فهرس الكتاب

شرح الزرقاني - بَابُ كَفَّارَةِ مَنْ أَفْطَرَ فِي رَمَضَانَ

رقم الحديث 667 حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَجُلًا أَفْطَرَ فِي رَمَضَانَ، فَأَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُكَفِّرَ بِعِتْقِ رَقَبَةٍ، أَوْ صِيَامِ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ، أَوْ إِطْعَامِ سِتِّينَ مِسْكِينًا، فَقَالَ: لَا أَجِدُ.
فَأُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَرَقِ تَمْرٍ، فَقَالَ: خُذْ هَذَا فَتَصَدَّقْ بِهِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ.
مَا أَحَدٌ أَحْوَجُ مِنِّي، فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى بَدَتْ أَنْيَابُهُ، ثُمَّ قَالَ: كُلْهُ.


( كَفَّارَةِ مَنْ أَفْطَرَ فِي رَمَضَانَ)

( مالك عن ابن شهاب عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف عن أبي هريرة) قال الحافظ هكذا توارد عليه أصحاب الزهري وهم أكثر من أربعين نفسًا جمعتهم في جزء مفرد منهم ابن عيينة والليث ومنصور ومعمر عند الشيخين والأوزاعي وشعيب وإبراهيم بن سعد عند البخاري ومالك وابن جريج عند مسلم ويحيى بن سعيد وعراك بن مالك عند النسائي وعبد الجبار بن عمر عند أبي عوانة وعبد الرحمن بن مسافر عند الطحاوي وعقيل عند ابن خزيمة وابن أبي حفصة عند أحمد ويونس وحجاج بن أرطأة وصالح بن أبي الأخضر عند الدارقطني ومحمد بن إسحاق عند البزار وخالفهم هشام بن سعد فرواه عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة وجزم البزار وابن خزيمة وأبو عوانة بأن هشام بن سعد أخطأ فيه وقد تابعه عبد الوهاب بن عطاء عن محمد بن أبي حفصة عند أحمد فيحتمل أن يكون الحديث عند الزهري عنهما فقد جمعهما عنه صالح بن أبي الأخضر أخرجه الدارقطني في العلل وفي رواية ابن جريج وأبي أويس عند الدارقطني التصريح بالتحديث بين حميد وأبي هريرة ( أن رجلاً) هو سلمان ويقال فيه سلمة بن صخر البياضي رواه ابن أبي شيبة وابن الجارود وبه جزم عبد الغني وتعقب بأن سلمة هو المظاهر في رمضان وإنما أتى أهله ليلاً رأى خلخالها في القمر ولكن روى ابن عبد البر في التمهيد عن سعيد بن المسيب أن الرجل الذي وقع على أهله في رمضان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم هو سلمان بن صخر أحد بني بياضة قال ابن عبد البر أظن هذا وهما لأن المحفوظ أن سلمة أو سلمان إنما كان مظاهرًا قال الحافظ ويحتمل أن قوله وقع على امرأته أي ليلاً بعد أن ظاهر فلا يكون وهمًا ويحتمل وقوع الأمرين له قال وسبب ظنهم أنه المحترق أن ظهاره من امرأته كان في شهر رمضان وجامع ليلاً كما هو صريح حديثه وأما المحترق فأعرابي جامع نهارًا فتغايرًا نعم اشتركا في قدر الكفارة وفي الإتيان بالتمر وفي الإعطاء وفي قول كل منهما أعلى أفقر منا ولكن لا يلزم من ذلك اتحادهما ( أفطر) قال الباجي اختلفت رواة هذا الحديث في لفظه فقال أصحاب الموطأ وأكثر الرواة عن مالك أفطر وقال جماعة جامع ( في رمضان) وقال ابن عبد البر كذا رواه مالك لم يذكر بماذا أفطر وتابعه جماعة عن ابن شهاب وقال أكثر الرواة عن الزهري أن رجلاً وقع على امرأته في رمضان فذكروا ما أفطر به فتمسك به أحمد والشافعي ومن وافقهما في أن الكفارة خاصة بالجماع لأن الذمة برية فلا يثبت شيء فيها إلا بيقين وقال مالك وأبو حنيفة وطائفة عليه الكفارة بتعمد أكل أو شرب ونحوهما أيضًا لأن الصوم شرعًا الامتناع من الطعام والجماع فإذا ثبت في وجه من ذلك شيء ثبت في نظيره والجامع بينهما انتهاك حرمة الشهر بما يفسد الصوم عمدًا ولفظ حديث مالك يجمع كل فطر لكن قال عياض دعوى عموم قوله أفطر ضعيفة قال الأبي لأن أفطر فعل في سياق الثبوت ولم يقل أحد من الأصوليين بعمومه إنما اختلفوا فيما إذا كان في سياق النفي ( فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكفر بعتق رقبة أو صيام شهرين متتابعين أو إطعام ستين مسكينًا) قال ابن عبد البر هكذا روى هذا الحديث مالك لم تختلف رواته عليه فيه بلفظ التخيير وتابعه ابن جريج وأبو أويس عن ابن شهاب ورواه جماعة من أصحاب ابن شهاب على ترتيب كفارة الظهار هل تستطيع أن تعتق رقبة قال : لا قال : فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين قال : لا قال: فهل تجد إطعام ستين مسكينًا قال لا الحديث وإليه ذهب أبو حنيفة والشافعي في