعله أراد إجماع من يعتد به وقال المازري الخلاف في غير أولاد الأنبياء انتهى وأما أطفال الكفار فاختلف العلماء قديمًا وحديثها فيهم على عشرة أقوال أحدها أنهم في المشيئة ونقل عن الحمادين وإسحاق وابن المبارك والشافعي قال ابن عبد البر وهو مقتضى صنيع مالك ولا نص عنه لكن صرح أصحابه بأن أطفال المسلمين في الجنة وأطفال الكفار في المشيئة والحجة فيه حديث ابن عباس وأبي هريرة في الصحيحين سئل صلى الله عليه وسلم عن أولاد المشركين فقال الله أعلم بما كانوا عاملين ثانيها أنهم تبع لآبائهم حكاه ابن حزم عن الأزارقة والخوارج ولأحمد عن عائشة سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ولدان المسلمين قال في الجنة وعن أولاد المشركين قال في النار فقلت لم يدركوا الأعمال قال ربك أعلم بما كانوا عاملين لو شئت أسمعتك تضاغيهم في النار وهو حديث ضعيف جدًا لأن في إسناده أبا عقيل مولى بهية وهو متروك ثالثها أنهم في برزخ بين الجنة والنار إذ لا حسنات لهم يدخلون بها الجنة ولا سيئات يدخلون بها النار رابعها أنهم خدم أهل الجنة روى الطيالسي وأبو يعلى والطبري والبزار مرفوعًا أولاد المشركين خدم أهل الجنة وإسناده ضعيف خامسها يصيرون ترابًا سادسها في النار حكاه عياض عن أحمد وغلطه ابن تيمية بأنه قول لبعض أصحابه ولا يحفظ عن الإمام أصلاً وهو غير الثاني لأنهم تبع لآبائهم لأنه لا يلزم من كونهم في النار أن يكونوا مع آبائهم كما أن عصاة الموحدين في النار لا مع الكفار سابعها يمتحنون في الآخرة بأن ترفع لهم نار فمن دخلها كانت عليه بردًا وسلامًا ومن أبى عذب أخرجه البزار من حديث أنس وأبي سعيد والطبراني من حديث معاذ وقد صحت مسألة الامتحان في حق المجنون ومن مات في الفترة من طرق صحيحة وحكى البيهقي أنه المذهب الصحيح وتعقب بأن الآخرة ليست دار تكليف فلا عمل فيها ولا ابتلاء وأجيب بأن ذلك بعد الاستقرار في الجنة أو النار وأما في عرصات القيامة فلا مانع من ذلك وقد قال تعالى { { يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون } } وفي الصحيحين أن الناس يؤمرون بالسجود فيصير ظهر المنافق طبقًا فلا يستطيع أن يسجد ثامنها الوقف تاسعها الإمساك وفي الفرق بينهما دقة عاشرها أنهم في الجنة قال النووي وهو المذهب الصحيح المختار الذي صار إليه المحققون لقوله تعالى { { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً } } وإذا لم يعذب العاقل لأنه لم تبلغه دعوة فأولى غيره انتهى.
وفي حديث سمرة عند البخاري في رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم الشيخ في أصل الشجرة إبراهيم والصبيان حوله فأولاد الناس وهو عام يشمل أولاد المسلمين وغيرهم وروى ابن عبد البر من طريق أبي معاذ عن الزهري عن عروة عن عائشة قال سألت خديجة النبي صلى الله عليه وسلم عن أولاد المشركين فقال هم مع آبائهم ثم سألته بعد ذلك فقال الله أعلم بما كانوا عاملين ثم سألته بعدما استحكم الإسلام فنزلت { { ولا تزر وازرة وزر أخرى } } فقال هم على الفطرة وقال في الجنة قال الحافظ وأبو معاذ هو سليمان بن أرقم وهو ضعيف ولو صح هذا لكان قاطعًا للنزاع انتهى.
وحديث الباب له طرق كثيرة في الصحيحين وغيرهما ( مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل بقبر الرجل فيقول يا ليتني مكانه) أي ميتًا وذلك عند ظهور الفتن وخوف ذهاب الدين لغلبة الباطل وأهله وظهور المعاصي أو ما يقع لبعضهم من المصيبة في نفسه أو أهله أو دنياه وإن لم يكن في ذلك شيء يتعلق بدينه وعند مسلم من طريق أبي حازم عن أبي هريرة مرفوعًا لا تذهب الدنيا حتى يمر الرجل على القبر فيتمرغ عليه ويقول يا ليتني مكان صاحب هذا القبر وليس به الدين إلا البلاء وعن ابن مسعود قال سيأتي عليكم زمان لو وجد أحدكم الموت يباع لاشتراه وعليه قول الشاعر

وهذا العيش ما لا خير فيه
ألا موت يباع فأشتريه

وسبب ذلك أنه يقع البلاء والشدة حتى يكون الموت الذي هو أعظم المصائب أهون على المرء فيتمنى أهون المصيبتين في اعتقاده وذكر الرجل للغالب وإلا فالمرأة يمكن أن تتمنى الموت لذلك أيضًا لكن لما كان الغالب أن الرجال هم المبتلون بالشدائد والنساء محجبات لا يصلين نار الفتنة خصهم كما قيل

كتب القتل والقتال علينا
وعلى الغانيات جر الذيول

قال الحافظ العراقي ولا يلزم كونه في كل بلد ولا كل زمن ولا في جميع الناس بل يصدق على اتفاقه للبعض في بعض الأقطار في بعض الأزمان وفي تعليق تمنيه بالمرور إشعار بشدة ما نزل بالناس من فساد الحال حالتئذ إذ المرء قد يتمنى الموت من غير استحضار شيء فإذا شاهد الموتى ورأى القبور نشز بطبعه ونفر بسجيته من تمنيه فلقوة الشدة لم يصرفه عنه ما شاهده من وحشة القبور ولا يناقض هذا النهي عن تمني الموت لأن هذا الحديث إخبار عما يكون وليس فيه تعرض لحكم شرعي وقال ابن عبد البر لا يعارض هذا قوله صلى الله عليه وسلم لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به وقول خباب بن الأرت لولا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهانا أن ندعو بالموت لدعوت به لأنه إخبار بشدة ما ينزل بالناس من فساد الدين لا لضرر يصيب جسمه يحط خطاياه وقد قال عتيق الغفاري زمن الطاعون يا طاعون خذني إليك فقيل ألم يأت النهي عن تمني الموت فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول بادروا بالموت إمرة السفهاء وكثرة الشرط وبيع الحكم واستخفافًا بالدم وقطيعة الرحم , ونساء يتخذون مزامير يقدمون الرجل يغنيهم بالقرآن وإن كان أقلهم فقهًا ويوضح ذلك قوله صلى الله عليه وسلم وإذا أردت بالناس فتنة فاقبضني إليك غير مفتون وقول عمر اللهم قد ضعفت قوتي وكبرت سني وانتشرت رعيتي فاقبضني إليك غير مضيع ولا مفرط انتهى.
وهو ناظر إلى أن المعنى الأول هو المراد بالحديث ورواه الشيخان في الفتن البخاري عن إسماعيل ومسلم عن قتيبة بن سعيد كلاهما عن مالك به ( مالك عن محمد بن عمرو) بفتح العين ( ابن حلحلة) بحاءين مهملتين مفتوحتين ولامين أولاهما ساكنة والثانية مفتوحة زاد ابن وضاح ( الديلي) بكسر الدال وسكون التحتية المدني ( عن معبد) بفتح الميم وسكون العين وموحدة ( ابن كعب بن مالك) الأنصاري السلمي المدني ( عن أبي قتادة) الحارث ويقال عمرو ويقال النعمان ( ابن ربعي) بكسر الراء وسكون الموحدة وعين مهملة السلمي المدني شهد أحدًا وما بعدها ولم يصح شهوده بدرًا ومات سنة أربع وخمسين وقيل سنة ثمان وثلاثين والأول أصح وأشهر قال ابن عبد البر هكذا الحديث في الموطآت بهذا الإسناد وأخطأ فيه سويد بن سعيد عن مالك فقال عن معبد بن كعب عن أبيه وليس بشيء ( أنه كان يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر) بضم الميم وشد الراء ( عليه بجنازة فقال مستريح ومستراح منه) قال ابن الأثير يقال أراح الرجل واستراح إذا رجعت إليه نفسه بعد الإعياء انتهى والواو بمعنى أو فهي للتنويع أي لا يخلو ابن آدم من هذين المعنيين فلا يختص بصاحب الجنازة ( قالوا يا رسول الله ما المستريح والمستراح منه) وفي رواية الدارقطني بإعادة ما ( قال العبد المؤمن) المتقي خاصة أو كل مؤمن ( يستريح من نصب الدنيا) بفتحتين تعبها ومشقتها ( وأذاها) وهو عطف عام على خاص ( إلى رحمة الله) تعالى قال مسروق ما غبطت شيئًا لشيء كمؤمن في لحده أمن من عذاب الله واستراح من الدنيا ( والعبد الفاجر) الكافر أو العاصي ( يستريح منه العباد) أي من ظلمه لهم وقول الداودي لما يأتي به من المنكر فإن أنكروا آذاهم وإن تركوه أثموا رده الباجي بأنه لا يأثم تارك الإنكار إذا ناله أذى ويكفيه أن ينكر بقلبه ( والبلاد) بما يفعله فيها من المعاصي فيحصل الجدب فيهلك الحرث والنسل أو لغصبها ومنعها من حقها ( والشجر) لقلعه إياها غصبًا أو غصب ثمرها ( والدواب) لاستعماله لها فوق طاقتها وتقصيره في علفها وسقيها وقال الطيبي أما استراحة البلاد والأشجار فإن الله تعالى بفقده يرسل السماء مدرارًا ويحيي به الأرض والشجر والدواب بعدما حبس بشؤم ذنوبه الأمطار لكن إسناد الراحة إليها مجاز إذ الراحة إنما هي لمالكها والحديث رواه البخاري عن إسماعيل ومسلم عن قتيبة بن سعيد كلاهما عن مالك به ( مالك عن أبي النضر) سالم بن أبي أمية ( مولى عمر بن عبيد الله) بضم العينين القرشي ( أنه قال) وصله ابن عبد البر من طريق يحيى بن سعيد عن القاسم عن عائشة ( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما مات عثمان بن مظعون) بالظاء المعجمة ابن حبيب بن وهب بن حذافة القرشي الجمحي أسلم قديمًا وهاجر إلى الحبشة الهجرة الأولى وروى ابن شاهين والبيهقي عنه قلت يا رسول الله إني رجل تشق علي الغربة في المغازي فتأذن لي في الخصاء فأختصي فقال لا ولكن عليك يا ابن مظعون بالصوم وفي الصحيحين عن سعد بن أبي وقاص رد النبي صلى الله عليه وسلم على عثمان بن مظعون التبتل ولو أذن له لاختصينا توفي بعد شهوده بدرًا في السنة الثانية من الهجرة وهو أول من مات بالمدينة من المهاجرين وأول من دفن منهم بالبقيع ( ومر بجنازته) عليه ( ذهبت ولم تلبس) بحذف إحدى التاءين ولابن وضاح تتلبس بتاءين ( منها) أي الدنيا ( بشيء) كثير لأنه تلبس بشيء منها لا محالة وفيه مدح الزهد في الدنيا وذم الاستكثار منها والثناء على المرء بما فيه وروى الترمذي عن عائشة قبل النبي صلى الله عليه وسلم عثمان بن مظعون وهو ميت وهو يبكي وعيناه تذرفان فلما توفي ابنه إبراهيم قال ألحق بسلفنا الصالح عثمان بن مظعون ( مالك عن علقمة بن أبي علقمة) بلال المدني مولى عائشة وهو علقمة ابن أم علقمة ثقة علامة مات سنة بضع وثلاثين ومائة ( عن أمه) مرجانة وتكنى بابنها تابعية ثقة وهي مولاة عائشة بلا خلاف ( أنها قالت سمعت عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم تقول قام رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فلبس ثيابه ثم خرج فأمرت جاريتي بريرة) بموحدة مفتوحة وراءين بلا نقط بينهما تحتية ساكنة ثم هاء صحابية مشهورة عاشت إلى زمن يزيد بن معاوية ( تتبعه) لتستفيد علمًا ويحتمل غيرة منها مخافة أن يأتي بعض حجر نسائه وقد روي ذلك قاله الباجي ( فتبعته حتى جاء البقيع) بالموحدة اتفاقًا ( فوقف في أدناه) أقربه ( ما شاء الله أن يقف ثم انصرف فسبقته بريرة فأخبرتني) بما فعل ( فلم أذكر له شيئًا حتى أصبح ثم ذكرت ذلك له فقال إني بعثت إلى أهل البقيع لأصلي عليهم) قال ابن عبد البر يحتمل أن الصلاة هنا الدعاء والاستغفار وأن تكون كالصلاة على الموتى خصوصية له لأن صلاته على من صلى عليه رحمة فكأنه أمر أن يستغفر لهم وللإجماع على أنه لا يصلي على قبر مرتين ولا يصلي على قبر من صلى إلا بحدثان ذلك وأكثر ما قيل ستة أشهر قال وإما بعثه ومسيره إليهم فلا يدرى لمثل هذا علة ويحتمل أن يكون ليعلمهم بالصلاة منه عليهم لأنه ربما دفن منهم من لم يصل عليه كالمسكينة ومثلها من دفن ليلاً ولم يشعر به ليكون مساويًا بينهم في صلاته عليهم ولا يؤثر بعضهم بذلك ليتم عدله وجاء حديث حسن يدل على أن ذلك كان منه حين خير فخرج إليه كالمودع للأحياء والأموات ثم أخرجه عن أبي مويهة مرفوعًا إني قد أمرت أن أستغفر لأهل البقيع فاستغفر لهم ثم انصرف فأقبل علي فقال يا أبا مويهة إن الله قد خيرني في مفاتيح خزائن الدنيا والخلد فيها ثم الجنة ولقاء ربي فاخترت لقاء ربي فأصبح من تلك الليلة فبدأه وجعه الذي مات منه صلى الله عليه وسلم وهذا الحديث رواه النسائي عن محمد بن سلمة والحارث بن مسكين كلاهما عن ابن القاسم عن مالك به ( مالك عن نافع أن أبا هريرة قال) كذا وقفه جمهور رواة الموطأ ورواه الوليد بن مسلم عن مالك عن نافع عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يتابع على ذلك عن مالك ولكنه مرفوع من طريق أيوب عن نافع عن أبي هريرة ومن طريق الزهري عن ابن المسيب عن أبي هريرة قاله ابن عبد البر ومن طريق الزهري رواه البخاري ومسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال ( أسرعوا) بهمزة قطع ( بجنائزكم) أي بحملها إلى قبرها إسراعًا خفيفًا فوق المشي المعتاد والخبب بحيث لا يشق على ضعفة من يتبعها ولا على حاملها ولا يحدث مفسدة بالميت والأمر للاستحباب باتفاق العلماء وشذ ابن حزم فقال بوجوبه وقيل المراد شدة المشي وهو قول الحنفية وبعض السلف ومال عياض إلى نفي الخلاف فقال من استحبه أراد الزيادة على المشي المعتاد ومن كرهه أراد الإفراط كالرمل والحاصل أنه يستحب الإسراع لكن بحيث لا ينتهي إلى شدة يخاف منها حدوث مفسدة بالميت ومشقة على الحامل أو المشيع لئلا ينافي المقصود من النظافة وإدخال المشقة على المسلم قال القرطبي مقصود الحديث أن لا يبطأ بالميت عن الدفن ولأن البطء ربما أدى إلى التباهي والاحتفال قال ابن عبد البر وتأوله قوم على تعجيل الدفن لا المشي وليس كما ظنوا ويرده قوله تضعونه عن رقابكم وتبعه النووي فقال إنه باطل مردود بهذا وتعقبه الفاكهاني بأن الحمل على الرقاب قد يعبر به عن المعاني كما يقول حمل فلان على رقبته ديونًا فيكون المعنى استريحوا من نظر من لا خير فيه قال ويؤيده أن الكل لا يحملونه قال الحافظ ويؤيده حديث ابن عمر سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إذا مات أحدكم فلا تحبسوه وأسرعوا به إلى قبره أخرجه الطبراني بإسناد حسن ولأبي داود عن حصين بن وحوح مرفوعًا لا ينبغي لجيفة مسلم أن تبقى بين ظهراني أهله ( فإنما هو خير تقدمونه) كذا في الأصول والقياس تقدمونها أي الجنائز ( إليه) أي الخير باعتبار الثواب والإكرام الحاصل له في قبره فيسرع به ليلقاه قريبًا قال ابن مالك وروي إليها بتأنيث الضمير على تأويل الخبر بالرحمة أو الحسنى ( أو شر تضعونه عن رقابكم) فلا مصلحة لكم في مصاحبته لأنها بعيدة من الرحمة ويؤخذ منه ترك صحبة أهل البطالة وغير الصالحين وفيه ندب المبادرة بدفن الميت لكن بعد تحقق أنه مات أما مثل المطعون والمسبوت والمفلوج فينبغي أن لا يسرع بتجهيزهم حتى يمضي يوم وليلة ليتحقق موتهم نبه عليه ابن بزيزة، والله تعالى أعلم.



رقم الحديث 579 وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ كَمَا تُنَاتَجُ الْإِبِلُ مِنْ بَهِيمَةٍ جَمْعَاءَ، هَلْ تُحِسُّ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ؟ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ الَّذِي يَمُوتُ وَهُوَ صَغِيرٌ؟ قَالَ: اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ.


( جامع الجنائز)

