فهرس الكتاب

شرح الزرقاني - بَابُ مَا جَاءَ فِي النِّدَاءِ لِلصَّلَاةِ

رقم الحديث 54 وَحَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ أَبِي نُعَيْمٍ وَهْبِ بْنِ كَيْسَانَ، أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيَّ، يَقُولُ: رَأَيْتُ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ، أَكَلَ لَحْمًا.
ثُمَّ صَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ.


( مَالِكٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ) العدوي مولى عمر ( عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ) بلفظ ضد يمين ( عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكَلَ كَتِفَ شَاةٍ) أي لحمه.
وفي رواية للبخاري معرق أي أكل ما على العرق بفتح المهملة وسكون الراء وهو العظم ويقال له أيضًا العراق بالضم، وأفاد القاضي إسماعيل أن ذلك في بيت ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب وهي بنت عمه صلى الله عليه وسلم، ويحتمل أنه كان في بيت ميمونة كما في الصحيحين عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم أكل عندها كتفًا ثم صلى ولم يتوضأ ولا مانع من التعدد كما في الفتح.

( ثُمَّ صَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ) فهذا نص في أن لا وضوء مما مست النار، وأما خبر زيد بن ثابت مرفوعًا: الوضوء مما مست النار، وحديث أبي هريرة وعائشة رفعاه: توضئوا مما مست النار أخرج الثلاثة مسلم، وحديث جابر بن سمرة عند مسلم أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم أتوضأ من لحم الغنم؟ قال: إن شئت فتوضأ وإن شئت فلا تتوضأ قال: أتوضأ من لحم الإبل؟ قال: نعم توضأ من لحوم الإبل فقد حمل ذلك الوضوء على غسل اليد والمضمضة لزيادة دسومته وزهومة لحم الإبل، وقد نهى صلى الله عليه وسلم أن يبيت وفي يده أو فمه دسم خوفًا من عقرب ونحوها وبأنها منسوخة بقول جابر كان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك الوضوء مما مست النار رواه أبو داود وغيره.
وقد أومأ مسلم إلى النسخ فروى أولاً أحاديث زيد وأبي هريرة وعائشة، ثم عقبها بحديث ابن عباس هذا فرواه عن القعنبي والبخاري عن ابن يوسف كلاهما عن مالك به.

( مالِكٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ) بكسر العين الأنصاري ( عَنْ بُشَيْرِ) بضم الموحدة وفتح المعجمة ( بْنِ يَسَارٍ) بتحتية ومهملة ( مَوْلَى بَنِي حَارِثَةَ) من الأنصار الأنصاري الحارثي المدني وثقه ابن معين.
قال ابن سعد: كان شيخًا كبيرًا فقيهًا أدرك عامة الصحابة وكان قليل الحديث.

( عَنْ سُوَيْدِ) بضم السين ( بْنِ النُّعْمَانِ) بضم النون ابن مالك الأنصاري صحابي شهد أحدًا وما بعدها ما روى عنه سوى بشير، وذكر العسكري أنه استشهد بالقادسية قال في الإصابة: وفيه نظر لأن بشير بن يسار سمع منه وهو لم يلحق ذلك الزمان ( أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ خَرَجَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ خَيْبَرَ) بخاء معجمة مفتوحة وتحتية ساكنة وموحدة مفتوحة وراء غير منصرف للعلمية والتأنيث وهي مدينة كبيرة ذات حصون ومزارع ونخل كثير على ثمانية برد من المدينة إلى جهة الشام.
ذكر أبو عبيد البكري أنها سميت باسم رجل من العماليق نزلها وهو خيبر أخو يثرب ابنا قانية بن مهاييل، وقيل الخيبر بلسان اليهود الحصن ولذا سميت خيابر أيضًا ذكره الحازمي.

( حَتَّى إِذَا كَانُوا بِالصَّهْبَاءِ) بفتح المهملة والمد ( وَهِيَ مِنْ أَدْنَى) أي أسفل ( خَيْبَرَ) أي طرفها مما يلي المدينة وفي رواية للبخاري وهي على روحة من خيبر، وقال أبو عبيد البكري: هي على بريد، وبين البخاري في الأطعمة من حديث ابن عيينة أن قوله وهي أدنى خيبر من قول يحيى بن سعيد أدرجت ( نَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَلَّى الْعَصْرَ ثُمَّ دَعَا بِالْأَزْوَادِ) جمع زاد وهو ما يؤكل في السفر ( فَلَمْ يُؤْتَ إِلَّا بِالسَّوِيقِ) قال الداودي: وهو دقيق الشعير أو السلت المقلو، وقال غيره يكون من القمح وقد وصفه أعرابي فقال عدة المسافر وطعام العجلان وبلغة المريض ( فَأَمَرَ بِهِ فَثُرِّيَ) بضم المثلثة وشد الراء ويجوز تخفيفها أي بل بالماء لما لحقه من اليبس ( فَأَكَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) منه ( وَأَكَلْنَا) منه.
زاد في رواية للبخاري وشربنا وله في أخرى فلكنا وأكلنا وشربنا أي من الماء أو من مائع السويق.

( ثُمَّ قَامَ إِلَى الْمَغْرِبِ فَمَضْمَضَ) قبل الدخول في الصلاة ( وَمَضْمَضْنَا) وفائدتها وإن كان لا دسم في السويق أنه يحتبس بقاياه بين الأسنان ونواحي الفم فيشغله ببلعه عن الصلاة ( ثُمَّ صَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ) بسبب أكل السويق.

قال الخطابي: فيه أن الوضوء مما مست النار منسوخ لأنه متقدم، وخيبر كانت سنة سبع.
قال الحافظ: لا دلالة فيه لأن أبا هريرة حضر بعد فتحها، وروي الأمر بالوضوء كما في مسلم، وكان يفتي به بعد النبي صلى الله عليه وسلم، واستدل به البخاري على جواز صلاتين فأكثر بوضوء واحد وعلى استحباب المضمضة بعد الطعام وفيه جمع الرفقاء على الزاد في السفر وإن كان بعضهم أكثر أكلاً وحمل الأزواد في السفر وأنه لا يقدح في التوكل، وأخذ منه المهلب أن الإمام يأخذ المحتكرين بإخراج الطعام عند قلته ليبيعوه من أهل الحاجة، وأن الإمام ينظر لأهل العسكر فيجمع الزاد ليصيب منه من لا زاد معه.

وأخرجه البخاري عن عبد الله بن يوسف عن مالك به ولم يخرجه مسلم.

( مالِكٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ) بن عبد الله بن الهدير بالتصغير التيمي المدني عن أبيه وجابر وابن عمر وابن عباس وأبي أيوب وأبي هريرة وعائشة وخلق، وعنه الزهري وأبو حنيفة ومالك والسفيانان وخلق.
قال ابن عيينة: كان من معادن الصدق ويجتمع إليه الصالحون، وثقه ابن معين وأبو حاتم مات سنة ثلاثين ومائة أو بعدها بسنة.

( وَعَنْ صَفْوَانَ بْنِ سُلَيْمٍ) بضم السين ( أَنَّهُمَا أَخْبَرَاهُ) أي مالكًا ( عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَارِثِ التَّيْمِيِّ) أي تيم قريش ( عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْهُدَيْرِ) بالتصغير ابن عبد العزى بن عامر بن الحارث بن حارثة بن سعد بن تيم بن مرة التيمي، ولد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وله عن أبي بكر وعمر وغيرهما وهو معدود في كبار التابعين قاله أبو عمر، ومنهم من أدخل بين عبد الله والهدير ربيعة آخر، وذكره ابن حبان فقال: له صحبة ثم ذكره في ثقات التابعين.
وقال الدارقطني: تابع كبير قليل المسند وكان ثقة من خيار الناس مات سنة ثلاث وتسعين.

( أَنَّهُ تَعَشَّى مَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ) طعامًا مسته النار ( ثُمَّ صَلَّى) عمر ( وَلَمْ يَتَوَضَّأْ) ففيه دلالة على النسخ.
وقد روى الطبراني في مسند الشاميين بإسناد حسن عن مسلم بن عامر قال: رأيت أبا بكر وعمر وعثمان أكلوا مما مست النار ولم يتوضئوا وجاء من طرق كثيرة عن جابر مرفوعًا وموقوفًا على الثلاثة مفرقًا ومجموعًا.

( مالِكٍ عَنْ ضَمْرَةَ) بفتح المعجمة وإسكان الميم ( بْنِ سَعِيدٍ) بن أبي حنة بمهملة ثم نون وقيل موحدة الأنصاري ( الْمَازِنِيِّ) نسبة إلى مازن بن النجار المدني تابع صغير ثقة ( عَنْ أَبَانَ بْنِ عُثْمَانَ) الأموي أبي سعيد أو أبي عبد الله المدني ثقة مات سنة خمس ومائة.

( أَنَّ) أباه ( عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ) أمير المؤمنين ( أَكَلَ خُبْزًا وَلَحْمًا ثُمَّ مَضْمَضَ) فاه ( وَغَسَلَ يَدَيْهِ وَمَسَحَ بِهِمَا وَجْهَهُ) لعله خشي أن يعلق به شيء من الطعام ( ثُمَّ صَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ) فهو دليل أيضًا على نسخ الوضوء مما مست النار.

( مَالِكٍ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ) أبا الحسن الهاشمي أمير المؤمنين كثير الفضائل ( وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ كَانَا لَا يَتَوَضَّآَنِ مِمَّا مَسَّتِ النَّارُ) لأنه ليس بناقض.

( مَالِكٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ) الأنصاري ( أَنَّهُ سَأَلَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ) العنزي حليف بني عدي ولد على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ووثقه العجلي مات سنة بضع وثمانين.

( عَنِ الرَّجُلِ يَتَوَضَّأُ لِلصَّلَاةِ ثُمَّ يُصِيبُ طَعَامًا قَدْ مَسَّتْهُ النَّارُ أَيَتَوَضَّأُ؟ قَالَ: رَأَيْتُ أَبِي) عامر بن ربيعة بن كعب بن مالك العنزي بفتح المهملة وسكون النون وزاي حليف آل الخطاب صحابي مشهور أسلم قديمًا وهاجر وشهد بدرًا مات ليالي قتل عثمان ( يَفْعَلُ ذَلِكَ وَلَا يَتَوَضَّأُ) فدل ذلك على النسخ أيضًا.

( مَالِكٍ عَنْ أَبِي نُعَيْمٍ) بضم النون ( وَهْبِ بْنِ كَيْسَانَ) القرشي مولاهم المدني المعلم عن جابر وابن عباس وابن الزبير وأسماء وعدة، وعنه مالك وابن إسحاق وأيوب السختياني وآخرون، وثقه النسائي وغيره، وروى له الجميع ومات سنة سبع وعشرين ومائة.

( أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ) بن عمرو بن حرام بمهملة وراء ( الْأَنْصَارِيَّ) السلمي بفتحتين صحابي ابن صحابي غزا تسع عشرة غزوة مع المصطفى ولم يشهد بدرًا ولا أحدًا منعه أبوه واستغفر له النبي صلى الله عليه وسلم ليلة البعير خمسًا وعشرين مرة، وكانت له حلقة في المسجد النبوي يؤخذ عنه، ومات بالمدينة وقيل بمكة وقيل بقبا سنة ثمان وسبعين أو سنة تسع أو سبع أو أربع أو ثلاث أو اثنين وهو ابن أربع وتسعين سنة.

( يَقُولُ: رَأَيْتُ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ) لسبقه لتصديق النبي صلى الله عليه وسلم وكان علي يحلف أن الله أنزل اسم أبي بكر من السماء الصديق ( أَكَلَ لَحْمًا ثُمَّ صَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ) فهؤلاء الخلفاء الأربع وعامر بن ربيعة وابن عباس فعلوا ذلك بعد النبي صلى الله عليه وسلم فدل على نسخ الوضوء مما مست النار، وقد قال مالك: إذا جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثان مختلفان وعمل أبو بكر وعمر بأحدهما دل على أن الحق ما عملا به، وكان مكحول يتوضأ مما مست النار فأخبره عطاء بن أبي رباح بحديث جابر هذا عن أبي بكر فترك الوضوء وقال: لأن يقع أبو بكر من السماء إلى الأرض أحب إليه من أن يخالف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأتى الإمام بذلك لرد قول شيخه ابن شهاب أنه ناسخ لحديث الإباحة.

روى البخاري ومسلم عن عمرو بن أمية أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يحتز كتف شاة يأكل منها فدعي إلى الصلاة فألقاها والسكين وصلى ولم يتوضأ.
زاد البيهقي قال الزهري: فذهبت تلك القصة في الناس ثم أخبر رجال من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ونساء من أزواجه أنه قال: توضئوا مما مست النار قال: وكان الزهري يرى أن الأمر بذلك ناسخ لأحاديث الإباحة لأن الإباحة سابقة واعترض عليه بحديث جابر قال: كان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك الوضوء مما مست النار رواه أبو داود والنسائي وغيرهما وصححه ابن خزيمة وابن حبان وغيرهما، لكن قال أبو داود وغيره: المراد بالأمر هنا الشأن والقصة لا مقابل النهي وأن هذا اللفظ مختصر من حديث جابر المشهور في قصة المرأة التي صنعت للنبي صلى الله عليه وسلم شاة فأكل منها ثم توضأ وصلى الظهر ثم أكل منها وصلى العصر ولم يتوضأ، فيحتمل أن هذه القصة وقعت قبل الأمر بالوضوء مما مست النار، وأن وضوءه لصلاة الظهر كان لحدث لا للأكل من الشاة.

وحكى البيهقي عن عثمان الدارمي أنه قال: لما اختلفت أحاديث الباب ولم يتبين الراجح منها نظرنا إلى ما عمل به الخلفاء الراشدون بعد النبي صلى الله عليه وسلم فرجحنا به أحد الجانبين، وبهذا يظهر حكمة ذكر الإمام لفعل الخلفاء الأربعة وغيرهم من الصحابة بعد تصديره بحديثي ابن عباس وسويد في أن المصطفى أكل مما مست النار ولم يتوضأ.

وجمع الخطابي بوجه آخر وهو أن أحاديث الأمر محمولة على الاستحباب لا على الوجوب.

( مَالِكٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ) وصله أبو داود من طريق ابن جريج والترمذي من طريق سفيان بن عيينة كلاهما عن محمد بن المنكدر عن جابر ( أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دُعِيَ لِطَعَامٍ) أي دعته امرأة من الأنصار كما في الطريق الموصولة ( فَقُرِّبَ إِلَيْهِ لَحْمٌ) من شاة ذبحتها له الأنصارية ( وَخُبْزٌ فَأَكَلَ مِنْهُ ثُمَّ تَوَضَّأَ) للأكل من الشاة أو لأنه كان محدثًا فلا دلالة فيه على وجوب الوضوء مما مست النار ولا على ندبه ( وَصَلَّى) الظهر ( ثُمَّ أُتِيَ بِفَضْلِ) أي باقي ( ذَلِكَ الطَّعَامِ فَأَكَلَ مِنْهُ ثُمَّ صَلَّى) العصر ( وَلَمْ يَتَوَضَّأْ) .

وفي رواية ابن القاسم وابن بكير: ثم دعي بفضل ذلك الطعام فقال: دعي مكان أتي فيحتمل أن صاحب الطعام سأله ذلك فأجابه لإدخال السرور عليه ويكون وقت قيامه للصلاة لم ينو الرجوع لحديث: إذا حضر الطعام فابدءوا به قبل الصلاة أي لئلا يشتغل به عن الإقبال إليها، وإن كان صلى الله عليه وسلم ليس كغيره لكنه مشرع وفيه: أنه أكل اللحم في يوم مرتين ولا يلزم أنه شبع منه فلا يعارضه قول عائشة: ما شبع من لحم في يوم مرتين كما توهم.

( مالِكٍ عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ) بالقاف ابن أبي عياش بتحتية ومعجمة القرشي مولاهم المدني عن أم خالد بنت خالد ولها صحبة ونافع وسالم والزهري وخلق، وعنه مالك وشعبة والسفيانان وابن جريج وغيرهم، وثقه أحمد ويحيى وأبو حاتم وغيرهم ولم يصح أن ابن معين لينه وقال معن وغيره: وكان مالك إذا سئل عن المغازي يقول: عليك بمغازي الرجل الصالح موسى بن عقبة فإنها أصح المغازي مات سنة إحدى وأربعين ومائة وقيل بعدها.

( عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ) بتحتية قبل الزاي ابن جارية بجيم وتحتية ( الْأَنْصَارِيِّ) أبي محمد المدني أخي عاصم بن عمر لأمه يقال ولد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وذكره ابن حبان في ثقات التابعين مات سنة ثلاث وتسعين وأبوه صحابي مشهور.

( أَنَّ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ قَدِمَ مِنَ الْعِرَاقِ فَدَخَلَ عَلَيْهِ) زوج أمه ( أَبُو طَلْحَةَ) زيد بن سهل الأنصاري النجاري مشهور بكنيته من كبار الصحابة شهد بدرًا وما بعدها مات سنة أربع وثلاثين.
وقال أبو زرعة الدمشقي: عاش بعد النبي صلى الله عليه وسلم أربعين سنة.

( وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ) الأنصاري الخزرجي أبو المنذر سيد القراء من فضلاء الصحابة في سنة موته خلف كثير فقيل سنة تسع عشرة وقيل اثنين وثلاثين وقيل غير ذلك ( فَقَرَّبَ لَهُمَا طَعَامًا قَدْ مَسَّتْهُ النَّارُ فَأَكَلُوا مِنْهُ فَقَامَ أَنَسٌ فَتَوَضَّأَ فَقَالَ) له ( أَبُو طَلْحَةَ وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ: مَا هَذَا) الفعل ( يَا أَنَسُ أَعِرَاقِيَّةٌ؟) أي أبالعراق استفدت هذا العلم وتركت عمل أهل المدينة المتلقى عن النبي صلى الله عليه وسلم ( فَقَالَ أَنَسٌ: لَيْتَنِي لَمْ أَفْعَلْ) أي لأنه يوهم للشبهة.

( وَقَامَ أَبُو طَلْحَةَ وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ فَصَلَّيَا وَلَمْ يَتَوَضَّآَ) فدل فعلهما وإنكارهما وهما منهما على أنس ورجوعه إليهما على أن إجماع أهل المدينة على أن لا وضوء مما مست النار وهو من الحجج القوية الدالة على نسخ الوضوء منه، ومن ثم ختم به هذا الباب وهو يفيد أيضًا رد ما ذهب إليه الخطابي من حمل أحاديث الأمر على الاستحباب إذ لو كان مستحبًا ما ساغ إنكارهما عليه، والله أعلم.



رقم الحديث 55 وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، دُعِيَ لِطَعَامٍ، فَقُرِّبَ إِلَيْهِ خُبْزٌ وَلَحْمٌ، فَأَكَلَ مِنْهُ، ثُمَّ تَوَضَّأَ وَصَلَّى، ثُمَّ أُتِيَ بِفَضْلِ ذَلِكَ الطَّعَامِ، فَأَكَلَ مِنْهُ ثُمَّ صَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ.


( مَالِكٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ) العدوي مولى عمر ( عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ) بلفظ ضد يمين ( عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكَلَ كَتِفَ شَاةٍ) أي لحمه.
وفي رواية للبخاري معرق أي أكل ما على العرق بفتح المهملة وسكون الراء وهو العظم ويقال له أيضًا العراق بالضم، وأفاد القاضي إسماعيل أن ذلك في بيت ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب وهي بنت عمه صلى الله عليه وسلم، ويحتمل أنه كان في بيت ميمونة كما في الصحيحين عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم أكل عندها كتفًا ثم صلى ولم يتوضأ ولا مانع من التعدد كما في الفتح.

( ثُمَّ صَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ) فهذا نص في أن لا وضوء مما مست النار، وأما خبر زيد بن ثابت مرفوعًا: الوضوء مما مست النار، وحديث أبي هريرة وعائشة رفعاه: توضئوا مما مست النار أخرج الثلاثة مسلم، وحديث جابر بن سمرة عند مسلم أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم أتوضأ من لحم الغنم؟ قال: إن شئت فتوضأ وإن شئت فلا تتوضأ قال: أتوضأ من لحم الإبل؟ قال: نعم توضأ من لحوم الإبل فقد حمل ذلك الوضوء على غسل اليد والمضمضة لزيادة دسومته وزهومة لحم الإبل، وقد نهى صلى الله عليه وسلم أن يبيت وفي يده أو فمه دسم خوفًا من عقرب ونحوها وبأنها منسوخة بقول جابر كان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك الوضوء مما مست النار رواه أبو داود وغيره.
وقد أومأ مسلم إلى النسخ فروى أولاً أحاديث زيد وأبي هريرة وعائشة، ثم عقبها بحديث ابن عباس هذا فرواه عن القعنبي والبخاري عن ابن يوسف كلاهما عن مالك به.

( مالِكٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ) بكسر العين الأنصاري ( عَنْ بُشَيْرِ) بضم الموحدة وفتح المعجمة ( بْنِ يَسَارٍ) بتحتية ومهملة ( مَوْلَى بَنِي حَارِثَةَ) من الأنصار الأنصاري الحارثي المدني وثقه ابن معين.
قال ابن سعد: كان شيخًا كبيرًا فقيهًا أدرك عامة الصحابة وكان قليل الحديث.

( عَنْ سُوَيْدِ) بضم السين ( بْنِ النُّعْمَانِ) بضم النون ابن مالك الأنصاري صحابي شهد أحدًا وما بعدها ما روى عنه سوى بشير، وذكر العسكري أنه استشهد بالقادسية قال في الإصابة: وفيه نظر لأن بشير بن يسار سمع منه وهو لم يلحق ذلك الزمان ( أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ خَرَجَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ خَيْبَرَ) بخاء معجمة مفتوحة وتحتية ساكنة وموحدة مفتوحة وراء غير منصرف للعلمية والتأنيث وهي مدينة كبيرة ذات حصون ومزارع ونخل كثير على ثمانية برد من المدينة إلى جهة الشام.
ذكر أبو عبيد البكري أنها سميت باسم رجل من العماليق نزلها وهو خيبر أخو يثرب ابنا قانية بن مهاييل، وقيل الخيبر بلسان اليهود الحصن ولذا سميت خيابر أيضًا ذكره الحازمي.

( حَتَّى إِذَا كَانُوا بِالصَّهْبَاءِ) بفتح المهملة والمد ( وَهِيَ مِنْ أَدْنَى) أي أسفل ( خَيْبَرَ) أي طرفها مما يلي المدينة وفي رواية للبخاري وهي على روحة من خيبر، وقال أبو عبيد البكري: هي على بريد، وبين البخاري في الأطعمة من حديث ابن عيينة أن قوله وهي أدنى خيبر من قول يحيى بن سعيد أدرجت ( نَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَلَّى الْعَصْرَ ثُمَّ دَعَا بِالْأَزْوَادِ) جمع زاد وهو ما يؤكل في السفر ( فَلَمْ يُؤْتَ إِلَّا بِالسَّوِيقِ) قال الداودي: وهو دقيق الشعير أو السلت المقلو، وقال غيره يكون من القمح وقد وصفه أعرابي فقال عدة المسافر وطعام العجلان وبلغة المريض ( فَأَمَرَ بِهِ فَثُرِّيَ) بضم المثلثة وشد الراء ويجوز تخفيفها أي بل بالماء لما لحقه من اليبس ( فَأَكَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) منه ( وَأَكَلْنَا) منه.
زاد في رواية للبخاري وشربنا وله في أخرى فلكنا وأكلنا وشربنا أي من الماء أو من مائع السويق.

( ثُمَّ قَامَ إِلَى الْمَغْرِبِ فَمَضْمَضَ) قبل الدخول في الصلاة ( وَمَضْمَضْنَا) وفائدتها وإن كان لا دسم في السويق أنه يحتبس بقاياه بين الأسنان ونواحي الفم فيشغله ببلعه عن الصلاة ( ثُمَّ صَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ) بسبب أكل السويق.

قال الخطابي: فيه أن الوضوء مما مست النار منسوخ لأنه متقدم، وخيبر كانت سنة سبع.
قال الحافظ: لا دلالة فيه لأن أبا هريرة حضر بعد فتحها، وروي الأمر بالوضوء كما في مسلم، وكان يفتي به بعد النبي صلى الله عليه وسلم، واستدل به البخاري على جواز صلاتين فأكثر بوضوء واحد وعلى استحباب المضمضة بعد الطعام وفيه جمع الرفقاء على الزاد في السفر وإن كان بعضهم أكثر أكلاً وحمل الأزواد في السفر وأنه لا يقدح في التوكل، وأخذ منه المهلب أن الإمام يأخذ المحتكرين بإخراج الطعام عند قلته ليبيعوه من أهل الحاجة، وأن الإمام ينظر لأهل العسكر فيجمع الزاد ليصيب منه من لا زاد معه.

وأخرجه البخاري عن عبد الله بن يوسف عن مالك به ولم يخرجه مسلم.

( مالِكٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ) بن عبد الله بن الهدير بالتصغير التيمي المدني عن أبيه وجابر وابن عمر وابن عباس وأبي أيوب وأبي هريرة وعائشة وخلق، وعنه الزهري وأبو حنيفة ومالك والسفيانان وخلق.
قال ابن عيينة: كان من معادن الصدق ويجتمع إليه الصالحون، وثقه ابن معين وأبو حاتم مات سنة ثلاثين ومائة أو بعدها بسنة.

( وَعَنْ صَفْوَانَ بْنِ سُلَيْمٍ) بضم السين ( أَنَّهُمَا أَخْبَرَاهُ) أي مالكًا ( عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَارِثِ التَّيْمِيِّ) أي تيم قريش ( عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْهُدَيْرِ) بالتصغير ابن عبد العزى بن عامر بن الحارث بن حارثة بن سعد بن تيم بن مرة التيمي، ولد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وله عن أبي بكر وعمر وغيرهما وهو معدود في كبار التابعين قاله أبو عمر، ومنهم من أدخل بين عبد الله والهدير ربيعة آخر، وذكره ابن حبان فقال: له صحبة ثم ذكره في ثقات التابعين.
وقال الدارقطني: تابع كبير قليل المسند وكان ثقة من خيار الناس مات سنة ثلاث وتسعين.

( أَنَّهُ تَعَشَّى مَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ) طعامًا مسته النار ( ثُمَّ صَلَّى) عمر ( وَلَمْ يَتَوَضَّأْ) ففيه دلالة على النسخ.
وقد روى الطبراني في مسند الشاميين بإسناد حسن عن مسلم بن عامر قال: رأيت أبا بكر وعمر وعثمان أكلوا مما مست النار ولم يتوضئوا وجاء من طرق كثيرة عن جابر مرفوعًا وموقوفًا على الثلاثة مفرقًا ومجموعًا.

( مالِكٍ عَنْ ضَمْرَةَ) بفتح المعجمة وإسكان الميم ( بْنِ سَعِيدٍ) بن أبي حنة بمهملة ثم نون وقيل موحدة الأنصاري ( الْمَازِنِيِّ) نسبة إلى مازن بن النجار المدني تابع صغير ثقة ( عَنْ أَبَانَ بْنِ عُثْمَانَ) الأموي أبي سعيد أو أبي عبد الله المدني ثقة مات سنة خمس ومائة.

( أَنَّ) أباه ( عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ) أمير المؤمنين ( أَكَلَ خُبْزًا وَلَحْمًا ثُمَّ مَضْمَضَ) فاه ( وَغَسَلَ يَدَيْهِ وَمَسَحَ بِهِمَا وَجْهَهُ) لعله خشي أن يعلق به شيء من الطعام ( ثُمَّ صَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ) فهو دليل أيضًا على نسخ الوضوء مما مست النار.

( مَالِكٍ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ) أبا الحسن الهاشمي أمير المؤمنين كثير الفضائل ( وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ كَانَا لَا يَتَوَضَّآَنِ مِمَّا مَسَّتِ النَّارُ) لأنه ليس بناقض.

( مَالِكٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ) الأنصاري ( أَنَّهُ سَأَلَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ) العنزي حليف بني عدي ولد على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ووثقه العجلي مات سنة بضع وثمانين.

( عَنِ الرَّجُلِ يَتَوَضَّأُ لِلصَّلَاةِ ثُمَّ يُصِيبُ طَعَامًا قَدْ مَسَّتْهُ النَّارُ أَيَتَوَضَّأُ؟ قَالَ: رَأَيْتُ أَبِي) عامر بن ربيعة بن كعب بن مالك العنزي بفتح المهملة وسكون النون وزاي حليف آل الخطاب صحابي مشهور أسلم قديمًا وهاجر وشهد بدرًا مات ليالي قتل عثمان ( يَفْعَلُ ذَلِكَ وَلَا يَتَوَضَّأُ) فدل ذلك على النسخ أيضًا.

( مَالِكٍ عَنْ أَبِي نُعَيْمٍ) بضم النون ( وَهْبِ بْنِ كَيْسَانَ) القرشي مولاهم المدني المعلم عن جابر وابن عباس وابن الزبير وأسماء وعدة، وعنه مالك وابن إسحاق وأيوب السختياني وآخرون، وثقه النسائي وغيره، وروى له الجميع ومات سنة سبع وعشرين ومائة.

( أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ) بن عمرو بن حرام بمهملة وراء ( الْأَنْصَارِيَّ) السلمي بفتحتين صحابي ابن صحابي غزا تسع عشرة غزوة مع المصطفى ولم يشهد بدرًا ولا أحدًا منعه أبوه واستغفر له النبي صلى الله عليه وسلم ليلة البعير خمسًا وعشرين مرة، وكانت له حلقة في المسجد النبوي يؤخذ عنه، ومات بالمدينة وقيل بمكة وقيل بقبا سنة ثمان وسبعين أو سنة تسع أو سبع أو أربع أو ثلاث أو اثنين وهو ابن أربع وتسعين سنة.

( يَقُولُ: رَأَيْتُ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ) لسبقه لتصديق النبي صلى الله عليه وسلم وكان علي يحلف أن الله أنزل اسم أبي بكر من السماء الصديق ( أَكَلَ لَحْمًا ثُمَّ صَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ) فهؤلاء الخلفاء الأربع وعامر بن ربيعة وابن عباس فعلوا ذلك بعد النبي صلى الله عليه وسلم فدل على نسخ الوضوء مما مست النار، وقد قال مالك: إذا جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثان مختلفان وعمل أبو بكر وعمر بأحدهما دل على أن الحق ما عملا به، وكان مكحول يتوضأ مما مست النار فأخبره عطاء بن أبي رباح بحديث جابر هذا عن أبي بكر فترك الوضوء وقال: لأن يقع أبو بكر من السماء إلى الأرض أحب إليه من أن يخالف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأتى الإمام بذلك لرد قول شيخه ابن شهاب أنه ناسخ لحديث الإباحة.

روى البخاري ومسلم عن عمرو بن أمية أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يحتز كتف شاة يأكل منها فدعي إلى الصلاة فألقاها والسكين وصلى ولم يتوضأ.
زاد البيهقي قال الزهري: فذهبت تلك القصة في الناس ثم أخبر رجال من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ونساء من أزواجه أنه قال: توضئوا مما مست النار قال: وكان الزهري يرى أن الأمر بذلك ناسخ لأحاديث الإباحة لأن الإباحة سابقة واعترض عليه بحديث جابر قال: كان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك الوضوء مما مست النار رواه أبو داود والنسائي وغيرهما وصححه ابن خزيمة وابن حبان وغيرهما، لكن قال أبو داود وغيره: المراد بالأمر هنا الشأن والقصة لا مقابل النهي وأن هذا اللفظ مختصر من حديث جابر المشهور في قصة المرأة التي صنعت للنبي صلى الله عليه وسلم شاة فأكل منها ثم توضأ وصلى الظهر ثم أكل منها وصلى العصر ولم يتوضأ، فيحتمل أن هذه القصة وقعت قبل الأمر بالوضوء مما مست النار، وأن وضوءه لصلاة الظهر كان لحدث لا للأكل من الشاة.

وحكى البيهقي عن عثمان الدارمي أنه قال: لما اختلفت أحاديث الباب ولم يتبين الراجح منها نظرنا إلى ما عمل به الخلفاء الراشدون بعد النبي صلى الله عليه وسلم فرجحنا به أحد الجانبين، وبهذا يظهر حكمة ذكر الإمام لفعل الخلفاء الأربعة وغيرهم من الصحابة بعد تصديره بحديثي ابن عباس وسويد في أن المصطفى أكل مما مست النار ولم يتوضأ.

وجمع الخطابي بوجه آخر وهو أن أحاديث الأمر محمولة على الاستحباب لا على الوجوب.

( مَالِكٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ) وصله أبو داود من طريق ابن جريج والترمذي من طريق سفيان بن عيينة كلاهما عن محمد بن المنكدر عن جابر ( أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دُعِيَ لِطَعَامٍ) أي دعته امرأة من الأنصار كما في الطريق الموصولة ( فَقُرِّبَ إِلَيْهِ لَحْمٌ) من شاة ذبحتها له الأنصارية ( وَخُبْزٌ فَأَكَلَ مِنْهُ ثُمَّ تَوَضَّأَ) للأكل من الشاة أو لأنه كان محدثًا فلا دلالة فيه على وجوب الوضوء مما مست النار ولا على ندبه ( وَصَلَّى) الظهر ( ثُمَّ أُتِيَ بِفَضْلِ) أي باقي ( ذَلِكَ الطَّعَامِ فَأَكَلَ مِنْهُ ثُمَّ صَلَّى) العصر ( وَلَمْ يَتَوَضَّأْ) .

وفي رواية ابن القاسم وابن بكير: ثم دعي بفضل ذلك الطعام فقال: دعي مكان أتي فيحتمل أن صاحب الطعام سأله ذلك فأجابه لإدخال السرور عليه ويكون وقت قيامه للصلاة لم ينو الرجوع لحديث: إذا حضر الطعام فابدءوا به قبل الصلاة أي لئلا يشتغل به عن الإقبال إليها، وإن كان صلى الله عليه وسلم ليس كغيره لكنه مشرع وفيه: أنه أكل اللحم في يوم مرتين ولا يلزم أنه شبع منه فلا يعارضه قول عائشة: ما شبع من لحم في يوم مرتين كما توهم.

( مالِكٍ عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ) بالقاف ابن أبي عياش بتحتية ومعجمة القرشي مولاهم المدني عن أم خالد بنت خالد ولها صحبة ونافع وسالم والزهري وخلق، وعنه مالك وشعبة والسفيانان وابن جريج وغيرهم، وثقه أحمد ويحيى وأبو حاتم وغيرهم ولم يصح أن ابن معين لينه وقال معن وغيره: وكان مالك إذا سئل عن المغازي يقول: عليك بمغازي الرجل الصالح موسى بن عقبة فإنها أصح المغازي مات سنة إحدى وأربعين ومائة وقيل بعدها.

( عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ) بتحتية قبل الزاي ابن جارية بجيم وتحتية ( الْأَنْصَارِيِّ) أبي محمد المدني أخي عاصم بن عمر لأمه يقال ولد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وذكره ابن حبان في ثقات التابعين مات سنة ثلاث وتسعين وأبوه صحابي مشهور.

( أَنَّ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ قَدِمَ مِنَ الْعِرَاقِ فَدَخَلَ عَلَيْهِ) زوج أمه ( أَبُو طَلْحَةَ) زيد بن سهل الأنصاري النجاري مشهور بكنيته من كبار الصحابة شهد بدرًا وما بعدها مات سنة أربع وثلاثين.
وقال أبو زرعة الدمشقي: عاش بعد النبي صلى الله عليه وسلم أربعين سنة.

( وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ) الأنصاري الخزرجي أبو المنذر سيد القراء من فضلاء الصحابة في سنة موته خلف كثير فقيل سنة تسع عشرة وقيل اثنين وثلاثين وقيل غير ذلك ( فَقَرَّبَ لَهُمَا طَعَامًا قَدْ مَسَّتْهُ النَّارُ فَأَكَلُوا مِنْهُ فَقَامَ أَنَسٌ فَتَوَضَّأَ فَقَالَ) له ( أَبُو طَلْحَةَ وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ: مَا هَذَا) الفعل ( يَا أَنَسُ أَعِرَاقِيَّةٌ؟) أي أبالعراق استفدت هذا العلم وتركت عمل أهل المدينة المتلقى عن النبي صلى الله عليه وسلم ( فَقَالَ أَنَسٌ: لَيْتَنِي لَمْ أَفْعَلْ) أي لأنه يوهم للشبهة.

( وَقَامَ أَبُو طَلْحَةَ وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ فَصَلَّيَا وَلَمْ يَتَوَضَّآَ) فدل فعلهما وإنكارهما وهما منهما على أنس ورجوعه إليهما على أن إجماع أهل المدينة على أن لا وضوء مما مست النار وهو من الحجج القوية الدالة على نسخ الوضوء منه، ومن ثم ختم به هذا الباب وهو يفيد أيضًا رد ما ذهب إليه الخطابي من حمل أحاديث الأمر على الاستحباب إذ لو كان مستحبًا ما ساغ إنكارهما عليه، والله أعلم.



رقم الحديث 146 حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ أَنَّهُ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَرَادَ أَنْ يَتَّخِذَ خَشَبَتَيْنِ، يُضْرَبُ بِهِمَا لِيَجْتَمِعَ النَّاسُ لِلصَّلَاةِ، فَأُرِيَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ الْأَنْصَارِيُّ ثُمَّ مِنْ بَنِي الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ خَشَبَتَيْنِ فِي النَّوْمِ.
فَقَالَ: إِنَّ هَاتَيْنِ لَنَحْوٌ مِمَّا يُرِيدُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقِيلَ: أَلَا تُؤَذِّنُونَ لِلصَّلَاةِ؟ فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ اسْتَيْقَظَ، فَذَكَرَ لَهُ ذَلِكَ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْأَذَانِ.


( مَالِكٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ) الأنصاري ( أَنَّهُ قَالَ) مرسلاً ( كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) لما كثر الناس ( قَدْ أَرَادَ أَنْ يَتَّخِذَ خَشَبَتَيْنِ) هما الناقوس وهو خشبة طويلة تضرب بخشبة أصغر منها فيخرج منهما صوت كما في الفتح وغيره ( يُضْرَبُ بِهِمَا لِيَجْتَمِعَ النَّاسُ لِلصَّلَاةِ) .

قال ابن عمر: كان المسلمون حين قدموا المدينة يجتمعون فيتحينون الصلاة ليس ينادى لها فتكلموا يومًا في ذلك فقال بعضهم: أنتخذ ناقوسًا مثل ناقوس النصارى، وقال بعضهم: بل بوقًا مثل قرن اليهود، الحديث في الصحيحين.

وقال أنس: لما كثر الناس ذكروا أن يعلموا وقت الصلاة بشيء يعرفونه فذكروا أن يوروا نارًا أو يضربوا ناقوسًا رواه البخاري ومسلم وفيه اختصار وهو في أبي داود وغيره بإسناد صحيح عن أبي عمير بن أنس عن عمومة له من الأنصار اهتم النبي صلى الله عليه وسلم للصلاة كيف يجمع الناس لها قيل له: انصب راية فإذا رآها الناس أذن بعضهم بعضًا فلم يعجبه ذلك فذكر له القبع أي شبور اليهود فقال: هو من أمر اليهود، فذكر له الناقوس فقال هو من أمر النصارى وكأنه كرهه أولاً ثم أمر بعمله، ففي أبي داود عن عبد الله بن زيد لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناقوس يعمل ليضرب به للناس ليجتمعوا للصلاة طاف بي وأنا نائم رجل يحمل ناقوسًا.

( فَأُرِيَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ) بن ثعلبة بن عبد ربه أبو محمد ( الْأَنْصَارِيُّ ثُمَّ مِنْ بَنِي الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ) فيقال له الخزرجي الحارثي شهد العقبة وبدرًا.
قال الترمذي: لا نعرف له عن النبي صلى الله عليه وسلم شيئًا إلا هذا الحديث الواحد في الأذان وكذا قال ابن عدي.

قال في الإصابة: وأطلق غير واحد أنه ما له غيره وهو خطأ فقد جاءت عنه أحاديث ستة أو سبعة جمعتها في جزء مفرد، ومات سنة اثنين وثلاثين وهو ابن أربع وستين وصلى عليه عثمان قاله ولده محمد بن عبد الله نقله المدايني.
وقال الحاكم: الصحيح أنه قتل بأحد فالروايات عنه كلها منقطعة وخالف ذلك في المستدرك.

( خَشَبَتَيْنِ فِي النَّوْمِ) متعلق بأري ( فَقَالَ: إِنَّ هَاتَيْنِ لَنَحْوٌ مِمَّا يُرِيدُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أن يجمع به الناس للصلاة ( فَقِيلَ أَلَا تُؤَذِّنُونَ لِلصَّلَاةِ) وأسمعه الأذان فاستيقظ ( فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ اسْتَيْقَظَ فَذَكَرَ لَهُ ذَلِكَ) فقال: إنها لرؤيا حق إن شاء الله ( فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْأَذَانِ) كذا أورد الحديث مرسلاً مختصرًا كما سمعه من يحيى بن سعيد.

قال ابن عبد البر: وروى قصة عبد الله بن زيد هذه في بدء الأذان جماعة من الصحابة بألفاظ مختلفة ومعان متقاربة والأسانيد في ذلك متواترة وهي من وجوه حسان انتهى.

وأخرج أبو داود والترمذي وقال حسن صحيح وابن ماجه وابن خزيمة وابن حبان وصححاه من حديث محمد بن عبد الله بن زيد قال: حدثني أبي لما أمر صلى الله عليه وسلم بالناقوس يعمل به للناس ليجتمعوا للصلاة طاف بي وأنا نائم رجل يحمل ناقوسًا في يده فقلت: يا عبد الله أتبيع الناقوس؟ قال: وما تصنع به فقلت: ندعو به إلى الصلاة، قال: أفلا أدلك على ما هو خير من ذلك؟ فقلت: بلى.
قال: تقول الله أكبر فذكره مربع التكبير بلا ترجيع.
قال: ثم استأخر عني غير بعيد فقال: تقول إذا قمت إلى الصلاة فذكر الإقامة مفردة وثنى قد قامت الصلاة، فلما أصبحت أتيت رسول الله فأخبرته بما رأيت فقال: إنها لرؤيا حق إن شاء الله فقم مع بلال فألق عليه ما رأيت فليؤذن به فإنه أندى منك صوتًا فقمت مع بلال فجعلت ألقيه عليه ويؤذن به قال: فسمع بذلك عمر بن الخطاب وهو في بيته فخرج يجر رداءه يقول: والذي بعثك بالحق يا رسول الله لقد رأيت مثل ما أري.
فقال صلى الله عليه وسلم: فلله الحمد اهـ.
لفظ أبي داود وهو كالشرح لمرسل الموطأ.

ونقل ابن خزيمة عن محمد بن يحيى الذهلي بذال ولام أن هذه الطريق أصح طرقه وشاهده حديث عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن سعيد بن المسيب مرسلاً، ومنهم من وصله عن سعيد عن عبد الله بن زيد والمرسل أقوى إسنادًا.
ولأحمد عن معاذ بن جبل أن عبد الله بن زيد قال: يا رسول الله إني رأيت فيما يرى النائم ولو قلت إني لم أكن نائمًا لصدقت رأيت شخصًا عليه ثوبان أخضران فاستقبل القبلة فقال: الله أكبر، فذكر الحديث.

وعند أبي داود في حديث أبي عمير بن أنس عن عمومته من الأنصار وكان عمر قد رآه قبل ذلك فكتمه عشرين يومًا ثم أخبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: ما منعك أن تخبرني؟ فقال: سبقني عبد الله بن زيد فاستحيت وظاهره يعارض ما قبله.

قال الحافظ: ولا مخالفة لأنه يحمل على أنه لم يخبر بذلك عقب إخبار عبد الله بن زيد بل متراخيًا عنه فقوله: ما منعك أن تخبرني أي عقب إخبار عبد الله فاعتذر بالاستحياء فدل على أنه لم يخبره على الفور انتهى.
وبعده لا يخفى مع قوله فسمع عمر فخرج يقول: يا رسول الله لقد رأيت مثل ما أري فجعله حالاً من فاعل خرج أي قائلاً في حال خروجه، لكنه لا يمتنع للجمع بين الحديثين مع صحتهما.

وللطبراني في الأوسط أن أبا بكر أيضًا رأى الأذان، وذكر الجيلي في شرح التنبيه أنه رآه أربعة عشر رجلاً، وأنكره ابن الصلاح فقال: لم أجده بعد إمعان البحث، ثم النووي فقال في تنقيحه: هذا ليس بثابت ولا معروف، وإنما الثابت خروج عمر يجر رداءه.
وفي سيرة مغلطاي عن بعض كتب الفقهاء أنه رآه سبعة من الأنصار.

قال الحافظ: ولا يثبت شيء من ذلك إلا لعبد الله بن زيد، وقصة عمر جاءت في بعض طرقه.

وفي مسند الحارث بن أبي أسامة بسند واهٍ عن كثير الحضرمي قال: أول من أذن بالصلاة جبريل في السماء الدنيا فسمعه عمر وبلال فسبق عمر بلالاً فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم، ثم جاء بلال فقال له: سبقك بها عمر.
قال: وقد استشكل إثبات حكم الأذان برؤيا عبد الله بن زيد لأن رؤيا غير الأنبياء لا ينبني عليها حكم شرعي.

وأجيب باحتمال مقارنة الوحي لذلك أو لأنه صلى الله عليه وسلم أمر بمقتضى الرؤيا لينظر أيقر على ذلك أم لا.
ولا سيما لما رأى نظمها يبعد دخول الوسواس فيه وهذا ينبني على القول بجواز اجتهاده في الأحكام وهو المنصور في الأصول، ويؤيد الأول ما رواه عبد الرزاق وأبو داود في المراسيل عن عبيد بن عمير أحد كبار التابعين أن عمر لما رأى الأذان جاء ليخبر به النبي صلى الله عليه وسلم فوجد الوحي قد ورد بذلك فما راعه إلا أذان بلال فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: سبقك بذلك الوحي وهذا أصح مما حكى الداودي عن ابن إسحاق أن جبريل أتى النبي صلى الله عليه وسلم بالأذان قبل أن يخبره عبد الله بن زيد وعمر بثمانية أيام.

وجاءت أحاديث تدل على أن الأذان شرع بمكة قبل الهجرة.
منها للطبراني عن ابن عمر قال: لما أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم أوحى الله إليه الأذان فنزل به فعلمه بلالاً، وفي إسناده طلحة بن زيد وهو متروك وللدارقطني عن أنس أن جبريل أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالأذان حين فرضت الصلاة وإسناده ضعيف أيضًا.
ولابن مردويه عن عائشة مرفوعًا: لما أسري بي أذن جبريل فظنت الملائكة أنه يصلي بهم فقدمني فصليت وفيه من لا يعرف.
وللبزار وغيره عن علي: لما أراد الله أن يعلم رسوله الأذان أتاه جبريل بالبراق فركبها، الحديث.
وفيه: إذ خرج ملك من الحجاب فقال: الله أكبر، وفي آخره فأخذ الملك بيده فأم بأهل السماء، وفي إسناده زياد بن المنذر أبو الجارود وهو متروك أيضًا، ويمكن على تقدير الصحة أن يحمل على تعدد الإسراء فيكون وقع ذلك بالمدينة.
وقول القرطبي لا يلزم من كونه سمعه ليلة الإسراء أن يكون مشروعًا في حقه فيه نظر لقوله أوله لما أراد الله أن يعلم رسوله الأذان، وكذا قول المحب الطبري يحمل الأذان ليلة الإسراء على الأذان اللغوي وهو الإعلام فيه نظر أيضًا لتصريحه بصفته المشروعة فيه، والحق أنه لا يصح شيء من هذه الأحاديث.

وقد جزم ابن المنذر بأنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي بلا أذان منذ فرضت الصلاة بمكة إلى أن هاجر إلى المدينة إلى أن وقع التشاور في ذلك على ما في حديث ابن عمر ثم في حديث عبد الله بن زيد انتهى.

ومن الواهي أيضًا ما لابن شاهين عن زياد بن المنذر حدثني العلاء قال قلت لابن الحنفية: كنا نتحدث أن الأذان رؤيا رآها رجل من الأنصار ففزع وقال: عمدتم إلى أحسن دينكم فزعمتم أنه كان رؤيا هذا والله الباطل، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما عرج به انتهى إلى مكان من السماء وقف وبعث الله ملكًا ما رآه أحد في السماء قبل ذلك اليوم فعلمه الأذان ففيه كما رأيت زياد بن المنذر متروك، وقد صرح الحافظ الذهبي بأن هذا باطل.

قال الحافظ: وقد حاول السهيلي الجمع فتكلف وتعسف والأخذ بما صح أولى فقال بانيًا على صحة الحكمة في مجيء الأذان على لسان الصحابي أن النبي صلى الله عليه وسلم سمعه فوق سبع سموات وهو أقوى من الوحي فلما تأخر الأمر بالأذان عن فرض الصلاة وأراد إعلامهم بالوقت رأى الصحابي المنام فقصه فوافق ما كان صلى الله عليه وسلم سمعه فقال: إنها لرؤيا حق، وعلم حينئذ أن مراد الله بما أراه في السماء أن يكون سنة في الأرض وتقوى ذلك بموافقة عمر لأن السكينة تنطق على لسانه والحكمة أيضًا في إعلام الناس به على غير لسانه صلى الله عليه وسلم التنويه بقدره والرفع لذكره بلسان غيره ليكون أقوى لأمره وأفخر لشأنه انتهى ملخصًا.

والثاني حسن بديع ويؤخذ من عدم الاكتفاء برؤية عبد الله بن زيد حتى أضيف إليه عمر للتقوية التي ذكرها ولم يقتصر على عمر ليصير في معنى الشهادة وجاء في رواية ضعيفة ما ظاهره أن بلالاً رأى أيضًا لكنها مؤولة فإن لفظها سبقك بها بلال فيحمل على مباشرة التأذين برؤيا عبد الله بن زيد، ومما يكثر السؤال عنه هل باشر النبي صلى الله عليه وسلم الأذان بنفسه، وقد روى الترمذي بإسناد حسن عن يعلى بن مرة الثقفي أن النبي صلى الله عليه وسلم أذن في سفر وصلى بأصحابه وهم على رواحلهم السماء من فوقهم والبلة من أسفلهم.

قال السهيلي: فنزع بعض الناس بهذا الحديث أنه صلى الله عليه وسلم أذن بنفسه، لكن روى الحديث الدارقطني بسند الترمذي ومتنه وقال فيه: فأمر بالأذان فقام المؤذن فأذن والمفصل يقضي على المجمل المحتمل انتهى.

وتبع هذا البعض النووي فجزم أن النبي صلى الله عليه وسلم أذن مرة في سفره وعزاه للترمذي وقواه، وتعقبه الحافظ فقال: ولكن وجدنا الحديث في مسند أحمد من الوجه الذي أخرجه منه الترمذي بلفظ فأمر بلالاً فأذن فعرف أن في رواية الترمذي اختصارًا وأن معنى أذن أمر بلالاً به كما يقال أعطى الخليفة العالم الفلاني ألفًا وإنما باشر العطاء غيره ونسب للخليفة لكونه أمر به انتهى.

وانتصر بعض للنووي تبعًا للبعض بأن هذا إنما يصار إليه لو لم يحتمل تعدد الواقعة، أما إذا أمكن فيجب المصير إليه إبقاء لأذن على حقيقته عملاً بقاعدة الأصول أنه يجب إبقاء اللفظ على حقيقته وهو مردود بأن ذلك إنما يصح إذا اختلف سند الحديث ومخرجه، أما مع الاتحاد فلا ويجب رجوع المجمل إلى المفصل عملاً بقاعدة الأصول وأهل الحديث.

وقال بعض المحدثين لو لم نكتب الحديث من ستين وجهًا ما عقلناه لاختلاف الرواة في ألفاظه ونحوها: نعم قال السيوطي في شرح البخاري: قد ظفرت بحديث آخر مرسلاً رواه سعيد بن منصور، حدثنا أبو معاوية، حدثنا عبد الرحمن بن أبي بكر القرشي، عن ابن أبي مليكة، قال: أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرة فقال: حي على الفلاح قال وهذه رواية لا تقبل التأويل انتهى.
فهذا الذي يجزم فيه بالتعدد لاختلاف سنده وانظر ما أحسن قوله آخر لكن لم يبين هل كان في سفر أو حضر.

( مَالِكٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَزِيدَ) بتحتية وزاي ( اللَّيْثِيِّ) المدني نزيل الشام من ثقات التابعين ورجال الجميع، مات سنة خمس أو سبع ومائة وقد جاوز الثمانين، ولأبي عوانة من رواية ابن وهب عن مالك ويونس عن الزهري أن عطاء بن يزيد أخبره ( عَنْ أَبِي سَعِيدٍ) سعد بن مالك بن سنان بن عبيد الأنصاري ( الْخُدْرِيِّ) له ولأبيه صحبة واستصغر بأحد ثم شهد ما بعدها روى الكثير ومات بالمدينة سنة ثلاث أو أربع أو خمس وستين وقيل سنة أربع وسبعين.

( أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِذَا سَمِعْتُمُ النِّدَاءَ) أي الأذان سمي به لأنه نداء إلى الصلاة ودعاء إليها ( فَقُولُوا مِثْلَ مَا يَقُولُ الْمُؤَذِّنُ) ادعى ابن وضاح أن قوله المؤذن مدرج وأن الحديث انتهى بقوله ما يقول، وتعقب بأن الإدراج لا يثبت بمجرد الدعوى، وقد اتفقت الروايات في الصحيحين والموطأ على إثباتها، ولم يصب صاحب العمدة في حذفها وظاهره اختصاص الإجابة بمن سمع حتى لو رأى المؤذن على المنارة مثلاً في الوقت وعلم أنه يؤذن، لكن لم يسمع أذانه لبعد أو صمم لا يشرع له المتابعة قاله النووي في شرح المهذب، وقال مثل ما يقول ولم يقل مثل ما قال ليشعر بأنه يجيبه بعد كل كلمة مثل كلمتها قاله الكرماني والصريح في ذلك ما رواه النسائي عن أم حبيبة أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول مثل ما يقول المؤذن حتى يسكت.

وقال أبو الفتح اليعمري: ظاهر الحديث أنه يقول مثل ما يقول عقب فراغ المؤذن لكن الأحاديث التي تضمنت إجابة كل كلمة عقبها دلت على أن المراد المساوقة يشير إلى حديث عمر في مسلم وغيره وظاهره أيضًا أنه يقول مثله في جميع الكلمات، لكن حديث عمر أيضًا وحديث معاوية في البخاري وغيره دلا على أنه يستثنى من ذلك حي على الصلاة وحي على الفلاح فيقول بدلهما لا حول ولا قوة إلا بالله وهو المشهور عند الجمهور.