طائفة فقالوا لا ينتقل عن العتق إلا عند العجز عنه ولا عن الصوم كذلك وقال مالك وجماعة هي على التخيير لظاهر حديث الباب الدال على أن الترتيب في الرواية الثانية ليس بمراد ولأنه اقتصر على الإطعام في حديث عائشة في الصحيحين وغيرهما ولذا قال مالك الإطعام أفضل ولأنه سنة البدل في الصيام ألا ترى أن الحامل والمرضع والشيخ الكبير والمفرط في قضاء رمضان حتى دخل عليه رمضان آخر لا يؤمر واحد منهم بعتق ولا صيام فصار الإطعام له مدخل في الصيام ونظائر من الأصول فلذا فضله مالك وأصحابه انتهى ملخصًا وما في المدونة عن مالك مما يوهم تعين الإطعام مؤول بأن المراد أفضل وقال المازري ليس في قوله هل تستطيع دلالة على الترتيب لا نصًا ولا ظاهرًا إنما فيه البداءة بالأول وهو يصح على التخيير والترتيب فبان من رواية أو أن المراد التخيير انتهى ( فقال لا أجد) وفي حديث عائشة قال تصدق فقال يا نبي الله ما لي شيء وما أقدر عليه زاد ابن عيينة عن ابن شهاب فقال اجلس ( فأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم) بضم الهمزة مبنيًا للمفعول ولم يسم الآتي لكن للبخاري في الكفارات فجاء رجل من الأنصار وللدارقطني عن سعيد بن المسيب مرسلاً فأتى رجل من ثقيف قال الحافظ فإن لم يحمل على أنه كان حليفًا للأنصار أو إطلاق الأنصار بالمعنى الأعم وإلا فما في الصحيح أصح ( بعرق تمر) بفتح العين المهملة والراء وقاف وروي بإسكان الراء قال عياض والصواب الفتح وهو المشهور رواية ولغة وقال ابن عبد البر أكثرهم يرويها بإسكان الراء والصواب عند أهل الإتقان فتح الراء وكذا قال أهل اللغة وفسره الزهري في رواية الصحيحين بأنه المكتل بكسر الميم وفتح الفوقية قال الأخفش سمي المكتل عرقًا لأنه يضفر عرقة عرقة والعرق جمع عرقة كعلق وعلقة والعرقة الضفيرة من الخوص ( فقال خذ هذا فتصدق به) أي بالتمر الذي فيه ( فقال يا رسول الله ما أحد أحوج) ضبط بالرفع على جعل ما تميمية والنصب على جعلها حجازية عاملة عمل ليس ( مني) وفي رواية فقال على أفقر مني يا رسول الله فوالله ما بين لابتيها يريد الحرتين أهل بيت أفقر من أهل بيتي وفي أخرى ما أحد أحق به من أهلي ما أحد أحوج إليه مني ولابن خزيمة عن عائشة ما لنا عشاء ليلة ( فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت أنيابه) جمع ناب وهي الأسنان الملاصقة للرباعيات وهي أربعة والضحك فوق التبسم وقد ورد أن ضحكه كان تبسمًا في غالب أحواله لكنه تعجب هنا من حال الرجل في كونه جاء أولاً هالكًا محترقًا خائفًا على نفسه راغبًا في فدائها مهما أمكنه فلما وجد الرخصة طمع أن يأكل الكفارة ( ثم قال كله) وفي رواية أطعمه أهلك وفي أخرى عيالك واحتج به القائل بأنه لا تجب الكفارة ورد بأنه أباح له تأخيرها إلى وقت اليسر لا أنه أسقطها عنه جملة وليس في الحديث نفي استقرارها عليه بل فيه دليل لاستقرارها لأنه أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بعجزه عن الخصال الثلاث ثم أتى صلى الله عليه وسلم بالتمر فأمره بإخراجه في الكفارة فلو كانت تسقط بالعجز لم يأمره بذلك لكن لما احتاج إلى الإنفاق على عياله في الحال أذن له في أكله وإطعام عياله وبقيت الكفارة في ذمته ولم يبين له ذلك لأن تأخيره البيان إلى وقت الحاجة جائز عند الجمهور وقال ابن العربي كان هذا رخصة لهذا الرجل خاصة أما اليوم فلا بد من الكفارة وجاء في رواية كله أنت وأهلك وصم يومًا واستغفر الله وقال عياض قال الزهري هذا خاص بهذا الرجل أباح له الأكل من صدقة نفسه لسقوط الكفارة عنه لفقره وقيل هو منسوخ وقيل يحتمل أنه أعطاه ليكفر به ويجزيه إذا أعطاه من لا يلزمه نفقته من أهله وقيل لما عجز عن نفقة أهله جاز له إعطاء الكفارة عن نفسه لهم وقيل لما ملكها له وهو محتاج جاز له ولأهله أكلها لحاجتهم وقيل يحتمل أنه لما كان لغيره أن يكفر عنه جاز لغيره أن يتصدق عليه عند الحاجة بتلك الكفارة وقيل أطعمه إياه لفقره وأبقى الكفارة عليه حتى يوسر هذا ما للعلماء في المسألة وقال أحمد والأوزاعي حكم من لزمته كفارة ولم يجدها السقوط كهذا الرجل وفي هذا الحديث أن من جاء مستفتيًا فيما فيه الاجتهاد دون الحد أنه لا تعزير عليه ولا عقوبة لأنه صلى الله عليه وسلم لم يعاقبه على انتهاك حرمة الشهر لأن مجيئه واستفتاءه دليل توبته ولأنه لو عوقب من جاء مجيئه لم يستفت أحد عن نازلة خوف العقوبة بخلاف ما فيه الحد أو قامت بينة على الاعتراف