( مالك عن هشام بن عروة عن عباد) بشد الموحدة ( ابن عبد الله بن الزبير) بن العوام كان قاضي مكة زمن أبيه وخليفته إذا حج ( أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أخبرته أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت وهو مستند إلى صدرها وأصغت) بإسكان الصاد المهملة وفتح الغين المعجمة أي أمالت سمعها ( إليه يقول) وفي رواية قتيبة وهو يقول ( اللهم اغفر لي وارحمني) فيه ندب الدعاء بهما ولا سيما عند الموت وإذا دعا بذلك المصطفى فأين غيره منه والدعاء مخ العبادة لما فيه من الإخلاص والخضوع والضراعة والرجاء وذلك صريح الإيمان ( وألحقني) بهمزة قطع ( بالرفيق الأعلى) وفي البخاري من رواية ذكوان عن عائشة فجعل يقول في الرفيق الأعلى حتى قبض ومالت يده ولأحمد من رواية المطلب عن عائشة فقال مع الرفيق الأعلى مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين إلى قوله رفيقًا ومعنى كونهم رفيقًا تعاونهم على الطاعة وارتفاق بعضهم ببعض وأفرده إشارة إلى أن أهل الجنة يدخلون على قلب رجل واحد قاله السهيلي فالمراد بالرفيق هؤلاء المذكورون في الآية قال الحافظ وهو المعتمد وعليه الأكثر وفي حديث أبي موسى عند النسائي وصححه ابن حبان فقال اللهم الرفيق الأعلى الأسعد مع جبريل وميكائيل وإسرافيل وظاهره أن الرفيق المكان الذي تحصل المرافقة فيه مع المذكورين وهذه الأحاديث ترد زعم أن الرفيق تغيير من الراوي والصواب الرقيع بالقاف والعين المهملة وهو من أسماء السماء.
وقال ابن عبد البر هو أعلى الجنة والجوهري الجنة ويؤيده ما عند ابن إسحاق الرفيق الأعلى الجنة وقيل الرفيق الأعلى الله عز وجل لأنه من أسمائه ففي مسلم وأبي داود مرفوعًا أن الله رفيق يحب الرفيق وهو صفة ذات كالحليم أو صفة فعل وغلط الأزهري هذا القول ولا وجه له لأن تأويله على ما يليق بالله سائغ قال السهيلي الحكمة في اختتام كلام المصطفى بهذه الكلمة تضمنها التوحيد والذكر بالقلب حتى يستفاد منه الرخصة لغيره أنه لا يشترط أن يكون الذكر باللسان لأن بعض الناس قد يمنعه من النطق مانع فلا يضره إذا كان قلبه عامرًا بالذكر قال وفي بعض كتب الواقدي أول ما تكلم به صلى الله عليه وسلم وهو مسترضع عند حليمة الله أكبر وآخر ما تكلم به ما في حديث عائشة يعني في الصحيحين قالت عائشة فكانت آخر ما تكلم بها صلى الله عليه وسلم قوله اللهم الرفيق الأعلى وروى الحاكم عن أنس آخر ما تكلم به جلال ربي الرفيع قد بلغت ثم قضى وجمع بأن هذا آخر على الإطلاق بعد ما كرر اللهم الرفيق الأعلى قبل جلال أي أختار جلال ربي الرفيع قد بلغت ما أوحي إلي وحديث الباب رواه مسلم في المناقب حدثنا قتيبة بن سعيد عن مالك به وتابعه أبو أسامة وعبد الله بن نمير وعبدة بن سليمان كلهم عن هشام به في مسلم أيضًا وله طرق في الصحيحين وغيرهما ( مالك بلغه أن عائشة) أخرجه البخاري ومسلم من طريق إبراهيم بن سعد عن أبيه عن عروة عن عائشة ( قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما من نبي) أراد ما يشمل الرسول ( يموت حتى يخير) بضم أوله مبني للمفعول بين الدنيا والآخرة ( قالت فسمعته يقول) في مرضه الذي مات فيه وأخذته بحة شديدة كما في رواية سعد ( اللهم الرفيق الأعلى فعرفت أنه ذاهب) وفي الصحيحين من طريق الزهري عن عروة عنها كان صلى الله عليه وسلم وهو صحيح يقول أنه لم يقبض نبي قط حتى يرى مقعده ثم يحيا أو يخير فلما حضره القبض غشي عليه فلما أفاق شخص بصره نحو سقف البيت فقال اللهم في الرفيق الأعلى فقلت إذن لا يختارنا وعرفت أنه حديثه الذي كان يحدثنا وهو صحيح وفي مغازي أبي الأسود عن عروة أن جبريل نزل عليه في تلك الحالة فخيره وعند أحمد عن أبي مويهة قال قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم إني أوتيت مفاتيح خزائن الأرض والخلد ثم الجنة فخيرت بين ذلك وبين لقاء ربي والجنة فاخترت لقاء ربي والجنة ولعبد الرزاق من مرسل طاوس رفعه خيرت بين أن أبقى حتى أرى ما يفتح على أمتي وبين التعجيل فاخترت التعجيل ( مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر قال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي) أي فيهما قال الباجي العرض لا يكون إلا على حي يعلم ما يعرض عليه ويفهم ما يخاطب به قال ويحتمل غداة واحدة وعشية واحدة ويحتمل كل غداة وكل عشي وقال ابن التين يحتمل غداة واحدة وعشية واحدة يكون العرض فيهما ويكون معنى حتى يبعثك أي لا تصل إليه إلى يوم البعث ويحتمل كل غداة وعشي وهو محمول على أنه يحيا منه جزء ليدرك ذلك فغير ممتنع أن تعاد الحياة إلى جزء من الميت أو أجزاء وتصح مخاطبته والعرض عليه قال الحافظ والأول موافق لأحاديث سياق المسألة وعرض المقعدين على كل أحد وقال القرطبي يجوز أن هذا العرض على الروح فقط ويجوز أن يكون عليه مع جزء من البدن قال والمراد بالغداة والعشي وقتهما وإلا فالموتى لا صباح عندهم ولا مساء قال وهذا في حق المؤمن والكافر واضح وأما المؤمن المخلط فمحتمل أيضًا في حقه لأنه يدخل الجنة في الجملة ثم هو مخصوص بغير الشهداء ويحتمل أن يقال فائدة العرض في حقهم تبشير أرواحهم باستقرارها في الجنة مقترنة بأجسادها فإن فيه قدرًا زائدًا على ما هي فيه الآن ( إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة) اتحد فيه الشرط والجزاء لفظًا فلا بد من تقدير قال التوربشتي التقدير فمقعد من مقاعد أهل الجنة يعرض عليه وقال الطيبي الشرط والجزاء إذا اتحدا لفظًا دل على الفخامة والمراد أنه يرى بعد البعث من كرامة الله ما ينسيه هذا المقعد انتهى.
وعند مسلم بلفظ إن كان من أهل الجنة فالجنة أي فالمعروض الجنة ( وإن كان من أهل النار فمن أهل النار) أي فمقعده من مقاعد أهلها يعرض عليه أو يعلم بالعكس مما يسر به أهل الجنة لأن هذه المنزلة طليعة تباشير أهل السعادة الكبرى ومقدمة تباريح الشقاوة العظمى وفي ذلك تنعيم لمن هو من أهل الجنة وتعذيب لمن هو من أهل النار بمعاينة ما أعد له وانتظاره ذلك اليوم الموعود ( يقال له هذا مقعدك حتى يبعثك الله إلى يوم القيامة) كذا في رواية يحيى بلفظ إلى وللأكثر بحذفها وليحيى النيسابوري وابن القاسم إليه بالضمير حكاه ابن عبد البر قال والمعنى حتى يبعثك الله إلى هذا المقعد ويحتمل أن الضمير يعود إلى الله فإلى الله ترجع الأمور والأول أظهر قال الحافظ ويؤيده رواية الزهري عن سالم عن أبيه بلفظ ثم يقال هذا مقعدك الذي تبعث إليه يوم القيامة أخرجه مسلم وأخرج النسائي رواية ابن القاسم لكن بحذف إليه كالأكثرين وفيه إثبات عذاب القبر وأن الروح لا تفنى بفناء الجسد لأن العرض لا يقع إلا على حي قال ابن عبد البر واستدل به على أن الأرواح على أفنية القبور وهو الصحيح لأن الأحاديث بذلك أصح من غيرها والمعنى عندي أنها قد تكون على أفنية القبور لا أنها لا تفارقها بل هي كما قال مالك بلغني أن الأرواح تسرح حيث شاءت والحديث رواه البخاري عن إسماعيل ومسلم عن يحيى كلاهما عن مالك به ( مالك عن أبي الزناد) عبد الله بن ذكوان ( عن الأعرج) عبد الرحمن بن هرمز ( عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال كل ابن آدم تأكله الأرض) أي جميع جسمه وينعدم بالكلية أو المراد أنها باقية لكن زالت أعراضها المعهودة قال إمام الحرمين لم يدل قاطع سمعي على تعيين أحدهما ولا بعد أن تصير أجسام العباد بصفة أجسام التراب ثم تعاد بتركيبها إلى المعهود ( إلا عجب الذنب) بفتح العين وسكون الجيم وبالموحدة ويقال بالميم وهو العصعص أسفل العظم الهابط من الصلب فإنه قاعدة البدن كقاعدة الجدار فلا تأكله الأرض ( لأنه منه خلق) أي ابتدئ خلقه ( ومنه يركب) خلقه عند قيام الساعة وهذا أظهر من احتمال أن المراد منه ابتداء الخلق وابتداء التركيب وبالأول جزم الباجي فقال لأنه أول ما خلق من الإنسان وهو الذي يبقى منه ليعاد تركيب الخلق عليه قال ابن عبد البر هذا عموم يراد به الخصوص لما روي في أجساد الأنبياء والشهداء أن الأرض لا تأكلهم وحسبك ما جاء في شهداء أحد إذ أخرجوا بعد ست وأربعين سنة لينة أجسادهم يعني أطرافهم فكأنه قال من تأكله الأرض فلا تأكل منه عجب الذنب وإذا جاز أن لا تأكله جاز أن لا تأكل الشهداء وإنما في هذا التسليم لمن يجب له التسليم صلى الله عليه وسلم انتهى.
وزاد غيره الصديقين والعلماء العاملين والمؤذن المحتسب وحامل القرآن العامل به والمرابط والميت بالطاعون صابرًا محتسبًا والمكثر من ذكر الله والمحبين لله فتلك عشرة كاملة ( مالك عن ابن شهاب عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك الأنصاري) أبي الخطاب المدني من كبار التابعين ويقال ولد في العهد النبوي ومات في خلافة سليمان ( أنه أخبره أن أباه كعب بن مالك) السلمي المدني الصحابي المشهور أحد الثلاثة الذين خلفوا مات في خلافة علي رضي الله عنهما ( كان يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إنما نسمة المؤمن) بفتح النون والسين أي روحه وفي كتاب أبي القاسم الجوهري النسمة الروح والنفس والبدن وإنما يعني في هذا الحديث الروح قال الباجي ويحتمل عندي أن يريد به ما يكون فيه الروح من الميت قبل البعث ويحتمل أنه شيء من محل الروح تبقى فيه الروح ( طير يعلق) بالتحتية صفة طير وبفتح اللام رواية الأكثر كما قال ابن عبد البر وروي بضمها قال والمعنى واحد وهو الأكل والرعي ( في شجر الجنة) لتأكل من ثمارها وقال البوني معنى رواية الفتح تأوي والضم ترعى تقول العرب ما ذقت اليوم علوقًا وقال السهيلي يعلق بفتح اللام يتشبث بها ويرى مقعده منها ومن رواه بضم اللام فمعناه يصيب منها العلقة من الطعام فقد أصاب دون ما أصاب غيره ممن أدرك الرغد أي العيش الواسع فهو مثل مضروب يفهم منه هذا المعنى وإن أراد بتعلق الأكل نفسه فهو مخصوص بالشهيد فتكون رواية الضم للشهيد والفتح لمن دونهم والله أعلم بمراد رسوله انتهى واختلف في أن هذا الحديث عام في الشهداء وغيرهم إذا لم يحبسهم عن الجنة كبيرة ولا دين أو خاص بالشهداء دون غيرهم لأن القرآن والسنة لا يدلان إلا على ذلك حكاهما ابن عبد البر وذكر بعض أدلة الثاني وقال بحمله على الشهداء يزول ما ظنه قوم من معارضة هذا الحديث للحديث قبله في عرض المقعد لأنه إذا كان يسرح في الجنة فهو يراها في جميع أحيانه وليس كما قالوا إنما هذا في الشهداء خاصة وما قبله في سائر الناس واختار الأول ابن كثير فقال في هذا الحديث إن روح المؤمن تكون على شكل طير في الجنة وأما أرواح الشهداء ففي حواصل طير خضر ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها وتأوي إلى قناديل من ذهب في ظل العرش كما رواه أحمد عن ابن عباس مرفوعًا فهي كالراكب بالنسبة إلى أرواح عموم المؤمنين فإنها تطير بأنفسها فهو بشرى لكل مؤمن بأن روحه تكون في الجنة أيضًا وتسرح فيها وتأكل من ثمارها وترى ما فيها من النضرة والسرور ( حتى يرجعه الله إلى جسده يوم يبعثه) يوم القيامة قال وهذا حديث صحيح عزيز عظيم اجتمع فيه ثلاثة أئمة فرواه أحمد عن الشافعي عن مالك به انتهى ( مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: قال) الله ( تبارك وتعالى) هذا من الأحاديث الإلهية فيحتمل أن يكون صلى الله عليه وسلم تلقاه عن الله بلا واسطة أو بواسطة قاله الحافظ ( إذا أحب عبدي لقائي) عند حضور أجله إن عاين ما يحب أحب لقاء الله وإن عاين ما يكره لم يحب الخروج من الدنيا هذا معناه كما تشهد به الآثار المرفوعة وذلك حين لا تقبل توبة وليس المراد الموت لأنه لا يخلو من كراهته نبي ولا غيره ولكن المكروه من ذلك إيثار الدنيا وكراهة أن يصير إلى الله قاله ابن عبد البر ( أحببت لقاءه) أي أردت له الخير ( وإذا كره لقائي كرهت لقاءه) زاد في حديث عبادة في الصحيحين فقالت عائشة إنا لنكره الموت قال صلى الله عليه وسلم ليس ذاك ولكن المؤمن إذا حضره الموت بشر برضوان الله وكرامته فليس شيء أحب إليه مما أمامه فأحب لقاء الله وأحب الله لقاءه وأن الكافر إذا حضر بشر بعذاب الله وعقوبته فليس شيء أكره إليه مما أمامه فكره لقاء الله وكره الله لقاءه ولأحمد عن عائشة مرفوعًا إذا أراد الله بعبد خيرًا قيض الله له قبل موته بعام ملكًا يسدده ويوفقه حتى يقال مات بخير ما كان فإذا حضر ورأى إلى ثوابه اشتاقت نفسه فذلك حين أحب لقاء الله وأحب الله لقاءه وإذا أراد الله بعبد شرًا قيض الله له قبل موته بشهر شيطانًا فأضله وفتنه حتى يقال مات بشر ما كان عليه فإذا حضر ورأى ما أعد الله له من العذاب جزعت نفسه فذلك حين كره لقاء الله وكره الله لقاءه وقال الخطابي معنى محبة لقاء الله إيثار العبد الآخرة على الدنيا ولا يحب طول القيام فيها لكن يستعد للارتحال عنها واللقاء على وجوه منها الرؤية ومنها البعث كقوله تعالى { { قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله } } أي البعث ومنها الموت كقوله تعالى { { من كان يرجو لقاء الله فإن أجل الله لآت } } وقال ابن الأثير المراد باللقاء المصير إلى الدار الآخرة وطلب ما عند الله وليس الغرض به الموت لأن كلا يكرهه فمن ترك الدنيا وأبغضها أحب لقاء الله ومن آثرها وركن إليها كره لقاء الله ومحبة الله لقاء عبده إرادة الخير له وإنعامه عليه وفي الكواكب إن قيل الشرط ليس سببًا للجزاء بل الأمر بالعكس قلت مثله يؤول بالإخبار أي أخبره بأني أحببت لقاءه وكذا الكراهة والحديث رواه البخاري في التوحيد عن إسماعيل عن مالك به ( مالك عن أبي الزناد) بكسر الزاي والتخفيف ( عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال) هكذا رفعه أكثر رواة الموطأ ووقفه القعنبي ومصعب وذلك لا يضر في رفعه لأن رواته ثقات حفاظ ( قال رجل) قال الحافظ قيل اسمه جهينة وذلك أن في صحيح أبي عوانة أن هذا الرجل هو آخر أهل النار خروجًا منها وفي رواية مالك للخطيب عن ابن عمر آخر من يدخل الجنة رجل من جهينة يقول أهل الجنة عند جهينة الخبر اليقين ( لم يعمل حسنة قط) ليس فيه ما ينفي التوحيد عنه والعرب تقول مثل هذا في الأكثر من فعله كحديث لا يضع عصاه عن عاتقه وفي رواية لم يعمل خيرًا قط إلا التوحيد قاله ابن عبد البر وفي الصحيح ممن كان قبلكم يسيء الظن بعمله وفي رواية يسرف على نفسه وفي ابن حبان أنه كان نباشًا أي للقبور يسرق أكفان الموتى ( لأهله) وفي الصحيح من طريق ابن شهاب عن حميد عن أبي هريرة مرفوعًا فلما حضره الموت قال لبنيه ( إذا مات فحرقوه) وفي رواية الزهري إذا أنا مت فأحرقوني ثم اطحنوني ( ثم أذروا نصفه في البر ونصفه في البحر فوالله لئن قدر الله عليه) بخفة الدال وشدها من القدر وهو القضاء لا من القدرة والاستطاعة كقوله فظن أن لن نقدر عليه أو بمعنى ضيق كقوله تعالى { { ومن قدر عليه رزقه } } وقال بعض العلماء هذا رجل جهل بعض صفات الله وهي القدرة ولا يكفر جاهل بعضها وإنما يكفر من عاند الحق قاله أبو عمر ( ليعذبنه عذابًا لا يعذبه أحدًا من العالمين) الموحدين ( فلما مات الرجل فعلوا ما أمرهم به فأمر الله البر فجمع ما فيه وأمر الله البحر فجمع ما فيه) زاد في رواية الزهري فإذا هو قائم وزاد أبو عوانة في أسرع من طرفة عين وفيه دلالة على رد من زعم أن الخطاب لروحه لأن التحريق والتذرية إنما وقعا على الجسد وهو الذي جمع وأعيد ( ثم قال لم فعلت هذا قال من خشيتك يا رب وأنت أعلم) إني إنما فعلته من خشيتك أي خوف عقابك قال ابن عبد البر وذلك دليل على إيمانه إذ الخشية لا تكون إلا لمؤمن بل لعالم قال تعالى { { إنما يخشى الله من عباده العلماء } } ويستحيل أن يخافه من لا يؤمن به وقد روى الحديث قال رجل لم يعمل خيرًا قط إلا التوحيد وهذه اللفظة ترفع الإشكال في إيمانه والأصول تعضدها إن الله لا يغفر أن يشرك به وقد ( قال فغفر له) ولأبي عوانة من حديث حذيفة عن الصديق أنه آخر أهل الجنة دخولاً قال ابن التين ذهب المعتزلة إلى أن هذا الرجل إنما غفر له لتوبته التي تابها لأن قبولها واجب عقلاً عندهم والأشعري قطع بها سمعًا وغيره جوز القبول كسائر الطاعات وقال ابن المنير قبول التوبة عند المعتزلة واجب على الله تعالى عقلاً وعندنا واجب بحكم الوعد والفضل والإحسان إذ لو وجب القبول على الله عقلاً لاستحق الذم إن لم يقبل وهو محال لأن من كان كذلك يكون مستكملاً بالقبول والمستكمل بالغير ناقص بذاته وذلك في حق الله محال ولأن الذم إنما يمنع من الفعل من يتأذى لسماعه وينفر عنه طبعه ويظهر له بسببه نقص حال أما المتعالي عن الشهوة والنفرة والزيادة والنقص فلا يعقل تحقق الوجوب في حقه بهذا المعنى ولأنه تعالى تمدح بقبول التوبة في قوله { { ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده } } ولو كان واجبًا ما تمدح به لأن أداء الواجب لا يفيد المدح والثناء والتعظيم قال بعض المفسرين قبول التوبة من الكفر يقطع به على الله تعالى إجماعًا وهذا محمل الآية وأما المعاصي فيقطع بأنه يقبل التوبة منها من طائفة من الأمة واختلف هل يقبل توبة الجميع وأما إذا عين إنسان تائب فيرجى قبول توبته بلا قطع وأما إذا فرضنا تائبًا غير معين صحيح التوبة فقيل يقطع بقبول توبته وعليه طائفة منها الفقهاء والمحدثون لأنه تعالى أخبر عن نفسه بذلك وعلى هذا يلزم أن تقبل توبة جميع التائبين وذهب أبو المعالي وغيره إلى أن ذلك لا يقطع به على الله بل يقوي في الرجاء والقول الأول أرجح ولا فرق بين التوبة من الكفر والتوبة من المعاصي بدليل أن الإسلام يجب ما قبله والتوبة تجب ما قبلها انتهى.
والحديث رواه البخاري في التوحيد عن إسماعيل ومسلم من طريق روح كلاهما عن مالك به ( مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال كل مولود) أي من بني آدم صرح به جعفر بن ربيعة عن الأعرج عن أبي هريرة بلفظ كل بني آدم وكذا رواه خالد الواسطي عن عبد الرحمن بن إسحاق عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة ذكرهما ابن عبد البر ( يولد على الفطرة) عام في جميع المولودين على ظاهره وأصرح منه رواية البخاري ما من مولود إلا يولد على الفطرة ولمسلم ما من مولود إلا وهو على الملة وحكى ابن عبد البر عن قوم أنه لا يقتضي العموم وأن المراد كل من يولد على الفطرة وله أبوان غير مسلمين نقلاه إلى دينهما فالتقدير كل مولود يولد على الفطرة وأبواه يهوديان مثلاً فإنهما يهودانه ثم يصير عند بلوغه إلى ما يحكم به عليه ويكفي في الرد عليهم رواية مسلم عن أبي صالح عن أبي هريرة ليس من مولود إلا على هذه الفطرة حتى يعرب عنه لسانه وأصرح منها رواية كل بني آدم وأشهر الأقوال أن المراد بالفطرة الإسلام قال ابن عبد البر وهو المعروف عند عامة السلف وأجمع علماء التأويل على أن المراد بقوله تعالى { { فطرة الله التي فطر الناس عليها } } الإسلام واحتجوا بقول أبي هريرة عند الشيخين في آخر الحديث اقرؤوا إن شئتم { { فطرة الله } } الآية وبحديث عياض بن حماد عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه إني خلقت عبادي حنفاء كلهم فاختالتهم الشياطين عن دينهم الحديث ورواه غيره فقال حنفاء مسلمين ورجح بقوله تعالى { { فأقم وجهك للدين حنيفًا فطرة الله } } لأنها إضافة مدح وقد أمر الله نبيه بلزومها فعلم أنها الإسلام وحكى ابن عبد البر عن الأوزاعي وسحنون ورواه أبو داود عن حماد بن سلمة أن المراد حين أخذ الله العهد فقال ألست بربكم قالوا بلى قال الطيبي ويؤيده وجوه أحدها أن التعريف في الفطرة إشارة إلى معهود وهو قوله { { فطرة الله } } ومعنى { { فأقم وجهك } } أثبت على العهد القديم ثانيها مجيء رواية بلفظ الملة بدل الفطرة والدين في قوله { { للدين حنيفًا } } فهو عين الملة قال تعالى { { دينًا قيمًا ملة إبراهيم حنيفًا } } ثالثها التشبيه بالمحسوس المعاين ليفيد أن ظهوره يقع في البيان مبلغ هذا المحسوس قال والمراد تمكن الناس من الهدي في أصل الجبلة والتهيؤ لقبول الدين فلو ترك المرء عليها لاستمر على لزومها ولم يفارقها إلى غيرها لأن حسن هذا الدين ثابت في النفوس وإنما يعدل عنه لآفة من الآفات البشرية كالتقليد انتهى وإلى هذا مال القرطبي في المفهم فقال المعنى أن الله خلق قلوب بني آدم متأهلة لقبول الحق كما خلق أعينهم وأسماعهم قابلة للمرئيات والمسموعات فما دامت باقية على ذلك القبول وعلى تلك الأهلية أدركت الحق ودين الإسلام هو الدين الحق ودل على هذا المعنى بقية الحديث وقال ابن القيم ليس المراد أنه خرج من بطن أمه يعلم الدين لأن الله يقول { { والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئًا } } ولكن المراد أن فطرته مقتضية لمعرفة دين الإسلام ومحبته فنفس الفطرة تستلزم الإقرار والمحبة وليس المراد مجرد قبول الفطرة لذلك فإنه لا يتغير بتهويد الأبوين مثلاً بحيث يخرجان الفطرة عن القبول وإنما المراد أن كل مولود يولد على إقراره بالربوبية فلو خلى وعدم المعارض لم يعدل عن ذلك إلى غيره كما أنه يولد على محبة ما يلائم بدنه من ارتضاع اللبن حتى يصرفه عنه الصارف ومن ثم شبهت الفطرة باللبن بل كانت إياه في تأويل الرؤيا انتهى وقيل معناه أنه يولد على ما يصير إليه من شقاوة أو سعادة فمن علم الله أنه يصير مسلمًا ولد على الإسلام ومن علم أنه يصير كافرًا ولد على الكفر فكأنه أول الفطرة بالعلم وتعقب بأنه لو كان كذلك لم يكن لقوله فأبواه إلى آخره معنى لفعلهما به ما هو الفطرة التي ولد عليها فينافي التمثيل بحال البهيمة وقيل معناه أنه تعالى خلق فيهم المعرفة والإنكار فلما أخذ الميثاق من الذرية قالوا جميعًا بلى أما أهل السعادة فطوعًا وأما أهل الشقاوة فكرها وتعقب بأنه يحتاج إلى نقل صحيح فإنه لا يعرف هذا التفصيل عند أخذ الميثاق إلا عن السدي ولم يسنده وكأنه أخذه من الإسرائيليات وقيل الفطرة الخلقة أي يولد سالمًا لا يعرف كفرًا ولا إيمانًا ثم يعتقد إذا بلغ التكليف ورجحه ابن عبد البر وقال إنه يطابق التمثيل بالبهيمة ولا يخالف حديث عياض لأن المراد بقوله حنفاء أي على الاستقامة وتعقب بأنه لو كان كذلك لم يقتصر في أحوال التبديل على الكفر دون ملة الإسلام ولم يكن لاستشهاد أبي هريرة بالآية معنى وقيل اللام في الفطرة للعهد أي فطرة أبويه وهو متعقب بما ذكر في الذي قبله وحمله محمد بن الحسن الشيباني على أحكام الدنيا فادعى فيه النسخ فقال هذا في أول الإسلام قبل أن تنزل الفرائض والأمر بالجهاد قال أبو عبيد كأنه عنى أنه لو كان يولد على الإسلام فمات قبل أن يهوده أبواه مثلاً لم يرثاه والحكم أنهما يرثاه فدل على تغير الحكم ورده ابن عبد البر بأنه حاد عن الجواب وفي حديث الأسود بن سريع أن ذلك كان بعد الأمر بالجهاد وكذا رده غيره والحق أنه إخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم بما وقع في نفس الأمر ولم يرد إثبات أحكام الدنيا قال ابن القيم وسبب اختلاف العلماء في معنى الفطرة أن القدرية احتجوا بالحديث على أن الكفر والمعصية ليسا بقضاء الله بل مما ابتدأ الناس إحداثه فحاول جماعة من العلماء مخالفتهم بتأويل الفطرة على غير معنى الإسلام ولا يلزم من حملها عليه موافقة القدرية لحمله على أن ذلك يقع بتقدير الله ولذا احتج مالك عليهم بقوله الله أعلم بما كانوا عاملين انتهى.
روى أبو داود عن ابن وهب سمعت مالكًا وقيل له أن أهل الأهواء يحتجون علينا بهذا الحديث فقال مالك احتج عليهم بآخره الله أعلم بما كانوا عاملين ووجه ذلك أن القدرية استدلوا به على أن الله فطر العباد على الإسلام وأنه لا يضل أحدًا فإنما يضل الكافر أبواه فأشار مالك إلى رده بقوله الله أعلم فإنه دال على علمه بما يصيرون إليه بعد إيجادهم على الفطرة فهو دليل على تقدم العلم الذي ينكره غلاتهم ومن ثم قال الشافعي أهل القدر إن أثبتوا العلم خصموا ( فأبواه يهودانه أو ينصرانه) زاد ابن شهاب عن أبي سلمة عن أبي هريرة في الصحيحين أو يمجسانه قال الطيبي الفاء إما للتعقيب أو للسببية أو جزاء شرط مقدر أي إذا تقرر ذلك فمن تغير كان بسبب أبويه إما بتعليمهما إياه أو ترغيبهما فيه أو كونه تبعًا لهما في الدين يقتضي أن حكمه حكمهما وخص الأبوان بالذكر للغالب فلا حجة فيه لمن حكم بإسلام الطفل الذي يموت أبواه كافرين كما هو أحد قولي أحمد فقال استقر عمل الصحابة فمن بعدهم على عدم التعرض لأطفال أهل الذمة واستشكل الحديث بأنه يقتضي أن كل مولود يقع له التهود أو غيره مما ذكر مع أن كثيرًا يبقى مسلمًا لا يقع له شيء وأجيب بأن المراد أن الكفر ليس من ذات المولود ومقتضى طبعه بل إنما يحصل بسبب خارجي فإن سلم منه استمر على الحق ( كما تناتج) بفوقية فنون فألف ففوقية فجيم أي يولد ( الإبل من بهيمة جمعاء) بضم الجيم وسكون الميم والمد نعت لبهيمة أي لم يذهب من بدنها شيء سميت بذلك لاجتماع أعضائها ( هل تحس) بضم أوله وكسر ثانيه أي تبصر وفي رواية هل ترى ( فيها من جدعاء) بفتح الجيم وإسكان المهملة والمد أي مقطوعة الأنف أو الأذن أو الأطراف والجملة صفة أو حال أي بهيمة تقول فيها هذا القول أي كل من نظر إليها قاله لظهور سلامتها زاد في رواية في الصحيح حتى تكونوا أنتم تجدعونها قال الباجي يريد أن المولود يولد على الفطرة ثم يغيره بعد ذلك أبواه كما أن البهيمة تولد تامة لا جدع فيها من أصل الخلقة وإنما تجدع بعد ذلك ويغير خلقها وقال في المفهم يعني أن البهيمة تلد الولد كامل الخلقة فلو ترك كذلك كان بريا من العيب لكنهم تصرفوا فيه بقطع أذنه مثلاً فخرج عن الأصل وهو تشبيه واقع ووجهه واضح وقال الطيبي كما حال من الضمير المنصوب في يهودانه أي يهودان المولود بعد خلقه على الفطرة حال كونه شبيها بالبهيمة التي جدعت بعد أن خلقت سليمة أو صفة مصدر محذوف أي يغيرانه مثل تغييرهم البهيمة السليمة وقد تنازعت الأفعال الثلاثة في كما على التقديرين ( قالوا يا رسول الله أرأيت) أي أخبرنا من إطلاق السبب على المسبب لأن مشاهدة الأشياء طريق إلى الإخبار عنها أي قد رأيت ( الذي يموت وهو صغير) لم يبلغ الحلم أيدخل الجنة ( قال الله أعلم بما كانوا عاملين) قال ابن قتيبة أي لو أبقاهم فلا تحكموا عليهم بشيء وقال غيره أي علم أنهم لا يعملون شيئًا ولا يرجعون فيعملون أو أخبر بعلم الشيء لو وجد كيف يكون ولم يرد أنهم يجازون بذلك في الآخرة لأن العبد لا يجازى بما لم يعمل أو معناه أنه علم أنهم لم يعملوا ما يقتضي تعذيبهم ضرورة أنهم غير مكلفين وقال البيضاوي فيه إشارة إلى أن الثواب والعقاب لا لأجل الأعمال وإلا لزم أن تكون ذراري المسلمين والكافرين لا من أهل الجنة ولا من أهل النار بل الموجب لهما اللطف الرباني والخذلان الإلهي المقدر لهما في الأزل فالأولى فيهما التوقف وعدم الجزم بشيء فإن أعمالهم موكولة إلى علم الله فيما يعود إلى أمر الآخرة من الثواب والعقاب وقال النووي أجمع من يعتد به من علماء المسلمين أن من مات من أطفال المسلمين فهو من أهل الجنة لأنه ليس مكلفًا وتوقف فيه بعض من لا يعتد به لحديث عائشة في مسلم أنه صلى الله عليه وسلم دعي لجنازة صبي من الأنصار فقلت طوبى له عصفور من عصافير الجنة لم يعمل السوء ولم يدركه فقال أو غير ذلك يا عائشة أن الله خلق للجنة أهلا خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم وخلق للنار أهلا خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم وأجابوا عن هذا بأنه لعله نهاها عن المسارعة إلى القطع من غير أن يكون عندها دليل قاطع أو قاله قبل أن يعلم أن أطفال المسلمين في الجنة انتهى وأطلق ابن أبي زيد الإجماع في ذلك ولعله أراد إجماع من يعتد به وقال المازري الخلاف في غير أولاد الأنبياء انتهى وأما أطفال الكفار فاختلف العلماء قديمًا وحديثها فيهم على عشرة أقوال أحدها أنهم في المشيئة ونقل عن الحمادين وإسحاق وابن المبارك والشافعي قال ابن عبد البر وهو مقتضى صنيع مالك ولا نص عنه لكن صرح أصحابه بأن أطفال المسلمين في الجنة وأطفال الكفار في المشيئة والحجة فيه حديث ابن عباس وأبي هريرة في الصحيحين سئل صلى الله عليه وسلم عن أولاد المشركين فقال الله أعلم بما كانوا عاملين ثانيها أنهم تبع لآبائهم حكاه ابن حزم عن الأزارقة والخوارج ولأحمد عن عائشة سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ولدان المسلمين قال في الجنة وعن أولاد المشركين قال في النار فقلت لم يدركوا الأعمال قال ربك أعلم بما كانوا عاملين لو شئت أسمعتك تضاغيهم في النار وهو حديث ضعيف جدًا لأن في إسناده أبا عقيل مولى بهية وهو متروك ثالثها أنهم في برزخ بين الجنة والنار إذ لا حسنات لهم يدخلون بها الجنة ولا سيئات يدخلون بها النار رابعها أنهم خدم أهل الجنة روى الطيالسي وأبو يعلى والطبري والبزار مرفوعًا أولاد المشركين خدم أهل الجنة وإسناده ضعيف خامسها يصيرون ترابًا سادسها في النار حكاه عياض عن أحمد وغلطه ابن تيمية بأنه قول لبعض أصحابه ولا يحفظ عن الإمام أصلاً وهو غير الثاني لأنهم تبع لآبائهم لأنه لا يلزم من كونهم في النار أن يكونوا مع آبائهم كما أن عصاة الموحدين في النار لا مع الكفار سابعها يمتحنون في الآخرة بأن ترفع لهم نار فمن دخلها كانت عليه بردًا وسلامًا ومن أبى عذب أخرجه البزار من حديث أنس وأبي سعيد والطبراني من حديث معاذ وقد صحت مسألة الامتحان في حق المجنون ومن مات في الفترة من طرق صحيحة وحكى البيهقي أنه المذهب الصحيح وتعقب بأن الآخرة ليست دار تكليف فلا عمل فيها ولا ابتلاء وأجيب بأن ذلك بعد الاستقرار في الجنة أو النار وأما في عرصات القيامة فلا مانع من ذلك وقد قال تعالى { { يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون } } وفي الصحيحين أن الناس يؤمرون بالسجود فيصير ظهر المنافق طبقًا فلا يستطيع أن يسجد ثامنها الوقف تاسعها الإمساك وفي الفرق بينهما دقة عاشرها أنهم في الجنة قال النووي وهو المذهب الصحيح المختار الذي صار إليه المحققون لقوله تعالى { { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً } } وإذا لم يعذب العاقل لأنه لم تبلغه دعوة فأولى غيره انتهى.
وفي حديث سمرة عند البخاري في رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم الشيخ في أصل الشجرة إبراهيم والصبيان حوله فأولاد الناس وهو عام يشمل أولاد المسلمين وغيرهم وروى ابن عبد البر من طريق أبي معاذ عن الزهري عن عروة عن عائشة قال سألت خديجة النبي صلى الله عليه وسلم عن أولاد المشركين فقال هم مع آبائهم ثم سألته بعد ذلك فقال الله أعلم بما كانوا عاملين ثم سألته بعدما استحكم الإسلام فنزلت { { ولا تزر وازرة وزر أخرى } } فقال هم على الفطرة وقال في الجنة قال الحافظ وأبو معاذ هو سليمان بن أرقم وهو ضعيف ولو صح هذا لكان قاطعًا للنزاع انتهى.
وحديث الباب له طرق كثيرة في الصحيحين وغيرهما ( مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل بقبر الرجل فيقول يا ليتني مكانه) أي ميتًا وذلك عند ظهور الفتن وخوف ذهاب الدين لغلبة الباطل وأهله وظهور المعاصي أو ما يقع لبعضهم من المصيبة في نفسه أو أهله أو دنياه وإن لم يكن في ذلك شيء يتعلق بدينه وعند مسلم من طريق أبي حازم عن أبي هريرة مرفوعًا لا تذهب الدنيا حتى يمر الرجل على القبر فيتمرغ عليه ويقول يا ليتني مكان صاحب هذا القبر وليس به الدين إلا البلاء وعن ابن مسعود قال سيأتي عليكم زمان لو وجد أحدكم الموت يباع لاشتراه وعليه قول الشاعر