وقال ابن المنذر: يحتمل أن يكون ذلك من الاختلاف المباح فيقول تارة كذا وتارة كذا، وحكي عن بعض أهل الأصول أن الخاص والعام إذا أمكن الجمع بينهما وجب إعمالهما فلم لا يستحب للسامع أن يجمع بين الحيعلة والحوقلة وهو وجه عند الحنابلة.

وأجيب عن المشهور من حيث المعنى بأن الأذكار الزائدة على الحيعلة يشترك السامع والمؤذن في ثوابها، وأما الحيعلة فمقصودها الدعاء إلى الصلاة وذلك يحصل من المؤذن فعوض السامع عما فاته من ثوابها بثواب الحوقلة، ولقائل أن يقول يحصل للمجيب الثواب لامتثاله الأمر ويمكن أن يزداد استيقاظًا وإسراعًا إلى القيام إلى الصلاة إذا تكرر على سمعه الدعاء إليها من المؤذن ومن نفسه.
قيل: وفي الحديث دليل على أن لفظ مثل لا يقتضي المساواة من كل جهة لأنه لا يطلب برفع الصوت المطلوب من المؤذن، وفيه بحث لأن المماثلة وقعت في القول لا في صفته، والفرق أن المؤذن قصده الإعلام فاحتاج لرفع الصوت، والسامع مقصوده ذكر الله فيكفي السر أو الجهر لا مع رفع الصوت.
نعم لا يكفي إجراؤه على خاطره من غير تلفظ لظاهر الأمر بالقول وفيه جواز إجابة المؤذن في الصلاة عملاً بظاهر الأمر، ولأن المجيب لا يقصد المخاطبة واستدل به على وجوب إجابة المؤذن حكاه الطحاوي عن قوم من السلف، وبه قال الحنفية والظاهرية وابن وهب.

واستدل الجمهور لحديث مسلم وغيره أنه صلى الله عليه وسلم سمع مؤذنًا فلما كبر قال على الفطرة فلما تشهد قال خرج من النار فلما قال صلى الله عليه وسلم غير ما قال المؤذن علم أن الأمر للاستحباب، وتعقب بأنه ليس في الحديث أنه لم يقل مثل ما قال فيجوز أنه قاله ولم ينقله الراوي اكتفاء بالعادة ونقل القول الزائد، وبأنه يحتمل أن ذلك وقع قبل صدور الأمر وأن يكون لما أمر لم يرد أن يدخل نفسه في عموم من خوطب بذلك انتهى.

والحديث أخرجه البخاري عن عبد الله بن يوسف، ومسلم عن يحيى كلاهما عن مالك به.

قال الحافظ: واختلف على الزهري في إسناده وعلى مالك أيضًا لكنه اختلاف لا يقدح في صحته، فرواه عبد الرحمن بن إسحاق عن الزهري عن سعيد عن أبي هريرة أخرجه النسائي وابن ماجه، وقال أبو حاتم وأحمد بن صالح والترمذي وأبو داود: حديث مالك ومن تابعه أصح، ورواه يحيى القطان عن مالك عن الزهري عن السائب بن يزيد أخرجه مسدد في مسنده وقال: إنه خطأ.
والصواب الرواية الأولى وفيه اختلاف آخر دون ما ذكر لا نطيل به انتهى.

( مَالِكٍ عَنْ سُمَيٍّ) بضم السين المهملة بلفظ التصغير ( مَوْلَى أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) بن الحارث بن هشام ( عَنْ أَبِي صَالِحٍ) ذكوان ( السَّمَّانِ) لأنه كان يتجر في السمن والزيت فلذا قيل له الزيات أيضًا ( عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ) وضع المضارع موضع الماضي ليفيد استمرار العلم قاله الطيبي ( مَا فِي النِّدَاءِ) أي الأذان وهي رواية بشر بن عمر عن مالك عند السراج ( وَالصَّفِّ الْأَوَّلِ) زاد أبو الشيخ من طريق الأعرج عن أبي هريرة: من الخير والبركة.

وقال الطيبي: أطلق مفعول يعلم وهو ما ولم يبين الفضيلة ما هي ليفيد ضربًا من المبالغة وأنه مما لا يدخل تحت الوصف والإطلاق إنما هو في قدر الفضيلة وإلا فقد ميزت في رواية بالخير والبركة.

قال الباجي: اختلف في الصف الأول هل هو الذي يلي الإمام أو المبكر السابق إلى المسجد؟ قال القرطبي: والصحيح أنه الذي يلي الإمام قالا فإن كان بين الإمام والناس حائل كما أحدث الناس المقاصير فالصف الأول هو الذي يلي المقصورة.

وقال ابن عبد البر: لا أعلم خلافًا أن من بكر وانتظر الصلاة وإن لم يصل في الصف الأول أفضل ممن تأخر وصلى في الصف الأول وفي هذا ما يوضح معنى الصف الأول وأنه ورد من أجل البكور إليه والتقدم، وقال صلى الله عليه وسلم: أتموا الصف المقدم ثم الذي يليه فما كان من نقص فليكن في المؤخر.

( ثُمَّ لَمْ يَجِدُوا) شيئًا من وجوه الأولوية بأن يقع التساوي أما في الأذان فبأن يستووا في معرفة الوقت وحسن الصوت ونحو ذلك وأما في الصف فبأن يصلوا دفعة واحدة ويتساووا في الفضل ( إِلَّا أَنْ يَسْتَهِمُوا) أي يقترعوا ( عَلَيْهِ) أي على ما ذكر من الأمرين ليشمل الأذان والصف.

وقال ابن عبد البر: الهاء عائدة على الصف الأول لا على النداء وهو وجه الكلام، لأن الضمير يعود إلى أقرب مذكور ولا يعدل عنه إلا بدليل ونازعه القرطبي وقال: يلزم منه أن يبقى النداء ضائعًا لا فائدة له قال والضمير يعود على معنى الكلام المتقدم ومثله قوله تعالى: { { وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا } } أي جميع ما ذكر.

قال الحافظ: وقد رواه عبد الرزاق عن مالك بلفظ لاستهموا عليهما فهذا مفصح بالمراد من غير تكلف.

( لَاسْتَهَمُوا) اقترعوا ومنه قوله تعالى: { { فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ } } قال الخطابي وغيره: قيل له استهام لأنهم كانوا يكتبون أسماءهم على سهام إذا اختلفوا في شيء فمن خرج اسمه غلب، واستدل به بعضهم لمن قال بالاقتصار على مؤذن واحد وليس بظاهر لصحة استهام أكثر من واحد، ولأن الاستهام على الأذان متوجه من جهة التولية من قبل الإمام لما فيه من المزية.
وزعم بعضهم أن المراد بالاستهام هنا الترامي بالسهام وأنه خرج مخرج المبالغة واستأنس بحديث لتجالدوا عليه بالسيوف، لكن فهم البخاري أن المراد اقترعوا أولى لرواية مسلم لكانت قرعة.

وقد روى سيف بن عمر في كتاب الفتوح والطبراني عن عبد الله بن شبرمة عن شقيق وهو أبو وائل قال: افتتحنا القادسية صدر النهار فتراجعنا وقد أصيب المؤذن فتشاح الناس في الأذان بالقادسية فاختصموا إلى سعد بن أبي وقاص فأقرع بينهم فخرجت القرعة لرجل منهم فأذن، والقادسية مكان معروف بالعراق نسب إلى قادس رجل نزل به.

وحكى الجوهري أن إبراهيم الخليل قدس على ذلك المكان فلذا صار منزلاً للحاج وكان بها وقعة مشهورة للمسلمين مع الفرس في خلافة عمر سنة خمس عشرة وكان سعد يومئذ الأمير على الناس.

( وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي التَّهْجِيرِ) أي التبكير إلى الصلوات أي صلاة كانت قاله الهروي وغيره.
قال ابن عبد البر: التهجير معروف وهو البدار إلى الصلاة أول وقتها وقبله وانتظارها قال تعالى: { { فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ } } وقال صلى الله عليه وسلم: منتظر الصلاة في صلاة ما انتظرها وحسبك بهذا فضلاً وسمى صلى الله عليه وسلم انتظار الصلاة بعد الصلاة رباطًا، وجاء: رباط يوم خير من صوم شهر انتهى.

وحمله الخليل والباجي وغيرهما على ظاهره فقالوا: المراد الإتيان إلى صلاة الظهر في أول الوقت لأن التهجير مشتق من الهاجرة وهي شدة الحر نصف النهار وهو أول وقت الظهر وإلى ذلك مال البخاري.

قال الحافظ: ولا يرد على ذلك مشروعية الأمر بالإبراد لأنه أريد به الرفق، وأما من ترك قائلته وقصد إلى المسجد لينتظر الصلاة فلا يخفى ما له من الفضل.

( لَاسْتَبَقُوا إِلَيْهِ) أي التهجير.
قال ابن أبي جمرة: المراد الاستباق معنى لا حسًا لأن المسابقة على الإقدام حسًا تقتضي السرعة في المشي وهو ممنوع منه انتهى.

( وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي الْعَتَمَةِ) أي العشاء وثبت النهي عن تسميتها عتمة فهذا الحديث بيان للجواز وأن النهي ليس للتحريم أو استعمل العتمة هنا لمصلحة ونفي مفسدة لأن العرب كانت تستعمل العشاء في المغرب فلو قال ما في العشاء لحملوها على المغرب ففسد المعنى وفات المطلوب فاستعمل العتمة التي يعرفونها ولا يشكون فيها، وقواعد الشرع متظاهرة على احتمال أخف المفسدتين لدفع أعظمهما قاله النووي.

( وَالصُّبْحِ) أي ثواب صلاتهما في جماعة ( لَأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا) بفتح المهملة وسكون الموحدة أي مشيًا على اليدين والركبتين أو على مقعدته، ولابن أبي شيبة من حديث أبي الدرداء ولو حبوًا على المرافق والركب.

قال الباجي: خص هاتين الصلاتين بذلك لأن السعي إليهما أشق من غيرهما لما فيه من تنقيص أول النوم وآخره.

وقال ابن عبد البر: الآثار فيهما كثيرة منها قوله صلى الله عليه وسلم: أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر.
وقال أبو الدرداء في مرض موته: اسمعوا وبلغوا حافظوا على هاتين الصلاتين - يعني في جماعة العشاء والصبح - ولو تعلمون ما فيهما لأتيتموهما ولو حبوًا على مرافقكم وركبكم، وكذلك قال عمر وعثمان وروي مرفوعًا: شهود صلاة العشاء خير من قيام نصف ليلة وشهود صلاة الصبح خير من قيام ليلة.
وقال عمر والحسن: لأن أشهد صلاة العشاء والفجر أحب إلي من أن أحيي ما بينهما.
وقال ابن عمر: كنا إذا فقدنا الرجل في صلاة العشاء وصلاة الفجر أسأنا به الظن انتهى.

وهذا الحديث رواه البخاري عن عبد الله بن يوسف، ومسلم عن يحيى كلاهما عن مالك به.

( مَالِكٍ عَنِ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَعْقُوبَ) المدني ( عَنْ أَبِيهِ) وهو تابعي كابنه ( وَإِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ) بن أبي طلحة أحد شيوخ مالك روى عنه هنا بواسطة ( أَنَّهُمَا أَخْبَرَاهُ) أي العلاء ( أَنَّهُمَا سَمِعَا أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا ثُوِّبَ بِالصَّلَاةِ) بضم المثلثة وشد الواو وموحدة.

قال ابن عبد البر: أي أقيم وأصل ثاب رجع يقال ثاب إلى المريض جسمه فكأن المؤذن رجع إلى ضرب من الأذان للصلاة، وقد جاء هذا الحديث عن أبي هريرة بلفظ: إذا أقيمت الصلاة، وهو يبين أن التثويب هنا الإقامة انتهى.

وهي رواية الصحيحين من وجه آخر عن أبي هريرة وفي رواية لهما أيضًا: إذا سمعتم الإقامة وهي أخص من قوله في حديث أبي قتادة عندهما أيضًا إذا أتيتم الصلاة، لكن الظاهر كما قال الحافظ إنه في مفهوم الموافقة لأن المسرع إذا أقيمت الصلاة يترجى إدراك فضيلة التكبيرة الأولى ونحوها، ومع ذلك نهى عن الإسراع فغيره ممن جاء قبل الإقامة لا يحتاج إلى الإسراع لأنه يتحقق إدراك الصلاة كلها فينهى من باب أولى، ولحظ فيه بعضهم معنى آخر فقال: حكمة التقييد بالإقامة أن المسرع إذا أقيمت الصلاة يصل إليها وقد تعب فيقرأ وهو بتلك الحالة فلا يحصل له تمام الخشوع في الترتيل وغيره بخلاف من جاء قبل ذلك فلا تقام الصلاة حتى يستريح، لكن قضية هذا أنه لا يكره الإسراع لمن جاء قبل الإقامة وهو مخالف لصريح قوله: إذا أتيتم الصلاة لأنه يتناول ما قبل الإقامة وإنما قيده بالإقامة لأنها الحاملة غالبًا على الإسراع انتهى.

( فَلَا تَأْتُوهَا وَأَنْتُمْ تَسْعَوْنَ) تمشون بسرعة وتطلق على العمل نحو: { { وَمَنْ أَرَادَ الآَخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ } } { { إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى } } وعليه حمل قوله تعالى { { فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ } } كقوله: { { وَأَن لَّيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى } } أو المراد الذهاب فليس معناه الإسراع.
قال الطيبي: وأنتم تسعون حال من ضمير الفاعل وهو أبلغ في النهي من لا تسعوا وذلك لأنه مناف لما هو أولى به من الوقار والأدب وعقبه بما يدل على حسن الأدب بقوله ( وَأْتُوهَا وَعَلَيْكُمُ السَّكِينَةُ) ضبطه القرطبي بالنصب على الإغراء والنووي بالرفع على أنها جملة في موضع الحال زاد غيره أو السكينة مبتدأ وعليكم خبره، وذكر الحافظ العراقي في شرح الترمذي أن المشهور في الرواية الرفع، ووقع في رواية الحافظ أبي ذر الهروي للبخاري بالسكينة بالباء.

واستشكل بأنه متعد بنفسه عليكم أنفسكم وفيه نظر لثبوت زيادتها في أحاديث صحيحة كحديث عليكم برخصة الله، وحديث فعليه بالصوم فإنه له وجاء، وحديث عليك بالمرأة قاله لأبي طلحة في قصة صفية، وحديث عليكم بقيام الليل، وحديث عليك بخويصة نفسك وغير ذلك وتعليل هذا المعترض لا يوفي بمقصوده، إذ لا يلزم من تعديه بنفسه امتناع تعديه بالباء إذا ثبت ذلك، فيدل على أن فيه لغتين زاد في الصحيحين من وجه آخر عن أبي هريرة والوقار.
قال عياض والقرطبي: هو بمعنى السكينة وذكر للتأكيد.

وقال النووي: الظاهر أن بينهما فرقًا وأن السكينة التأني في الحركات واجتناب العبث والوقار في الهيئة كغض البصر وخفض الصوت وعدم الالتفات ذكره الحافظ، وقد منع الرضي الاعتراض بأن أسماء الأفعال وإن كان حكمها في التعدي واللزوم حكم الأفعال التي بمعناها لكن كثيرًا ما تزاد الباء في مفعولها لضعفها في العمل.

( فَمَا أَدْرَكْتُمْ) الفاء جواب شرط محذوف أي إذا فعلتم ما أمرتكم به من السكينة فما أدركتم ( فَصَلُّوا) مع الإمام ( وَمَا فَاتَكُمْ) معه ( فَأَتِمُّوا) أي أكملوا وفي رواية: فاقضوا والأولى أكثر رواية وأعمل مالك في المشهور في مذهبه الروايتين فقال يقضي القول ويبني الفعل وعنه بانيًا فيهما عملاً برواية فأتموا وعليها الشافعي حملاً لرواية فاقضوا على معنى الأداء والفراغ فلا يغاير قوله فأتموا، لأنه إذا اتحد مخرج الحديث واختلف في لفظة منه وأمكن رد الاختلاف إلى معنى واحد كان أولى.
وهنا كذلك لأن القضاء وإن كان يطلق على الفائت غالبًا لكنه يطلق على الأداء أيضًا ويرد بمعنى الفراغ كقوله تعالى: { { فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاَةُ } } وعنه يكون قاضيًا فيهما وبه قال أبو حنيفة.
وفي هذا تنبيه لدفع توهم أن النهي إنما هو لمن لم يخف فوت بعض الصلاة فصرح بالنهي وإن فات من الصلاة ما فات وبين ما يفعل فيما فات بقوله فما إلخ.

قال ابن عبد البر: الواجب أي المطلوب إتيان الصلاة بالسكينة ولو خاف فواتها لأمره صلى الله عليه وسلم بذلك وهو الحجة خلافًا لمن جوز السعي لخوف الفوات، وقد أكد ذلك ببيان العلة بقوله: ( فَإِنَّ أَحَدَكُمْ فِي صَلَاةٍ مَا كَانَ) مدة كونه ( يَعْمِدُ) بكسر الميم يقصد ( إِلَى الصَّلَاةِ) أي إنه في حكم المصلي فينبغي له اعتماد ما ينبغي للمصلي اعتماده واجتناب ما ينبغي له اجتنابه، ونبه بهذا على أنه لو لم يدرك من الصلاة شيئًا لكان محصلاً لمقصوده لكونه في صلاة، وعدم الإسراع أيضًا يستلزم كثرة الخطأ وهو معنى مقصود لذاته، وجاءت فيه أحاديث تقدم شيء منها.

وفي الصحيحين عن أنس أن بني سلمة أرادوا أن يتحولوا عن منازلهم فينزلوا قريبًا من النبي صلى الله عليه وسلم فكره أن يعروا منازلهم فقال: يا بني سلمة ألا تحتسبون آثاركم فأقاموا.
ولمسلم عن جابر فقالوا: ما يسرنا إذا كنا تحولنا.

واستدل به الجمهور على حصول فضل الجماعة بإدراك أي جزء من الصلاة لقوله: فما أدركتم فصلوا ولم يفصل بين قليل وكثير، وقيل: إنما يدرك فضلها بركعة وهو مذهب مالك للحديث السابق: من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة وقياسًا على الجمعة.
واستدل به أيضًا على طلب الدخول مع الإمام في أي حالة وجد عليها.
وأصرح منه ما أخرجه ابن أبي شيبة عن رجل من الأنصار مرفوعًا: من وجدني قائمًا أو راكعًا أو ساجدًا فليكن معي على حالتي التي أنا عليها.

واستدل به أيضًا على أن من أدرك الإمام راكعًا لم تحسب له تلك الركعة للأمر بإتمام ما فاته وقد فاته الوقوف والقراءة فيه وهو قول أبي هريرة وجماعة، واختاره ابن خزيمة وغيره، وقواه التقي السبكي.

وحجة الجمهور حديث أبي بكرة لما ركع دون الصف فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: زادك الله حرصًا ولا تعد ولم يأمره بإعادة تلك الركعة، وقد تابع مالكًا في رواية هذا الحديث عن العلاء إسماعيل بن جعفر قال: أخبرني العلاء رواه مسلم بلفظه وهو في مسند أحمد والكتب الستة من طرق عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة بلفظ: إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون وأتوها وأنتم تمشون وعليكم السكينة فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا.
وله طرق كثيرة وألفاظ متقاربة.

وأخرجه الشيخان أيضًا من حديث أبي قتادة بلفظ: إذا أتيتم الصلاة فعليكم السكينة، والباقي نحوه.

( مَالِكٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي صَعْصَعَةَ) بمهملات مفتوحات إلا العين الأولى فساكنة عمرو بن زيد ( الْأَنْصَارِيِّ ثُمَّ الْمَازِنِيِّ) بالزاي والنون من بني مازن بن النجار من الثقات، مات في خلافة المنصور ( عَنْ أَبِيهِ) عبيد الله المدني من ثقات التابعين زاد ابن عيينة وكان يتيمًا في حجر أبي سعيد وكانت أمه عند أبي سعيد أخرجه ابن خزيمة، ومات أبو صعصعة في الجاهلية وابنه عبد الرحمن صحابي.

( أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ) سعد بن مالك بن سنان الصحابي ابن الصحابي ( الْخُدْرِيَّ قَالَ لَهُ:) أي لعبد الله بن عبد الرحمن ( إِنِّي أَرَاكَ تُحِبُّ الْغَنَمَ وَالْبَادِيَةَ) أي لأجل الغنم لأن محبها يحتاج إلى إصلاحها بالمرعى وهو في الغالب يكون في البادية وهي الصحراء التي لا عمارة فيها ( فَإِذَا كُنْتَ فِي غَنَمِكَ أَوْ بَادِيَتِكَ) يحتمل أن أو شك من الراوي وأنها للتنويع لأن الغنم قد لا تكون في البادية وقد يكون في البادية حيث لا غنم قاله الحافظ وغيره.

( فَأَذَّنْتَ بِالصَّلَاةِ) أي أعلمت بوقتها.
وفي رواية للبخاري للصلاة باللام بدل الموحدة أي لأجلها ( فَارْفَعْ صَوْتَكَ بِالنِّدَاءِ) أي الأذان وفيه إشعار بأن أذان مريد الصلاة كان مقررًا عندهم لاقتصاره على الأمر بالرفع دون أصل التأذين، وفيه استحباب أذان المنفرد وهو الراجح عند الشافعية والمالكية إن سافر بناء على أن الأذان حق الوقت، ولو لم يرج حضور من يصلي معه لأنه إن فاته دعاء المصلين لم تفته شهادة من سمعه من غيرهم، وقيل لا يستحب بناء على أنه لاستدعاء الجماعة، ومنهم من فصل بين من يرجو جماعة فيستحب ومن لا فلا.

( فَإِنَّهُ لَا يَسْمَعُ مَدَى) بفتح الميم والقصر أي غاية ( صَوْتِ الْمُؤَذِّنِ) قال البيضاوي: غاية الصوت يكون للمصغي أخفى من ابتدائه فإذا شهد له من بعد عنه ووصل إليه منتهى صوته، فلأن يشهد له من دنا منه وسمع مبادي صوته أولى ( جِنٌّ) قال الرافعي: يشبه أن يريد مؤمني الجن، وأما غيرهم فلا يشهدون للمؤذن بل يفرون وينفرون من الأذان ( وَلَا إِنْسٌ) قيل خاص بالمؤمنين فأما الكافر فلا شهادة له.
قال عياض: وهذا لا يسلم لقائله لما جاء في الآثار من خلافه ( وَلَا شَيْءٌ) ظاهره يشمل الحيوانات والجمادات فهو من العام بعد الخاص ويؤيده رواية ابن خزيمة لا يسمع صوته شجر ولا مدر ولا حجر ولا جن ولا إنس، وله ولأبي داود والنسائي من طريق أبي يحيى عن أبي هريرة بلفظ: المؤذن يغفر له مدى صوته ويشهد له كل رطب ويابس ونحوه للنسائي من حديث البراء وصححه ابن السكن.

قال الخطابي: مدى الشيء غايته أي أنه يستكمل المغفرة إذا استوفى وسعه في رفع الصوت فيبلغ الغاية من المغفرة إذا بلغ الغاية من الصوت، أو أنه كلام تمثيل وتشبيه يريد أن المكان الذي ينتهي إليه الصوت لو قدر أن يكون بين أقصاه وبين مقامه الذي هو فيه ذنوب تملأ تلك المسافة غفرها الله تعالى له واستشهد المنذري لقوله الأول برواية يغفر له مد صوته بتشديد الدال أي بقدر مد صوته.

قال الحافظ: فهذه الأحاديث تبين المراد من قوله ولا شيء وتكلم بعض من لم يطلع عليها في تأويله على ما يقتضيه ظاهره، فقال القرطبي: المراد بالشيء الملائكة، وتعقب بأنهم دخلوا في الجن لأنهم يستخفون عن الأبصار، وقال غيره: المراد كل ما يسمع المؤذن من الحيوان حتى ما لا يعقل لأنه الذي يصح أن يسمع صوته دون الجمادات، ومنهم من حمله على ظاهره ولا يمتنع ذلك عقلاً ولا شرعًا.

قال ابن بزيزة: تقرر في العادة أن السماع والشهادة والتسبيح لا يكون إلا من حي فهل ذلك حكاية على لسان الحال لأن الموجودات ناطقة بلسان حالها بجلال بارئها، أو هو على ظاهره ولا يمتنع عقلاً أن الله يخلق فيها الحياة والكلام.

وتقدم البحث في ذلك في قول النار: أكل بعضي بعضًا، وفي مسلم عن جابر بن سمرة مرفوعًا: إني لأعرف حجرًا بمكة كان يسلم علي قبل أن أبعث، ونقل ابن التين عن أبي عبد الملك أن قوله هنا ولا شيء نظير قوله تعالى: { { وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ } } وتعقبه بأن الآية مختلف فيها وما عرفت وجه هذا التعقب فإنهما سواء في الاحتمال، ونقل الاختلاف إلا أن يقول إن الآية لم يختلف في كونها على عمومها، وإنما اختلف في تسبيح بعض الأشياء هل هو على الحقيقة أو المجاز بخلاف الحديث.

( إِلَّا شَهِدَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) قال الزين بن المنير: السر في هذه الشهادة مع أنها تقع عند عالم الغيب والشهادة أن أحكام الآخرة جرت على أحكام نعت الخلق في الدنيا من توجيه الدعوى والجواب والشهادة، وقال التوربشتي: المراد من هذه الشهادة إشهار المشهود له يوم القيامة بالفضل وعلو الدرجة وكما أن الله يفضح بالشهادة قومًا فكذلك يكرم بالشهادة آخرين.
وقال الباجي: فائدة ذلك أن من يشهد له يوم القيامة يكون أعظم أجرًا في الآخرة ممن أذن فلم يسمعه من يشهد له.

( قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أي هذا الكلام الأخير وهو أنه لا يسمع إلخ، فقد رواه ابن خزيمة من رواية ابن عيينة بلفظ: قال أبو سعيد إذا كنت في البوادي فارفع صوتك بالنداء فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا يسمع، فذكره.
ورواه يحيى بن سعيد القطان عن مالك بلفظ: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا أذنت فارفع صوتك فإنه لا يسمع، فذكره.

فالظاهر أن ذكر الغنم والبادية موقوف خلافًا لإيراد الرافعي الحديث في الشرح بلفظ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي سعيد: إنك رجل تحب الغنم وساقه إلى آخره وسبقه إلى ذلك الغزالي وإمام الحرمين والقاضي حسين وغيرهم وتعقبهم النووي، وأجاب ابن الرفعة عنهم بأنهم فهموا أن قوله سمعته من رسول الله عائد إلى كل ما ذكر ولا يخفى بعده ذكره الحافظ، بل تمنعه روايتا ابن عيينة والقطان، وقد خالف الرافعي نفسه فقال في شرح المسند قوله سمعته يعني قوله أنه لا يسمع إلخ انتهى وهو الصواب.

وفي الحديث استحباب رفع الصوت بالأذان ليكثر من يشهد له ما لم يجهده أو يتأذى به، وفيه أن حب الغنم والبادية ولا سيما عند نزول الفتنة من عمل السلف الصالح، وفيه جواز التبدي ومساكنة الأعراب ومشاركتهم في الأسباب بشرط حظ من العلم وأمن غلبة الجفاء.

قال ابن عبد البر: فيه إباحة لزوم البادية ولكن في البعد عن الجماعة والجمعة ما فيه من البعد عن الفضائل إلا أن الزمان إذا كثر فيه الشر وتعذرت فيه السلامة طابت العزلة وهي خير من خليط السوء والجليس الصالح خير من الوحدة.
وقال صلى الله عليه وسلم: يوشك أن يكون خير مال المسلم غنمًا يتبع بها شعف الجبال ومواضع القطر يفر بدينه من الفتن.

وهذا الحديث أخرجه البخاري هنا عن عبد الله بن يوسف وفي بدء الخلق عن قتيبة بن سعيد كلاهما عن مالك به، ولم يخرجه مسلم.

( مَالِكٍ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ) عبد الله بن ذكوان ( عَنِ الْأَعْرَجِ) عبد الله بن هرمز ( عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ) أي لأجلها، وللنسائي عن قتيبة عن مالك بالصلاة وهي رواية لمسلم أيضًا ويمكن حملهما على معنى واحد ( أَدْبَرَ الشَّيْطَانُ) إبليس على الظاهر، ويدل عليه كلام كثير من الشراح، ويحتمل أن المراد جنس الشيطان وهو كل متمرد من الجن أو الإنس لكن المراد هنا شيطان الجن خاصة ( لَهُ ضُرَاطٌ) جملة إسمية وقعت حالاً بدون واو لحصول الارتباط بالضمير وفي رواية للبخاري وله بالواو.
وقال عياض: يمكن حمله على ظاهره لأنه جسم متغذ يصح منه خروج الريح، ويحتمل أنه عبارة عن شدة نفاره ويقربه رواية مسلم له حصاص بمهملات مضموم الأول، وفسره الأصمعي وغيره بشدة العدو، وقال الطيبي: شبه شغل الشيطان نفسه عن سماع الأذان بالصوت الذي يملأ السمع ويمنعه عن سماع غيره ثم سماه ضراطًا.

( حَتَّى لَا يَسْمَعَ النِّدَاءَ) أي التأذين كما هو رواية التنيسي للموطأ ومسلم من رواية المغيرة عن أبي الزناد والمعنى واحد.
وقال الحافظ: ظاهره أنه يتعمد إخراج ذلك إما ليشتغل بسماع الصوت الذي يخرجه عن سماع المؤذن، أو يصنع ذلك استخفافًا كما تفعله السفهاء، أو ليقابل ما يناسب الصلاة من الطهارة بالحدث، ويحتمل أن لا يتعمد ذلك بل يحصل له عند سماع الأذان شدة خوف يحدث له ذلك الصوت بسببها، وفيه استحباب رفع الصوت بالأذان لأنه ظاهر في أنه يبعد إلى غاية ينتفي فيها سماعه للصوت، وقد بينت الغاية في رواية مسلم من حديث جابر فقال: حتى يكون مكان الروحاء.
قال سليمان يعني الأعمش فسألته أي أبا سفيان راويه عن جابر عن الروحاء فقال هي من المدينة ستة وثلاثون ميلاً، وقد أدرج هذا إسحاق بن راهويه في مسنده فقال: حتى يكون بالروحاء وهي ستة إلخ والمعتمد الأول.

( فَإِذَا قُضِيَ النِّدَاءُ) بضم القاف أي فرغ وانتهى منه ويروى بفتح القاف على حذف الفاعل والمراد المنادي أي: إذا قضى المنادي النداء ( أَقْبَلَ) زاد مسلم في رواية أبي صالح عن أبي هريرة فوسوس ( حَتَّى إِذَا ثُوِّبَ بِالصَّلَاةِ أَدْبَرَ) بضم المثلثة وشد الواو المكسورة قيل من ثاب إذا رجع وقيل من ثوب إذا أشار بثوبه عند الفزع لإعلام غيره.

قال الجمهور: المراد هنا الإقامة وبه جزم أبو عوانة والخطابي والبيهقي وغيرهم وقال القرطبي: ثوب بالصلاة أي أقيمت وأصله أنه رجع إلى ما يشبه الأذان وكل مردد صوت فهو مثوب ويدل عليه رواية مسلم من طريق أبي صالح عن أبي هريرة فإذا سمع الإقامة ذهب.

وزعم بعض الكوفيين أن المراد بالتثويب قول المؤذن بين الأذان والإقامة حي على الصلاة حي على الفلاح قد قامت الصلاة وحكاه ابن المنذر عن أبي يوسف عن أبي حنيفة وزعم أنه تفرد به لكن في سنن أبي داود عن ابن عمر أنه كره التثويب بين الأذان والإقامة فهذا يدل على أن له سلفًا في ذلك في الجملة ويحتمل أن يكون الذي تفرد به القول الخاص.

قال الخطابي: لا تعرف العامة التثويب إلا قول المؤذن الصلاة خير من النوم لكن المراد به هنا الإقامة.

( حَتَّى إِذَا قُضِيَ التَّثْوِيبُ) بالرفع نائب الفاعل والنصب مفعول ( أَقْبَلَ حَتَّى يَخْطِرَ) بفتح أوله وكسر الطاء كما ضبطه عياض عن المتقنين وقال: إنه الوجه ومعناه يوسوس وأصله من خطر البعير بذنبه إذا حركه فضرب به فخذيه قال: وسمعناه من أكثر الرواة بضم الطاء ومعناه المرور أي يدنو منه فيمر بينه وبين قلبه فيشغله عما هو فيه، وبهذا فسره الشارحون للموطأ وبالأول فسره الخليل وضعف الهجري في نوادره الضم وقال: هو يخطر بالكسر في كل شيء ( بَيْنَ الْمَرْءِ وَنَفْسِهِ) أي قلبه وكذا هو للبخاري من وجه آخر في بدء الخلق قال الباجي: المعنى أنه يحول بين المرء وبين ما يريده من إقباله على صلاته وإخلاصه فيها.

( يَقُولُ) الشيطان ( اذْكُرْ كَذَا اذْكُرْ كَذَا) وفي رواية للبخاري ومسلم بواو العطف واذكر كذا وللبخاري أيضًا في صلاة السهو اذكر كذا وكذا ( لِمَا لَمْ يَكُنْ يَذْكُرُ) أي لشيء لم يكن على ذكره قبل دخوله في الصلاة وفي رواية لمسلم لما لم يذكر من قبل، وله أيضًا من رواية عبد ربه عن الأعرج فهناه ومناه وذكره من حاجاته ما لم يكن يذكر.

ومن ثم استنبط أبو حنيفة للذي شكا إليه أنه دفن مالاً ثم لم يهتد لمكانه أن يصلي ويحرص على أن لا يحدث نفسه بشيء من أمر الدنيا ففعل فذكر مكان المال في الحال قيل خصه بما يعلم دون ما لم يعلم لأنه يميل لما يعلم أكثر لتحقق وجوده، والذي يظهر أنه أعم من ذلك فيذكره لما سبق له به علم ليشغل باله به ولما لم يكن سبق له ليوقعه في الفكرة فيه وهذا أعم من أن يكون في أمور الدنيا أو في أمور الدين كالعلم.
لكن هل يشمل ذلك التفكر في معاني الآيات التي يتلوها لا يبعد ذلك لأن غرضه نقص خشوعه وإخلاصه بأي وجه كان.

( حَتَّى يَظَلَّ الرَّجُلُ) بالظاء المعجمة المفتوحة رواية الجمهور ومعناه في الأصل اتصاف المخبر عنه بالخبر نهارًا لكنها هنا بمعنى يصير أو يبقى، وفي رواية بالضاد الساقطة مكسورة أي ينسى، ومنه أن تضل إحداهما أو يخطئ ومنه { { لاَّ يَضِلُّ رَبِّي وَلاَ يَنسَى } } ومفتوحة أي يتحير من الضلال وهو الحيرة والمشهور الأول ( إِنْ يَدْرِي) بكسر همزة إن النافية بمعنى لا، وفي رواية التنيسي لا يدري وروي بفتح الهمزة ونسبها ابن عبد البر لأكثر رواة الموطأ ووجهها بما تعقبه عليه جماعة وقال القرطبي: ليست رواية الفتح بشيء إلا مع رواية الضاد الساقطة فيكون أن والفعل بتأويل المصدر ومفعول ضل إن بإسقاط حرف الجر أي يضل عن درايته وكذا قال عياض لا يصح فتحها إلا على رواية يضل بكسر الضاد فتكون أن مع الفعل مفعوله أي يجهل درايته وينسى عدد ركعاته ( كَمْ صَلَّى) .

وللبخاري في بدء الخلق من وجه آخر عن أبي هريرة: حتى لا يدري أثلاثًا صلى أم أربعًا.

واختلف العلماء في حكمة هروب الشيطان عند سماع الأذان والإقامة دون سماع القرآن والذكر في الصلاة فقيل: حتى لا يشهد للمؤذن يوم القيامة فإنه لا يسمع صوته جن ولا إنس إلا شهد له كما تقدم، وقيل نفورًا عن سماع الأذان ثم يرجع موسوسًا ليفسد على المصلي صلاته فصار رجوعه من جنس فراره، والجامع بينهما الاستخفاف وقيل: لأن الأذان دعاء إلى الصلاة المشتملة على السجود الذي أباه وعصى بسببه.

واعترض بأنه يعود قبل السجود فلو كان هروبه لأجله لم يعد إلا عند فراغه.

وأجيب: بأنه يهرب عند سماع الدعاء لذلك ليغالط نفسه بأنه لم يخالف أمرًا ثم يرجع ليفسد على المصلي سجوده الذي أباه وقيل إنما يهرب لاتفاق الجميع على الإعلان بشهادة الحق وإقامة الشريعة.

واعترض بأن الاتفاق على ذلك حاصل قبل الأذان وبعده من جميع من يصلي.
وأجيب: بأن الإعلان أخص من الاتفاق فإن الإعلان المختص بالأذان لا يشاركه فيه غيره من الجهر بالتكبير والشهادة مثلاً، ولذا قال لعبد الله بن زيد: ألقه على بلال فإنه أندى منك صوتًا أي اقعد بالمد والإطالة والإسماع ليعم الصوت ويطول أمد التأذين فيكثر الجمع ويفوت على الشيطان مقصوده من إلهاء الآدمي عن إقامة الصلاة في جماعة أو إخراجها عن وقتها أو وقت فضيلتها، فيفر حينئذ وقد يئس أن يردهم عما أعلنوا به ثم يرجع لما طبع عليه من الأذى إلى الوسوسة.

وقال ابن الجوزي: على الأذان هيئة يشتد انزعاج الشيطان بسببها لأنه لا يكاد يقع في الأذان رياء ولا غفلة عند النطق به لأن النفس لا تحضره بخلاف الصلاة، فإن النفس تحضر فيها فيفتح لها الشيطان أبواب الوسوسة.

وقد ترجم عليه أبو عوانة في صحيحه الدليل على أن المؤذن في أذانه وإقامته منفي عنه الوسوسة والرياء لتباعد الشيطان منه وقيل لأن الأذان إعلام بالصلاة التي هي أفضل الأعمال بألفاظ هي من أفضل الذكر لا يزاد فيها ولا ينقص منها بل تقع على وفق الأمر فيفر من سماعها، وأما الصلاة فلما يقع من كثير من الناس فيها من التفريط تمكن الخبيث من المفرط فلو قدر أن المصلي وفي جميع ما أمر به فيها لم يقربه فيها إن كان وحده وهو نادر، وكذا إذا انضم إليه من هو مثله وهو أندر أشار إليه ابن أبي جمرة.

قال ابن بطال: ويشبه أن يكون الزجر عن الخروج من المسجد بعد الأذان من هذا المعنى لئلا يكون متشبهًا بالشيطان الذي يفر عند سماع الأذان، وفهم بعض السلف من هذا الحديث الإتيان بصورة الأذان وإن لم يوجد فيه شروط الأذان من وقوعه في الوقت وغير ذلك، ففي مسلم من رواية سهيل بن أبي صالح قال: أرسلني أبي إلى بني حارثة ومعي غلام لنا أو صاحب لنا فناداه مناد من حائط باسمه فأشرف الذي معي على الحائط فلم ير شيئًا فذكرت ذلك لأبي فقال: لو شعرت أنك تلقى هذا لم أرسلك ولكن إذا سمعت صوتًا فناد بالصلاة فإني سمعت أبا هريرة يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: إن الشيطان إذا نودي بالصلاة ولى وله حصاص.

وقال ابن عبد البر: قال مالك: استعمل زيد بن أسلم على معدن بني سليم وكان لا يزال يصاب فيه الناس من الجن فلما وليهم شكوا ذلك إليه فأمرهم بالأذان وأن يرفعوا أصواتهم به ففعلوا فارتفع ذلك عنهم فهم عليه حتى اليوم.
قال مالك: أعجبني ذلك من زيد وذكرت الغيلان عند عمر بن الخطاب فقال: إن شيئًا من الخلق لا يستطيع أن يتحول في غير خلقه ولكن للجن سحرة كما للإنس سحرة فإذا خشيتم شيئًا من ذلك فأذنوا بالصلاة.

وهذا الحديث رواه البخاري عن عبد الله بن يوسف عن مالك به، ورواه في السهو عن الليث عن جعفر بن ربيعة عن الأعرج به، ومسلم من طريق المغيرة الخزاعي عن أبي الزناد به، ومن طريق الأعمش وسهيل كلاهما عن أبي صالح عن أبي هريرة بنحوه.

( مَالِكٍ عَنْ أَبِي حَازِمِ) بمهملة وزاي سلمة ( بْنِ دِينَارٍ) الأعرج المدني العابد الثقة من رجال الجميع قال أبو عمر: كان أبو حازم هذا أحد الفضلاء الحكماء العلماء الثقات الأثبات وله حكم وزهديات ومواعظ ورقائق ومقطعات ومات سنة أربعين ومائة على الأصح وقيل: غير ذلك.

( عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ) بن مالك بن خالد الأنصاري الخزرجي ( السَّاعِدِيِّ) أبي العباس الصحابي ابن الصحابي مات سنة ثمان وثمانين وقيل بعدها وقد جاوز المائة ( أَنَّهُ قَالَ سَاعَتَانِ) قال ابن عبد البر: هذا الحديث موقوف عند جماعة رواة الموطأ ومثله لا يقال بالرأي، وقد رواه أيوب بن سويد ومحمد بن مخلد وإسماعيل بن عمرو عن مالك مرفوعًا.

وروي من طرق متعددة عن أبي حازم عن سهل قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ساعتان ( يُفْتَحُ لَهُمَا أَبْوَابُ السَّمَاءِ) أي فيهما أو من أجل فضيلتهما ( وَقَلَّ دَاعٍ تُرَدُّ عَلَيْهِ دَعْوَتُهُ) إخبار بأن الإجابة في هذين الوقتين هي الأكثر وأن رد الدعاء فيهما يندر ولا يكاد يقع قاله الباجي، فأشار بقوله قل إلى أنها قد ترد لفوات شرط من شروط الدعاء أو ركن من أركانه أو نحو ذلك وقال السيوطي: بل قل هنا للنفي المحض كما هو أحد استعمالاتها.
قال ابن مالك في التسهيل وغيره: ترد قل للنفي المحض فترفع الفاعل متلوًا بصفة مطابقة له نحو: قل رجل يقول ذلك، وقل رجلان يقولان ذلك وهي من الأفعال التي منعت التصرف.

( حَضْرَةُ النِّدَاءِ لِلصَّلَاةِ) أي الأذان ( وَالصَّفُّ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) أي في قتال الكفار لإعلاء كلمة الله.
وقد روى الطبراني والحاكم في المستدرك والديلمي الحديث عن سهل به مرفوعًا.
وروى أبو نعيم في الحلية عن عائشة رفعته: ثلاث ساعات للمرء المسلم ما دعا فيهن إلا استجيب له ما لم يسأل قطيعة رحم أو مأثمًا، حين يؤذن المؤذن بالصلاة حتى يسكت، وحين يلتقي الصفان حتى يحكم الله بينهما، وحين ينزل المطر حتى يسكن.
( وَسُئِلَ مَالِكٌ عَنِ النِّدَاءِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ هَلْ يَكُونُ قَبْلَ أَنْ يَحِلَّ الْوَقْتُ؟ فَقَالَ: لَا يَكُونُ إِلَّا بَعْدَ أَنْ تَزُولَ الشَّمْسُ) لأن وقتها زوال الشمس كالظهر عند جمهور الفقهاء وأجاز أحمد صلاتها قبل الزوال وهو شذوذ.
قال مالك: لو خطب قبل الزوال وصلى بعده لم تجز ويعيدون الجمعة بخطبة ما لم تغرب الشمس نقله ابن حبيب عن مطرف عنه.
وقال ابن سحنون: يعيدون الظهر أبدًا أفذاذًا.

( وَسُئِلَ مَالِكٌ عَنْ تَثْنِيَةِ النِّدَاءِ وَالْإِقَامَةِ وَمَتَى يَجِبُ الْقِيَامُ عَلَى النَّاسِ حِينَ تُقَامُ الصَّلَاةُ؟ فَقَالَ: لَمْ يَبْلُغْنِي فِي النِّدَاءِ وَالْإِقَامَةِ إِلَّا مَا أَدْرَكْتُ النَّاسَ عَلَيْهِ) وهو شفع الأذان لما في البخاري عن أنس قال: أمر بلال أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة قال الزين بن المنير: وصف الأذان بأنه شفع يفسره قوله مثنى أي مرتين مرتين وذلك يقتضي أن يستوي جميع ألفاظه في ذلك لكن لم يختلف في أن كلمة التوحيد التي في آخره مفردة فيحمل قوله مثنى على ما سواها انتهى.
ففيه دليل على أن التكبير ليس مربعًا، وكذا قوله صلى الله عليه وسلم: الأذان مثنى مثنى أخرجه أبو داود الطيالسي عن ابن عمر.
ورواه أبو داود والنسائي وصححه ابن خزيمة وغيره من حديث ابن عمر بلفظ: مرتان مرتان.

( فَأَمَّا الْإِقَامَةُ فَإِنَّهَا لَا تُثَنَّى) حتى قد قامت الصلاة بل تفرد ( وَذَلِكَ الَّذِي لَمْ يَزَلْ عَلَيْهِ أَهْلُ الْعِلْمِ بِبَلَدِنَا) المدينة مع تأييده بالحديث الصحيح، وأما قوله في رواية أيوب السختياني عن أبي قلابة عن أنس: ويوتر الإقامة إلا الإقامة أي: قد قامت الصلاة فالمثبت غير المنفي فهو مدرج من قول أيوب وليس من الحديث كما جزم به الأصيلي وابن منده، لأن إسماعيل بن إبراهيم قال: حدثنا خالد الحذاء عن أبي قلابة عن أنس قال: أمر بلال أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة.
قال إسماعيل: فذكرته لأيوب فقال: إلا الإقامة رواه البخاري ومسلم ونظر فيما قاله الحافظ بأن عبد الرزاق رواه عن معمر عن أيوب بسنده بلفظ: كان بلال يثني الأذان ويوتر الإقامة إلا قوله قد قامت الصلاة، والأصل أن ما كان في الخبر فهو منه حتى يقوم دليل على خلافه ولا دليل في رواية إسماعيل لأن محصلها أن خالدًا كان لا يذكر الزيادة وأيوب يذكرها وكل منهما روى الحديث عن أبي قلابة عن أنس فكان في رواية أيوب زيادة حافظ فتقبل انتهى.

لكن إنما يتم له هذا النظر لو صرح أيوب بروايته له عن أبي قلابة لما ذكر له إسماعيل رواية خالد وهو إنما قال: إلا الإقامة فيتبادر منه أنه إخبار عن رأيه، وأما رواية عبد الرزاق فلا دليل فيها على عدم الإدراج لأنها من محل النزاع، وقد دلت رواية إسماعيل على الإدراج ثم هذا الحديث حجة على من قال إن الإقامة مثناة.

وزعم بعض الحنفية أن إفرادها كان أولاً ثم نسخ بحديث أبي محذورة عند أصحاب السنن وفيه تثنية الإقامة وهو متأخر عن حديث أنس فيكون ناسخًا.
وعورض بأن في بعض طرق حديث أبي محذورة المحسنة التربيع والترجيع فكان يلزمهم القول به، وقد أنكر أحمد على من ادعى النسخ بحديث أبي محذورة، واحتج بأنه صلى الله عليه وسلم رجع بعد الفتح إلى المدينة وأقر بلالاً على إفراد الإقامة وعلمه سعد القرظ فأذن به بعده كما رواه الدارقطني والحاكم.

وقال ابن عبد البر: ذهب أحمد وإسحاق وداود وابن جرير إلى أن ذلك من الاختلاف المباح فإن ربع التكبير الأول في الأذان أو ثناه أو رجع في التشهد أو لم يرجع أو ثنى الإقامة أو أفردها كلها أو إلا قد قامت الصلاة، فالجميع جائز.
قيل الحكمة في تثنية الأذان وإفراد الإقامة أن الأذان لإعلام الغائبين فكرر ليكون أوصل إليهم بخلاف الإقامة فللحاضرين، ومن ثم استحب أن يكون الأذان في مكان عال بخلاف الإقامة، وأن يكون الصوت في الأذان أرفع منه في الإقامة.

قال الحافظ: وهذا توجيه ظاهر وأما قول الخطابي لو سوى بينهما لاشتبه الأمر في ذلك وصار يفوت كثيرًا من الناس صلاة الجماعة ففيه نظر لأن الأذان يستحب على مرتفع ليشترك فيه الإسماع وأن يكون مرتلاً والإقامة مسرعة ويؤخذ حكمة الترجيع مما تقدم وإنما اختص بالتشهد لأنه أعظم ألفاظ الأذان، والله أعلم.

( وَأَمَّا قِيَامُ النَّاسِ حِينَ تُقَامُ الصَّلَاةُ فَإِنِّي لَمْ أَسْمَعْ فِي ذَلِكَ بِحَدٍّ يُقَامُ لَهُ) وما في الصحيحين عن أبي قتادة قال صلى الله عليه وسلم: إذا أقيمت الصلاة فلا تقوموا حتى تروني خرجت فهو نهي عن القيام قبل خروجه وتسويغ له عند رؤيته وهو مطلق غير مقيد بشيء من ألفاظ الإقامة.

ومن ثم اختلف السلف في ذلك فقال مالك: ( إِلَّا أَنِّي أَرَى ذَلِكَ عَلَى قَدْرِ طَاقَةِ النَّاسِ فَإِنَّ مِنْهُمُ الثَّقِيلَ وَالْخَفِيفَ وَلَا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَكُونُوا كَرَجُلٍ وَاحِدٍ) وذهب الأكثر إلى أنهم إذا كان الإمام معهم في المسجد لم يقوموا حتى تفرغ الإقامة وإذا لم يكن في المسجد لم يقوموا حتى يروه، وعن أنس أنه كان يقوم إذا قال المؤذن قد قامت الصلاة رواه ابن المنذر وغيره، ورواه سعيد بن منصور من طريق أبي إسحاق عن أصحاب عبد الله، وعن سعيد بن المسيب أنه إذا قال المؤذن: الله أكبر وجب القيام، وإذا قال: حي على الصلاة عدلت الصفوف، وإذا قال لا إله إلا الله كبر الإمام.
وعن أبي حنيفة يقومون إذا قال حي على الفلاح فإذا قال قد قامت الصلاة كبر الإمام، والحديث حجة على هؤلاء المفصلين.

قال القرطبي: ظاهر هذا الحديث أن الصلاة كانت تقام قبل أن يخرج صلى الله عليه وسلم من بيته، وهو معارض لحديث جابر بن سمرة عند مسلم أن بلالاً كان لا يقيم حتى يخرج صلى الله عليه وسلم ويجمع بينهما بأن بلالاً كان يراقب خروج النبي صلى الله عليه وسلم، فأول ما يراه يشرع في الإقامة قبل أن يراه غالب الناس ثم إذا رأوه قاموا فلا يقوم في مقامه حتى تعتدل صفوفهم.

قال الحافظ: ويشهد له ما رواه عبد الرزاق عن ابن جريج عن ابن شهاب كانوا ساعة يقول المؤذن الله أكبر يقومون إلى الصلاة فلا يأتي النبي صلى الله عليه وسلم حتى تعتدل الصفوف.
وأما حديث أبي هريرة في البخاري بلفظ: أقيمت الصلاة فسوى الناس صفوفهم فخرج صلى الله عليه وسلم، ولفظه في مستخرج أبي نعيم وصف الناس صفوفهم ثم خرج علينا، ولفظه في مسلم أقيمت الصلاة فقمنا فعدلنا الصفوف قبل أن يخرج إلينا النبي صلى الله عليه وسلم فأتى فقام مقامه فيجمع بينه وبين حديث أبي قتادة بأن ذلك ربما وقع لبيان الجواز، وبأن صنعهم في حديث أبي هريرة كان سبب النهي في حديث أبي قتادة، وأنهم كانوا يقومون ساعة تقام الصلاة ولو لم يخرج صلى الله عليه وسلم فنهاهم عن ذلك لاحتمال أن يقع له شغل يبطئ فيه عن الخروج فيشق عليهم انتظاره ولا يرد هذا حديث أنس في الصحيح أنه قام في مقامه طويلاً في مناجاة بعض القوم لاحتمال وقوعه نادرًا أو فعله لبيان الجواز انتهى.

( وَسُئِلَ مَالِكٌ عَنْ قَوْمٍ حُضُورٍ أَرَادُوا أَنْ يَجْمَعُوا الْمَكْتُوبَةَ فَأَرَادُوا أَنْ يُقِيمُوا وَلَا يُؤَذِّنُوا؟ قَالَ: ذَلِكَ مُجْزِئٌ عَنْهُمْ) إذ الأذان ليس بشرط في صحة الصلاة عند جمهور الفقهاء خلافًا لعطاء ( وَإِنَّمَا يَجِبُ النِّدَاءُ فِي مَسَاجِدِ الْجَمَاعَاتِ الَّتِي تُجْمَعُ فِيهَا الصَّلَاةُ) وجوب السنن المؤكدة على المذهب وأما في المصر فواجب كفاية، فلو اتفقوا على تركه أثموا وقوتلوا عليه لأنه شعار الإسلام ومن العلامات المفرقة بين دار الإسلام والكفر.
وفي الصحيحين واللفظ لمسلم عن أنس: كان صلى الله عليه وسلم يغير إذا طلع الفجر وكان يستمع الأذان فإن سمع أذانًا أمسك وإلا أغار.

( وَسُئِلَ مَالِكٌ عَنْ تَسْلِيمِ الْمُؤَذِّنِ عَلَى الْإِمَامِ وَدُعَائِهِ إِيَّاهُ لِلصَّلَاةِ وَعَنْ أَوَّلُ مَنْ سُلِّمَ عَلَيْهِ؟ فَقَالَ: لَمْ يَبْلُغْنِي أَنَّ التَّسْلِيمَ كَانَ فِي الزَّمَنِ الْأَوَّلِ) قال الباجي: أي لم يكن في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم، وإنما كان المؤذن يؤذن فإن كان الإمام في شغل جاء المؤذن فأعلمه باجتماع الناس دون تكلف ولا استعمال، فأما ما يتكلف اليوم من وقوف المؤذن بباب الأمير والسلام عليه والدعاء للصلاة بعد ذلك فإنه من المباهاة والتكبر والصلاة تنزه عن ذلك.

وقد قال القاضي أبو إسحاق في المبسوط عن عبد الملك بن الماجشون كيفية السلام: السلام عليك أيها الأمير ورحمة الله وبركاته الصلاة يرحمك الله.
قال إسماعيل: روي أن عمر أنكر على أبي محذورة دعاءه إياه إلى الصلاة وأول من فعله معاوية.