به فلا يسقط بالتوبة إلا الحرابة إذا تاب منها قبل القدرة عليه وذكر الكرماني أن بعض العلماء استنبط من هذا الحديث أكثر من ألف مسألة وأخرجه مسلم من طريق إسحاق بن عيسى وأبو داود عن القعنبي كليهما عن مالك ( مالك عن عطاء بن عبد الله الخراساني) وقيل اسم أبيه ميسرة وهو عطاء بن أبي مسلم مولى المهلب بن أبي صفرة وقيل مولى هذيل والأول أكثر وأشهر أصله من مدينة بلخ من خراسان وسكن الشام كان فاضلاً عالمًا بالقرآن عاملاً روى عنه جماعة أئمة كمالك ومعمر والأوزاعي وسعيد بن عبد العزيز ولد سنة خمس ومات سنة خمس وثلاثين ومائة وربما كان في حفظه شيء لمالك عنه ثلاثة أحاديث قاله في التمهيد وفي التقريب أنه صدوق يهم كثيرًا ويرسل ويدلس روى له مسلم والأربعة ولم يصح أن البخاري أخرج له ( عن سعيد بن المسيب أنه قال جاء أعرابي) لم يسم أو هو سلمة ويقال فيه سلمان بن صخر أحد بني بياضة كما مر ( إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم) قال ابن عبد البر هكذا هذا الحديث عند جماعة رواة الموطأ مرسلاً وهو متصل بمعناه من وجوه صحاح إلا قوله أن تهدي بدنة فغير محفوظ ( يضرب نحره وينتف شعره) زاد الدارقطني ويحثي على رأسه التراب وفي رواية ويلطم وجهه ويدعو ويله قيل فيه جواز ذلك لمن وقعت له مصيبة في الدين لما يشعر به حاله من شدة الندم وصحة الإقلاع ويحتمل أن هذه الواقعة قبل النهي عن لطم الخدود وحلق الشعر عند المصيبة ( ويقول هلك الأبعد) يعني نفسه وفي بعض الطرق هلكت وأهلكت أي فعلت ما هو سبب لهلاكي وهلاك غيري وهو زوجته التي وطئها أو المعنى هلكت بوقوعي في شيء لا أقدر عليه وأهلكت نفسي بفعلي الذي جر علي الإثم لكن زيادة وأهلكت حكم البيهقي وشيخه الحاكم بأنها باطلة وغلط ممن قالها كما بسط ذلك في الفتح وفي حديث عائشة فقال احترقت احترقت أطلق على نفسه ذلك مجازًا عن العصيان أو أنه يحترق يوم القيامة لاعتقاده أن مرتكب الإثم يستحق عذاب النار وعبر بالماضي بجعل المتوقع كالواقع ( فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم وما ذاك) الذي هلكت به ولأحمد الذي أهلكك ( قال أصبت أهلي) أي جامعت زوجتي وفي رواية وقعت على امرأتي وفي حديث عائشة وطئت امرأتي ( وأنا) أي والحال أني ( صائم في رمضان) قال الحافظ يؤخذ منه أنه لا يشترط في إطلاق اسم المشتق بقاء المشتق منه حقيقة لاستحالة كونه صائمًا مجامعًا في حالة واحدة فعلى هذا قوله وطئت أي شرعت في الوطء أو أراد جامعت بعد إذ أنا صائم ( فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هل تستطيع) أي تقدر ( أن تعتق رقبة فقال لا) أستطيع وفي رواية فقال والله يا رسول الله وفي أخرى فقال والذي بعثك بالحق ما ملكت رقبة قط واستدل به الحنفية وموافقوهم على عدم اشتراط إيمان الرقبة لإطلاقه فيها واشترط إيمانها مالك والشافعي والجمهور لقوله في حديث السوداء أعتقها فإنها مؤمنة ولتقييدها بالإيمان في كفارة القتل فيحمل المطلق وهو الصوم والظهار على المقيد وتوقف في ذلك الأبي بأن حمل المطلق على المقيد إذا اتحد الموجب فإن اختلف كالظهار والقتل فالذي ينقله الأصوليون عن مالك وأكثر أصحابه عدم الحمل كمذهب الحنفية ( فقال هل تستطيع أن تهدي بدنة) قال ابن عبد البر ما ذكر في هذا الحديث محفوظ من رواية الثقات الأثبات إلا هذه الجملة فإنها غير محفوظة ونقل القاسم بن عاصم عن سعيد بن المسيب أنه قال كذب عطاء الخراساني ما حدثته إنما بلغني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له تصدق وقد اضطرب في ذلك على القاسم ولا يخرج بمثله عطاء فإنه فوقه في الشهرة بحمل العلم وشهرته فيه وفي الخبر أكثر من القاسم وإن كان البخاري أدخله في كتاب الضعفاء بهذا الخبر فلم يتابع على ذلك وقد أسند البخاري في التاريخ ذكر البدنة من رواية غير عطاء الخراساني فرواه عن عطاء ومجاهد عن أبي هريرة مرفوعًا أعتق رقبة ثم قال انحر بدنة قال البخاري لا يتابع عليه وكذا أسنده قاسم بن أصبغ عن مجاهد مرسلاً إلا أن جمهور العلماء لم يروا نحر البدن عملاً بحديث ابن شهاب ولا أعلم أحدًا أفتى بذلك إلا الحسن البصري انتهى ملخصًا وحاصله أن غلط الثقة في لفظ لا يقتضي طرح حديثه ولا تكذيبه دائمًا بل يحكم بغلطه في هذه اللفظة فقط والذي في الأحاديث قال فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين ( قال لا) وفي رواية لا أقدر وللبزار وهل لقيت ما لقيت إلا