وهذا العيش ما لا خير فيه
ألا موت يباع فأشتريه

وسبب ذلك أنه يقع البلاء والشدة حتى يكون الموت الذي هو أعظم المصائب أهون على المرء فيتمنى أهون المصيبتين في اعتقاده وذكر الرجل للغالب وإلا فالمرأة يمكن أن تتمنى الموت لذلك أيضًا لكن لما كان الغالب أن الرجال هم المبتلون بالشدائد والنساء محجبات لا يصلين نار الفتنة خصهم كما قيل

كتب القتل والقتال علينا
وعلى الغانيات جر الذيول

قال الحافظ العراقي ولا يلزم كونه في كل بلد ولا كل زمن ولا في جميع الناس بل يصدق على اتفاقه للبعض في بعض الأقطار في بعض الأزمان وفي تعليق تمنيه بالمرور إشعار بشدة ما نزل بالناس من فساد الحال حالتئذ إذ المرء قد يتمنى الموت من غير استحضار شيء فإذا شاهد الموتى ورأى القبور نشز بطبعه ونفر بسجيته من تمنيه فلقوة الشدة لم يصرفه عنه ما شاهده من وحشة القبور ولا يناقض هذا النهي عن تمني الموت لأن هذا الحديث إخبار عما يكون وليس فيه تعرض لحكم شرعي وقال ابن عبد البر لا يعارض هذا قوله صلى الله عليه وسلم لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به وقول خباب بن الأرت لولا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهانا أن ندعو بالموت لدعوت به لأنه إخبار بشدة ما ينزل بالناس من فساد الدين لا لضرر يصيب جسمه يحط خطاياه وقد قال عتيق الغفاري زمن الطاعون يا طاعون خذني إليك فقيل ألم يأت النهي عن تمني الموت فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول بادروا بالموت إمرة السفهاء وكثرة الشرط وبيع الحكم واستخفافًا بالدم وقطيعة الرحم , ونساء يتخذون مزامير يقدمون الرجل يغنيهم بالقرآن وإن كان أقلهم فقهًا ويوضح ذلك قوله صلى الله عليه وسلم وإذا أردت بالناس فتنة فاقبضني إليك غير مفتون وقول عمر اللهم قد ضعفت قوتي وكبرت سني وانتشرت رعيتي فاقبضني إليك غير مضيع ولا مفرط انتهى.
وهو ناظر إلى أن المعنى الأول هو المراد بالحديث ورواه الشيخان في الفتن البخاري عن إسماعيل ومسلم عن قتيبة بن سعيد كلاهما عن مالك به ( مالك عن محمد بن عمرو) بفتح العين ( ابن حلحلة) بحاءين مهملتين مفتوحتين ولامين أولاهما ساكنة والثانية مفتوحة زاد ابن وضاح ( الديلي) بكسر الدال وسكون التحتية المدني ( عن معبد) بفتح الميم وسكون العين وموحدة ( ابن كعب بن مالك) الأنصاري السلمي المدني ( عن أبي قتادة) الحارث ويقال عمرو ويقال النعمان ( ابن ربعي) بكسر الراء وسكون الموحدة وعين مهملة السلمي المدني شهد أحدًا وما بعدها ولم يصح شهوده بدرًا ومات سنة أربع وخمسين وقيل سنة ثمان وثلاثين والأول أصح وأشهر قال ابن عبد البر هكذا الحديث في الموطآت بهذا الإسناد وأخطأ فيه سويد بن سعيد عن مالك فقال عن معبد بن كعب عن أبيه وليس بشيء ( أنه كان يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر) بضم الميم وشد الراء ( عليه بجنازة فقال مستريح ومستراح منه) قال ابن الأثير يقال أراح الرجل واستراح إذا رجعت إليه نفسه بعد الإعياء انتهى والواو بمعنى أو فهي للتنويع أي لا يخلو ابن آدم من هذين المعنيين فلا يختص بصاحب الجنازة ( قالوا يا رسول الله ما المستريح والمستراح منه) وفي رواية الدارقطني بإعادة ما ( قال العبد المؤمن) المتقي خاصة أو كل مؤمن ( يستريح من نصب الدنيا) بفتحتين تعبها ومشقتها ( وأذاها) وهو عطف عام على خاص ( إلى رحمة الله) تعالى قال مسروق ما غبطت شيئًا لشيء كمؤمن في لحده أمن من عذاب الله واستراح من الدنيا ( والعبد الفاجر) الكافر أو العاصي ( يستريح منه العباد) أي من ظلمه لهم وقول الداودي لما يأتي به من المنكر فإن أنكروا آذاهم وإن تركوه أثموا رده الباجي بأنه لا يأثم تارك الإنكار إذا ناله أذى ويكفيه أن ينكر بقلبه ( والبلاد) بما يفعله فيها من المعاصي فيحصل الجدب فيهلك الحرث والنسل أو لغصبها ومنعها من حقها ( والشجر) لقلعه إياها غصبًا أو غصب ثمرها ( والدواب) لاستعماله لها فوق طاقتها وتقصيره في علفها وسقيها وقال الطيبي أما استراحة البلاد والأشجار فإن الله تعالى بفقده يرسل السماء مدرارًا ويحيي به الأرض والشجر والدواب بعدما حبس بشؤم ذنوبه الأمطار لكن إسناد الراحة إليها مجاز إذ الراحة إنما هي لمالكها والحديث رواه البخاري عن إسماعيل ومسلم عن قتيبة بن سعيد كلاهما عن مالك به ( مالك عن أبي النضر) سالم بن أبي أمية ( مولى عمر بن عبيد الله) بضم العينين القرشي ( أنه قال) وصله ابن عبد البر من طريق يحيى بن سعيد عن القاسم عن عائشة ( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما مات عثمان بن مظعون) بالظاء المعجمة ابن حبيب بن وهب بن حذافة القرشي الجمحي أسلم قديمًا وهاجر إلى الحبشة الهجرة الأولى وروى ابن شاهين والبيهقي عنه قلت يا رسول الله إني رجل تشق علي الغربة في المغازي فتأذن لي في الخصاء فأختصي فقال لا ولكن عليك يا ابن مظعون بالصوم وفي الصحيحين عن سعد بن أبي وقاص رد النبي صلى الله عليه وسلم على عثمان بن مظعون التبتل ولو أذن له لاختصينا توفي بعد شهوده بدرًا في السنة الثانية من الهجرة وهو أول من مات بالمدينة من المهاجرين وأول من دفن منهم بالبقيع ( ومر بجنازته) عليه ( ذهبت ولم تلبس) بحذف إحدى التاءين ولابن وضاح تتلبس بتاءين ( منها) أي الدنيا ( بشيء) كثير لأنه تلبس بشيء منها لا محالة وفيه مدح الزهد في الدنيا وذم الاستكثار منها والثناء على المرء بما فيه وروى الترمذي عن عائشة قبل النبي صلى الله عليه وسلم عثمان بن مظعون وهو ميت وهو يبكي وعيناه تذرفان فلما توفي ابنه إبراهيم قال ألحق بسلفنا الصالح عثمان بن مظعون ( مالك عن علقمة بن أبي علقمة) بلال المدني مولى عائشة وهو علقمة ابن أم علقمة ثقة علامة مات سنة بضع وثلاثين ومائة ( عن أمه) مرجانة وتكنى بابنها تابعية ثقة وهي مولاة عائشة بلا خلاف ( أنها قالت سمعت عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم تقول قام رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فلبس ثيابه ثم خرج فأمرت جاريتي بريرة) بموحدة مفتوحة وراءين بلا نقط بينهما تحتية ساكنة ثم هاء صحابية مشهورة عاشت إلى زمن يزيد بن معاوية ( تتبعه) لتستفيد علمًا ويحتمل غيرة منها مخافة أن يأتي بعض حجر نسائه وقد روي ذلك قاله الباجي ( فتبعته حتى جاء البقيع) بالموحدة اتفاقًا ( فوقف في أدناه) أقربه ( ما شاء الله أن يقف ثم انصرف فسبقته بريرة فأخبرتني) بما فعل ( فلم أذكر له شيئًا حتى أصبح ثم ذكرت ذلك له فقال إني بعثت إلى أهل البقيع لأصلي عليهم) قال ابن عبد البر يحتمل أن الصلاة هنا الدعاء والاستغفار وأن تكون كالصلاة على الموتى خصوصية له لأن صلاته على من صلى عليه رحمة فكأنه أمر أن يستغفر لهم وللإجماع على أنه لا يصلي على قبر مرتين ولا يصلي على قبر من صلى إلا بحدثان ذلك وأكثر ما قيل ستة أشهر قال وإما بعثه ومسيره إليهم فلا يدرى لمثل هذا علة ويحتمل أن يكون ليعلمهم بالصلاة منه عليهم لأنه ربما دفن منهم من لم يصل عليه كالمسكينة ومثلها من دفن ليلاً ولم يشعر به ليكون مساويًا بينهم في صلاته عليهم ولا يؤثر بعضهم بذلك ليتم عدله وجاء حديث حسن يدل على أن ذلك كان منه حين خير فخرج إليه كالمودع للأحياء والأموات ثم أخرجه عن أبي مويهة مرفوعًا إني قد أمرت أن أستغفر لأهل البقيع فاستغفر لهم ثم انصرف فأقبل علي فقال يا أبا مويهة إن الله قد خيرني في مفاتيح خزائن الدنيا والخلد فيها ثم الجنة ولقاء ربي فاخترت لقاء ربي فأصبح من تلك الليلة فبدأه وجعه الذي مات منه صلى الله عليه وسلم وهذا الحديث رواه النسائي عن محمد بن سلمة والحارث بن مسكين كلاهما عن ابن القاسم عن مالك به ( مالك عن نافع أن أبا هريرة قال) كذا وقفه جمهور رواة الموطأ ورواه الوليد بن مسلم عن مالك عن نافع عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يتابع على ذلك عن مالك ولكنه مرفوع من طريق أيوب عن نافع عن أبي هريرة ومن طريق الزهري عن ابن المسيب عن أبي هريرة قاله ابن عبد البر ومن طريق الزهري رواه البخاري ومسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال ( أسرعوا) بهمزة قطع ( بجنائزكم) أي بحملها إلى قبرها إسراعًا خفيفًا فوق المشي المعتاد والخبب بحيث لا يشق على ضعفة من يتبعها ولا على حاملها ولا يحدث مفسدة بالميت والأمر للاستحباب باتفاق العلماء وشذ ابن حزم فقال بوجوبه وقيل المراد شدة المشي وهو قول الحنفية وبعض السلف ومال عياض إلى نفي الخلاف فقال من استحبه أراد الزيادة على المشي المعتاد ومن كرهه أراد الإفراط كالرمل والحاصل أنه يستحب الإسراع لكن بحيث لا ينتهي إلى شدة يخاف منها حدوث مفسدة بالميت ومشقة على الحامل أو المشيع لئلا ينافي المقصود من النظافة وإدخال المشقة على المسلم قال القرطبي مقصود الحديث أن لا يبطأ بالميت عن الدفن ولأن البطء ربما أدى إلى التباهي والاحتفال قال ابن عبد البر وتأوله قوم على تعجيل الدفن لا المشي وليس كما ظنوا ويرده قوله تضعونه عن رقابكم وتبعه النووي فقال إنه باطل مردود بهذا وتعقبه الفاكهاني بأن الحمل على الرقاب قد يعبر به عن المعاني كما يقول حمل فلان على رقبته ديونًا فيكون المعنى استريحوا من نظر من لا خير فيه قال ويؤيده أن الكل لا يحملونه قال الحافظ ويؤيده حديث ابن عمر سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إذا مات أحدكم فلا تحبسوه وأسرعوا به إلى قبره أخرجه الطبراني بإسناد حسن ولأبي داود عن حصين بن وحوح مرفوعًا لا ينبغي لجيفة مسلم أن تبقى بين ظهراني أهله ( فإنما هو خير تقدمونه) كذا في الأصول والقياس تقدمونها أي الجنائز ( إليه) أي الخير باعتبار الثواب والإكرام الحاصل له في قبره فيسرع به ليلقاه قريبًا قال ابن مالك وروي إليها بتأنيث الضمير على تأويل الخبر بالرحمة أو الحسنى ( أو شر تضعونه عن رقابكم) فلا مصلحة لكم في مصاحبته لأنها بعيدة من الرحمة ويؤخذ منه ترك صحبة أهل البطالة وغير الصالحين وفيه ندب المبادرة بدفن الميت لكن بعد تحقق أنه مات أما مثل المطعون والمسبوت والمفلوج فينبغي أن لا يسرع بتجهيزهم حتى يمضي يوم وليلة ليتحقق موتهم نبه عليه ابن بزيزة، والله تعالى أعلم.



رقم الحديث 580 وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَمُرَّ الرَّجُلُ بِقَبْرِ الرَّجُلِ فَيَقُولُ: يَا لَيْتَنِي مَكَانَهُ.


( جامع الجنائز)