وقال ابن عبد البر: أول من فعل ذلك معاوية أمر المؤذن أن يشعره ويناديه فيقول: السلام على أمير المؤمنين الصلاة يرحمك الله، وقيل أول من فعله المغيرة بن شعبة والأول أصح انتهى.

وروى ابن أبي شيبة عن مجاهد قال: لما قدم عمر مكة أتاه أبو محذورة وقد أذن فقال: الصلاة يا أمير المؤمنين حي على الصلاة حي على الفلاح.
قال: ويحك أمجنون أنت أما كان في دعائك الذي دعوتنا ما نأتيك حتى تأتينا.

وفي الأوائل للعسكري من طريق الواقدي عن ابن أبي ذئب قال: قلت للزهري من أول من سلم عليه فقيل السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته حي على الصلاة حي على الفلاح الصلاة يرحمك الله؟ فقال: معاوية بالشام ومروان بن الحكم بالمدينة.

وروى ابن سعد في طبقاته عن محمد بن سعد القرظ قال: كنا نؤذن على عمر بن عبد العزيز في داره للصلاة فنقول السلام عليك أيها الأمير ورحمة الله وبركاته حي على الصلاة حي على الفلاح وفي الناس الفقهاء فلا ينكرون ذلك، وبهذا كله تعلم ضعف ما في خطط المقريزي.

قال الواقدي وغيره: كان بلال يقف على باب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الأذان فيقول: السلام عليك يا رسول الله فلما ولي أبو بكر كان سعد القرظ يقف فيقول: السلام عليك يا خليفة رسول الله الصلاة يا خليفة رسول الله، فلما ولي عمر ولقب أمير المؤمنين كان المؤذن يقف على بابه ويقول: السلام عليك يا أمير المؤمنين الصلاة يا أمير المؤمنين، ثم إن عمر أمر المؤذن فزاد فيها رحمك الله، ويقال إن عثمان هو الذي زادها، وما زال المؤذنون إذا أذنوا سلموا على الخلفاء وأمراء الأعمال ثم يقيمون الصلاة بعد السلام فيخرج الخليفة أو الأمير فيصلي بالناس هكذا كان العمل مدة أيام بني أمية ثم مدة بني العباس حتى ترك الخلفاء الصلاة بالناس فترك ذلك انتهى.
والواقدي متروك ولعل غيره تبعه، والله أعلم.

( وَسُئِلَ مَالِكٌ عَنْ مُؤَذِّنٍ أَذَّنَ لِقَوْمٍ ثُمَّ انْتَظَرَ هَلْ يَأْتِيهِ أَحَدٌ فَلَمْ يَأْتِهِ أَحَدٌ فَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَصَلَّى وَحْدَهُ ثُمَّ جَاءَ النَّاسُ بَعْدَ أَنْ فَرَغَ أَيُعِيدُ الصَّلَاةَ مَعَهُمْ؟ قَالَ: لَا يُعِيدُ الصَّلَاةَ وَمَنْ جَاءَ بَعْدَ انْصِرَافِهِ) فراغه من الصلاة ( فَلْيُصَلِّ لِنَفْسِهِ وَحْدَهُ) قال ابن نافع: معناه أن المؤذن هنا هو الإمام الراتب ولم يرد المؤذن، فإن لم يكن الإمام الراتب فلا بأس أن يجمعوا تلك الصلاة ويعيدها المؤذن معهم إن شاء.

قال ابن عبد البر: وهذا التفسير حسن على أصل قول مالك المسجد الذي له إمام راتب لا يجمع فيه صلاة واحدة مرتين وبه قال سفيان الثوري وأجازه أشهب.

وقال الباجي: إذا كان المؤذن إمامًا راتبًا فكما قال مالك: لأن الاعتبار في الجماعة بالإمام دون المأموم لما في ذلك من مخالفة الأئمة ومفارقة الجماعة، ولأن ذلك يؤدي أن لا تراعى أوقات الصلاة ويؤخر من شاء ويصلي في جماعة، وإن لم يكن المؤذن إمامًا راتبًا فقال ابن نافع حكمه حكم الفذ، وقال عيسى كالجماعة ويظهر لي أن قول عيسى في مسجد له مؤذن راتب وليس له إمام راتب لتعلق حكم الجماعة به دون المؤذن.

وقال ابن عبد البر: ولا أصل لهذه المسألة إلا المنع من الاختلاف على الأئمة وردع أهل البدع ليتركوا إظهار بدعتهم لأنهم كانوا يرغبون عن صلاة الإمام ثم يأتون بعده فيجمعون بإمامهم.

وقال أبو حنيفة والشافعي والجمهور لا بأس أن يجمع في المسجد مرتين ولم ينه الله عنه ولا رسوله ولا اتفق عليه العلماء، ودليل الجواز حديث أنه صلى الله عليه وسلم صلى إحدى صلاتي العشي فلما سلم دخل رجل لم يدرك الصلاة معه فاستقبل القبلة ليصلي فقال صلى الله عليه وسلم: ألا رجل يتصدق على هذا فيصلي معه فقام رجل ممن صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم فصلى معه انتهى.
والجواب أن هذه واقعة حال محتملة فلا ينهض حجة في عدم الكراهة.

( وَسُئِلَ مَالِكٌ عَنْ مُؤَذِّنٍ أَذَّنَ لِقَوْمٍ ثُمَّ تَنَفَّلَ فَأَرَادُوا أَنْ يُصَلُّوا بِإِقَامَةِ غَيْرِهِ؟ فَقَالَ: لَا بَأْسَ بِذَلِكَ إِقَامَتُهُ وَإِقَامَةُ غَيْرِهِ سَوَاءٌ) وبهذا قال أبو حنيفة وقال الليث والثوري والشافعي وأكثر أهل الحديث: من أذن فهو يقيم لحديث عبد الله بن الحارث الصدائي قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما كان الصبح أمرني فأذنت ثم قام إلى الصلاة فجاء بلال ليقيم فقال صلى الله عليه وسلم: إن أخا صداء أذن ومن أذن فهو يقيم.

قال ابن عبد البر: انفرد به عبد الرحمن بن زياد الإفريقي وليس بحجة عندهم، وحجة مالك حديث عبد الله بن زيد حين أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأذان فأمره أن يلقيه على بلال وقال: إنه أندى منك صوتًا فلما أذن بلال قال صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن زيد: أقم أنت فأقام وهذا الحديث أحسن إسنادًا.

( قَالَ مَالِكٌ: لَمْ تَزَلِ الصُّبْحُ يُنَادَى لَهَا قَبْلَ الْفَجْرِ) في أول السدس الأخير من الليل قاله ابن وهب وسحنون.
وقال ابن حبيب: نصف الليل، وحجة العمل المذكور حديث ابن عمر الآتي إن بلالاً ينادي بليل وبه قال الجمهور والأئمة الثلاثة، وقال أبو حنيفة وطائفة لا يؤذن لها حتى يطلع الفجر ( فَأَمَّا غَيْرُهَا مِنَ الصَّلَوَاتِ فَإِنَّا لَمْ نَرَهَا يُنَادَى لَهَا إِلَّا بَعْدَ أَنْ يَحِلَّ وَقْتُهَا) لحرمته قبل الوقت في غير الصبح.

قال الكرخي من الحنفية: كان أبو يوسف يقول: بقول أبي حنيفة: لا يؤذن لها حتى أتى المدينة فرجع إلى قول مالك وعلم أنه عملهم المتصل.

قال الباجي: يظهر لي أنه ليس في الأثر ما يقتضي أن الأذان قبل الفجر لصلاة الفجر فإن كان الخلاف في الأذان ذلك الوقت فالآثار حجة لمن أثبته وإن كان الخلاف في المقصود به فيحتاج إلى ما يبين ذلك من إبطال الأذان إلى الفجر أو غير ذلك مما يدل عليه.

( مَالِكٍ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ الْمُؤَذِّنَ جَاءَ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ يُؤْذِنُهُ لِصَلَاةِ الصُّبْحِ فَوَجَدَهُ نَائِمًا فَقَالَ: الصَّلَاةُ خَيْرٌ مِنَ النَّوْمِ فَأَمَرَهُ عُمَرُ أَنْ يَجْعَلَهَا فِي نِدَاءِ الصُّبْحِ) هذا البلاغ أخرجه الدارقطني في السنن من طريق وكيع في مصنفه عن العمري عن نافع عن ابن عمر عن عمر، وأخرج أيضًا عن سفيان عن محمد بن عجلان عن نافع عن ابن عمر عن عمر أنه قال لمؤذنه: إذا بلغت حي على الفلاح في الفجر فقل الصلاة خير من النوم الصلاة خير من النوم، فقصر ابن عبد البر في قوله لا أعلم هذا روي عن عمر من وجه يحتج به وتعلم صحته، وإنما أخرجه ابن أبي شيبة من حديث هشام بن عروة عن رجل يقال له إسماعيل لا أعرفه قال: والتثويب محفوظ في أذان بلال وأبي محذورة في صلاة الصبح للنبي صلى الله عليه وسلم، والمعنى هنا أن نداء الصبح موضع قوله لا هنا كأنه كره أن يكون منه نداء آخر عند باب الأمير كما أحدثته الأمراء، وإلا فالتثويب أشهر عند العلماء والعامة من أن يظن بعمر أنه جهل ما سن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر به مؤذنيه بلالاً بالمدينة، وأبا محذورة بمكة انتهى.

ونحو تأويله قول الباجي: يحتمل أن عمر قال ذلك إنكارًا لاستعماله لفظة من ألفاظ الأذان في غيره وقال له اجعلها فيه يعني لا تقلها في غيره انتهى.
وهو حسن متعين: فقد روى ابن ماجه من طريق ابن المسيب عن بلال أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم يؤذنه لصلاة الفجر فقيل هو نائم فقال الصلاة خير من النوم مرتين، فأقرت في تأذين الفجر فثبت الأمر على ذلك.

وروى بقي بموحدة ابن مخلد عن أبي محذورة قال: كنت غلامًا صبيًا فأذنت بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم الفجر يوم حنين: فلما انتهيت إلى حي على الفلاح قال: ألحق فيها الصلاة خير من النوم، وقال مالك في مختصر ابن شعبان: لا يترك المؤذن قوله في نداء الصبح الصلاة خير من النوم في سفر ولا حضر ومن أذن في ضيعته متنحيًا عن الناس فتركه فلا بأس وأحب إلينا أن يأتي به.

( مَالِكٍ عَنْ عَمِّهِ أَبِي سُهَيْلِ) بضم السين واسمه نافع ( بْنِ مَالِكٍ عَنْ أَبِيهِ) مالك بن أبي عامر الأصبحي ( أَنَّهُ قَالَ: مَا أَعْرِفُ شَيْئًا مِمَّا أَدْرَكْتُ عَلَيْهِ النَّاسَ) يعني الصحابة ( إِلَّا النِّدَاءَ بِالصَّلَاةِ) فإنه باق على ما كان عليه لم يدخله تغيير ولا تبديل بخلاف الصلاة فقد أخرت عن أوقاتها وسائر الأفعال قد دخلها التغيير، فأنكر أكثر أفعال أهل عصره والتغيير يمكن أن يلحق صفة الفعل كتأخير الصلاة وأن يلحق الفعل جملة كترك الأمر بكثير من المعروف والنهي عن كثير من المنكر مع علم الناس بذلك كله قاله الباجي.

وقال ابن عبد البر فيه: إن الأذان لم يتغير عما كان عليه، وكذا قال عطاء ما أعلم تأذينهم اليوم يخالف تأذين من مضى وفيه تغير الأحوال عما كانت عليه زمن الخلفاء الأربع في أكثر الأشياء، واحتج بهذا بعض من لم ير عمل أهل المدينة حجة وقال لا حجة إلا فيما نقل بالأسانيد الصحاح عن النبي صلى الله عليه وسلم أو عن الخلفاء الأربعة ومن سلك سبيلهم.

( مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ سَمِعَ الْإِقَامَةَ وَهُوَ بِالْبَقِيعِ فَأَسْرَعَ الْمَشْيَ إِلَى الْمَسْجِدِ) بدون جري لأن الإسراع المنهي عنه بقوله صلى الله عليه وسلم: فلا تأتوها وأنتم تسعون هو الجري لأنه ينافي الوقار المشروع في الصلاة وفي قصدها، وأما ما لا ينافي الوقار فجائز وكذا قول مالك بجواز تحريك الفرس لمن سمع الأذان ليدرك الصلاة يريد تحريكه للإسراع في المشي دون جري ولا خروج عن حد الوقار قاله الباجي.

وقال ابن عبد البر: الواجب أن يأتي الصلاة بالسكينة خاف فواتها أو لم يخف لأمره صلى الله عليه وسلم بذلك وهو الحجة قال وقال بعض أصحابنا إن ابن عمر لم يزد على مشيه المعهود لأن الإسراع كان عادته لبعده من الزهو وليس ببين لأن نافعًا مولاه قد عرف مشيه، ثم أخبر أنه لما سمع الإقامة أسرع، ولا يخالفه قول محمد بن زيد: كان ابن عمر إذا مشى إلى الصلاة لو مشت معه نملة ما سبقها لأنه في حال لا يخاف فيها فوات شيء من الصلاة وهي أغلب أحواله انتهى.



رقم الحديث 147 وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَزِيدَ اللَّيْثِيِّ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِذَا سَمِعْتُمُ النِّدَاءَ فَقُولُوا مِثْلَ مَا يَقُولُ الْمُؤَذِّنُ.


( مَالِكٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ) الأنصاري ( أَنَّهُ قَالَ) مرسلاً ( كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) لما كثر الناس ( قَدْ أَرَادَ أَنْ يَتَّخِذَ خَشَبَتَيْنِ) هما الناقوس وهو خشبة طويلة تضرب بخشبة أصغر منها فيخرج منهما صوت كما في الفتح وغيره ( يُضْرَبُ بِهِمَا لِيَجْتَمِعَ النَّاسُ لِلصَّلَاةِ) .

قال ابن عمر: كان المسلمون حين قدموا المدينة يجتمعون فيتحينون الصلاة ليس ينادى لها فتكلموا يومًا في ذلك فقال بعضهم: أنتخذ ناقوسًا مثل ناقوس النصارى، وقال بعضهم: بل بوقًا مثل قرن اليهود، الحديث في الصحيحين.

وقال أنس: لما كثر الناس ذكروا أن يعلموا وقت الصلاة بشيء يعرفونه فذكروا أن يوروا نارًا أو يضربوا ناقوسًا رواه البخاري ومسلم وفيه اختصار وهو في أبي داود وغيره بإسناد صحيح عن أبي عمير بن أنس عن عمومة له من الأنصار اهتم النبي صلى الله عليه وسلم للصلاة كيف يجمع الناس لها قيل له: انصب راية فإذا رآها الناس أذن بعضهم بعضًا فلم يعجبه ذلك فذكر له القبع أي شبور اليهود فقال: هو من أمر اليهود، فذكر له الناقوس فقال هو من أمر النصارى وكأنه كرهه أولاً ثم أمر بعمله، ففي أبي داود عن عبد الله بن زيد لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناقوس يعمل ليضرب به للناس ليجتمعوا للصلاة طاف بي وأنا نائم رجل يحمل ناقوسًا.

( فَأُرِيَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ) بن ثعلبة بن عبد ربه أبو محمد ( الْأَنْصَارِيُّ ثُمَّ مِنْ بَنِي الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ) فيقال له الخزرجي الحارثي شهد العقبة وبدرًا.
قال الترمذي: لا نعرف له عن النبي صلى الله عليه وسلم شيئًا إلا هذا الحديث الواحد في الأذان وكذا قال ابن عدي.

قال في الإصابة: وأطلق غير واحد أنه ما له غيره وهو خطأ فقد جاءت عنه أحاديث ستة أو سبعة جمعتها في جزء مفرد، ومات سنة اثنين وثلاثين وهو ابن أربع وستين وصلى عليه عثمان قاله ولده محمد بن عبد الله نقله المدايني.
وقال الحاكم: الصحيح أنه قتل بأحد فالروايات عنه كلها منقطعة وخالف ذلك في المستدرك.

( خَشَبَتَيْنِ فِي النَّوْمِ) متعلق بأري ( فَقَالَ: إِنَّ هَاتَيْنِ لَنَحْوٌ مِمَّا يُرِيدُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أن يجمع به الناس للصلاة ( فَقِيلَ أَلَا تُؤَذِّنُونَ لِلصَّلَاةِ) وأسمعه الأذان فاستيقظ ( فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ اسْتَيْقَظَ فَذَكَرَ لَهُ ذَلِكَ) فقال: إنها لرؤيا حق إن شاء الله ( فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْأَذَانِ) كذا أورد الحديث مرسلاً مختصرًا كما سمعه من يحيى بن سعيد.

قال ابن عبد البر: وروى قصة عبد الله بن زيد هذه في بدء الأذان جماعة من الصحابة بألفاظ مختلفة ومعان متقاربة والأسانيد في ذلك متواترة وهي من وجوه حسان انتهى.

وأخرج أبو داود والترمذي وقال حسن صحيح وابن ماجه وابن خزيمة وابن حبان وصححاه من حديث محمد بن عبد الله بن زيد قال: حدثني أبي لما أمر صلى الله عليه وسلم بالناقوس يعمل به للناس ليجتمعوا للصلاة طاف بي وأنا نائم رجل يحمل ناقوسًا في يده فقلت: يا عبد الله أتبيع الناقوس؟ قال: وما تصنع به فقلت: ندعو به إلى الصلاة، قال: أفلا أدلك على ما هو خير من ذلك؟ فقلت: بلى.
قال: تقول الله أكبر فذكره مربع التكبير بلا ترجيع.
قال: ثم استأخر عني غير بعيد فقال: تقول إذا قمت إلى الصلاة فذكر الإقامة مفردة وثنى قد قامت الصلاة، فلما أصبحت أتيت رسول الله فأخبرته بما رأيت فقال: إنها لرؤيا حق إن شاء الله فقم مع بلال فألق عليه ما رأيت فليؤذن به فإنه أندى منك صوتًا فقمت مع بلال فجعلت ألقيه عليه ويؤذن به قال: فسمع بذلك عمر بن الخطاب وهو في بيته فخرج يجر رداءه يقول: والذي بعثك بالحق يا رسول الله لقد رأيت مثل ما أري.
فقال صلى الله عليه وسلم: فلله الحمد اهـ.
لفظ أبي داود وهو كالشرح لمرسل الموطأ.

ونقل ابن خزيمة عن محمد بن يحيى الذهلي بذال ولام أن هذه الطريق أصح طرقه وشاهده حديث عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن سعيد بن المسيب مرسلاً، ومنهم من وصله عن سعيد عن عبد الله بن زيد والمرسل أقوى إسنادًا.
ولأحمد عن معاذ بن جبل أن عبد الله بن زيد قال: يا رسول الله إني رأيت فيما يرى النائم ولو قلت إني لم أكن نائمًا لصدقت رأيت شخصًا عليه ثوبان أخضران فاستقبل القبلة فقال: الله أكبر، فذكر الحديث.

وعند أبي داود في حديث أبي عمير بن أنس عن عمومته من الأنصار وكان عمر قد رآه قبل ذلك فكتمه عشرين يومًا ثم أخبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: ما منعك أن تخبرني؟ فقال: سبقني عبد الله بن زيد فاستحيت وظاهره يعارض ما قبله.

قال الحافظ: ولا مخالفة لأنه يحمل على أنه لم يخبر بذلك عقب إخبار عبد الله بن زيد بل متراخيًا عنه فقوله: ما منعك أن تخبرني أي عقب إخبار عبد الله فاعتذر بالاستحياء فدل على أنه لم يخبره على الفور انتهى.
وبعده لا يخفى مع قوله فسمع عمر فخرج يقول: يا رسول الله لقد رأيت مثل ما أري فجعله حالاً من فاعل خرج أي قائلاً في حال خروجه، لكنه لا يمتنع للجمع بين الحديثين مع صحتهما.

وللطبراني في الأوسط أن أبا بكر أيضًا رأى الأذان، وذكر الجيلي في شرح التنبيه أنه رآه أربعة عشر رجلاً، وأنكره ابن الصلاح فقال: لم أجده بعد إمعان البحث، ثم النووي فقال في تنقيحه: هذا ليس بثابت ولا معروف، وإنما الثابت خروج عمر يجر رداءه.
وفي سيرة مغلطاي عن بعض كتب الفقهاء أنه رآه سبعة من الأنصار.

قال الحافظ: ولا يثبت شيء من ذلك إلا لعبد الله بن زيد، وقصة عمر جاءت في بعض طرقه.

وفي مسند الحارث بن أبي أسامة بسند واهٍ عن كثير الحضرمي قال: أول من أذن بالصلاة جبريل في السماء الدنيا فسمعه عمر وبلال فسبق عمر بلالاً فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم، ثم جاء بلال فقال له: سبقك بها عمر.
قال: وقد استشكل إثبات حكم الأذان برؤيا عبد الله بن زيد لأن رؤيا غير الأنبياء لا ينبني عليها حكم شرعي.

وأجيب باحتمال مقارنة الوحي لذلك أو لأنه صلى الله عليه وسلم أمر بمقتضى الرؤيا لينظر أيقر على ذلك أم لا.
ولا سيما لما رأى نظمها يبعد دخول الوسواس فيه وهذا ينبني على القول بجواز اجتهاده في الأحكام وهو المنصور في الأصول، ويؤيد الأول ما رواه عبد الرزاق وأبو داود في المراسيل عن عبيد بن عمير أحد كبار التابعين أن عمر لما رأى الأذان جاء ليخبر به النبي صلى الله عليه وسلم فوجد الوحي قد ورد بذلك فما راعه إلا أذان بلال فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: سبقك بذلك الوحي وهذا أصح مما حكى الداودي عن ابن إسحاق أن جبريل أتى النبي صلى الله عليه وسلم بالأذان قبل أن يخبره عبد الله بن زيد وعمر بثمانية أيام.

وجاءت أحاديث تدل على أن الأذان شرع بمكة قبل الهجرة.
منها للطبراني عن ابن عمر قال: لما أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم أوحى الله إليه الأذان فنزل به فعلمه بلالاً، وفي إسناده طلحة بن زيد وهو متروك وللدارقطني عن أنس أن جبريل أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالأذان حين فرضت الصلاة وإسناده ضعيف أيضًا.
ولابن مردويه عن عائشة مرفوعًا: لما أسري بي أذن جبريل فظنت الملائكة أنه يصلي بهم فقدمني فصليت وفيه من لا يعرف.
وللبزار وغيره عن علي: لما أراد الله أن يعلم رسوله الأذان أتاه جبريل بالبراق فركبها، الحديث.
وفيه: إذ خرج ملك من الحجاب فقال: الله أكبر، وفي آخره فأخذ الملك بيده فأم بأهل السماء، وفي إسناده زياد بن المنذر أبو الجارود وهو متروك أيضًا، ويمكن على تقدير الصحة أن يحمل على تعدد الإسراء فيكون وقع ذلك بالمدينة.
وقول القرطبي لا يلزم من كونه سمعه ليلة الإسراء أن يكون مشروعًا في حقه فيه نظر لقوله أوله لما أراد الله أن يعلم رسوله الأذان، وكذا قول المحب الطبري يحمل الأذان ليلة الإسراء على الأذان اللغوي وهو الإعلام فيه نظر أيضًا لتصريحه بصفته المشروعة فيه، والحق أنه لا يصح شيء من هذه الأحاديث.

وقد جزم ابن المنذر بأنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي بلا أذان منذ فرضت الصلاة بمكة إلى أن هاجر إلى المدينة إلى أن وقع التشاور في ذلك على ما في حديث ابن عمر ثم في حديث عبد الله بن زيد انتهى.

ومن الواهي أيضًا ما لابن شاهين عن زياد بن المنذر حدثني العلاء قال قلت لابن الحنفية: كنا نتحدث أن الأذان رؤيا رآها رجل من الأنصار ففزع وقال: عمدتم إلى أحسن دينكم فزعمتم أنه كان رؤيا هذا والله الباطل، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما عرج به انتهى إلى مكان من السماء وقف وبعث الله ملكًا ما رآه أحد في السماء قبل ذلك اليوم فعلمه الأذان ففيه كما رأيت زياد بن المنذر متروك، وقد صرح الحافظ الذهبي بأن هذا باطل.

قال الحافظ: وقد حاول السهيلي الجمع فتكلف وتعسف والأخذ بما صح أولى فقال بانيًا على صحة الحكمة في مجيء الأذان على لسان الصحابي أن النبي صلى الله عليه وسلم سمعه فوق سبع سموات وهو أقوى من الوحي فلما تأخر الأمر بالأذان عن فرض الصلاة وأراد إعلامهم بالوقت رأى الصحابي المنام فقصه فوافق ما كان صلى الله عليه وسلم سمعه فقال: إنها لرؤيا حق، وعلم حينئذ أن مراد الله بما أراه في السماء أن يكون سنة في الأرض وتقوى ذلك بموافقة عمر لأن السكينة تنطق على لسانه والحكمة أيضًا في إعلام الناس به على غير لسانه صلى الله عليه وسلم التنويه بقدره والرفع لذكره بلسان غيره ليكون أقوى لأمره وأفخر لشأنه انتهى ملخصًا.

والثاني حسن بديع ويؤخذ من عدم الاكتفاء برؤية عبد الله بن زيد حتى أضيف إليه عمر للتقوية التي ذكرها ولم يقتصر على عمر ليصير في معنى الشهادة وجاء في رواية ضعيفة ما ظاهره أن بلالاً رأى أيضًا لكنها مؤولة فإن لفظها سبقك بها بلال فيحمل على مباشرة التأذين برؤيا عبد الله بن زيد، ومما يكثر السؤال عنه هل باشر النبي صلى الله عليه وسلم الأذان بنفسه، وقد روى الترمذي بإسناد حسن عن يعلى بن مرة الثقفي أن النبي صلى الله عليه وسلم أذن في سفر وصلى بأصحابه وهم على رواحلهم السماء من فوقهم والبلة من أسفلهم.

قال السهيلي: فنزع بعض الناس بهذا الحديث أنه صلى الله عليه وسلم أذن بنفسه، لكن روى الحديث الدارقطني بسند الترمذي ومتنه وقال فيه: فأمر بالأذان فقام المؤذن فأذن والمفصل يقضي على المجمل المحتمل انتهى.

وتبع هذا البعض النووي فجزم أن النبي صلى الله عليه وسلم أذن مرة في سفره وعزاه للترمذي وقواه، وتعقبه الحافظ فقال: ولكن وجدنا الحديث في مسند أحمد من الوجه الذي أخرجه منه الترمذي بلفظ فأمر بلالاً فأذن فعرف أن في رواية الترمذي اختصارًا وأن معنى أذن أمر بلالاً به كما يقال أعطى الخليفة العالم الفلاني ألفًا وإنما باشر العطاء غيره ونسب للخليفة لكونه أمر به انتهى.

وانتصر بعض للنووي تبعًا للبعض بأن هذا إنما يصار إليه لو لم يحتمل تعدد الواقعة، أما إذا أمكن فيجب المصير إليه إبقاء لأذن على حقيقته عملاً بقاعدة الأصول أنه يجب إبقاء اللفظ على حقيقته وهو مردود بأن ذلك إنما يصح إذا اختلف سند الحديث ومخرجه، أما مع الاتحاد فلا ويجب رجوع المجمل إلى المفصل عملاً بقاعدة الأصول وأهل الحديث.

وقال بعض المحدثين لو لم نكتب الحديث من ستين وجهًا ما عقلناه لاختلاف الرواة في ألفاظه ونحوها: نعم قال السيوطي في شرح البخاري: قد ظفرت بحديث آخر مرسلاً رواه سعيد بن منصور، حدثنا أبو معاوية، حدثنا عبد الرحمن بن أبي بكر القرشي، عن ابن أبي مليكة، قال: أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرة فقال: حي على الفلاح قال وهذه رواية لا تقبل التأويل انتهى.
فهذا الذي يجزم فيه بالتعدد لاختلاف سنده وانظر ما أحسن قوله آخر لكن لم يبين هل كان في سفر أو حضر.

( مَالِكٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَزِيدَ) بتحتية وزاي ( اللَّيْثِيِّ) المدني نزيل الشام من ثقات التابعين ورجال الجميع، مات سنة خمس أو سبع ومائة وقد جاوز الثمانين، ولأبي عوانة من رواية ابن وهب عن مالك ويونس عن الزهري أن عطاء بن يزيد أخبره ( عَنْ أَبِي سَعِيدٍ) سعد بن مالك بن سنان بن عبيد الأنصاري ( الْخُدْرِيِّ) له ولأبيه صحبة واستصغر بأحد ثم شهد ما بعدها روى الكثير ومات بالمدينة سنة ثلاث أو أربع أو خمس وستين وقيل سنة أربع وسبعين.

( أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِذَا سَمِعْتُمُ النِّدَاءَ) أي الأذان سمي به لأنه نداء إلى الصلاة ودعاء إليها ( فَقُولُوا مِثْلَ مَا يَقُولُ الْمُؤَذِّنُ) ادعى ابن وضاح أن قوله المؤذن مدرج وأن الحديث انتهى بقوله ما يقول، وتعقب بأن الإدراج لا يثبت بمجرد الدعوى، وقد اتفقت الروايات في الصحيحين والموطأ على إثباتها، ولم يصب صاحب العمدة في حذفها وظاهره اختصاص الإجابة بمن سمع حتى لو رأى المؤذن على المنارة مثلاً في الوقت وعلم أنه يؤذن، لكن لم يسمع أذانه لبعد أو صمم لا يشرع له المتابعة قاله النووي في شرح المهذب، وقال مثل ما يقول ولم يقل مثل ما قال ليشعر بأنه يجيبه بعد كل كلمة مثل كلمتها قاله الكرماني والصريح في ذلك ما رواه النسائي عن أم حبيبة أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول مثل ما يقول المؤذن حتى يسكت.

وقال أبو الفتح اليعمري: ظاهر الحديث أنه يقول مثل ما يقول عقب فراغ المؤذن لكن الأحاديث التي تضمنت إجابة كل كلمة عقبها دلت على أن المراد المساوقة يشير إلى حديث عمر في مسلم وغيره وظاهره أيضًا أنه يقول مثله في جميع الكلمات، لكن حديث عمر أيضًا وحديث معاوية في البخاري وغيره دلا على أنه يستثنى من ذلك حي على الصلاة وحي على الفلاح فيقول بدلهما لا حول ولا قوة إلا بالله وهو المشهور عند الجمهور.

وقال ابن المنذر: يحتمل أن يكون ذلك من الاختلاف المباح فيقول تارة كذا وتارة كذا، وحكي عن بعض أهل الأصول أن الخاص والعام إذا أمكن الجمع بينهما وجب إعمالهما فلم لا يستحب للسامع أن يجمع بين الحيعلة والحوقلة وهو وجه عند الحنابلة.

وأجيب عن المشهور من حيث المعنى بأن الأذكار الزائدة على الحيعلة يشترك السامع والمؤذن في ثوابها، وأما الحيعلة فمقصودها الدعاء إلى الصلاة وذلك يحصل من المؤذن فعوض السامع عما فاته من ثوابها بثواب الحوقلة، ولقائل أن يقول يحصل للمجيب الثواب لامتثاله الأمر ويمكن أن يزداد استيقاظًا وإسراعًا إلى القيام إلى الصلاة إذا تكرر على سمعه الدعاء إليها من المؤذن ومن نفسه.
قيل: وفي الحديث دليل على أن لفظ مثل لا يقتضي المساواة من كل جهة لأنه لا يطلب برفع الصوت المطلوب من المؤذن، وفيه بحث لأن المماثلة وقعت في القول لا في صفته، والفرق أن المؤذن قصده الإعلام فاحتاج لرفع الصوت، والسامع مقصوده ذكر الله فيكفي السر أو الجهر لا مع رفع الصوت.
نعم لا يكفي إجراؤه على خاطره من غير تلفظ لظاهر الأمر بالقول وفيه جواز إجابة المؤذن في الصلاة عملاً بظاهر الأمر، ولأن المجيب لا يقصد المخاطبة واستدل به على وجوب إجابة المؤذن حكاه الطحاوي عن قوم من السلف، وبه قال الحنفية والظاهرية وابن وهب.

واستدل الجمهور لحديث مسلم وغيره أنه صلى الله عليه وسلم سمع مؤذنًا فلما كبر قال على الفطرة فلما تشهد قال خرج من النار فلما قال صلى الله عليه وسلم غير ما قال المؤذن علم أن الأمر للاستحباب، وتعقب بأنه ليس في الحديث أنه لم يقل مثل ما قال فيجوز أنه قاله ولم ينقله الراوي اكتفاء بالعادة ونقل القول الزائد، وبأنه يحتمل أن ذلك وقع قبل صدور الأمر وأن يكون لما أمر لم يرد أن يدخل نفسه في عموم من خوطب بذلك انتهى.

والحديث أخرجه البخاري عن عبد الله بن يوسف، ومسلم عن يحيى كلاهما عن مالك به.

قال الحافظ: واختلف على الزهري في إسناده وعلى مالك أيضًا لكنه اختلاف لا يقدح في صحته، فرواه عبد الرحمن بن إسحاق عن الزهري عن سعيد عن أبي هريرة أخرجه النسائي وابن ماجه، وقال أبو حاتم وأحمد بن صالح والترمذي وأبو داود: حديث مالك ومن تابعه أصح، ورواه يحيى القطان عن مالك عن الزهري عن السائب بن يزيد أخرجه مسدد في مسنده وقال: إنه خطأ.
والصواب الرواية الأولى وفيه اختلاف آخر دون ما ذكر لا نطيل به انتهى.

( مَالِكٍ عَنْ سُمَيٍّ) بضم السين المهملة بلفظ التصغير ( مَوْلَى أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) بن الحارث بن هشام ( عَنْ أَبِي صَالِحٍ) ذكوان ( السَّمَّانِ) لأنه كان يتجر في السمن والزيت فلذا قيل له الزيات أيضًا ( عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ) وضع المضارع موضع الماضي ليفيد استمرار العلم قاله الطيبي ( مَا فِي النِّدَاءِ) أي الأذان وهي رواية بشر بن عمر عن مالك عند السراج ( وَالصَّفِّ الْأَوَّلِ) زاد أبو الشيخ من طريق الأعرج عن أبي هريرة: من الخير والبركة.

وقال الطيبي: أطلق مفعول يعلم وهو ما ولم يبين الفضيلة ما هي ليفيد ضربًا من المبالغة وأنه مما لا يدخل تحت الوصف والإطلاق إنما هو في قدر الفضيلة وإلا فقد ميزت في رواية بالخير والبركة.

قال الباجي: اختلف في الصف الأول هل هو الذي يلي الإمام أو المبكر السابق إلى المسجد؟ قال القرطبي: والصحيح أنه الذي يلي الإمام قالا فإن كان بين الإمام والناس حائل كما أحدث الناس المقاصير فالصف الأول هو الذي يلي المقصورة.

وقال ابن عبد البر: لا أعلم خلافًا أن من بكر وانتظر الصلاة وإن لم يصل في الصف الأول أفضل ممن تأخر وصلى في الصف الأول وفي هذا ما يوضح معنى الصف الأول وأنه ورد من أجل البكور إليه والتقدم، وقال صلى الله عليه وسلم: أتموا الصف المقدم ثم الذي يليه فما كان من نقص فليكن في المؤخر.

( ثُمَّ لَمْ يَجِدُوا) شيئًا من وجوه الأولوية بأن يقع التساوي أما في الأذان فبأن يستووا في معرفة الوقت وحسن الصوت ونحو ذلك وأما في الصف فبأن يصلوا دفعة واحدة ويتساووا في الفضل ( إِلَّا أَنْ يَسْتَهِمُوا) أي يقترعوا ( عَلَيْهِ) أي على ما ذكر من الأمرين ليشمل الأذان والصف.

وقال ابن عبد البر: الهاء عائدة على الصف الأول لا على النداء وهو وجه الكلام، لأن الضمير يعود إلى أقرب مذكور ولا يعدل عنه إلا بدليل ونازعه القرطبي وقال: يلزم منه أن يبقى النداء ضائعًا لا فائدة له قال والضمير يعود على معنى الكلام المتقدم ومثله قوله تعالى: { { وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا } } أي جميع ما ذكر.

قال الحافظ: وقد رواه عبد الرزاق عن مالك بلفظ لاستهموا عليهما فهذا مفصح بالمراد من غير تكلف.

( لَاسْتَهَمُوا) اقترعوا ومنه قوله تعالى: { { فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ } } قال الخطابي وغيره: قيل له استهام لأنهم كانوا يكتبون أسماءهم على سهام إذا اختلفوا في شيء فمن خرج اسمه غلب، واستدل به بعضهم لمن قال بالاقتصار على مؤذن واحد وليس بظاهر لصحة استهام أكثر من واحد، ولأن الاستهام على الأذان متوجه من جهة التولية من قبل الإمام لما فيه من المزية.
وزعم بعضهم أن المراد بالاستهام هنا الترامي بالسهام وأنه خرج مخرج المبالغة واستأنس بحديث لتجالدوا عليه بالسيوف، لكن فهم البخاري أن المراد اقترعوا أولى لرواية مسلم لكانت قرعة.

وقد روى سيف بن عمر في كتاب الفتوح والطبراني عن عبد الله بن شبرمة عن شقيق وهو أبو وائل قال: افتتحنا القادسية صدر النهار فتراجعنا وقد أصيب المؤذن فتشاح الناس في الأذان بالقادسية فاختصموا إلى سعد بن أبي وقاص فأقرع بينهم فخرجت القرعة لرجل منهم فأذن، والقادسية مكان معروف بالعراق نسب إلى قادس رجل نزل به.

وحكى الجوهري أن إبراهيم الخليل قدس على ذلك المكان فلذا صار منزلاً للحاج وكان بها وقعة مشهورة للمسلمين مع الفرس في خلافة عمر سنة خمس عشرة وكان سعد يومئذ الأمير على الناس.

( وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي التَّهْجِيرِ) أي التبكير إلى الصلوات أي صلاة كانت قاله الهروي وغيره.
قال ابن عبد البر: التهجير معروف وهو البدار إلى الصلاة أول وقتها وقبله وانتظارها قال تعالى: { { فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ } } وقال صلى الله عليه وسلم: منتظر الصلاة في صلاة ما انتظرها وحسبك بهذا فضلاً وسمى صلى الله عليه وسلم انتظار الصلاة بعد الصلاة رباطًا، وجاء: رباط يوم خير من صوم شهر انتهى.

وحمله الخليل والباجي وغيرهما على ظاهره فقالوا: المراد الإتيان إلى صلاة الظهر في أول الوقت لأن التهجير مشتق من الهاجرة وهي شدة الحر نصف النهار وهو أول وقت الظهر وإلى ذلك مال البخاري.

قال الحافظ: ولا يرد على ذلك مشروعية الأمر بالإبراد لأنه أريد به الرفق، وأما من ترك قائلته وقصد إلى المسجد لينتظر الصلاة فلا يخفى ما له من الفضل.

( لَاسْتَبَقُوا إِلَيْهِ) أي التهجير.
قال ابن أبي جمرة: المراد الاستباق معنى لا حسًا لأن المسابقة على الإقدام حسًا تقتضي السرعة في المشي وهو ممنوع منه انتهى.

( وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي الْعَتَمَةِ) أي العشاء وثبت النهي عن تسميتها عتمة فهذا الحديث بيان للجواز وأن النهي ليس للتحريم أو استعمل العتمة هنا لمصلحة ونفي مفسدة لأن العرب كانت تستعمل العشاء في المغرب فلو قال ما في العشاء لحملوها على المغرب ففسد المعنى وفات المطلوب فاستعمل العتمة التي يعرفونها ولا يشكون فيها، وقواعد الشرع متظاهرة على احتمال أخف المفسدتين لدفع أعظمهما قاله النووي.

( وَالصُّبْحِ) أي ثواب صلاتهما في جماعة ( لَأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا) بفتح المهملة وسكون الموحدة أي مشيًا على اليدين والركبتين أو على مقعدته، ولابن أبي شيبة من حديث أبي الدرداء ولو حبوًا على المرافق والركب.

قال الباجي: خص هاتين الصلاتين بذلك لأن السعي إليهما أشق من غيرهما لما فيه من تنقيص أول النوم وآخره.

وقال ابن عبد البر: الآثار فيهما كثيرة منها قوله صلى الله عليه وسلم: أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر.
وقال أبو الدرداء في مرض موته: اسمعوا وبلغوا حافظوا على هاتين الصلاتين - يعني في جماعة العشاء والصبح - ولو تعلمون ما فيهما لأتيتموهما ولو حبوًا على مرافقكم وركبكم، وكذلك قال عمر وعثمان وروي مرفوعًا: شهود صلاة العشاء خير من قيام نصف ليلة وشهود صلاة الصبح خير من قيام ليلة.
وقال عمر والحسن: لأن أشهد صلاة العشاء والفجر أحب إلي من أن أحيي ما بينهما.
وقال ابن عمر: كنا إذا فقدنا الرجل في صلاة العشاء وصلاة الفجر أسأنا به الظن انتهى.

وهذا الحديث رواه البخاري عن عبد الله بن يوسف، ومسلم عن يحيى كلاهما عن مالك به.

( مَالِكٍ عَنِ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَعْقُوبَ) المدني ( عَنْ أَبِيهِ) وهو تابعي كابنه ( وَإِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ) بن أبي طلحة أحد شيوخ مالك روى عنه هنا بواسطة ( أَنَّهُمَا أَخْبَرَاهُ) أي العلاء ( أَنَّهُمَا سَمِعَا أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا ثُوِّبَ بِالصَّلَاةِ) بضم المثلثة وشد الواو وموحدة.

قال ابن عبد البر: أي أقيم وأصل ثاب رجع يقال ثاب إلى المريض جسمه فكأن المؤذن رجع إلى ضرب من الأذان للصلاة، وقد جاء هذا الحديث عن أبي هريرة بلفظ: إذا أقيمت الصلاة، وهو يبين أن التثويب هنا الإقامة انتهى.

وهي رواية الصحيحين من وجه آخر عن أبي هريرة وفي رواية لهما أيضًا: إذا سمعتم الإقامة وهي أخص من قوله في حديث أبي قتادة عندهما أيضًا إذا أتيتم الصلاة، لكن الظاهر كما قال الحافظ إنه في مفهوم الموافقة لأن المسرع إذا أقيمت الصلاة يترجى إدراك فضيلة التكبيرة الأولى ونحوها، ومع ذلك نهى عن الإسراع فغيره ممن جاء قبل الإقامة لا يحتاج إلى الإسراع لأنه يتحقق إدراك الصلاة كلها فينهى من باب أولى، ولحظ فيه بعضهم معنى آخر فقال: حكمة التقييد بالإقامة أن المسرع إذا أقيمت الصلاة يصل إليها وقد تعب فيقرأ وهو بتلك الحالة فلا يحصل له تمام الخشوع في الترتيل وغيره بخلاف من جاء قبل ذلك فلا تقام الصلاة حتى يستريح، لكن قضية هذا أنه لا يكره الإسراع لمن جاء قبل الإقامة وهو مخالف لصريح قوله: إذا أتيتم الصلاة لأنه يتناول ما قبل الإقامة وإنما قيده بالإقامة لأنها الحاملة غالبًا على الإسراع انتهى.

( فَلَا تَأْتُوهَا وَأَنْتُمْ تَسْعَوْنَ) تمشون بسرعة وتطلق على العمل نحو: { { وَمَنْ أَرَادَ الآَخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ } } { { إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى } } وعليه حمل قوله تعالى { { فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ } } كقوله: { { وَأَن لَّيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى } } أو المراد الذهاب فليس معناه الإسراع.
قال الطيبي: وأنتم تسعون حال من ضمير الفاعل وهو أبلغ في النهي من لا تسعوا وذلك لأنه مناف لما هو أولى به من الوقار والأدب وعقبه بما يدل على حسن الأدب بقوله ( وَأْتُوهَا وَعَلَيْكُمُ السَّكِينَةُ) ضبطه القرطبي بالنصب على الإغراء والنووي بالرفع على أنها جملة في موضع الحال زاد غيره أو السكينة مبتدأ وعليكم خبره، وذكر الحافظ العراقي في شرح الترمذي أن المشهور في الرواية الرفع، ووقع في رواية الحافظ أبي ذر الهروي للبخاري بالسكينة بالباء.

واستشكل بأنه متعد بنفسه عليكم أنفسكم وفيه نظر لثبوت زيادتها في أحاديث صحيحة كحديث عليكم برخصة الله، وحديث فعليه بالصوم فإنه له وجاء، وحديث عليك بالمرأة قاله لأبي طلحة في قصة صفية، وحديث عليكم بقيام الليل، وحديث عليك بخويصة نفسك وغير ذلك وتعليل هذا المعترض لا يوفي بمقصوده، إذ لا يلزم من تعديه بنفسه امتناع تعديه بالباء إذا ثبت ذلك، فيدل على أن فيه لغتين زاد في الصحيحين من وجه آخر عن أبي هريرة والوقار.
قال عياض والقرطبي: هو بمعنى السكينة وذكر للتأكيد.

وقال النووي: الظاهر أن بينهما فرقًا وأن السكينة التأني في الحركات واجتناب العبث والوقار في الهيئة كغض البصر وخفض الصوت وعدم الالتفات ذكره الحافظ، وقد منع الرضي الاعتراض بأن أسماء الأفعال وإن كان حكمها في التعدي واللزوم حكم الأفعال التي بمعناها لكن كثيرًا ما تزاد الباء في مفعولها لضعفها في العمل.

( فَمَا أَدْرَكْتُمْ) الفاء جواب شرط محذوف أي إذا فعلتم ما أمرتكم به من السكينة فما أدركتم ( فَصَلُّوا) مع الإمام ( وَمَا فَاتَكُمْ) معه ( فَأَتِمُّوا) أي أكملوا وفي رواية: فاقضوا والأولى أكثر رواية وأعمل مالك في المشهور في مذهبه الروايتين فقال يقضي القول ويبني الفعل وعنه بانيًا فيهما عملاً برواية فأتموا وعليها الشافعي حملاً لرواية فاقضوا على معنى الأداء والفراغ فلا يغاير قوله فأتموا، لأنه إذا اتحد مخرج الحديث واختلف في لفظة منه وأمكن رد الاختلاف إلى معنى واحد كان أولى.
وهنا كذلك لأن القضاء وإن كان يطلق على الفائت غالبًا لكنه يطلق على الأداء أيضًا ويرد بمعنى الفراغ كقوله تعالى: { { فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاَةُ } } وعنه يكون قاضيًا فيهما وبه قال أبو حنيفة.
وفي هذا تنبيه لدفع توهم أن النهي إنما هو لمن لم يخف فوت بعض الصلاة فصرح بالنهي وإن فات من الصلاة ما فات وبين ما يفعل فيما فات بقوله فما إلخ.

قال ابن عبد البر: الواجب أي المطلوب إتيان الصلاة بالسكينة ولو خاف فواتها لأمره صلى الله عليه وسلم بذلك وهو الحجة خلافًا لمن جوز السعي لخوف الفوات، وقد أكد ذلك ببيان العلة بقوله: ( فَإِنَّ أَحَدَكُمْ فِي صَلَاةٍ مَا كَانَ) مدة كونه ( يَعْمِدُ) بكسر الميم يقصد ( إِلَى الصَّلَاةِ) أي إنه في حكم المصلي فينبغي له اعتماد ما ينبغي للمصلي اعتماده واجتناب ما ينبغي له اجتنابه، ونبه بهذا على أنه لو لم يدرك من الصلاة شيئًا لكان محصلاً لمقصوده لكونه في صلاة، وعدم الإسراع أيضًا يستلزم كثرة الخطأ وهو معنى مقصود لذاته، وجاءت فيه أحاديث تقدم شيء منها.

وفي الصحيحين عن أنس أن بني سلمة أرادوا أن يتحولوا عن منازلهم فينزلوا قريبًا من النبي صلى الله عليه وسلم فكره أن يعروا منازلهم فقال: يا بني سلمة ألا تحتسبون آثاركم فأقاموا.
ولمسلم عن جابر فقالوا: ما يسرنا إذا كنا تحولنا.

واستدل به الجمهور على حصول فضل الجماعة بإدراك أي جزء من الصلاة لقوله: فما أدركتم فصلوا ولم يفصل بين قليل وكثير، وقيل: إنما يدرك فضلها بركعة وهو مذهب مالك للحديث السابق: من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة وقياسًا على الجمعة.
واستدل به أيضًا على طلب الدخول مع الإمام في أي حالة وجد عليها.
وأصرح منه ما أخرجه ابن أبي شيبة عن رجل من الأنصار مرفوعًا: من وجدني قائمًا أو راكعًا أو ساجدًا فليكن معي على حالتي التي أنا عليها.

واستدل به أيضًا على أن من أدرك الإمام راكعًا لم تحسب له تلك الركعة للأمر بإتمام ما فاته وقد فاته الوقوف والقراءة فيه وهو قول أبي هريرة وجماعة، واختاره ابن خزيمة وغيره، وقواه التقي السبكي.

وحجة الجمهور حديث أبي بكرة لما ركع دون الصف فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: زادك الله حرصًا ولا تعد ولم يأمره بإعادة تلك الركعة، وقد تابع مالكًا في رواية هذا الحديث عن العلاء إسماعيل بن جعفر قال: أخبرني العلاء رواه مسلم بلفظه وهو في مسند أحمد والكتب الستة من طرق عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة بلفظ: إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون وأتوها وأنتم تمشون وعليكم السكينة فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا.
وله طرق كثيرة وألفاظ متقاربة.

وأخرجه الشيخان أيضًا من حديث أبي قتادة بلفظ: إذا أتيتم الصلاة فعليكم السكينة، والباقي نحوه.

( مَالِكٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي صَعْصَعَةَ) بمهملات مفتوحات إلا العين الأولى فساكنة عمرو بن زيد ( الْأَنْصَارِيِّ ثُمَّ الْمَازِنِيِّ) بالزاي والنون من بني مازن بن النجار من الثقات، مات في خلافة المنصور ( عَنْ أَبِيهِ) عبيد الله المدني من ثقات التابعين زاد ابن عيينة وكان يتيمًا في حجر أبي سعيد وكانت أمه عند أبي سعيد أخرجه ابن خزيمة، ومات أبو صعصعة في الجاهلية وابنه عبد الرحمن صحابي.

( أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ) سعد بن مالك بن سنان الصحابي ابن الصحابي ( الْخُدْرِيَّ قَالَ لَهُ:) أي لعبد الله بن عبد الرحمن ( إِنِّي أَرَاكَ تُحِبُّ الْغَنَمَ وَالْبَادِيَةَ) أي لأجل الغنم لأن محبها يحتاج إلى إصلاحها بالمرعى وهو في الغالب يكون في البادية وهي الصحراء التي لا عمارة فيها ( فَإِذَا كُنْتَ فِي غَنَمِكَ أَوْ بَادِيَتِكَ) يحتمل أن أو شك من الراوي وأنها للتنويع لأن الغنم قد لا تكون في البادية وقد يكون في البادية حيث لا غنم قاله الحافظ وغيره.

( فَأَذَّنْتَ بِالصَّلَاةِ) أي أعلمت بوقتها.
وفي رواية للبخاري للصلاة باللام بدل الموحدة أي لأجلها ( فَارْفَعْ صَوْتَكَ بِالنِّدَاءِ) أي الأذان وفيه إشعار بأن أذان مريد الصلاة كان مقررًا عندهم لاقتصاره على الأمر بالرفع دون أصل التأذين، وفيه استحباب أذان المنفرد وهو الراجح عند الشافعية والمالكية إن سافر بناء على أن الأذان حق الوقت، ولو لم يرج حضور من يصلي معه لأنه إن فاته دعاء المصلين لم تفته شهادة من سمعه من غيرهم، وقيل لا يستحب بناء على أنه لاستدعاء الجماعة، ومنهم من فصل بين من يرجو جماعة فيستحب ومن لا فلا.

( فَإِنَّهُ لَا يَسْمَعُ مَدَى) بفتح الميم والقصر أي غاية ( صَوْتِ الْمُؤَذِّنِ) قال البيضاوي: غاية الصوت يكون للمصغي أخفى من ابتدائه فإذا شهد له من بعد عنه ووصل إليه منتهى صوته، فلأن يشهد له من دنا منه وسمع مبادي صوته أولى ( جِنٌّ) قال الرافعي: يشبه أن يريد مؤمني الجن، وأما غيرهم فلا يشهدون للمؤذن بل يفرون وينفرون من الأذان ( وَلَا إِنْسٌ) قيل خاص بالمؤمنين فأما الكافر فلا شهادة له.
قال عياض: وهذا لا يسلم لقائله لما جاء في الآثار من خلافه ( وَلَا شَيْءٌ) ظاهره يشمل الحيوانات والجمادات فهو من العام بعد الخاص ويؤيده رواية ابن خزيمة لا يسمع صوته شجر ولا مدر ولا حجر ولا جن ولا إنس، وله ولأبي داود والنسائي من طريق أبي يحيى عن أبي هريرة بلفظ: المؤذن يغفر له مدى صوته ويشهد له كل رطب ويابس ونحوه للنسائي من حديث البراء وصححه ابن السكن.

قال الخطابي: مدى الشيء غايته أي أنه يستكمل المغفرة إذا استوفى وسعه في رفع الصوت فيبلغ الغاية من المغفرة إذا بلغ الغاية من الصوت، أو أنه كلام تمثيل وتشبيه يريد أن المكان الذي ينتهي إليه الصوت لو قدر أن يكون بين أقصاه وبين مقامه الذي هو فيه ذنوب تملأ تلك المسافة غفرها الله تعالى له واستشهد المنذري لقوله الأول برواية يغفر له مد صوته بتشديد الدال أي بقدر مد صوته.

قال الحافظ: فهذه الأحاديث تبين المراد من قوله ولا شيء وتكلم بعض من لم يطلع عليها في تأويله على ما يقتضيه ظاهره، فقال القرطبي: المراد بالشيء الملائكة، وتعقب بأنهم دخلوا في الجن لأنهم يستخفون عن الأبصار، وقال غيره: المراد كل ما يسمع المؤذن من الحيوان حتى ما لا يعقل لأنه الذي يصح أن يسمع صوته دون الجمادات، ومنهم من حمله على ظاهره ولا يمتنع ذلك عقلاً ولا شرعًا.

قال ابن بزيزة: تقرر في العادة أن السماع والشهادة والتسبيح لا يكون إلا من حي فهل ذلك حكاية على لسان الحال لأن الموجودات ناطقة بلسان حالها بجلال بارئها، أو هو على ظاهره ولا يمتنع عقلاً أن الله يخلق فيها الحياة والكلام.