من الصيام وسقط من هذه الرواية هل تجد إطعام ستين مسكينًا قال لا والحكمة في كون هذه كفارات لفطر الصائم عمدًا سواء قيل إنها على الترتيب أو التخيير أن من انتهك حرمة الصوم بالجماع والأكل والشرب فقد أهلك نفسه بالمعصية فناسب أن يعتق رقبة تفدي نفسه وقد صح من أعتق رقبة أعتق الله بكل عضو منها عضوًا منه من النار والصيام كالمقاصة بجنس الجناية وكونه شهرين لأنه أمر بمصابرة النفس في حفظ كل يوم من الشهر على الولاء فلما أفسد منه يومًا كان كمن أفسد الشهر كله من حيث إنه عبادة واحدة بالنوع فكلف بشهرين مضاعفة على سبيل المقابلة لنقيض قصده وأما الإطعام فمناسبته ظاهرة لأنه مقابلة كل يوم بإطعام مسكين ( قال فاجلس) قيل أمره بذلك انتظارًا لما يأتيه كما وقع ويحتمل أنه رجاء فضل الله أو انتظار وحي ينزل في أمره ( فأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرق تمر) أي فيه تمر وفي رواية لمسلم عن عائشة فجلس فبينما هو على ذلك إذ أقبل رجل يسوق حمارًا عليه طعام فقال صلى الله عليه وسلم أين المحترق آنفًا فقام الرجل ( فقال خذ هذا فتصدق به) وعند البزار والطبراني فقال إلى من أدفعه فقال إلى أفقر من تعلم ( فقال ما أحد) بالرفع والنصب ( أحوج) بالنصب والرفع هكذا ضبط في النسخ الصحيحة ( مني فقال كله) ظاهره أنه لا يجزيه وإنما تصدق عليه ليتبلغ به وتبقى الكفارة في ذمته وروي أطعمه أهلك وهو أقرب إلى الاحتمال لأنه يجوز أن يطعمه من أهله من لا تلزمه نفقته ويجزى عنه وقال الزهري هذا خاص بذلك الرجل لأنه لم يرد أنه أخبره ببقاء الكفارة في ذمته ولا يحتاج إلى هذا لأنه قد أخبره بوجوبها عليه حين أمره بها قاله ابن عبد البر ومر له مزيد ( وصم يومًا مكان ما أصبت) ففي هذا إلزام القضاء مع الكفارة وهو قول الأئمة الأربعة والجمهور وأسقطه بعضهم لأنه لم يرد في خبر أبي هريرة ولا خبر عائشة ولا في نقل الحفاظ لهما ذكر القضاء وأجيب بأنه جاء من طرق يعرف بمجموعها أن لهذه الزيادة أصلاً يصلح للاحتجاج وعن الأوزاعي إن كفر بعتق أو إطعام قضى اليوم وإن صام شهرين دخل فيهما قضاء ذلك اليوم ويؤخذ من تنكير يومًا عدم اشتراط الفورية ( قال مالك قال عطاء) الخراساني ( فسألت سعيد بن المسيب كم في ذلك العرق من التمر فقال ما بين خمسة عشر صاعًا إلى عشرين) وفي رواية أحمد في حديث أبي هريرة فيه خمسة عشر صاعًا وفي حديث عائشة عند ابن خزيمة فأتي بعرق فيه عشرون صاعًا وفي مرسل عطاء عند مسدد فأمر له ببعضه وهو يجمع بين الروايتين فمن قال عشرين أراد أصل ما كان فيه ومن قال خمسة عشر أراد قدر ما تقع به الكفارة والحديث حجة للكافة في أن الكفارة مد لكل مسكين لأن العرق خمسة عشر صاعًا وهو أربعة أمداد وفي الحديث اختصاص الكفارة بالعمد وهو مشهور قول مالك والجمهور خلافًا لمن أوجبها على الناسي أيضًا متمسكًا بأنه صلى الله عليه وسلم ترك استفساره عن جماعة هل كان عمدًا أو عن نسيان وترك الاستفسار في الفعل منزل منزلة العموم في المقال وتعقب بأنه قد تبين الحال من قوله احترقت وهلكت فدل على أنه كان عالمًا بالتحريم وأيضًا فدخول النسيان في الجماع في نهار رمضان في غاية البعد وإن أمكن ( قال مالك سمعت أهل العلم يقولون ليس على من أفطر يومًا في قضاء رمضان بإصابة أهله نهارًا) عمدًا ( أو غير ذلك) الأكل والشرب بالأولى ( الكفارة التي تذكر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيمن أصاب أهله نهارًا في رمضان) لأنها لحرمة انتهاكه ( وإنما عليه قضاء ذلك اليوم) فقط ( قال مالك وهذا أحب ما سمعت فيه إلي) وعلى هذا الكافة إلا قتادة وحده فقال عليه الكفارة وإلا ابن وهب ورواية عن ابن القاسم فجعلا عليه قضاء يومين قياسًا على الحج.



رقم الحديث 668 وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْخُرَاسَانِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّهُ قَالَ: جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَضْرِبُ نَحْرَهُ، وَيَنْتِفُ شَعْرَهُ، وَيَقُولُ: هَلَكَ الْأَبْعَدُ.
فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَمَا ذَاكَ؟ فَقَالَ: أَصَبْتُ أَهْلِي، وَأَنَا صَائِمٌ فِي رَمَضَانَ.
فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تُعْتِقَ رَقَبَةً؟ فَقَالَ: لَا.
فَقَالَ: هَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تُهْدِيَ بَدَنَةً، قَالَ: لَا.