( مالك عن هشام بن عروة عن عباد) بشد الموحدة ( ابن عبد الله بن الزبير) بن العوام كان قاضي مكة زمن أبيه وخليفته إذا حج ( أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أخبرته أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت وهو مستند إلى صدرها وأصغت) بإسكان الصاد المهملة وفتح الغين المعجمة أي أمالت سمعها ( إليه يقول) وفي رواية قتيبة وهو يقول ( اللهم اغفر لي وارحمني) فيه ندب الدعاء بهما ولا سيما عند الموت وإذا دعا بذلك المصطفى فأين غيره منه والدعاء مخ العبادة لما فيه من الإخلاص والخضوع والضراعة والرجاء وذلك صريح الإيمان ( وألحقني) بهمزة قطع ( بالرفيق الأعلى) وفي البخاري من رواية ذكوان عن عائشة فجعل يقول في الرفيق الأعلى حتى قبض ومالت يده ولأحمد من رواية المطلب عن عائشة فقال مع الرفيق الأعلى مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين إلى قوله رفيقًا ومعنى كونهم رفيقًا تعاونهم على الطاعة وارتفاق بعضهم ببعض وأفرده إشارة إلى أن أهل الجنة يدخلون على قلب رجل واحد قاله السهيلي فالمراد بالرفيق هؤلاء المذكورون في الآية قال الحافظ وهو المعتمد وعليه الأكثر وفي حديث أبي موسى عند النسائي وصححه ابن حبان فقال اللهم الرفيق الأعلى الأسعد مع جبريل وميكائيل وإسرافيل وظاهره أن الرفيق المكان الذي تحصل المرافقة فيه مع المذكورين وهذه الأحاديث ترد زعم أن الرفيق تغيير من الراوي والصواب الرقيع بالقاف والعين المهملة وهو من أسماء السماء.
وقال ابن عبد البر هو أعلى الجنة والجوهري الجنة ويؤيده ما عند ابن إسحاق الرفيق الأعلى الجنة وقيل الرفيق الأعلى الله عز وجل لأنه من أسمائه ففي مسلم وأبي داود مرفوعًا أن الله رفيق يحب الرفيق وهو صفة ذات كالحليم أو صفة فعل وغلط الأزهري هذا القول ولا وجه له لأن تأويله على ما يليق بالله سائغ قال السهيلي الحكمة في اختتام كلام المصطفى بهذه الكلمة تضمنها التوحيد والذكر بالقلب حتى يستفاد منه الرخصة لغيره أنه لا يشترط أن يكون الذكر باللسان لأن بعض الناس قد يمنعه من النطق مانع فلا يضره إذا كان قلبه عامرًا بالذكر قال وفي بعض كتب الواقدي أول ما تكلم به صلى الله عليه وسلم وهو مسترضع عند حليمة الله أكبر وآخر ما تكلم به ما في حديث عائشة يعني في الصحيحين قالت عائشة فكانت آخر ما تكلم بها صلى الله عليه وسلم قوله اللهم الرفيق الأعلى وروى الحاكم عن أنس آخر ما تكلم به جلال ربي الرفيع قد بلغت ثم قضى وجمع بأن هذا آخر على الإطلاق بعد ما كرر اللهم الرفيق الأعلى قبل جلال أي أختار جلال ربي الرفيع قد بلغت ما أوحي إلي وحديث الباب رواه مسلم في المناقب حدثنا قتيبة بن سعيد عن مالك به وتابعه أبو أسامة وعبد الله بن نمير وعبدة بن سليمان كلهم عن هشام به في مسلم أيضًا وله طرق في الصحيحين وغيرهما ( مالك بلغه أن عائشة) أخرجه البخاري ومسلم من طريق إبراهيم بن سعد عن أبيه عن عروة عن عائشة ( قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما من نبي) أراد ما يشمل الرسول ( يموت حتى يخير) بضم أوله مبني للمفعول بين الدنيا والآخرة ( قالت فسمعته يقول) في مرضه الذي مات فيه وأخذته بحة شديدة كما في رواية سعد ( اللهم الرفيق الأعلى فعرفت أنه ذاهب) وفي الصحيحين من طريق الزهري عن عروة عنها كان صلى الله عليه وسلم وهو صحيح يقول أنه لم يقبض نبي قط حتى يرى مقعده ثم يحيا أو يخير فلما حضره القبض غشي عليه فلما أفاق شخص بصره نحو سقف البيت فقال اللهم في الرفيق الأعلى فقلت إذن لا يختارنا وعرفت أنه حديثه الذي كان يحدثنا وهو صحيح وفي مغازي أبي الأسود عن عروة أن جبريل نزل عليه في تلك الحالة فخيره وعند أحمد عن أبي مويهة قال قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم إني أوتيت مفاتيح خزائن الأرض والخلد ثم الجنة فخيرت بين ذلك وبين لقاء ربي والجنة فاخترت لقاء ربي والجنة ولعبد الرزاق من مرسل طاوس رفعه خيرت بين أن أبقى حتى أرى ما يفتح على أمتي وبين التعجيل فاخترت التعجيل ( مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر قال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي) أي فيهما قال الباجي العرض لا يكون إلا على حي يعلم ما يعرض عليه ويفهم ما يخاطب به قال ويحتمل غداة واحدة وعشية واحدة ويحتمل كل غداة وكل عشي وقال ابن التين يحتمل غداة واحدة وعشية واحدة يكون العرض فيهما ويكون معنى حتى يبعثك أي لا تصل إليه إلى يوم البعث ويحتمل كل غداة وعشي وهو محمول على أنه يحيا منه جزء ليدرك ذلك فغير ممتنع أن تعاد الحياة إلى جزء من الميت أو أجزاء وتصح مخاطبته والعرض عليه قال الحافظ والأول موافق لأحاديث سياق المسألة وعرض المقعدين على كل أحد وقال القرطبي يجوز أن هذا العرض على الروح فقط ويجوز أن يكون عليه مع جزء من البدن قال والمراد بالغداة والعشي وقتهما وإلا فالموتى لا صباح عندهم ولا مساء قال وهذا في حق المؤمن والكافر واضح وأما المؤمن المخلط فمحتمل أيضًا في حقه لأنه يدخل الجنة في الجملة ثم هو مخصوص بغير الشهداء ويحتمل أن يقال فائدة العرض في حقهم تبشير أرواحهم باستقرارها في الجنة مقترنة بأجسادها فإن فيه قدرًا زائدًا على ما هي فيه الآن ( إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة) اتحد فيه الشرط والجزاء لفظًا فلا بد من تقدير قال التوربشتي التقدير فمقعد من مقاعد أهل الجنة يعرض عليه وقال الطيبي الشرط والجزاء إذا اتحدا لفظًا دل على الفخامة والمراد أنه يرى بعد البعث من كرامة الله ما ينسيه هذا المقعد انتهى.
وعند مسلم بلفظ إن كان من أهل الجنة فالجنة أي فالمعروض الجنة ( وإن كان من أهل النار فمن أهل النار) أي فمقعده من مقاعد أهلها يعرض عليه أو يعلم بالعكس مما يسر به أهل الجنة لأن هذه المنزلة طليعة تباشير أهل السعادة الكبرى ومقدمة تباريح الشقاوة العظمى وفي ذلك تنعيم لمن هو من أهل الجنة وتعذيب لمن هو من أهل النار بمعاينة ما أعد له وانتظاره ذلك اليوم الموعود ( يقال له هذا مقعدك حتى يبعثك الله إلى يوم القيامة) كذا في رواية يحيى بلفظ إلى وللأكثر بحذفها وليحيى النيسابوري وابن القاسم إليه بالضمير حكاه ابن عبد البر قال والمعنى حتى يبعثك الله إلى هذا المقعد ويحتمل أن الضمير يعود إلى الله فإلى الله ترجع الأمور والأول أظهر قال الحافظ ويؤيده رواية الزهري عن سالم عن أبيه بلفظ ثم يقال هذا مقعدك الذي تبعث إليه يوم القيامة أخرجه مسلم وأخرج النسائي رواية ابن القاسم لكن بحذف إليه كالأكثرين وفيه إثبات عذاب القبر وأن الروح لا تفنى بفناء الجسد لأن العرض لا يقع إلا على حي قال ابن عبد البر واستدل به على أن الأرواح على أفنية القبور وهو الصحيح لأن الأحاديث بذلك أصح من غيرها والمعنى عندي أنها قد تكون على أفنية القبور لا أنها لا تفارقها بل هي كما قال مالك بلغني أن الأرواح تسرح حيث شاءت والحديث رواه البخاري عن إسماعيل ومسلم عن يحيى كلاهما عن مالك به ( مالك عن أبي الزناد) عبد الله بن ذكوان ( عن الأعرج) عبد الرحمن بن هرمز ( عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال كل ابن آدم تأكله الأرض) أي جميع جسمه وينعدم بالكلية أو المراد أنها باقية لكن زالت أعراضها المعهودة قال إمام الحرمين لم يدل قاطع سمعي على تعيين أحدهما ولا بعد أن تصير أجسام العباد بصفة أجسام التراب ثم تعاد بتركيبها إلى المعهود ( إلا عجب الذنب) بفتح العين وسكون الجيم وبالموحدة ويقال بالميم وهو العصعص أسفل العظم الهابط من الصلب فإنه قاعدة البدن كقاعدة الجدار فلا تأكله الأرض ( لأنه منه خلق) أي ابتدئ خلقه ( ومنه يركب) خلقه عند قيام الساعة وهذا أظهر من احتمال أن المراد منه ابتداء الخلق وابتداء التركيب وبالأول جزم الباجي فقال لأنه أول ما خلق من الإنسان وهو الذي يبقى منه ليعاد تركيب الخلق عليه قال ابن عبد البر هذا عموم يراد به الخصوص لما روي في أجساد الأنبياء والشهداء أن الأرض لا تأكلهم وحسبك ما جاء في شهداء أحد إذ أخرجوا بعد ست وأربعين سنة لينة أجسادهم يعني أطرافهم فكأنه قال من تأكله الأرض فلا تأكل منه عجب الذنب وإذا جاز أن لا تأكله جاز أن لا تأكل الشهداء وإنما في هذا التسليم لمن يجب له التسليم صلى الله عليه وسلم انتهى.
وزاد غيره الصديقين والعلماء العاملين والمؤذن المحتسب وحامل القرآن العامل به والمرابط والميت بالطاعون صابرًا محتسبًا والمكثر من ذكر الله والمحبين لله فتلك عشرة كاملة ( مالك عن ابن شهاب عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك الأنصاري) أبي الخطاب المدني من كبار التابعين ويقال ولد في العهد النبوي ومات في خلافة سليمان ( أنه أخبره أن أباه كعب بن مالك) السلمي المدني الصحابي المشهور أحد الثلاثة الذين خلفوا مات في خلافة علي رضي الله عنهما ( كان يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إنما نسمة المؤمن) بفتح النون والسين أي روحه وفي كتاب أبي القاسم الجوهري النسمة الروح والنفس والبدن وإنما يعني في هذا الحديث الروح قال الباجي ويحتمل عندي أن يريد به ما يكون فيه الروح من الميت قبل البعث ويحتمل أنه شيء من محل الروح تبقى فيه الروح ( طير يعلق) بالتحتية صفة طير وبفتح اللام رواية الأكثر كما قال ابن عبد البر وروي بضمها قال والمعنى واحد وهو الأكل والرعي ( في شجر الجنة) لتأكل من ثمارها وقال البوني معنى رواية الفتح تأوي والضم ترعى تقول العرب ما ذقت اليوم علوقًا وقال السهيلي يعلق بفتح اللام يتشبث بها ويرى مقعده منها ومن رواه بضم اللام فمعناه يصيب منها العلقة من الطعام فقد أصاب دون ما أصاب غيره ممن أدرك الرغد أي العيش الواسع فهو مثل مضروب يفهم منه هذا المعنى وإن أراد بتعلق الأكل نفسه فهو مخصوص بالشهيد فتكون رواية الضم للشهيد والفتح لمن دونهم والله أعلم بمراد رسوله انتهى واختلف في أن هذا الحديث عام في الشهداء وغيرهم إذا لم يحبسهم عن الجنة كبيرة ولا دين أو خاص بالشهداء دون غيرهم لأن القرآن والسنة لا يدلان إلا على ذلك حكاهما ابن عبد البر وذكر بعض أدلة الثاني وقال بحمله على الشهداء يزول ما ظنه قوم من معارضة هذا الحديث للحديث قبله في عرض المقعد لأنه إذا كان يسرح في الجنة فهو يراها في جميع أحيانه وليس كما قالوا إنما هذا في الشهداء خاصة وما قبله في سائر الناس واختار الأول ابن كثير فقال في هذا الحديث إن روح المؤمن تكون على شكل طير في الجنة وأما أرواح الشهداء ففي حواصل طير خضر ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها وتأوي إلى قناديل من ذهب في ظل العرش كما رواه أحمد عن ابن عباس مرفوعًا فهي كالراكب بالنسبة إلى أرواح عموم المؤمنين فإنها تطير بأنفسها فهو بشرى لكل مؤمن بأن روحه تكون في الجنة أيضًا وتسرح فيها وتأكل من ثمارها وترى ما فيها من النضرة والسرور ( حتى يرجعه الله إلى جسده يوم يبعثه) يوم القيامة قال وهذا حديث صحيح عزيز عظيم اجتمع فيه ثلاثة أئمة فرواه أحمد عن الشافعي عن مالك به انتهى ( مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: قال) الله ( تبارك وتعالى) هذا من الأحاديث الإلهية فيحتمل أن يكون صلى الله عليه وسلم تلقاه عن الله بلا واسطة أو بواسطة قاله الحافظ ( إذا أحب عبدي لقائي) عند حضور أجله إن عاين ما يحب أحب لقاء الله وإن عاين ما يكره لم يحب الخروج من الدنيا هذا معناه كما تشهد به الآثار المرفوعة وذلك حين لا تقبل توبة وليس المراد الموت لأنه لا يخلو من كراهته نبي ولا غيره ولكن المكروه من ذلك إيثار الدنيا وكراهة أن يصير إلى الله قاله ابن عبد البر ( أحببت لقاءه) أي أردت له الخير ( وإذا كره لقائي كرهت لقاءه) زاد في حديث عبادة في الصحيحين فقالت عائشة إنا لنكره الموت قال صلى الله عليه وسلم ليس ذاك ولكن المؤمن إذا حضره الموت بشر برضوان الله وكرامته فليس شيء أحب إليه مما أمامه فأحب لقاء الله وأحب الله لقاءه وأن الكافر إذا حضر بشر بعذاب الله وعقوبته فليس شيء أكره إليه مما أمامه فكره لقاء الله وكره الله لقاءه ولأحمد عن عائشة مرفوعًا إذا أراد الله بعبد خيرًا قيض الله له قبل موته بعام ملكًا يسدده ويوفقه حتى يقال مات بخير ما كان فإذا حضر ورأى إلى ثوابه اشتاقت نفسه فذلك حين أحب لقاء الله وأحب الله لقاءه وإذا أراد الله بعبد شرًا قيض الله له قبل موته بشهر شيطانًا فأضله وفتنه حتى يقال مات بشر ما كان عليه فإذا حضر ورأى ما أعد الله له من العذاب جزعت نفسه فذلك حين كره لقاء الله وكره الله لقاءه وقال الخطابي معنى محبة لقاء الله إيثار العبد الآخرة على الدنيا ولا يحب طول القيام فيها لكن يستعد للارتحال عنها واللقاء على وجوه منها الرؤية ومنها البعث كقوله تعالى { { قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله } } أي البعث ومنها الموت كقوله تعالى { { من كان يرجو لقاء الله فإن أجل الله لآت } } وقال ابن الأثير المراد باللقاء المصير إلى الدار الآخرة وطلب ما عند الله وليس الغرض به الموت لأن كلا يكرهه فمن ترك الدنيا وأبغضها أحب لقاء الله ومن آثرها وركن إليها كره لقاء الله ومحبة الله لقاء عبده إرادة الخير له وإنعامه عليه وفي الكواكب إن قيل الشرط ليس سببًا للجزاء بل الأمر بالعكس قلت مثله يؤول بالإخبار أي أخبره بأني أحببت لقاءه وكذا الكراهة والحديث رواه البخاري في التوحيد عن إسماعيل عن مالك به ( مالك عن أبي الزناد) بكسر الزاي والتخفيف ( عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال) هكذا رفعه أكثر رواة الموطأ ووقفه القعنبي ومصعب وذلك لا يضر في رفعه لأن رواته ثقات حفاظ ( قال رجل) قال الحافظ قيل اسمه جهينة وذلك أن في صحيح أبي عوانة أن هذا الرجل هو آخر أهل النار خروجًا منها وفي رواية مالك للخطيب عن ابن عمر آخر من يدخل الجنة رجل من جهينة يقول أهل الجنة عند جهينة الخبر اليقين ( لم يعمل حسنة قط) ليس فيه ما ينفي التوحيد عنه والعرب تقول مثل هذا في الأكثر من فعله كحديث لا يضع عصاه عن عاتقه وفي رواية لم يعمل خيرًا قط إلا التوحيد قاله ابن عبد البر وفي الصحيح ممن كان قبلكم يسيء الظن بعمله وفي رواية يسرف على نفسه وفي ابن حبان أنه كان نباشًا أي للقبور يسرق أكفان الموتى ( لأهله) وفي الصحيح من طريق ابن شهاب عن حميد عن أبي هريرة مرفوعًا فلما حضره الموت قال لبنيه ( إذا مات فحرقوه) وفي رواية الزهري إذا أنا مت فأحرقوني ثم اطحنوني ( ثم أذروا نصفه في البر ونصفه في البحر فوالله لئن قدر الله عليه) بخفة الدال وشدها من القدر وهو القضاء لا من القدرة والاستطاعة كقوله فظن أن لن نقدر عليه أو بمعنى ضيق كقوله تعالى { { ومن قدر عليه رزقه } } وقال بعض العلماء هذا رجل جهل بعض صفات الله وهي القدرة ولا يكفر جاهل بعضها وإنما يكفر من عاند الحق قاله أبو عمر ( ليعذبنه عذابًا لا يعذبه أحدًا من العالمين) الموحدين ( فلما مات الرجل فعلوا ما أمرهم به فأمر الله البر فجمع ما فيه وأمر الله البحر فجمع ما فيه) زاد في رواية الزهري فإذا هو قائم وزاد أبو عوانة في أسرع من طرفة عين وفيه دلالة على رد من زعم أن الخطاب لروحه لأن التحريق والتذرية إنما وقعا على الجسد وهو الذي جمع وأعيد ( ثم قال لم فعلت هذا قال من خشيتك يا رب وأنت أعلم) إني إنما فعلته من خشيتك أي خوف عقابك قال ابن عبد البر وذلك دليل على إيمانه إذ الخشية لا تكون إلا لمؤمن بل لعالم قال تعالى { { إنما يخشى الله من عباده العلماء } } ويستحيل أن يخافه من لا يؤمن به وقد روى الحديث قال رجل لم يعمل خيرًا قط إلا التوحيد وهذه اللفظة ترفع الإشكال في إيمانه والأصول تعضدها إن الله لا يغفر أن يشرك به وقد ( قال فغفر له) ولأبي عوانة من حديث حذيفة عن الصديق أنه آخر أهل الجنة دخولاً قال ابن التين ذهب المعتزلة إلى أن هذا الرجل إنما غفر له لتوبته التي تابها لأن قبولها واجب عقلاً عندهم والأشعري قطع بها سمعًا وغيره جوز القبول كسائر الطاعات وقال ابن المنير قبول التوبة عند المعتزلة واجب على الله تعالى عقلاً وعندنا واجب بحكم الوعد والفضل والإحسان إذ لو وجب القبول على الله عقلاً لاستحق الذم إن لم يقبل وهو محال لأن من كان كذلك يكون مستكملاً بالقبول والمستكمل بالغير ناقص بذاته وذلك في حق الله محال ولأن الذم إنما يمنع من الفعل من يتأذى لسماعه وينفر عنه طبعه ويظهر له بسببه نقص حال أما المتعالي عن الشهوة والنفرة والزيادة والنقص فلا يعقل تحقق الوجوب في حقه بهذا المعنى ولأنه تعالى تمدح بقبول التوبة في قوله { { ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده } } ولو كان واجبًا ما تمدح به لأن أداء الواجب لا يفيد المدح والثناء والتعظيم قال بعض المفسرين قبول التوبة من الكفر يقطع به على الله تعالى إجماعًا وهذا محمل الآية وأما المعاصي فيقطع بأنه يقبل التوبة منها من طائفة من الأمة واختلف هل يقبل توبة الجميع وأما إذا عين إنسان تائب فيرجى قبول توبته بلا قطع وأما إذا فرضنا تائبًا غير معين صحيح التوبة فقيل يقطع بقبول توبته وعليه طائفة منها الفقهاء والمحدثون لأنه تعالى أخبر عن نفسه بذلك وعلى هذا يلزم أن تقبل توبة جميع التائبين وذهب أبو المعالي وغيره إلى أن ذلك لا يقطع به على الله بل يقوي في الرجاء والقول الأول أرجح ولا فرق بين التوبة من الكفر والتوبة من المعاصي بدليل أن الإسلام يجب ما قبله والتوبة تجب ما قبلها انتهى.
والحديث رواه البخاري في التوحيد عن إسماعيل ومسلم من طريق روح كلاهما عن مالك به ( مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال كل مولود) أي من بني آدم صرح به جعفر بن ربيعة عن الأعرج عن أبي هريرة بلفظ كل بني آدم وكذا رواه خالد الواسطي عن عبد الرحمن بن إسحاق عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة ذكرهما ابن عبد البر ( يولد على الفطرة) عام في جميع المولودين على ظاهره وأصرح منه رواية البخاري ما من مولود إلا يولد على الفطرة ولمسلم ما من مولود إلا وهو على الملة وحكى ابن عبد البر عن قوم أنه لا يقتضي العموم وأن المراد كل من يولد على الفطرة وله أبوان غير مسلمين نقلاه إلى دينهما فالتقدير كل مولود يولد على الفطرة وأبواه يهوديان مثلاً فإنهما يهودانه ثم يصير عند بلوغه إلى ما يحكم به عليه ويكفي في الرد عليهم رواية مسلم عن أبي صالح عن أبي هريرة ليس من مولود إلا على هذه الفطرة حتى يعرب عنه لسانه وأصرح منها رواية كل بني آدم وأشهر الأقوال أن المراد بالفطرة الإسلام قال ابن عبد البر وهو المعروف عند عامة السلف وأجمع علماء التأويل على أن المراد بقوله تعالى { { فطرة الله التي فطر الناس عليها } } الإسلام واحتجوا بقول أبي هريرة عند الشيخين في آخر الحديث اقرؤوا إن شئتم { { فطرة الله } } الآية وبحديث عياض بن حماد عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه إني خلقت عبادي حنفاء كلهم فاختالتهم الشياطين عن دينهم الحديث ورواه غيره فقال حنفاء مسلمين ورجح بقوله تعالى { { فأقم وجهك للدين حنيفًا فطرة الله } } لأنها إضافة مدح وقد أمر الله نبيه بلزومها فعلم أنها الإسلام وحكى ابن عبد البر عن الأوزاعي وسحنون ورواه أبو داود عن حماد بن سلمة أن المراد حين أخذ الله العهد فقال ألست بربكم قالوا بلى قال الطيبي ويؤيده وجوه أحدها أن التعريف في الفطرة إشارة إلى معهود وهو قوله { { فطرة الله } } ومعنى { { فأقم وجهك } } أثبت على العهد القديم ثانيها مجيء رواية بلفظ الملة بدل الفطرة والدين في قوله { { للدين حنيفًا } } فهو عين الملة قال تعالى { { دينًا قيمًا ملة إبراهيم حنيفًا } } ثالثها التشبيه بالمحسوس المعاين ليفيد أن ظهوره يقع في البيان مبلغ هذا المحسوس قال والمراد تمكن الناس من الهدي في أصل الجبلة والتهيؤ لقبول الدين فلو ترك المرء عليها لاستمر على لزومها ولم يفارقها إلى غيرها لأن حسن هذا الدين ثابت في النفوس وإنما يعدل عنه لآفة من الآفات البشرية كالتقليد انتهى وإلى هذا مال القرطبي في المفهم فقال المعنى أن الله خلق قلوب بني آدم متأهلة لقبول الحق كما خلق أعينهم وأسماعهم قابلة للمرئيات والمسموعات فما دامت باقية على ذلك القبول وعلى تلك الأهلية أدركت الحق ودين الإسلام هو الدين الحق ودل على هذا المعنى بقية الحديث وقال ابن القيم ليس المراد أنه خرج من بطن أمه يعلم الدين لأن الله يقول { { والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئًا } } ولكن المراد أن فطرته مقتضية لمعرفة دين الإسلام ومحبته فنفس الفطرة تستلزم الإقرار والمحبة وليس المراد مجرد قبول الفطرة لذلك فإنه لا يتغير بتهويد الأبوين مثلاً بحيث يخرجان الفطرة عن القبول وإنما المراد أن كل مولود يولد على إقراره بالربوبية فلو خلى وعدم المعارض لم يعدل عن ذلك إلى غيره كما أنه يولد على محبة ما يلائم بدنه من ارتضاع اللبن حتى يصرفه عنه الصارف ومن ثم شبهت الفطرة باللبن بل كانت إياه في تأويل الرؤيا انتهى وقيل معناه أنه يولد على ما يصير إليه من شقاوة أو سعادة فمن علم الله أنه يصير مسلمًا ولد على الإسلام ومن علم أنه يصير كافرًا ولد على الكفر فكأنه أول الفطرة بالعلم وتعقب بأنه لو كان كذلك لم يكن لقوله فأبواه إلى آخره معنى لفعلهما به ما هو الفطرة التي ولد عليها فينافي التمثيل بحال البهيمة وقيل معناه أنه تعالى خلق فيهم المعرفة والإنكار فلما أخذ الميثاق من الذرية قالوا جميعًا بلى أما أهل السعادة فطوعًا وأما أهل الشقاوة فكرها وتعقب بأنه يحتاج إلى نقل صحيح فإنه لا يعرف هذا التفصيل عند أخذ الميثاق إلا عن السدي ولم يسنده وكأنه أخذه من الإسرائيليات وقيل الفطرة الخلقة أي يولد سالمًا لا يعرف كفرًا ولا إيمانًا ثم يعتقد إذا بلغ التكليف ورجحه ابن عبد البر وقال إنه يطابق التمثيل بالبهيمة ولا يخالف حديث عياض لأن المراد بقوله حنفاء أي على الاستقامة وتعقب بأنه لو كان كذلك لم يقتصر في أحوال التبديل على الكفر دون ملة الإسلام ولم يكن لاستشهاد أبي هريرة بالآية معنى وقيل اللام في الفطرة للعهد أي فطرة أبويه وهو متعقب بما ذكر في الذي قبله وحمله محمد بن الحسن الشيباني على أحكام الدنيا فادعى فيه النسخ فقال هذا في أول الإسلام قبل أن تنزل الفرائض والأمر بالجهاد قال أبو عبيد كأنه عنى أنه لو كان يولد على الإسلام فمات قبل أن يهوده أبواه مثلاً لم يرثاه والحكم أنهما يرثاه فدل على تغير الحكم ورده ابن عبد البر بأنه حاد عن الجواب وفي حديث الأسود بن سريع أن ذلك كان بعد الأمر بالجهاد وكذا رده غيره والحق أنه إخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم بما وقع في نفس الأمر ولم يرد إثبات أحكام الدنيا قال ابن القيم وسبب اختلاف العلماء في معنى الفطرة أن القدرية احتجوا بالحديث على أن الكفر والمعصية ليسا بقضاء الله بل مما ابتدأ الناس إحداثه فحاول جماعة من العلماء مخالفتهم بتأويل الفطرة على غير معنى الإسلام ولا يلزم من حملها عليه موافقة القدرية لحمله على أن ذلك يقع بتقدير الله ولذا احتج مالك عليهم بقوله الله أعلم بما كانوا عاملين انتهى.
روى أبو داود عن ابن وهب سمعت مالكًا وقيل له أن أهل الأهواء يحتجون علينا بهذا الحديث فقال مالك احتج عليهم بآخره الله أعلم بما كانوا عاملين ووجه ذلك أن القدرية استدلوا به على أن الله فطر العباد على الإسلام وأنه لا يضل أحدًا فإنما يضل الكافر أبواه فأشار مالك إلى رده بقوله الله أعلم فإنه دال على علمه بما يصيرون إليه بعد إيجادهم على الفطرة فهو دليل على تقدم العلم الذي ينكره غلاتهم ومن ثم قال الشافعي أهل القدر إن أثبتوا العلم خصموا ( فأبواه يهودانه أو ينصرانه) زاد ابن شهاب عن أبي سلمة عن أبي هريرة في الصحيحين أو يمجسانه قال الطيبي الفاء إما للتعقيب أو للسببية أو جزاء شرط مقدر أي إذا تقرر ذلك فمن تغير كان بسبب أبويه إما بتعليمهما إياه أو ترغيبهما فيه أو كونه تبعًا لهما في الدين يقتضي أن حكمه حكمهما وخص الأبوان بالذكر للغالب فلا حجة فيه لمن حكم بإسلام الطفل الذي يموت أبواه كافرين كما هو أحد قولي أحمد فقال استقر عمل الصحابة فمن بعدهم على عدم التعرض لأطفال أهل الذمة واستشكل الحديث بأنه يقتضي أن كل مولود يقع له التهود أو غيره مما ذكر مع أن كثيرًا يبقى مسلمًا لا يقع له شيء وأجيب بأن المراد أن الكفر ليس من ذات المولود ومقتضى طبعه بل إنما يحصل بسبب خارجي فإن سلم منه استمر على الحق ( كما تناتج) بفوقية فنون فألف ففوقية فجيم أي يولد ( الإبل من بهيمة جمعاء) بضم الجيم وسكون الميم والمد نعت لبهيمة أي لم يذهب من بدنها شيء سميت بذلك لاجتماع أعضائها ( هل تحس) بضم أوله وكسر ثانيه أي تبصر وفي رواية هل ترى ( فيها من جدعاء) بفتح الجيم وإسكان المهملة والمد أي مقطوعة الأنف أو الأذن أو الأطراف والجملة صفة أو حال أي بهيمة تقول فيها هذا القول أي كل من نظر إليها قاله لظهور سلامتها زاد في رواية في الصحيح حتى تكونوا أنتم تجدعونها قال الباجي يريد أن المولود يولد على الفطرة ثم يغيره بعد ذلك أبواه كما أن البهيمة تولد تامة لا جدع فيها من أصل الخلقة وإنما تجدع بعد ذلك ويغير خلقها وقال في المفهم يعني أن البهيمة تلد الولد كامل الخلقة فلو ترك كذلك كان بريا من العيب لكنهم تصرفوا فيه بقطع أذنه مثلاً فخرج عن الأصل وهو تشبيه واقع ووجهه واضح وقال الطيبي كما حال من الضمير المنصوب في يهودانه أي يهودان المولود بعد خلقه على الفطرة حال كونه شبيها بالبهيمة التي جدعت بعد أن خلقت سليمة أو صفة مصدر محذوف أي يغيرانه مثل تغييرهم البهيمة السليمة وقد تنازعت الأفعال الثلاثة في كما على التقديرين ( قالوا يا رسول الله أرأيت) أي أخبرنا من إطلاق السبب على المسبب لأن مشاهدة الأشياء طريق إلى الإخبار عنها أي قد رأيت ( الذي يموت وهو صغير) لم يبلغ الحلم أيدخل الجنة ( قال الله أعلم بما كانوا عاملين) قال ابن قتيبة أي لو أبقاهم فلا تحكموا عليهم بشيء وقال غيره أي علم أنهم لا يعملون شيئًا ولا يرجعون فيعملون أو أخبر بعلم الشيء لو وجد كيف يكون ولم يرد أنهم يجازون بذلك في الآخرة لأن العبد لا يجازى بما لم يعمل أو معناه أنه علم أنهم لم يعملوا ما يقتضي تعذيبهم ضرورة أنهم غير مكلفين وقال البيضاوي فيه إشارة إلى أن الثواب والعقاب لا لأجل الأعمال وإلا لزم أن تكون ذراري المسلمين والكافرين لا من أهل الجنة ولا من أهل النار بل الموجب لهما اللطف الرباني والخذلان الإلهي المقدر لهما في الأزل فالأولى فيهما التوقف وعدم الجزم بشيء فإن أعمالهم موكولة إلى علم الله فيما يعود إلى أمر الآخرة من الثواب والعقاب وقال النووي أجمع من يعتد به من علماء المسلمين أن من مات من أطفال المسلمين فهو من أهل الجنة لأنه ليس مكلفًا وتوقف فيه بعض من لا يعتد به لحديث عائشة في مسلم أنه صلى الله عليه وسلم دعي لجنازة صبي من الأنصار فقلت طوبى له عصفور من عصافير الجنة لم يعمل السوء ولم يدركه فقال أو غير ذلك يا عائشة أن الله خلق للجنة أهلا خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم وخلق للنار أهلا خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم وأجابوا عن هذا بأنه لعله نهاها عن المسارعة إلى القطع من غير أن يكون عندها دليل قاطع أو قاله قبل أن يعلم أن أطفال المسلمين في الجنة انتهى وأطلق ابن أبي زيد الإجماع في ذلك ولعله أراد إجماع من يعتد به وقال المازري الخلاف في غير أولاد الأنبياء انتهى وأما أطفال الكفار فاختلف العلماء قديمًا وحديثها فيهم على عشرة أقوال أحدها أنهم في المشيئة ونقل عن الحمادين وإسحاق وابن المبارك والشافعي قال ابن عبد البر وهو مقتضى صنيع مالك ولا نص عنه لكن صرح أصحابه بأن أطفال المسلمين في الجنة وأطفال الكفار في المشيئة والحجة فيه حديث ابن عباس وأبي هريرة في الصحيحين سئل صلى الله عليه وسلم عن أولاد المشركين فقال الله أعلم بما كانوا عاملين ثانيها أنهم تبع لآبائهم حكاه ابن حزم عن الأزارقة والخوارج ولأحمد عن عائشة سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ولدان المسلمين قال في الجنة وعن أولاد المشركين قال في النار فقلت لم يدركوا الأعمال قال ربك أعلم بما كانوا عاملين لو شئت أسمعتك تضاغيهم في النار وهو حديث ضعيف جدًا لأن في إسناده أبا عقيل مولى بهية وهو متروك ثالثها أنهم في برزخ بين الجنة والنار إذ لا حسنات لهم يدخلون بها الجنة ولا سيئات يدخلون بها النار رابعها أنهم خدم أهل الجنة روى الطيالسي وأبو يعلى والطبري والبزار مرفوعًا أولاد المشركين خدم أهل الجنة وإسناده ضعيف خامسها يصيرون ترابًا سادسها في النار حكاه عياض عن أحمد وغلطه ابن تيمية بأنه قول لبعض أصحابه ولا يحفظ عن الإمام أصلاً وهو غير الثاني لأنهم تبع لآبائهم لأنه لا يلزم من كونهم في النار أن يكونوا مع آبائهم كما أن عصاة الموحدين في النار لا مع الكفار سابعها يمتحنون في الآخرة بأن ترفع لهم نار فمن دخلها كانت عليه بردًا وسلامًا ومن أبى عذب أخرجه البزار من حديث أنس وأبي سعيد والطبراني من حديث معاذ وقد صحت مسألة الامتحان في حق المجنون ومن مات في الفترة من طرق صحيحة وحكى البيهقي أنه المذهب الصحيح وتعقب بأن الآخرة ليست دار تكليف فلا عمل فيها ولا ابتلاء وأجيب بأن ذلك بعد الاستقرار في الجنة أو النار وأما في عرصات القيامة فلا مانع من ذلك وقد قال تعالى { { يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون } } وفي الصحيحين أن الناس يؤمرون بالسجود فيصير ظهر المنافق طبقًا فلا يستطيع أن يسجد ثامنها الوقف تاسعها الإمساك وفي الفرق بينهما دقة عاشرها أنهم في الجنة قال النووي وهو المذهب الصحيح المختار الذي صار إليه المحققون لقوله تعالى { { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً } } وإذا لم يعذب العاقل لأنه لم تبلغه دعوة فأولى غيره انتهى.
وفي حديث سمرة عند البخاري في رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم الشيخ في أصل الشجرة إبراهيم والصبيان حوله فأولاد الناس وهو عام يشمل أولاد المسلمين وغيرهم وروى ابن عبد البر من طريق أبي معاذ عن الزهري عن عروة عن عائشة قال سألت خديجة النبي صلى الله عليه وسلم عن أولاد المشركين فقال هم مع آبائهم ثم سألته بعد ذلك فقال الله أعلم بما كانوا عاملين ثم سألته بعدما استحكم الإسلام فنزلت { { ولا تزر وازرة وزر أخرى } } فقال هم على الفطرة وقال في الجنة قال الحافظ وأبو معاذ هو سليمان بن أرقم وهو ضعيف ولو صح هذا لكان قاطعًا للنزاع انتهى.
وحديث الباب له طرق كثيرة في الصحيحين وغيرهما ( مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل بقبر الرجل فيقول يا ليتني مكانه) أي ميتًا وذلك عند ظهور الفتن وخوف ذهاب الدين لغلبة الباطل وأهله وظهور المعاصي أو ما يقع لبعضهم من المصيبة في نفسه أو أهله أو دنياه وإن لم يكن في ذلك شيء يتعلق بدينه وعند مسلم من طريق أبي حازم عن أبي هريرة مرفوعًا لا تذهب الدنيا حتى يمر الرجل على القبر فيتمرغ عليه ويقول يا ليتني مكان صاحب هذا القبر وليس به الدين إلا البلاء وعن ابن مسعود قال سيأتي عليكم زمان لو وجد أحدكم الموت يباع لاشتراه وعليه قول الشاعر

وهذا العيش ما لا خير فيه
ألا موت يباع فأشتريه

وسبب ذلك أنه يقع البلاء والشدة حتى يكون الموت الذي هو أعظم المصائب أهون على المرء فيتمنى أهون المصيبتين في اعتقاده وذكر الرجل للغالب وإلا فالمرأة يمكن أن تتمنى الموت لذلك أيضًا لكن لما كان الغالب أن الرجال هم المبتلون بالشدائد والنساء محجبات لا يصلين نار الفتنة خصهم كما قيل