وتقدم البحث في ذلك في قول النار: أكل بعضي بعضًا، وفي مسلم عن جابر بن سمرة مرفوعًا: إني لأعرف حجرًا بمكة كان يسلم علي قبل أن أبعث، ونقل ابن التين عن أبي عبد الملك أن قوله هنا ولا شيء نظير قوله تعالى: { { وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ } } وتعقبه بأن الآية مختلف فيها وما عرفت وجه هذا التعقب فإنهما سواء في الاحتمال، ونقل الاختلاف إلا أن يقول إن الآية لم يختلف في كونها على عمومها، وإنما اختلف في تسبيح بعض الأشياء هل هو على الحقيقة أو المجاز بخلاف الحديث.

( إِلَّا شَهِدَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) قال الزين بن المنير: السر في هذه الشهادة مع أنها تقع عند عالم الغيب والشهادة أن أحكام الآخرة جرت على أحكام نعت الخلق في الدنيا من توجيه الدعوى والجواب والشهادة، وقال التوربشتي: المراد من هذه الشهادة إشهار المشهود له يوم القيامة بالفضل وعلو الدرجة وكما أن الله يفضح بالشهادة قومًا فكذلك يكرم بالشهادة آخرين.
وقال الباجي: فائدة ذلك أن من يشهد له يوم القيامة يكون أعظم أجرًا في الآخرة ممن أذن فلم يسمعه من يشهد له.

( قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أي هذا الكلام الأخير وهو أنه لا يسمع إلخ، فقد رواه ابن خزيمة من رواية ابن عيينة بلفظ: قال أبو سعيد إذا كنت في البوادي فارفع صوتك بالنداء فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا يسمع، فذكره.
ورواه يحيى بن سعيد القطان عن مالك بلفظ: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا أذنت فارفع صوتك فإنه لا يسمع، فذكره.

فالظاهر أن ذكر الغنم والبادية موقوف خلافًا لإيراد الرافعي الحديث في الشرح بلفظ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي سعيد: إنك رجل تحب الغنم وساقه إلى آخره وسبقه إلى ذلك الغزالي وإمام الحرمين والقاضي حسين وغيرهم وتعقبهم النووي، وأجاب ابن الرفعة عنهم بأنهم فهموا أن قوله سمعته من رسول الله عائد إلى كل ما ذكر ولا يخفى بعده ذكره الحافظ، بل تمنعه روايتا ابن عيينة والقطان، وقد خالف الرافعي نفسه فقال في شرح المسند قوله سمعته يعني قوله أنه لا يسمع إلخ انتهى وهو الصواب.

وفي الحديث استحباب رفع الصوت بالأذان ليكثر من يشهد له ما لم يجهده أو يتأذى به، وفيه أن حب الغنم والبادية ولا سيما عند نزول الفتنة من عمل السلف الصالح، وفيه جواز التبدي ومساكنة الأعراب ومشاركتهم في الأسباب بشرط حظ من العلم وأمن غلبة الجفاء.

قال ابن عبد البر: فيه إباحة لزوم البادية ولكن في البعد عن الجماعة والجمعة ما فيه من البعد عن الفضائل إلا أن الزمان إذا كثر فيه الشر وتعذرت فيه السلامة طابت العزلة وهي خير من خليط السوء والجليس الصالح خير من الوحدة.
وقال صلى الله عليه وسلم: يوشك أن يكون خير مال المسلم غنمًا يتبع بها شعف الجبال ومواضع القطر يفر بدينه من الفتن.

وهذا الحديث أخرجه البخاري هنا عن عبد الله بن يوسف وفي بدء الخلق عن قتيبة بن سعيد كلاهما عن مالك به، ولم يخرجه مسلم.

( مَالِكٍ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ) عبد الله بن ذكوان ( عَنِ الْأَعْرَجِ) عبد الله بن هرمز ( عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ) أي لأجلها، وللنسائي عن قتيبة عن مالك بالصلاة وهي رواية لمسلم أيضًا ويمكن حملهما على معنى واحد ( أَدْبَرَ الشَّيْطَانُ) إبليس على الظاهر، ويدل عليه كلام كثير من الشراح، ويحتمل أن المراد جنس الشيطان وهو كل متمرد من الجن أو الإنس لكن المراد هنا شيطان الجن خاصة ( لَهُ ضُرَاطٌ) جملة إسمية وقعت حالاً بدون واو لحصول الارتباط بالضمير وفي رواية للبخاري وله بالواو.
وقال عياض: يمكن حمله على ظاهره لأنه جسم متغذ يصح منه خروج الريح، ويحتمل أنه عبارة عن شدة نفاره ويقربه رواية مسلم له حصاص بمهملات مضموم الأول، وفسره الأصمعي وغيره بشدة العدو، وقال الطيبي: شبه شغل الشيطان نفسه عن سماع الأذان بالصوت الذي يملأ السمع ويمنعه عن سماع غيره ثم سماه ضراطًا.

( حَتَّى لَا يَسْمَعَ النِّدَاءَ) أي التأذين كما هو رواية التنيسي للموطأ ومسلم من رواية المغيرة عن أبي الزناد والمعنى واحد.
وقال الحافظ: ظاهره أنه يتعمد إخراج ذلك إما ليشتغل بسماع الصوت الذي يخرجه عن سماع المؤذن، أو يصنع ذلك استخفافًا كما تفعله السفهاء، أو ليقابل ما يناسب الصلاة من الطهارة بالحدث، ويحتمل أن لا يتعمد ذلك بل يحصل له عند سماع الأذان شدة خوف يحدث له ذلك الصوت بسببها، وفيه استحباب رفع الصوت بالأذان لأنه ظاهر في أنه يبعد إلى غاية ينتفي فيها سماعه للصوت، وقد بينت الغاية في رواية مسلم من حديث جابر فقال: حتى يكون مكان الروحاء.
قال سليمان يعني الأعمش فسألته أي أبا سفيان راويه عن جابر عن الروحاء فقال هي من المدينة ستة وثلاثون ميلاً، وقد أدرج هذا إسحاق بن راهويه في مسنده فقال: حتى يكون بالروحاء وهي ستة إلخ والمعتمد الأول.

( فَإِذَا قُضِيَ النِّدَاءُ) بضم القاف أي فرغ وانتهى منه ويروى بفتح القاف على حذف الفاعل والمراد المنادي أي: إذا قضى المنادي النداء ( أَقْبَلَ) زاد مسلم في رواية أبي صالح عن أبي هريرة فوسوس ( حَتَّى إِذَا ثُوِّبَ بِالصَّلَاةِ أَدْبَرَ) بضم المثلثة وشد الواو المكسورة قيل من ثاب إذا رجع وقيل من ثوب إذا أشار بثوبه عند الفزع لإعلام غيره.

قال الجمهور: المراد هنا الإقامة وبه جزم أبو عوانة والخطابي والبيهقي وغيرهم وقال القرطبي: ثوب بالصلاة أي أقيمت وأصله أنه رجع إلى ما يشبه الأذان وكل مردد صوت فهو مثوب ويدل عليه رواية مسلم من طريق أبي صالح عن أبي هريرة فإذا سمع الإقامة ذهب.

وزعم بعض الكوفيين أن المراد بالتثويب قول المؤذن بين الأذان والإقامة حي على الصلاة حي على الفلاح قد قامت الصلاة وحكاه ابن المنذر عن أبي يوسف عن أبي حنيفة وزعم أنه تفرد به لكن في سنن أبي داود عن ابن عمر أنه كره التثويب بين الأذان والإقامة فهذا يدل على أن له سلفًا في ذلك في الجملة ويحتمل أن يكون الذي تفرد به القول الخاص.

قال الخطابي: لا تعرف العامة التثويب إلا قول المؤذن الصلاة خير من النوم لكن المراد به هنا الإقامة.

( حَتَّى إِذَا قُضِيَ التَّثْوِيبُ) بالرفع نائب الفاعل والنصب مفعول ( أَقْبَلَ حَتَّى يَخْطِرَ) بفتح أوله وكسر الطاء كما ضبطه عياض عن المتقنين وقال: إنه الوجه ومعناه يوسوس وأصله من خطر البعير بذنبه إذا حركه فضرب به فخذيه قال: وسمعناه من أكثر الرواة بضم الطاء ومعناه المرور أي يدنو منه فيمر بينه وبين قلبه فيشغله عما هو فيه، وبهذا فسره الشارحون للموطأ وبالأول فسره الخليل وضعف الهجري في نوادره الضم وقال: هو يخطر بالكسر في كل شيء ( بَيْنَ الْمَرْءِ وَنَفْسِهِ) أي قلبه وكذا هو للبخاري من وجه آخر في بدء الخلق قال الباجي: المعنى أنه يحول بين المرء وبين ما يريده من إقباله على صلاته وإخلاصه فيها.

( يَقُولُ) الشيطان ( اذْكُرْ كَذَا اذْكُرْ كَذَا) وفي رواية للبخاري ومسلم بواو العطف واذكر كذا وللبخاري أيضًا في صلاة السهو اذكر كذا وكذا ( لِمَا لَمْ يَكُنْ يَذْكُرُ) أي لشيء لم يكن على ذكره قبل دخوله في الصلاة وفي رواية لمسلم لما لم يذكر من قبل، وله أيضًا من رواية عبد ربه عن الأعرج فهناه ومناه وذكره من حاجاته ما لم يكن يذكر.

ومن ثم استنبط أبو حنيفة للذي شكا إليه أنه دفن مالاً ثم لم يهتد لمكانه أن يصلي ويحرص على أن لا يحدث نفسه بشيء من أمر الدنيا ففعل فذكر مكان المال في الحال قيل خصه بما يعلم دون ما لم يعلم لأنه يميل لما يعلم أكثر لتحقق وجوده، والذي يظهر أنه أعم من ذلك فيذكره لما سبق له به علم ليشغل باله به ولما لم يكن سبق له ليوقعه في الفكرة فيه وهذا أعم من أن يكون في أمور الدنيا أو في أمور الدين كالعلم.
لكن هل يشمل ذلك التفكر في معاني الآيات التي يتلوها لا يبعد ذلك لأن غرضه نقص خشوعه وإخلاصه بأي وجه كان.

( حَتَّى يَظَلَّ الرَّجُلُ) بالظاء المعجمة المفتوحة رواية الجمهور ومعناه في الأصل اتصاف المخبر عنه بالخبر نهارًا لكنها هنا بمعنى يصير أو يبقى، وفي رواية بالضاد الساقطة مكسورة أي ينسى، ومنه أن تضل إحداهما أو يخطئ ومنه { { لاَّ يَضِلُّ رَبِّي وَلاَ يَنسَى } } ومفتوحة أي يتحير من الضلال وهو الحيرة والمشهور الأول ( إِنْ يَدْرِي) بكسر همزة إن النافية بمعنى لا، وفي رواية التنيسي لا يدري وروي بفتح الهمزة ونسبها ابن عبد البر لأكثر رواة الموطأ ووجهها بما تعقبه عليه جماعة وقال القرطبي: ليست رواية الفتح بشيء إلا مع رواية الضاد الساقطة فيكون أن والفعل بتأويل المصدر ومفعول ضل إن بإسقاط حرف الجر أي يضل عن درايته وكذا قال عياض لا يصح فتحها إلا على رواية يضل بكسر الضاد فتكون أن مع الفعل مفعوله أي يجهل درايته وينسى عدد ركعاته ( كَمْ صَلَّى) .

وللبخاري في بدء الخلق من وجه آخر عن أبي هريرة: حتى لا يدري أثلاثًا صلى أم أربعًا.

واختلف العلماء في حكمة هروب الشيطان عند سماع الأذان والإقامة دون سماع القرآن والذكر في الصلاة فقيل: حتى لا يشهد للمؤذن يوم القيامة فإنه لا يسمع صوته جن ولا إنس إلا شهد له كما تقدم، وقيل نفورًا عن سماع الأذان ثم يرجع موسوسًا ليفسد على المصلي صلاته فصار رجوعه من جنس فراره، والجامع بينهما الاستخفاف وقيل: لأن الأذان دعاء إلى الصلاة المشتملة على السجود الذي أباه وعصى بسببه.

واعترض بأنه يعود قبل السجود فلو كان هروبه لأجله لم يعد إلا عند فراغه.

وأجيب: بأنه يهرب عند سماع الدعاء لذلك ليغالط نفسه بأنه لم يخالف أمرًا ثم يرجع ليفسد على المصلي سجوده الذي أباه وقيل إنما يهرب لاتفاق الجميع على الإعلان بشهادة الحق وإقامة الشريعة.

واعترض بأن الاتفاق على ذلك حاصل قبل الأذان وبعده من جميع من يصلي.
وأجيب: بأن الإعلان أخص من الاتفاق فإن الإعلان المختص بالأذان لا يشاركه فيه غيره من الجهر بالتكبير والشهادة مثلاً، ولذا قال لعبد الله بن زيد: ألقه على بلال فإنه أندى منك صوتًا أي اقعد بالمد والإطالة والإسماع ليعم الصوت ويطول أمد التأذين فيكثر الجمع ويفوت على الشيطان مقصوده من إلهاء الآدمي عن إقامة الصلاة في جماعة أو إخراجها عن وقتها أو وقت فضيلتها، فيفر حينئذ وقد يئس أن يردهم عما أعلنوا به ثم يرجع لما طبع عليه من الأذى إلى الوسوسة.

وقال ابن الجوزي: على الأذان هيئة يشتد انزعاج الشيطان بسببها لأنه لا يكاد يقع في الأذان رياء ولا غفلة عند النطق به لأن النفس لا تحضره بخلاف الصلاة، فإن النفس تحضر فيها فيفتح لها الشيطان أبواب الوسوسة.

وقد ترجم عليه أبو عوانة في صحيحه الدليل على أن المؤذن في أذانه وإقامته منفي عنه الوسوسة والرياء لتباعد الشيطان منه وقيل لأن الأذان إعلام بالصلاة التي هي أفضل الأعمال بألفاظ هي من أفضل الذكر لا يزاد فيها ولا ينقص منها بل تقع على وفق الأمر فيفر من سماعها، وأما الصلاة فلما يقع من كثير من الناس فيها من التفريط تمكن الخبيث من المفرط فلو قدر أن المصلي وفي جميع ما أمر به فيها لم يقربه فيها إن كان وحده وهو نادر، وكذا إذا انضم إليه من هو مثله وهو أندر أشار إليه ابن أبي جمرة.

قال ابن بطال: ويشبه أن يكون الزجر عن الخروج من المسجد بعد الأذان من هذا المعنى لئلا يكون متشبهًا بالشيطان الذي يفر عند سماع الأذان، وفهم بعض السلف من هذا الحديث الإتيان بصورة الأذان وإن لم يوجد فيه شروط الأذان من وقوعه في الوقت وغير ذلك، ففي مسلم من رواية سهيل بن أبي صالح قال: أرسلني أبي إلى بني حارثة ومعي غلام لنا أو صاحب لنا فناداه مناد من حائط باسمه فأشرف الذي معي على الحائط فلم ير شيئًا فذكرت ذلك لأبي فقال: لو شعرت أنك تلقى هذا لم أرسلك ولكن إذا سمعت صوتًا فناد بالصلاة فإني سمعت أبا هريرة يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: إن الشيطان إذا نودي بالصلاة ولى وله حصاص.

وقال ابن عبد البر: قال مالك: استعمل زيد بن أسلم على معدن بني سليم وكان لا يزال يصاب فيه الناس من الجن فلما وليهم شكوا ذلك إليه فأمرهم بالأذان وأن يرفعوا أصواتهم به ففعلوا فارتفع ذلك عنهم فهم عليه حتى اليوم.
قال مالك: أعجبني ذلك من زيد وذكرت الغيلان عند عمر بن الخطاب فقال: إن شيئًا من الخلق لا يستطيع أن يتحول في غير خلقه ولكن للجن سحرة كما للإنس سحرة فإذا خشيتم شيئًا من ذلك فأذنوا بالصلاة.

وهذا الحديث رواه البخاري عن عبد الله بن يوسف عن مالك به، ورواه في السهو عن الليث عن جعفر بن ربيعة عن الأعرج به، ومسلم من طريق المغيرة الخزاعي عن أبي الزناد به، ومن طريق الأعمش وسهيل كلاهما عن أبي صالح عن أبي هريرة بنحوه.

( مَالِكٍ عَنْ أَبِي حَازِمِ) بمهملة وزاي سلمة ( بْنِ دِينَارٍ) الأعرج المدني العابد الثقة من رجال الجميع قال أبو عمر: كان أبو حازم هذا أحد الفضلاء الحكماء العلماء الثقات الأثبات وله حكم وزهديات ومواعظ ورقائق ومقطعات ومات سنة أربعين ومائة على الأصح وقيل: غير ذلك.

( عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ) بن مالك بن خالد الأنصاري الخزرجي ( السَّاعِدِيِّ) أبي العباس الصحابي ابن الصحابي مات سنة ثمان وثمانين وقيل بعدها وقد جاوز المائة ( أَنَّهُ قَالَ سَاعَتَانِ) قال ابن عبد البر: هذا الحديث موقوف عند جماعة رواة الموطأ ومثله لا يقال بالرأي، وقد رواه أيوب بن سويد ومحمد بن مخلد وإسماعيل بن عمرو عن مالك مرفوعًا.

وروي من طرق متعددة عن أبي حازم عن سهل قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ساعتان ( يُفْتَحُ لَهُمَا أَبْوَابُ السَّمَاءِ) أي فيهما أو من أجل فضيلتهما ( وَقَلَّ دَاعٍ تُرَدُّ عَلَيْهِ دَعْوَتُهُ) إخبار بأن الإجابة في هذين الوقتين هي الأكثر وأن رد الدعاء فيهما يندر ولا يكاد يقع قاله الباجي، فأشار بقوله قل إلى أنها قد ترد لفوات شرط من شروط الدعاء أو ركن من أركانه أو نحو ذلك وقال السيوطي: بل قل هنا للنفي المحض كما هو أحد استعمالاتها.
قال ابن مالك في التسهيل وغيره: ترد قل للنفي المحض فترفع الفاعل متلوًا بصفة مطابقة له نحو: قل رجل يقول ذلك، وقل رجلان يقولان ذلك وهي من الأفعال التي منعت التصرف.

( حَضْرَةُ النِّدَاءِ لِلصَّلَاةِ) أي الأذان ( وَالصَّفُّ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) أي في قتال الكفار لإعلاء كلمة الله.
وقد روى الطبراني والحاكم في المستدرك والديلمي الحديث عن سهل به مرفوعًا.
وروى أبو نعيم في الحلية عن عائشة رفعته: ثلاث ساعات للمرء المسلم ما دعا فيهن إلا استجيب له ما لم يسأل قطيعة رحم أو مأثمًا، حين يؤذن المؤذن بالصلاة حتى يسكت، وحين يلتقي الصفان حتى يحكم الله بينهما، وحين ينزل المطر حتى يسكن.
( وَسُئِلَ مَالِكٌ عَنِ النِّدَاءِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ هَلْ يَكُونُ قَبْلَ أَنْ يَحِلَّ الْوَقْتُ؟ فَقَالَ: لَا يَكُونُ إِلَّا بَعْدَ أَنْ تَزُولَ الشَّمْسُ) لأن وقتها زوال الشمس كالظهر عند جمهور الفقهاء وأجاز أحمد صلاتها قبل الزوال وهو شذوذ.
قال مالك: لو خطب قبل الزوال وصلى بعده لم تجز ويعيدون الجمعة بخطبة ما لم تغرب الشمس نقله ابن حبيب عن مطرف عنه.
وقال ابن سحنون: يعيدون الظهر أبدًا أفذاذًا.

( وَسُئِلَ مَالِكٌ عَنْ تَثْنِيَةِ النِّدَاءِ وَالْإِقَامَةِ وَمَتَى يَجِبُ الْقِيَامُ عَلَى النَّاسِ حِينَ تُقَامُ الصَّلَاةُ؟ فَقَالَ: لَمْ يَبْلُغْنِي فِي النِّدَاءِ وَالْإِقَامَةِ إِلَّا مَا أَدْرَكْتُ النَّاسَ عَلَيْهِ) وهو شفع الأذان لما في البخاري عن أنس قال: أمر بلال أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة قال الزين بن المنير: وصف الأذان بأنه شفع يفسره قوله مثنى أي مرتين مرتين وذلك يقتضي أن يستوي جميع ألفاظه في ذلك لكن لم يختلف في أن كلمة التوحيد التي في آخره مفردة فيحمل قوله مثنى على ما سواها انتهى.
ففيه دليل على أن التكبير ليس مربعًا، وكذا قوله صلى الله عليه وسلم: الأذان مثنى مثنى أخرجه أبو داود الطيالسي عن ابن عمر.
ورواه أبو داود والنسائي وصححه ابن خزيمة وغيره من حديث ابن عمر بلفظ: مرتان مرتان.

( فَأَمَّا الْإِقَامَةُ فَإِنَّهَا لَا تُثَنَّى) حتى قد قامت الصلاة بل تفرد ( وَذَلِكَ الَّذِي لَمْ يَزَلْ عَلَيْهِ أَهْلُ الْعِلْمِ بِبَلَدِنَا) المدينة مع تأييده بالحديث الصحيح، وأما قوله في رواية أيوب السختياني عن أبي قلابة عن أنس: ويوتر الإقامة إلا الإقامة أي: قد قامت الصلاة فالمثبت غير المنفي فهو مدرج من قول أيوب وليس من الحديث كما جزم به الأصيلي وابن منده، لأن إسماعيل بن إبراهيم قال: حدثنا خالد الحذاء عن أبي قلابة عن أنس قال: أمر بلال أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة.
قال إسماعيل: فذكرته لأيوب فقال: إلا الإقامة رواه البخاري ومسلم ونظر فيما قاله الحافظ بأن عبد الرزاق رواه عن معمر عن أيوب بسنده بلفظ: كان بلال يثني الأذان ويوتر الإقامة إلا قوله قد قامت الصلاة، والأصل أن ما كان في الخبر فهو منه حتى يقوم دليل على خلافه ولا دليل في رواية إسماعيل لأن محصلها أن خالدًا كان لا يذكر الزيادة وأيوب يذكرها وكل منهما روى الحديث عن أبي قلابة عن أنس فكان في رواية أيوب زيادة حافظ فتقبل انتهى.

لكن إنما يتم له هذا النظر لو صرح أيوب بروايته له عن أبي قلابة لما ذكر له إسماعيل رواية خالد وهو إنما قال: إلا الإقامة فيتبادر منه أنه إخبار عن رأيه، وأما رواية عبد الرزاق فلا دليل فيها على عدم الإدراج لأنها من محل النزاع، وقد دلت رواية إسماعيل على الإدراج ثم هذا الحديث حجة على من قال إن الإقامة مثناة.

وزعم بعض الحنفية أن إفرادها كان أولاً ثم نسخ بحديث أبي محذورة عند أصحاب السنن وفيه تثنية الإقامة وهو متأخر عن حديث أنس فيكون ناسخًا.
وعورض بأن في بعض طرق حديث أبي محذورة المحسنة التربيع والترجيع فكان يلزمهم القول به، وقد أنكر أحمد على من ادعى النسخ بحديث أبي محذورة، واحتج بأنه صلى الله عليه وسلم رجع بعد الفتح إلى المدينة وأقر بلالاً على إفراد الإقامة وعلمه سعد القرظ فأذن به بعده كما رواه الدارقطني والحاكم.

وقال ابن عبد البر: ذهب أحمد وإسحاق وداود وابن جرير إلى أن ذلك من الاختلاف المباح فإن ربع التكبير الأول في الأذان أو ثناه أو رجع في التشهد أو لم يرجع أو ثنى الإقامة أو أفردها كلها أو إلا قد قامت الصلاة، فالجميع جائز.
قيل الحكمة في تثنية الأذان وإفراد الإقامة أن الأذان لإعلام الغائبين فكرر ليكون أوصل إليهم بخلاف الإقامة فللحاضرين، ومن ثم استحب أن يكون الأذان في مكان عال بخلاف الإقامة، وأن يكون الصوت في الأذان أرفع منه في الإقامة.

قال الحافظ: وهذا توجيه ظاهر وأما قول الخطابي لو سوى بينهما لاشتبه الأمر في ذلك وصار يفوت كثيرًا من الناس صلاة الجماعة ففيه نظر لأن الأذان يستحب على مرتفع ليشترك فيه الإسماع وأن يكون مرتلاً والإقامة مسرعة ويؤخذ حكمة الترجيع مما تقدم وإنما اختص بالتشهد لأنه أعظم ألفاظ الأذان، والله أعلم.

( وَأَمَّا قِيَامُ النَّاسِ حِينَ تُقَامُ الصَّلَاةُ فَإِنِّي لَمْ أَسْمَعْ فِي ذَلِكَ بِحَدٍّ يُقَامُ لَهُ) وما في الصحيحين عن أبي قتادة قال صلى الله عليه وسلم: إذا أقيمت الصلاة فلا تقوموا حتى تروني خرجت فهو نهي عن القيام قبل خروجه وتسويغ له عند رؤيته وهو مطلق غير مقيد بشيء من ألفاظ الإقامة.

ومن ثم اختلف السلف في ذلك فقال مالك: ( إِلَّا أَنِّي أَرَى ذَلِكَ عَلَى قَدْرِ طَاقَةِ النَّاسِ فَإِنَّ مِنْهُمُ الثَّقِيلَ وَالْخَفِيفَ وَلَا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَكُونُوا كَرَجُلٍ وَاحِدٍ) وذهب الأكثر إلى أنهم إذا كان الإمام معهم في المسجد لم يقوموا حتى تفرغ الإقامة وإذا لم يكن في المسجد لم يقوموا حتى يروه، وعن أنس أنه كان يقوم إذا قال المؤذن قد قامت الصلاة رواه ابن المنذر وغيره، ورواه سعيد بن منصور من طريق أبي إسحاق عن أصحاب عبد الله، وعن سعيد بن المسيب أنه إذا قال المؤذن: الله أكبر وجب القيام، وإذا قال: حي على الصلاة عدلت الصفوف، وإذا قال لا إله إلا الله كبر الإمام.
وعن أبي حنيفة يقومون إذا قال حي على الفلاح فإذا قال قد قامت الصلاة كبر الإمام، والحديث حجة على هؤلاء المفصلين.

قال القرطبي: ظاهر هذا الحديث أن الصلاة كانت تقام قبل أن يخرج صلى الله عليه وسلم من بيته، وهو معارض لحديث جابر بن سمرة عند مسلم أن بلالاً كان لا يقيم حتى يخرج صلى الله عليه وسلم ويجمع بينهما بأن بلالاً كان يراقب خروج النبي صلى الله عليه وسلم، فأول ما يراه يشرع في الإقامة قبل أن يراه غالب الناس ثم إذا رأوه قاموا فلا يقوم في مقامه حتى تعتدل صفوفهم.

قال الحافظ: ويشهد له ما رواه عبد الرزاق عن ابن جريج عن ابن شهاب كانوا ساعة يقول المؤذن الله أكبر يقومون إلى الصلاة فلا يأتي النبي صلى الله عليه وسلم حتى تعتدل الصفوف.
وأما حديث أبي هريرة في البخاري بلفظ: أقيمت الصلاة فسوى الناس صفوفهم فخرج صلى الله عليه وسلم، ولفظه في مستخرج أبي نعيم وصف الناس صفوفهم ثم خرج علينا، ولفظه في مسلم أقيمت الصلاة فقمنا فعدلنا الصفوف قبل أن يخرج إلينا النبي صلى الله عليه وسلم فأتى فقام مقامه فيجمع بينه وبين حديث أبي قتادة بأن ذلك ربما وقع لبيان الجواز، وبأن صنعهم في حديث أبي هريرة كان سبب النهي في حديث أبي قتادة، وأنهم كانوا يقومون ساعة تقام الصلاة ولو لم يخرج صلى الله عليه وسلم فنهاهم عن ذلك لاحتمال أن يقع له شغل يبطئ فيه عن الخروج فيشق عليهم انتظاره ولا يرد هذا حديث أنس في الصحيح أنه قام في مقامه طويلاً في مناجاة بعض القوم لاحتمال وقوعه نادرًا أو فعله لبيان الجواز انتهى.

( وَسُئِلَ مَالِكٌ عَنْ قَوْمٍ حُضُورٍ أَرَادُوا أَنْ يَجْمَعُوا الْمَكْتُوبَةَ فَأَرَادُوا أَنْ يُقِيمُوا وَلَا يُؤَذِّنُوا؟ قَالَ: ذَلِكَ مُجْزِئٌ عَنْهُمْ) إذ الأذان ليس بشرط في صحة الصلاة عند جمهور الفقهاء خلافًا لعطاء ( وَإِنَّمَا يَجِبُ النِّدَاءُ فِي مَسَاجِدِ الْجَمَاعَاتِ الَّتِي تُجْمَعُ فِيهَا الصَّلَاةُ) وجوب السنن المؤكدة على المذهب وأما في المصر فواجب كفاية، فلو اتفقوا على تركه أثموا وقوتلوا عليه لأنه شعار الإسلام ومن العلامات المفرقة بين دار الإسلام والكفر.
وفي الصحيحين واللفظ لمسلم عن أنس: كان صلى الله عليه وسلم يغير إذا طلع الفجر وكان يستمع الأذان فإن سمع أذانًا أمسك وإلا أغار.

( وَسُئِلَ مَالِكٌ عَنْ تَسْلِيمِ الْمُؤَذِّنِ عَلَى الْإِمَامِ وَدُعَائِهِ إِيَّاهُ لِلصَّلَاةِ وَعَنْ أَوَّلُ مَنْ سُلِّمَ عَلَيْهِ؟ فَقَالَ: لَمْ يَبْلُغْنِي أَنَّ التَّسْلِيمَ كَانَ فِي الزَّمَنِ الْأَوَّلِ) قال الباجي: أي لم يكن في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم، وإنما كان المؤذن يؤذن فإن كان الإمام في شغل جاء المؤذن فأعلمه باجتماع الناس دون تكلف ولا استعمال، فأما ما يتكلف اليوم من وقوف المؤذن بباب الأمير والسلام عليه والدعاء للصلاة بعد ذلك فإنه من المباهاة والتكبر والصلاة تنزه عن ذلك.

وقد قال القاضي أبو إسحاق في المبسوط عن عبد الملك بن الماجشون كيفية السلام: السلام عليك أيها الأمير ورحمة الله وبركاته الصلاة يرحمك الله.
قال إسماعيل: روي أن عمر أنكر على أبي محذورة دعاءه إياه إلى الصلاة وأول من فعله معاوية.

وقال ابن عبد البر: أول من فعل ذلك معاوية أمر المؤذن أن يشعره ويناديه فيقول: السلام على أمير المؤمنين الصلاة يرحمك الله، وقيل أول من فعله المغيرة بن شعبة والأول أصح انتهى.

وروى ابن أبي شيبة عن مجاهد قال: لما قدم عمر مكة أتاه أبو محذورة وقد أذن فقال: الصلاة يا أمير المؤمنين حي على الصلاة حي على الفلاح.
قال: ويحك أمجنون أنت أما كان في دعائك الذي دعوتنا ما نأتيك حتى تأتينا.

وفي الأوائل للعسكري من طريق الواقدي عن ابن أبي ذئب قال: قلت للزهري من أول من سلم عليه فقيل السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته حي على الصلاة حي على الفلاح الصلاة يرحمك الله؟ فقال: معاوية بالشام ومروان بن الحكم بالمدينة.

وروى ابن سعد في طبقاته عن محمد بن سعد القرظ قال: كنا نؤذن على عمر بن عبد العزيز في داره للصلاة فنقول السلام عليك أيها الأمير ورحمة الله وبركاته حي على الصلاة حي على الفلاح وفي الناس الفقهاء فلا ينكرون ذلك، وبهذا كله تعلم ضعف ما في خطط المقريزي.

قال الواقدي وغيره: كان بلال يقف على باب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الأذان فيقول: السلام عليك يا رسول الله فلما ولي أبو بكر كان سعد القرظ يقف فيقول: السلام عليك يا خليفة رسول الله الصلاة يا خليفة رسول الله، فلما ولي عمر ولقب أمير المؤمنين كان المؤذن يقف على بابه ويقول: السلام عليك يا أمير المؤمنين الصلاة يا أمير المؤمنين، ثم إن عمر أمر المؤذن فزاد فيها رحمك الله، ويقال إن عثمان هو الذي زادها، وما زال المؤذنون إذا أذنوا سلموا على الخلفاء وأمراء الأعمال ثم يقيمون الصلاة بعد السلام فيخرج الخليفة أو الأمير فيصلي بالناس هكذا كان العمل مدة أيام بني أمية ثم مدة بني العباس حتى ترك الخلفاء الصلاة بالناس فترك ذلك انتهى.
والواقدي متروك ولعل غيره تبعه، والله أعلم.

( وَسُئِلَ مَالِكٌ عَنْ مُؤَذِّنٍ أَذَّنَ لِقَوْمٍ ثُمَّ انْتَظَرَ هَلْ يَأْتِيهِ أَحَدٌ فَلَمْ يَأْتِهِ أَحَدٌ فَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَصَلَّى وَحْدَهُ ثُمَّ جَاءَ النَّاسُ بَعْدَ أَنْ فَرَغَ أَيُعِيدُ الصَّلَاةَ مَعَهُمْ؟ قَالَ: لَا يُعِيدُ الصَّلَاةَ وَمَنْ جَاءَ بَعْدَ انْصِرَافِهِ) فراغه من الصلاة ( فَلْيُصَلِّ لِنَفْسِهِ وَحْدَهُ) قال ابن نافع: معناه أن المؤذن هنا هو الإمام الراتب ولم يرد المؤذن، فإن لم يكن الإمام الراتب فلا بأس أن يجمعوا تلك الصلاة ويعيدها المؤذن معهم إن شاء.

قال ابن عبد البر: وهذا التفسير حسن على أصل قول مالك المسجد الذي له إمام راتب لا يجمع فيه صلاة واحدة مرتين وبه قال سفيان الثوري وأجازه أشهب.

وقال الباجي: إذا كان المؤذن إمامًا راتبًا فكما قال مالك: لأن الاعتبار في الجماعة بالإمام دون المأموم لما في ذلك من مخالفة الأئمة ومفارقة الجماعة، ولأن ذلك يؤدي أن لا تراعى أوقات الصلاة ويؤخر من شاء ويصلي في جماعة، وإن لم يكن المؤذن إمامًا راتبًا فقال ابن نافع حكمه حكم الفذ، وقال عيسى كالجماعة ويظهر لي أن قول عيسى في مسجد له مؤذن راتب وليس له إمام راتب لتعلق حكم الجماعة به دون المؤذن.

وقال ابن عبد البر: ولا أصل لهذه المسألة إلا المنع من الاختلاف على الأئمة وردع أهل البدع ليتركوا إظهار بدعتهم لأنهم كانوا يرغبون عن صلاة الإمام ثم يأتون بعده فيجمعون بإمامهم.

وقال أبو حنيفة والشافعي والجمهور لا بأس أن يجمع في المسجد مرتين ولم ينه الله عنه ولا رسوله ولا اتفق عليه العلماء، ودليل الجواز حديث أنه صلى الله عليه وسلم صلى إحدى صلاتي العشي فلما سلم دخل رجل لم يدرك الصلاة معه فاستقبل القبلة ليصلي فقال صلى الله عليه وسلم: ألا رجل يتصدق على هذا فيصلي معه فقام رجل ممن صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم فصلى معه انتهى.
والجواب أن هذه واقعة حال محتملة فلا ينهض حجة في عدم الكراهة.

( وَسُئِلَ مَالِكٌ عَنْ مُؤَذِّنٍ أَذَّنَ لِقَوْمٍ ثُمَّ تَنَفَّلَ فَأَرَادُوا أَنْ يُصَلُّوا بِإِقَامَةِ غَيْرِهِ؟ فَقَالَ: لَا بَأْسَ بِذَلِكَ إِقَامَتُهُ وَإِقَامَةُ غَيْرِهِ سَوَاءٌ) وبهذا قال أبو حنيفة وقال الليث والثوري والشافعي وأكثر أهل الحديث: من أذن فهو يقيم لحديث عبد الله بن الحارث الصدائي قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما كان الصبح أمرني فأذنت ثم قام إلى الصلاة فجاء بلال ليقيم فقال صلى الله عليه وسلم: إن أخا صداء أذن ومن أذن فهو يقيم.

قال ابن عبد البر: انفرد به عبد الرحمن بن زياد الإفريقي وليس بحجة عندهم، وحجة مالك حديث عبد الله بن زيد حين أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأذان فأمره أن يلقيه على بلال وقال: إنه أندى منك صوتًا فلما أذن بلال قال صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن زيد: أقم أنت فأقام وهذا الحديث أحسن إسنادًا.

( قَالَ مَالِكٌ: لَمْ تَزَلِ الصُّبْحُ يُنَادَى لَهَا قَبْلَ الْفَجْرِ) في أول السدس الأخير من الليل قاله ابن وهب وسحنون.
وقال ابن حبيب: نصف الليل، وحجة العمل المذكور حديث ابن عمر الآتي إن بلالاً ينادي بليل وبه قال الجمهور والأئمة الثلاثة، وقال أبو حنيفة وطائفة لا يؤذن لها حتى يطلع الفجر ( فَأَمَّا غَيْرُهَا مِنَ الصَّلَوَاتِ فَإِنَّا لَمْ نَرَهَا يُنَادَى لَهَا إِلَّا بَعْدَ أَنْ يَحِلَّ وَقْتُهَا) لحرمته قبل الوقت في غير الصبح.

قال الكرخي من الحنفية: كان أبو يوسف يقول: بقول أبي حنيفة: لا يؤذن لها حتى أتى المدينة فرجع إلى قول مالك وعلم أنه عملهم المتصل.

قال الباجي: يظهر لي أنه ليس في الأثر ما يقتضي أن الأذان قبل الفجر لصلاة الفجر فإن كان الخلاف في الأذان ذلك الوقت فالآثار حجة لمن أثبته وإن كان الخلاف في المقصود به فيحتاج إلى ما يبين ذلك من إبطال الأذان إلى الفجر أو غير ذلك مما يدل عليه.

( مَالِكٍ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ الْمُؤَذِّنَ جَاءَ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ يُؤْذِنُهُ لِصَلَاةِ الصُّبْحِ فَوَجَدَهُ نَائِمًا فَقَالَ: الصَّلَاةُ خَيْرٌ مِنَ النَّوْمِ فَأَمَرَهُ عُمَرُ أَنْ يَجْعَلَهَا فِي نِدَاءِ الصُّبْحِ) هذا البلاغ أخرجه الدارقطني في السنن من طريق وكيع في مصنفه عن العمري عن نافع عن ابن عمر عن عمر، وأخرج أيضًا عن سفيان عن محمد بن عجلان عن نافع عن ابن عمر عن عمر أنه قال لمؤذنه: إذا بلغت حي على الفلاح في الفجر فقل الصلاة خير من النوم الصلاة خير من النوم، فقصر ابن عبد البر في قوله لا أعلم هذا روي عن عمر من وجه يحتج به وتعلم صحته، وإنما أخرجه ابن أبي شيبة من حديث هشام بن عروة عن رجل يقال له إسماعيل لا أعرفه قال: والتثويب محفوظ في أذان بلال وأبي محذورة في صلاة الصبح للنبي صلى الله عليه وسلم، والمعنى هنا أن نداء الصبح موضع قوله لا هنا كأنه كره أن يكون منه نداء آخر عند باب الأمير كما أحدثته الأمراء، وإلا فالتثويب أشهر عند العلماء والعامة من أن يظن بعمر أنه جهل ما سن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر به مؤذنيه بلالاً بالمدينة، وأبا محذورة بمكة انتهى.

ونحو تأويله قول الباجي: يحتمل أن عمر قال ذلك إنكارًا لاستعماله لفظة من ألفاظ الأذان في غيره وقال له اجعلها فيه يعني لا تقلها في غيره انتهى.
وهو حسن متعين: فقد روى ابن ماجه من طريق ابن المسيب عن بلال أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم يؤذنه لصلاة الفجر فقيل هو نائم فقال الصلاة خير من النوم مرتين، فأقرت في تأذين الفجر فثبت الأمر على ذلك.

وروى بقي بموحدة ابن مخلد عن أبي محذورة قال: كنت غلامًا صبيًا فأذنت بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم الفجر يوم حنين: فلما انتهيت إلى حي على الفلاح قال: ألحق فيها الصلاة خير من النوم، وقال مالك في مختصر ابن شعبان: لا يترك المؤذن قوله في نداء الصبح الصلاة خير من النوم في سفر ولا حضر ومن أذن في ضيعته متنحيًا عن الناس فتركه فلا بأس وأحب إلينا أن يأتي به.

( مَالِكٍ عَنْ عَمِّهِ أَبِي سُهَيْلِ) بضم السين واسمه نافع ( بْنِ مَالِكٍ عَنْ أَبِيهِ) مالك بن أبي عامر الأصبحي ( أَنَّهُ قَالَ: مَا أَعْرِفُ شَيْئًا مِمَّا أَدْرَكْتُ عَلَيْهِ النَّاسَ) يعني الصحابة ( إِلَّا النِّدَاءَ بِالصَّلَاةِ) فإنه باق على ما كان عليه لم يدخله تغيير ولا تبديل بخلاف الصلاة فقد أخرت عن أوقاتها وسائر الأفعال قد دخلها التغيير، فأنكر أكثر أفعال أهل عصره والتغيير يمكن أن يلحق صفة الفعل كتأخير الصلاة وأن يلحق الفعل جملة كترك الأمر بكثير من المعروف والنهي عن كثير من المنكر مع علم الناس بذلك كله قاله الباجي.

وقال ابن عبد البر فيه: إن الأذان لم يتغير عما كان عليه، وكذا قال عطاء ما أعلم تأذينهم اليوم يخالف تأذين من مضى وفيه تغير الأحوال عما كانت عليه زمن الخلفاء الأربع في أكثر الأشياء، واحتج بهذا بعض من لم ير عمل أهل المدينة حجة وقال لا حجة إلا فيما نقل بالأسانيد الصحاح عن النبي صلى الله عليه وسلم أو عن الخلفاء الأربعة ومن سلك سبيلهم.

( مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ سَمِعَ الْإِقَامَةَ وَهُوَ بِالْبَقِيعِ فَأَسْرَعَ الْمَشْيَ إِلَى الْمَسْجِدِ) بدون جري لأن الإسراع المنهي عنه بقوله صلى الله عليه وسلم: فلا تأتوها وأنتم تسعون هو الجري لأنه ينافي الوقار المشروع في الصلاة وفي قصدها، وأما ما لا ينافي الوقار فجائز وكذا قول مالك بجواز تحريك الفرس لمن سمع الأذان ليدرك الصلاة يريد تحريكه للإسراع في المشي دون جري ولا خروج عن حد الوقار قاله الباجي.

وقال ابن عبد البر: الواجب أن يأتي الصلاة بالسكينة خاف فواتها أو لم يخف لأمره صلى الله عليه وسلم بذلك وهو الحجة قال وقال بعض أصحابنا إن ابن عمر لم يزد على مشيه المعهود لأن الإسراع كان عادته لبعده من الزهو وليس ببين لأن نافعًا مولاه قد عرف مشيه، ثم أخبر أنه لما سمع الإقامة أسرع، ولا يخالفه قول محمد بن زيد: كان ابن عمر إذا مشى إلى الصلاة لو مشت معه نملة ما سبقها لأنه في حال لا يخاف فيها فوات شيء من الصلاة وهي أغلب أحواله انتهى.



رقم الحديث 148 وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ سُمَيٍّ مَوْلَى أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ السَّمَّانِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي النِّدَاءِ وَالصَّفِّ الْأَوَّلِ، ثُمَّ لَمْ يَجِدُوا إِلَّا أَنْ يَسْتَهِمُوا عَلَيْهِ لَاسْتَهَمُوا وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي التَّهْجِيرِ لَاسْتَبَقُوا إِلَيْهِ، وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي الْعَتَمَةِ وَالصُّبْحِ لَأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا.


( مَالِكٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ) الأنصاري ( أَنَّهُ قَالَ) مرسلاً ( كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) لما كثر الناس ( قَدْ أَرَادَ أَنْ يَتَّخِذَ خَشَبَتَيْنِ) هما الناقوس وهو خشبة طويلة تضرب بخشبة أصغر منها فيخرج منهما صوت كما في الفتح وغيره ( يُضْرَبُ بِهِمَا لِيَجْتَمِعَ النَّاسُ لِلصَّلَاةِ) .

قال ابن عمر: كان المسلمون حين قدموا المدينة يجتمعون فيتحينون الصلاة ليس ينادى لها فتكلموا يومًا في ذلك فقال بعضهم: أنتخذ ناقوسًا مثل ناقوس النصارى، وقال بعضهم: بل بوقًا مثل قرن اليهود، الحديث في الصحيحين.

وقال أنس: لما كثر الناس ذكروا أن يعلموا وقت الصلاة بشيء يعرفونه فذكروا أن يوروا نارًا أو يضربوا ناقوسًا رواه البخاري ومسلم وفيه اختصار وهو في أبي داود وغيره بإسناد صحيح عن أبي عمير بن أنس عن عمومة له من الأنصار اهتم النبي صلى الله عليه وسلم للصلاة كيف يجمع الناس لها قيل له: انصب راية فإذا رآها الناس أذن بعضهم بعضًا فلم يعجبه ذلك فذكر له القبع أي شبور اليهود فقال: هو من أمر اليهود، فذكر له الناقوس فقال هو من أمر النصارى وكأنه كرهه أولاً ثم أمر بعمله، ففي أبي داود عن عبد الله بن زيد لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناقوس يعمل ليضرب به للناس ليجتمعوا للصلاة طاف بي وأنا نائم رجل يحمل ناقوسًا.

( فَأُرِيَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ) بن ثعلبة بن عبد ربه أبو محمد ( الْأَنْصَارِيُّ ثُمَّ مِنْ بَنِي الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ) فيقال له الخزرجي الحارثي شهد العقبة وبدرًا.
قال الترمذي: لا نعرف له عن النبي صلى الله عليه وسلم شيئًا إلا هذا الحديث الواحد في الأذان وكذا قال ابن عدي.

قال في الإصابة: وأطلق غير واحد أنه ما له غيره وهو خطأ فقد جاءت عنه أحاديث ستة أو سبعة جمعتها في جزء مفرد، ومات سنة اثنين وثلاثين وهو ابن أربع وستين وصلى عليه عثمان قاله ولده محمد بن عبد الله نقله المدايني.
وقال الحاكم: الصحيح أنه قتل بأحد فالروايات عنه كلها منقطعة وخالف ذلك في المستدرك.

( خَشَبَتَيْنِ فِي النَّوْمِ) متعلق بأري ( فَقَالَ: إِنَّ هَاتَيْنِ لَنَحْوٌ مِمَّا يُرِيدُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أن يجمع به الناس للصلاة ( فَقِيلَ أَلَا تُؤَذِّنُونَ لِلصَّلَاةِ) وأسمعه الأذان فاستيقظ ( فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ اسْتَيْقَظَ فَذَكَرَ لَهُ ذَلِكَ) فقال: إنها لرؤيا حق إن شاء الله ( فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْأَذَانِ) كذا أورد الحديث مرسلاً مختصرًا كما سمعه من يحيى بن سعيد.

قال ابن عبد البر: وروى قصة عبد الله بن زيد هذه في بدء الأذان جماعة من الصحابة بألفاظ مختلفة ومعان متقاربة والأسانيد في ذلك متواترة وهي من وجوه حسان انتهى.

وأخرج أبو داود والترمذي وقال حسن صحيح وابن ماجه وابن خزيمة وابن حبان وصححاه من حديث محمد بن عبد الله بن زيد قال: حدثني أبي لما أمر صلى الله عليه وسلم بالناقوس يعمل به للناس ليجتمعوا للصلاة طاف بي وأنا نائم رجل يحمل ناقوسًا في يده فقلت: يا عبد الله أتبيع الناقوس؟ قال: وما تصنع به فقلت: ندعو به إلى الصلاة، قال: أفلا أدلك على ما هو خير من ذلك؟ فقلت: بلى.
قال: تقول الله أكبر فذكره مربع التكبير بلا ترجيع.
قال: ثم استأخر عني غير بعيد فقال: تقول إذا قمت إلى الصلاة فذكر الإقامة مفردة وثنى قد قامت الصلاة، فلما أصبحت أتيت رسول الله فأخبرته بما رأيت فقال: إنها لرؤيا حق إن شاء الله فقم مع بلال فألق عليه ما رأيت فليؤذن به فإنه أندى منك صوتًا فقمت مع بلال فجعلت ألقيه عليه ويؤذن به قال: فسمع بذلك عمر بن الخطاب وهو في بيته فخرج يجر رداءه يقول: والذي بعثك بالحق يا رسول الله لقد رأيت مثل ما أري.
فقال صلى الله عليه وسلم: فلله الحمد اهـ.
لفظ أبي داود وهو كالشرح لمرسل الموطأ.

ونقل ابن خزيمة عن محمد بن يحيى الذهلي بذال ولام أن هذه الطريق أصح طرقه وشاهده حديث عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن سعيد بن المسيب مرسلاً، ومنهم من وصله عن سعيد عن عبد الله بن زيد والمرسل أقوى إسنادًا.
ولأحمد عن معاذ بن جبل أن عبد الله بن زيد قال: يا رسول الله إني رأيت فيما يرى النائم ولو قلت إني لم أكن نائمًا لصدقت رأيت شخصًا عليه ثوبان أخضران فاستقبل القبلة فقال: الله أكبر، فذكر الحديث.

وعند أبي داود في حديث أبي عمير بن أنس عن عمومته من الأنصار وكان عمر قد رآه قبل ذلك فكتمه عشرين يومًا ثم أخبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: ما منعك أن تخبرني؟ فقال: سبقني عبد الله بن زيد فاستحيت وظاهره يعارض ما قبله.

قال الحافظ: ولا مخالفة لأنه يحمل على أنه لم يخبر بذلك عقب إخبار عبد الله بن زيد بل متراخيًا عنه فقوله: ما منعك أن تخبرني أي عقب إخبار عبد الله فاعتذر بالاستحياء فدل على أنه لم يخبره على الفور انتهى.
وبعده لا يخفى مع قوله فسمع عمر فخرج يقول: يا رسول الله لقد رأيت مثل ما أري فجعله حالاً من فاعل خرج أي قائلاً في حال خروجه، لكنه لا يمتنع للجمع بين الحديثين مع صحتهما.

وللطبراني في الأوسط أن أبا بكر أيضًا رأى الأذان، وذكر الجيلي في شرح التنبيه أنه رآه أربعة عشر رجلاً، وأنكره ابن الصلاح فقال: لم أجده بعد إمعان البحث، ثم النووي فقال في تنقيحه: هذا ليس بثابت ولا معروف، وإنما الثابت خروج عمر يجر رداءه.
وفي سيرة مغلطاي عن بعض كتب الفقهاء أنه رآه سبعة من الأنصار.

قال الحافظ: ولا يثبت شيء من ذلك إلا لعبد الله بن زيد، وقصة عمر جاءت في بعض طرقه.

وفي مسند الحارث بن أبي أسامة بسند واهٍ عن كثير الحضرمي قال: أول من أذن بالصلاة جبريل في السماء الدنيا فسمعه عمر وبلال فسبق عمر بلالاً فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم، ثم جاء بلال فقال له: سبقك بها عمر.
قال: وقد استشكل إثبات حكم الأذان برؤيا عبد الله بن زيد لأن رؤيا غير الأنبياء لا ينبني عليها حكم شرعي.

وأجيب باحتمال مقارنة الوحي لذلك أو لأنه صلى الله عليه وسلم أمر بمقتضى الرؤيا لينظر أيقر على ذلك أم لا.
ولا سيما لما رأى نظمها يبعد دخول الوسواس فيه وهذا ينبني على القول بجواز اجتهاده في الأحكام وهو المنصور في الأصول، ويؤيد الأول ما رواه عبد الرزاق وأبو داود في المراسيل عن عبيد بن عمير أحد كبار التابعين أن عمر لما رأى الأذان جاء ليخبر به النبي صلى الله عليه وسلم فوجد الوحي قد ورد بذلك فما راعه إلا أذان بلال فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: سبقك بذلك الوحي وهذا أصح مما حكى الداودي عن ابن إسحاق أن جبريل أتى النبي صلى الله عليه وسلم بالأذان قبل أن يخبره عبد الله بن زيد وعمر بثمانية أيام.

وجاءت أحاديث تدل على أن الأذان شرع بمكة قبل الهجرة.
منها للطبراني عن ابن عمر قال: لما أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم أوحى الله إليه الأذان فنزل به فعلمه بلالاً، وفي إسناده طلحة بن زيد وهو متروك وللدارقطني عن أنس أن جبريل أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالأذان حين فرضت الصلاة وإسناده ضعيف أيضًا.
ولابن مردويه عن عائشة مرفوعًا: لما أسري بي أذن جبريل فظنت الملائكة أنه يصلي بهم فقدمني فصليت وفيه من لا يعرف.
وللبزار وغيره عن علي: لما أراد الله أن يعلم رسوله الأذان أتاه جبريل بالبراق فركبها، الحديث.
وفيه: إذ خرج ملك من الحجاب فقال: الله أكبر، وفي آخره فأخذ الملك بيده فأم بأهل السماء، وفي إسناده زياد بن المنذر أبو الجارود وهو متروك أيضًا، ويمكن على تقدير الصحة أن يحمل على تعدد الإسراء فيكون وقع ذلك بالمدينة.
وقول القرطبي لا يلزم من كونه سمعه ليلة الإسراء أن يكون مشروعًا في حقه فيه نظر لقوله أوله لما أراد الله أن يعلم رسوله الأذان، وكذا قول المحب الطبري يحمل الأذان ليلة الإسراء على الأذان اللغوي وهو الإعلام فيه نظر أيضًا لتصريحه بصفته المشروعة فيه، والحق أنه لا يصح شيء من هذه الأحاديث.

وقد جزم ابن المنذر بأنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي بلا أذان منذ فرضت الصلاة بمكة إلى أن هاجر إلى المدينة إلى أن وقع التشاور في ذلك على ما في حديث ابن عمر ثم في حديث عبد الله بن زيد انتهى.

ومن الواهي أيضًا ما لابن شاهين عن زياد بن المنذر حدثني العلاء قال قلت لابن الحنفية: كنا نتحدث أن الأذان رؤيا رآها رجل من الأنصار ففزع وقال: عمدتم إلى أحسن دينكم فزعمتم أنه كان رؤيا هذا والله الباطل، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما عرج به انتهى إلى مكان من السماء وقف وبعث الله ملكًا ما رآه أحد في السماء قبل ذلك اليوم فعلمه الأذان ففيه كما رأيت زياد بن المنذر متروك، وقد صرح الحافظ الذهبي بأن هذا باطل.