قَالَ: فَاجْلِسْ.
فَأُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَرَقِ تَمْرٍ.
فَقَالَ: خُذْ هَذَا فَتَصَدَّقْ بِهِ، فَقَالَ: مَا أَحَدٌ أَحْوَجَ مِنِّي، فَقَالَ: كُلْهُ وَصُمْ يَوْمًا مَكَانَ مَا أَصَبْتَ
قَالَ مَالِكٌ قَالَ عَطَاءٌ فَسَأَلْتُ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ: كَمْ فِي ذَلِكَ الْعَرَقِ مِنَ التَّمْرِ؟ فَقَالَ: مَا بَيْنَ خَمْسَةَ عَشَرَ صَاعًا إِلَى عِشْرِينَ قَالَ مَالِكٌ: سَمِعْتُ أَهْلَ الْعِلْمِ يَقُولُونَ: لَيْسَ عَلَى مَنْ أَفْطَرَ يَوْمًا فِي قَضَاءِ رَمَضَانَ بِإِصَابَةِ أَهْلِهِ نَهَارًا أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، الْكَفَّارَةُ الَّتِي تُذْكَرُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَنْ أَصَابَ أَهْلَهُ نَهَارًا فِي رَمَضَانَ.
وَإِنَّمَا عَلَيْهِ قَضَاءُ ذَلِكَ الْيَوْمِ.
قَالَ مَالِكٌ: وَهَذَا أَحَبُّ مَا سَمِعْتُ فِيهِ إِلَيَّ.


( كَفَّارَةِ مَنْ أَفْطَرَ فِي رَمَضَانَ)

( مالك عن ابن شهاب عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف عن أبي هريرة) قال الحافظ هكذا توارد عليه أصحاب الزهري وهم أكثر من أربعين نفسًا جمعتهم في جزء مفرد منهم ابن عيينة والليث ومنصور ومعمر عند الشيخين والأوزاعي وشعيب وإبراهيم بن سعد عند البخاري ومالك وابن جريج عند مسلم ويحيى بن سعيد وعراك بن مالك عند النسائي وعبد الجبار بن عمر عند أبي عوانة وعبد الرحمن بن مسافر عند الطحاوي وعقيل عند ابن خزيمة وابن أبي حفصة عند أحمد ويونس وحجاج بن أرطأة وصالح بن أبي الأخضر عند الدارقطني ومحمد بن إسحاق عند البزار وخالفهم هشام بن سعد فرواه عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة وجزم البزار وابن خزيمة وأبو عوانة بأن هشام بن سعد أخطأ فيه وقد تابعه عبد الوهاب بن عطاء عن محمد بن أبي حفصة عند أحمد فيحتمل أن يكون الحديث عند الزهري عنهما فقد جمعهما عنه صالح بن أبي الأخضر أخرجه الدارقطني في العلل وفي رواية ابن جريج وأبي أويس عند الدارقطني التصريح بالتحديث بين حميد وأبي هريرة ( أن رجلاً) هو سلمان ويقال فيه سلمة بن صخر البياضي رواه ابن أبي شيبة وابن الجارود وبه جزم عبد الغني وتعقب بأن سلمة هو المظاهر في رمضان وإنما أتى أهله ليلاً رأى خلخالها في القمر ولكن روى ابن عبد البر في التمهيد عن سعيد بن المسيب أن الرجل الذي وقع على أهله في رمضان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم هو سلمان بن صخر أحد بني بياضة قال ابن عبد البر أظن هذا وهما لأن المحفوظ أن سلمة أو سلمان إنما كان مظاهرًا قال الحافظ ويحتمل أن قوله وقع على امرأته أي ليلاً بعد أن ظاهر فلا يكون وهمًا ويحتمل وقوع الأمرين له قال وسبب ظنهم أنه المحترق أن ظهاره من امرأته كان في شهر رمضان وجامع ليلاً كما هو صريح حديثه وأما المحترق فأعرابي جامع نهارًا فتغايرًا نعم اشتركا في قدر الكفارة وفي الإتيان بالتمر وفي الإعطاء وفي قول كل منهما أعلى أفقر منا ولكن لا يلزم من ذلك اتحادهما ( أفطر) قال الباجي اختلفت رواة هذا الحديث في لفظه فقال أصحاب الموطأ وأكثر الرواة عن مالك أفطر وقال جماعة جامع ( في رمضان) وقال ابن عبد البر كذا رواه مالك لم يذكر بماذا أفطر وتابعه جماعة عن ابن شهاب وقال أكثر الرواة عن الزهري أن رجلاً وقع على امرأته في رمضان فذكروا ما أفطر به فتمسك به أحمد والشافعي ومن وافقهما في أن الكفارة خاصة بالجماع لأن الذمة برية فلا يثبت شيء فيها إلا بيقين وقال مالك وأبو حنيفة وطائفة عليه الكفارة بتعمد أكل أو شرب ونحوهما أيضًا لأن الصوم شرعًا الامتناع من الطعام والجماع فإذا ثبت في وجه من ذلك شيء ثبت في نظيره والجامع بينهما انتهاك حرمة الشهر بما يفسد الصوم عمدًا ولفظ حديث مالك يجمع كل فطر لكن قال عياض دعوى عموم قوله أفطر ضعيفة قال الأبي لأن أفطر فعل في سياق الثبوت ولم يقل أحد من الأصوليين بعمومه إنما اختلفوا فيما إذا كان في سياق النفي ( فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكفر بعتق رقبة أو صيام شهرين متتابعين أو إطعام ستين مسكينًا) قال ابن عبد البر هكذا روى هذا الحديث مالك لم تختلف رواته عليه فيه بلفظ التخيير وتابعه