كتب القتل والقتال علينا
وعلى الغانيات جر الذيول

قال الحافظ العراقي ولا يلزم كونه في كل بلد ولا كل زمن ولا في جميع الناس بل يصدق على اتفاقه للبعض في بعض الأقطار في بعض الأزمان وفي تعليق تمنيه بالمرور إشعار بشدة ما نزل بالناس من فساد الحال حالتئذ إذ المرء قد يتمنى الموت من غير استحضار شيء فإذا شاهد الموتى ورأى القبور نشز بطبعه ونفر بسجيته من تمنيه فلقوة الشدة لم يصرفه عنه ما شاهده من وحشة القبور ولا يناقض هذا النهي عن تمني الموت لأن هذا الحديث إخبار عما يكون وليس فيه تعرض لحكم شرعي وقال ابن عبد البر لا يعارض هذا قوله صلى الله عليه وسلم لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به وقول خباب بن الأرت لولا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهانا أن ندعو بالموت لدعوت به لأنه إخبار بشدة ما ينزل بالناس من فساد الدين لا لضرر يصيب جسمه يحط خطاياه وقد قال عتيق الغفاري زمن الطاعون يا طاعون خذني إليك فقيل ألم يأت النهي عن تمني الموت فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول بادروا بالموت إمرة السفهاء وكثرة الشرط وبيع الحكم واستخفافًا بالدم وقطيعة الرحم , ونساء يتخذون مزامير يقدمون الرجل يغنيهم بالقرآن وإن كان أقلهم فقهًا ويوضح ذلك قوله صلى الله عليه وسلم وإذا أردت بالناس فتنة فاقبضني إليك غير مفتون وقول عمر اللهم قد ضعفت قوتي وكبرت سني وانتشرت رعيتي فاقبضني إليك غير مضيع ولا مفرط انتهى.
وهو ناظر إلى أن المعنى الأول هو المراد بالحديث ورواه الشيخان في الفتن البخاري عن إسماعيل ومسلم عن قتيبة بن سعيد كلاهما عن مالك به ( مالك عن محمد بن عمرو) بفتح العين ( ابن حلحلة) بحاءين مهملتين مفتوحتين ولامين أولاهما ساكنة والثانية مفتوحة زاد ابن وضاح ( الديلي) بكسر الدال وسكون التحتية المدني ( عن معبد) بفتح الميم وسكون العين وموحدة ( ابن كعب بن مالك) الأنصاري السلمي المدني ( عن أبي قتادة) الحارث ويقال عمرو ويقال النعمان ( ابن ربعي) بكسر الراء وسكون الموحدة وعين مهملة السلمي المدني شهد أحدًا وما بعدها ولم يصح شهوده بدرًا ومات سنة أربع وخمسين وقيل سنة ثمان وثلاثين والأول أصح وأشهر قال ابن عبد البر هكذا الحديث في الموطآت بهذا الإسناد وأخطأ فيه سويد بن سعيد عن مالك فقال عن معبد بن كعب عن أبيه وليس بشيء ( أنه كان يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر) بضم الميم وشد الراء ( عليه بجنازة فقال مستريح ومستراح منه) قال ابن الأثير يقال أراح الرجل واستراح إذا رجعت إليه نفسه بعد الإعياء انتهى والواو بمعنى أو فهي للتنويع أي لا يخلو ابن آدم من هذين المعنيين فلا يختص بصاحب الجنازة ( قالوا يا رسول الله ما المستريح والمستراح منه) وفي رواية الدارقطني بإعادة ما ( قال العبد المؤمن) المتقي خاصة أو كل مؤمن ( يستريح من نصب الدنيا) بفتحتين تعبها ومشقتها ( وأذاها) وهو عطف عام على خاص ( إلى رحمة الله) تعالى قال مسروق ما غبطت شيئًا لشيء كمؤمن في لحده أمن من عذاب الله واستراح من الدنيا ( والعبد الفاجر) الكافر أو العاصي ( يستريح منه العباد) أي من ظلمه لهم وقول الداودي لما يأتي به من المنكر فإن أنكروا آذاهم وإن تركوه أثموا رده الباجي بأنه لا يأثم تارك الإنكار إذا ناله أذى ويكفيه أن ينكر بقلبه ( والبلاد) بما يفعله فيها من المعاصي فيحصل الجدب فيهلك الحرث والنسل أو لغصبها ومنعها من حقها ( والشجر) لقلعه إياها غصبًا أو غصب ثمرها ( والدواب) لاستعماله لها فوق طاقتها وتقصيره في علفها وسقيها وقال الطيبي أما استراحة البلاد والأشجار فإن الله تعالى بفقده يرسل السماء مدرارًا ويحيي به الأرض والشجر والدواب بعدما حبس بشؤم ذنوبه الأمطار لكن إسناد الراحة إليها مجاز إذ الراحة إنما هي لمالكها والحديث رواه البخاري عن إسماعيل ومسلم عن قتيبة بن سعيد كلاهما عن مالك به ( مالك عن أبي النضر) سالم بن أبي أمية ( مولى عمر بن عبيد الله) بضم العينين القرشي ( أنه قال) وصله ابن عبد البر من طريق يحيى بن سعيد عن القاسم عن عائشة ( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما مات عثمان بن مظعون) بالظاء المعجمة ابن حبيب بن وهب بن حذافة القرشي الجمحي أسلم قديمًا وهاجر إلى الحبشة الهجرة الأولى وروى ابن شاهين والبيهقي عنه قلت يا رسول الله إني رجل تشق علي الغربة في المغازي فتأذن لي في الخصاء فأختصي فقال لا ولكن عليك يا ابن مظعون بالصوم وفي الصحيحين عن سعد بن أبي وقاص رد النبي صلى الله عليه وسلم على عثمان بن مظعون التبتل ولو أذن له لاختصينا توفي بعد شهوده بدرًا في السنة الثانية من الهجرة وهو أول من مات بالمدينة من المهاجرين وأول من دفن منهم بالبقيع ( ومر بجنازته) عليه ( ذهبت ولم تلبس) بحذف إحدى التاءين ولابن وضاح تتلبس بتاءين ( منها) أي الدنيا ( بشيء) كثير لأنه تلبس بشيء منها لا محالة وفيه مدح الزهد في الدنيا وذم الاستكثار منها والثناء على المرء بما فيه وروى الترمذي عن عائشة قبل النبي صلى الله عليه وسلم عثمان بن مظعون وهو ميت وهو يبكي وعيناه تذرفان فلما توفي ابنه إبراهيم قال ألحق بسلفنا الصالح عثمان بن مظعون ( مالك عن علقمة بن أبي علقمة) بلال المدني مولى عائشة وهو علقمة ابن أم علقمة ثقة علامة مات سنة بضع وثلاثين ومائة ( عن أمه) مرجانة وتكنى بابنها تابعية ثقة وهي مولاة عائشة بلا خلاف ( أنها قالت سمعت عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم تقول قام رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فلبس ثيابه ثم خرج فأمرت جاريتي بريرة) بموحدة مفتوحة وراءين بلا نقط بينهما تحتية ساكنة ثم هاء صحابية مشهورة عاشت إلى زمن يزيد بن معاوية ( تتبعه) لتستفيد علمًا ويحتمل غيرة منها مخافة أن يأتي بعض حجر نسائه وقد روي ذلك قاله الباجي ( فتبعته حتى جاء البقيع) بالموحدة اتفاقًا ( فوقف في أدناه) أقربه ( ما شاء الله أن يقف ثم انصرف فسبقته بريرة فأخبرتني) بما فعل ( فلم أذكر له شيئًا حتى أصبح ثم ذكرت ذلك له فقال إني بعثت إلى أهل البقيع لأصلي عليهم) قال ابن عبد البر يحتمل أن الصلاة هنا الدعاء والاستغفار وأن تكون كالصلاة على الموتى خصوصية له لأن صلاته على من صلى عليه رحمة فكأنه أمر أن يستغفر لهم وللإجماع على أنه لا يصلي على قبر مرتين ولا يصلي على قبر من صلى إلا بحدثان ذلك وأكثر ما قيل ستة أشهر قال وإما بعثه ومسيره إليهم فلا يدرى لمثل هذا علة ويحتمل أن يكون ليعلمهم بالصلاة منه عليهم لأنه ربما دفن منهم من لم يصل عليه كالمسكينة ومثلها من دفن ليلاً ولم يشعر به ليكون مساويًا بينهم في صلاته عليهم ولا يؤثر بعضهم بذلك ليتم عدله وجاء حديث حسن يدل على أن ذلك كان منه حين خير فخرج إليه كالمودع للأحياء والأموات ثم أخرجه عن أبي مويهة مرفوعًا إني قد أمرت أن أستغفر لأهل البقيع فاستغفر لهم ثم انصرف فأقبل علي فقال يا أبا مويهة إن الله قد خيرني في مفاتيح خزائن الدنيا والخلد فيها ثم الجنة ولقاء ربي فاخترت لقاء ربي فأصبح من تلك الليلة فبدأه وجعه الذي مات منه صلى الله عليه وسلم وهذا الحديث رواه النسائي عن محمد بن سلمة والحارث بن مسكين كلاهما عن ابن القاسم عن مالك به ( مالك عن نافع أن أبا هريرة قال) كذا وقفه جمهور رواة الموطأ ورواه الوليد بن مسلم عن مالك عن نافع عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يتابع على ذلك عن مالك ولكنه مرفوع من طريق أيوب عن نافع عن أبي هريرة ومن طريق الزهري عن ابن المسيب عن أبي هريرة قاله ابن عبد البر ومن طريق الزهري رواه البخاري ومسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال ( أسرعوا) بهمزة قطع ( بجنائزكم) أي بحملها إلى قبرها إسراعًا خفيفًا فوق المشي المعتاد والخبب بحيث لا يشق على ضعفة من يتبعها ولا على حاملها ولا يحدث مفسدة بالميت والأمر للاستحباب باتفاق العلماء وشذ ابن حزم فقال بوجوبه وقيل المراد شدة المشي وهو قول الحنفية وبعض السلف ومال عياض إلى نفي الخلاف فقال من استحبه أراد الزيادة على المشي المعتاد ومن كرهه أراد الإفراط كالرمل والحاصل أنه يستحب الإسراع لكن بحيث لا ينتهي إلى شدة يخاف منها حدوث مفسدة بالميت ومشقة على الحامل أو المشيع لئلا ينافي المقصود من النظافة وإدخال المشقة على المسلم قال القرطبي مقصود الحديث أن لا يبطأ بالميت عن الدفن ولأن البطء ربما أدى إلى التباهي والاحتفال قال ابن عبد البر وتأوله قوم على تعجيل الدفن لا المشي وليس كما ظنوا ويرده قوله تضعونه عن رقابكم وتبعه النووي فقال إنه باطل مردود بهذا وتعقبه الفاكهاني بأن الحمل على الرقاب قد يعبر به عن المعاني كما يقول حمل فلان على رقبته ديونًا فيكون المعنى استريحوا من نظر من لا خير فيه قال ويؤيده أن الكل لا يحملونه قال الحافظ ويؤيده حديث ابن عمر سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إذا مات أحدكم فلا تحبسوه وأسرعوا به إلى قبره أخرجه الطبراني بإسناد حسن ولأبي داود عن حصين بن وحوح مرفوعًا لا ينبغي لجيفة مسلم أن تبقى بين ظهراني أهله ( فإنما هو خير تقدمونه) كذا في الأصول والقياس تقدمونها أي الجنائز ( إليه) أي الخير باعتبار الثواب والإكرام الحاصل له في قبره فيسرع به ليلقاه قريبًا قال ابن مالك وروي إليها بتأنيث الضمير على تأويل الخبر بالرحمة أو الحسنى ( أو شر تضعونه عن رقابكم) فلا مصلحة لكم في مصاحبته لأنها بعيدة من الرحمة ويؤخذ منه ترك صحبة أهل البطالة وغير الصالحين وفيه ندب المبادرة بدفن الميت لكن بعد تحقق أنه مات أما مثل المطعون والمسبوت والمفلوج فينبغي أن لا يسرع بتجهيزهم حتى يمضي يوم وليلة ليتحقق موتهم نبه عليه ابن بزيزة، والله تعالى أعلم.



رقم الحديث 581 وَحَدَّثَنِي عَنْ مالِكٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَلْحَلَةَ الدِّيلِيِّ، عَنْ مَعْبَدِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ أَبِي قَتَادَةَ بْنِ رِبْعِيٍّ أَنَّهُ كَانَ يُحَدِّثُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُرَّ عَلَيْهِ بِجَنَازَةٍ، فَقَالَ: مُسْتَرِيحٌ وَمُسْتَرَاحٌ مِنْهُ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا الْمُسْتَرِيحُ وَالْمُسْتَرَاحُ مِنْهُ؟ قَالَ: الْعَبْدُ الْمُؤْمِنُ يَسْتَرِيحُ مِنْ نَصَبِ الدُّنْيَا وَأَذَاهَا، إِلَى رَحْمَةِ اللَّهِ.
وَالْعَبْدُ الْفَاجِرُ يَسْتَرِيحُ مِنْهُ الْعِبَادُ وَالْبِلَادُ، وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ.


( جامع الجنائز)