قال الحافظ: وقد حاول السهيلي الجمع فتكلف وتعسف والأخذ بما صح أولى فقال بانيًا على صحة الحكمة في مجيء الأذان على لسان الصحابي أن النبي صلى الله عليه وسلم سمعه فوق سبع سموات وهو أقوى من الوحي فلما تأخر الأمر بالأذان عن فرض الصلاة وأراد إعلامهم بالوقت رأى الصحابي المنام فقصه فوافق ما كان صلى الله عليه وسلم سمعه فقال: إنها لرؤيا حق، وعلم حينئذ أن مراد الله بما أراه في السماء أن يكون سنة في الأرض وتقوى ذلك بموافقة عمر لأن السكينة تنطق على لسانه والحكمة أيضًا في إعلام الناس به على غير لسانه صلى الله عليه وسلم التنويه بقدره والرفع لذكره بلسان غيره ليكون أقوى لأمره وأفخر لشأنه انتهى ملخصًا.

والثاني حسن بديع ويؤخذ من عدم الاكتفاء برؤية عبد الله بن زيد حتى أضيف إليه عمر للتقوية التي ذكرها ولم يقتصر على عمر ليصير في معنى الشهادة وجاء في رواية ضعيفة ما ظاهره أن بلالاً رأى أيضًا لكنها مؤولة فإن لفظها سبقك بها بلال فيحمل على مباشرة التأذين برؤيا عبد الله بن زيد، ومما يكثر السؤال عنه هل باشر النبي صلى الله عليه وسلم الأذان بنفسه، وقد روى الترمذي بإسناد حسن عن يعلى بن مرة الثقفي أن النبي صلى الله عليه وسلم أذن في سفر وصلى بأصحابه وهم على رواحلهم السماء من فوقهم والبلة من أسفلهم.

قال السهيلي: فنزع بعض الناس بهذا الحديث أنه صلى الله عليه وسلم أذن بنفسه، لكن روى الحديث الدارقطني بسند الترمذي ومتنه وقال فيه: فأمر بالأذان فقام المؤذن فأذن والمفصل يقضي على المجمل المحتمل انتهى.

وتبع هذا البعض النووي فجزم أن النبي صلى الله عليه وسلم أذن مرة في سفره وعزاه للترمذي وقواه، وتعقبه الحافظ فقال: ولكن وجدنا الحديث في مسند أحمد من الوجه الذي أخرجه منه الترمذي بلفظ فأمر بلالاً فأذن فعرف أن في رواية الترمذي اختصارًا وأن معنى أذن أمر بلالاً به كما يقال أعطى الخليفة العالم الفلاني ألفًا وإنما باشر العطاء غيره ونسب للخليفة لكونه أمر به انتهى.

وانتصر بعض للنووي تبعًا للبعض بأن هذا إنما يصار إليه لو لم يحتمل تعدد الواقعة، أما إذا أمكن فيجب المصير إليه إبقاء لأذن على حقيقته عملاً بقاعدة الأصول أنه يجب إبقاء اللفظ على حقيقته وهو مردود بأن ذلك إنما يصح إذا اختلف سند الحديث ومخرجه، أما مع الاتحاد فلا ويجب رجوع المجمل إلى المفصل عملاً بقاعدة الأصول وأهل الحديث.

وقال بعض المحدثين لو لم نكتب الحديث من ستين وجهًا ما عقلناه لاختلاف الرواة في ألفاظه ونحوها: نعم قال السيوطي في شرح البخاري: قد ظفرت بحديث آخر مرسلاً رواه سعيد بن منصور، حدثنا أبو معاوية، حدثنا عبد الرحمن بن أبي بكر القرشي، عن ابن أبي مليكة، قال: أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرة فقال: حي على الفلاح قال وهذه رواية لا تقبل التأويل انتهى.
فهذا الذي يجزم فيه بالتعدد لاختلاف سنده وانظر ما أحسن قوله آخر لكن لم يبين هل كان في سفر أو حضر.

( مَالِكٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَزِيدَ) بتحتية وزاي ( اللَّيْثِيِّ) المدني نزيل الشام من ثقات التابعين ورجال الجميع، مات سنة خمس أو سبع ومائة وقد جاوز الثمانين، ولأبي عوانة من رواية ابن وهب عن مالك ويونس عن الزهري أن عطاء بن يزيد أخبره ( عَنْ أَبِي سَعِيدٍ) سعد بن مالك بن سنان بن عبيد الأنصاري ( الْخُدْرِيِّ) له ولأبيه صحبة واستصغر بأحد ثم شهد ما بعدها روى الكثير ومات بالمدينة سنة ثلاث أو أربع أو خمس وستين وقيل سنة أربع وسبعين.

( أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِذَا سَمِعْتُمُ النِّدَاءَ) أي الأذان سمي به لأنه نداء إلى الصلاة ودعاء إليها ( فَقُولُوا مِثْلَ مَا يَقُولُ الْمُؤَذِّنُ) ادعى ابن وضاح أن قوله المؤذن مدرج وأن الحديث انتهى بقوله ما يقول، وتعقب بأن الإدراج لا يثبت بمجرد الدعوى، وقد اتفقت الروايات في الصحيحين والموطأ على إثباتها، ولم يصب صاحب العمدة في حذفها وظاهره اختصاص الإجابة بمن سمع حتى لو رأى المؤذن على المنارة مثلاً في الوقت وعلم أنه يؤذن، لكن لم يسمع أذانه لبعد أو صمم لا يشرع له المتابعة قاله النووي في شرح المهذب، وقال مثل ما يقول ولم يقل مثل ما قال ليشعر بأنه يجيبه بعد كل كلمة مثل كلمتها قاله الكرماني والصريح في ذلك ما رواه النسائي عن أم حبيبة أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول مثل ما يقول المؤذن حتى يسكت.

وقال أبو الفتح اليعمري: ظاهر الحديث أنه يقول مثل ما يقول عقب فراغ المؤذن لكن الأحاديث التي تضمنت إجابة كل كلمة عقبها دلت على أن المراد المساوقة يشير إلى حديث عمر في مسلم وغيره وظاهره أيضًا أنه يقول مثله في جميع الكلمات، لكن حديث عمر أيضًا وحديث معاوية في البخاري وغيره دلا على أنه يستثنى من ذلك حي على الصلاة وحي على الفلاح فيقول بدلهما لا حول ولا قوة إلا بالله وهو المشهور عند الجمهور.

وقال ابن المنذر: يحتمل أن يكون ذلك من الاختلاف المباح فيقول تارة كذا وتارة كذا، وحكي عن بعض أهل الأصول أن الخاص والعام إذا أمكن الجمع بينهما وجب إعمالهما فلم لا يستحب للسامع أن يجمع بين الحيعلة والحوقلة وهو وجه عند الحنابلة.

وأجيب عن المشهور من حيث المعنى بأن الأذكار الزائدة على الحيعلة يشترك السامع والمؤذن في ثوابها، وأما الحيعلة فمقصودها الدعاء إلى الصلاة وذلك يحصل من المؤذن فعوض السامع عما فاته من ثوابها بثواب الحوقلة، ولقائل أن يقول يحصل للمجيب الثواب لامتثاله الأمر ويمكن أن يزداد استيقاظًا وإسراعًا إلى القيام إلى الصلاة إذا تكرر على سمعه الدعاء إليها من المؤذن ومن نفسه.
قيل: وفي الحديث دليل على أن لفظ مثل لا يقتضي المساواة من كل جهة لأنه لا يطلب برفع الصوت المطلوب من المؤذن، وفيه بحث لأن المماثلة وقعت في القول لا في صفته، والفرق أن المؤذن قصده الإعلام فاحتاج لرفع الصوت، والسامع مقصوده ذكر الله فيكفي السر أو الجهر لا مع رفع الصوت.
نعم لا يكفي إجراؤه على خاطره من غير تلفظ لظاهر الأمر بالقول وفيه جواز إجابة المؤذن في الصلاة عملاً بظاهر الأمر، ولأن المجيب لا يقصد المخاطبة واستدل به على وجوب إجابة المؤذن حكاه الطحاوي عن قوم من السلف، وبه قال الحنفية والظاهرية وابن وهب.

واستدل الجمهور لحديث مسلم وغيره أنه صلى الله عليه وسلم سمع مؤذنًا فلما كبر قال على الفطرة فلما تشهد قال خرج من النار فلما قال صلى الله عليه وسلم غير ما قال المؤذن علم أن الأمر للاستحباب، وتعقب بأنه ليس في الحديث أنه لم يقل مثل ما قال فيجوز أنه قاله ولم ينقله الراوي اكتفاء بالعادة ونقل القول الزائد، وبأنه يحتمل أن ذلك وقع قبل صدور الأمر وأن يكون لما أمر لم يرد أن يدخل نفسه في عموم من خوطب بذلك انتهى.

والحديث أخرجه البخاري عن عبد الله بن يوسف، ومسلم عن يحيى كلاهما عن مالك به.

قال الحافظ: واختلف على الزهري في إسناده وعلى مالك أيضًا لكنه اختلاف لا يقدح في صحته، فرواه عبد الرحمن بن إسحاق عن الزهري عن سعيد عن أبي هريرة أخرجه النسائي وابن ماجه، وقال أبو حاتم وأحمد بن صالح والترمذي وأبو داود: حديث مالك ومن تابعه أصح، ورواه يحيى القطان عن مالك عن الزهري عن السائب بن يزيد أخرجه مسدد في مسنده وقال: إنه خطأ.
والصواب الرواية الأولى وفيه اختلاف آخر دون ما ذكر لا نطيل به انتهى.

( مَالِكٍ عَنْ سُمَيٍّ) بضم السين المهملة بلفظ التصغير ( مَوْلَى أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) بن الحارث بن هشام ( عَنْ أَبِي صَالِحٍ) ذكوان ( السَّمَّانِ) لأنه كان يتجر في السمن والزيت فلذا قيل له الزيات أيضًا ( عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ) وضع المضارع موضع الماضي ليفيد استمرار العلم قاله الطيبي ( مَا فِي النِّدَاءِ) أي الأذان وهي رواية بشر بن عمر عن مالك عند السراج ( وَالصَّفِّ الْأَوَّلِ) زاد أبو الشيخ من طريق الأعرج عن أبي هريرة: من الخير والبركة.

وقال الطيبي: أطلق مفعول يعلم وهو ما ولم يبين الفضيلة ما هي ليفيد ضربًا من المبالغة وأنه مما لا يدخل تحت الوصف والإطلاق إنما هو في قدر الفضيلة وإلا فقد ميزت في رواية بالخير والبركة.

قال الباجي: اختلف في الصف الأول هل هو الذي يلي الإمام أو المبكر السابق إلى المسجد؟ قال القرطبي: والصحيح أنه الذي يلي الإمام قالا فإن كان بين الإمام والناس حائل كما أحدث الناس المقاصير فالصف الأول هو الذي يلي المقصورة.

وقال ابن عبد البر: لا أعلم خلافًا أن من بكر وانتظر الصلاة وإن لم يصل في الصف الأول أفضل ممن تأخر وصلى في الصف الأول وفي هذا ما يوضح معنى الصف الأول وأنه ورد من أجل البكور إليه والتقدم، وقال صلى الله عليه وسلم: أتموا الصف المقدم ثم الذي يليه فما كان من نقص فليكن في المؤخر.

( ثُمَّ لَمْ يَجِدُوا) شيئًا من وجوه الأولوية بأن يقع التساوي أما في الأذان فبأن يستووا في معرفة الوقت وحسن الصوت ونحو ذلك وأما في الصف فبأن يصلوا دفعة واحدة ويتساووا في الفضل ( إِلَّا أَنْ يَسْتَهِمُوا) أي يقترعوا ( عَلَيْهِ) أي على ما ذكر من الأمرين ليشمل الأذان والصف.

وقال ابن عبد البر: الهاء عائدة على الصف الأول لا على النداء وهو وجه الكلام، لأن الضمير يعود إلى أقرب مذكور ولا يعدل عنه إلا بدليل ونازعه القرطبي وقال: يلزم منه أن يبقى النداء ضائعًا لا فائدة له قال والضمير يعود على معنى الكلام المتقدم ومثله قوله تعالى: { { وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا } } أي جميع ما ذكر.

قال الحافظ: وقد رواه عبد الرزاق عن مالك بلفظ لاستهموا عليهما فهذا مفصح بالمراد من غير تكلف.

( لَاسْتَهَمُوا) اقترعوا ومنه قوله تعالى: { { فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ } } قال الخطابي وغيره: قيل له استهام لأنهم كانوا يكتبون أسماءهم على سهام إذا اختلفوا في شيء فمن خرج اسمه غلب، واستدل به بعضهم لمن قال بالاقتصار على مؤذن واحد وليس بظاهر لصحة استهام أكثر من واحد، ولأن الاستهام على الأذان متوجه من جهة التولية من قبل الإمام لما فيه من المزية.
وزعم بعضهم أن المراد بالاستهام هنا الترامي بالسهام وأنه خرج مخرج المبالغة واستأنس بحديث لتجالدوا عليه بالسيوف، لكن فهم البخاري أن المراد اقترعوا أولى لرواية مسلم لكانت قرعة.

وقد روى سيف بن عمر في كتاب الفتوح والطبراني عن عبد الله بن شبرمة عن شقيق وهو أبو وائل قال: افتتحنا القادسية صدر النهار فتراجعنا وقد أصيب المؤذن فتشاح الناس في الأذان بالقادسية فاختصموا إلى سعد بن أبي وقاص فأقرع بينهم فخرجت القرعة لرجل منهم فأذن، والقادسية مكان معروف بالعراق نسب إلى قادس رجل نزل به.

وحكى الجوهري أن إبراهيم الخليل قدس على ذلك المكان فلذا صار منزلاً للحاج وكان بها وقعة مشهورة للمسلمين مع الفرس في خلافة عمر سنة خمس عشرة وكان سعد يومئذ الأمير على الناس.

( وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي التَّهْجِيرِ) أي التبكير إلى الصلوات أي صلاة كانت قاله الهروي وغيره.
قال ابن عبد البر: التهجير معروف وهو البدار إلى الصلاة أول وقتها وقبله وانتظارها قال تعالى: { { فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ } } وقال صلى الله عليه وسلم: منتظر الصلاة في صلاة ما انتظرها وحسبك بهذا فضلاً وسمى صلى الله عليه وسلم انتظار الصلاة بعد الصلاة رباطًا، وجاء: رباط يوم خير من صوم شهر انتهى.

وحمله الخليل والباجي وغيرهما على ظاهره فقالوا: المراد الإتيان إلى صلاة الظهر في أول الوقت لأن التهجير مشتق من الهاجرة وهي شدة الحر نصف النهار وهو أول وقت الظهر وإلى ذلك مال البخاري.

قال الحافظ: ولا يرد على ذلك مشروعية الأمر بالإبراد لأنه أريد به الرفق، وأما من ترك قائلته وقصد إلى المسجد لينتظر الصلاة فلا يخفى ما له من الفضل.

( لَاسْتَبَقُوا إِلَيْهِ) أي التهجير.
قال ابن أبي جمرة: المراد الاستباق معنى لا حسًا لأن المسابقة على الإقدام حسًا تقتضي السرعة في المشي وهو ممنوع منه انتهى.

( وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي الْعَتَمَةِ) أي العشاء وثبت النهي عن تسميتها عتمة فهذا الحديث بيان للجواز وأن النهي ليس للتحريم أو استعمل العتمة هنا لمصلحة ونفي مفسدة لأن العرب كانت تستعمل العشاء في المغرب فلو قال ما في العشاء لحملوها على المغرب ففسد المعنى وفات المطلوب فاستعمل العتمة التي يعرفونها ولا يشكون فيها، وقواعد الشرع متظاهرة على احتمال أخف المفسدتين لدفع أعظمهما قاله النووي.

( وَالصُّبْحِ) أي ثواب صلاتهما في جماعة ( لَأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا) بفتح المهملة وسكون الموحدة أي مشيًا على اليدين والركبتين أو على مقعدته، ولابن أبي شيبة من حديث أبي الدرداء ولو حبوًا على المرافق والركب.

قال الباجي: خص هاتين الصلاتين بذلك لأن السعي إليهما أشق من غيرهما لما فيه من تنقيص أول النوم وآخره.

وقال ابن عبد البر: الآثار فيهما كثيرة منها قوله صلى الله عليه وسلم: أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر.
وقال أبو الدرداء في مرض موته: اسمعوا وبلغوا حافظوا على هاتين الصلاتين - يعني في جماعة العشاء والصبح - ولو تعلمون ما فيهما لأتيتموهما ولو حبوًا على مرافقكم وركبكم، وكذلك قال عمر وعثمان وروي مرفوعًا: شهود صلاة العشاء خير من قيام نصف ليلة وشهود صلاة الصبح خير من قيام ليلة.
وقال عمر والحسن: لأن أشهد صلاة العشاء والفجر أحب إلي من أن أحيي ما بينهما.
وقال ابن عمر: كنا إذا فقدنا الرجل في صلاة العشاء وصلاة الفجر أسأنا به الظن انتهى.

وهذا الحديث رواه البخاري عن عبد الله بن يوسف، ومسلم عن يحيى كلاهما عن مالك به.

( مَالِكٍ عَنِ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَعْقُوبَ) المدني ( عَنْ أَبِيهِ) وهو تابعي كابنه ( وَإِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ) بن أبي طلحة أحد شيوخ مالك روى عنه هنا بواسطة ( أَنَّهُمَا أَخْبَرَاهُ) أي العلاء ( أَنَّهُمَا سَمِعَا أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا ثُوِّبَ بِالصَّلَاةِ) بضم المثلثة وشد الواو وموحدة.

قال ابن عبد البر: أي أقيم وأصل ثاب رجع يقال ثاب إلى المريض جسمه فكأن المؤذن رجع إلى ضرب من الأذان للصلاة، وقد جاء هذا الحديث عن أبي هريرة بلفظ: إذا أقيمت الصلاة، وهو يبين أن التثويب هنا الإقامة انتهى.

وهي رواية الصحيحين من وجه آخر عن أبي هريرة وفي رواية لهما أيضًا: إذا سمعتم الإقامة وهي أخص من قوله في حديث أبي قتادة عندهما أيضًا إذا أتيتم الصلاة، لكن الظاهر كما قال الحافظ إنه في مفهوم الموافقة لأن المسرع إذا أقيمت الصلاة يترجى إدراك فضيلة التكبيرة الأولى ونحوها، ومع ذلك نهى عن الإسراع فغيره ممن جاء قبل الإقامة لا يحتاج إلى الإسراع لأنه يتحقق إدراك الصلاة كلها فينهى من باب أولى، ولحظ فيه بعضهم معنى آخر فقال: حكمة التقييد بالإقامة أن المسرع إذا أقيمت الصلاة يصل إليها وقد تعب فيقرأ وهو بتلك الحالة فلا يحصل له تمام الخشوع في الترتيل وغيره بخلاف من جاء قبل ذلك فلا تقام الصلاة حتى يستريح، لكن قضية هذا أنه لا يكره الإسراع لمن جاء قبل الإقامة وهو مخالف لصريح قوله: إذا أتيتم الصلاة لأنه يتناول ما قبل الإقامة وإنما قيده بالإقامة لأنها الحاملة غالبًا على الإسراع انتهى.

( فَلَا تَأْتُوهَا وَأَنْتُمْ تَسْعَوْنَ) تمشون بسرعة وتطلق على العمل نحو: { { وَمَنْ أَرَادَ الآَخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ } } { { إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى } } وعليه حمل قوله تعالى { { فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ } } كقوله: { { وَأَن لَّيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى } } أو المراد الذهاب فليس معناه الإسراع.
قال الطيبي: وأنتم تسعون حال من ضمير الفاعل وهو أبلغ في النهي من لا تسعوا وذلك لأنه مناف لما هو أولى به من الوقار والأدب وعقبه بما يدل على حسن الأدب بقوله ( وَأْتُوهَا وَعَلَيْكُمُ السَّكِينَةُ) ضبطه القرطبي بالنصب على الإغراء والنووي بالرفع على أنها جملة في موضع الحال زاد غيره أو السكينة مبتدأ وعليكم خبره، وذكر الحافظ العراقي في شرح الترمذي أن المشهور في الرواية الرفع، ووقع في رواية الحافظ أبي ذر الهروي للبخاري بالسكينة بالباء.

واستشكل بأنه متعد بنفسه عليكم أنفسكم وفيه نظر لثبوت زيادتها في أحاديث صحيحة كحديث عليكم برخصة الله، وحديث فعليه بالصوم فإنه له وجاء، وحديث عليك بالمرأة قاله لأبي طلحة في قصة صفية، وحديث عليكم بقيام الليل، وحديث عليك بخويصة نفسك وغير ذلك وتعليل هذا المعترض لا يوفي بمقصوده، إذ لا يلزم من تعديه بنفسه امتناع تعديه بالباء إذا ثبت ذلك، فيدل على أن فيه لغتين زاد في الصحيحين من وجه آخر عن أبي هريرة والوقار.
قال عياض والقرطبي: هو بمعنى السكينة وذكر للتأكيد.

وقال النووي: الظاهر أن بينهما فرقًا وأن السكينة التأني في الحركات واجتناب العبث والوقار في الهيئة كغض البصر وخفض الصوت وعدم الالتفات ذكره الحافظ، وقد منع الرضي الاعتراض بأن أسماء الأفعال وإن كان حكمها في التعدي واللزوم حكم الأفعال التي بمعناها لكن كثيرًا ما تزاد الباء في مفعولها لضعفها في العمل.

( فَمَا أَدْرَكْتُمْ) الفاء جواب شرط محذوف أي إذا فعلتم ما أمرتكم به من السكينة فما أدركتم ( فَصَلُّوا) مع الإمام ( وَمَا فَاتَكُمْ) معه ( فَأَتِمُّوا) أي أكملوا وفي رواية: فاقضوا والأولى أكثر رواية وأعمل مالك في المشهور في مذهبه الروايتين فقال يقضي القول ويبني الفعل وعنه بانيًا فيهما عملاً برواية فأتموا وعليها الشافعي حملاً لرواية فاقضوا على معنى الأداء والفراغ فلا يغاير قوله فأتموا، لأنه إذا اتحد مخرج الحديث واختلف في لفظة منه وأمكن رد الاختلاف إلى معنى واحد كان أولى.
وهنا كذلك لأن القضاء وإن كان يطلق على الفائت غالبًا لكنه يطلق على الأداء أيضًا ويرد بمعنى الفراغ كقوله تعالى: { { فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاَةُ } } وعنه يكون قاضيًا فيهما وبه قال أبو حنيفة.
وفي هذا تنبيه لدفع توهم أن النهي إنما هو لمن لم يخف فوت بعض الصلاة فصرح بالنهي وإن فات من الصلاة ما فات وبين ما يفعل فيما فات بقوله فما إلخ.

قال ابن عبد البر: الواجب أي المطلوب إتيان الصلاة بالسكينة ولو خاف فواتها لأمره صلى الله عليه وسلم بذلك وهو الحجة خلافًا لمن جوز السعي لخوف الفوات، وقد أكد ذلك ببيان العلة بقوله: ( فَإِنَّ أَحَدَكُمْ فِي صَلَاةٍ مَا كَانَ) مدة كونه ( يَعْمِدُ) بكسر الميم يقصد ( إِلَى الصَّلَاةِ) أي إنه في حكم المصلي فينبغي له اعتماد ما ينبغي للمصلي اعتماده واجتناب ما ينبغي له اجتنابه، ونبه بهذا على أنه لو لم يدرك من الصلاة شيئًا لكان محصلاً لمقصوده لكونه في صلاة، وعدم الإسراع أيضًا يستلزم كثرة الخطأ وهو معنى مقصود لذاته، وجاءت فيه أحاديث تقدم شيء منها.

وفي الصحيحين عن أنس أن بني سلمة أرادوا أن يتحولوا عن منازلهم فينزلوا قريبًا من النبي صلى الله عليه وسلم فكره أن يعروا منازلهم فقال: يا بني سلمة ألا تحتسبون آثاركم فأقاموا.
ولمسلم عن جابر فقالوا: ما يسرنا إذا كنا تحولنا.

واستدل به الجمهور على حصول فضل الجماعة بإدراك أي جزء من الصلاة لقوله: فما أدركتم فصلوا ولم يفصل بين قليل وكثير، وقيل: إنما يدرك فضلها بركعة وهو مذهب مالك للحديث السابق: من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة وقياسًا على الجمعة.
واستدل به أيضًا على طلب الدخول مع الإمام في أي حالة وجد عليها.
وأصرح منه ما أخرجه ابن أبي شيبة عن رجل من الأنصار مرفوعًا: من وجدني قائمًا أو راكعًا أو ساجدًا فليكن معي على حالتي التي أنا عليها.

واستدل به أيضًا على أن من أدرك الإمام راكعًا لم تحسب له تلك الركعة للأمر بإتمام ما فاته وقد فاته الوقوف والقراءة فيه وهو قول أبي هريرة وجماعة، واختاره ابن خزيمة وغيره، وقواه التقي السبكي.

وحجة الجمهور حديث أبي بكرة لما ركع دون الصف فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: زادك الله حرصًا ولا تعد ولم يأمره بإعادة تلك الركعة، وقد تابع مالكًا في رواية هذا الحديث عن العلاء إسماعيل بن جعفر قال: أخبرني العلاء رواه مسلم بلفظه وهو في مسند أحمد والكتب الستة من طرق عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة بلفظ: إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون وأتوها وأنتم تمشون وعليكم السكينة فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا.
وله طرق كثيرة وألفاظ متقاربة.

وأخرجه الشيخان أيضًا من حديث أبي قتادة بلفظ: إذا أتيتم الصلاة فعليكم السكينة، والباقي نحوه.

( مَالِكٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي صَعْصَعَةَ) بمهملات مفتوحات إلا العين الأولى فساكنة عمرو بن زيد ( الْأَنْصَارِيِّ ثُمَّ الْمَازِنِيِّ) بالزاي والنون من بني مازن بن النجار من الثقات، مات في خلافة المنصور ( عَنْ أَبِيهِ) عبيد الله المدني من ثقات التابعين زاد ابن عيينة وكان يتيمًا في حجر أبي سعيد وكانت أمه عند أبي سعيد أخرجه ابن خزيمة، ومات أبو صعصعة في الجاهلية وابنه عبد الرحمن صحابي.

( أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ) سعد بن مالك بن سنان الصحابي ابن الصحابي ( الْخُدْرِيَّ قَالَ لَهُ:) أي لعبد الله بن عبد الرحمن ( إِنِّي أَرَاكَ تُحِبُّ الْغَنَمَ وَالْبَادِيَةَ) أي لأجل الغنم لأن محبها يحتاج إلى إصلاحها بالمرعى وهو في الغالب يكون في البادية وهي الصحراء التي لا عمارة فيها ( فَإِذَا كُنْتَ فِي غَنَمِكَ أَوْ بَادِيَتِكَ) يحتمل أن أو شك من الراوي وأنها للتنويع لأن الغنم قد لا تكون في البادية وقد يكون في البادية حيث لا غنم قاله الحافظ وغيره.

( فَأَذَّنْتَ بِالصَّلَاةِ) أي أعلمت بوقتها.
وفي رواية للبخاري للصلاة باللام بدل الموحدة أي لأجلها ( فَارْفَعْ صَوْتَكَ بِالنِّدَاءِ) أي الأذان وفيه إشعار بأن أذان مريد الصلاة كان مقررًا عندهم لاقتصاره على الأمر بالرفع دون أصل التأذين، وفيه استحباب أذان المنفرد وهو الراجح عند الشافعية والمالكية إن سافر بناء على أن الأذان حق الوقت، ولو لم يرج حضور من يصلي معه لأنه إن فاته دعاء المصلين لم تفته شهادة من سمعه من غيرهم، وقيل لا يستحب بناء على أنه لاستدعاء الجماعة، ومنهم من فصل بين من يرجو جماعة فيستحب ومن لا فلا.

( فَإِنَّهُ لَا يَسْمَعُ مَدَى) بفتح الميم والقصر أي غاية ( صَوْتِ الْمُؤَذِّنِ) قال البيضاوي: غاية الصوت يكون للمصغي أخفى من ابتدائه فإذا شهد له من بعد عنه ووصل إليه منتهى صوته، فلأن يشهد له من دنا منه وسمع مبادي صوته أولى ( جِنٌّ) قال الرافعي: يشبه أن يريد مؤمني الجن، وأما غيرهم فلا يشهدون للمؤذن بل يفرون وينفرون من الأذان ( وَلَا إِنْسٌ) قيل خاص بالمؤمنين فأما الكافر فلا شهادة له.
قال عياض: وهذا لا يسلم لقائله لما جاء في الآثار من خلافه ( وَلَا شَيْءٌ) ظاهره يشمل الحيوانات والجمادات فهو من العام بعد الخاص ويؤيده رواية ابن خزيمة لا يسمع صوته شجر ولا مدر ولا حجر ولا جن ولا إنس، وله ولأبي داود والنسائي من طريق أبي يحيى عن أبي هريرة بلفظ: المؤذن يغفر له مدى صوته ويشهد له كل رطب ويابس ونحوه للنسائي من حديث البراء وصححه ابن السكن.

قال الخطابي: مدى الشيء غايته أي أنه يستكمل المغفرة إذا استوفى وسعه في رفع الصوت فيبلغ الغاية من المغفرة إذا بلغ الغاية من الصوت، أو أنه كلام تمثيل وتشبيه يريد أن المكان الذي ينتهي إليه الصوت لو قدر أن يكون بين أقصاه وبين مقامه الذي هو فيه ذنوب تملأ تلك المسافة غفرها الله تعالى له واستشهد المنذري لقوله الأول برواية يغفر له مد صوته بتشديد الدال أي بقدر مد صوته.

قال الحافظ: فهذه الأحاديث تبين المراد من قوله ولا شيء وتكلم بعض من لم يطلع عليها في تأويله على ما يقتضيه ظاهره، فقال القرطبي: المراد بالشيء الملائكة، وتعقب بأنهم دخلوا في الجن لأنهم يستخفون عن الأبصار، وقال غيره: المراد كل ما يسمع المؤذن من الحيوان حتى ما لا يعقل لأنه الذي يصح أن يسمع صوته دون الجمادات، ومنهم من حمله على ظاهره ولا يمتنع ذلك عقلاً ولا شرعًا.

قال ابن بزيزة: تقرر في العادة أن السماع والشهادة والتسبيح لا يكون إلا من حي فهل ذلك حكاية على لسان الحال لأن الموجودات ناطقة بلسان حالها بجلال بارئها، أو هو على ظاهره ولا يمتنع عقلاً أن الله يخلق فيها الحياة والكلام.

وتقدم البحث في ذلك في قول النار: أكل بعضي بعضًا، وفي مسلم عن جابر بن سمرة مرفوعًا: إني لأعرف حجرًا بمكة كان يسلم علي قبل أن أبعث، ونقل ابن التين عن أبي عبد الملك أن قوله هنا ولا شيء نظير قوله تعالى: { { وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ } } وتعقبه بأن الآية مختلف فيها وما عرفت وجه هذا التعقب فإنهما سواء في الاحتمال، ونقل الاختلاف إلا أن يقول إن الآية لم يختلف في كونها على عمومها، وإنما اختلف في تسبيح بعض الأشياء هل هو على الحقيقة أو المجاز بخلاف الحديث.

( إِلَّا شَهِدَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) قال الزين بن المنير: السر في هذه الشهادة مع أنها تقع عند عالم الغيب والشهادة أن أحكام الآخرة جرت على أحكام نعت الخلق في الدنيا من توجيه الدعوى والجواب والشهادة، وقال التوربشتي: المراد من هذه الشهادة إشهار المشهود له يوم القيامة بالفضل وعلو الدرجة وكما أن الله يفضح بالشهادة قومًا فكذلك يكرم بالشهادة آخرين.
وقال الباجي: فائدة ذلك أن من يشهد له يوم القيامة يكون أعظم أجرًا في الآخرة ممن أذن فلم يسمعه من يشهد له.

( قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أي هذا الكلام الأخير وهو أنه لا يسمع إلخ، فقد رواه ابن خزيمة من رواية ابن عيينة بلفظ: قال أبو سعيد إذا كنت في البوادي فارفع صوتك بالنداء فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا يسمع، فذكره.
ورواه يحيى بن سعيد القطان عن مالك بلفظ: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا أذنت فارفع صوتك فإنه لا يسمع، فذكره.

فالظاهر أن ذكر الغنم والبادية موقوف خلافًا لإيراد الرافعي الحديث في الشرح بلفظ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي سعيد: إنك رجل تحب الغنم وساقه إلى آخره وسبقه إلى ذلك الغزالي وإمام الحرمين والقاضي حسين وغيرهم وتعقبهم النووي، وأجاب ابن الرفعة عنهم بأنهم فهموا أن قوله سمعته من رسول الله عائد إلى كل ما ذكر ولا يخفى بعده ذكره الحافظ، بل تمنعه روايتا ابن عيينة والقطان، وقد خالف الرافعي نفسه فقال في شرح المسند قوله سمعته يعني قوله أنه لا يسمع إلخ انتهى وهو الصواب.

وفي الحديث استحباب رفع الصوت بالأذان ليكثر من يشهد له ما لم يجهده أو يتأذى به، وفيه أن حب الغنم والبادية ولا سيما عند نزول الفتنة من عمل السلف الصالح، وفيه جواز التبدي ومساكنة الأعراب ومشاركتهم في الأسباب بشرط حظ من العلم وأمن غلبة الجفاء.

قال ابن عبد البر: فيه إباحة لزوم البادية ولكن في البعد عن الجماعة والجمعة ما فيه من البعد عن الفضائل إلا أن الزمان إذا كثر فيه الشر وتعذرت فيه السلامة طابت العزلة وهي خير من خليط السوء والجليس الصالح خير من الوحدة.
وقال صلى الله عليه وسلم: يوشك أن يكون خير مال المسلم غنمًا يتبع بها شعف الجبال ومواضع القطر يفر بدينه من الفتن.

وهذا الحديث أخرجه البخاري هنا عن عبد الله بن يوسف وفي بدء الخلق عن قتيبة بن سعيد كلاهما عن مالك به، ولم يخرجه مسلم.

( مَالِكٍ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ) عبد الله بن ذكوان ( عَنِ الْأَعْرَجِ) عبد الله بن هرمز ( عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ) أي لأجلها، وللنسائي عن قتيبة عن مالك بالصلاة وهي رواية لمسلم أيضًا ويمكن حملهما على معنى واحد ( أَدْبَرَ الشَّيْطَانُ) إبليس على الظاهر، ويدل عليه كلام كثير من الشراح، ويحتمل أن المراد جنس الشيطان وهو كل متمرد من الجن أو الإنس لكن المراد هنا شيطان الجن خاصة ( لَهُ ضُرَاطٌ) جملة إسمية وقعت حالاً بدون واو لحصول الارتباط بالضمير وفي رواية للبخاري وله بالواو.
وقال عياض: يمكن حمله على ظاهره لأنه جسم متغذ يصح منه خروج الريح، ويحتمل أنه عبارة عن شدة نفاره ويقربه رواية مسلم له حصاص بمهملات مضموم الأول، وفسره الأصمعي وغيره بشدة العدو، وقال الطيبي: شبه شغل الشيطان نفسه عن سماع الأذان بالصوت الذي يملأ السمع ويمنعه عن سماع غيره ثم سماه ضراطًا.

( حَتَّى لَا يَسْمَعَ النِّدَاءَ) أي التأذين كما هو رواية التنيسي للموطأ ومسلم من رواية المغيرة عن أبي الزناد والمعنى واحد.
وقال الحافظ: ظاهره أنه يتعمد إخراج ذلك إما ليشتغل بسماع الصوت الذي يخرجه عن سماع المؤذن، أو يصنع ذلك استخفافًا كما تفعله السفهاء، أو ليقابل ما يناسب الصلاة من الطهارة بالحدث، ويحتمل أن لا يتعمد ذلك بل يحصل له عند سماع الأذان شدة خوف يحدث له ذلك الصوت بسببها، وفيه استحباب رفع الصوت بالأذان لأنه ظاهر في أنه يبعد إلى غاية ينتفي فيها سماعه للصوت، وقد بينت الغاية في رواية مسلم من حديث جابر فقال: حتى يكون مكان الروحاء.
قال سليمان يعني الأعمش فسألته أي أبا سفيان راويه عن جابر عن الروحاء فقال هي من المدينة ستة وثلاثون ميلاً، وقد أدرج هذا إسحاق بن راهويه في مسنده فقال: حتى يكون بالروحاء وهي ستة إلخ والمعتمد الأول.

( فَإِذَا قُضِيَ النِّدَاءُ) بضم القاف أي فرغ وانتهى منه ويروى بفتح القاف على حذف الفاعل والمراد المنادي أي: إذا قضى المنادي النداء ( أَقْبَلَ) زاد مسلم في رواية أبي صالح عن أبي هريرة فوسوس ( حَتَّى إِذَا ثُوِّبَ بِالصَّلَاةِ أَدْبَرَ) بضم المثلثة وشد الواو المكسورة قيل من ثاب إذا رجع وقيل من ثوب إذا أشار بثوبه عند الفزع لإعلام غيره.

قال الجمهور: المراد هنا الإقامة وبه جزم أبو عوانة والخطابي والبيهقي وغيرهم وقال القرطبي: ثوب بالصلاة أي أقيمت وأصله أنه رجع إلى ما يشبه الأذان وكل مردد صوت فهو مثوب ويدل عليه رواية مسلم من طريق أبي صالح عن أبي هريرة فإذا سمع الإقامة ذهب.

وزعم بعض الكوفيين أن المراد بالتثويب قول المؤذن بين الأذان والإقامة حي على الصلاة حي على الفلاح قد قامت الصلاة وحكاه ابن المنذر عن أبي يوسف عن أبي حنيفة وزعم أنه تفرد به لكن في سنن أبي داود عن ابن عمر أنه كره التثويب بين الأذان والإقامة فهذا يدل على أن له سلفًا في ذلك في الجملة ويحتمل أن يكون الذي تفرد به القول الخاص.

قال الخطابي: لا تعرف العامة التثويب إلا قول المؤذن الصلاة خير من النوم لكن المراد به هنا الإقامة.

( حَتَّى إِذَا قُضِيَ التَّثْوِيبُ) بالرفع نائب الفاعل والنصب مفعول ( أَقْبَلَ حَتَّى يَخْطِرَ) بفتح أوله وكسر الطاء كما ضبطه عياض عن المتقنين وقال: إنه الوجه ومعناه يوسوس وأصله من خطر البعير بذنبه إذا حركه فضرب به فخذيه قال: وسمعناه من أكثر الرواة بضم الطاء ومعناه المرور أي يدنو منه فيمر بينه وبين قلبه فيشغله عما هو فيه، وبهذا فسره الشارحون للموطأ وبالأول فسره الخليل وضعف الهجري في نوادره الضم وقال: هو يخطر بالكسر في كل شيء ( بَيْنَ الْمَرْءِ وَنَفْسِهِ) أي قلبه وكذا هو للبخاري من وجه آخر في بدء الخلق قال الباجي: المعنى أنه يحول بين المرء وبين ما يريده من إقباله على صلاته وإخلاصه فيها.

( يَقُولُ) الشيطان ( اذْكُرْ كَذَا اذْكُرْ كَذَا) وفي رواية للبخاري ومسلم بواو العطف واذكر كذا وللبخاري أيضًا في صلاة السهو اذكر كذا وكذا ( لِمَا لَمْ يَكُنْ يَذْكُرُ) أي لشيء لم يكن على ذكره قبل دخوله في الصلاة وفي رواية لمسلم لما لم يذكر من قبل، وله أيضًا من رواية عبد ربه عن الأعرج فهناه ومناه وذكره من حاجاته ما لم يكن يذكر.

ومن ثم استنبط أبو حنيفة للذي شكا إليه أنه دفن مالاً ثم لم يهتد لمكانه أن يصلي ويحرص على أن لا يحدث نفسه بشيء من أمر الدنيا ففعل فذكر مكان المال في الحال قيل خصه بما يعلم دون ما لم يعلم لأنه يميل لما يعلم أكثر لتحقق وجوده، والذي يظهر أنه أعم من ذلك فيذكره لما سبق له به علم ليشغل باله به ولما لم يكن سبق له ليوقعه في الفكرة فيه وهذا أعم من أن يكون في أمور الدنيا أو في أمور الدين كالعلم.
لكن هل يشمل ذلك التفكر في معاني الآيات التي يتلوها لا يبعد ذلك لأن غرضه نقص خشوعه وإخلاصه بأي وجه كان.

( حَتَّى يَظَلَّ الرَّجُلُ) بالظاء المعجمة المفتوحة رواية الجمهور ومعناه في الأصل اتصاف المخبر عنه بالخبر نهارًا لكنها هنا بمعنى يصير أو يبقى، وفي رواية بالضاد الساقطة مكسورة أي ينسى، ومنه أن تضل إحداهما أو يخطئ ومنه { { لاَّ يَضِلُّ رَبِّي وَلاَ يَنسَى } } ومفتوحة أي يتحير من الضلال وهو الحيرة والمشهور الأول ( إِنْ يَدْرِي) بكسر همزة إن النافية بمعنى لا، وفي رواية التنيسي لا يدري وروي بفتح الهمزة ونسبها ابن عبد البر لأكثر رواة الموطأ ووجهها بما تعقبه عليه جماعة وقال القرطبي: ليست رواية الفتح بشيء إلا مع رواية الضاد الساقطة فيكون أن والفعل بتأويل المصدر ومفعول ضل إن بإسقاط حرف الجر أي يضل عن درايته وكذا قال عياض لا يصح فتحها إلا على رواية يضل بكسر الضاد فتكون أن مع الفعل مفعوله أي يجهل درايته وينسى عدد ركعاته ( كَمْ صَلَّى) .

وللبخاري في بدء الخلق من وجه آخر عن أبي هريرة: حتى لا يدري أثلاثًا صلى أم أربعًا.

واختلف العلماء في حكمة هروب الشيطان عند سماع الأذان والإقامة دون سماع القرآن والذكر في الصلاة فقيل: حتى لا يشهد للمؤذن يوم القيامة فإنه لا يسمع صوته جن ولا إنس إلا شهد له كما تقدم، وقيل نفورًا عن سماع الأذان ثم يرجع موسوسًا ليفسد على المصلي صلاته فصار رجوعه من جنس فراره، والجامع بينهما الاستخفاف وقيل: لأن الأذان دعاء إلى الصلاة المشتملة على السجود الذي أباه وعصى بسببه.

واعترض بأنه يعود قبل السجود فلو كان هروبه لأجله لم يعد إلا عند فراغه.

وأجيب: بأنه يهرب عند سماع الدعاء لذلك ليغالط نفسه بأنه لم يخالف أمرًا ثم يرجع ليفسد على المصلي سجوده الذي أباه وقيل إنما يهرب لاتفاق الجميع على الإعلان بشهادة الحق وإقامة الشريعة.

واعترض بأن الاتفاق على ذلك حاصل قبل الأذان وبعده من جميع من يصلي.
وأجيب: بأن الإعلان أخص من الاتفاق فإن الإعلان المختص بالأذان لا يشاركه فيه غيره من الجهر بالتكبير والشهادة مثلاً، ولذا قال لعبد الله بن زيد: ألقه على بلال فإنه أندى منك صوتًا أي اقعد بالمد والإطالة والإسماع ليعم الصوت ويطول أمد التأذين فيكثر الجمع ويفوت على الشيطان مقصوده من إلهاء الآدمي عن إقامة الصلاة في جماعة أو إخراجها عن وقتها أو وقت فضيلتها، فيفر حينئذ وقد يئس أن يردهم عما أعلنوا به ثم يرجع لما طبع عليه من الأذى إلى الوسوسة.

وقال ابن الجوزي: على الأذان هيئة يشتد انزعاج الشيطان بسببها لأنه لا يكاد يقع في الأذان رياء ولا غفلة عند النطق به لأن النفس لا تحضره بخلاف الصلاة، فإن النفس تحضر فيها فيفتح لها الشيطان أبواب الوسوسة.

وقد ترجم عليه أبو عوانة في صحيحه الدليل على أن المؤذن في أذانه وإقامته منفي عنه الوسوسة والرياء لتباعد الشيطان منه وقيل لأن الأذان إعلام بالصلاة التي هي أفضل الأعمال بألفاظ هي من أفضل الذكر لا يزاد فيها ولا ينقص منها بل تقع على وفق الأمر فيفر من سماعها، وأما الصلاة فلما يقع من كثير من الناس فيها من التفريط تمكن الخبيث من المفرط فلو قدر أن المصلي وفي جميع ما أمر به فيها لم يقربه فيها إن كان وحده وهو نادر، وكذا إذا انضم إليه من هو مثله وهو أندر أشار إليه ابن أبي جمرة.

قال ابن بطال: ويشبه أن يكون الزجر عن الخروج من المسجد بعد الأذان من هذا المعنى لئلا يكون متشبهًا بالشيطان الذي يفر عند سماع الأذان، وفهم بعض السلف من هذا الحديث الإتيان بصورة الأذان وإن لم يوجد فيه شروط الأذان من وقوعه في الوقت وغير ذلك، ففي مسلم من رواية سهيل بن أبي صالح قال: أرسلني أبي إلى بني حارثة ومعي غلام لنا أو صاحب لنا فناداه مناد من حائط باسمه فأشرف الذي معي على الحائط فلم ير شيئًا فذكرت ذلك لأبي فقال: لو شعرت أنك تلقى هذا لم أرسلك ولكن إذا سمعت صوتًا فناد بالصلاة فإني سمعت أبا هريرة يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: إن الشيطان إذا نودي بالصلاة ولى وله حصاص.

وقال ابن عبد البر: قال مالك: استعمل زيد بن أسلم على معدن بني سليم وكان لا يزال يصاب فيه الناس من الجن فلما وليهم شكوا ذلك إليه فأمرهم بالأذان وأن يرفعوا أصواتهم به ففعلوا فارتفع ذلك عنهم فهم عليه حتى اليوم.
قال مالك: أعجبني ذلك من زيد وذكرت الغيلان عند عمر بن الخطاب فقال: إن شيئًا من الخلق لا يستطيع أن يتحول في غير خلقه ولكن للجن سحرة كما للإنس سحرة فإذا خشيتم شيئًا من ذلك فأذنوا بالصلاة.

وهذا الحديث رواه البخاري عن عبد الله بن يوسف عن مالك به، ورواه في السهو عن الليث عن جعفر بن ربيعة عن الأعرج به، ومسلم من طريق المغيرة الخزاعي عن أبي الزناد به، ومن طريق الأعمش وسهيل كلاهما عن أبي صالح عن أبي هريرة بنحوه.

( مَالِكٍ عَنْ أَبِي حَازِمِ) بمهملة وزاي سلمة ( بْنِ دِينَارٍ) الأعرج المدني العابد الثقة من رجال الجميع قال أبو عمر: كان أبو حازم هذا أحد الفضلاء الحكماء العلماء الثقات الأثبات وله حكم وزهديات ومواعظ ورقائق ومقطعات ومات سنة أربعين ومائة على الأصح وقيل: غير ذلك.

( عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ) بن مالك بن خالد الأنصاري الخزرجي ( السَّاعِدِيِّ) أبي العباس الصحابي ابن الصحابي مات سنة ثمان وثمانين وقيل بعدها وقد جاوز المائة ( أَنَّهُ قَالَ سَاعَتَانِ) قال ابن عبد البر: هذا الحديث موقوف عند جماعة رواة الموطأ ومثله لا يقال بالرأي، وقد رواه أيوب بن سويد ومحمد بن مخلد وإسماعيل بن عمرو عن مالك مرفوعًا.

وروي من طرق متعددة عن أبي حازم عن سهل قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ساعتان ( يُفْتَحُ لَهُمَا أَبْوَابُ السَّمَاءِ) أي فيهما أو من أجل فضيلتهما ( وَقَلَّ دَاعٍ تُرَدُّ عَلَيْهِ دَعْوَتُهُ) إخبار بأن الإجابة في هذين الوقتين هي الأكثر وأن رد الدعاء فيهما يندر ولا يكاد يقع قاله الباجي، فأشار بقوله قل إلى أنها قد ترد لفوات شرط من شروط الدعاء أو ركن من أركانه أو نحو ذلك وقال السيوطي: بل قل هنا للنفي المحض كما هو أحد استعمالاتها.
قال ابن مالك في التسهيل وغيره: ترد قل للنفي المحض فترفع الفاعل متلوًا بصفة مطابقة له نحو: قل رجل يقول ذلك، وقل رجلان يقولان ذلك وهي من الأفعال التي منعت التصرف.

( حَضْرَةُ النِّدَاءِ لِلصَّلَاةِ) أي الأذان ( وَالصَّفُّ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) أي في قتال الكفار لإعلاء كلمة الله.
وقد روى الطبراني والحاكم في المستدرك والديلمي الحديث عن سهل به مرفوعًا.
وروى أبو نعيم في الحلية عن عائشة رفعته: ثلاث ساعات للمرء المسلم ما دعا فيهن إلا استجيب له ما لم يسأل قطيعة رحم أو مأثمًا، حين يؤذن المؤذن بالصلاة حتى يسكت، وحين يلتقي الصفان حتى يحكم الله بينهما، وحين ينزل المطر حتى يسكن.
( وَسُئِلَ مَالِكٌ عَنِ النِّدَاءِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ هَلْ يَكُونُ قَبْلَ أَنْ يَحِلَّ الْوَقْتُ؟ فَقَالَ: لَا يَكُونُ إِلَّا بَعْدَ أَنْ تَزُولَ الشَّمْسُ) لأن وقتها زوال الشمس كالظهر عند جمهور الفقهاء وأجاز أحمد صلاتها قبل الزوال وهو شذوذ.
قال مالك: لو خطب قبل الزوال وصلى بعده لم تجز ويعيدون الجمعة بخطبة ما لم تغرب الشمس نقله ابن حبيب عن مطرف عنه.
وقال ابن سحنون: يعيدون الظهر أبدًا أفذاذًا.

( وَسُئِلَ مَالِكٌ عَنْ تَثْنِيَةِ النِّدَاءِ وَالْإِقَامَةِ وَمَتَى يَجِبُ الْقِيَامُ عَلَى النَّاسِ حِينَ تُقَامُ الصَّلَاةُ؟ فَقَالَ: لَمْ يَبْلُغْنِي فِي النِّدَاءِ وَالْإِقَامَةِ إِلَّا مَا أَدْرَكْتُ النَّاسَ عَلَيْهِ) وهو شفع الأذان لما في البخاري عن أنس قال: أمر بلال أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة قال الزين بن المنير: وصف الأذان بأنه شفع يفسره قوله مثنى أي مرتين مرتين وذلك يقتضي أن يستوي جميع ألفاظه في ذلك لكن لم يختلف في أن كلمة التوحيد التي في آخره مفردة فيحمل قوله مثنى على ما سواها انتهى.
ففيه دليل على أن التكبير ليس مربعًا، وكذا قوله صلى الله عليه وسلم: الأذان مثنى مثنى أخرجه أبو داود الطيالسي عن ابن عمر.
ورواه أبو داود والنسائي وصححه ابن خزيمة وغيره من حديث ابن عمر بلفظ: مرتان مرتان.

( فَأَمَّا الْإِقَامَةُ فَإِنَّهَا لَا تُثَنَّى) حتى قد قامت الصلاة بل تفرد ( وَذَلِكَ الَّذِي لَمْ يَزَلْ عَلَيْهِ أَهْلُ الْعِلْمِ بِبَلَدِنَا) المدينة مع تأييده بالحديث الصحيح، وأما قوله في رواية أيوب السختياني عن أبي قلابة عن أنس: ويوتر الإقامة إلا الإقامة أي: قد قامت الصلاة فالمثبت غير المنفي فهو مدرج من قول أيوب وليس من الحديث كما جزم به الأصيلي وابن منده، لأن إسماعيل بن إبراهيم قال: حدثنا خالد الحذاء عن أبي قلابة عن أنس قال: أمر بلال أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة.
قال إسماعيل: فذكرته لأيوب فقال: إلا الإقامة رواه البخاري ومسلم ونظر فيما قاله الحافظ بأن عبد الرزاق رواه عن معمر عن أيوب بسنده بلفظ: كان بلال يثني الأذان ويوتر الإقامة إلا قوله قد قامت الصلاة، والأصل أن ما كان في الخبر فهو منه حتى يقوم دليل على خلافه ولا دليل في رواية إسماعيل لأن محصلها أن خالدًا كان لا يذكر الزيادة وأيوب يذكرها وكل منهما روى الحديث عن أبي قلابة عن أنس فكان في رواية أيوب زيادة حافظ فتقبل انتهى.

لكن إنما يتم له هذا النظر لو صرح أيوب بروايته له عن أبي قلابة لما ذكر له إسماعيل رواية خالد وهو إنما قال: إلا الإقامة فيتبادر منه أنه إخبار عن رأيه، وأما رواية عبد الرزاق فلا دليل فيها على عدم الإدراج لأنها من محل النزاع، وقد دلت رواية إسماعيل على الإدراج ثم هذا الحديث حجة على من قال إن الإقامة مثناة.

وزعم بعض الحنفية أن إفرادها كان أولاً ثم نسخ بحديث أبي محذورة عند أصحاب السنن وفيه تثنية الإقامة وهو متأخر عن حديث أنس فيكون ناسخًا.
وعورض بأن في بعض طرق حديث أبي محذورة المحسنة التربيع والترجيع فكان يلزمهم القول به، وقد أنكر أحمد على من ادعى النسخ بحديث أبي محذورة، واحتج بأنه صلى الله عليه وسلم رجع بعد الفتح إلى المدينة وأقر بلالاً على إفراد الإقامة وعلمه سعد القرظ فأذن به بعده كما رواه الدارقطني والحاكم.

وقال ابن عبد البر: ذهب أحمد وإسحاق وداود وابن جرير إلى أن ذلك من الاختلاف المباح فإن ربع التكبير الأول في الأذان أو ثناه أو رجع في التشهد أو لم يرجع أو ثنى الإقامة أو أفردها كلها أو إلا قد قامت الصلاة، فالجميع جائز.
قيل الحكمة في تثنية الأذان وإفراد الإقامة أن الأذان لإعلام الغائبين فكرر ليكون أوصل إليهم بخلاف الإقامة فللحاضرين، ومن ثم استحب أن يكون الأذان في مكان عال بخلاف الإقامة، وأن يكون الصوت في الأذان أرفع منه في الإقامة.