ابن جريج وأبو أويس عن ابن شهاب ورواه جماعة من أصحاب ابن شهاب على ترتيب كفارة الظهار هل تستطيع أن تعتق رقبة قال : لا قال : فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين قال : لا قال: فهل تجد إطعام ستين مسكينًا قال لا الحديث وإليه ذهب أبو حنيفة والشافعي في طائفة فقالوا لا ينتقل عن العتق إلا عند العجز عنه ولا عن الصوم كذلك وقال مالك وجماعة هي على التخيير لظاهر حديث الباب الدال على أن الترتيب في الرواية الثانية ليس بمراد ولأنه اقتصر على الإطعام في حديث عائشة في الصحيحين وغيرهما ولذا قال مالك الإطعام أفضل ولأنه سنة البدل في الصيام ألا ترى أن الحامل والمرضع والشيخ الكبير والمفرط في قضاء رمضان حتى دخل عليه رمضان آخر لا يؤمر واحد منهم بعتق ولا صيام فصار الإطعام له مدخل في الصيام ونظائر من الأصول فلذا فضله مالك وأصحابه انتهى ملخصًا وما في المدونة عن مالك مما يوهم تعين الإطعام مؤول بأن المراد أفضل وقال المازري ليس في قوله هل تستطيع دلالة على الترتيب لا نصًا ولا ظاهرًا إنما فيه البداءة بالأول وهو يصح على التخيير والترتيب فبان من رواية أو أن المراد التخيير انتهى ( فقال لا أجد) وفي حديث عائشة قال تصدق فقال يا نبي الله ما لي شيء وما أقدر عليه زاد ابن عيينة عن ابن شهاب فقال اجلس ( فأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم) بضم الهمزة مبنيًا للمفعول ولم يسم الآتي لكن للبخاري في الكفارات فجاء رجل من الأنصار وللدارقطني عن سعيد بن المسيب مرسلاً فأتى رجل من ثقيف قال الحافظ فإن لم يحمل على أنه كان حليفًا للأنصار أو إطلاق الأنصار بالمعنى الأعم وإلا فما في الصحيح أصح ( بعرق تمر) بفتح العين المهملة والراء وقاف وروي بإسكان الراء قال عياض والصواب الفتح وهو المشهور رواية ولغة وقال ابن عبد البر أكثرهم يرويها بإسكان الراء والصواب عند أهل الإتقان فتح الراء وكذا قال أهل اللغة وفسره الزهري في رواية الصحيحين بأنه المكتل بكسر الميم وفتح الفوقية قال الأخفش سمي المكتل عرقًا لأنه يضفر عرقة عرقة والعرق جمع عرقة كعلق وعلقة والعرقة الضفيرة من الخوص ( فقال خذ هذا فتصدق به) أي بالتمر الذي فيه ( فقال يا رسول الله ما أحد أحوج) ضبط بالرفع على جعل ما تميمية والنصب على جعلها حجازية عاملة عمل ليس ( مني) وفي رواية فقال على أفقر مني يا رسول الله فوالله ما بين لابتيها يريد الحرتين أهل بيت أفقر من أهل بيتي وفي أخرى ما أحد أحق به من أهلي ما أحد أحوج إليه مني ولابن خزيمة عن عائشة ما لنا عشاء ليلة ( فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت أنيابه) جمع ناب وهي الأسنان الملاصقة للرباعيات وهي أربعة والضحك فوق التبسم وقد ورد أن ضحكه كان تبسمًا في غالب أحواله لكنه تعجب هنا من حال الرجل في كونه جاء أولاً هالكًا محترقًا خائفًا على نفسه راغبًا في فدائها مهما أمكنه فلما وجد الرخصة طمع أن يأكل الكفارة ( ثم قال كله) وفي رواية أطعمه أهلك وفي أخرى عيالك واحتج به القائل بأنه لا تجب الكفارة ورد بأنه أباح له تأخيرها إلى وقت اليسر لا أنه أسقطها عنه جملة وليس في الحديث نفي استقرارها عليه بل فيه دليل لاستقرارها لأنه أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بعجزه عن الخصال الثلاث ثم أتى صلى الله عليه وسلم بالتمر فأمره بإخراجه في الكفارة فلو كانت تسقط بالعجز لم يأمره بذلك لكن لما احتاج إلى الإنفاق على عياله في الحال أذن له في أكله وإطعام عياله وبقيت الكفارة في ذمته ولم يبين له ذلك لأن تأخيره البيان إلى وقت الحاجة جائز عند الجمهور وقال ابن العربي كان هذا رخصة لهذا الرجل خاصة أما اليوم فلا بد من الكفارة وجاء في رواية كله أنت وأهلك وصم يومًا واستغفر الله وقال عياض قال الزهري هذا خاص بهذا الرجل أباح له الأكل من صدقة نفسه لسقوط الكفارة عنه لفقره وقيل هو منسوخ وقيل يحتمل أنه أعطاه ليكفر به ويجزيه إذا أعطاه من لا يلزمه نفقته من أهله وقيل لما عجز عن نفقة أهله جاز له إعطاء الكفارة عن نفسه لهم وقيل لما ملكها له وهو محتاج جاز له ولأهله أكلها لحاجتهم وقيل يحتمل أنه لما كان لغيره أن يكفر عنه جاز لغيره أن يتصدق عليه عند الحاجة بتلك الكفارة وقيل أطعمه إياه لفقره وأبقى الكفارة عليه حتى يوسر