( مالك عن هشام بن عروة عن عباد) بشد الموحدة ( ابن عبد الله بن الزبير) بن العوام كان قاضي مكة زمن أبيه وخليفته إذا حج ( أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أخبرته أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت وهو مستند إلى صدرها وأصغت) بإسكان الصاد المهملة وفتح الغين المعجمة أي أمالت سمعها ( إليه يقول) وفي رواية قتيبة وهو يقول ( اللهم اغفر لي وارحمني) فيه ندب الدعاء بهما ولا سيما عند الموت وإذا دعا بذلك المصطفى فأين غيره منه والدعاء مخ العبادة لما فيه من الإخلاص والخضوع والضراعة والرجاء وذلك صريح الإيمان ( وألحقني) بهمزة قطع ( بالرفيق الأعلى) وفي البخاري من رواية ذكوان عن عائشة فجعل يقول في الرفيق الأعلى حتى قبض ومالت يده ولأحمد من رواية المطلب عن عائشة فقال مع الرفيق الأعلى مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين إلى قوله رفيقًا ومعنى كونهم رفيقًا تعاونهم على الطاعة وارتفاق بعضهم ببعض وأفرده إشارة إلى أن أهل الجنة يدخلون على قلب رجل واحد قاله السهيلي فالمراد بالرفيق هؤلاء المذكورون في الآية قال الحافظ وهو المعتمد وعليه الأكثر وفي حديث أبي موسى عند النسائي وصححه ابن حبان فقال اللهم الرفيق الأعلى الأسعد مع جبريل وميكائيل وإسرافيل وظاهره أن الرفيق المكان الذي تحصل المرافقة فيه مع المذكورين وهذه الأحاديث ترد زعم أن الرفيق تغيير من الراوي والصواب الرقيع بالقاف والعين المهملة وهو من أسماء السماء.
وقال ابن عبد البر هو أعلى الجنة والجوهري الجنة ويؤيده ما عند ابن إسحاق الرفيق الأعلى الجنة وقيل الرفيق الأعلى الله عز وجل لأنه من أسمائه ففي مسلم وأبي داود مرفوعًا أن الله رفيق يحب الرفيق وهو صفة ذات كالحليم أو صفة فعل وغلط الأزهري هذا القول ولا وجه له لأن تأويله على ما يليق بالله سائغ قال السهيلي الحكمة في اختتام كلام المصطفى بهذه الكلمة تضمنها التوحيد والذكر بالقلب حتى يستفاد منه الرخصة لغيره أنه لا يشترط أن يكون الذكر باللسان لأن بعض الناس قد يمنعه من النطق مانع فلا يضره إذا كان قلبه عامرًا بالذكر قال وفي بعض كتب الواقدي أول ما تكلم به صلى الله عليه وسلم وهو مسترضع عند حليمة الله أكبر وآخر ما تكلم به ما في حديث عائشة يعني في الصحيحين قالت عائشة فكانت آخر ما تكلم بها صلى الله عليه وسلم قوله اللهم الرفيق الأعلى وروى الحاكم عن أنس آخر ما تكلم به جلال ربي الرفيع قد بلغت ثم قضى وجمع بأن هذا آخر على الإطلاق بعد ما كرر اللهم الرفيق الأعلى قبل جلال أي أختار جلال ربي الرفيع قد بلغت ما أوحي إلي وحديث الباب رواه مسلم في المناقب حدثنا قتيبة بن سعيد عن مالك به وتابعه أبو أسامة وعبد الله بن نمير وعبدة بن سليمان كلهم عن هشام به في مسلم أيضًا وله طرق في الصحيحين وغيرهما ( مالك بلغه أن عائشة) أخرجه البخاري ومسلم من طريق إبراهيم بن سعد عن أبيه عن عروة عن عائشة ( قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما من نبي) أراد ما يشمل الرسول ( يموت حتى يخير) بضم أوله مبني للمفعول بين الدنيا والآخرة ( قالت فسمعته يقول) في مرضه الذي مات فيه وأخذته بحة شديدة كما في رواية سعد ( اللهم الرفيق الأعلى فعرفت أنه ذاهب) وفي الصحيحين من طريق الزهري عن عروة عنها كان صلى الله عليه وسلم وهو صحيح يقول أنه لم يقبض نبي قط حتى يرى مقعده ثم يحيا أو يخير فلما حضره القبض غشي عليه فلما أفاق شخص بصره نحو سقف البيت فقال اللهم في الرفيق الأعلى فقلت إذن لا يختارنا وعرفت أنه حديثه الذي كان يحدثنا وهو صحيح وفي مغازي أبي الأسود عن عروة أن جبريل نزل عليه في تلك الحالة فخيره وعند أحمد عن أبي مويهة قال قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم إني أوتيت مفاتيح خزائن الأرض والخلد ثم الجنة فخيرت بين ذلك وبين لقاء ربي والجنة فاخترت لقاء ربي والجنة ولعبد الرزاق من مرسل طاوس رفعه خيرت بين أن أبقى حتى أرى ما يفتح على أمتي وبين التعجيل فاخترت التعجيل ( مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر قال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي) أي فيهما قال الباجي العرض لا يكون إلا على حي يعلم ما يعرض عليه ويفهم ما يخاطب به قال ويحتمل غداة واحدة وعشية واحدة ويحتمل كل غداة وكل عشي وقال ابن التين يحتمل غداة واحدة وعشية واحدة يكون العرض فيهما ويكون معنى حتى يبعثك أي لا تصل إليه إلى يوم البعث ويحتمل كل غداة وعشي وهو محمول على أنه يحيا منه جزء ليدرك ذلك فغير ممتنع أن تعاد الحياة إلى جزء من الميت أو أجزاء وتصح مخاطبته والعرض عليه قال الحافظ والأول موافق لأحاديث سياق المسألة وعرض المقعدين على كل أحد وقال القرطبي يجوز أن هذا العرض على الروح فقط ويجوز أن يكون عليه مع جزء من البدن قال والمراد بالغداة والعشي وقتهما وإلا فالموتى لا صباح عندهم ولا مساء قال وهذا في حق المؤمن والكافر واضح وأما المؤمن المخلط فمحتمل أيضًا في حقه لأنه يدخل الجنة في الجملة ثم هو مخصوص بغير الشهداء ويحتمل أن يقال فائدة العرض في حقهم تبشير أرواحهم باستقرارها في الجنة مقترنة بأجسادها فإن فيه قدرًا زائدًا على ما هي فيه الآن ( إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة) اتحد فيه الشرط والجزاء لفظًا فلا بد من تقدير قال التوربشتي التقدير فمقعد من مقاعد أهل الجنة يعرض عليه وقال الطيبي الشرط والجزاء إذا اتحدا لفظًا دل على الفخامة والمراد أنه يرى بعد البعث من كرامة الله ما ينسيه هذا المقعد انتهى.
وعند مسلم بلفظ إن كان من أهل الجنة فالجنة أي فالمعروض الجنة ( وإن كان من أهل النار فمن أهل النار) أي فمقعده من مقاعد أهلها يعرض عليه أو يعلم بالعكس مما يسر به أهل الجنة لأن هذه المنزلة طليعة تباشير أهل السعادة الكبرى ومقدمة تباريح الشقاوة العظمى وفي ذلك تنعيم لمن هو من أهل الجنة وتعذيب لمن هو من أهل النار بمعاينة ما أعد له وانتظاره ذلك اليوم الموعود ( يقال له هذا مقعدك حتى يبعثك الله إلى يوم القيامة) كذا في رواية يحيى بلفظ إلى وللأكثر بحذفها وليحيى النيسابوري وابن القاسم إليه بالضمير حكاه ابن عبد البر قال والمعنى حتى يبعثك الله إلى هذا المقعد ويحتمل أن الضمير يعود إلى الله فإلى الله ترجع الأمور والأول أظهر قال الحافظ ويؤيده رواية الزهري عن سالم عن أبيه بلفظ ثم يقال هذا مقعدك الذي تبعث إليه يوم القيامة أخرجه مسلم وأخرج النسائي رواية ابن القاسم لكن بحذف إليه كالأكثرين وفيه إثبات عذاب القبر وأن الروح لا تفنى بفناء الجسد لأن العرض لا يقع إلا على حي قال ابن عبد البر واستدل به على أن الأرواح على أفنية القبور وهو الصحيح لأن الأحاديث بذلك أصح من غيرها والمعنى عندي أنها قد تكون على أفنية القبور لا أنها لا تفارقها بل هي كما قال مالك بلغني أن الأرواح تسرح حيث شاءت والحديث رواه البخاري عن إسماعيل ومسلم عن يحيى كلاهما عن مالك به ( مالك عن أبي الزناد) عبد الله بن ذكوان ( عن الأعرج) عبد الرحمن بن هرمز ( عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال كل ابن آدم تأكله الأرض) أي جميع جسمه وينعدم بالكلية أو المراد أنها باقية لكن زالت أعراضها المعهودة قال إمام الحرمين لم يدل قاطع سمعي على تعيين أحدهما ولا بعد أن تصير أجسام العباد بصفة أجسام التراب ثم تعاد بتركيبها إلى المعهود ( إلا عجب الذنب) بفتح العين وسكون الجيم وبالموحدة ويقال بالميم وهو العصعص أسفل العظم الهابط من الصلب فإنه قاعدة البدن كقاعدة الجدار فلا تأكله الأرض ( لأنه منه خلق) أي ابتدئ خلقه ( ومنه يركب) خلقه عند قيام الساعة وهذا أظهر من احتمال أن المراد منه ابتداء الخلق وابتداء التركيب وبالأول جزم الباجي فقال لأنه أول ما خلق من الإنسان وهو الذي يبقى منه ليعاد تركيب الخلق عليه قال ابن عبد البر هذا عموم يراد به الخصوص لما روي في أجساد الأنبياء والشهداء أن الأرض لا تأكلهم وحسبك ما جاء في شهداء أحد إذ أخرجوا بعد ست وأربعين سنة لينة أجسادهم يعني أطرافهم فكأنه قال من تأكله الأرض فلا تأكل منه عجب الذنب وإذا جاز أن لا تأكله جاز أن لا تأكل الشهداء وإنما في هذا التسليم لمن يجب له التسليم صلى الله عليه وسلم انتهى.
وزاد غيره الصديقين والعلماء العاملين والمؤذن المحتسب وحامل القرآن العامل به والمرابط والميت بالطاعون صابرًا محتسبًا والمكثر من ذكر الله والمحبين لله فتلك عشرة كاملة ( مالك عن ابن شهاب عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك الأنصاري) أبي الخطاب المدني من كبار التابعين ويقال ولد في العهد النبوي ومات في خلافة سليمان ( أنه أخبره أن أباه كعب بن مالك) السلمي المدني الصحابي المشهور أحد الثلاثة الذين خلفوا مات في خلافة علي رضي الله عنهما ( كان يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إنما نسمة المؤمن) بفتح النون والسين أي روحه وفي كتاب أبي القاسم الجوهري النسمة الروح والنفس والبدن وإنما يعني في هذا الحديث الروح قال الباجي ويحتمل عندي أن يريد به ما يكون فيه الروح من الميت قبل البعث ويحتمل أنه شيء من محل الروح تبقى فيه الروح ( طير يعلق) بالتحتية صفة طير وبفتح اللام رواية الأكثر كما قال ابن عبد البر وروي بضمها قال والمعنى واحد وهو الأكل والرعي ( في شجر الجنة) لتأكل من ثمارها وقال البوني معنى رواية الفتح تأوي والضم ترعى تقول العرب ما ذقت اليوم علوقًا وقال السهيلي يعلق بفتح اللام يتشبث بها ويرى مقعده منها ومن رواه بضم اللام فمعناه يصيب منها العلقة من الطعام فقد أصاب دون ما أصاب غيره ممن أدرك الرغد أي العيش الواسع فهو مثل مضروب يفهم منه هذا المعنى وإن أراد بتعلق الأكل نفسه فهو مخصوص بالشهيد فتكون رواية الضم للشهيد والفتح لمن دونهم والله أعلم بمراد رسوله انتهى واختلف في أن هذا الحديث عام في الشهداء وغيرهم إذا لم يحبسهم عن الجنة كبيرة ولا دين أو خاص بالشهداء دون غيرهم لأن القرآن والسنة لا يدلان إلا على ذلك حكاهما ابن عبد البر وذكر بعض أدلة الثاني وقال بحمله على الشهداء يزول ما ظنه قوم من معارضة هذا الحديث للحديث قبله في عرض المقعد لأنه إذا كان يسرح في الجنة فهو يراها في جميع أحيانه وليس كما قالوا إنما هذا في الشهداء خاصة وما قبله في سائر الناس واختار الأول ابن كثير فقال في هذا الحديث إن روح المؤمن تكون على شكل طير في الجنة وأما أرواح الشهداء ففي حواصل طير خضر ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها وتأوي إلى قناديل من ذهب في ظل العرش كما رواه أحمد عن ابن عباس مرفوعًا فهي كالراكب بالنسبة إلى أرواح عموم المؤمنين فإنها تطير بأنفسها فهو بشرى لكل مؤمن بأن روحه تكون في الجنة أيضًا وتسرح فيها وتأكل من ثمارها وترى ما فيها من النضرة والسرور ( حتى يرجعه الله إلى جسده يوم يبعثه) يوم القيامة قال وهذا حديث صحيح عزيز عظيم اجتمع فيه ثلاثة أئمة فرواه أحمد عن الشافعي عن مالك به انتهى ( مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: قال) الله ( تبارك وتعالى) هذا من الأحاديث الإلهية فيحتمل أن يكون صلى الله عليه وسلم تلقاه عن الله بلا واسطة أو بواسطة قاله الحافظ ( إذا أحب عبدي لقائي) عند حضور أجله إن عاين ما يحب أحب لقاء الله وإن عاين ما يكره لم يحب الخروج من الدنيا هذا معناه كما تشهد به الآثار المرفوعة وذلك حين لا تقبل توبة وليس المراد الموت لأنه لا يخلو من كراهته نبي ولا غيره ولكن المكروه من ذلك إيثار الدنيا وكراهة أن يصير إلى الله قاله ابن عبد البر ( أحببت لقاءه) أي أردت له الخير ( وإذا كره لقائي كرهت لقاءه) زاد في حديث عبادة في الصحيحين فقالت عائشة إنا لنكره الموت قال صلى الله عليه وسلم ليس ذاك ولكن المؤمن إذا حضره الموت بشر برضوان الله وكرامته فليس شيء أحب إليه مما أمامه فأحب لقاء الله وأحب الله لقاءه وأن الكافر إذا حضر بشر بعذاب الله وعقوبته فليس شيء أكره إليه مما أمامه فكره لقاء الله وكره الله لقاءه ولأحمد عن عائشة مرفوعًا إذا أراد الله بعبد خيرًا قيض الله له قبل موته بعام ملكًا يسدده ويوفقه حتى يقال مات بخير ما كان فإذا حضر ورأى إلى ثوابه اشتاقت نفسه فذلك حين أحب لقاء الله وأحب الله لقاءه وإذا أراد الله بعبد شرًا قيض الله له قبل موته بشهر شيطانًا فأضله وفتنه حتى يقال مات بشر ما كان عليه فإذا حضر ورأى ما أعد الله له من العذاب جزعت نفسه فذلك حين كره لقاء الله وكره الله لقاءه وقال الخطابي معنى محبة لقاء الله إيثار العبد الآخرة على الدنيا ولا يحب طول القيام فيها لكن يستعد للارتحال عنها واللقاء على وجوه منها الرؤية ومنها البعث كقوله تعالى { { قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله } } أي البعث ومنها الموت كقوله تعالى { { من كان يرجو لقاء الله فإن أجل الله لآت } } وقال ابن الأثير المراد باللقاء المصير إلى الدار الآخرة وطلب ما عند الله وليس الغرض به الموت لأن كلا يكرهه فمن ترك الدنيا وأبغضها أحب لقاء الله ومن آثرها وركن إليها كره لقاء الله ومحبة الله لقاء عبده إرادة الخير له وإنعامه عليه وفي الكواكب إن قيل الشرط ليس سببًا للجزاء بل الأمر بالعكس قلت مثله يؤول بالإخبار أي أخبره بأني أحببت لقاءه وكذا الكراهة والحديث رواه البخاري في التوحيد عن إسماعيل عن مالك به ( مالك عن أبي الزناد) بكسر الزاي والتخفيف ( عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال) هكذا رفعه أكثر رواة الموطأ ووقفه القعنبي ومصعب وذلك لا يضر في رفعه لأن رواته ثقات حفاظ ( قال رجل) قال الحافظ قيل اسمه جهينة وذلك أن في صحيح أبي عوانة أن هذا الرجل هو آخر أهل النار خروجًا منها وفي رواية مالك للخطيب عن ابن عمر آخر من يدخل الجنة رجل من جهينة يقول أهل الجنة عند جهينة الخبر اليقين ( لم يعمل حسنة قط) ليس فيه ما ينفي التوحيد عنه والعرب تقول مثل هذا في الأكثر من فعله كحديث لا يضع عصاه عن عاتقه وفي رواية لم يعمل خيرًا قط إلا التوحيد قاله ابن عبد البر وفي الصحيح ممن كان قبلكم يسيء الظن بعمله وفي رواية يسرف على نفسه وفي ابن حبان أنه كان نباشًا أي للقبور يسرق أكفان الموتى ( لأهله) وفي الصحيح من طريق ابن شهاب عن حميد عن أبي هريرة مرفوعًا فلما حضره الموت قال لبنيه ( إذا مات فحرقوه) وفي رواية الزهري إذا أنا مت فأحرقوني ثم اطحنوني ( ثم أذروا نصفه في البر ونصفه في البحر فوالله لئن قدر الله عليه) بخفة الدال وشدها من القدر وهو القضاء لا من القدرة والاستطاعة كقوله فظن أن لن نقدر عليه أو بمعنى ضيق كقوله تعالى { { ومن قدر عليه رزقه } } وقال بعض العلماء هذا رجل جهل بعض صفات الله وهي القدرة ولا يكفر جاهل بعضها وإنما يكفر من عاند الحق قاله أبو عمر ( ليعذبنه عذابًا لا يعذبه أحدًا من العالمين) الموحدين ( فلما مات الرجل فعلوا ما أمرهم به فأمر الله البر فجمع ما فيه وأمر الله البحر فجمع ما فيه) زاد في رواية الزهري فإذا هو قائم وزاد أبو عوانة في أسرع من طرفة عين وفيه دلالة على رد من زعم أن الخطاب لروحه لأن التحريق والتذرية إنما وقعا على الجسد وهو الذي جمع وأعيد ( ثم قال لم فعلت هذا قال من خشيتك يا رب وأنت أعلم) إني إنما فعلته من خشيتك أي خوف عقابك قال ابن عبد البر وذلك دليل على إيمانه إذ الخشية لا تكون إلا لمؤمن بل لعالم قال تعالى { { إنما يخشى الله من عباده العلماء } } ويستحيل أن يخافه من لا يؤمن به وقد روى الحديث قال رجل لم يعمل خيرًا قط إلا التوحيد وهذه اللفظة ترفع الإشكال في إيمانه والأصول تعضدها إن الله لا يغفر أن يشرك به وقد ( قال فغفر له) ولأبي عوانة من حديث حذيفة عن الصديق أنه آخر أهل الجنة دخولاً قال ابن التين ذهب المعتزلة إلى أن هذا الرجل إنما غفر له لتوبته التي تابها لأن قبولها واجب عقلاً عندهم والأشعري قطع بها سمعًا وغيره جوز القبول كسائر الطاعات وقال ابن المنير قبول التوبة عند المعتزلة واجب على الله تعالى عقلاً وعندنا واجب بحكم الوعد والفضل والإحسان إذ لو وجب القبول على الله عقلاً لاستحق الذم إن لم يقبل وهو محال لأن من كان كذلك يكون مستكملاً بالقبول والمستكمل بالغير ناقص بذاته وذلك في حق الله محال ولأن الذم إنما يمنع من الفعل من يتأذى لسماعه وينفر عنه طبعه ويظهر له بسببه نقص حال أما المتعالي عن الشهوة والنفرة والزيادة والنقص فلا يعقل تحقق الوجوب في حقه بهذا المعنى ولأنه تعالى تمدح بقبول التوبة في قوله { { ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده } } ولو كان واجبًا ما تمدح به لأن أداء الواجب لا يفيد المدح والثناء والتعظيم قال بعض المفسرين قبول التوبة من الكفر يقطع به على الله تعالى إجماعًا وهذا محمل الآية وأما المعاصي فيقطع بأنه يقبل التوبة منها من طائفة من الأمة واختلف هل يقبل توبة الجميع وأما إذا عين إنسان تائب فيرجى قبول توبته بلا قطع وأما إذا فرضنا تائبًا غير معين صحيح التوبة فقيل يقطع بقبول توبته وعليه طائفة منها الفقهاء والمحدثون لأنه تعالى أخبر عن نفسه بذلك وعلى هذا يلزم أن تقبل توبة جميع التائبين وذهب أبو المعالي وغيره إلى أن ذلك لا يقطع به على الله بل يقوي في الرجاء والقول الأول أرجح ولا فرق بين التوبة من الكفر والتوبة من المعاصي بدليل أن الإسلام يجب ما قبله والتوبة تجب ما قبلها انتهى.
والحديث رواه البخاري في التوحيد عن إسماعيل ومسلم من طريق روح كلاهما عن مالك به ( مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال كل مولود) أي من بني آدم صرح به جعفر بن ربيعة عن الأعرج عن أبي هريرة بلفظ كل بني آدم وكذا رواه خالد الواسطي عن عبد الرحمن بن إسحاق عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة ذكرهما ابن عبد البر ( يولد على الفطرة) عام في جميع المولودين على ظاهره وأصرح منه رواية البخاري ما من مولود إلا يولد على الفطرة ولمسلم ما من مولود إلا وهو على الملة وحكى ابن عبد البر عن قوم أنه لا يقتضي العموم وأن المراد كل من يولد على الفطرة وله أبوان غير مسلمين نقلاه إلى دينهما فالتقدير كل مولود يولد على الفطرة وأبواه يهوديان مثلاً فإنهما يهودانه ثم يصير عند بلوغه إلى ما يحكم به عليه ويكفي في الرد عليهم رواية مسلم عن أبي صالح عن أبي هريرة ليس من مولود إلا على هذه الفطرة حتى يعرب عنه لسانه وأصرح منها رواية كل بني آدم وأشهر الأقوال أن المراد بالفطرة الإسلام قال ابن عبد البر وهو المعروف عند عامة السلف وأجمع علماء التأويل على أن المراد بقوله تعالى { { فطرة الله التي فطر الناس عليها } } الإسلام واحتجوا بقول أبي هريرة عند الشيخين في آخر الحديث اقرؤوا إن شئتم { { فطرة الله } } الآية وبحديث عياض بن حماد عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه إني خلقت عبادي حنفاء كلهم فاختالتهم الشياطين عن دينهم الحديث ورواه غيره فقال حنفاء مسلمين ورجح بقوله تعالى { { فأقم وجهك للدين حنيفًا فطرة الله } } لأنها إضافة مدح وقد أمر الله نبيه بلزومها فعلم أنها الإسلام وحكى ابن عبد البر عن الأوزاعي وسحنون ورواه أبو داود عن حماد بن سلمة أن المراد حين أخذ الله العهد فقال ألست بربكم قالوا بلى قال الطيبي ويؤيده وجوه أحدها أن التعريف في الفطرة إشارة إلى معهود وهو قوله { { فطرة الله } } ومعنى { { فأقم وجهك } } أثبت على العهد القديم ثانيها مجيء رواية بلفظ الملة بدل الفطرة والدين في قوله { { للدين حنيفًا } } فهو عين الملة قال تعالى { { دينًا قيمًا ملة إبراهيم حنيفًا } } ثالثها التشبيه بالمحسوس المعاين ليفيد أن ظهوره يقع في البيان مبلغ هذا المحسوس قال والمراد تمكن الناس من الهدي في أصل الجبلة والتهيؤ لقبول الدين فلو ترك المرء عليها لاستمر على لزومها ولم يفارقها إلى غيرها لأن حسن هذا الدين ثابت في النفوس وإنما يعدل عنه لآفة من الآفات البشرية كالتقليد انتهى وإلى هذا مال القرطبي في المفهم فقال المعنى أن الله خلق قلوب بني آدم متأهلة لقبول الحق كما خلق أعينهم وأسماعهم قابلة للمرئيات والمسموعات فما دامت باقية على ذلك القبول وعلى تلك الأهلية أدركت الحق ودين الإسلام هو الدين الحق ودل على هذا المعنى بقية الحديث وقال ابن القيم ليس المراد أنه خرج من بطن أمه يعلم الدين لأن الله يقول { { والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئًا } } ولكن المراد أن فطرته مقتضية لمعرفة دين الإسلام ومحبته فنفس الفطرة تستلزم الإقرار والمحبة وليس المراد مجرد قبول الفطرة لذلك فإنه لا يتغير بتهويد الأبوين مثلاً بحيث يخرجان الفطرة عن القبول وإنما المراد أن كل مولود يولد على إقراره بالربوبية فلو خلى وعدم المعارض لم يعدل عن ذلك إلى غيره كما أنه يولد على محبة ما يلائم بدنه من ارتضاع اللبن حتى يصرفه عنه الصارف ومن ثم شبهت الفطرة باللبن بل كانت إياه في تأويل الرؤيا انتهى وقيل معناه أنه يولد على ما يصير إليه من شقاوة أو سعادة فمن علم الله أنه يصير مسلمًا ولد على الإسلام ومن علم أنه يصير كافرًا ولد على الكفر فكأنه أول الفطرة بالعلم وتعقب بأنه لو كان كذلك لم يكن لقوله فأبواه إلى آخره معنى لفعلهما به ما هو الفطرة التي ولد عليها فينافي التمثيل بحال البهيمة وقيل معناه أنه تعالى خلق فيهم المعرفة والإنكار فلما أخذ الميثاق من الذرية قالوا جميعًا بلى أما أهل السعادة فطوعًا وأما أهل الشقاوة فكرها وتعقب بأنه يحتاج إلى نقل صحيح فإنه لا يعرف هذا التفصيل عند أخذ الميثاق إلا عن السدي ولم يسنده وكأنه أخذه من الإسرائيليات وقيل الفطرة الخلقة أي يولد سالمًا لا يعرف كفرًا ولا إيمانًا ثم يعتقد إذا بلغ التكليف ورجحه ابن عبد البر وقال إنه يطابق التمثيل بالبهيمة ولا يخالف حديث عياض لأن المراد بقوله حنفاء أي على الاستقامة وتعقب بأنه لو كان كذلك لم يقتصر في أحوال التبديل على الكفر دون ملة الإسلام ولم يكن لاستشهاد أبي هريرة بالآية معنى وقيل اللام في الفطرة للعهد أي فطرة أبويه وهو متعقب بما ذكر في الذي قبله وحمله محمد بن الحسن الشيباني على أحكام الدنيا فادعى فيه النسخ فقال هذا في أول الإسلام قبل أن تنزل الفرائض والأمر بالجهاد قال أبو عبيد كأنه عنى أنه لو كان يولد على الإسلام فمات قبل أن يهوده أبواه مثلاً لم يرثاه والحكم أنهما يرثاه فدل على تغير الحكم ورده ابن عبد البر بأنه حاد عن الجواب وفي حديث الأسود بن سريع أن ذلك كان بعد الأمر بالجهاد وكذا رده غيره والحق أنه إخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم بما وقع في نفس الأمر ولم يرد إثبات أحكام الدنيا قال ابن القيم وسبب اختلاف العلماء في معنى الفطرة أن القدرية احتجوا بالحديث على أن الكفر والمعصية ليسا بقضاء الله بل مما ابتدأ الناس إحداثه فحاول جماعة من العلماء مخالفتهم بتأويل الفطرة على غير معنى الإسلام ولا يلزم من حملها عليه موافقة القدرية لحمله على أن ذلك يقع بتقدير الله ولذا احتج مالك عليهم بقوله الله أعلم بما كانوا عاملين انتهى.
روى أبو داود عن ابن وهب سمعت مالكًا وقيل له أن أهل الأهواء يحتجون علينا بهذا الحديث فقال مالك احتج عليهم بآخره الله أعلم بما كانوا عاملين ووجه ذلك أن القدرية استدلوا به على أن الله فطر العباد على الإسلام وأنه لا يضل أحدًا فإنما يضل الكافر أبواه فأشار مالك إلى رده بقوله الله أعلم فإنه دال على علمه بما يصيرون إليه بعد إيجادهم على الفطرة فهو دليل على تقدم العلم الذي ينكره غلاتهم ومن ثم قال الشافعي أهل القدر إن أثبتوا العلم خصموا ( فأبواه يهودانه أو ينصرانه) زاد ابن شهاب عن أبي سلمة عن أبي هريرة في الصحيحين أو يمجسانه قال الطيبي الفاء إما للتعقيب أو للسببية أو جزاء شرط مقدر أي إذا تقرر ذلك فمن تغير كان بسبب أبويه إما بتعليمهما إياه أو ترغيبهما فيه أو كونه تبعًا لهما في الدين يقتضي أن حكمه حكمهما وخص الأبوان بالذكر للغالب فلا حجة فيه لمن حكم بإسلام الطفل الذي يموت أبواه كافرين كما هو أحد قولي أحمد فقال استقر عمل الصحابة فمن بعدهم على عدم التعرض لأطفال أهل الذمة واستشكل الحديث بأنه يقتضي أن كل مولود يقع له التهود أو غيره مما ذكر مع أن كثيرًا يبقى مسلمًا لا يقع له شيء وأجيب بأن المراد أن الكفر ليس من ذات المولود ومقتضى طبعه بل إنما يحصل بسبب خارجي فإن سلم منه استمر على الحق ( كما تناتج) بفوقية فنون فألف ففوقية فجيم أي يولد ( الإبل من بهيمة جمعاء) بضم الجيم وسكون الميم والمد نعت لبهيمة أي لم يذهب من بدنها شيء سميت بذلك لاجتماع أعضائها ( هل تحس) بضم أوله وكسر ثانيه أي تبصر وفي رواية هل ترى ( فيها من جدعاء) بفتح الجيم وإسكان المهملة والمد أي مقطوعة الأنف أو الأذن أو الأطراف والجملة صفة أو حال أي بهيمة تقول فيها هذا القول أي كل من نظر إليها قاله لظهور سلامتها زاد في رواية في الصحيح حتى تكونوا أنتم تجدعونها قال الباجي يريد أن المولود يولد على الفطرة ثم يغيره بعد ذلك أبواه كما أن البهيمة تولد تامة لا جدع فيها من أصل الخلقة وإنما تجدع بعد ذلك ويغير خلقها وقال في المفهم يعني أن البهيمة تلد الولد كامل الخلقة فلو ترك كذلك كان بريا من العيب لكنهم تصرفوا فيه بقطع أذنه مثلاً فخرج عن الأصل وهو تشبيه واقع ووجهه واضح وقال الطيبي كما حال من الضمير المنصوب في يهودانه أي يهودان المولود بعد خلقه على الفطرة حال كونه شبيها بالبهيمة التي جدعت بعد أن خلقت سليمة أو صفة مصدر محذوف أي يغيرانه مثل تغييرهم البهيمة السليمة وقد تنازعت الأفعال الثلاثة في كما على التقديرين ( قالوا يا رسول الله أرأيت) أي أخبرنا من إطلاق السبب على المسبب لأن مشاهدة الأشياء طريق إلى الإخبار عنها أي قد رأيت ( الذي يموت وهو صغير) لم يبلغ الحلم أيدخل الجنة ( قال الله أعلم بما كانوا عاملين) قال ابن قتيبة أي لو أبقاهم فلا تحكموا عليهم بشيء وقال غيره أي علم أنهم لا يعملون شيئًا ولا يرجعون فيعملون أو أخبر بعلم الشيء لو وجد كيف يكون ولم يرد أنهم يجازون بذلك في الآخرة لأن العبد لا يجازى بما لم يعمل أو معناه أنه علم أنهم لم يعملوا ما يقتضي تعذيبهم ضرورة أنهم غير مكلفين وقال البيضاوي فيه إشارة إلى أن الثواب والعقاب لا لأجل الأعمال وإلا لزم أن تكون ذراري المسلمين والكافرين لا من أهل الجنة ولا من أهل النار بل الموجب لهما اللطف الرباني والخذلان الإلهي المقدر لهما في الأزل فالأولى فيهما التوقف وعدم الجزم بشيء فإن أعمالهم موكولة إلى علم الله فيما يعود إلى أمر الآخرة من الثواب والعقاب وقال النووي أجمع من يعتد به من علماء المسلمين أن من مات من أطفال المسلمين فهو من أهل الجنة لأنه ليس مكلفًا وتوقف فيه بعض من لا يعتد به لحديث عائشة في مسلم أنه صلى الله عليه وسلم دعي لجنازة صبي من الأنصار فقلت طوبى له عصفور من عصافير الجنة لم يعمل السوء ولم يدركه فقال أو غير ذلك يا عائشة أن الله خلق للجنة أهلا خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم وخلق للنار أهلا خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم وأجابوا عن هذا بأنه لعله نهاها عن المسارعة إلى القطع من غير أن يكون عندها دليل قاطع أو قاله قبل أن يعلم أن أطفال المسلمين في الجنة انتهى وأطلق ابن أبي زيد الإجماع في ذلك ولعله أراد إجماع من يعتد به وقال المازري الخلاف في غير أولاد الأنبياء انتهى وأما أطفال الكفار فاختلف العلماء قديمًا وحديثها فيهم على عشرة أقوال أحدها أنهم في المشيئة ونقل عن الحمادين وإسحاق وابن المبارك والشافعي قال ابن عبد البر وهو مقتضى صنيع مالك ولا نص عنه لكن صرح أصحابه بأن أطفال المسلمين في الجنة وأطفال الكفار في المشيئة والحجة فيه حديث ابن عباس وأبي هريرة في الصحيحين سئل صلى الله عليه وسلم عن أولاد المشركين فقال الله أعلم بما كانوا عاملين ثانيها أنهم تبع لآبائهم حكاه ابن حزم عن الأزارقة والخوارج ولأحمد عن عائشة سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ولدان المسلمين قال في الجنة وعن أولاد المشركين قال في النار فقلت لم يدركوا الأعمال قال ربك أعلم بما كانوا عاملين لو شئت أسمعتك تضاغيهم في النار وهو حديث ضعيف جدًا لأن في إسناده أبا عقيل مولى بهية وهو متروك ثالثها أنهم في برزخ بين الجنة والنار إذ لا حسنات لهم يدخلون بها الجنة ولا سيئات يدخلون بها النار رابعها أنهم خدم أهل الجنة روى الطيالسي وأبو يعلى والطبري والبزار مرفوعًا أولاد المشركين خدم أهل الجنة وإسناده ضعيف خامسها يصيرون ترابًا سادسها في النار حكاه عياض عن أحمد وغلطه ابن تيمية بأنه قول لبعض أصحابه ولا يحفظ عن الإمام أصلاً وهو غير الثاني لأنهم تبع لآبائهم لأنه لا يلزم من كونهم في النار أن يكونوا مع آبائهم كما أن عصاة الموحدين في النار لا مع الكفار سابعها يمتحنون في الآخرة بأن ترفع لهم نار فمن دخلها كانت عليه بردًا وسلامًا ومن أبى عذب أخرجه البزار من حديث أنس وأبي سعيد والطبراني من حديث معاذ وقد صحت مسألة الامتحان في حق المجنون ومن مات في الفترة من طرق صحيحة وحكى البيهقي أنه المذهب الصحيح وتعقب بأن الآخرة ليست دار تكليف فلا عمل فيها ولا ابتلاء وأجيب بأن ذلك بعد الاستقرار في الجنة أو النار وأما في عرصات القيامة فلا مانع من ذلك وقد قال تعالى { { يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون } } وفي الصحيحين أن الناس يؤمرون بالسجود فيصير ظهر المنافق طبقًا فلا يستطيع أن يسجد ثامنها الوقف تاسعها الإمساك وفي الفرق بينهما دقة عاشرها أنهم في الجنة قال النووي وهو المذهب الصحيح المختار الذي صار إليه المحققون لقوله تعالى { { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً } } وإذا لم يعذب العاقل لأنه لم تبلغه دعوة فأولى غيره انتهى.
وفي حديث سمرة عند البخاري في رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم الشيخ في أصل الشجرة إبراهيم والصبيان حوله فأولاد الناس وهو عام يشمل أولاد المسلمين وغيرهم وروى ابن عبد البر من طريق أبي معاذ عن الزهري عن عروة عن عائشة قال سألت خديجة النبي صلى الله عليه وسلم عن أولاد المشركين فقال هم مع آبائهم ثم سألته بعد ذلك فقال الله أعلم بما كانوا عاملين ثم سألته بعدما استحكم الإسلام فنزلت { { ولا تزر وازرة وزر أخرى } } فقال هم على الفطرة وقال في الجنة قال الحافظ وأبو معاذ هو سليمان بن أرقم وهو ضعيف ولو صح هذا لكان قاطعًا للنزاع انتهى.
وحديث الباب له طرق كثيرة في الصحيحين وغيرهما ( مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل بقبر الرجل فيقول يا ليتني مكانه) أي ميتًا وذلك عند ظهور الفتن وخوف ذهاب الدين لغلبة الباطل وأهله وظهور المعاصي أو ما يقع لبعضهم من المصيبة في نفسه أو أهله أو دنياه وإن لم يكن في ذلك شيء يتعلق بدينه وعند مسلم من طريق أبي حازم عن أبي هريرة مرفوعًا لا تذهب الدنيا حتى يمر الرجل على القبر فيتمرغ عليه ويقول يا ليتني مكان صاحب هذا القبر وليس به الدين إلا البلاء وعن ابن مسعود قال سيأتي عليكم زمان لو وجد أحدكم الموت يباع لاشتراه وعليه قول الشاعر

وهذا العيش ما لا خير فيه
ألا موت يباع فأشتريه

وسبب ذلك أنه يقع البلاء والشدة حتى يكون الموت الذي هو أعظم المصائب أهون على المرء فيتمنى أهون المصيبتين في اعتقاده وذكر الرجل للغالب وإلا فالمرأة يمكن أن تتمنى الموت لذلك أيضًا لكن لما كان الغالب أن الرجال هم المبتلون بالشدائد والنساء محجبات لا يصلين نار الفتنة خصهم كما قيل

كتب القتل والقتال علينا
وعلى الغانيات جر الذيول

قال الحافظ العراقي ولا يلزم كونه في كل بلد ولا كل زمن ولا في جميع الناس بل يصدق على اتفاقه للبعض في بعض الأقطار في بعض الأزمان وفي تعليق تمنيه بالمرور إشعار بشدة ما نزل بالناس من فساد الحال حالتئذ إذ المرء قد يتمنى الموت من غير استحضار شيء فإذا شاهد الموتى ورأى القبور نشز بطبعه ونفر بسجيته من تمنيه فلقوة الشدة لم يصرفه عنه ما شاهده من وحشة القبور ولا يناقض هذا النهي عن تمني الموت لأن هذا الحديث إخبار عما يكون وليس فيه تعرض لحكم شرعي وقال ابن عبد البر لا يعارض هذا قوله صلى الله عليه وسلم لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به وقول خباب بن الأرت لولا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهانا أن ندعو بالموت لدعوت به لأنه إخبار بشدة ما ينزل بالناس من فساد الدين لا لضرر يصيب جسمه يحط خطاياه وقد قال عتيق الغفاري زمن الطاعون يا طاعون خذني إليك فقيل ألم يأت النهي عن تمني الموت فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول بادروا بالموت إمرة السفهاء وكثرة الشرط وبيع الحكم واستخفافًا بالدم وقطيعة الرحم , ونساء يتخذون مزامير يقدمون الرجل يغنيهم بالقرآن وإن كان أقلهم فقهًا ويوضح ذلك قوله صلى الله عليه وسلم وإذا أردت بالناس فتنة فاقبضني إليك غير مفتون وقول عمر اللهم قد ضعفت قوتي وكبرت سني وانتشرت رعيتي فاقبضني إليك غير مضيع ولا مفرط انتهى.
وهو ناظر إلى أن المعنى الأول هو المراد بالحديث ورواه الشيخان في الفتن البخاري عن إسماعيل ومسلم عن قتيبة بن سعيد كلاهما عن مالك به ( مالك عن محمد بن عمرو) بفتح العين ( ابن حلحلة) بحاءين مهملتين مفتوحتين ولامين أولاهما ساكنة والثانية مفتوحة زاد ابن وضاح ( الديلي) بكسر الدال وسكون التحتية المدني ( عن معبد) بفتح الميم وسكون العين وموحدة ( ابن كعب بن مالك) الأنصاري السلمي المدني ( عن أبي قتادة) الحارث ويقال عمرو ويقال النعمان ( ابن ربعي) بكسر الراء وسكون الموحدة وعين مهملة السلمي المدني شهد أحدًا وما بعدها ولم يصح شهوده بدرًا ومات سنة أربع وخمسين وقيل سنة ثمان وثلاثين والأول أصح وأشهر قال ابن عبد البر هكذا الحديث في الموطآت بهذا الإسناد وأخطأ فيه سويد بن سعيد عن مالك فقال عن معبد بن كعب عن أبيه وليس بشيء ( أنه كان يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر) بضم الميم وشد الراء ( عليه بجنازة فقال مستريح ومستراح منه) قال ابن الأثير يقال أراح الرجل واستراح إذا رجعت إليه نفسه بعد الإعياء انتهى والواو بمعنى أو فهي للتنويع أي لا يخلو ابن آدم من هذين المعنيين فلا يختص بصاحب الجنازة ( قالوا يا رسول الله ما المستريح والمستراح منه) وفي رواية الدارقطني بإعادة ما ( قال العبد المؤمن) المتقي خاصة أو كل مؤمن ( يستريح من نصب الدنيا) بفتحتين تعبها ومشقتها ( وأذاها) وهو عطف عام على خاص ( إلى رحمة الله) تعالى قال مسروق ما غبطت شيئًا لشيء كمؤمن في لحده أمن من عذاب الله واستراح من الدنيا ( والعبد الفاجر) الكافر أو العاصي ( يستريح منه العباد) أي من ظلمه لهم وقول الداودي لما يأتي به من المنكر فإن أنكروا آذاهم وإن تركوه أثموا رده الباجي بأنه لا يأثم تارك الإنكار إذا ناله أذى ويكفيه أن ينكر بقلبه ( والبلاد) بما يفعله فيها من المعاصي فيحصل الجدب فيهلك الحرث والنسل أو لغصبها ومنعها من حقها ( والشجر) لقلعه إياها غصبًا أو غصب ثمرها ( والدواب) لاستعماله لها فوق طاقتها وتقصيره في علفها وسقيها وقال الطيبي أما استراحة البلاد والأشجار فإن الله تعالى بفقده يرسل السماء مدرارًا ويحيي به الأرض والشجر والدواب بعدما حبس بشؤم ذنوبه الأمطار لكن إسناد الراحة إليها مجاز إذ الراحة إنما هي لمالكها والحديث رواه البخاري عن إسماعيل ومسلم عن قتيبة بن سعيد كلاهما عن مالك به ( مالك عن أبي النضر) سالم بن أبي أمية ( مولى عمر بن عبيد الله) بضم العينين القرشي ( أنه قال) وصله ابن عبد البر من طريق يحيى بن سعيد عن القاسم عن عائشة ( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما مات عثمان بن مظعون) بالظاء المعجمة ابن حبيب بن وهب بن حذافة القرشي الجمحي أسلم قديمًا وهاجر إلى الحبشة الهجرة الأولى وروى ابن شاهين والبيهقي عنه قلت يا رسول الله إني رجل تشق علي الغربة في المغازي فتأذن لي في الخصاء فأختصي فقال لا ولكن عليك يا ابن مظعون بالصوم وفي الصحيحين عن سعد بن أبي وقاص رد النبي صلى الله عليه وسلم على عثمان بن مظعون التبتل ولو أذن له لاختصينا توفي بعد شهوده بدرًا في السنة الثانية من الهجرة وهو أول من مات بالمدينة من المهاجرين وأول من دفن منهم بالبقيع ( ومر بجنازته) عليه ( ذهبت ولم تلبس) بحذف إحدى التاءين ولابن وضاح تتلبس بتاءين ( منها) أي الدنيا ( بشيء) كثير لأنه تلبس بشيء منها لا محالة وفيه مدح الزهد في الدنيا وذم الاستكثار منها والثناء على المرء بما فيه وروى الترمذي عن عائشة قبل النبي صلى الله عليه وسلم عثمان بن مظعون وهو ميت وهو يبكي وعيناه تذرفان فلما توفي ابنه إبراهيم قال ألحق بسلفنا الصالح عثمان بن مظعون ( مالك عن علقمة بن أبي علقمة) بلال المدني مولى عائشة وهو علقمة ابن أم علقمة ثقة علامة مات سنة بضع وثلاثين ومائة ( عن أمه) مرجانة وتكنى بابنها تابعية ثقة وهي مولاة عائشة بلا خلاف ( أنها قالت سمعت عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم تقول قام رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فلبس ثيابه ثم خرج فأمرت جاريتي بريرة) بموحدة مفتوحة وراءين بلا نقط بينهما تحتية ساكنة ثم هاء صحابية مشهورة عاشت إلى زمن يزيد بن معاوية ( تتبعه) لتستفيد علمًا ويحتمل غيرة منها مخافة أن يأتي بعض حجر نسائه وقد روي ذلك قاله الباجي ( فتبعته حتى جاء البقيع) بالموحدة اتفاقًا ( فوقف في أدناه) أقربه ( ما شاء الله أن يقف ثم انصرف فسبقته بريرة فأخبرتني) بما فعل ( فلم أذكر له شيئًا حتى أصبح ثم ذكرت ذلك له فقال إني بعثت إلى أهل البقيع لأصلي عليهم) قال ابن عبد البر يحتمل أن الصلاة هنا الدعاء والاستغفار وأن تكون كالصلاة على الموتى خصوصية له لأن صلاته على من صلى عليه رحمة فكأنه أمر أن يستغفر لهم وللإجماع على أنه لا يصلي على قبر مرتين ولا يصلي على قبر من صلى إلا بحدثان ذلك وأكثر ما قيل ستة أشهر قال وإما بعثه ومسيره إليهم فلا يدرى لمثل هذا علة ويحتمل أن يكون ليعلمهم بالصلاة منه عليهم لأنه ربما دفن منهم من لم يصل عليه كالمسكينة ومثلها من دفن ليلاً ولم يشعر به ليكون مساويًا بينهم في صلاته عليهم ولا يؤثر بعضهم بذلك ليتم عدله وجاء حديث حسن يدل على أن ذلك كان منه حين خير فخرج إليه كالمودع للأحياء والأموات ثم أخرجه عن أبي مويهة مرفوعًا إني قد أمرت أن أستغفر لأهل البقيع فاستغفر لهم ثم انصرف فأقبل علي فقال يا أبا مويهة إن الله قد خيرني في مفاتيح خزائن الدنيا والخلد فيها ثم الجنة ولقاء ربي فاخترت لقاء ربي فأصبح من تلك الليلة فبدأه وجعه الذي مات منه صلى الله عليه وسلم وهذا الحديث رواه النسائي عن محمد بن سلمة والحارث بن مسكين كلاهما عن ابن القاسم عن مالك به ( مالك عن نافع أن أبا هريرة قال) كذا وقفه جمهور رواة الموطأ ورواه الوليد بن مسلم عن مالك عن نافع عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يتابع على ذلك عن مالك ولكنه مرفوع من طريق أيوب عن نافع عن أبي هريرة ومن طريق الزهري عن ابن المسيب عن أبي هريرة قاله ابن عبد البر ومن طريق الزهري رواه البخاري ومسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال ( أسرعوا) بهمزة قطع ( بجنائزكم) أي بحملها إلى قبرها إسراعًا خفيفًا فوق المشي المعتاد والخبب بحيث لا يشق على ضعفة من يتبعها ولا على حاملها ولا يحدث مفسدة بالميت والأمر للاستحباب باتفاق العلماء وشذ ابن حزم فقال بوجوبه وقيل المراد شدة المشي وهو قول الحنفية وبعض السلف ومال عياض إلى نفي الخلاف فقال من استحبه أراد الزيادة على المشي المعتاد ومن كرهه أراد الإفراط كالرمل والحاصل أنه يستحب الإسراع لكن بحيث لا ينتهي إلى شدة يخاف منها حدوث مفسدة بالميت ومشقة على الحامل أو المشيع لئلا ينافي المقصود من النظافة وإدخال المشقة على المسلم قال القرطبي مقصود الحديث أن لا يبطأ بالميت عن الدفن ولأن البطء ربما أدى إلى التباهي والاحتفال قال ابن عبد البر وتأوله قوم على تعجيل الدفن لا المشي وليس كما ظنوا ويرده قوله تضعونه عن رقابكم وتبعه النووي فقال إنه باطل مردود بهذا وتعقبه الفاكهاني بأن الحمل على الرقاب قد يعبر به عن المعاني كما يقول حمل فلان على رقبته ديونًا فيكون المعنى استريحوا من نظر من لا خير فيه قال ويؤيده أن الكل لا يحملونه قال الحافظ ويؤيده حديث ابن عمر سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إذا مات أحدكم فلا تحبسوه وأسرعوا به إلى قبره أخرجه الطبراني بإسناد حسن ولأبي داود عن حصين بن وحوح مرفوعًا لا ينبغي لجيفة مسلم أن تبقى بين ظهراني أهله ( فإنما هو خير تقدمونه) كذا في الأصول والقياس تقدمونها أي الجنائز ( إليه) أي الخير باعتبار الثواب والإكرام الحاصل له في قبره فيسرع به ليلقاه قريبًا قال ابن مالك وروي إليها بتأنيث الضمير على تأويل الخبر بالرحمة أو الحسنى ( أو شر تضعونه عن رقابكم) فلا مصلحة لكم في مصاحبته لأنها بعيدة من الرحمة ويؤخذ منه ترك صحبة أهل البطالة وغير الصالحين وفيه ندب المبادرة بدفن الميت لكن بعد تحقق أنه مات أما مثل المطعون والمسبوت والمفلوج فينبغي أن لا يسرع بتجهيزهم حتى يمضي يوم وليلة ليتحقق موتهم نبه عليه ابن بزيزة، والله تعالى أعلم.