قال الحافظ: وهذا توجيه ظاهر وأما قول الخطابي لو سوى بينهما لاشتبه الأمر في ذلك وصار يفوت كثيرًا من الناس صلاة الجماعة ففيه نظر لأن الأذان يستحب على مرتفع ليشترك فيه الإسماع وأن يكون مرتلاً والإقامة مسرعة ويؤخذ حكمة الترجيع مما تقدم وإنما اختص بالتشهد لأنه أعظم ألفاظ الأذان، والله أعلم.

( وَأَمَّا قِيَامُ النَّاسِ حِينَ تُقَامُ الصَّلَاةُ فَإِنِّي لَمْ أَسْمَعْ فِي ذَلِكَ بِحَدٍّ يُقَامُ لَهُ) وما في الصحيحين عن أبي قتادة قال صلى الله عليه وسلم: إذا أقيمت الصلاة فلا تقوموا حتى تروني خرجت فهو نهي عن القيام قبل خروجه وتسويغ له عند رؤيته وهو مطلق غير مقيد بشيء من ألفاظ الإقامة.

ومن ثم اختلف السلف في ذلك فقال مالك: ( إِلَّا أَنِّي أَرَى ذَلِكَ عَلَى قَدْرِ طَاقَةِ النَّاسِ فَإِنَّ مِنْهُمُ الثَّقِيلَ وَالْخَفِيفَ وَلَا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَكُونُوا كَرَجُلٍ وَاحِدٍ) وذهب الأكثر إلى أنهم إذا كان الإمام معهم في المسجد لم يقوموا حتى تفرغ الإقامة وإذا لم يكن في المسجد لم يقوموا حتى يروه، وعن أنس أنه كان يقوم إذا قال المؤذن قد قامت الصلاة رواه ابن المنذر وغيره، ورواه سعيد بن منصور من طريق أبي إسحاق عن أصحاب عبد الله، وعن سعيد بن المسيب أنه إذا قال المؤذن: الله أكبر وجب القيام، وإذا قال: حي على الصلاة عدلت الصفوف، وإذا قال لا إله إلا الله كبر الإمام.
وعن أبي حنيفة يقومون إذا قال حي على الفلاح فإذا قال قد قامت الصلاة كبر الإمام، والحديث حجة على هؤلاء المفصلين.

قال القرطبي: ظاهر هذا الحديث أن الصلاة كانت تقام قبل أن يخرج صلى الله عليه وسلم من بيته، وهو معارض لحديث جابر بن سمرة عند مسلم أن بلالاً كان لا يقيم حتى يخرج صلى الله عليه وسلم ويجمع بينهما بأن بلالاً كان يراقب خروج النبي صلى الله عليه وسلم، فأول ما يراه يشرع في الإقامة قبل أن يراه غالب الناس ثم إذا رأوه قاموا فلا يقوم في مقامه حتى تعتدل صفوفهم.

قال الحافظ: ويشهد له ما رواه عبد الرزاق عن ابن جريج عن ابن شهاب كانوا ساعة يقول المؤذن الله أكبر يقومون إلى الصلاة فلا يأتي النبي صلى الله عليه وسلم حتى تعتدل الصفوف.
وأما حديث أبي هريرة في البخاري بلفظ: أقيمت الصلاة فسوى الناس صفوفهم فخرج صلى الله عليه وسلم، ولفظه في مستخرج أبي نعيم وصف الناس صفوفهم ثم خرج علينا، ولفظه في مسلم أقيمت الصلاة فقمنا فعدلنا الصفوف قبل أن يخرج إلينا النبي صلى الله عليه وسلم فأتى فقام مقامه فيجمع بينه وبين حديث أبي قتادة بأن ذلك ربما وقع لبيان الجواز، وبأن صنعهم في حديث أبي هريرة كان سبب النهي في حديث أبي قتادة، وأنهم كانوا يقومون ساعة تقام الصلاة ولو لم يخرج صلى الله عليه وسلم فنهاهم عن ذلك لاحتمال أن يقع له شغل يبطئ فيه عن الخروج فيشق عليهم انتظاره ولا يرد هذا حديث أنس في الصحيح أنه قام في مقامه طويلاً في مناجاة بعض القوم لاحتمال وقوعه نادرًا أو فعله لبيان الجواز انتهى.

( وَسُئِلَ مَالِكٌ عَنْ قَوْمٍ حُضُورٍ أَرَادُوا أَنْ يَجْمَعُوا الْمَكْتُوبَةَ فَأَرَادُوا أَنْ يُقِيمُوا وَلَا يُؤَذِّنُوا؟ قَالَ: ذَلِكَ مُجْزِئٌ عَنْهُمْ) إذ الأذان ليس بشرط في صحة الصلاة عند جمهور الفقهاء خلافًا لعطاء ( وَإِنَّمَا يَجِبُ النِّدَاءُ فِي مَسَاجِدِ الْجَمَاعَاتِ الَّتِي تُجْمَعُ فِيهَا الصَّلَاةُ) وجوب السنن المؤكدة على المذهب وأما في المصر فواجب كفاية، فلو اتفقوا على تركه أثموا وقوتلوا عليه لأنه شعار الإسلام ومن العلامات المفرقة بين دار الإسلام والكفر.
وفي الصحيحين واللفظ لمسلم عن أنس: كان صلى الله عليه وسلم يغير إذا طلع الفجر وكان يستمع الأذان فإن سمع أذانًا أمسك وإلا أغار.

( وَسُئِلَ مَالِكٌ عَنْ تَسْلِيمِ الْمُؤَذِّنِ عَلَى الْإِمَامِ وَدُعَائِهِ إِيَّاهُ لِلصَّلَاةِ وَعَنْ أَوَّلُ مَنْ سُلِّمَ عَلَيْهِ؟ فَقَالَ: لَمْ يَبْلُغْنِي أَنَّ التَّسْلِيمَ كَانَ فِي الزَّمَنِ الْأَوَّلِ) قال الباجي: أي لم يكن في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم، وإنما كان المؤذن يؤذن فإن كان الإمام في شغل جاء المؤذن فأعلمه باجتماع الناس دون تكلف ولا استعمال، فأما ما يتكلف اليوم من وقوف المؤذن بباب الأمير والسلام عليه والدعاء للصلاة بعد ذلك فإنه من المباهاة والتكبر والصلاة تنزه عن ذلك.

وقد قال القاضي أبو إسحاق في المبسوط عن عبد الملك بن الماجشون كيفية السلام: السلام عليك أيها الأمير ورحمة الله وبركاته الصلاة يرحمك الله.
قال إسماعيل: روي أن عمر أنكر على أبي محذورة دعاءه إياه إلى الصلاة وأول من فعله معاوية.

وقال ابن عبد البر: أول من فعل ذلك معاوية أمر المؤذن أن يشعره ويناديه فيقول: السلام على أمير المؤمنين الصلاة يرحمك الله، وقيل أول من فعله المغيرة بن شعبة والأول أصح انتهى.

وروى ابن أبي شيبة عن مجاهد قال: لما قدم عمر مكة أتاه أبو محذورة وقد أذن فقال: الصلاة يا أمير المؤمنين حي على الصلاة حي على الفلاح.
قال: ويحك أمجنون أنت أما كان في دعائك الذي دعوتنا ما نأتيك حتى تأتينا.

وفي الأوائل للعسكري من طريق الواقدي عن ابن أبي ذئب قال: قلت للزهري من أول من سلم عليه فقيل السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته حي على الصلاة حي على الفلاح الصلاة يرحمك الله؟ فقال: معاوية بالشام ومروان بن الحكم بالمدينة.

وروى ابن سعد في طبقاته عن محمد بن سعد القرظ قال: كنا نؤذن على عمر بن عبد العزيز في داره للصلاة فنقول السلام عليك أيها الأمير ورحمة الله وبركاته حي على الصلاة حي على الفلاح وفي الناس الفقهاء فلا ينكرون ذلك، وبهذا كله تعلم ضعف ما في خطط المقريزي.

قال الواقدي وغيره: كان بلال يقف على باب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الأذان فيقول: السلام عليك يا رسول الله فلما ولي أبو بكر كان سعد القرظ يقف فيقول: السلام عليك يا خليفة رسول الله الصلاة يا خليفة رسول الله، فلما ولي عمر ولقب أمير المؤمنين كان المؤذن يقف على بابه ويقول: السلام عليك يا أمير المؤمنين الصلاة يا أمير المؤمنين، ثم إن عمر أمر المؤذن فزاد فيها رحمك الله، ويقال إن عثمان هو الذي زادها، وما زال المؤذنون إذا أذنوا سلموا على الخلفاء وأمراء الأعمال ثم يقيمون الصلاة بعد السلام فيخرج الخليفة أو الأمير فيصلي بالناس هكذا كان العمل مدة أيام بني أمية ثم مدة بني العباس حتى ترك الخلفاء الصلاة بالناس فترك ذلك انتهى.
والواقدي متروك ولعل غيره تبعه، والله أعلم.

( وَسُئِلَ مَالِكٌ عَنْ مُؤَذِّنٍ أَذَّنَ لِقَوْمٍ ثُمَّ انْتَظَرَ هَلْ يَأْتِيهِ أَحَدٌ فَلَمْ يَأْتِهِ أَحَدٌ فَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَصَلَّى وَحْدَهُ ثُمَّ جَاءَ النَّاسُ بَعْدَ أَنْ فَرَغَ أَيُعِيدُ الصَّلَاةَ مَعَهُمْ؟ قَالَ: لَا يُعِيدُ الصَّلَاةَ وَمَنْ جَاءَ بَعْدَ انْصِرَافِهِ) فراغه من الصلاة ( فَلْيُصَلِّ لِنَفْسِهِ وَحْدَهُ) قال ابن نافع: معناه أن المؤذن هنا هو الإمام الراتب ولم يرد المؤذن، فإن لم يكن الإمام الراتب فلا بأس أن يجمعوا تلك الصلاة ويعيدها المؤذن معهم إن شاء.

قال ابن عبد البر: وهذا التفسير حسن على أصل قول مالك المسجد الذي له إمام راتب لا يجمع فيه صلاة واحدة مرتين وبه قال سفيان الثوري وأجازه أشهب.

وقال الباجي: إذا كان المؤذن إمامًا راتبًا فكما قال مالك: لأن الاعتبار في الجماعة بالإمام دون المأموم لما في ذلك من مخالفة الأئمة ومفارقة الجماعة، ولأن ذلك يؤدي أن لا تراعى أوقات الصلاة ويؤخر من شاء ويصلي في جماعة، وإن لم يكن المؤذن إمامًا راتبًا فقال ابن نافع حكمه حكم الفذ، وقال عيسى كالجماعة ويظهر لي أن قول عيسى في مسجد له مؤذن راتب وليس له إمام راتب لتعلق حكم الجماعة به دون المؤذن.

وقال ابن عبد البر: ولا أصل لهذه المسألة إلا المنع من الاختلاف على الأئمة وردع أهل البدع ليتركوا إظهار بدعتهم لأنهم كانوا يرغبون عن صلاة الإمام ثم يأتون بعده فيجمعون بإمامهم.

وقال أبو حنيفة والشافعي والجمهور لا بأس أن يجمع في المسجد مرتين ولم ينه الله عنه ولا رسوله ولا اتفق عليه العلماء، ودليل الجواز حديث أنه صلى الله عليه وسلم صلى إحدى صلاتي العشي فلما سلم دخل رجل لم يدرك الصلاة معه فاستقبل القبلة ليصلي فقال صلى الله عليه وسلم: ألا رجل يتصدق على هذا فيصلي معه فقام رجل ممن صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم فصلى معه انتهى.
والجواب أن هذه واقعة حال محتملة فلا ينهض حجة في عدم الكراهة.

( وَسُئِلَ مَالِكٌ عَنْ مُؤَذِّنٍ أَذَّنَ لِقَوْمٍ ثُمَّ تَنَفَّلَ فَأَرَادُوا أَنْ يُصَلُّوا بِإِقَامَةِ غَيْرِهِ؟ فَقَالَ: لَا بَأْسَ بِذَلِكَ إِقَامَتُهُ وَإِقَامَةُ غَيْرِهِ سَوَاءٌ) وبهذا قال أبو حنيفة وقال الليث والثوري والشافعي وأكثر أهل الحديث: من أذن فهو يقيم لحديث عبد الله بن الحارث الصدائي قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما كان الصبح أمرني فأذنت ثم قام إلى الصلاة فجاء بلال ليقيم فقال صلى الله عليه وسلم: إن أخا صداء أذن ومن أذن فهو يقيم.

قال ابن عبد البر: انفرد به عبد الرحمن بن زياد الإفريقي وليس بحجة عندهم، وحجة مالك حديث عبد الله بن زيد حين أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأذان فأمره أن يلقيه على بلال وقال: إنه أندى منك صوتًا فلما أذن بلال قال صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن زيد: أقم أنت فأقام وهذا الحديث أحسن إسنادًا.

( قَالَ مَالِكٌ: لَمْ تَزَلِ الصُّبْحُ يُنَادَى لَهَا قَبْلَ الْفَجْرِ) في أول السدس الأخير من الليل قاله ابن وهب وسحنون.
وقال ابن حبيب: نصف الليل، وحجة العمل المذكور حديث ابن عمر الآتي إن بلالاً ينادي بليل وبه قال الجمهور والأئمة الثلاثة، وقال أبو حنيفة وطائفة لا يؤذن لها حتى يطلع الفجر ( فَأَمَّا غَيْرُهَا مِنَ الصَّلَوَاتِ فَإِنَّا لَمْ نَرَهَا يُنَادَى لَهَا إِلَّا بَعْدَ أَنْ يَحِلَّ وَقْتُهَا) لحرمته قبل الوقت في غير الصبح.

قال الكرخي من الحنفية: كان أبو يوسف يقول: بقول أبي حنيفة: لا يؤذن لها حتى أتى المدينة فرجع إلى قول مالك وعلم أنه عملهم المتصل.

قال الباجي: يظهر لي أنه ليس في الأثر ما يقتضي أن الأذان قبل الفجر لصلاة الفجر فإن كان الخلاف في الأذان ذلك الوقت فالآثار حجة لمن أثبته وإن كان الخلاف في المقصود به فيحتاج إلى ما يبين ذلك من إبطال الأذان إلى الفجر أو غير ذلك مما يدل عليه.

( مَالِكٍ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ الْمُؤَذِّنَ جَاءَ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ يُؤْذِنُهُ لِصَلَاةِ الصُّبْحِ فَوَجَدَهُ نَائِمًا فَقَالَ: الصَّلَاةُ خَيْرٌ مِنَ النَّوْمِ فَأَمَرَهُ عُمَرُ أَنْ يَجْعَلَهَا فِي نِدَاءِ الصُّبْحِ) هذا البلاغ أخرجه الدارقطني في السنن من طريق وكيع في مصنفه عن العمري عن نافع عن ابن عمر عن عمر، وأخرج أيضًا عن سفيان عن محمد بن عجلان عن نافع عن ابن عمر عن عمر أنه قال لمؤذنه: إذا بلغت حي على الفلاح في الفجر فقل الصلاة خير من النوم الصلاة خير من النوم، فقصر ابن عبد البر في قوله لا أعلم هذا روي عن عمر من وجه يحتج به وتعلم صحته، وإنما أخرجه ابن أبي شيبة من حديث هشام بن عروة عن رجل يقال له إسماعيل لا أعرفه قال: والتثويب محفوظ في أذان بلال وأبي محذورة في صلاة الصبح للنبي صلى الله عليه وسلم، والمعنى هنا أن نداء الصبح موضع قوله لا هنا كأنه كره أن يكون منه نداء آخر عند باب الأمير كما أحدثته الأمراء، وإلا فالتثويب أشهر عند العلماء والعامة من أن يظن بعمر أنه جهل ما سن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر به مؤذنيه بلالاً بالمدينة، وأبا محذورة بمكة انتهى.

ونحو تأويله قول الباجي: يحتمل أن عمر قال ذلك إنكارًا لاستعماله لفظة من ألفاظ الأذان في غيره وقال له اجعلها فيه يعني لا تقلها في غيره انتهى.
وهو حسن متعين: فقد روى ابن ماجه من طريق ابن المسيب عن بلال أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم يؤذنه لصلاة الفجر فقيل هو نائم فقال الصلاة خير من النوم مرتين، فأقرت في تأذين الفجر فثبت الأمر على ذلك.

وروى بقي بموحدة ابن مخلد عن أبي محذورة قال: كنت غلامًا صبيًا فأذنت بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم الفجر يوم حنين: فلما انتهيت إلى حي على الفلاح قال: ألحق فيها الصلاة خير من النوم، وقال مالك في مختصر ابن شعبان: لا يترك المؤذن قوله في نداء الصبح الصلاة خير من النوم في سفر ولا حضر ومن أذن في ضيعته متنحيًا عن الناس فتركه فلا بأس وأحب إلينا أن يأتي به.

( مَالِكٍ عَنْ عَمِّهِ أَبِي سُهَيْلِ) بضم السين واسمه نافع ( بْنِ مَالِكٍ عَنْ أَبِيهِ) مالك بن أبي عامر الأصبحي ( أَنَّهُ قَالَ: مَا أَعْرِفُ شَيْئًا مِمَّا أَدْرَكْتُ عَلَيْهِ النَّاسَ) يعني الصحابة ( إِلَّا النِّدَاءَ بِالصَّلَاةِ) فإنه باق على ما كان عليه لم يدخله تغيير ولا تبديل بخلاف الصلاة فقد أخرت عن أوقاتها وسائر الأفعال قد دخلها التغيير، فأنكر أكثر أفعال أهل عصره والتغيير يمكن أن يلحق صفة الفعل كتأخير الصلاة وأن يلحق الفعل جملة كترك الأمر بكثير من المعروف والنهي عن كثير من المنكر مع علم الناس بذلك كله قاله الباجي.

وقال ابن عبد البر فيه: إن الأذان لم يتغير عما كان عليه، وكذا قال عطاء ما أعلم تأذينهم اليوم يخالف تأذين من مضى وفيه تغير الأحوال عما كانت عليه زمن الخلفاء الأربع في أكثر الأشياء، واحتج بهذا بعض من لم ير عمل أهل المدينة حجة وقال لا حجة إلا فيما نقل بالأسانيد الصحاح عن النبي صلى الله عليه وسلم أو عن الخلفاء الأربعة ومن سلك سبيلهم.

( مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ سَمِعَ الْإِقَامَةَ وَهُوَ بِالْبَقِيعِ فَأَسْرَعَ الْمَشْيَ إِلَى الْمَسْجِدِ) بدون جري لأن الإسراع المنهي عنه بقوله صلى الله عليه وسلم: فلا تأتوها وأنتم تسعون هو الجري لأنه ينافي الوقار المشروع في الصلاة وفي قصدها، وأما ما لا ينافي الوقار فجائز وكذا قول مالك بجواز تحريك الفرس لمن سمع الأذان ليدرك الصلاة يريد تحريكه للإسراع في المشي دون جري ولا خروج عن حد الوقار قاله الباجي.

وقال ابن عبد البر: الواجب أن يأتي الصلاة بالسكينة خاف فواتها أو لم يخف لأمره صلى الله عليه وسلم بذلك وهو الحجة قال وقال بعض أصحابنا إن ابن عمر لم يزد على مشيه المعهود لأن الإسراع كان عادته لبعده من الزهو وليس ببين لأن نافعًا مولاه قد عرف مشيه، ثم أخبر أنه لما سمع الإقامة أسرع، ولا يخالفه قول محمد بن زيد: كان ابن عمر إذا مشى إلى الصلاة لو مشت معه نملة ما سبقها لأنه في حال لا يخاف فيها فوات شيء من الصلاة وهي أغلب أحواله انتهى.



رقم الحديث 149 وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنِ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَعْقُوبَ، عَنْ أَبِيهِ، وَإِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُمَا أَخْبَرَاهُ، أَنَّهُمَا سَمِعَا أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا ثُوِّبَ بِالصَّلَاةِ فَلَا تَأْتُوهَا وَأَنْتُمْ تَسْعَوْنَ، وَأْتُوهَا، وَعَلَيْكُمُ السَّكِينَةُ.
فَمَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا، وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا.
فَإِنَّ أَحَدَكُمْ فِي صَلَاةٍ مَا كَانَ يَعْمِدُ إِلَى الصَّلَاةِ.


( مَالِكٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ) الأنصاري ( أَنَّهُ قَالَ) مرسلاً ( كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) لما كثر الناس ( قَدْ أَرَادَ أَنْ يَتَّخِذَ خَشَبَتَيْنِ) هما الناقوس وهو خشبة طويلة تضرب بخشبة أصغر منها فيخرج منهما صوت كما في الفتح وغيره ( يُضْرَبُ بِهِمَا لِيَجْتَمِعَ النَّاسُ لِلصَّلَاةِ) .

قال ابن عمر: كان المسلمون حين قدموا المدينة يجتمعون فيتحينون الصلاة ليس ينادى لها فتكلموا يومًا في ذلك فقال بعضهم: أنتخذ ناقوسًا مثل ناقوس النصارى، وقال بعضهم: بل بوقًا مثل قرن اليهود، الحديث في الصحيحين.

وقال أنس: لما كثر الناس ذكروا أن يعلموا وقت الصلاة بشيء يعرفونه فذكروا أن يوروا نارًا أو يضربوا ناقوسًا رواه البخاري ومسلم وفيه اختصار وهو في أبي داود وغيره بإسناد صحيح عن أبي عمير بن أنس عن عمومة له من الأنصار اهتم النبي صلى الله عليه وسلم للصلاة كيف يجمع الناس لها قيل له: انصب راية فإذا رآها الناس أذن بعضهم بعضًا فلم يعجبه ذلك فذكر له القبع أي شبور اليهود فقال: هو من أمر اليهود، فذكر له الناقوس فقال هو من أمر النصارى وكأنه كرهه أولاً ثم أمر بعمله، ففي أبي داود عن عبد الله بن زيد لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناقوس يعمل ليضرب به للناس ليجتمعوا للصلاة طاف بي وأنا نائم رجل يحمل ناقوسًا.

( فَأُرِيَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ) بن ثعلبة بن عبد ربه أبو محمد ( الْأَنْصَارِيُّ ثُمَّ مِنْ بَنِي الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ) فيقال له الخزرجي الحارثي شهد العقبة وبدرًا.
قال الترمذي: لا نعرف له عن النبي صلى الله عليه وسلم شيئًا إلا هذا الحديث الواحد في الأذان وكذا قال ابن عدي.

قال في الإصابة: وأطلق غير واحد أنه ما له غيره وهو خطأ فقد جاءت عنه أحاديث ستة أو سبعة جمعتها في جزء مفرد، ومات سنة اثنين وثلاثين وهو ابن أربع وستين وصلى عليه عثمان قاله ولده محمد بن عبد الله نقله المدايني.
وقال الحاكم: الصحيح أنه قتل بأحد فالروايات عنه كلها منقطعة وخالف ذلك في المستدرك.

( خَشَبَتَيْنِ فِي النَّوْمِ) متعلق بأري ( فَقَالَ: إِنَّ هَاتَيْنِ لَنَحْوٌ مِمَّا يُرِيدُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أن يجمع به الناس للصلاة ( فَقِيلَ أَلَا تُؤَذِّنُونَ لِلصَّلَاةِ) وأسمعه الأذان فاستيقظ ( فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ اسْتَيْقَظَ فَذَكَرَ لَهُ ذَلِكَ) فقال: إنها لرؤيا حق إن شاء الله ( فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْأَذَانِ) كذا أورد الحديث مرسلاً مختصرًا كما سمعه من يحيى بن سعيد.

قال ابن عبد البر: وروى قصة عبد الله بن زيد هذه في بدء الأذان جماعة من الصحابة بألفاظ مختلفة ومعان متقاربة والأسانيد في ذلك متواترة وهي من وجوه حسان انتهى.

وأخرج أبو داود والترمذي وقال حسن صحيح وابن ماجه وابن خزيمة وابن حبان وصححاه من حديث محمد بن عبد الله بن زيد قال: حدثني أبي لما أمر صلى الله عليه وسلم بالناقوس يعمل به للناس ليجتمعوا للصلاة طاف بي وأنا نائم رجل يحمل ناقوسًا في يده فقلت: يا عبد الله أتبيع الناقوس؟ قال: وما تصنع به فقلت: ندعو به إلى الصلاة، قال: أفلا أدلك على ما هو خير من ذلك؟ فقلت: بلى.
قال: تقول الله أكبر فذكره مربع التكبير بلا ترجيع.
قال: ثم استأخر عني غير بعيد فقال: تقول إذا قمت إلى الصلاة فذكر الإقامة مفردة وثنى قد قامت الصلاة، فلما أصبحت أتيت رسول الله فأخبرته بما رأيت فقال: إنها لرؤيا حق إن شاء الله فقم مع بلال فألق عليه ما رأيت فليؤذن به فإنه أندى منك صوتًا فقمت مع بلال فجعلت ألقيه عليه ويؤذن به قال: فسمع بذلك عمر بن الخطاب وهو في بيته فخرج يجر رداءه يقول: والذي بعثك بالحق يا رسول الله لقد رأيت مثل ما أري.
فقال صلى الله عليه وسلم: فلله الحمد اهـ.
لفظ أبي داود وهو كالشرح لمرسل الموطأ.

ونقل ابن خزيمة عن محمد بن يحيى الذهلي بذال ولام أن هذه الطريق أصح طرقه وشاهده حديث عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن سعيد بن المسيب مرسلاً، ومنهم من وصله عن سعيد عن عبد الله بن زيد والمرسل أقوى إسنادًا.
ولأحمد عن معاذ بن جبل أن عبد الله بن زيد قال: يا رسول الله إني رأيت فيما يرى النائم ولو قلت إني لم أكن نائمًا لصدقت رأيت شخصًا عليه ثوبان أخضران فاستقبل القبلة فقال: الله أكبر، فذكر الحديث.

وعند أبي داود في حديث أبي عمير بن أنس عن عمومته من الأنصار وكان عمر قد رآه قبل ذلك فكتمه عشرين يومًا ثم أخبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: ما منعك أن تخبرني؟ فقال: سبقني عبد الله بن زيد فاستحيت وظاهره يعارض ما قبله.

قال الحافظ: ولا مخالفة لأنه يحمل على أنه لم يخبر بذلك عقب إخبار عبد الله بن زيد بل متراخيًا عنه فقوله: ما منعك أن تخبرني أي عقب إخبار عبد الله فاعتذر بالاستحياء فدل على أنه لم يخبره على الفور انتهى.
وبعده لا يخفى مع قوله فسمع عمر فخرج يقول: يا رسول الله لقد رأيت مثل ما أري فجعله حالاً من فاعل خرج أي قائلاً في حال خروجه، لكنه لا يمتنع للجمع بين الحديثين مع صحتهما.

وللطبراني في الأوسط أن أبا بكر أيضًا رأى الأذان، وذكر الجيلي في شرح التنبيه أنه رآه أربعة عشر رجلاً، وأنكره ابن الصلاح فقال: لم أجده بعد إمعان البحث، ثم النووي فقال في تنقيحه: هذا ليس بثابت ولا معروف، وإنما الثابت خروج عمر يجر رداءه.
وفي سيرة مغلطاي عن بعض كتب الفقهاء أنه رآه سبعة من الأنصار.

قال الحافظ: ولا يثبت شيء من ذلك إلا لعبد الله بن زيد، وقصة عمر جاءت في بعض طرقه.

وفي مسند الحارث بن أبي أسامة بسند واهٍ عن كثير الحضرمي قال: أول من أذن بالصلاة جبريل في السماء الدنيا فسمعه عمر وبلال فسبق عمر بلالاً فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم، ثم جاء بلال فقال له: سبقك بها عمر.
قال: وقد استشكل إثبات حكم الأذان برؤيا عبد الله بن زيد لأن رؤيا غير الأنبياء لا ينبني عليها حكم شرعي.

وأجيب باحتمال مقارنة الوحي لذلك أو لأنه صلى الله عليه وسلم أمر بمقتضى الرؤيا لينظر أيقر على ذلك أم لا.
ولا سيما لما رأى نظمها يبعد دخول الوسواس فيه وهذا ينبني على القول بجواز اجتهاده في الأحكام وهو المنصور في الأصول، ويؤيد الأول ما رواه عبد الرزاق وأبو داود في المراسيل عن عبيد بن عمير أحد كبار التابعين أن عمر لما رأى الأذان جاء ليخبر به النبي صلى الله عليه وسلم فوجد الوحي قد ورد بذلك فما راعه إلا أذان بلال فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: سبقك بذلك الوحي وهذا أصح مما حكى الداودي عن ابن إسحاق أن جبريل أتى النبي صلى الله عليه وسلم بالأذان قبل أن يخبره عبد الله بن زيد وعمر بثمانية أيام.

وجاءت أحاديث تدل على أن الأذان شرع بمكة قبل الهجرة.
منها للطبراني عن ابن عمر قال: لما أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم أوحى الله إليه الأذان فنزل به فعلمه بلالاً، وفي إسناده طلحة بن زيد وهو متروك وللدارقطني عن أنس أن جبريل أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالأذان حين فرضت الصلاة وإسناده ضعيف أيضًا.
ولابن مردويه عن عائشة مرفوعًا: لما أسري بي أذن جبريل فظنت الملائكة أنه يصلي بهم فقدمني فصليت وفيه من لا يعرف.
وللبزار وغيره عن علي: لما أراد الله أن يعلم رسوله الأذان أتاه جبريل بالبراق فركبها، الحديث.
وفيه: إذ خرج ملك من الحجاب فقال: الله أكبر، وفي آخره فأخذ الملك بيده فأم بأهل السماء، وفي إسناده زياد بن المنذر أبو الجارود وهو متروك أيضًا، ويمكن على تقدير الصحة أن يحمل على تعدد الإسراء فيكون وقع ذلك بالمدينة.
وقول القرطبي لا يلزم من كونه سمعه ليلة الإسراء أن يكون مشروعًا في حقه فيه نظر لقوله أوله لما أراد الله أن يعلم رسوله الأذان، وكذا قول المحب الطبري يحمل الأذان ليلة الإسراء على الأذان اللغوي وهو الإعلام فيه نظر أيضًا لتصريحه بصفته المشروعة فيه، والحق أنه لا يصح شيء من هذه الأحاديث.

وقد جزم ابن المنذر بأنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي بلا أذان منذ فرضت الصلاة بمكة إلى أن هاجر إلى المدينة إلى أن وقع التشاور في ذلك على ما في حديث ابن عمر ثم في حديث عبد الله بن زيد انتهى.

ومن الواهي أيضًا ما لابن شاهين عن زياد بن المنذر حدثني العلاء قال قلت لابن الحنفية: كنا نتحدث أن الأذان رؤيا رآها رجل من الأنصار ففزع وقال: عمدتم إلى أحسن دينكم فزعمتم أنه كان رؤيا هذا والله الباطل، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما عرج به انتهى إلى مكان من السماء وقف وبعث الله ملكًا ما رآه أحد في السماء قبل ذلك اليوم فعلمه الأذان ففيه كما رأيت زياد بن المنذر متروك، وقد صرح الحافظ الذهبي بأن هذا باطل.

قال الحافظ: وقد حاول السهيلي الجمع فتكلف وتعسف والأخذ بما صح أولى فقال بانيًا على صحة الحكمة في مجيء الأذان على لسان الصحابي أن النبي صلى الله عليه وسلم سمعه فوق سبع سموات وهو أقوى من الوحي فلما تأخر الأمر بالأذان عن فرض الصلاة وأراد إعلامهم بالوقت رأى الصحابي المنام فقصه فوافق ما كان صلى الله عليه وسلم سمعه فقال: إنها لرؤيا حق، وعلم حينئذ أن مراد الله بما أراه في السماء أن يكون سنة في الأرض وتقوى ذلك بموافقة عمر لأن السكينة تنطق على لسانه والحكمة أيضًا في إعلام الناس به على غير لسانه صلى الله عليه وسلم التنويه بقدره والرفع لذكره بلسان غيره ليكون أقوى لأمره وأفخر لشأنه انتهى ملخصًا.

والثاني حسن بديع ويؤخذ من عدم الاكتفاء برؤية عبد الله بن زيد حتى أضيف إليه عمر للتقوية التي ذكرها ولم يقتصر على عمر ليصير في معنى الشهادة وجاء في رواية ضعيفة ما ظاهره أن بلالاً رأى أيضًا لكنها مؤولة فإن لفظها سبقك بها بلال فيحمل على مباشرة التأذين برؤيا عبد الله بن زيد، ومما يكثر السؤال عنه هل باشر النبي صلى الله عليه وسلم الأذان بنفسه، وقد روى الترمذي بإسناد حسن عن يعلى بن مرة الثقفي أن النبي صلى الله عليه وسلم أذن في سفر وصلى بأصحابه وهم على رواحلهم السماء من فوقهم والبلة من أسفلهم.

قال السهيلي: فنزع بعض الناس بهذا الحديث أنه صلى الله عليه وسلم أذن بنفسه، لكن روى الحديث الدارقطني بسند الترمذي ومتنه وقال فيه: فأمر بالأذان فقام المؤذن فأذن والمفصل يقضي على المجمل المحتمل انتهى.

وتبع هذا البعض النووي فجزم أن النبي صلى الله عليه وسلم أذن مرة في سفره وعزاه للترمذي وقواه، وتعقبه الحافظ فقال: ولكن وجدنا الحديث في مسند أحمد من الوجه الذي أخرجه منه الترمذي بلفظ فأمر بلالاً فأذن فعرف أن في رواية الترمذي اختصارًا وأن معنى أذن أمر بلالاً به كما يقال أعطى الخليفة العالم الفلاني ألفًا وإنما باشر العطاء غيره ونسب للخليفة لكونه أمر به انتهى.

وانتصر بعض للنووي تبعًا للبعض بأن هذا إنما يصار إليه لو لم يحتمل تعدد الواقعة، أما إذا أمكن فيجب المصير إليه إبقاء لأذن على حقيقته عملاً بقاعدة الأصول أنه يجب إبقاء اللفظ على حقيقته وهو مردود بأن ذلك إنما يصح إذا اختلف سند الحديث ومخرجه، أما مع الاتحاد فلا ويجب رجوع المجمل إلى المفصل عملاً بقاعدة الأصول وأهل الحديث.

وقال بعض المحدثين لو لم نكتب الحديث من ستين وجهًا ما عقلناه لاختلاف الرواة في ألفاظه ونحوها: نعم قال السيوطي في شرح البخاري: قد ظفرت بحديث آخر مرسلاً رواه سعيد بن منصور، حدثنا أبو معاوية، حدثنا عبد الرحمن بن أبي بكر القرشي، عن ابن أبي مليكة، قال: أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرة فقال: حي على الفلاح قال وهذه رواية لا تقبل التأويل انتهى.
فهذا الذي يجزم فيه بالتعدد لاختلاف سنده وانظر ما أحسن قوله آخر لكن لم يبين هل كان في سفر أو حضر.

( مَالِكٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَزِيدَ) بتحتية وزاي ( اللَّيْثِيِّ) المدني نزيل الشام من ثقات التابعين ورجال الجميع، مات سنة خمس أو سبع ومائة وقد جاوز الثمانين، ولأبي عوانة من رواية ابن وهب عن مالك ويونس عن الزهري أن عطاء بن يزيد أخبره ( عَنْ أَبِي سَعِيدٍ) سعد بن مالك بن سنان بن عبيد الأنصاري ( الْخُدْرِيِّ) له ولأبيه صحبة واستصغر بأحد ثم شهد ما بعدها روى الكثير ومات بالمدينة سنة ثلاث أو أربع أو خمس وستين وقيل سنة أربع وسبعين.

( أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِذَا سَمِعْتُمُ النِّدَاءَ) أي الأذان سمي به لأنه نداء إلى الصلاة ودعاء إليها ( فَقُولُوا مِثْلَ مَا يَقُولُ الْمُؤَذِّنُ) ادعى ابن وضاح أن قوله المؤذن مدرج وأن الحديث انتهى بقوله ما يقول، وتعقب بأن الإدراج لا يثبت بمجرد الدعوى، وقد اتفقت الروايات في الصحيحين والموطأ على إثباتها، ولم يصب صاحب العمدة في حذفها وظاهره اختصاص الإجابة بمن سمع حتى لو رأى المؤذن على المنارة مثلاً في الوقت وعلم أنه يؤذن، لكن لم يسمع أذانه لبعد أو صمم لا يشرع له المتابعة قاله النووي في شرح المهذب، وقال مثل ما يقول ولم يقل مثل ما قال ليشعر بأنه يجيبه بعد كل كلمة مثل كلمتها قاله الكرماني والصريح في ذلك ما رواه النسائي عن أم حبيبة أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول مثل ما يقول المؤذن حتى يسكت.

وقال أبو الفتح اليعمري: ظاهر الحديث أنه يقول مثل ما يقول عقب فراغ المؤذن لكن الأحاديث التي تضمنت إجابة كل كلمة عقبها دلت على أن المراد المساوقة يشير إلى حديث عمر في مسلم وغيره وظاهره أيضًا أنه يقول مثله في جميع الكلمات، لكن حديث عمر أيضًا وحديث معاوية في البخاري وغيره دلا على أنه يستثنى من ذلك حي على الصلاة وحي على الفلاح فيقول بدلهما لا حول ولا قوة إلا بالله وهو المشهور عند الجمهور.

وقال ابن المنذر: يحتمل أن يكون ذلك من الاختلاف المباح فيقول تارة كذا وتارة كذا، وحكي عن بعض أهل الأصول أن الخاص والعام إذا أمكن الجمع بينهما وجب إعمالهما فلم لا يستحب للسامع أن يجمع بين الحيعلة والحوقلة وهو وجه عند الحنابلة.

وأجيب عن المشهور من حيث المعنى بأن الأذكار الزائدة على الحيعلة يشترك السامع والمؤذن في ثوابها، وأما الحيعلة فمقصودها الدعاء إلى الصلاة وذلك يحصل من المؤذن فعوض السامع عما فاته من ثوابها بثواب الحوقلة، ولقائل أن يقول يحصل للمجيب الثواب لامتثاله الأمر ويمكن أن يزداد استيقاظًا وإسراعًا إلى القيام إلى الصلاة إذا تكرر على سمعه الدعاء إليها من المؤذن ومن نفسه.
قيل: وفي الحديث دليل على أن لفظ مثل لا يقتضي المساواة من كل جهة لأنه لا يطلب برفع الصوت المطلوب من المؤذن، وفيه بحث لأن المماثلة وقعت في القول لا في صفته، والفرق أن المؤذن قصده الإعلام فاحتاج لرفع الصوت، والسامع مقصوده ذكر الله فيكفي السر أو الجهر لا مع رفع الصوت.
نعم لا يكفي إجراؤه على خاطره من غير تلفظ لظاهر الأمر بالقول وفيه جواز إجابة المؤذن في الصلاة عملاً بظاهر الأمر، ولأن المجيب لا يقصد المخاطبة واستدل به على وجوب إجابة المؤذن حكاه الطحاوي عن قوم من السلف، وبه قال الحنفية والظاهرية وابن وهب.

واستدل الجمهور لحديث مسلم وغيره أنه صلى الله عليه وسلم سمع مؤذنًا فلما كبر قال على الفطرة فلما تشهد قال خرج من النار فلما قال صلى الله عليه وسلم غير ما قال المؤذن علم أن الأمر للاستحباب، وتعقب بأنه ليس في الحديث أنه لم يقل مثل ما قال فيجوز أنه قاله ولم ينقله الراوي اكتفاء بالعادة ونقل القول الزائد، وبأنه يحتمل أن ذلك وقع قبل صدور الأمر وأن يكون لما أمر لم يرد أن يدخل نفسه في عموم من خوطب بذلك انتهى.

والحديث أخرجه البخاري عن عبد الله بن يوسف، ومسلم عن يحيى كلاهما عن مالك به.

قال الحافظ: واختلف على الزهري في إسناده وعلى مالك أيضًا لكنه اختلاف لا يقدح في صحته، فرواه عبد الرحمن بن إسحاق عن الزهري عن سعيد عن أبي هريرة أخرجه النسائي وابن ماجه، وقال أبو حاتم وأحمد بن صالح والترمذي وأبو داود: حديث مالك ومن تابعه أصح، ورواه يحيى القطان عن مالك عن الزهري عن السائب بن يزيد أخرجه مسدد في مسنده وقال: إنه خطأ.
والصواب الرواية الأولى وفيه اختلاف آخر دون ما ذكر لا نطيل به انتهى.

( مَالِكٍ عَنْ سُمَيٍّ) بضم السين المهملة بلفظ التصغير ( مَوْلَى أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) بن الحارث بن هشام ( عَنْ أَبِي صَالِحٍ) ذكوان ( السَّمَّانِ) لأنه كان يتجر في السمن والزيت فلذا قيل له الزيات أيضًا ( عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ) وضع المضارع موضع الماضي ليفيد استمرار العلم قاله الطيبي ( مَا فِي النِّدَاءِ) أي الأذان وهي رواية بشر بن عمر عن مالك عند السراج ( وَالصَّفِّ الْأَوَّلِ) زاد أبو الشيخ من طريق الأعرج عن أبي هريرة: من الخير والبركة.

وقال الطيبي: أطلق مفعول يعلم وهو ما ولم يبين الفضيلة ما هي ليفيد ضربًا من المبالغة وأنه مما لا يدخل تحت الوصف والإطلاق إنما هو في قدر الفضيلة وإلا فقد ميزت في رواية بالخير والبركة.

قال الباجي: اختلف في الصف الأول هل هو الذي يلي الإمام أو المبكر السابق إلى المسجد؟ قال القرطبي: والصحيح أنه الذي يلي الإمام قالا فإن كان بين الإمام والناس حائل كما أحدث الناس المقاصير فالصف الأول هو الذي يلي المقصورة.

وقال ابن عبد البر: لا أعلم خلافًا أن من بكر وانتظر الصلاة وإن لم يصل في الصف الأول أفضل ممن تأخر وصلى في الصف الأول وفي هذا ما يوضح معنى الصف الأول وأنه ورد من أجل البكور إليه والتقدم، وقال صلى الله عليه وسلم: أتموا الصف المقدم ثم الذي يليه فما كان من نقص فليكن في المؤخر.

( ثُمَّ لَمْ يَجِدُوا) شيئًا من وجوه الأولوية بأن يقع التساوي أما في الأذان فبأن يستووا في معرفة الوقت وحسن الصوت ونحو ذلك وأما في الصف فبأن يصلوا دفعة واحدة ويتساووا في الفضل ( إِلَّا أَنْ يَسْتَهِمُوا) أي يقترعوا ( عَلَيْهِ) أي على ما ذكر من الأمرين ليشمل الأذان والصف.

وقال ابن عبد البر: الهاء عائدة على الصف الأول لا على النداء وهو وجه الكلام، لأن الضمير يعود إلى أقرب مذكور ولا يعدل عنه إلا بدليل ونازعه القرطبي وقال: يلزم منه أن يبقى النداء ضائعًا لا فائدة له قال والضمير يعود على معنى الكلام المتقدم ومثله قوله تعالى: { { وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا } } أي جميع ما ذكر.

قال الحافظ: وقد رواه عبد الرزاق عن مالك بلفظ لاستهموا عليهما فهذا مفصح بالمراد من غير تكلف.

( لَاسْتَهَمُوا) اقترعوا ومنه قوله تعالى: { { فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ } } قال الخطابي وغيره: قيل له استهام لأنهم كانوا يكتبون أسماءهم على سهام إذا اختلفوا في شيء فمن خرج اسمه غلب، واستدل به بعضهم لمن قال بالاقتصار على مؤذن واحد وليس بظاهر لصحة استهام أكثر من واحد، ولأن الاستهام على الأذان متوجه من جهة التولية من قبل الإمام لما فيه من المزية.
وزعم بعضهم أن المراد بالاستهام هنا الترامي بالسهام وأنه خرج مخرج المبالغة واستأنس بحديث لتجالدوا عليه بالسيوف، لكن فهم البخاري أن المراد اقترعوا أولى لرواية مسلم لكانت قرعة.

وقد روى سيف بن عمر في كتاب الفتوح والطبراني عن عبد الله بن شبرمة عن شقيق وهو أبو وائل قال: افتتحنا القادسية صدر النهار فتراجعنا وقد أصيب المؤذن فتشاح الناس في الأذان بالقادسية فاختصموا إلى سعد بن أبي وقاص فأقرع بينهم فخرجت القرعة لرجل منهم فأذن، والقادسية مكان معروف بالعراق نسب إلى قادس رجل نزل به.

وحكى الجوهري أن إبراهيم الخليل قدس على ذلك المكان فلذا صار منزلاً للحاج وكان بها وقعة مشهورة للمسلمين مع الفرس في خلافة عمر سنة خمس عشرة وكان سعد يومئذ الأمير على الناس.

( وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي التَّهْجِيرِ) أي التبكير إلى الصلوات أي صلاة كانت قاله الهروي وغيره.
قال ابن عبد البر: التهجير معروف وهو البدار إلى الصلاة أول وقتها وقبله وانتظارها قال تعالى: { { فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ } } وقال صلى الله عليه وسلم: منتظر الصلاة في صلاة ما انتظرها وحسبك بهذا فضلاً وسمى صلى الله عليه وسلم انتظار الصلاة بعد الصلاة رباطًا، وجاء: رباط يوم خير من صوم شهر انتهى.

وحمله الخليل والباجي وغيرهما على ظاهره فقالوا: المراد الإتيان إلى صلاة الظهر في أول الوقت لأن التهجير مشتق من الهاجرة وهي شدة الحر نصف النهار وهو أول وقت الظهر وإلى ذلك مال البخاري.

قال الحافظ: ولا يرد على ذلك مشروعية الأمر بالإبراد لأنه أريد به الرفق، وأما من ترك قائلته وقصد إلى المسجد لينتظر الصلاة فلا يخفى ما له من الفضل.

( لَاسْتَبَقُوا إِلَيْهِ) أي التهجير.
قال ابن أبي جمرة: المراد الاستباق معنى لا حسًا لأن المسابقة على الإقدام حسًا تقتضي السرعة في المشي وهو ممنوع منه انتهى.

( وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي الْعَتَمَةِ) أي العشاء وثبت النهي عن تسميتها عتمة فهذا الحديث بيان للجواز وأن النهي ليس للتحريم أو استعمل العتمة هنا لمصلحة ونفي مفسدة لأن العرب كانت تستعمل العشاء في المغرب فلو قال ما في العشاء لحملوها على المغرب ففسد المعنى وفات المطلوب فاستعمل العتمة التي يعرفونها ولا يشكون فيها، وقواعد الشرع متظاهرة على احتمال أخف المفسدتين لدفع أعظمهما قاله النووي.

( وَالصُّبْحِ) أي ثواب صلاتهما في جماعة ( لَأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا) بفتح المهملة وسكون الموحدة أي مشيًا على اليدين والركبتين أو على مقعدته، ولابن أبي شيبة من حديث أبي الدرداء ولو حبوًا على المرافق والركب.

قال الباجي: خص هاتين الصلاتين بذلك لأن السعي إليهما أشق من غيرهما لما فيه من تنقيص أول النوم وآخره.

وقال ابن عبد البر: الآثار فيهما كثيرة منها قوله صلى الله عليه وسلم: أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر.
وقال أبو الدرداء في مرض موته: اسمعوا وبلغوا حافظوا على هاتين الصلاتين - يعني في جماعة العشاء والصبح - ولو تعلمون ما فيهما لأتيتموهما ولو حبوًا على مرافقكم وركبكم، وكذلك قال عمر وعثمان وروي مرفوعًا: شهود صلاة العشاء خير من قيام نصف ليلة وشهود صلاة الصبح خير من قيام ليلة.
وقال عمر والحسن: لأن أشهد صلاة العشاء والفجر أحب إلي من أن أحيي ما بينهما.
وقال ابن عمر: كنا إذا فقدنا الرجل في صلاة العشاء وصلاة الفجر أسأنا به الظن انتهى.

وهذا الحديث رواه البخاري عن عبد الله بن يوسف، ومسلم عن يحيى كلاهما عن مالك به.

( مَالِكٍ عَنِ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَعْقُوبَ) المدني ( عَنْ أَبِيهِ) وهو تابعي كابنه ( وَإِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ) بن أبي طلحة أحد شيوخ مالك روى عنه هنا بواسطة ( أَنَّهُمَا أَخْبَرَاهُ) أي العلاء ( أَنَّهُمَا سَمِعَا أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا ثُوِّبَ بِالصَّلَاةِ) بضم المثلثة وشد الواو وموحدة.

قال ابن عبد البر: أي أقيم وأصل ثاب رجع يقال ثاب إلى المريض جسمه فكأن المؤذن رجع إلى ضرب من الأذان للصلاة، وقد جاء هذا الحديث عن أبي هريرة بلفظ: إذا أقيمت الصلاة، وهو يبين أن التثويب هنا الإقامة انتهى.

وهي رواية الصحيحين من وجه آخر عن أبي هريرة وفي رواية لهما أيضًا: إذا سمعتم الإقامة وهي أخص من قوله في حديث أبي قتادة عندهما أيضًا إذا أتيتم الصلاة، لكن الظاهر كما قال الحافظ إنه في مفهوم الموافقة لأن المسرع إذا أقيمت الصلاة يترجى إدراك فضيلة التكبيرة الأولى ونحوها، ومع ذلك نهى عن الإسراع فغيره ممن جاء قبل الإقامة لا يحتاج إلى الإسراع لأنه يتحقق إدراك الصلاة كلها فينهى من باب أولى، ولحظ فيه بعضهم معنى آخر فقال: حكمة التقييد بالإقامة أن المسرع إذا أقيمت الصلاة يصل إليها وقد تعب فيقرأ وهو بتلك الحالة فلا يحصل له تمام الخشوع في الترتيل وغيره بخلاف من جاء قبل ذلك فلا تقام الصلاة حتى يستريح، لكن قضية هذا أنه لا يكره الإسراع لمن جاء قبل الإقامة وهو مخالف لصريح قوله: إذا أتيتم الصلاة لأنه يتناول ما قبل الإقامة وإنما قيده بالإقامة لأنها الحاملة غالبًا على الإسراع انتهى.

( فَلَا تَأْتُوهَا وَأَنْتُمْ تَسْعَوْنَ) تمشون بسرعة وتطلق على العمل نحو: { { وَمَنْ أَرَادَ الآَخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ } } { { إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى } } وعليه حمل قوله تعالى { { فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ } } كقوله: { { وَأَن لَّيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى } } أو المراد الذهاب فليس معناه الإسراع.
قال الطيبي: وأنتم تسعون حال من ضمير الفاعل وهو أبلغ في النهي من لا تسعوا وذلك لأنه مناف لما هو أولى به من الوقار والأدب وعقبه بما يدل على حسن الأدب بقوله ( وَأْتُوهَا وَعَلَيْكُمُ السَّكِينَةُ) ضبطه القرطبي بالنصب على الإغراء والنووي بالرفع على أنها جملة في موضع الحال زاد غيره أو السكينة مبتدأ وعليكم خبره، وذكر الحافظ العراقي في شرح الترمذي أن المشهور في الرواية الرفع، ووقع في رواية الحافظ أبي ذر الهروي للبخاري بالسكينة بالباء.

واستشكل بأنه متعد بنفسه عليكم أنفسكم وفيه نظر لثبوت زيادتها في أحاديث صحيحة كحديث عليكم برخصة الله، وحديث فعليه بالصوم فإنه له وجاء، وحديث عليك بالمرأة قاله لأبي طلحة في قصة صفية، وحديث عليكم بقيام الليل، وحديث عليك بخويصة نفسك وغير ذلك وتعليل هذا المعترض لا يوفي بمقصوده، إذ لا يلزم من تعديه بنفسه امتناع تعديه بالباء إذا ثبت ذلك، فيدل على أن فيه لغتين زاد في الصحيحين من وجه آخر عن أبي هريرة والوقار.
قال عياض والقرطبي: هو بمعنى السكينة وذكر للتأكيد.

وقال النووي: الظاهر أن بينهما فرقًا وأن السكينة التأني في الحركات واجتناب العبث والوقار في الهيئة كغض البصر وخفض الصوت وعدم الالتفات ذكره الحافظ، وقد منع الرضي الاعتراض بأن أسماء الأفعال وإن كان حكمها في التعدي واللزوم حكم الأفعال التي بمعناها لكن كثيرًا ما تزاد الباء في مفعولها لضعفها في العمل.

( فَمَا أَدْرَكْتُمْ) الفاء جواب شرط محذوف أي إذا فعلتم ما أمرتكم به من السكينة فما أدركتم ( فَصَلُّوا) مع الإمام ( وَمَا فَاتَكُمْ) معه ( فَأَتِمُّوا) أي أكملوا وفي رواية: فاقضوا والأولى أكثر رواية وأعمل مالك في المشهور في مذهبه الروايتين فقال يقضي القول ويبني الفعل وعنه بانيًا فيهما عملاً برواية فأتموا وعليها الشافعي حملاً لرواية فاقضوا على معنى الأداء والفراغ فلا يغاير قوله فأتموا، لأنه إذا اتحد مخرج الحديث واختلف في لفظة منه وأمكن رد الاختلاف إلى معنى واحد كان أولى.
وهنا كذلك لأن القضاء وإن كان يطلق على الفائت غالبًا لكنه يطلق على الأداء أيضًا ويرد بمعنى الفراغ كقوله تعالى: { { فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاَةُ } } وعنه يكون قاضيًا فيهما وبه قال أبو حنيفة.
وفي هذا تنبيه لدفع توهم أن النهي إنما هو لمن لم يخف فوت بعض الصلاة فصرح بالنهي وإن فات من الصلاة ما فات وبين ما يفعل فيما فات بقوله فما إلخ.

قال ابن عبد البر: الواجب أي المطلوب إتيان الصلاة بالسكينة ولو خاف فواتها لأمره صلى الله عليه وسلم بذلك وهو الحجة خلافًا لمن جوز السعي لخوف الفوات، وقد أكد ذلك ببيان العلة بقوله: ( فَإِنَّ أَحَدَكُمْ فِي صَلَاةٍ مَا كَانَ) مدة كونه ( يَعْمِدُ) بكسر الميم يقصد ( إِلَى الصَّلَاةِ) أي إنه في حكم المصلي فينبغي له اعتماد ما ينبغي للمصلي اعتماده واجتناب ما ينبغي له اجتنابه، ونبه بهذا على أنه لو لم يدرك من الصلاة شيئًا لكان محصلاً لمقصوده لكونه في صلاة، وعدم الإسراع أيضًا يستلزم كثرة الخطأ وهو معنى مقصود لذاته، وجاءت فيه أحاديث تقدم شيء منها.