هذا ما للعلماء في المسألة وقال أحمد والأوزاعي حكم من لزمته كفارة ولم يجدها السقوط كهذا الرجل وفي هذا الحديث أن من جاء مستفتيًا فيما فيه الاجتهاد دون الحد أنه لا تعزير عليه ولا عقوبة لأنه صلى الله عليه وسلم لم يعاقبه على انتهاك حرمة الشهر لأن مجيئه واستفتاءه دليل توبته ولأنه لو عوقب من جاء مجيئه لم يستفت أحد عن نازلة خوف العقوبة بخلاف ما فيه الحد أو قامت بينة على الاعتراف به فلا يسقط بالتوبة إلا الحرابة إذا تاب منها قبل القدرة عليه وذكر الكرماني أن بعض العلماء استنبط من هذا الحديث أكثر من ألف مسألة وأخرجه مسلم من طريق إسحاق بن عيسى وأبو داود عن القعنبي كليهما عن مالك ( مالك عن عطاء بن عبد الله الخراساني) وقيل اسم أبيه ميسرة وهو عطاء بن أبي مسلم مولى المهلب بن أبي صفرة وقيل مولى هذيل والأول أكثر وأشهر أصله من مدينة بلخ من خراسان وسكن الشام كان فاضلاً عالمًا بالقرآن عاملاً روى عنه جماعة أئمة كمالك ومعمر والأوزاعي وسعيد بن عبد العزيز ولد سنة خمس ومات سنة خمس وثلاثين ومائة وربما كان في حفظه شيء لمالك عنه ثلاثة أحاديث قاله في التمهيد وفي التقريب أنه صدوق يهم كثيرًا ويرسل ويدلس روى له مسلم والأربعة ولم يصح أن البخاري أخرج له ( عن سعيد بن المسيب أنه قال جاء أعرابي) لم يسم أو هو سلمة ويقال فيه سلمان بن صخر أحد بني بياضة كما مر ( إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم) قال ابن عبد البر هكذا هذا الحديث عند جماعة رواة الموطأ مرسلاً وهو متصل بمعناه من وجوه صحاح إلا قوله أن تهدي بدنة فغير محفوظ ( يضرب نحره وينتف شعره) زاد الدارقطني ويحثي على رأسه التراب وفي رواية ويلطم وجهه ويدعو ويله قيل فيه جواز ذلك لمن وقعت له مصيبة في الدين لما يشعر به حاله من شدة الندم وصحة الإقلاع ويحتمل أن هذه الواقعة قبل النهي عن لطم الخدود وحلق الشعر عند المصيبة ( ويقول هلك الأبعد) يعني نفسه وفي بعض الطرق هلكت وأهلكت أي فعلت ما هو سبب لهلاكي وهلاك غيري وهو زوجته التي وطئها أو المعنى هلكت بوقوعي في شيء لا أقدر عليه وأهلكت نفسي بفعلي الذي جر علي الإثم لكن زيادة وأهلكت حكم البيهقي وشيخه الحاكم بأنها باطلة وغلط ممن قالها كما بسط ذلك في الفتح وفي حديث عائشة فقال احترقت احترقت أطلق على نفسه ذلك مجازًا عن العصيان أو أنه يحترق يوم القيامة لاعتقاده أن مرتكب الإثم يستحق عذاب النار وعبر بالماضي بجعل المتوقع كالواقع ( فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم وما ذاك) الذي هلكت به ولأحمد الذي أهلكك ( قال أصبت أهلي) أي جامعت زوجتي وفي رواية وقعت على امرأتي وفي حديث عائشة وطئت امرأتي ( وأنا) أي والحال أني ( صائم في رمضان) قال الحافظ يؤخذ منه أنه لا يشترط في إطلاق اسم المشتق بقاء المشتق منه حقيقة لاستحالة كونه صائمًا مجامعًا في حالة واحدة فعلى هذا قوله وطئت أي شرعت في الوطء أو أراد جامعت بعد إذ أنا صائم ( فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هل تستطيع) أي تقدر ( أن تعتق رقبة فقال لا) أستطيع وفي رواية فقال والله يا رسول الله وفي أخرى فقال والذي بعثك بالحق ما ملكت رقبة قط واستدل به الحنفية وموافقوهم على عدم اشتراط إيمان الرقبة لإطلاقه فيها واشترط إيمانها مالك والشافعي والجمهور لقوله في حديث السوداء أعتقها فإنها مؤمنة ولتقييدها بالإيمان في كفارة القتل فيحمل المطلق وهو الصوم والظهار على المقيد وتوقف في ذلك الأبي بأن حمل المطلق على المقيد إذا اتحد الموجب فإن اختلف كالظهار والقتل فالذي ينقله الأصوليون عن مالك وأكثر أصحابه عدم الحمل كمذهب الحنفية ( فقال هل تستطيع أن تهدي بدنة) قال ابن عبد البر ما ذكر في هذا الحديث محفوظ من رواية الثقات الأثبات إلا هذه الجملة فإنها غير محفوظة ونقل القاسم بن عاصم عن سعيد بن المسيب أنه قال كذب عطاء الخراساني ما حدثته إنما بلغني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له تصدق وقد اضطرب في ذلك على القاسم ولا يخرج بمثله عطاء فإنه فوقه في الشهرة بحمل العلم وشهرته فيه وفي الخبر أكثر من القاسم وإن كان البخاري أدخله في كتاب الضعفاء بهذا الخبر فلم يتابع على ذلك وقد أسند البخاري في التاريخ ذكر البدنة من رواية غير عطاء الخراساني فرواه