رقم الحديث 582 وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ أَبِي النَّضْرِ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَمَّا مَاتَ عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ وَمُرَّ بِجَنَازَتِهِ: ذَهَبْتَ وَلَمْ تَلَبَّسْ مِنْهَا بِشَيْءٍ.


( جامع الجنائز)

( مالك عن هشام بن عروة عن عباد) بشد الموحدة ( ابن عبد الله بن الزبير) بن العوام كان قاضي مكة زمن أبيه وخليفته إذا حج ( أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أخبرته أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت وهو مستند إلى صدرها وأصغت) بإسكان الصاد المهملة وفتح الغين المعجمة أي أمالت سمعها ( إليه يقول) وفي رواية قتيبة وهو يقول ( اللهم اغفر لي وارحمني) فيه ندب الدعاء بهما ولا سيما عند الموت وإذا دعا بذلك المصطفى فأين غيره منه والدعاء مخ العبادة لما فيه من الإخلاص والخضوع والضراعة والرجاء وذلك صريح الإيمان ( وألحقني) بهمزة قطع ( بالرفيق الأعلى) وفي البخاري من رواية ذكوان عن عائشة فجعل يقول في الرفيق الأعلى حتى قبض ومالت يده ولأحمد من رواية المطلب عن عائشة فقال مع الرفيق الأعلى مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين إلى قوله رفيقًا ومعنى كونهم رفيقًا تعاونهم على الطاعة وارتفاق بعضهم ببعض وأفرده إشارة إلى أن أهل الجنة يدخلون على قلب رجل واحد قاله السهيلي فالمراد بالرفيق هؤلاء المذكورون في الآية قال الحافظ وهو المعتمد وعليه الأكثر وفي حديث أبي موسى عند النسائي وصححه ابن حبان فقال اللهم الرفيق الأعلى الأسعد مع جبريل وميكائيل وإسرافيل وظاهره أن الرفيق المكان الذي تحصل المرافقة فيه مع المذكورين وهذه الأحاديث ترد زعم أن الرفيق تغيير من الراوي والصواب الرقيع بالقاف والعين المهملة وهو من أسماء السماء.
وقال ابن عبد البر هو أعلى الجنة والجوهري الجنة ويؤيده ما عند ابن إسحاق الرفيق الأعلى الجنة وقيل الرفيق الأعلى الله عز وجل لأنه من أسمائه ففي مسلم وأبي داود مرفوعًا أن الله رفيق يحب الرفيق وهو صفة ذات كالحليم أو صفة فعل وغلط الأزهري هذا القول ولا وجه له لأن تأويله على ما يليق بالله سائغ قال السهيلي الحكمة في اختتام كلام المصطفى بهذه الكلمة تضمنها التوحيد والذكر بالقلب حتى يستفاد منه الرخصة لغيره أنه لا يشترط أن يكون الذكر باللسان لأن بعض الناس قد يمنعه من النطق مانع فلا يضره إذا كان قلبه عامرًا بالذكر قال وفي بعض كتب الواقدي أول ما تكلم به صلى الله عليه وسلم وهو مسترضع عند حليمة الله أكبر وآخر ما تكلم به ما في حديث عائشة يعني في الصحيحين قالت عائشة فكانت آخر ما تكلم بها صلى الله عليه وسلم قوله اللهم الرفيق الأعلى وروى الحاكم عن أنس آخر ما تكلم به جلال ربي الرفيع قد بلغت ثم قضى وجمع بأن هذا آخر على الإطلاق بعد ما كرر اللهم الرفيق الأعلى قبل جلال أي أختار جلال ربي الرفيع قد بلغت ما أوحي إلي وحديث الباب رواه مسلم في المناقب حدثنا قتيبة بن سعيد عن مالك به وتابعه أبو أسامة وعبد الله بن نمير وعبدة بن سليمان كلهم عن هشام به في مسلم أيضًا وله طرق في الصحيحين وغيرهما ( مالك بلغه أن عائشة) أخرجه البخاري ومسلم من طريق إبراهيم بن سعد عن أبيه عن عروة عن عائشة ( قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما من نبي) أراد ما يشمل الرسول ( يموت حتى يخير) بضم أوله مبني للمفعول بين الدنيا والآخرة ( قالت فسمعته يقول) في مرضه الذي مات فيه وأخذته بحة شديدة كما في رواية سعد ( اللهم الرفيق الأعلى فعرفت أنه ذاهب) وفي الصحيحين من طريق الزهري عن عروة عنها كان صلى الله عليه وسلم وهو صحيح يقول أنه لم يقبض نبي قط حتى يرى مقعده ثم يحيا أو يخير فلما حضره القبض غشي عليه فلما أفاق شخص بصره نحو سقف البيت فقال اللهم في الرفيق الأعلى فقلت إذن لا يختارنا وعرفت أنه حديثه الذي كان يحدثنا وهو صحيح وفي مغازي أبي الأسود عن عروة أن جبريل نزل عليه في تلك الحالة فخيره وعند أحمد عن أبي مويهة قال قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم إني أوتيت مفاتيح خزائن الأرض والخلد ثم الجنة فخيرت بين ذلك وبين لقاء ربي والجنة فاخترت لقاء ربي والجنة ولعبد الرزاق من مرسل طاوس رفعه خيرت بين أن أبقى حتى أرى ما يفتح على أمتي وبين التعجيل فاخترت التعجيل ( مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر قال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي) أي فيهما قال الباجي العرض لا يكون إلا على حي يعلم ما يعرض عليه ويفهم ما يخاطب به قال ويحتمل غداة واحدة وعشية واحدة ويحتمل كل غداة وكل عشي وقال ابن التين يحتمل غداة واحدة وعشية واحدة يكون العرض فيهما ويكون معنى حتى يبعثك أي لا تصل إليه إلى يوم البعث ويحتمل كل غداة وعشي وهو محمول على أنه يحيا منه جزء ليدرك ذلك فغير ممتنع أن تعاد الحياة إلى جزء من الميت أو أجزاء وتصح مخاطبته والعرض عليه قال الحافظ والأول موافق لأحاديث سياق المسألة وعرض المقعدين على كل أحد وقال القرطبي يجوز أن هذا العرض على الروح فقط ويجوز أن يكون عليه مع جزء من البدن قال والمراد بالغداة والعشي وقتهما وإلا فالموتى لا صباح عندهم ولا مساء قال وهذا في حق المؤمن والكافر واضح وأما المؤمن المخلط فمحتمل أيضًا في حقه لأنه يدخل الجنة في الجملة ثم هو مخصوص بغير الشهداء ويحتمل أن يقال فائدة العرض في حقهم تبشير أرواحهم باستقرارها في الجنة مقترنة بأجسادها فإن فيه قدرًا زائدًا على ما هي فيه الآن ( إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة) اتحد فيه الشرط والجزاء لفظًا فلا بد من تقدير قال التوربشتي التقدير فمقعد من مقاعد أهل الجنة يعرض عليه وقال الطيبي الشرط والجزاء إذا اتحدا لفظًا دل على الفخامة والمراد أنه يرى بعد البعث من كرامة الله ما ينسيه هذا المقعد انتهى.
وعند مسلم بلفظ إن كان من أهل الجنة فالجنة أي فالمعروض الجنة ( وإن كان من أهل النار فمن أهل النار) أي فمقعده من مقاعد أهلها يعرض عليه أو يعلم بالعكس مما يسر به أهل الجنة لأن هذه المنزلة طليعة تباشير أهل السعادة الكبرى ومقدمة تباريح الشقاوة العظمى وفي ذلك تنعيم لمن هو من أهل الجنة وتعذيب لمن هو من أهل النار بمعاينة ما أعد له وانتظاره ذلك اليوم الموعود ( يقال له هذا مقعدك حتى يبعثك الله إلى يوم القيامة) كذا في رواية يحيى بلفظ إلى وللأكثر بحذفها وليحيى النيسابوري وابن القاسم إليه بالضمير حكاه ابن عبد البر قال والمعنى حتى يبعثك الله إلى هذا المقعد ويحتمل أن الضمير يعود إلى الله فإلى الله ترجع الأمور والأول أظهر قال الحافظ ويؤيده رواية الزهري عن سالم عن أبيه بلفظ ثم يقال هذا مقعدك الذي تبعث إليه يوم القيامة أخرجه مسلم وأخرج النسائي رواية ابن القاسم لكن بحذف إليه كالأكثرين وفيه إثبات عذاب القبر وأن الروح لا تفنى بفناء الجسد لأن العرض لا يقع إلا على حي قال ابن عبد البر واستدل به على أن الأرواح على أفنية القبور وهو الصحيح لأن الأحاديث بذلك أصح من غيرها والمعنى عندي أنها قد تكون على أفنية القبور لا أنها لا تفارقها بل هي كما قال مالك بلغني أن الأرواح تسرح حيث شاءت والحديث رواه البخاري عن إسماعيل ومسلم عن يحيى كلاهما عن مالك به ( مالك عن أبي الزناد) عبد الله بن ذكوان ( عن الأعرج) عبد الرحمن بن هرمز ( عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال كل ابن آدم تأكله الأرض) أي جميع جسمه وينعدم بالكلية أو المراد أنها باقية لكن زالت أعراضها المعهودة قال إمام الحرمين لم يدل قاطع سمعي على تعيين أحدهما ولا بعد أن تصير أجسام العباد بصفة أجسام التراب ثم تعاد بتركيبها إلى المعهود ( إلا عجب الذنب) بفتح العين وسكون الجيم وبالموحدة ويقال بالميم وهو العصعص أسفل العظم الهابط من الصلب فإنه قاعدة البدن كقاعدة الجدار فلا تأكله الأرض ( لأنه منه خلق) أي ابتدئ خلقه ( ومنه يركب) خلقه عند قيام الساعة وهذا أظهر من احتمال أن المراد منه ابتداء الخلق وابتداء التركيب وبالأول جزم الباجي فقال لأنه أول ما خلق من الإنسان وهو الذي يبقى منه ليعاد تركيب الخلق عليه قال ابن عبد البر هذا عموم يراد به الخصوص لما روي في أجساد الأنبياء والشهداء أن الأرض لا تأكلهم وحسبك ما جاء في شهداء أحد إذ أخرجوا بعد ست وأربعين سنة لينة أجسادهم يعني أطرافهم فكأنه قال من تأكله الأرض فلا تأكل منه عجب الذنب وإذا جاز أن لا تأكله جاز أن لا تأكل الشهداء وإنما في هذا التسليم لمن يجب له التسليم صلى الله عليه وسلم انتهى.
وزاد غيره الصديقين والعلماء العاملين والمؤذن المحتسب وحامل القرآن العامل به والمرابط والميت بالطاعون صابرًا محتسبًا والمكثر من ذكر الله والمحبين لله فتلك عشرة كاملة ( مالك عن ابن شهاب عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك الأنصاري) أبي الخطاب المدني من كبار التابعين ويقال ولد في العهد النبوي ومات في خلافة سليمان ( أنه أخبره أن أباه كعب بن مالك) السلمي المدني الصحابي المشهور أحد الثلاثة الذين خلفوا مات في خلافة علي رضي الله عنهما ( كان يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إنما نسمة المؤمن) بفتح النون والسين أي روحه وفي كتاب أبي القاسم الجوهري النسمة الروح والنفس والبدن وإنما يعني في هذا الحديث الروح قال الباجي ويحتمل عندي أن يريد به ما يكون فيه الروح من الميت قبل البعث ويحتمل أنه شيء من محل الروح تبقى فيه الروح ( طير يعلق) بالتحتية صفة طير وبفتح اللام رواية الأكثر كما قال ابن عبد البر وروي بضمها قال والمعنى واحد وهو الأكل والرعي ( في شجر الجنة) لتأكل من ثمارها وقال البوني معنى رواية الفتح تأوي والضم ترعى تقول العرب ما ذقت اليوم علوقًا وقال السهيلي يعلق بفتح اللام يتشبث بها ويرى مقعده منها ومن رواه بضم اللام فمعناه يصيب منها العلقة من الطعام فقد أصاب دون ما أصاب غيره ممن أدرك الرغد أي العيش الواسع فهو مثل مضروب يفهم منه هذا المعنى وإن أراد بتعلق الأكل نفسه فهو مخصوص بالشهيد فتكون رواية الضم للشهيد والفتح لمن دونهم والله أعلم بمراد رسوله انتهى واختلف في أن هذا الحديث عام في الشهداء وغيرهم إذا لم يحبسهم عن الجنة كبيرة ولا دين أو خاص بالشهداء دون غيرهم لأن القرآن والسنة لا يدلان إلا على ذلك حكاهما ابن عبد البر وذكر بعض أدلة الثاني وقال بحمله على الشهداء يزول ما ظنه قوم من معارضة هذا الحديث للحديث قبله في عرض المقعد لأنه إذا كان يسرح في الجنة فهو يراها في جميع أحيانه وليس كما قالوا إنما هذا في الشهداء خاصة وما قبله في سائر الناس واختار الأول ابن كثير فقال في هذا الحديث إن روح المؤمن تكون على شكل طير في الجنة وأما أرواح الشهداء ففي حواصل طير خضر ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها وتأوي إلى قناديل من ذهب في ظل العرش كما رواه أحمد عن ابن عباس مرفوعًا فهي كالراكب بالنسبة إلى أرواح عموم المؤمنين فإنها تطير بأنفسها فهو بشرى لكل مؤمن بأن روحه تكون في الجنة أيضًا وتسرح فيها وتأكل من ثمارها وترى ما فيها من النضرة والسرور ( حتى يرجعه الله إلى جسده يوم يبعثه) يوم القيامة قال وهذا حديث صحيح عزيز عظيم اجتمع فيه ثلاثة أئمة فرواه أحمد عن الشافعي عن مالك به انتهى ( مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: قال) الله ( تبارك وتعالى) هذا من الأحاديث الإلهية فيحتمل أن يكون صلى الله عليه وسلم تلقاه عن الله بلا واسطة أو بواسطة قاله الحافظ ( إذا أحب عبدي لقائي) عند حضور أجله إن عاين ما يحب أحب لقاء الله وإن عاين ما يكره لم يحب الخروج من الدنيا هذا معناه كما تشهد به الآثار المرفوعة وذلك حين لا تقبل توبة وليس المراد الموت لأنه لا يخلو من كراهته نبي ولا غيره ولكن المكروه من ذلك إيثار الدنيا وكراهة أن يصير إلى الله قاله ابن عبد البر ( أحببت لقاءه) أي أردت له الخير ( وإذا كره لقائي كرهت لقاءه) زاد في حديث عبادة في الصحيحين فقالت عائشة إنا لنكره الموت قال صلى الله عليه وسلم ليس ذاك ولكن المؤمن إذا حضره الموت بشر برضوان الله وكرامته فليس شيء أحب إليه مما أمامه فأحب لقاء الله وأحب الله لقاءه وأن الكافر إذا حضر بشر بعذاب الله وعقوبته فليس شيء أكره إليه مما أمامه فكره لقاء الله وكره الله لقاءه ولأحمد عن عائشة مرفوعًا إذا أراد الله بعبد خيرًا قيض الله له قبل موته بعام ملكًا يسدده ويوفقه حتى يقال مات بخير ما كان فإذا حضر ورأى إلى ثوابه اشتاقت نفسه فذلك حين أحب لقاء الله وأحب الله لقاءه وإذا أراد الله بعبد شرًا قيض الله له قبل موته بشهر شيطانًا فأضله وفتنه حتى يقال مات بشر ما كان عليه فإذا حضر ورأى ما أعد الله له من العذاب جزعت نفسه فذلك حين كره لقاء الله وكره الله لقاءه وقال الخطابي معنى محبة لقاء الله إيثار العبد الآخرة على الدنيا ولا يحب طول القيام فيها لكن يستعد للارتحال عنها واللقاء على وجوه منها الرؤية ومنها البعث كقوله تعالى { { قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله } } أي البعث ومنها الموت كقوله تعالى { { من كان يرجو لقاء الله فإن أجل الله لآت } } وقال ابن الأثير المراد باللقاء المصير إلى الدار الآخرة وطلب ما عند الله وليس الغرض به الموت لأن كلا يكرهه فمن ترك الدنيا وأبغضها أحب لقاء الله ومن آثرها وركن إليها كره لقاء الله ومحبة الله لقاء عبده إرادة الخير له وإنعامه عليه وفي الكواكب إن قيل الشرط ليس سببًا للجزاء بل الأمر بالعكس قلت مثله يؤول بالإخبار أي أخبره بأني أحببت لقاءه وكذا الكراهة والحديث رواه البخاري في التوحيد عن إسماعيل عن مالك به ( مالك عن أبي الزناد) بكسر الزاي والتخفيف ( عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال) هكذا رفعه أكثر رواة الموطأ ووقفه القعنبي ومصعب وذلك لا يضر في رفعه لأن رواته ثقات حفاظ ( قال رجل) قال الحافظ قيل اسمه جهينة وذلك أن في صحيح أبي عوانة أن هذا الرجل هو آخر أهل النار خروجًا منها وفي رواية مالك للخطيب عن ابن عمر آخر من يدخل الجنة رجل من جهينة يقول أهل الجنة عند جهينة الخبر اليقين ( لم يعمل حسنة قط) ليس فيه ما ينفي التوحيد عنه والعرب تقول مثل هذا في الأكثر من فعله كحديث لا يضع عصاه عن عاتقه وفي رواية لم يعمل خيرًا قط إلا التوحيد قاله ابن عبد البر وفي الصحيح ممن كان قبلكم يسيء الظن بعمله وفي رواية يسرف على نفسه وفي ابن حبان أنه كان نباشًا أي للقبور يسرق أكفان الموتى ( لأهله) وفي الصحيح من طريق ابن شهاب عن حميد عن أبي هريرة مرفوعًا فلما حضره الموت قال لبنيه ( إذا مات فحرقوه) وفي رواية الزهري إذا أنا مت فأحرقوني ثم اطحنوني ( ثم أذروا نصفه في البر ونصفه في البحر فوالله لئن قدر الله عليه) بخفة الدال وشدها من القدر وهو القضاء لا من القدرة والاستطاعة كقوله فظن أن لن نقدر عليه أو بمعنى ضيق كقوله تعالى { { ومن قدر عليه رزقه } } وقال بعض العلماء هذا رجل جهل بعض صفات الله وهي القدرة ولا يكفر جاهل بعضها وإنما يكفر من عاند الحق قاله أبو عمر ( ليعذبنه عذابًا لا يعذبه أحدًا من العالمين) الموحدين ( فلما مات الرجل فعلوا ما أمرهم به فأمر الله البر فجمع ما فيه وأمر الله البحر فجمع ما فيه) زاد في رواية الزهري فإذا هو قائم وزاد أبو عوانة في أسرع من طرفة عين وفيه دلالة على رد من زعم أن الخطاب لروحه لأن التحريق والتذرية إنما وقعا على الجسد وهو الذي جمع وأعيد ( ثم قال لم فعلت هذا قال من خشيتك يا رب وأنت أعلم) إني إنما فعلته من خشيتك أي خوف عقابك قال ابن عبد البر وذلك دليل على إيمانه إذ الخشية لا تكون إلا لمؤمن بل لعالم قال تعالى { { إنما يخشى الله من عباده العلماء } } ويستحيل أن يخافه من لا يؤمن به وقد روى الحديث قال رجل لم يعمل خيرًا قط إلا التوحيد وهذه اللفظة ترفع الإشكال في إيمانه والأصول تعضدها إن الله لا يغفر أن يشرك به وقد ( قال فغفر له) ولأبي عوانة من حديث حذيفة عن الصديق أنه آخر أهل الجنة دخولاً قال ابن التين ذهب المعتزلة إلى أن هذا الرجل إنما غفر له لتوبته التي تابها لأن قبولها واجب عقلاً عندهم والأشعري قطع بها سمعًا وغيره جوز القبول كسائر الطاعات وقال ابن المنير قبول التوبة عند المعتزلة واجب على الله تعالى عقلاً وعندنا واجب بحكم الوعد والفضل والإحسان إذ لو وجب القبول على الله عقلاً لاستحق الذم إن لم يقبل وهو محال لأن من كان كذلك يكون مستكملاً بالقبول والمستكمل بالغير ناقص بذاته وذلك في حق الله محال ولأن الذم إنما يمنع من الفعل من يتأذى لسماعه وينفر عنه طبعه ويظهر له بسببه نقص حال أما المتعالي عن الشهوة والنفرة والزيادة والنقص فلا يعقل تحقق الوجوب في حقه بهذا المعنى ولأنه تعالى تمدح بقبول التوبة في قوله { { ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده } } ولو كان واجبًا ما تمدح به لأن أداء الواجب لا يفيد المدح والثناء والتعظيم قال بعض المفسرين قبول التوبة من الكفر يقطع به على الله تعالى إجماعًا وهذا محمل الآية وأما المعاصي فيقطع بأنه يقبل التوبة منها من طائفة من الأمة واختلف هل يقبل توبة الجميع وأما إذا عين إنسان تائب فيرجى قبول توبته بلا قطع وأما إذا فرضنا تائبًا غير معين صحيح التوبة فقيل يقطع بقبول توبته وعليه طائفة منها الفقهاء والمحدثون لأنه تعالى أخبر عن نفسه بذلك وعلى هذا يلزم أن تقبل توبة جميع التائبين وذهب أبو المعالي وغيره إلى أن ذلك لا يقطع به على الله بل يقوي في الرجاء والقول الأول أرجح ولا فرق بين التوبة من الكفر والتوبة من المعاصي بدليل أن الإسلام يجب ما قبله والتوبة تجب ما قبلها انتهى.
والحديث رواه البخاري في التوحيد عن إسماعيل ومسلم من طريق روح كلاهما عن مالك به ( مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال كل مولود) أي من بني آدم صرح به جعفر بن ربيعة عن الأعرج عن أبي هريرة بلفظ كل بني آدم وكذا رواه خالد الواسطي عن عبد الرحمن بن إسحاق عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة ذكرهما ابن عبد البر ( يولد على الفطرة) عام في جميع المولودين على ظاهره وأصرح منه رواية البخاري ما من مولود إلا يولد على الفطرة ولمسلم ما من مولود إلا وهو على الملة وحكى ابن عبد البر عن قوم أنه لا يقتضي العموم وأن المراد كل من يولد على الفطرة وله أبوان غير مسلمين نقلاه إلى دينهما فالتقدير كل مولود يولد على الفطرة وأبواه يهوديان مثلاً فإنهما يهودانه ثم يصير عند بلوغه إلى ما يحكم به عليه ويكفي في الرد عليهم رواية مسلم عن أبي صالح عن أبي هريرة ليس من مولود إلا على هذه الفطرة حتى يعرب عنه لسانه وأصرح منها رواية كل بني آدم وأشهر الأقوال أن المراد بالفطرة الإسلام قال ابن عبد البر وهو المعروف عند عامة السلف وأجمع علماء التأويل على أن المراد بقوله تعالى { { فطرة الله التي فطر الناس عليها } } الإسلام واحتجوا بقول أبي هريرة عند الشيخين في آخر الحديث اقرؤوا إن شئتم { { فطرة الله } } الآية وبحديث عياض بن حماد عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه إني خلقت عبادي حنفاء كلهم فاختالتهم الشياطين عن دينهم الحديث ورواه غيره فقال حنفاء مسلمين ورجح بقوله تعالى { { فأقم وجهك للدين حنيفًا فطرة الله } } لأنها إضافة مدح وقد أمر الله نبيه بلزومها فعلم أنها الإسلام وحكى ابن عبد البر عن الأوزاعي وسحنون ورواه أبو داود عن حماد بن سلمة أن المراد حين أخذ الله العهد فقال ألست بربكم قالوا بلى قال الطيبي ويؤيده وجوه أحدها أن التعريف في الفطرة إشارة إلى معهود وهو قوله { { فطرة الله } } ومعنى { { فأقم وجهك } } أثبت على العهد القديم ثانيها مجيء رواية بلفظ الملة بدل الفطرة والدين في قوله { { للدين حنيفًا } } فهو عين الملة قال تعالى { { دينًا قيمًا ملة إبراهيم حنيفًا } } ثالثها التشبيه بالمحسوس المعاين ليفيد أن ظهوره يقع في البيان مبلغ هذا المحسوس قال والمراد تمكن الناس من الهدي في أصل الجبلة والتهيؤ لقبول الدين فلو ترك المرء عليها لاستمر على لزومها ولم يفارقها إلى غيرها لأن حسن هذا الدين ثابت في النفوس وإنما يعدل عنه لآفة من الآفات البشرية كالتقليد انتهى وإلى هذا مال القرطبي في المفهم فقال المعنى أن الله خلق قلوب بني آدم متأهلة لقبول الحق كما خلق أعينهم وأسماعهم قابلة للمرئيات والمسموعات فما دامت باقية على ذلك القبول وعلى تلك الأهلية أدركت الحق ودين الإسلام هو الدين الحق ودل على هذا المعنى بقية الحديث وقال ابن القيم ليس المراد أنه خرج من بطن أمه يعلم الدين لأن الله يقول { { والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئًا } } ولكن المراد أن فطرته مقتضية لمعرفة دين الإسلام ومحبته فنفس الفطرة تستلزم الإقرار والمحبة وليس المراد مجرد قبول الفطرة لذلك فإنه لا يتغير بتهويد الأبوين مثلاً بحيث يخرجان الفطرة عن القبول وإنما المراد أن كل مولود يولد على إقراره بالربوبية فلو خلى وعدم المعارض لم يعدل عن ذلك إلى غيره كما أنه يولد على محبة ما يلائم بدنه من ارتضاع اللبن حتى يصرفه عنه الصارف ومن ثم شبهت الفطرة باللبن بل كانت إياه في تأويل الرؤيا انتهى وقيل معناه أنه يولد على ما يصير إليه من شقاوة أو سعادة فمن علم الله أنه يصير مسلمًا ولد على الإسلام ومن علم أنه يصير كافرًا ولد على الكفر فكأنه أول الفطرة بالعلم وتعقب بأنه لو كان كذلك لم يكن لقوله فأبواه إلى آخره معنى لفعلهما به ما هو الفطرة التي ولد عليها فينافي التمثيل بحال البهيمة وقيل معناه أنه تعالى خلق فيهم المعرفة والإنكار فلما أخذ الميثاق من الذرية قالوا جميعًا بلى أما أهل السعادة فطوعًا وأما أهل الشقاوة فكرها وتعقب بأنه يحتاج إلى نقل صحيح فإنه لا يعرف هذا التفصيل عند أخذ الميثاق إلا عن السدي ولم يسنده وكأنه أخذه من الإسرائيليات وقيل الفطرة الخلقة أي يولد سالمًا لا يعرف كفرًا ولا إيمانًا ثم يعتقد إذا بلغ التكليف ورجحه ابن عبد البر وقال إنه يطابق التمثيل بالبهيمة ولا يخالف حديث عياض لأن المراد بقوله حنفاء أي على الاستقامة وتعقب بأنه لو كان كذلك لم يقتصر في أحوال التبديل على الكفر دون ملة الإسلام ولم يكن لاستشهاد أبي هريرة بالآية معنى وقيل اللام في الفطرة للعهد أي فطرة أبويه وهو متعقب بما ذكر في الذي قبله وحمله محمد بن الحسن الشيباني على أحكام الدنيا فادعى فيه النسخ فقال هذا في أول الإسلام قبل أن تنزل الفرائض والأمر بالجهاد قال أبو عبيد كأنه عنى أنه لو كان يولد على الإسلام فمات قبل أن يهوده أبواه مثلاً لم يرثاه والحكم أنهما يرثاه فدل على تغير الحكم ورده ابن عبد البر بأنه حاد عن الجواب وفي حديث الأسود بن سريع أن ذلك كان بعد الأمر بالجهاد وكذا رده غيره والحق أنه إخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم بما وقع في نفس الأمر ولم يرد إثبات أحكام الدنيا قال ابن القيم وسبب اختلاف العلماء في معنى الفطرة أن القدرية احتجوا بالحديث على أن الكفر والمعصية ليسا بقضاء الله بل مما ابتدأ الناس إحداثه فحاول جماعة من العلماء مخالفتهم بتأويل الفطرة على غير معنى الإسلام ولا يلزم من حملها عليه موافقة القدرية لحمله على أن ذلك يقع بتقدير الله ولذا احتج مالك عليهم بقوله الله أعلم بما كانوا عاملين انتهى.
روى أبو داود عن ابن وهب سمعت مالكًا وقيل له أن أهل الأهواء يحتجون علينا بهذا الحديث فقال مالك احتج عليهم بآخره الله أعلم بما كانوا عاملين ووجه ذلك أن القدرية استدلوا به على أن الله فطر العباد على الإسلام وأنه لا يضل أحدًا فإنما يضل الكافر أبواه فأشار مالك إلى رده بقوله الله أعلم فإنه دال على علمه بما يصيرون إليه بعد إيجادهم على الفطرة فهو دليل على تقدم العلم الذي ينكره غلاتهم ومن ثم قال الشافعي أهل القدر إن أثبتوا العلم خصموا ( فأبواه يهودانه أو ينصرانه) زاد ابن شهاب عن أبي سلمة عن أبي هريرة في الصحيحين أو يمجسانه قال الطيبي الفاء إما للتعقيب أو للسببية أو جزاء شرط مقدر أي إذا تقرر ذلك فمن تغير كان بسبب أبويه إما بتعليمهما إياه أو ترغيبهما فيه أو كونه تبعًا لهما في الدين يقتضي أن حكمه حكمهما وخص الأبوان بالذكر للغالب فلا حجة فيه لمن حكم بإسلام الطفل الذي يموت أبواه كافرين كما هو أحد قولي أحمد فقال استقر عمل الصحابة فمن بعدهم على عدم التعرض لأطفال أهل الذمة واستشكل الحديث بأنه يقتضي أن كل مولود يقع له التهود أو غيره مما ذكر مع أن كثيرًا يبقى مسلمًا لا يقع له شيء وأجيب بأن المراد أن الكفر ليس من ذات المولود ومقتضى طبعه بل إنما يحصل بسبب خارجي فإن سلم منه استمر على الحق ( كما تناتج) بفوقية فنون فألف ففوقية فجيم أي يولد ( الإبل من بهيمة جمعاء) بضم الجيم وسكون الميم والمد نعت لبهيمة أي لم يذهب من بدنها شيء سميت بذلك لاجتماع أعضائها ( هل تحس) بضم أوله وكسر ثانيه أي تبصر وفي رواية هل ترى ( فيها من جدعاء) بفتح الجيم وإسكان المهملة والمد أي مقطوعة الأنف أو الأذن أو الأطراف والجملة صفة أو حال أي بهيمة تقول فيها هذا القول أي كل من نظر إليها قاله لظهور سلامتها زاد في رواية في الصحيح حتى تكونوا أنتم تجدعونها قال الباجي يريد أن المولود يولد على الفطرة ثم يغيره بعد ذلك أبواه كما أن البهيمة تولد تامة لا جدع فيها من أصل الخلقة وإنما تجدع بعد ذلك ويغير خلقها وقال في المفهم يعني أن البهيمة تلد الولد كامل الخلقة فلو ترك كذلك كان بريا من العيب لكنهم تصرفوا فيه بقطع أذنه مثلاً فخرج عن الأصل وهو تشبيه واقع ووجهه واضح وقال الطيبي كما حال من الضمير المنصوب في يهودانه أي يهودان المولود بعد خلقه على الفطرة حال كونه شبيها بالبهيمة التي جدعت بعد أن خلقت سليمة أو صفة مصدر محذوف أي يغيرانه مثل تغييرهم البهيمة السليمة وقد تنازعت الأفعال الثلاثة في كما على التقديرين ( قالوا يا رسول الله أرأيت) أي أخبرنا من إطلاق السبب على المسبب لأن مشاهدة الأشياء طريق إلى الإخبار عنها أي قد رأيت ( الذي يموت وهو صغير) لم يبلغ الحلم أيدخل الجنة ( قال الله أعلم بما كانوا عاملين) قال ابن قتيبة أي لو أبقاهم فلا تحكموا عليهم بشيء وقال غيره أي علم أنهم لا يعملون شيئًا ولا يرجعون فيعملون أو أخبر بعلم الشيء لو وجد كيف يكون ولم يرد أنهم يجازون بذلك في الآخرة لأن العبد لا يجازى بما لم يعمل أو معناه أنه علم أنهم لم يعملوا ما يقتضي تعذيبهم ضرورة أنهم غير مكلفين وقال البيضاوي فيه إشارة إلى أن الثواب والعقاب لا لأجل الأعمال وإلا لزم أن تكون ذراري المسلمين والكافرين لا من أهل الجنة ولا من أهل النار بل الموجب لهما اللطف الرباني والخذلان الإلهي المقدر لهما في الأزل فالأولى فيهما التوقف وعدم الجزم بشيء فإن أعمالهم موكولة إلى علم الله فيما يعود إلى أمر الآخرة من الثواب والعقاب وقال النووي أجمع من يعتد به من علماء المسلمين أن من مات من أطفال المسلمين فهو من أهل الجنة لأنه ليس مكلفًا وتوقف فيه بعض من لا يعتد به لحديث عائشة في مسلم أنه صلى الله عليه وسلم دعي لجنازة صبي من الأنصار فقلت طوبى له عصفور من عصافير الجنة لم يعمل السوء ولم يدركه فقال أو غير ذلك يا عائشة أن الله خلق للجنة أهلا خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم وخلق للنار أهلا خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم وأجابوا عن هذا بأنه لعله نهاها عن المسارعة إلى القطع من غير أن يكون عندها دليل قاطع أو قاله قبل أن يعلم أن أطفال المسلمين في الجنة انتهى وأطلق ابن أبي زيد الإجماع في ذلك ولعله أراد إجماع من يعتد به وقال المازري الخلاف في غير أولاد الأنبياء انتهى وأما أطفال الكفار فاختلف العلماء قديمًا وحديثها فيهم على عشرة أقوال أحدها أنهم في المشيئة ونقل عن الحمادين وإسحاق وابن المبارك والشافعي قال ابن عبد البر وهو مقتضى صنيع مالك ولا نص عنه لكن صرح أصحابه بأن أطفال المسلمين في الجنة وأطفال الكفار في المشيئة والحجة فيه حديث ابن عباس وأبي هريرة في الصحيحين سئل صلى الله عليه وسلم عن أولاد المشركين فقال الله أعلم بما كانوا عاملين ثانيها أنهم تبع لآبائهم حكاه ابن حزم عن الأزارقة والخوارج ولأحمد عن عائشة سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ولدان المسلمين قال في الجنة وعن أولاد المشركين قال في النار فقلت لم يدركوا الأعمال قال ربك أعلم بما كانوا عاملين لو شئت أسمعتك تضاغيهم في النار وهو حديث ضعيف جدًا لأن في إسناده أبا عقيل مولى بهية وهو متروك ثالثها أنهم في برزخ بين الجنة والنار إذ لا حسنات لهم يدخلون بها الجنة ولا سيئات يدخلون بها النار رابعها أنهم خدم أهل الجنة روى الطيالسي وأبو يعلى والطبري والبزار مرفوعًا أولاد المشركين خدم أهل الجنة وإسناده ضعيف خامسها يصيرون ترابًا سادسها في النار حكاه عياض عن أحمد وغلطه ابن تيمية بأنه قول لبعض أصحابه ولا يحفظ عن الإمام أصلاً وهو غير الثاني لأنهم تبع لآبائهم لأنه لا يلزم من كونهم في النار أن يكونوا مع آبائهم كما أن عصاة الموحدين في النار لا مع الكفار سابعها يمتحنون في الآخرة بأن ترفع لهم نار فمن دخلها كانت عليه بردًا وسلامًا ومن أبى عذب أخرجه البزار من حديث أنس وأبي سعيد والطبراني من حديث معاذ وقد صحت مسألة الامتحان في حق المجنون ومن مات في الفترة من طرق صحيحة وحكى البيهقي أنه المذهب الصحيح وتعقب بأن الآخرة ليست دار تكليف فلا عمل فيها ولا ابتلاء وأجيب بأن ذلك بعد الاستقرار في الجنة أو النار وأما في عرصات القيامة فلا مانع من ذلك وقد قال تعالى { { يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون } } وفي الصحيحين أن الناس يؤمرون بالسجود فيصير ظهر المنافق طبقًا فلا يستطيع أن يسجد ثامنها الوقف تاسعها الإمساك وفي الفرق بينهما دقة عاشرها أنهم في الجنة قال النووي وهو المذهب الصحيح المختار الذي صار إليه المحققون لقوله تعالى { { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً } } وإذا لم يعذب العاقل لأنه لم تبلغه دعوة فأولى غيره انتهى.
وفي حديث سمرة عند البخاري في رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم الشيخ في أصل الشجرة إبراهيم والصبيان حوله فأولاد الناس وهو عام يشمل أولاد المسلمين وغيرهم وروى ابن عبد البر من طريق أبي معاذ عن الزهري عن عروة عن عائشة قال سألت خديجة النبي صلى الله عليه وسلم عن أولاد المشركين فقال هم مع آبائهم ثم سألته بعد ذلك فقال الله أعلم بما كانوا عاملين ثم سألته بعدما استحكم الإسلام فنزلت { { ولا تزر وازرة وزر أخرى } } فقال هم على الفطرة وقال في الجنة قال الحافظ وأبو معاذ هو سليمان بن أرقم وهو ضعيف ولو صح هذا لكان قاطعًا للنزاع انتهى.
وحديث الباب له طرق كثيرة في الصحيحين وغيرهما ( مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل بقبر الرجل فيقول يا ليتني مكانه) أي ميتًا وذلك عند ظهور الفتن وخوف ذهاب الدين لغلبة الباطل وأهله وظهور المعاصي أو ما يقع لبعضهم من المصيبة في نفسه أو أهله أو دنياه وإن لم يكن في ذلك شيء يتعلق بدينه وعند مسلم من طريق أبي حازم عن أبي هريرة مرفوعًا لا تذهب الدنيا حتى يمر الرجل على القبر فيتمرغ عليه ويقول يا ليتني مكان صاحب هذا القبر وليس به الدين إلا البلاء وعن ابن مسعود قال سيأتي عليكم زمان لو وجد أحدكم الموت يباع لاشتراه وعليه قول الشاعر