وفي الصحيحين عن أنس أن بني سلمة أرادوا أن يتحولوا عن منازلهم فينزلوا قريبًا من النبي صلى الله عليه وسلم فكره أن يعروا منازلهم فقال: يا بني سلمة ألا تحتسبون آثاركم فأقاموا.
ولمسلم عن جابر فقالوا: ما يسرنا إذا كنا تحولنا.

واستدل به الجمهور على حصول فضل الجماعة بإدراك أي جزء من الصلاة لقوله: فما أدركتم فصلوا ولم يفصل بين قليل وكثير، وقيل: إنما يدرك فضلها بركعة وهو مذهب مالك للحديث السابق: من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة وقياسًا على الجمعة.
واستدل به أيضًا على طلب الدخول مع الإمام في أي حالة وجد عليها.
وأصرح منه ما أخرجه ابن أبي شيبة عن رجل من الأنصار مرفوعًا: من وجدني قائمًا أو راكعًا أو ساجدًا فليكن معي على حالتي التي أنا عليها.

واستدل به أيضًا على أن من أدرك الإمام راكعًا لم تحسب له تلك الركعة للأمر بإتمام ما فاته وقد فاته الوقوف والقراءة فيه وهو قول أبي هريرة وجماعة، واختاره ابن خزيمة وغيره، وقواه التقي السبكي.

وحجة الجمهور حديث أبي بكرة لما ركع دون الصف فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: زادك الله حرصًا ولا تعد ولم يأمره بإعادة تلك الركعة، وقد تابع مالكًا في رواية هذا الحديث عن العلاء إسماعيل بن جعفر قال: أخبرني العلاء رواه مسلم بلفظه وهو في مسند أحمد والكتب الستة من طرق عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة بلفظ: إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون وأتوها وأنتم تمشون وعليكم السكينة فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا.
وله طرق كثيرة وألفاظ متقاربة.

وأخرجه الشيخان أيضًا من حديث أبي قتادة بلفظ: إذا أتيتم الصلاة فعليكم السكينة، والباقي نحوه.

( مَالِكٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي صَعْصَعَةَ) بمهملات مفتوحات إلا العين الأولى فساكنة عمرو بن زيد ( الْأَنْصَارِيِّ ثُمَّ الْمَازِنِيِّ) بالزاي والنون من بني مازن بن النجار من الثقات، مات في خلافة المنصور ( عَنْ أَبِيهِ) عبيد الله المدني من ثقات التابعين زاد ابن عيينة وكان يتيمًا في حجر أبي سعيد وكانت أمه عند أبي سعيد أخرجه ابن خزيمة، ومات أبو صعصعة في الجاهلية وابنه عبد الرحمن صحابي.

( أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ) سعد بن مالك بن سنان الصحابي ابن الصحابي ( الْخُدْرِيَّ قَالَ لَهُ:) أي لعبد الله بن عبد الرحمن ( إِنِّي أَرَاكَ تُحِبُّ الْغَنَمَ وَالْبَادِيَةَ) أي لأجل الغنم لأن محبها يحتاج إلى إصلاحها بالمرعى وهو في الغالب يكون في البادية وهي الصحراء التي لا عمارة فيها ( فَإِذَا كُنْتَ فِي غَنَمِكَ أَوْ بَادِيَتِكَ) يحتمل أن أو شك من الراوي وأنها للتنويع لأن الغنم قد لا تكون في البادية وقد يكون في البادية حيث لا غنم قاله الحافظ وغيره.

( فَأَذَّنْتَ بِالصَّلَاةِ) أي أعلمت بوقتها.
وفي رواية للبخاري للصلاة باللام بدل الموحدة أي لأجلها ( فَارْفَعْ صَوْتَكَ بِالنِّدَاءِ) أي الأذان وفيه إشعار بأن أذان مريد الصلاة كان مقررًا عندهم لاقتصاره على الأمر بالرفع دون أصل التأذين، وفيه استحباب أذان المنفرد وهو الراجح عند الشافعية والمالكية إن سافر بناء على أن الأذان حق الوقت، ولو لم يرج حضور من يصلي معه لأنه إن فاته دعاء المصلين لم تفته شهادة من سمعه من غيرهم، وقيل لا يستحب بناء على أنه لاستدعاء الجماعة، ومنهم من فصل بين من يرجو جماعة فيستحب ومن لا فلا.

( فَإِنَّهُ لَا يَسْمَعُ مَدَى) بفتح الميم والقصر أي غاية ( صَوْتِ الْمُؤَذِّنِ) قال البيضاوي: غاية الصوت يكون للمصغي أخفى من ابتدائه فإذا شهد له من بعد عنه ووصل إليه منتهى صوته، فلأن يشهد له من دنا منه وسمع مبادي صوته أولى ( جِنٌّ) قال الرافعي: يشبه أن يريد مؤمني الجن، وأما غيرهم فلا يشهدون للمؤذن بل يفرون وينفرون من الأذان ( وَلَا إِنْسٌ) قيل خاص بالمؤمنين فأما الكافر فلا شهادة له.
قال عياض: وهذا لا يسلم لقائله لما جاء في الآثار من خلافه ( وَلَا شَيْءٌ) ظاهره يشمل الحيوانات والجمادات فهو من العام بعد الخاص ويؤيده رواية ابن خزيمة لا يسمع صوته شجر ولا مدر ولا حجر ولا جن ولا إنس، وله ولأبي داود والنسائي من طريق أبي يحيى عن أبي هريرة بلفظ: المؤذن يغفر له مدى صوته ويشهد له كل رطب ويابس ونحوه للنسائي من حديث البراء وصححه ابن السكن.

قال الخطابي: مدى الشيء غايته أي أنه يستكمل المغفرة إذا استوفى وسعه في رفع الصوت فيبلغ الغاية من المغفرة إذا بلغ الغاية من الصوت، أو أنه كلام تمثيل وتشبيه يريد أن المكان الذي ينتهي إليه الصوت لو قدر أن يكون بين أقصاه وبين مقامه الذي هو فيه ذنوب تملأ تلك المسافة غفرها الله تعالى له واستشهد المنذري لقوله الأول برواية يغفر له مد صوته بتشديد الدال أي بقدر مد صوته.

قال الحافظ: فهذه الأحاديث تبين المراد من قوله ولا شيء وتكلم بعض من لم يطلع عليها في تأويله على ما يقتضيه ظاهره، فقال القرطبي: المراد بالشيء الملائكة، وتعقب بأنهم دخلوا في الجن لأنهم يستخفون عن الأبصار، وقال غيره: المراد كل ما يسمع المؤذن من الحيوان حتى ما لا يعقل لأنه الذي يصح أن يسمع صوته دون الجمادات، ومنهم من حمله على ظاهره ولا يمتنع ذلك عقلاً ولا شرعًا.

قال ابن بزيزة: تقرر في العادة أن السماع والشهادة والتسبيح لا يكون إلا من حي فهل ذلك حكاية على لسان الحال لأن الموجودات ناطقة بلسان حالها بجلال بارئها، أو هو على ظاهره ولا يمتنع عقلاً أن الله يخلق فيها الحياة والكلام.

وتقدم البحث في ذلك في قول النار: أكل بعضي بعضًا، وفي مسلم عن جابر بن سمرة مرفوعًا: إني لأعرف حجرًا بمكة كان يسلم علي قبل أن أبعث، ونقل ابن التين عن أبي عبد الملك أن قوله هنا ولا شيء نظير قوله تعالى: { { وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ } } وتعقبه بأن الآية مختلف فيها وما عرفت وجه هذا التعقب فإنهما سواء في الاحتمال، ونقل الاختلاف إلا أن يقول إن الآية لم يختلف في كونها على عمومها، وإنما اختلف في تسبيح بعض الأشياء هل هو على الحقيقة أو المجاز بخلاف الحديث.

( إِلَّا شَهِدَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) قال الزين بن المنير: السر في هذه الشهادة مع أنها تقع عند عالم الغيب والشهادة أن أحكام الآخرة جرت على أحكام نعت الخلق في الدنيا من توجيه الدعوى والجواب والشهادة، وقال التوربشتي: المراد من هذه الشهادة إشهار المشهود له يوم القيامة بالفضل وعلو الدرجة وكما أن الله يفضح بالشهادة قومًا فكذلك يكرم بالشهادة آخرين.
وقال الباجي: فائدة ذلك أن من يشهد له يوم القيامة يكون أعظم أجرًا في الآخرة ممن أذن فلم يسمعه من يشهد له.

( قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أي هذا الكلام الأخير وهو أنه لا يسمع إلخ، فقد رواه ابن خزيمة من رواية ابن عيينة بلفظ: قال أبو سعيد إذا كنت في البوادي فارفع صوتك بالنداء فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا يسمع، فذكره.
ورواه يحيى بن سعيد القطان عن مالك بلفظ: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا أذنت فارفع صوتك فإنه لا يسمع، فذكره.

فالظاهر أن ذكر الغنم والبادية موقوف خلافًا لإيراد الرافعي الحديث في الشرح بلفظ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي سعيد: إنك رجل تحب الغنم وساقه إلى آخره وسبقه إلى ذلك الغزالي وإمام الحرمين والقاضي حسين وغيرهم وتعقبهم النووي، وأجاب ابن الرفعة عنهم بأنهم فهموا أن قوله سمعته من رسول الله عائد إلى كل ما ذكر ولا يخفى بعده ذكره الحافظ، بل تمنعه روايتا ابن عيينة والقطان، وقد خالف الرافعي نفسه فقال في شرح المسند قوله سمعته يعني قوله أنه لا يسمع إلخ انتهى وهو الصواب.

وفي الحديث استحباب رفع الصوت بالأذان ليكثر من يشهد له ما لم يجهده أو يتأذى به، وفيه أن حب الغنم والبادية ولا سيما عند نزول الفتنة من عمل السلف الصالح، وفيه جواز التبدي ومساكنة الأعراب ومشاركتهم في الأسباب بشرط حظ من العلم وأمن غلبة الجفاء.

قال ابن عبد البر: فيه إباحة لزوم البادية ولكن في البعد عن الجماعة والجمعة ما فيه من البعد عن الفضائل إلا أن الزمان إذا كثر فيه الشر وتعذرت فيه السلامة طابت العزلة وهي خير من خليط السوء والجليس الصالح خير من الوحدة.
وقال صلى الله عليه وسلم: يوشك أن يكون خير مال المسلم غنمًا يتبع بها شعف الجبال ومواضع القطر يفر بدينه من الفتن.

وهذا الحديث أخرجه البخاري هنا عن عبد الله بن يوسف وفي بدء الخلق عن قتيبة بن سعيد كلاهما عن مالك به، ولم يخرجه مسلم.

( مَالِكٍ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ) عبد الله بن ذكوان ( عَنِ الْأَعْرَجِ) عبد الله بن هرمز ( عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ) أي لأجلها، وللنسائي عن قتيبة عن مالك بالصلاة وهي رواية لمسلم أيضًا ويمكن حملهما على معنى واحد ( أَدْبَرَ الشَّيْطَانُ) إبليس على الظاهر، ويدل عليه كلام كثير من الشراح، ويحتمل أن المراد جنس الشيطان وهو كل متمرد من الجن أو الإنس لكن المراد هنا شيطان الجن خاصة ( لَهُ ضُرَاطٌ) جملة إسمية وقعت حالاً بدون واو لحصول الارتباط بالضمير وفي رواية للبخاري وله بالواو.
وقال عياض: يمكن حمله على ظاهره لأنه جسم متغذ يصح منه خروج الريح، ويحتمل أنه عبارة عن شدة نفاره ويقربه رواية مسلم له حصاص بمهملات مضموم الأول، وفسره الأصمعي وغيره بشدة العدو، وقال الطيبي: شبه شغل الشيطان نفسه عن سماع الأذان بالصوت الذي يملأ السمع ويمنعه عن سماع غيره ثم سماه ضراطًا.

( حَتَّى لَا يَسْمَعَ النِّدَاءَ) أي التأذين كما هو رواية التنيسي للموطأ ومسلم من رواية المغيرة عن أبي الزناد والمعنى واحد.
وقال الحافظ: ظاهره أنه يتعمد إخراج ذلك إما ليشتغل بسماع الصوت الذي يخرجه عن سماع المؤذن، أو يصنع ذلك استخفافًا كما تفعله السفهاء، أو ليقابل ما يناسب الصلاة من الطهارة بالحدث، ويحتمل أن لا يتعمد ذلك بل يحصل له عند سماع الأذان شدة خوف يحدث له ذلك الصوت بسببها، وفيه استحباب رفع الصوت بالأذان لأنه ظاهر في أنه يبعد إلى غاية ينتفي فيها سماعه للصوت، وقد بينت الغاية في رواية مسلم من حديث جابر فقال: حتى يكون مكان الروحاء.
قال سليمان يعني الأعمش فسألته أي أبا سفيان راويه عن جابر عن الروحاء فقال هي من المدينة ستة وثلاثون ميلاً، وقد أدرج هذا إسحاق بن راهويه في مسنده فقال: حتى يكون بالروحاء وهي ستة إلخ والمعتمد الأول.

( فَإِذَا قُضِيَ النِّدَاءُ) بضم القاف أي فرغ وانتهى منه ويروى بفتح القاف على حذف الفاعل والمراد المنادي أي: إذا قضى المنادي النداء ( أَقْبَلَ) زاد مسلم في رواية أبي صالح عن أبي هريرة فوسوس ( حَتَّى إِذَا ثُوِّبَ بِالصَّلَاةِ أَدْبَرَ) بضم المثلثة وشد الواو المكسورة قيل من ثاب إذا رجع وقيل من ثوب إذا أشار بثوبه عند الفزع لإعلام غيره.

قال الجمهور: المراد هنا الإقامة وبه جزم أبو عوانة والخطابي والبيهقي وغيرهم وقال القرطبي: ثوب بالصلاة أي أقيمت وأصله أنه رجع إلى ما يشبه الأذان وكل مردد صوت فهو مثوب ويدل عليه رواية مسلم من طريق أبي صالح عن أبي هريرة فإذا سمع الإقامة ذهب.

وزعم بعض الكوفيين أن المراد بالتثويب قول المؤذن بين الأذان والإقامة حي على الصلاة حي على الفلاح قد قامت الصلاة وحكاه ابن المنذر عن أبي يوسف عن أبي حنيفة وزعم أنه تفرد به لكن في سنن أبي داود عن ابن عمر أنه كره التثويب بين الأذان والإقامة فهذا يدل على أن له سلفًا في ذلك في الجملة ويحتمل أن يكون الذي تفرد به القول الخاص.

قال الخطابي: لا تعرف العامة التثويب إلا قول المؤذن الصلاة خير من النوم لكن المراد به هنا الإقامة.

( حَتَّى إِذَا قُضِيَ التَّثْوِيبُ) بالرفع نائب الفاعل والنصب مفعول ( أَقْبَلَ حَتَّى يَخْطِرَ) بفتح أوله وكسر الطاء كما ضبطه عياض عن المتقنين وقال: إنه الوجه ومعناه يوسوس وأصله من خطر البعير بذنبه إذا حركه فضرب به فخذيه قال: وسمعناه من أكثر الرواة بضم الطاء ومعناه المرور أي يدنو منه فيمر بينه وبين قلبه فيشغله عما هو فيه، وبهذا فسره الشارحون للموطأ وبالأول فسره الخليل وضعف الهجري في نوادره الضم وقال: هو يخطر بالكسر في كل شيء ( بَيْنَ الْمَرْءِ وَنَفْسِهِ) أي قلبه وكذا هو للبخاري من وجه آخر في بدء الخلق قال الباجي: المعنى أنه يحول بين المرء وبين ما يريده من إقباله على صلاته وإخلاصه فيها.

( يَقُولُ) الشيطان ( اذْكُرْ كَذَا اذْكُرْ كَذَا) وفي رواية للبخاري ومسلم بواو العطف واذكر كذا وللبخاري أيضًا في صلاة السهو اذكر كذا وكذا ( لِمَا لَمْ يَكُنْ يَذْكُرُ) أي لشيء لم يكن على ذكره قبل دخوله في الصلاة وفي رواية لمسلم لما لم يذكر من قبل، وله أيضًا من رواية عبد ربه عن الأعرج فهناه ومناه وذكره من حاجاته ما لم يكن يذكر.

ومن ثم استنبط أبو حنيفة للذي شكا إليه أنه دفن مالاً ثم لم يهتد لمكانه أن يصلي ويحرص على أن لا يحدث نفسه بشيء من أمر الدنيا ففعل فذكر مكان المال في الحال قيل خصه بما يعلم دون ما لم يعلم لأنه يميل لما يعلم أكثر لتحقق وجوده، والذي يظهر أنه أعم من ذلك فيذكره لما سبق له به علم ليشغل باله به ولما لم يكن سبق له ليوقعه في الفكرة فيه وهذا أعم من أن يكون في أمور الدنيا أو في أمور الدين كالعلم.
لكن هل يشمل ذلك التفكر في معاني الآيات التي يتلوها لا يبعد ذلك لأن غرضه نقص خشوعه وإخلاصه بأي وجه كان.

( حَتَّى يَظَلَّ الرَّجُلُ) بالظاء المعجمة المفتوحة رواية الجمهور ومعناه في الأصل اتصاف المخبر عنه بالخبر نهارًا لكنها هنا بمعنى يصير أو يبقى، وفي رواية بالضاد الساقطة مكسورة أي ينسى، ومنه أن تضل إحداهما أو يخطئ ومنه { { لاَّ يَضِلُّ رَبِّي وَلاَ يَنسَى } } ومفتوحة أي يتحير من الضلال وهو الحيرة والمشهور الأول ( إِنْ يَدْرِي) بكسر همزة إن النافية بمعنى لا، وفي رواية التنيسي لا يدري وروي بفتح الهمزة ونسبها ابن عبد البر لأكثر رواة الموطأ ووجهها بما تعقبه عليه جماعة وقال القرطبي: ليست رواية الفتح بشيء إلا مع رواية الضاد الساقطة فيكون أن والفعل بتأويل المصدر ومفعول ضل إن بإسقاط حرف الجر أي يضل عن درايته وكذا قال عياض لا يصح فتحها إلا على رواية يضل بكسر الضاد فتكون أن مع الفعل مفعوله أي يجهل درايته وينسى عدد ركعاته ( كَمْ صَلَّى) .

وللبخاري في بدء الخلق من وجه آخر عن أبي هريرة: حتى لا يدري أثلاثًا صلى أم أربعًا.

واختلف العلماء في حكمة هروب الشيطان عند سماع الأذان والإقامة دون سماع القرآن والذكر في الصلاة فقيل: حتى لا يشهد للمؤذن يوم القيامة فإنه لا يسمع صوته جن ولا إنس إلا شهد له كما تقدم، وقيل نفورًا عن سماع الأذان ثم يرجع موسوسًا ليفسد على المصلي صلاته فصار رجوعه من جنس فراره، والجامع بينهما الاستخفاف وقيل: لأن الأذان دعاء إلى الصلاة المشتملة على السجود الذي أباه وعصى بسببه.

واعترض بأنه يعود قبل السجود فلو كان هروبه لأجله لم يعد إلا عند فراغه.

وأجيب: بأنه يهرب عند سماع الدعاء لذلك ليغالط نفسه بأنه لم يخالف أمرًا ثم يرجع ليفسد على المصلي سجوده الذي أباه وقيل إنما يهرب لاتفاق الجميع على الإعلان بشهادة الحق وإقامة الشريعة.

واعترض بأن الاتفاق على ذلك حاصل قبل الأذان وبعده من جميع من يصلي.
وأجيب: بأن الإعلان أخص من الاتفاق فإن الإعلان المختص بالأذان لا يشاركه فيه غيره من الجهر بالتكبير والشهادة مثلاً، ولذا قال لعبد الله بن زيد: ألقه على بلال فإنه أندى منك صوتًا أي اقعد بالمد والإطالة والإسماع ليعم الصوت ويطول أمد التأذين فيكثر الجمع ويفوت على الشيطان مقصوده من إلهاء الآدمي عن إقامة الصلاة في جماعة أو إخراجها عن وقتها أو وقت فضيلتها، فيفر حينئذ وقد يئس أن يردهم عما أعلنوا به ثم يرجع لما طبع عليه من الأذى إلى الوسوسة.

وقال ابن الجوزي: على الأذان هيئة يشتد انزعاج الشيطان بسببها لأنه لا يكاد يقع في الأذان رياء ولا غفلة عند النطق به لأن النفس لا تحضره بخلاف الصلاة، فإن النفس تحضر فيها فيفتح لها الشيطان أبواب الوسوسة.

وقد ترجم عليه أبو عوانة في صحيحه الدليل على أن المؤذن في أذانه وإقامته منفي عنه الوسوسة والرياء لتباعد الشيطان منه وقيل لأن الأذان إعلام بالصلاة التي هي أفضل الأعمال بألفاظ هي من أفضل الذكر لا يزاد فيها ولا ينقص منها بل تقع على وفق الأمر فيفر من سماعها، وأما الصلاة فلما يقع من كثير من الناس فيها من التفريط تمكن الخبيث من المفرط فلو قدر أن المصلي وفي جميع ما أمر به فيها لم يقربه فيها إن كان وحده وهو نادر، وكذا إذا انضم إليه من هو مثله وهو أندر أشار إليه ابن أبي جمرة.

قال ابن بطال: ويشبه أن يكون الزجر عن الخروج من المسجد بعد الأذان من هذا المعنى لئلا يكون متشبهًا بالشيطان الذي يفر عند سماع الأذان، وفهم بعض السلف من هذا الحديث الإتيان بصورة الأذان وإن لم يوجد فيه شروط الأذان من وقوعه في الوقت وغير ذلك، ففي مسلم من رواية سهيل بن أبي صالح قال: أرسلني أبي إلى بني حارثة ومعي غلام لنا أو صاحب لنا فناداه مناد من حائط باسمه فأشرف الذي معي على الحائط فلم ير شيئًا فذكرت ذلك لأبي فقال: لو شعرت أنك تلقى هذا لم أرسلك ولكن إذا سمعت صوتًا فناد بالصلاة فإني سمعت أبا هريرة يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: إن الشيطان إذا نودي بالصلاة ولى وله حصاص.

وقال ابن عبد البر: قال مالك: استعمل زيد بن أسلم على معدن بني سليم وكان لا يزال يصاب فيه الناس من الجن فلما وليهم شكوا ذلك إليه فأمرهم بالأذان وأن يرفعوا أصواتهم به ففعلوا فارتفع ذلك عنهم فهم عليه حتى اليوم.
قال مالك: أعجبني ذلك من زيد وذكرت الغيلان عند عمر بن الخطاب فقال: إن شيئًا من الخلق لا يستطيع أن يتحول في غير خلقه ولكن للجن سحرة كما للإنس سحرة فإذا خشيتم شيئًا من ذلك فأذنوا بالصلاة.

وهذا الحديث رواه البخاري عن عبد الله بن يوسف عن مالك به، ورواه في السهو عن الليث عن جعفر بن ربيعة عن الأعرج به، ومسلم من طريق المغيرة الخزاعي عن أبي الزناد به، ومن طريق الأعمش وسهيل كلاهما عن أبي صالح عن أبي هريرة بنحوه.

( مَالِكٍ عَنْ أَبِي حَازِمِ) بمهملة وزاي سلمة ( بْنِ دِينَارٍ) الأعرج المدني العابد الثقة من رجال الجميع قال أبو عمر: كان أبو حازم هذا أحد الفضلاء الحكماء العلماء الثقات الأثبات وله حكم وزهديات ومواعظ ورقائق ومقطعات ومات سنة أربعين ومائة على الأصح وقيل: غير ذلك.

( عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ) بن مالك بن خالد الأنصاري الخزرجي ( السَّاعِدِيِّ) أبي العباس الصحابي ابن الصحابي مات سنة ثمان وثمانين وقيل بعدها وقد جاوز المائة ( أَنَّهُ قَالَ سَاعَتَانِ) قال ابن عبد البر: هذا الحديث موقوف عند جماعة رواة الموطأ ومثله لا يقال بالرأي، وقد رواه أيوب بن سويد ومحمد بن مخلد وإسماعيل بن عمرو عن مالك مرفوعًا.

وروي من طرق متعددة عن أبي حازم عن سهل قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ساعتان ( يُفْتَحُ لَهُمَا أَبْوَابُ السَّمَاءِ) أي فيهما أو من أجل فضيلتهما ( وَقَلَّ دَاعٍ تُرَدُّ عَلَيْهِ دَعْوَتُهُ) إخبار بأن الإجابة في هذين الوقتين هي الأكثر وأن رد الدعاء فيهما يندر ولا يكاد يقع قاله الباجي، فأشار بقوله قل إلى أنها قد ترد لفوات شرط من شروط الدعاء أو ركن من أركانه أو نحو ذلك وقال السيوطي: بل قل هنا للنفي المحض كما هو أحد استعمالاتها.
قال ابن مالك في التسهيل وغيره: ترد قل للنفي المحض فترفع الفاعل متلوًا بصفة مطابقة له نحو: قل رجل يقول ذلك، وقل رجلان يقولان ذلك وهي من الأفعال التي منعت التصرف.

( حَضْرَةُ النِّدَاءِ لِلصَّلَاةِ) أي الأذان ( وَالصَّفُّ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) أي في قتال الكفار لإعلاء كلمة الله.
وقد روى الطبراني والحاكم في المستدرك والديلمي الحديث عن سهل به مرفوعًا.
وروى أبو نعيم في الحلية عن عائشة رفعته: ثلاث ساعات للمرء المسلم ما دعا فيهن إلا استجيب له ما لم يسأل قطيعة رحم أو مأثمًا، حين يؤذن المؤذن بالصلاة حتى يسكت، وحين يلتقي الصفان حتى يحكم الله بينهما، وحين ينزل المطر حتى يسكن.
( وَسُئِلَ مَالِكٌ عَنِ النِّدَاءِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ هَلْ يَكُونُ قَبْلَ أَنْ يَحِلَّ الْوَقْتُ؟ فَقَالَ: لَا يَكُونُ إِلَّا بَعْدَ أَنْ تَزُولَ الشَّمْسُ) لأن وقتها زوال الشمس كالظهر عند جمهور الفقهاء وأجاز أحمد صلاتها قبل الزوال وهو شذوذ.
قال مالك: لو خطب قبل الزوال وصلى بعده لم تجز ويعيدون الجمعة بخطبة ما لم تغرب الشمس نقله ابن حبيب عن مطرف عنه.
وقال ابن سحنون: يعيدون الظهر أبدًا أفذاذًا.

( وَسُئِلَ مَالِكٌ عَنْ تَثْنِيَةِ النِّدَاءِ وَالْإِقَامَةِ وَمَتَى يَجِبُ الْقِيَامُ عَلَى النَّاسِ حِينَ تُقَامُ الصَّلَاةُ؟ فَقَالَ: لَمْ يَبْلُغْنِي فِي النِّدَاءِ وَالْإِقَامَةِ إِلَّا مَا أَدْرَكْتُ النَّاسَ عَلَيْهِ) وهو شفع الأذان لما في البخاري عن أنس قال: أمر بلال أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة قال الزين بن المنير: وصف الأذان بأنه شفع يفسره قوله مثنى أي مرتين مرتين وذلك يقتضي أن يستوي جميع ألفاظه في ذلك لكن لم يختلف في أن كلمة التوحيد التي في آخره مفردة فيحمل قوله مثنى على ما سواها انتهى.
ففيه دليل على أن التكبير ليس مربعًا، وكذا قوله صلى الله عليه وسلم: الأذان مثنى مثنى أخرجه أبو داود الطيالسي عن ابن عمر.
ورواه أبو داود والنسائي وصححه ابن خزيمة وغيره من حديث ابن عمر بلفظ: مرتان مرتان.

( فَأَمَّا الْإِقَامَةُ فَإِنَّهَا لَا تُثَنَّى) حتى قد قامت الصلاة بل تفرد ( وَذَلِكَ الَّذِي لَمْ يَزَلْ عَلَيْهِ أَهْلُ الْعِلْمِ بِبَلَدِنَا) المدينة مع تأييده بالحديث الصحيح، وأما قوله في رواية أيوب السختياني عن أبي قلابة عن أنس: ويوتر الإقامة إلا الإقامة أي: قد قامت الصلاة فالمثبت غير المنفي فهو مدرج من قول أيوب وليس من الحديث كما جزم به الأصيلي وابن منده، لأن إسماعيل بن إبراهيم قال: حدثنا خالد الحذاء عن أبي قلابة عن أنس قال: أمر بلال أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة.
قال إسماعيل: فذكرته لأيوب فقال: إلا الإقامة رواه البخاري ومسلم ونظر فيما قاله الحافظ بأن عبد الرزاق رواه عن معمر عن أيوب بسنده بلفظ: كان بلال يثني الأذان ويوتر الإقامة إلا قوله قد قامت الصلاة، والأصل أن ما كان في الخبر فهو منه حتى يقوم دليل على خلافه ولا دليل في رواية إسماعيل لأن محصلها أن خالدًا كان لا يذكر الزيادة وأيوب يذكرها وكل منهما روى الحديث عن أبي قلابة عن أنس فكان في رواية أيوب زيادة حافظ فتقبل انتهى.

لكن إنما يتم له هذا النظر لو صرح أيوب بروايته له عن أبي قلابة لما ذكر له إسماعيل رواية خالد وهو إنما قال: إلا الإقامة فيتبادر منه أنه إخبار عن رأيه، وأما رواية عبد الرزاق فلا دليل فيها على عدم الإدراج لأنها من محل النزاع، وقد دلت رواية إسماعيل على الإدراج ثم هذا الحديث حجة على من قال إن الإقامة مثناة.

وزعم بعض الحنفية أن إفرادها كان أولاً ثم نسخ بحديث أبي محذورة عند أصحاب السنن وفيه تثنية الإقامة وهو متأخر عن حديث أنس فيكون ناسخًا.
وعورض بأن في بعض طرق حديث أبي محذورة المحسنة التربيع والترجيع فكان يلزمهم القول به، وقد أنكر أحمد على من ادعى النسخ بحديث أبي محذورة، واحتج بأنه صلى الله عليه وسلم رجع بعد الفتح إلى المدينة وأقر بلالاً على إفراد الإقامة وعلمه سعد القرظ فأذن به بعده كما رواه الدارقطني والحاكم.

وقال ابن عبد البر: ذهب أحمد وإسحاق وداود وابن جرير إلى أن ذلك من الاختلاف المباح فإن ربع التكبير الأول في الأذان أو ثناه أو رجع في التشهد أو لم يرجع أو ثنى الإقامة أو أفردها كلها أو إلا قد قامت الصلاة، فالجميع جائز.
قيل الحكمة في تثنية الأذان وإفراد الإقامة أن الأذان لإعلام الغائبين فكرر ليكون أوصل إليهم بخلاف الإقامة فللحاضرين، ومن ثم استحب أن يكون الأذان في مكان عال بخلاف الإقامة، وأن يكون الصوت في الأذان أرفع منه في الإقامة.

قال الحافظ: وهذا توجيه ظاهر وأما قول الخطابي لو سوى بينهما لاشتبه الأمر في ذلك وصار يفوت كثيرًا من الناس صلاة الجماعة ففيه نظر لأن الأذان يستحب على مرتفع ليشترك فيه الإسماع وأن يكون مرتلاً والإقامة مسرعة ويؤخذ حكمة الترجيع مما تقدم وإنما اختص بالتشهد لأنه أعظم ألفاظ الأذان، والله أعلم.

( وَأَمَّا قِيَامُ النَّاسِ حِينَ تُقَامُ الصَّلَاةُ فَإِنِّي لَمْ أَسْمَعْ فِي ذَلِكَ بِحَدٍّ يُقَامُ لَهُ) وما في الصحيحين عن أبي قتادة قال صلى الله عليه وسلم: إذا أقيمت الصلاة فلا تقوموا حتى تروني خرجت فهو نهي عن القيام قبل خروجه وتسويغ له عند رؤيته وهو مطلق غير مقيد بشيء من ألفاظ الإقامة.

ومن ثم اختلف السلف في ذلك فقال مالك: ( إِلَّا أَنِّي أَرَى ذَلِكَ عَلَى قَدْرِ طَاقَةِ النَّاسِ فَإِنَّ مِنْهُمُ الثَّقِيلَ وَالْخَفِيفَ وَلَا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَكُونُوا كَرَجُلٍ وَاحِدٍ) وذهب الأكثر إلى أنهم إذا كان الإمام معهم في المسجد لم يقوموا حتى تفرغ الإقامة وإذا لم يكن في المسجد لم يقوموا حتى يروه، وعن أنس أنه كان يقوم إذا قال المؤذن قد قامت الصلاة رواه ابن المنذر وغيره، ورواه سعيد بن منصور من طريق أبي إسحاق عن أصحاب عبد الله، وعن سعيد بن المسيب أنه إذا قال المؤذن: الله أكبر وجب القيام، وإذا قال: حي على الصلاة عدلت الصفوف، وإذا قال لا إله إلا الله كبر الإمام.
وعن أبي حنيفة يقومون إذا قال حي على الفلاح فإذا قال قد قامت الصلاة كبر الإمام، والحديث حجة على هؤلاء المفصلين.

قال القرطبي: ظاهر هذا الحديث أن الصلاة كانت تقام قبل أن يخرج صلى الله عليه وسلم من بيته، وهو معارض لحديث جابر بن سمرة عند مسلم أن بلالاً كان لا يقيم حتى يخرج صلى الله عليه وسلم ويجمع بينهما بأن بلالاً كان يراقب خروج النبي صلى الله عليه وسلم، فأول ما يراه يشرع في الإقامة قبل أن يراه غالب الناس ثم إذا رأوه قاموا فلا يقوم في مقامه حتى تعتدل صفوفهم.

قال الحافظ: ويشهد له ما رواه عبد الرزاق عن ابن جريج عن ابن شهاب كانوا ساعة يقول المؤذن الله أكبر يقومون إلى الصلاة فلا يأتي النبي صلى الله عليه وسلم حتى تعتدل الصفوف.
وأما حديث أبي هريرة في البخاري بلفظ: أقيمت الصلاة فسوى الناس صفوفهم فخرج صلى الله عليه وسلم، ولفظه في مستخرج أبي نعيم وصف الناس صفوفهم ثم خرج علينا، ولفظه في مسلم أقيمت الصلاة فقمنا فعدلنا الصفوف قبل أن يخرج إلينا النبي صلى الله عليه وسلم فأتى فقام مقامه فيجمع بينه وبين حديث أبي قتادة بأن ذلك ربما وقع لبيان الجواز، وبأن صنعهم في حديث أبي هريرة كان سبب النهي في حديث أبي قتادة، وأنهم كانوا يقومون ساعة تقام الصلاة ولو لم يخرج صلى الله عليه وسلم فنهاهم عن ذلك لاحتمال أن يقع له شغل يبطئ فيه عن الخروج فيشق عليهم انتظاره ولا يرد هذا حديث أنس في الصحيح أنه قام في مقامه طويلاً في مناجاة بعض القوم لاحتمال وقوعه نادرًا أو فعله لبيان الجواز انتهى.

( وَسُئِلَ مَالِكٌ عَنْ قَوْمٍ حُضُورٍ أَرَادُوا أَنْ يَجْمَعُوا الْمَكْتُوبَةَ فَأَرَادُوا أَنْ يُقِيمُوا وَلَا يُؤَذِّنُوا؟ قَالَ: ذَلِكَ مُجْزِئٌ عَنْهُمْ) إذ الأذان ليس بشرط في صحة الصلاة عند جمهور الفقهاء خلافًا لعطاء ( وَإِنَّمَا يَجِبُ النِّدَاءُ فِي مَسَاجِدِ الْجَمَاعَاتِ الَّتِي تُجْمَعُ فِيهَا الصَّلَاةُ) وجوب السنن المؤكدة على المذهب وأما في المصر فواجب كفاية، فلو اتفقوا على تركه أثموا وقوتلوا عليه لأنه شعار الإسلام ومن العلامات المفرقة بين دار الإسلام والكفر.
وفي الصحيحين واللفظ لمسلم عن أنس: كان صلى الله عليه وسلم يغير إذا طلع الفجر وكان يستمع الأذان فإن سمع أذانًا أمسك وإلا أغار.

( وَسُئِلَ مَالِكٌ عَنْ تَسْلِيمِ الْمُؤَذِّنِ عَلَى الْإِمَامِ وَدُعَائِهِ إِيَّاهُ لِلصَّلَاةِ وَعَنْ أَوَّلُ مَنْ سُلِّمَ عَلَيْهِ؟ فَقَالَ: لَمْ يَبْلُغْنِي أَنَّ التَّسْلِيمَ كَانَ فِي الزَّمَنِ الْأَوَّلِ) قال الباجي: أي لم يكن في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم، وإنما كان المؤذن يؤذن فإن كان الإمام في شغل جاء المؤذن فأعلمه باجتماع الناس دون تكلف ولا استعمال، فأما ما يتكلف اليوم من وقوف المؤذن بباب الأمير والسلام عليه والدعاء للصلاة بعد ذلك فإنه من المباهاة والتكبر والصلاة تنزه عن ذلك.

وقد قال القاضي أبو إسحاق في المبسوط عن عبد الملك بن الماجشون كيفية السلام: السلام عليك أيها الأمير ورحمة الله وبركاته الصلاة يرحمك الله.
قال إسماعيل: روي أن عمر أنكر على أبي محذورة دعاءه إياه إلى الصلاة وأول من فعله معاوية.

وقال ابن عبد البر: أول من فعل ذلك معاوية أمر المؤذن أن يشعره ويناديه فيقول: السلام على أمير المؤمنين الصلاة يرحمك الله، وقيل أول من فعله المغيرة بن شعبة والأول أصح انتهى.

وروى ابن أبي شيبة عن مجاهد قال: لما قدم عمر مكة أتاه أبو محذورة وقد أذن فقال: الصلاة يا أمير المؤمنين حي على الصلاة حي على الفلاح.
قال: ويحك أمجنون أنت أما كان في دعائك الذي دعوتنا ما نأتيك حتى تأتينا.

وفي الأوائل للعسكري من طريق الواقدي عن ابن أبي ذئب قال: قلت للزهري من أول من سلم عليه فقيل السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته حي على الصلاة حي على الفلاح الصلاة يرحمك الله؟ فقال: معاوية بالشام ومروان بن الحكم بالمدينة.

وروى ابن سعد في طبقاته عن محمد بن سعد القرظ قال: كنا نؤذن على عمر بن عبد العزيز في داره للصلاة فنقول السلام عليك أيها الأمير ورحمة الله وبركاته حي على الصلاة حي على الفلاح وفي الناس الفقهاء فلا ينكرون ذلك، وبهذا كله تعلم ضعف ما في خطط المقريزي.

قال الواقدي وغيره: كان بلال يقف على باب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الأذان فيقول: السلام عليك يا رسول الله فلما ولي أبو بكر كان سعد القرظ يقف فيقول: السلام عليك يا خليفة رسول الله الصلاة يا خليفة رسول الله، فلما ولي عمر ولقب أمير المؤمنين كان المؤذن يقف على بابه ويقول: السلام عليك يا أمير المؤمنين الصلاة يا أمير المؤمنين، ثم إن عمر أمر المؤذن فزاد فيها رحمك الله، ويقال إن عثمان هو الذي زادها، وما زال المؤذنون إذا أذنوا سلموا على الخلفاء وأمراء الأعمال ثم يقيمون الصلاة بعد السلام فيخرج الخليفة أو الأمير فيصلي بالناس هكذا كان العمل مدة أيام بني أمية ثم مدة بني العباس حتى ترك الخلفاء الصلاة بالناس فترك ذلك انتهى.
والواقدي متروك ولعل غيره تبعه، والله أعلم.

( وَسُئِلَ مَالِكٌ عَنْ مُؤَذِّنٍ أَذَّنَ لِقَوْمٍ ثُمَّ انْتَظَرَ هَلْ يَأْتِيهِ أَحَدٌ فَلَمْ يَأْتِهِ أَحَدٌ فَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَصَلَّى وَحْدَهُ ثُمَّ جَاءَ النَّاسُ بَعْدَ أَنْ فَرَغَ أَيُعِيدُ الصَّلَاةَ مَعَهُمْ؟ قَالَ: لَا يُعِيدُ الصَّلَاةَ وَمَنْ جَاءَ بَعْدَ انْصِرَافِهِ) فراغه من الصلاة ( فَلْيُصَلِّ لِنَفْسِهِ وَحْدَهُ) قال ابن نافع: معناه أن المؤذن هنا هو الإمام الراتب ولم يرد المؤذن، فإن لم يكن الإمام الراتب فلا بأس أن يجمعوا تلك الصلاة ويعيدها المؤذن معهم إن شاء.

قال ابن عبد البر: وهذا التفسير حسن على أصل قول مالك المسجد الذي له إمام راتب لا يجمع فيه صلاة واحدة مرتين وبه قال سفيان الثوري وأجازه أشهب.

وقال الباجي: إذا كان المؤذن إمامًا راتبًا فكما قال مالك: لأن الاعتبار في الجماعة بالإمام دون المأموم لما في ذلك من مخالفة الأئمة ومفارقة الجماعة، ولأن ذلك يؤدي أن لا تراعى أوقات الصلاة ويؤخر من شاء ويصلي في جماعة، وإن لم يكن المؤذن إمامًا راتبًا فقال ابن نافع حكمه حكم الفذ، وقال عيسى كالجماعة ويظهر لي أن قول عيسى في مسجد له مؤذن راتب وليس له إمام راتب لتعلق حكم الجماعة به دون المؤذن.

وقال ابن عبد البر: ولا أصل لهذه المسألة إلا المنع من الاختلاف على الأئمة وردع أهل البدع ليتركوا إظهار بدعتهم لأنهم كانوا يرغبون عن صلاة الإمام ثم يأتون بعده فيجمعون بإمامهم.

وقال أبو حنيفة والشافعي والجمهور لا بأس أن يجمع في المسجد مرتين ولم ينه الله عنه ولا رسوله ولا اتفق عليه العلماء، ودليل الجواز حديث أنه صلى الله عليه وسلم صلى إحدى صلاتي العشي فلما سلم دخل رجل لم يدرك الصلاة معه فاستقبل القبلة ليصلي فقال صلى الله عليه وسلم: ألا رجل يتصدق على هذا فيصلي معه فقام رجل ممن صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم فصلى معه انتهى.
والجواب أن هذه واقعة حال محتملة فلا ينهض حجة في عدم الكراهة.

( وَسُئِلَ مَالِكٌ عَنْ مُؤَذِّنٍ أَذَّنَ لِقَوْمٍ ثُمَّ تَنَفَّلَ فَأَرَادُوا أَنْ يُصَلُّوا بِإِقَامَةِ غَيْرِهِ؟ فَقَالَ: لَا بَأْسَ بِذَلِكَ إِقَامَتُهُ وَإِقَامَةُ غَيْرِهِ سَوَاءٌ) وبهذا قال أبو حنيفة وقال الليث والثوري والشافعي وأكثر أهل الحديث: من أذن فهو يقيم لحديث عبد الله بن الحارث الصدائي قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما كان الصبح أمرني فأذنت ثم قام إلى الصلاة فجاء بلال ليقيم فقال صلى الله عليه وسلم: إن أخا صداء أذن ومن أذن فهو يقيم.

قال ابن عبد البر: انفرد به عبد الرحمن بن زياد الإفريقي وليس بحجة عندهم، وحجة مالك حديث عبد الله بن زيد حين أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأذان فأمره أن يلقيه على بلال وقال: إنه أندى منك صوتًا فلما أذن بلال قال صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن زيد: أقم أنت فأقام وهذا الحديث أحسن إسنادًا.

( قَالَ مَالِكٌ: لَمْ تَزَلِ الصُّبْحُ يُنَادَى لَهَا قَبْلَ الْفَجْرِ) في أول السدس الأخير من الليل قاله ابن وهب وسحنون.
وقال ابن حبيب: نصف الليل، وحجة العمل المذكور حديث ابن عمر الآتي إن بلالاً ينادي بليل وبه قال الجمهور والأئمة الثلاثة، وقال أبو حنيفة وطائفة لا يؤذن لها حتى يطلع الفجر ( فَأَمَّا غَيْرُهَا مِنَ الصَّلَوَاتِ فَإِنَّا لَمْ نَرَهَا يُنَادَى لَهَا إِلَّا بَعْدَ أَنْ يَحِلَّ وَقْتُهَا) لحرمته قبل الوقت في غير الصبح.

قال الكرخي من الحنفية: كان أبو يوسف يقول: بقول أبي حنيفة: لا يؤذن لها حتى أتى المدينة فرجع إلى قول مالك وعلم أنه عملهم المتصل.

قال الباجي: يظهر لي أنه ليس في الأثر ما يقتضي أن الأذان قبل الفجر لصلاة الفجر فإن كان الخلاف في الأذان ذلك الوقت فالآثار حجة لمن أثبته وإن كان الخلاف في المقصود به فيحتاج إلى ما يبين ذلك من إبطال الأذان إلى الفجر أو غير ذلك مما يدل عليه.

( مَالِكٍ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ الْمُؤَذِّنَ جَاءَ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ يُؤْذِنُهُ لِصَلَاةِ الصُّبْحِ فَوَجَدَهُ نَائِمًا فَقَالَ: الصَّلَاةُ خَيْرٌ مِنَ النَّوْمِ فَأَمَرَهُ عُمَرُ أَنْ يَجْعَلَهَا فِي نِدَاءِ الصُّبْحِ) هذا البلاغ أخرجه الدارقطني في السنن من طريق وكيع في مصنفه عن العمري عن نافع عن ابن عمر عن عمر، وأخرج أيضًا عن سفيان عن محمد بن عجلان عن نافع عن ابن عمر عن عمر أنه قال لمؤذنه: إذا بلغت حي على الفلاح في الفجر فقل الصلاة خير من النوم الصلاة خير من النوم، فقصر ابن عبد البر في قوله لا أعلم هذا روي عن عمر من وجه يحتج به وتعلم صحته، وإنما أخرجه ابن أبي شيبة من حديث هشام بن عروة عن رجل يقال له إسماعيل لا أعرفه قال: والتثويب محفوظ في أذان بلال وأبي محذورة في صلاة الصبح للنبي صلى الله عليه وسلم، والمعنى هنا أن نداء الصبح موضع قوله لا هنا كأنه كره أن يكون منه نداء آخر عند باب الأمير كما أحدثته الأمراء، وإلا فالتثويب أشهر عند العلماء والعامة من أن يظن بعمر أنه جهل ما سن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر به مؤذنيه بلالاً بالمدينة، وأبا محذورة بمكة انتهى.

ونحو تأويله قول الباجي: يحتمل أن عمر قال ذلك إنكارًا لاستعماله لفظة من ألفاظ الأذان في غيره وقال له اجعلها فيه يعني لا تقلها في غيره انتهى.
وهو حسن متعين: فقد روى ابن ماجه من طريق ابن المسيب عن بلال أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم يؤذنه لصلاة الفجر فقيل هو نائم فقال الصلاة خير من النوم مرتين، فأقرت في تأذين الفجر فثبت الأمر على ذلك.

وروى بقي بموحدة ابن مخلد عن أبي محذورة قال: كنت غلامًا صبيًا فأذنت بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم الفجر يوم حنين: فلما انتهيت إلى حي على الفلاح قال: ألحق فيها الصلاة خير من النوم، وقال مالك في مختصر ابن شعبان: لا يترك المؤذن قوله في نداء الصبح الصلاة خير من النوم في سفر ولا حضر ومن أذن في ضيعته متنحيًا عن الناس فتركه فلا بأس وأحب إلينا أن يأتي به.

( مَالِكٍ عَنْ عَمِّهِ أَبِي سُهَيْلِ) بضم السين واسمه نافع ( بْنِ مَالِكٍ عَنْ أَبِيهِ) مالك بن أبي عامر الأصبحي ( أَنَّهُ قَالَ: مَا أَعْرِفُ شَيْئًا مِمَّا أَدْرَكْتُ عَلَيْهِ النَّاسَ) يعني الصحابة ( إِلَّا النِّدَاءَ بِالصَّلَاةِ) فإنه باق على ما كان عليه لم يدخله تغيير ولا تبديل بخلاف الصلاة فقد أخرت عن أوقاتها وسائر الأفعال قد دخلها التغيير، فأنكر أكثر أفعال أهل عصره والتغيير يمكن أن يلحق صفة الفعل كتأخير الصلاة وأن يلحق الفعل جملة كترك الأمر بكثير من المعروف والنهي عن كثير من المنكر مع علم الناس بذلك كله قاله الباجي.

وقال ابن عبد البر فيه: إن الأذان لم يتغير عما كان عليه، وكذا قال عطاء ما أعلم تأذينهم اليوم يخالف تأذين من مضى وفيه تغير الأحوال عما كانت عليه زمن الخلفاء الأربع في أكثر الأشياء، واحتج بهذا بعض من لم ير عمل أهل المدينة حجة وقال لا حجة إلا فيما نقل بالأسانيد الصحاح عن النبي صلى الله عليه وسلم أو عن الخلفاء الأربعة ومن سلك سبيلهم.

( مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ سَمِعَ الْإِقَامَةَ وَهُوَ بِالْبَقِيعِ فَأَسْرَعَ الْمَشْيَ إِلَى الْمَسْجِدِ) بدون جري لأن الإسراع المنهي عنه بقوله صلى الله عليه وسلم: فلا تأتوها وأنتم تسعون هو الجري لأنه ينافي الوقار المشروع في الصلاة وفي قصدها، وأما ما لا ينافي الوقار فجائز وكذا قول مالك بجواز تحريك الفرس لمن سمع الأذان ليدرك الصلاة يريد تحريكه للإسراع في المشي دون جري ولا خروج عن حد الوقار قاله الباجي.

وقال ابن عبد البر: الواجب أن يأتي الصلاة بالسكينة خاف فواتها أو لم يخف لأمره صلى الله عليه وسلم بذلك وهو الحجة قال وقال بعض أصحابنا إن ابن عمر لم يزد على مشيه المعهود لأن الإسراع كان عادته لبعده من الزهو وليس ببين لأن نافعًا مولاه قد عرف مشيه، ثم أخبر أنه لما سمع الإقامة أسرع، ولا يخالفه قول محمد بن زيد: كان ابن عمر إذا مشى إلى الصلاة لو مشت معه نملة ما سبقها لأنه في حال لا يخاف فيها فوات شيء من الصلاة وهي أغلب أحواله انتهى.



رقم الحديث 150 وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي صَعْصَعَةَ الْأَنْصَارِيِّ ثُمَّ الْمَازِنِيِّ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ: أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ قَالَ لَهُ: إِنِّي أَرَاكَ تُحِبُّ الْغَنَمَ وَالْبَادِيَةَ، فَإِذَا كُنْتَ فِي غَنَمِكَ، أَوْ بَادِيَتِكَ، فَأَذَّنْتَ بِالصَّلَاةِ، فَارْفَعْ صَوْتَكَ بِالنِّدَاءِ، فَإِنَّهُ لَا يَسْمَعُ مَدَى صَوْتِ الْمُؤَذِّنِ جِنٌّ وَلَا إِنْسٌ، وَلَا شَيْءٌ، إِلَّا شَهِدَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.


( مَالِكٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ) الأنصاري ( أَنَّهُ قَالَ) مرسلاً ( كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) لما كثر الناس ( قَدْ أَرَادَ أَنْ يَتَّخِذَ خَشَبَتَيْنِ) هما الناقوس وهو خشبة طويلة تضرب بخشبة أصغر منها فيخرج منهما صوت كما في الفتح وغيره ( يُضْرَبُ بِهِمَا لِيَجْتَمِعَ النَّاسُ لِلصَّلَاةِ) .

قال ابن عمر: كان المسلمون حين قدموا المدينة يجتمعون فيتحينون الصلاة ليس ينادى لها فتكلموا يومًا في ذلك فقال بعضهم: أنتخذ ناقوسًا مثل ناقوس النصارى، وقال بعضهم: بل بوقًا مثل قرن اليهود، الحديث في الصحيحين.

وقال أنس: لما كثر الناس ذكروا أن يعلموا وقت الصلاة بشيء يعرفونه فذكروا أن يوروا نارًا أو يضربوا ناقوسًا رواه البخاري ومسلم وفيه اختصار وهو في أبي داود وغيره بإسناد صحيح عن أبي عمير بن أنس عن عمومة له من الأنصار اهتم النبي صلى الله عليه وسلم للصلاة كيف يجمع الناس لها قيل له: انصب راية فإذا رآها الناس أذن بعضهم بعضًا فلم يعجبه ذلك فذكر له القبع أي شبور اليهود فقال: هو من أمر اليهود، فذكر له الناقوس فقال هو من أمر النصارى وكأنه كرهه أولاً ثم أمر بعمله، ففي أبي داود عن عبد الله بن زيد لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناقوس يعمل ليضرب به للناس ليجتمعوا للصلاة طاف بي وأنا نائم رجل يحمل ناقوسًا.

( فَأُرِيَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ) بن ثعلبة بن عبد ربه أبو محمد ( الْأَنْصَارِيُّ ثُمَّ مِنْ بَنِي الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ) فيقال له الخزرجي الحارثي شهد العقبة وبدرًا.
قال الترمذي: لا نعرف له عن النبي صلى الله عليه وسلم شيئًا إلا هذا الحديث الواحد في الأذان وكذا قال ابن عدي.

قال في الإصابة: وأطلق غير واحد أنه ما له غيره وهو خطأ فقد جاءت عنه أحاديث ستة أو سبعة جمعتها في جزء مفرد، ومات سنة اثنين وثلاثين وهو ابن أربع وستين وصلى عليه عثمان قاله ولده محمد بن عبد الله نقله المدايني.
وقال الحاكم: الصحيح أنه قتل بأحد فالروايات عنه كلها منقطعة وخالف ذلك في المستدرك.

( خَشَبَتَيْنِ فِي النَّوْمِ) متعلق بأري ( فَقَالَ: إِنَّ هَاتَيْنِ لَنَحْوٌ مِمَّا يُرِيدُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أن يجمع به الناس للصلاة ( فَقِيلَ أَلَا تُؤَذِّنُونَ لِلصَّلَاةِ) وأسمعه الأذان فاستيقظ ( فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ اسْتَيْقَظَ فَذَكَرَ لَهُ ذَلِكَ) فقال: إنها لرؤيا حق إن شاء الله ( فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْأَذَانِ) كذا أورد الحديث مرسلاً مختصرًا كما سمعه من يحيى بن سعيد.

قال ابن عبد البر: وروى قصة عبد الله بن زيد هذه في بدء الأذان جماعة من الصحابة بألفاظ مختلفة ومعان متقاربة والأسانيد في ذلك متواترة وهي من وجوه حسان انتهى.