عن عطاء ومجاهد عن أبي هريرة مرفوعًا أعتق رقبة ثم قال انحر بدنة قال البخاري لا يتابع عليه وكذا أسنده قاسم بن أصبغ عن مجاهد مرسلاً إلا أن جمهور العلماء لم يروا نحر البدن عملاً بحديث ابن شهاب ولا أعلم أحدًا أفتى بذلك إلا الحسن البصري انتهى ملخصًا وحاصله أن غلط الثقة في لفظ لا يقتضي طرح حديثه ولا تكذيبه دائمًا بل يحكم بغلطه في هذه اللفظة فقط والذي في الأحاديث قال فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين ( قال لا) وفي رواية لا أقدر وللبزار وهل لقيت ما لقيت إلا من الصيام وسقط من هذه الرواية هل تجد إطعام ستين مسكينًا قال لا والحكمة في كون هذه كفارات لفطر الصائم عمدًا سواء قيل إنها على الترتيب أو التخيير أن من انتهك حرمة الصوم بالجماع والأكل والشرب فقد أهلك نفسه بالمعصية فناسب أن يعتق رقبة تفدي نفسه وقد صح من أعتق رقبة أعتق الله بكل عضو منها عضوًا منه من النار والصيام كالمقاصة بجنس الجناية وكونه شهرين لأنه أمر بمصابرة النفس في حفظ كل يوم من الشهر على الولاء فلما أفسد منه يومًا كان كمن أفسد الشهر كله من حيث إنه عبادة واحدة بالنوع فكلف بشهرين مضاعفة على سبيل المقابلة لنقيض قصده وأما الإطعام فمناسبته ظاهرة لأنه مقابلة كل يوم بإطعام مسكين ( قال فاجلس) قيل أمره بذلك انتظارًا لما يأتيه كما وقع ويحتمل أنه رجاء فضل الله أو انتظار وحي ينزل في أمره ( فأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرق تمر) أي فيه تمر وفي رواية لمسلم عن عائشة فجلس فبينما هو على ذلك إذ أقبل رجل يسوق حمارًا عليه طعام فقال صلى الله عليه وسلم أين المحترق آنفًا فقام الرجل ( فقال خذ هذا فتصدق به) وعند البزار والطبراني فقال إلى من أدفعه فقال إلى أفقر من تعلم ( فقال ما أحد) بالرفع والنصب ( أحوج) بالنصب والرفع هكذا ضبط في النسخ الصحيحة ( مني فقال كله) ظاهره أنه لا يجزيه وإنما تصدق عليه ليتبلغ به وتبقى الكفارة في ذمته وروي أطعمه أهلك وهو أقرب إلى الاحتمال لأنه يجوز أن يطعمه من أهله من لا تلزمه نفقته ويجزى عنه وقال الزهري هذا خاص بذلك الرجل لأنه لم يرد أنه أخبره ببقاء الكفارة في ذمته ولا يحتاج إلى هذا لأنه قد أخبره بوجوبها عليه حين أمره بها قاله ابن عبد البر ومر له مزيد ( وصم يومًا مكان ما أصبت) ففي هذا إلزام القضاء مع الكفارة وهو قول الأئمة الأربعة والجمهور وأسقطه بعضهم لأنه لم يرد في خبر أبي هريرة ولا خبر عائشة ولا في نقل الحفاظ لهما ذكر القضاء وأجيب بأنه جاء من طرق يعرف بمجموعها أن لهذه الزيادة أصلاً يصلح للاحتجاج وعن الأوزاعي إن كفر بعتق أو إطعام قضى اليوم وإن صام شهرين دخل فيهما قضاء ذلك اليوم ويؤخذ من تنكير يومًا عدم اشتراط الفورية ( قال مالك قال عطاء) الخراساني ( فسألت سعيد بن المسيب كم في ذلك العرق من التمر فقال ما بين خمسة عشر صاعًا إلى عشرين) وفي رواية أحمد في حديث أبي هريرة فيه خمسة عشر صاعًا وفي حديث عائشة عند ابن خزيمة فأتي بعرق فيه عشرون صاعًا وفي مرسل عطاء عند مسدد فأمر له ببعضه وهو يجمع بين الروايتين فمن قال عشرين أراد أصل ما كان فيه ومن قال خمسة عشر أراد قدر ما تقع به الكفارة والحديث حجة للكافة في أن الكفارة مد لكل مسكين لأن العرق خمسة عشر صاعًا وهو أربعة أمداد وفي الحديث اختصاص الكفارة بالعمد وهو مشهور قول مالك والجمهور خلافًا لمن أوجبها على الناسي أيضًا متمسكًا بأنه صلى الله عليه وسلم ترك استفساره عن جماعة هل كان عمدًا أو عن نسيان وترك الاستفسار في الفعل منزل منزلة العموم في المقال وتعقب بأنه قد تبين الحال من قوله احترقت وهلكت فدل على أنه كان عالمًا بالتحريم وأيضًا فدخول النسيان في الجماع في نهار رمضان في غاية البعد وإن أمكن ( قال مالك سمعت أهل العلم يقولون ليس على من أفطر يومًا في قضاء رمضان بإصابة أهله نهارًا) عمدًا ( أو غير ذلك) الأكل والشرب بالأولى ( الكفارة التي تذكر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيمن أصاب أهله نهارًا في رمضان) لأنها لحرمة انتهاكه ( وإنما عليه قضاء ذلك اليوم) فقط ( قال مالك وهذا أحب ما سمعت فيه إلي) وعلى هذا الكافة إلا قتادة وحده فقال عليه الكفارة وإلا ابن وهب ورواية عن ابن القاسم فجعلا عليه قضاء يومين قياسًا على الحج.