وهذا العيش ما لا خير فيه
ألا موت يباع فأشتريه

وسبب ذلك أنه يقع البلاء والشدة حتى يكون الموت الذي هو أعظم المصائب أهون على المرء فيتمنى أهون المصيبتين في اعتقاده وذكر الرجل للغالب وإلا فالمرأة يمكن أن تتمنى الموت لذلك أيضًا لكن لما كان الغالب أن الرجال هم المبتلون بالشدائد والنساء محجبات لا يصلين نار الفتنة خصهم كما قيل

كتب القتل والقتال علينا
وعلى الغانيات جر الذيول

قال الحافظ العراقي ولا يلزم كونه في كل بلد ولا كل زمن ولا في جميع الناس بل يصدق على اتفاقه للبعض في بعض الأقطار في بعض الأزمان وفي تعليق تمنيه بالمرور إشعار بشدة ما نزل بالناس من فساد الحال حالتئذ إذ المرء قد يتمنى الموت من غير استحضار شيء فإذا شاهد الموتى ورأى القبور نشز بطبعه ونفر بسجيته من تمنيه فلقوة الشدة لم يصرفه عنه ما شاهده من وحشة القبور ولا يناقض هذا النهي عن تمني الموت لأن هذا الحديث إخبار عما يكون وليس فيه تعرض لحكم شرعي وقال ابن عبد البر لا يعارض هذا قوله صلى الله عليه وسلم لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به وقول خباب بن الأرت لولا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهانا أن ندعو بالموت لدعوت به لأنه إخبار بشدة ما ينزل بالناس من فساد الدين لا لضرر يصيب جسمه يحط خطاياه وقد قال عتيق الغفاري زمن الطاعون يا طاعون خذني إليك فقيل ألم يأت النهي عن تمني الموت فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول بادروا بالموت إمرة السفهاء وكثرة الشرط وبيع الحكم واستخفافًا بالدم وقطيعة الرحم , ونساء يتخذون مزامير يقدمون الرجل يغنيهم بالقرآن وإن كان أقلهم فقهًا ويوضح ذلك قوله صلى الله عليه وسلم وإذا أردت بالناس فتنة فاقبضني إليك غير مفتون وقول عمر اللهم قد ضعفت قوتي وكبرت سني وانتشرت رعيتي فاقبضني إليك غير مضيع ولا مفرط انتهى.
وهو ناظر إلى أن المعنى الأول هو المراد بالحديث ورواه الشيخان في الفتن البخاري عن إسماعيل ومسلم عن قتيبة بن سعيد كلاهما عن مالك به ( مالك عن محمد بن عمرو) بفتح العين ( ابن حلحلة) بحاءين مهملتين مفتوحتين ولامين أولاهما ساكنة والثانية مفتوحة زاد ابن وضاح ( الديلي) بكسر الدال وسكون التحتية المدني ( عن معبد) بفتح الميم وسكون العين وموحدة ( ابن كعب بن مالك) الأنصاري السلمي المدني ( عن أبي قتادة) الحارث ويقال عمرو ويقال النعمان ( ابن ربعي) بكسر الراء وسكون الموحدة وعين مهملة السلمي المدني شهد أحدًا وما بعدها ولم يصح شهوده بدرًا ومات سنة أربع وخمسين وقيل سنة ثمان وثلاثين والأول أصح وأشهر قال ابن عبد البر هكذا الحديث في الموطآت بهذا الإسناد وأخطأ فيه سويد بن سعيد عن مالك فقال عن معبد بن كعب عن أبيه وليس بشيء ( أنه كان يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر) بضم الميم وشد الراء ( عليه بجنازة فقال مستريح ومستراح منه) قال ابن الأثير يقال أراح الرجل واستراح إذا رجعت إليه نفسه بعد الإعياء انتهى والواو بمعنى أو فهي للتنويع أي لا يخلو ابن آدم من هذين المعنيين فلا يختص بصاحب الجنازة ( قالوا يا رسول الله ما المستريح والمستراح منه) وفي رواية الدارقطني بإعادة ما ( قال العبد المؤمن) المتقي خاصة أو كل مؤمن ( يستريح من نصب الدنيا) بفتحتين تعبها ومشقتها ( وأذاها) وهو عطف عام على خاص ( إلى رحمة الله) تعالى قال مسروق ما غبطت شيئًا لشيء كمؤمن في لحده أمن من عذاب الله واستراح من الدنيا ( والعبد الفاجر) الكافر أو العاصي ( يستريح منه العباد) أي من ظلمه لهم وقول الداودي لما يأتي به من المنكر فإن أنكروا آذاهم وإن تركوه أثموا رده الباجي بأنه لا يأثم تارك الإنكار إذا ناله أذى ويكفيه أن ينكر بقلبه ( والبلاد) بما يفعله فيها من المعاصي فيحصل الجدب فيهلك الحرث والنسل أو لغصبها ومنعها من حقها ( والشجر) لقلعه إياها غصبًا أو غصب ثمرها ( والدواب) لاستعماله لها فوق طاقتها وتقصيره في علفها وسقيها وقال الطيبي أما استراحة البلاد والأشجار فإن الله تعالى بفقده يرسل السماء مدرارًا ويحيي به الأرض والشجر والدواب بعدما حبس بشؤم ذنوبه الأمطار لكن إسناد الراحة إليها مجاز إذ الراحة إنما هي لمالكها والحديث رواه البخاري عن إسماعيل ومسلم عن قتيبة بن سعيد كلاهما عن مالك به ( مالك عن أبي النضر) سالم بن أبي أمية ( مولى عمر بن عبيد الله) بضم العينين القرشي ( أنه قال) وصله ابن عبد البر من طريق يحيى بن سعيد عن القاسم عن عائشة ( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما مات عثمان بن مظعون) بالظاء المعجمة ابن حبيب بن وهب بن حذافة القرشي الجمحي أسلم قديمًا وهاجر إلى الحبشة الهجرة الأولى وروى ابن شاهين والبيهقي عنه قلت يا رسول الله إني رجل تشق علي الغربة في المغازي فتأذن لي في الخصاء فأختصي فقال لا ولكن عليك يا ابن مظعون بالصوم وفي الصحيحين عن سعد بن أبي وقاص رد النبي صلى الله عليه وسلم على عثمان بن مظعون التبتل ولو أذن له لاختصينا توفي بعد شهوده بدرًا في السنة الثانية من الهجرة وهو أول من مات بالمدينة من المهاجرين وأول من دفن منهم بالبقيع ( ومر بجنازته) عليه ( ذهبت ولم تلبس) بحذف إحدى التاءين ولابن وضاح تتلبس بتاءين ( منها) أي الدنيا ( بشيء) كثير لأنه تلبس بشيء منها لا محالة وفيه مدح الزهد في الدنيا وذم الاستكثار منها والثناء على المرء بما فيه وروى الترمذي عن عائشة قبل النبي صلى الله عليه وسلم عثمان بن مظعون وهو ميت وهو يبكي وعيناه تذرفان فلما توفي ابنه إبراهيم قال ألحق بسلفنا الصالح عثمان بن مظعون ( مالك عن علقمة بن أبي علقمة) بلال المدني مولى عائشة وهو علقمة ابن أم علقمة ثقة علامة مات سنة بضع وثلاثين ومائة ( عن أمه) مرجانة وتكنى بابنها تابعية ثقة وهي مولاة عائشة بلا خلاف ( أنها قالت سمعت عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم تقول قام رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فلبس ثيابه ثم خرج فأمرت جاريتي بريرة) بموحدة مفتوحة وراءين بلا نقط بينهما تحتية ساكنة ثم هاء صحابية مشهورة عاشت إلى زمن يزيد بن معاوية ( تتبعه) لتستفيد علمًا ويحتمل غيرة منها مخافة أن يأتي بعض حجر نسائه وقد روي ذلك قاله الباجي ( فتبعته حتى جاء البقيع) بالموحدة اتفاقًا ( فوقف في أدناه) أقربه ( ما شاء الله أن يقف ثم انصرف فسبقته بريرة فأخبرتني) بما فعل ( فلم أذكر له شيئًا حتى أصبح ثم ذكرت ذلك له فقال إني بعثت إلى أهل البقيع لأصلي عليهم) قال ابن عبد البر يحتمل أن الصلاة هنا الدعاء والاستغفار وأن تكون كالصلاة على الموتى خصوصية له لأن صلاته على من صلى عليه رحمة فكأنه أمر أن يستغفر لهم وللإجماع على أنه لا يصلي على قبر مرتين ولا يصلي على قبر من صلى إلا بحدثان ذلك وأكثر ما قيل ستة أشهر قال وإما بعثه ومسيره إليهم فلا يدرى لمثل هذا علة ويحتمل أن يكون ليعلمهم بالصلاة منه عليهم لأنه ربما دفن منهم من لم يصل عليه كالمسكينة ومثلها من دفن ليلاً ولم يشعر به ليكون مساويًا بينهم في صلاته عليهم ولا يؤثر بعضهم بذلك ليتم عدله وجاء حديث حسن يدل على أن ذلك كان منه حين خير فخرج إليه كالمودع للأحياء والأموات ثم أخرجه عن أبي مويهة مرفوعًا إني قد أمرت أن أستغفر لأهل البقيع فاستغفر لهم ثم انصرف فأقبل علي فقال يا أبا مويهة إن الله قد خيرني في مفاتيح خزائن الدنيا والخلد فيها ثم الجنة ولقاء ربي فاخترت لقاء ربي فأصبح من تلك الليلة فبدأه وجعه الذي مات منه صلى الله عليه وسلم وهذا الحديث رواه النسائي عن محمد بن سلمة والحارث بن مسكين كلاهما عن ابن القاسم عن مالك به ( مالك عن نافع أن أبا هريرة قال) كذا وقفه جمهور رواة الموطأ ورواه الوليد بن مسلم عن مالك عن نافع عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يتابع على ذلك عن مالك ولكنه مرفوع من طريق أيوب عن نافع عن أبي هريرة ومن طريق الزهري عن ابن المسيب عن أبي هريرة قاله ابن عبد البر ومن طريق الزهري رواه البخاري ومسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال ( أسرعوا) بهمزة قطع ( بجنائزكم) أي بحملها إلى قبرها إسراعًا خفيفًا فوق المشي المعتاد والخبب بحيث لا يشق على ضعفة من يتبعها ولا على حاملها ولا يحدث مفسدة بالميت والأمر للاستحباب باتفاق العلماء وشذ ابن حزم فقال بوجوبه وقيل المراد شدة المشي وهو قول الحنفية وبعض السلف ومال عياض إلى نفي الخلاف فقال من استحبه أراد الزيادة على المشي المعتاد ومن كرهه أراد الإفراط كالرمل والحاصل أنه يستحب الإسراع لكن بحيث لا ينتهي إلى شدة يخاف منها حدوث مفسدة بالميت ومشقة على الحامل أو المشيع لئلا ينافي المقصود من النظافة وإدخال المشقة على المسلم قال القرطبي مقصود الحديث أن لا يبطأ بالميت عن الدفن ولأن البطء ربما أدى إلى التباهي والاحتفال قال ابن عبد البر وتأوله قوم على تعجيل الدفن لا المشي وليس كما ظنوا ويرده قوله تضعونه عن رقابكم وتبعه النووي فقال إنه باطل مردود بهذا وتعقبه الفاكهاني بأن الحمل على الرقاب قد يعبر به عن المعاني كما يقول حمل فلان على رقبته ديونًا فيكون المعنى استريحوا من نظر من لا خير فيه قال ويؤيده أن الكل لا يحملونه قال الحافظ ويؤيده حديث ابن عمر سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إذا مات أحدكم فلا تحبسوه وأسرعوا به إلى قبره أخرجه الطبراني بإسناد حسن ولأبي داود عن حصين بن وحوح مرفوعًا لا ينبغي لجيفة مسلم أن تبقى بين ظهراني أهله ( فإنما هو خير تقدمونه) كذا في الأصول والقياس تقدمونها أي الجنائز ( إليه) أي الخير باعتبار الثواب والإكرام الحاصل له في قبره فيسرع به ليلقاه قريبًا قال ابن مالك وروي إليها بتأنيث الضمير على تأويل الخبر بالرحمة أو الحسنى ( أو شر تضعونه عن رقابكم) فلا مصلحة لكم في مصاحبته لأنها بعيدة من الرحمة ويؤخذ منه ترك صحبة أهل البطالة وغير الصالحين وفيه ندب المبادرة بدفن الميت لكن بعد تحقق أنه مات أما مثل المطعون والمسبوت والمفلوج فينبغي أن لا يسرع بتجهيزهم حتى يمضي يوم وليلة ليتحقق موتهم نبه عليه ابن بزيزة، والله تعالى أعلم.