وأخرج أبو داود والترمذي وقال حسن صحيح وابن ماجه وابن خزيمة وابن حبان وصححاه من حديث محمد بن عبد الله بن زيد قال: حدثني أبي لما أمر صلى الله عليه وسلم بالناقوس يعمل به للناس ليجتمعوا للصلاة طاف بي وأنا نائم رجل يحمل ناقوسًا في يده فقلت: يا عبد الله أتبيع الناقوس؟ قال: وما تصنع به فقلت: ندعو به إلى الصلاة، قال: أفلا أدلك على ما هو خير من ذلك؟ فقلت: بلى.
قال: تقول الله أكبر فذكره مربع التكبير بلا ترجيع.
قال: ثم استأخر عني غير بعيد فقال: تقول إذا قمت إلى الصلاة فذكر الإقامة مفردة وثنى قد قامت الصلاة، فلما أصبحت أتيت رسول الله فأخبرته بما رأيت فقال: إنها لرؤيا حق إن شاء الله فقم مع بلال فألق عليه ما رأيت فليؤذن به فإنه أندى منك صوتًا فقمت مع بلال فجعلت ألقيه عليه ويؤذن به قال: فسمع بذلك عمر بن الخطاب وهو في بيته فخرج يجر رداءه يقول: والذي بعثك بالحق يا رسول الله لقد رأيت مثل ما أري.
فقال صلى الله عليه وسلم: فلله الحمد اهـ.
لفظ أبي داود وهو كالشرح لمرسل الموطأ.

ونقل ابن خزيمة عن محمد بن يحيى الذهلي بذال ولام أن هذه الطريق أصح طرقه وشاهده حديث عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن سعيد بن المسيب مرسلاً، ومنهم من وصله عن سعيد عن عبد الله بن زيد والمرسل أقوى إسنادًا.
ولأحمد عن معاذ بن جبل أن عبد الله بن زيد قال: يا رسول الله إني رأيت فيما يرى النائم ولو قلت إني لم أكن نائمًا لصدقت رأيت شخصًا عليه ثوبان أخضران فاستقبل القبلة فقال: الله أكبر، فذكر الحديث.

وعند أبي داود في حديث أبي عمير بن أنس عن عمومته من الأنصار وكان عمر قد رآه قبل ذلك فكتمه عشرين يومًا ثم أخبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: ما منعك أن تخبرني؟ فقال: سبقني عبد الله بن زيد فاستحيت وظاهره يعارض ما قبله.

قال الحافظ: ولا مخالفة لأنه يحمل على أنه لم يخبر بذلك عقب إخبار عبد الله بن زيد بل متراخيًا عنه فقوله: ما منعك أن تخبرني أي عقب إخبار عبد الله فاعتذر بالاستحياء فدل على أنه لم يخبره على الفور انتهى.
وبعده لا يخفى مع قوله فسمع عمر فخرج يقول: يا رسول الله لقد رأيت مثل ما أري فجعله حالاً من فاعل خرج أي قائلاً في حال خروجه، لكنه لا يمتنع للجمع بين الحديثين مع صحتهما.

وللطبراني في الأوسط أن أبا بكر أيضًا رأى الأذان، وذكر الجيلي في شرح التنبيه أنه رآه أربعة عشر رجلاً، وأنكره ابن الصلاح فقال: لم أجده بعد إمعان البحث، ثم النووي فقال في تنقيحه: هذا ليس بثابت ولا معروف، وإنما الثابت خروج عمر يجر رداءه.
وفي سيرة مغلطاي عن بعض كتب الفقهاء أنه رآه سبعة من الأنصار.

قال الحافظ: ولا يثبت شيء من ذلك إلا لعبد الله بن زيد، وقصة عمر جاءت في بعض طرقه.

وفي مسند الحارث بن أبي أسامة بسند واهٍ عن كثير الحضرمي قال: أول من أذن بالصلاة جبريل في السماء الدنيا فسمعه عمر وبلال فسبق عمر بلالاً فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم، ثم جاء بلال فقال له: سبقك بها عمر.
قال: وقد استشكل إثبات حكم الأذان برؤيا عبد الله بن زيد لأن رؤيا غير الأنبياء لا ينبني عليها حكم شرعي.

وأجيب باحتمال مقارنة الوحي لذلك أو لأنه صلى الله عليه وسلم أمر بمقتضى الرؤيا لينظر أيقر على ذلك أم لا.
ولا سيما لما رأى نظمها يبعد دخول الوسواس فيه وهذا ينبني على القول بجواز اجتهاده في الأحكام وهو المنصور في الأصول، ويؤيد الأول ما رواه عبد الرزاق وأبو داود في المراسيل عن عبيد بن عمير أحد كبار التابعين أن عمر لما رأى الأذان جاء ليخبر به النبي صلى الله عليه وسلم فوجد الوحي قد ورد بذلك فما راعه إلا أذان بلال فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: سبقك بذلك الوحي وهذا أصح مما حكى الداودي عن ابن إسحاق أن جبريل أتى النبي صلى الله عليه وسلم بالأذان قبل أن يخبره عبد الله بن زيد وعمر بثمانية أيام.

وجاءت أحاديث تدل على أن الأذان شرع بمكة قبل الهجرة.
منها للطبراني عن ابن عمر قال: لما أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم أوحى الله إليه الأذان فنزل به فعلمه بلالاً، وفي إسناده طلحة بن زيد وهو متروك وللدارقطني عن أنس أن جبريل أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالأذان حين فرضت الصلاة وإسناده ضعيف أيضًا.
ولابن مردويه عن عائشة مرفوعًا: لما أسري بي أذن جبريل فظنت الملائكة أنه يصلي بهم فقدمني فصليت وفيه من لا يعرف.
وللبزار وغيره عن علي: لما أراد الله أن يعلم رسوله الأذان أتاه جبريل بالبراق فركبها، الحديث.
وفيه: إذ خرج ملك من الحجاب فقال: الله أكبر، وفي آخره فأخذ الملك بيده فأم بأهل السماء، وفي إسناده زياد بن المنذر أبو الجارود وهو متروك أيضًا، ويمكن على تقدير الصحة أن يحمل على تعدد الإسراء فيكون وقع ذلك بالمدينة.
وقول القرطبي لا يلزم من كونه سمعه ليلة الإسراء أن يكون مشروعًا في حقه فيه نظر لقوله أوله لما أراد الله أن يعلم رسوله الأذان، وكذا قول المحب الطبري يحمل الأذان ليلة الإسراء على الأذان اللغوي وهو الإعلام فيه نظر أيضًا لتصريحه بصفته المشروعة فيه، والحق أنه لا يصح شيء من هذه الأحاديث.

وقد جزم ابن المنذر بأنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي بلا أذان منذ فرضت الصلاة بمكة إلى أن هاجر إلى المدينة إلى أن وقع التشاور في ذلك على ما في حديث ابن عمر ثم في حديث عبد الله بن زيد انتهى.

ومن الواهي أيضًا ما لابن شاهين عن زياد بن المنذر حدثني العلاء قال قلت لابن الحنفية: كنا نتحدث أن الأذان رؤيا رآها رجل من الأنصار ففزع وقال: عمدتم إلى أحسن دينكم فزعمتم أنه كان رؤيا هذا والله الباطل، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما عرج به انتهى إلى مكان من السماء وقف وبعث الله ملكًا ما رآه أحد في السماء قبل ذلك اليوم فعلمه الأذان ففيه كما رأيت زياد بن المنذر متروك، وقد صرح الحافظ الذهبي بأن هذا باطل.

قال الحافظ: وقد حاول السهيلي الجمع فتكلف وتعسف والأخذ بما صح أولى فقال بانيًا على صحة الحكمة في مجيء الأذان على لسان الصحابي أن النبي صلى الله عليه وسلم سمعه فوق سبع سموات وهو أقوى من الوحي فلما تأخر الأمر بالأذان عن فرض الصلاة وأراد إعلامهم بالوقت رأى الصحابي المنام فقصه فوافق ما كان صلى الله عليه وسلم سمعه فقال: إنها لرؤيا حق، وعلم حينئذ أن مراد الله بما أراه في السماء أن يكون سنة في الأرض وتقوى ذلك بموافقة عمر لأن السكينة تنطق على لسانه والحكمة أيضًا في إعلام الناس به على غير لسانه صلى الله عليه وسلم التنويه بقدره والرفع لذكره بلسان غيره ليكون أقوى لأمره وأفخر لشأنه انتهى ملخصًا.

والثاني حسن بديع ويؤخذ من عدم الاكتفاء برؤية عبد الله بن زيد حتى أضيف إليه عمر للتقوية التي ذكرها ولم يقتصر على عمر ليصير في معنى الشهادة وجاء في رواية ضعيفة ما ظاهره أن بلالاً رأى أيضًا لكنها مؤولة فإن لفظها سبقك بها بلال فيحمل على مباشرة التأذين برؤيا عبد الله بن زيد، ومما يكثر السؤال عنه هل باشر النبي صلى الله عليه وسلم الأذان بنفسه، وقد روى الترمذي بإسناد حسن عن يعلى بن مرة الثقفي أن النبي صلى الله عليه وسلم أذن في سفر وصلى بأصحابه وهم على رواحلهم السماء من فوقهم والبلة من أسفلهم.

قال السهيلي: فنزع بعض الناس بهذا الحديث أنه صلى الله عليه وسلم أذن بنفسه، لكن روى الحديث الدارقطني بسند الترمذي ومتنه وقال فيه: فأمر بالأذان فقام المؤذن فأذن والمفصل يقضي على المجمل المحتمل انتهى.

وتبع هذا البعض النووي فجزم أن النبي صلى الله عليه وسلم أذن مرة في سفره وعزاه للترمذي وقواه، وتعقبه الحافظ فقال: ولكن وجدنا الحديث في مسند أحمد من الوجه الذي أخرجه منه الترمذي بلفظ فأمر بلالاً فأذن فعرف أن في رواية الترمذي اختصارًا وأن معنى أذن أمر بلالاً به كما يقال أعطى الخليفة العالم الفلاني ألفًا وإنما باشر العطاء غيره ونسب للخليفة لكونه أمر به انتهى.

وانتصر بعض للنووي تبعًا للبعض بأن هذا إنما يصار إليه لو لم يحتمل تعدد الواقعة، أما إذا أمكن فيجب المصير إليه إبقاء لأذن على حقيقته عملاً بقاعدة الأصول أنه يجب إبقاء اللفظ على حقيقته وهو مردود بأن ذلك إنما يصح إذا اختلف سند الحديث ومخرجه، أما مع الاتحاد فلا ويجب رجوع المجمل إلى المفصل عملاً بقاعدة الأصول وأهل الحديث.

وقال بعض المحدثين لو لم نكتب الحديث من ستين وجهًا ما عقلناه لاختلاف الرواة في ألفاظه ونحوها: نعم قال السيوطي في شرح البخاري: قد ظفرت بحديث آخر مرسلاً رواه سعيد بن منصور، حدثنا أبو معاوية، حدثنا عبد الرحمن بن أبي بكر القرشي، عن ابن أبي مليكة، قال: أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرة فقال: حي على الفلاح قال وهذه رواية لا تقبل التأويل انتهى.
فهذا الذي يجزم فيه بالتعدد لاختلاف سنده وانظر ما أحسن قوله آخر لكن لم يبين هل كان في سفر أو حضر.

( مَالِكٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَزِيدَ) بتحتية وزاي ( اللَّيْثِيِّ) المدني نزيل الشام من ثقات التابعين ورجال الجميع، مات سنة خمس أو سبع ومائة وقد جاوز الثمانين، ولأبي عوانة من رواية ابن وهب عن مالك ويونس عن الزهري أن عطاء بن يزيد أخبره ( عَنْ أَبِي سَعِيدٍ) سعد بن مالك بن سنان بن عبيد الأنصاري ( الْخُدْرِيِّ) له ولأبيه صحبة واستصغر بأحد ثم شهد ما بعدها روى الكثير ومات بالمدينة سنة ثلاث أو أربع أو خمس وستين وقيل سنة أربع وسبعين.

( أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِذَا سَمِعْتُمُ النِّدَاءَ) أي الأذان سمي به لأنه نداء إلى الصلاة ودعاء إليها ( فَقُولُوا مِثْلَ مَا يَقُولُ الْمُؤَذِّنُ) ادعى ابن وضاح أن قوله المؤذن مدرج وأن الحديث انتهى بقوله ما يقول، وتعقب بأن الإدراج لا يثبت بمجرد الدعوى، وقد اتفقت الروايات في الصحيحين والموطأ على إثباتها، ولم يصب صاحب العمدة في حذفها وظاهره اختصاص الإجابة بمن سمع حتى لو رأى المؤذن على المنارة مثلاً في الوقت وعلم أنه يؤذن، لكن لم يسمع أذانه لبعد أو صمم لا يشرع له المتابعة قاله النووي في شرح المهذب، وقال مثل ما يقول ولم يقل مثل ما قال ليشعر بأنه يجيبه بعد كل كلمة مثل كلمتها قاله الكرماني والصريح في ذلك ما رواه النسائي عن أم حبيبة أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول مثل ما يقول المؤذن حتى يسكت.

وقال أبو الفتح اليعمري: ظاهر الحديث أنه يقول مثل ما يقول عقب فراغ المؤذن لكن الأحاديث التي تضمنت إجابة كل كلمة عقبها دلت على أن المراد المساوقة يشير إلى حديث عمر في مسلم وغيره وظاهره أيضًا أنه يقول مثله في جميع الكلمات، لكن حديث عمر أيضًا وحديث معاوية في البخاري وغيره دلا على أنه يستثنى من ذلك حي على الصلاة وحي على الفلاح فيقول بدلهما لا حول ولا قوة إلا بالله وهو المشهور عند الجمهور.

وقال ابن المنذر: يحتمل أن يكون ذلك من الاختلاف المباح فيقول تارة كذا وتارة كذا، وحكي عن بعض أهل الأصول أن الخاص والعام إذا أمكن الجمع بينهما وجب إعمالهما فلم لا يستحب للسامع أن يجمع بين الحيعلة والحوقلة وهو وجه عند الحنابلة.

وأجيب عن المشهور من حيث المعنى بأن الأذكار الزائدة على الحيعلة يشترك السامع والمؤذن في ثوابها، وأما الحيعلة فمقصودها الدعاء إلى الصلاة وذلك يحصل من المؤذن فعوض السامع عما فاته من ثوابها بثواب الحوقلة، ولقائل أن يقول يحصل للمجيب الثواب لامتثاله الأمر ويمكن أن يزداد استيقاظًا وإسراعًا إلى القيام إلى الصلاة إذا تكرر على سمعه الدعاء إليها من المؤذن ومن نفسه.
قيل: وفي الحديث دليل على أن لفظ مثل لا يقتضي المساواة من كل جهة لأنه لا يطلب برفع الصوت المطلوب من المؤذن، وفيه بحث لأن المماثلة وقعت في القول لا في صفته، والفرق أن المؤذن قصده الإعلام فاحتاج لرفع الصوت، والسامع مقصوده ذكر الله فيكفي السر أو الجهر لا مع رفع الصوت.
نعم لا يكفي إجراؤه على خاطره من غير تلفظ لظاهر الأمر بالقول وفيه جواز إجابة المؤذن في الصلاة عملاً بظاهر الأمر، ولأن المجيب لا يقصد المخاطبة واستدل به على وجوب إجابة المؤذن حكاه الطحاوي عن قوم من السلف، وبه قال الحنفية والظاهرية وابن وهب.

واستدل الجمهور لحديث مسلم وغيره أنه صلى الله عليه وسلم سمع مؤذنًا فلما كبر قال على الفطرة فلما تشهد قال خرج من النار فلما قال صلى الله عليه وسلم غير ما قال المؤذن علم أن الأمر للاستحباب، وتعقب بأنه ليس في الحديث أنه لم يقل مثل ما قال فيجوز أنه قاله ولم ينقله الراوي اكتفاء بالعادة ونقل القول الزائد، وبأنه يحتمل أن ذلك وقع قبل صدور الأمر وأن يكون لما أمر لم يرد أن يدخل نفسه في عموم من خوطب بذلك انتهى.

والحديث أخرجه البخاري عن عبد الله بن يوسف، ومسلم عن يحيى كلاهما عن مالك به.

قال الحافظ: واختلف على الزهري في إسناده وعلى مالك أيضًا لكنه اختلاف لا يقدح في صحته، فرواه عبد الرحمن بن إسحاق عن الزهري عن سعيد عن أبي هريرة أخرجه النسائي وابن ماجه، وقال أبو حاتم وأحمد بن صالح والترمذي وأبو داود: حديث مالك ومن تابعه أصح، ورواه يحيى القطان عن مالك عن الزهري عن السائب بن يزيد أخرجه مسدد في مسنده وقال: إنه خطأ.
والصواب الرواية الأولى وفيه اختلاف آخر دون ما ذكر لا نطيل به انتهى.

( مَالِكٍ عَنْ سُمَيٍّ) بضم السين المهملة بلفظ التصغير ( مَوْلَى أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) بن الحارث بن هشام ( عَنْ أَبِي صَالِحٍ) ذكوان ( السَّمَّانِ) لأنه كان يتجر في السمن والزيت فلذا قيل له الزيات أيضًا ( عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ) وضع المضارع موضع الماضي ليفيد استمرار العلم قاله الطيبي ( مَا فِي النِّدَاءِ) أي الأذان وهي رواية بشر بن عمر عن مالك عند السراج ( وَالصَّفِّ الْأَوَّلِ) زاد أبو الشيخ من طريق الأعرج عن أبي هريرة: من الخير والبركة.

وقال الطيبي: أطلق مفعول يعلم وهو ما ولم يبين الفضيلة ما هي ليفيد ضربًا من المبالغة وأنه مما لا يدخل تحت الوصف والإطلاق إنما هو في قدر الفضيلة وإلا فقد ميزت في رواية بالخير والبركة.

قال الباجي: اختلف في الصف الأول هل هو الذي يلي الإمام أو المبكر السابق إلى المسجد؟ قال القرطبي: والصحيح أنه الذي يلي الإمام قالا فإن كان بين الإمام والناس حائل كما أحدث الناس المقاصير فالصف الأول هو الذي يلي المقصورة.

وقال ابن عبد البر: لا أعلم خلافًا أن من بكر وانتظر الصلاة وإن لم يصل في الصف الأول أفضل ممن تأخر وصلى في الصف الأول وفي هذا ما يوضح معنى الصف الأول وأنه ورد من أجل البكور إليه والتقدم، وقال صلى الله عليه وسلم: أتموا الصف المقدم ثم الذي يليه فما كان من نقص فليكن في المؤخر.

( ثُمَّ لَمْ يَجِدُوا) شيئًا من وجوه الأولوية بأن يقع التساوي أما في الأذان فبأن يستووا في معرفة الوقت وحسن الصوت ونحو ذلك وأما في الصف فبأن يصلوا دفعة واحدة ويتساووا في الفضل ( إِلَّا أَنْ يَسْتَهِمُوا) أي يقترعوا ( عَلَيْهِ) أي على ما ذكر من الأمرين ليشمل الأذان والصف.

وقال ابن عبد البر: الهاء عائدة على الصف الأول لا على النداء وهو وجه الكلام، لأن الضمير يعود إلى أقرب مذكور ولا يعدل عنه إلا بدليل ونازعه القرطبي وقال: يلزم منه أن يبقى النداء ضائعًا لا فائدة له قال والضمير يعود على معنى الكلام المتقدم ومثله قوله تعالى: { { وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا } } أي جميع ما ذكر.

قال الحافظ: وقد رواه عبد الرزاق عن مالك بلفظ لاستهموا عليهما فهذا مفصح بالمراد من غير تكلف.

( لَاسْتَهَمُوا) اقترعوا ومنه قوله تعالى: { { فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ } } قال الخطابي وغيره: قيل له استهام لأنهم كانوا يكتبون أسماءهم على سهام إذا اختلفوا في شيء فمن خرج اسمه غلب، واستدل به بعضهم لمن قال بالاقتصار على مؤذن واحد وليس بظاهر لصحة استهام أكثر من واحد، ولأن الاستهام على الأذان متوجه من جهة التولية من قبل الإمام لما فيه من المزية.
وزعم بعضهم أن المراد بالاستهام هنا الترامي بالسهام وأنه خرج مخرج المبالغة واستأنس بحديث لتجالدوا عليه بالسيوف، لكن فهم البخاري أن المراد اقترعوا أولى لرواية مسلم لكانت قرعة.

وقد روى سيف بن عمر في كتاب الفتوح والطبراني عن عبد الله بن شبرمة عن شقيق وهو أبو وائل قال: افتتحنا القادسية صدر النهار فتراجعنا وقد أصيب المؤذن فتشاح الناس في الأذان بالقادسية فاختصموا إلى سعد بن أبي وقاص فأقرع بينهم فخرجت القرعة لرجل منهم فأذن، والقادسية مكان معروف بالعراق نسب إلى قادس رجل نزل به.

وحكى الجوهري أن إبراهيم الخليل قدس على ذلك المكان فلذا صار منزلاً للحاج وكان بها وقعة مشهورة للمسلمين مع الفرس في خلافة عمر سنة خمس عشرة وكان سعد يومئذ الأمير على الناس.

( وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي التَّهْجِيرِ) أي التبكير إلى الصلوات أي صلاة كانت قاله الهروي وغيره.
قال ابن عبد البر: التهجير معروف وهو البدار إلى الصلاة أول وقتها وقبله وانتظارها قال تعالى: { { فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ } } وقال صلى الله عليه وسلم: منتظر الصلاة في صلاة ما انتظرها وحسبك بهذا فضلاً وسمى صلى الله عليه وسلم انتظار الصلاة بعد الصلاة رباطًا، وجاء: رباط يوم خير من صوم شهر انتهى.

وحمله الخليل والباجي وغيرهما على ظاهره فقالوا: المراد الإتيان إلى صلاة الظهر في أول الوقت لأن التهجير مشتق من الهاجرة وهي شدة الحر نصف النهار وهو أول وقت الظهر وإلى ذلك مال البخاري.

قال الحافظ: ولا يرد على ذلك مشروعية الأمر بالإبراد لأنه أريد به الرفق، وأما من ترك قائلته وقصد إلى المسجد لينتظر الصلاة فلا يخفى ما له من الفضل.

( لَاسْتَبَقُوا إِلَيْهِ) أي التهجير.
قال ابن أبي جمرة: المراد الاستباق معنى لا حسًا لأن المسابقة على الإقدام حسًا تقتضي السرعة في المشي وهو ممنوع منه انتهى.

( وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي الْعَتَمَةِ) أي العشاء وثبت النهي عن تسميتها عتمة فهذا الحديث بيان للجواز وأن النهي ليس للتحريم أو استعمل العتمة هنا لمصلحة ونفي مفسدة لأن العرب كانت تستعمل العشاء في المغرب فلو قال ما في العشاء لحملوها على المغرب ففسد المعنى وفات المطلوب فاستعمل العتمة التي يعرفونها ولا يشكون فيها، وقواعد الشرع متظاهرة على احتمال أخف المفسدتين لدفع أعظمهما قاله النووي.

( وَالصُّبْحِ) أي ثواب صلاتهما في جماعة ( لَأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا) بفتح المهملة وسكون الموحدة أي مشيًا على اليدين والركبتين أو على مقعدته، ولابن أبي شيبة من حديث أبي الدرداء ولو حبوًا على المرافق والركب.

قال الباجي: خص هاتين الصلاتين بذلك لأن السعي إليهما أشق من غيرهما لما فيه من تنقيص أول النوم وآخره.

وقال ابن عبد البر: الآثار فيهما كثيرة منها قوله صلى الله عليه وسلم: أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر.
وقال أبو الدرداء في مرض موته: اسمعوا وبلغوا حافظوا على هاتين الصلاتين - يعني في جماعة العشاء والصبح - ولو تعلمون ما فيهما لأتيتموهما ولو حبوًا على مرافقكم وركبكم، وكذلك قال عمر وعثمان وروي مرفوعًا: شهود صلاة العشاء خير من قيام نصف ليلة وشهود صلاة الصبح خير من قيام ليلة.
وقال عمر والحسن: لأن أشهد صلاة العشاء والفجر أحب إلي من أن أحيي ما بينهما.
وقال ابن عمر: كنا إذا فقدنا الرجل في صلاة العشاء وصلاة الفجر أسأنا به الظن انتهى.

وهذا الحديث رواه البخاري عن عبد الله بن يوسف، ومسلم عن يحيى كلاهما عن مالك به.

( مَالِكٍ عَنِ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَعْقُوبَ) المدني ( عَنْ أَبِيهِ) وهو تابعي كابنه ( وَإِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ) بن أبي طلحة أحد شيوخ مالك روى عنه هنا بواسطة ( أَنَّهُمَا أَخْبَرَاهُ) أي العلاء ( أَنَّهُمَا سَمِعَا أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا ثُوِّبَ بِالصَّلَاةِ) بضم المثلثة وشد الواو وموحدة.

قال ابن عبد البر: أي أقيم وأصل ثاب رجع يقال ثاب إلى المريض جسمه فكأن المؤذن رجع إلى ضرب من الأذان للصلاة، وقد جاء هذا الحديث عن أبي هريرة بلفظ: إذا أقيمت الصلاة، وهو يبين أن التثويب هنا الإقامة انتهى.

وهي رواية الصحيحين من وجه آخر عن أبي هريرة وفي رواية لهما أيضًا: إذا سمعتم الإقامة وهي أخص من قوله في حديث أبي قتادة عندهما أيضًا إذا أتيتم الصلاة، لكن الظاهر كما قال الحافظ إنه في مفهوم الموافقة لأن المسرع إذا أقيمت الصلاة يترجى إدراك فضيلة التكبيرة الأولى ونحوها، ومع ذلك نهى عن الإسراع فغيره ممن جاء قبل الإقامة لا يحتاج إلى الإسراع لأنه يتحقق إدراك الصلاة كلها فينهى من باب أولى، ولحظ فيه بعضهم معنى آخر فقال: حكمة التقييد بالإقامة أن المسرع إذا أقيمت الصلاة يصل إليها وقد تعب فيقرأ وهو بتلك الحالة فلا يحصل له تمام الخشوع في الترتيل وغيره بخلاف من جاء قبل ذلك فلا تقام الصلاة حتى يستريح، لكن قضية هذا أنه لا يكره الإسراع لمن جاء قبل الإقامة وهو مخالف لصريح قوله: إذا أتيتم الصلاة لأنه يتناول ما قبل الإقامة وإنما قيده بالإقامة لأنها الحاملة غالبًا على الإسراع انتهى.

( فَلَا تَأْتُوهَا وَأَنْتُمْ تَسْعَوْنَ) تمشون بسرعة وتطلق على العمل نحو: { { وَمَنْ أَرَادَ الآَخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ } } { { إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى } } وعليه حمل قوله تعالى { { فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ } } كقوله: { { وَأَن لَّيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى } } أو المراد الذهاب فليس معناه الإسراع.
قال الطيبي: وأنتم تسعون حال من ضمير الفاعل وهو أبلغ في النهي من لا تسعوا وذلك لأنه مناف لما هو أولى به من الوقار والأدب وعقبه بما يدل على حسن الأدب بقوله ( وَأْتُوهَا وَعَلَيْكُمُ السَّكِينَةُ) ضبطه القرطبي بالنصب على الإغراء والنووي بالرفع على أنها جملة في موضع الحال زاد غيره أو السكينة مبتدأ وعليكم خبره، وذكر الحافظ العراقي في شرح الترمذي أن المشهور في الرواية الرفع، ووقع في رواية الحافظ أبي ذر الهروي للبخاري بالسكينة بالباء.

واستشكل بأنه متعد بنفسه عليكم أنفسكم وفيه نظر لثبوت زيادتها في أحاديث صحيحة كحديث عليكم برخصة الله، وحديث فعليه بالصوم فإنه له وجاء، وحديث عليك بالمرأة قاله لأبي طلحة في قصة صفية، وحديث عليكم بقيام الليل، وحديث عليك بخويصة نفسك وغير ذلك وتعليل هذا المعترض لا يوفي بمقصوده، إذ لا يلزم من تعديه بنفسه امتناع تعديه بالباء إذا ثبت ذلك، فيدل على أن فيه لغتين زاد في الصحيحين من وجه آخر عن أبي هريرة والوقار.
قال عياض والقرطبي: هو بمعنى السكينة وذكر للتأكيد.

وقال النووي: الظاهر أن بينهما فرقًا وأن السكينة التأني في الحركات واجتناب العبث والوقار في الهيئة كغض البصر وخفض الصوت وعدم الالتفات ذكره الحافظ، وقد منع الرضي الاعتراض بأن أسماء الأفعال وإن كان حكمها في التعدي واللزوم حكم الأفعال التي بمعناها لكن كثيرًا ما تزاد الباء في مفعولها لضعفها في العمل.

( فَمَا أَدْرَكْتُمْ) الفاء جواب شرط محذوف أي إذا فعلتم ما أمرتكم به من السكينة فما أدركتم ( فَصَلُّوا) مع الإمام ( وَمَا فَاتَكُمْ) معه ( فَأَتِمُّوا) أي أكملوا وفي رواية: فاقضوا والأولى أكثر رواية وأعمل مالك في المشهور في مذهبه الروايتين فقال يقضي القول ويبني الفعل وعنه بانيًا فيهما عملاً برواية فأتموا وعليها الشافعي حملاً لرواية فاقضوا على معنى الأداء والفراغ فلا يغاير قوله فأتموا، لأنه إذا اتحد مخرج الحديث واختلف في لفظة منه وأمكن رد الاختلاف إلى معنى واحد كان أولى.
وهنا كذلك لأن القضاء وإن كان يطلق على الفائت غالبًا لكنه يطلق على الأداء أيضًا ويرد بمعنى الفراغ كقوله تعالى: { { فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاَةُ } } وعنه يكون قاضيًا فيهما وبه قال أبو حنيفة.
وفي هذا تنبيه لدفع توهم أن النهي إنما هو لمن لم يخف فوت بعض الصلاة فصرح بالنهي وإن فات من الصلاة ما فات وبين ما يفعل فيما فات بقوله فما إلخ.

قال ابن عبد البر: الواجب أي المطلوب إتيان الصلاة بالسكينة ولو خاف فواتها لأمره صلى الله عليه وسلم بذلك وهو الحجة خلافًا لمن جوز السعي لخوف الفوات، وقد أكد ذلك ببيان العلة بقوله: ( فَإِنَّ أَحَدَكُمْ فِي صَلَاةٍ مَا كَانَ) مدة كونه ( يَعْمِدُ) بكسر الميم يقصد ( إِلَى الصَّلَاةِ) أي إنه في حكم المصلي فينبغي له اعتماد ما ينبغي للمصلي اعتماده واجتناب ما ينبغي له اجتنابه، ونبه بهذا على أنه لو لم يدرك من الصلاة شيئًا لكان محصلاً لمقصوده لكونه في صلاة، وعدم الإسراع أيضًا يستلزم كثرة الخطأ وهو معنى مقصود لذاته، وجاءت فيه أحاديث تقدم شيء منها.

وفي الصحيحين عن أنس أن بني سلمة أرادوا أن يتحولوا عن منازلهم فينزلوا قريبًا من النبي صلى الله عليه وسلم فكره أن يعروا منازلهم فقال: يا بني سلمة ألا تحتسبون آثاركم فأقاموا.
ولمسلم عن جابر فقالوا: ما يسرنا إذا كنا تحولنا.

واستدل به الجمهور على حصول فضل الجماعة بإدراك أي جزء من الصلاة لقوله: فما أدركتم فصلوا ولم يفصل بين قليل وكثير، وقيل: إنما يدرك فضلها بركعة وهو مذهب مالك للحديث السابق: من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة وقياسًا على الجمعة.
واستدل به أيضًا على طلب الدخول مع الإمام في أي حالة وجد عليها.
وأصرح منه ما أخرجه ابن أبي شيبة عن رجل من الأنصار مرفوعًا: من وجدني قائمًا أو راكعًا أو ساجدًا فليكن معي على حالتي التي أنا عليها.

واستدل به أيضًا على أن من أدرك الإمام راكعًا لم تحسب له تلك الركعة للأمر بإتمام ما فاته وقد فاته الوقوف والقراءة فيه وهو قول أبي هريرة وجماعة، واختاره ابن خزيمة وغيره، وقواه التقي السبكي.

وحجة الجمهور حديث أبي بكرة لما ركع دون الصف فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: زادك الله حرصًا ولا تعد ولم يأمره بإعادة تلك الركعة، وقد تابع مالكًا في رواية هذا الحديث عن العلاء إسماعيل بن جعفر قال: أخبرني العلاء رواه مسلم بلفظه وهو في مسند أحمد والكتب الستة من طرق عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة بلفظ: إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون وأتوها وأنتم تمشون وعليكم السكينة فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا.
وله طرق كثيرة وألفاظ متقاربة.

وأخرجه الشيخان أيضًا من حديث أبي قتادة بلفظ: إذا أتيتم الصلاة فعليكم السكينة، والباقي نحوه.

( مَالِكٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي صَعْصَعَةَ) بمهملات مفتوحات إلا العين الأولى فساكنة عمرو بن زيد ( الْأَنْصَارِيِّ ثُمَّ الْمَازِنِيِّ) بالزاي والنون من بني مازن بن النجار من الثقات، مات في خلافة المنصور ( عَنْ أَبِيهِ) عبيد الله المدني من ثقات التابعين زاد ابن عيينة وكان يتيمًا في حجر أبي سعيد وكانت أمه عند أبي سعيد أخرجه ابن خزيمة، ومات أبو صعصعة في الجاهلية وابنه عبد الرحمن صحابي.

( أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ) سعد بن مالك بن سنان الصحابي ابن الصحابي ( الْخُدْرِيَّ قَالَ لَهُ:) أي لعبد الله بن عبد الرحمن ( إِنِّي أَرَاكَ تُحِبُّ الْغَنَمَ وَالْبَادِيَةَ) أي لأجل الغنم لأن محبها يحتاج إلى إصلاحها بالمرعى وهو في الغالب يكون في البادية وهي الصحراء التي لا عمارة فيها ( فَإِذَا كُنْتَ فِي غَنَمِكَ أَوْ بَادِيَتِكَ) يحتمل أن أو شك من الراوي وأنها للتنويع لأن الغنم قد لا تكون في البادية وقد يكون في البادية حيث لا غنم قاله الحافظ وغيره.

( فَأَذَّنْتَ بِالصَّلَاةِ) أي أعلمت بوقتها.
وفي رواية للبخاري للصلاة باللام بدل الموحدة أي لأجلها ( فَارْفَعْ صَوْتَكَ بِالنِّدَاءِ) أي الأذان وفيه إشعار بأن أذان مريد الصلاة كان مقررًا عندهم لاقتصاره على الأمر بالرفع دون أصل التأذين، وفيه استحباب أذان المنفرد وهو الراجح عند الشافعية والمالكية إن سافر بناء على أن الأذان حق الوقت، ولو لم يرج حضور من يصلي معه لأنه إن فاته دعاء المصلين لم تفته شهادة من سمعه من غيرهم، وقيل لا يستحب بناء على أنه لاستدعاء الجماعة، ومنهم من فصل بين من يرجو جماعة فيستحب ومن لا فلا.

( فَإِنَّهُ لَا يَسْمَعُ مَدَى) بفتح الميم والقصر أي غاية ( صَوْتِ الْمُؤَذِّنِ) قال البيضاوي: غاية الصوت يكون للمصغي أخفى من ابتدائه فإذا شهد له من بعد عنه ووصل إليه منتهى صوته، فلأن يشهد له من دنا منه وسمع مبادي صوته أولى ( جِنٌّ) قال الرافعي: يشبه أن يريد مؤمني الجن، وأما غيرهم فلا يشهدون للمؤذن بل يفرون وينفرون من الأذان ( وَلَا إِنْسٌ) قيل خاص بالمؤمنين فأما الكافر فلا شهادة له.
قال عياض: وهذا لا يسلم لقائله لما جاء في الآثار من خلافه ( وَلَا شَيْءٌ) ظاهره يشمل الحيوانات والجمادات فهو من العام بعد الخاص ويؤيده رواية ابن خزيمة لا يسمع صوته شجر ولا مدر ولا حجر ولا جن ولا إنس، وله ولأبي داود والنسائي من طريق أبي يحيى عن أبي هريرة بلفظ: المؤذن يغفر له مدى صوته ويشهد له كل رطب ويابس ونحوه للنسائي من حديث البراء وصححه ابن السكن.

قال الخطابي: مدى الشيء غايته أي أنه يستكمل المغفرة إذا استوفى وسعه في رفع الصوت فيبلغ الغاية من المغفرة إذا بلغ الغاية من الصوت، أو أنه كلام تمثيل وتشبيه يريد أن المكان الذي ينتهي إليه الصوت لو قدر أن يكون بين أقصاه وبين مقامه الذي هو فيه ذنوب تملأ تلك المسافة غفرها الله تعالى له واستشهد المنذري لقوله الأول برواية يغفر له مد صوته بتشديد الدال أي بقدر مد صوته.

قال الحافظ: فهذه الأحاديث تبين المراد من قوله ولا شيء وتكلم بعض من لم يطلع عليها في تأويله على ما يقتضيه ظاهره، فقال القرطبي: المراد بالشيء الملائكة، وتعقب بأنهم دخلوا في الجن لأنهم يستخفون عن الأبصار، وقال غيره: المراد كل ما يسمع المؤذن من الحيوان حتى ما لا يعقل لأنه الذي يصح أن يسمع صوته دون الجمادات، ومنهم من حمله على ظاهره ولا يمتنع ذلك عقلاً ولا شرعًا.

قال ابن بزيزة: تقرر في العادة أن السماع والشهادة والتسبيح لا يكون إلا من حي فهل ذلك حكاية على لسان الحال لأن الموجودات ناطقة بلسان حالها بجلال بارئها، أو هو على ظاهره ولا يمتنع عقلاً أن الله يخلق فيها الحياة والكلام.

وتقدم البحث في ذلك في قول النار: أكل بعضي بعضًا، وفي مسلم عن جابر بن سمرة مرفوعًا: إني لأعرف حجرًا بمكة كان يسلم علي قبل أن أبعث، ونقل ابن التين عن أبي عبد الملك أن قوله هنا ولا شيء نظير قوله تعالى: { { وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ } } وتعقبه بأن الآية مختلف فيها وما عرفت وجه هذا التعقب فإنهما سواء في الاحتمال، ونقل الاختلاف إلا أن يقول إن الآية لم يختلف في كونها على عمومها، وإنما اختلف في تسبيح بعض الأشياء هل هو على الحقيقة أو المجاز بخلاف الحديث.

( إِلَّا شَهِدَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) قال الزين بن المنير: السر في هذه الشهادة مع أنها تقع عند عالم الغيب والشهادة أن أحكام الآخرة جرت على أحكام نعت الخلق في الدنيا من توجيه الدعوى والجواب والشهادة، وقال التوربشتي: المراد من هذه الشهادة إشهار المشهود له يوم القيامة بالفضل وعلو الدرجة وكما أن الله يفضح بالشهادة قومًا فكذلك يكرم بالشهادة آخرين.
وقال الباجي: فائدة ذلك أن من يشهد له يوم القيامة يكون أعظم أجرًا في الآخرة ممن أذن فلم يسمعه من يشهد له.

( قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أي هذا الكلام الأخير وهو أنه لا يسمع إلخ، فقد رواه ابن خزيمة من رواية ابن عيينة بلفظ: قال أبو سعيد إذا كنت في البوادي فارفع صوتك بالنداء فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا يسمع، فذكره.
ورواه يحيى بن سعيد القطان عن مالك بلفظ: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا أذنت فارفع صوتك فإنه لا يسمع، فذكره.

فالظاهر أن ذكر الغنم والبادية موقوف خلافًا لإيراد الرافعي الحديث في الشرح بلفظ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي سعيد: إنك رجل تحب الغنم وساقه إلى آخره وسبقه إلى ذلك الغزالي وإمام الحرمين والقاضي حسين وغيرهم وتعقبهم النووي، وأجاب ابن الرفعة عنهم بأنهم فهموا أن قوله سمعته من رسول الله عائد إلى كل ما ذكر ولا يخفى بعده ذكره الحافظ، بل تمنعه روايتا ابن عيينة والقطان، وقد خالف الرافعي نفسه فقال في شرح المسند قوله سمعته يعني قوله أنه لا يسمع إلخ انتهى وهو الصواب.

وفي الحديث استحباب رفع الصوت بالأذان ليكثر من يشهد له ما لم يجهده أو يتأذى به، وفيه أن حب الغنم والبادية ولا سيما عند نزول الفتنة من عمل السلف الصالح، وفيه جواز التبدي ومساكنة الأعراب ومشاركتهم في الأسباب بشرط حظ من العلم وأمن غلبة الجفاء.

قال ابن عبد البر: فيه إباحة لزوم البادية ولكن في البعد عن الجماعة والجمعة ما فيه من البعد عن الفضائل إلا أن الزمان إذا كثر فيه الشر وتعذرت فيه السلامة طابت العزلة وهي خير من خليط السوء والجليس الصالح خير من الوحدة.
وقال صلى الله عليه وسلم: يوشك أن يكون خير مال المسلم غنمًا يتبع بها شعف الجبال ومواضع القطر يفر بدينه من الفتن.

وهذا الحديث أخرجه البخاري هنا عن عبد الله بن يوسف وفي بدء الخلق عن قتيبة بن سعيد كلاهما عن مالك به، ولم يخرجه مسلم.

( مَالِكٍ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ) عبد الله بن ذكوان ( عَنِ الْأَعْرَجِ) عبد الله بن هرمز ( عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ) أي لأجلها، وللنسائي عن قتيبة عن مالك بالصلاة وهي رواية لمسلم أيضًا ويمكن حملهما على معنى واحد ( أَدْبَرَ الشَّيْطَانُ) إبليس على الظاهر، ويدل عليه كلام كثير من الشراح، ويحتمل أن المراد جنس الشيطان وهو كل متمرد من الجن أو الإنس لكن المراد هنا شيطان الجن خاصة ( لَهُ ضُرَاطٌ) جملة إسمية وقعت حالاً بدون واو لحصول الارتباط بالضمير وفي رواية للبخاري وله بالواو.
وقال عياض: يمكن حمله على ظاهره لأنه جسم متغذ يصح منه خروج الريح، ويحتمل أنه عبارة عن شدة نفاره ويقربه رواية مسلم له حصاص بمهملات مضموم الأول، وفسره الأصمعي وغيره بشدة العدو، وقال الطيبي: شبه شغل الشيطان نفسه عن سماع الأذان بالصوت الذي يملأ السمع ويمنعه عن سماع غيره ثم سماه ضراطًا.

( حَتَّى لَا يَسْمَعَ النِّدَاءَ) أي التأذين كما هو رواية التنيسي للموطأ ومسلم من رواية المغيرة عن أبي الزناد والمعنى واحد.
وقال الحافظ: ظاهره أنه يتعمد إخراج ذلك إما ليشتغل بسماع الصوت الذي يخرجه عن سماع المؤذن، أو يصنع ذلك استخفافًا كما تفعله السفهاء، أو ليقابل ما يناسب الصلاة من الطهارة بالحدث، ويحتمل أن لا يتعمد ذلك بل يحصل له عند سماع الأذان شدة خوف يحدث له ذلك الصوت بسببها، وفيه استحباب رفع الصوت بالأذان لأنه ظاهر في أنه يبعد إلى غاية ينتفي فيها سماعه للصوت، وقد بينت الغاية في رواية مسلم من حديث جابر فقال: حتى يكون مكان الروحاء.
قال سليمان يعني الأعمش فسألته أي أبا سفيان راويه عن جابر عن الروحاء فقال هي من المدينة ستة وثلاثون ميلاً، وقد أدرج هذا إسحاق بن راهويه في مسنده فقال: حتى يكون بالروحاء وهي ستة إلخ والمعتمد الأول.

( فَإِذَا قُضِيَ النِّدَاءُ) بضم القاف أي فرغ وانتهى منه ويروى بفتح القاف على حذف الفاعل والمراد المنادي أي: إذا قضى المنادي النداء ( أَقْبَلَ) زاد مسلم في رواية أبي صالح عن أبي هريرة فوسوس ( حَتَّى إِذَا ثُوِّبَ بِالصَّلَاةِ أَدْبَرَ) بضم المثلثة وشد الواو المكسورة قيل من ثاب إذا رجع وقيل من ثوب إذا أشار بثوبه عند الفزع لإعلام غيره.

قال الجمهور: المراد هنا الإقامة وبه جزم أبو عوانة والخطابي والبيهقي وغيرهم وقال القرطبي: ثوب بالصلاة أي أقيمت وأصله أنه رجع إلى ما يشبه الأذان وكل مردد صوت فهو مثوب ويدل عليه رواية مسلم من طريق أبي صالح عن أبي هريرة فإذا سمع الإقامة ذهب.

وزعم بعض الكوفيين أن المراد بالتثويب قول المؤذن بين الأذان والإقامة حي على الصلاة حي على الفلاح قد قامت الصلاة وحكاه ابن المنذر عن أبي يوسف عن أبي حنيفة وزعم أنه تفرد به لكن في سنن أبي داود عن ابن عمر أنه كره التثويب بين الأذان والإقامة فهذا يدل على أن له سلفًا في ذلك في الجملة ويحتمل أن يكون الذي تفرد به القول الخاص.

قال الخطابي: لا تعرف العامة التثويب إلا قول المؤذن الصلاة خير من النوم لكن المراد به هنا الإقامة.

( حَتَّى إِذَا قُضِيَ التَّثْوِيبُ) بالرفع نائب الفاعل والنصب مفعول ( أَقْبَلَ حَتَّى يَخْطِرَ) بفتح أوله وكسر الطاء كما ضبطه عياض عن المتقنين وقال: إنه الوجه ومعناه يوسوس وأصله من خطر البعير بذنبه إذا حركه فضرب به فخذيه قال: وسمعناه من أكثر الرواة بضم الطاء ومعناه المرور أي يدنو منه فيمر بينه وبين قلبه فيشغله عما هو فيه، وبهذا فسره الشارحون للموطأ وبالأول فسره الخليل وضعف الهجري في نوادره الضم وقال: هو يخطر بالكسر في كل شيء ( بَيْنَ الْمَرْءِ وَنَفْسِهِ) أي قلبه وكذا هو للبخاري من وجه آخر في بدء الخلق قال الباجي: المعنى أنه يحول بين المرء وبين ما يريده من إقباله على صلاته وإخلاصه فيها.

( يَقُولُ) الشيطان ( اذْكُرْ كَذَا اذْكُرْ كَذَا) وفي رواية للبخاري ومسلم بواو العطف واذكر كذا وللبخاري أيضًا في صلاة السهو اذكر كذا وكذا ( لِمَا لَمْ يَكُنْ يَذْكُرُ) أي لشيء لم يكن على ذكره قبل دخوله في الصلاة وفي رواية لمسلم لما لم يذكر من قبل، وله أيضًا من رواية عبد ربه عن الأعرج فهناه ومناه وذكره من حاجاته ما لم يكن يذكر.

ومن ثم استنبط أبو حنيفة للذي شكا إليه أنه دفن مالاً ثم لم يهتد لمكانه أن يصلي ويحرص على أن لا يحدث نفسه بشيء من أمر الدنيا ففعل فذكر مكان المال في الحال قيل خصه بما يعلم دون ما لم يعلم لأنه يميل لما يعلم أكثر لتحقق وجوده، والذي يظهر أنه أعم من ذلك فيذكره لما سبق له به علم ليشغل باله به ولما لم يكن سبق له ليوقعه في الفكرة فيه وهذا أعم من أن يكون في أمور الدنيا أو في أمور الدين كالعلم.
لكن هل يشمل ذلك التفكر في معاني الآيات التي يتلوها لا يبعد ذلك لأن غرضه نقص خشوعه وإخلاصه بأي وجه كان.

( حَتَّى يَظَلَّ الرَّجُلُ) بالظاء المعجمة المفتوحة رواية الجمهور ومعناه في الأصل اتصاف المخبر عنه بالخبر نهارًا لكنها هنا بمعنى يصير أو يبقى، وفي رواية بالضاد الساقطة مكسورة أي ينسى، ومنه أن تضل إحداهما أو يخطئ ومنه { { لاَّ يَضِلُّ رَبِّي وَلاَ يَنسَى } } ومفتوحة أي يتحير من الضلال وهو الحيرة والمشهور الأول ( إِنْ يَدْرِي) بكسر همزة إن النافية بمعنى لا، وفي رواية التنيسي لا يدري وروي بفتح الهمزة ونسبها ابن عبد البر لأكثر رواة الموطأ ووجهها بما تعقبه عليه جماعة وقال القرطبي: ليست رواية الفتح بشيء إلا مع رواية الضاد الساقطة فيكون أن والفعل بتأويل المصدر ومفعول ضل إن بإسقاط حرف الجر أي يضل عن درايته وكذا قال عياض لا يصح فتحها إلا على رواية يضل بكسر الضاد فتكون أن مع الفعل مفعوله أي يجهل درايته وينسى عدد ركعاته ( كَمْ صَلَّى) .

وللبخاري في بدء الخلق من وجه آخر عن أبي هريرة: حتى لا يدري أثلاثًا صلى أم أربعًا.

واختلف العلماء في حكمة هروب الشيطان عند سماع الأذان والإقامة دون سماع القرآن والذكر في الصلاة فقيل: حتى لا يشهد للمؤذن يوم القيامة فإنه لا يسمع صوته جن ولا إنس إلا شهد له كما تقدم، وقيل نفورًا عن سماع الأذان ثم يرجع موسوسًا ليفسد على المصلي صلاته فصار رجوعه من جنس فراره، والجامع بينهما الاستخفاف وقيل: لأن الأذان دعاء إلى الصلاة المشتملة على السجود الذي أباه وعصى بسببه.

واعترض بأنه يعود قبل السجود فلو كان هروبه لأجله لم يعد إلا عند فراغه.

وأجيب: بأنه يهرب عند سماع الدعاء لذلك ليغالط نفسه بأنه لم يخالف أمرًا ثم يرجع ليفسد على المصلي سجوده الذي أباه وقيل إنما يهرب لاتفاق الجميع على الإعلان بشهادة الحق وإقامة الشريعة.

واعترض بأن الاتفاق على ذلك حاصل قبل الأذان وبعده من جميع من يصلي.
وأجيب: بأن الإعلان أخص من الاتفاق فإن الإعلان المختص بالأذان لا يشاركه فيه غيره من الجهر بالتكبير والشهادة مثلاً، ولذا قال لعبد الله بن زيد: ألقه على بلال فإنه أندى منك صوتًا أي اقعد بالمد والإطالة والإسماع ليعم الصوت ويطول أمد التأذين فيكثر الجمع ويفوت على الشيطان مقصوده من إلهاء الآدمي عن إقامة الصلاة في جماعة أو إخراجها عن وقتها أو وقت فضيلتها، فيفر حينئذ وقد يئس أن يردهم عما أعلنوا به ثم يرجع لما طبع عليه من الأذى إلى الوسوسة.

وقال ابن الجوزي: على الأذان هيئة يشتد انزعاج الشيطان بسببها لأنه لا يكاد يقع في الأذان رياء ولا غفلة عند النطق به لأن النفس لا تحضره بخلاف الصلاة، فإن النفس تحضر فيها فيفتح لها الشيطان أبواب الوسوسة.

وقد ترجم عليه أبو عوانة في صحيحه الدليل على أن المؤذن في أذانه وإقامته منفي عنه الوسوسة والرياء لتباعد الشيطان منه وقيل لأن الأذان إعلام بالصلاة التي هي أفضل الأعمال بألفاظ هي من أفضل الذكر لا يزاد فيها ولا ينقص منها بل تقع على وفق الأمر فيفر من سماعها، وأما الصلاة فلما يقع من كثير من الناس فيها من التفريط تمكن الخبيث من المفرط فلو قدر أن المصلي وفي جميع ما أمر به فيها لم يقربه فيها إن كان وحده وهو نادر، وكذا إذا انضم إليه من هو مثله وهو أندر أشار إليه ابن أبي جمرة.

قال ابن بطال: ويشبه أن يكون الزجر عن الخروج من المسجد بعد الأذان من هذا المعنى لئلا يكون متشبهًا بالشيطان الذي يفر عند سماع الأذان، وفهم بعض السلف من هذا الحديث الإتيان بصورة الأذان وإن لم يوجد فيه شروط الأذان من وقوعه في الوقت وغير ذلك، ففي مسلم من رواية سهيل بن أبي صالح قال: أرسلني أبي إلى بني حارثة ومعي غلام لنا أو صاحب لنا فناداه مناد من حائط باسمه فأشرف الذي معي على الحائط فلم ير شيئًا فذكرت ذلك لأبي فقال: لو شعرت أنك تلقى هذا لم أرسلك ولكن إذا سمعت صوتًا فناد بالصلاة فإني سمعت أبا هريرة يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: إن الشيطان إذا نودي بالصلاة ولى وله حصاص.

وقال ابن عبد البر: قال مالك: استعمل زيد بن أسلم على معدن بني سليم وكان لا يزال يصاب فيه الناس من الجن فلما وليهم شكوا ذلك إليه فأمرهم بالأذان وأن يرفعوا أصواتهم به ففعلوا فارتفع ذلك عنهم فهم عليه حتى اليوم.
قال مالك: أعجبني ذلك من زيد وذكرت الغيلان عند عمر بن الخطاب فقال: إن شيئًا من الخلق لا يستطيع أن يتحول في غير خلقه ولكن للجن سحرة كما للإنس سحرة فإذا خشيتم شيئًا من ذلك فأذنوا بالصلاة.

وهذا الحديث رواه البخاري عن عبد الله بن يوسف عن مالك به، ورواه في السهو عن الليث عن جعفر بن ربيعة عن الأعرج به، ومسلم من طريق المغيرة الخزاعي عن أبي الزناد به، ومن طريق الأعمش وسهيل كلاهما عن أبي صالح عن أبي هريرة بنحوه.

( مَالِكٍ عَنْ أَبِي حَازِمِ) بمهملة وزاي سلمة ( بْنِ دِينَارٍ) الأعرج المدني العابد الثقة من رجال الجميع قال أبو عمر: كان أبو حازم هذا أحد الفضلاء الحكماء العلماء الثقات الأثبات وله حكم وزهديات ومواعظ ورقائق ومقطعات ومات سنة أربعين ومائة على الأصح وقيل: غير ذلك.

( عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ) بن مالك بن خالد الأنصاري الخزرجي ( السَّاعِدِيِّ) أبي العباس الصحابي ابن الصحابي مات سنة ثمان وثمانين وقيل بعدها وقد جاوز المائة ( أَنَّهُ قَالَ سَاعَتَانِ) قال ابن عبد البر: هذا الحديث موقوف عند جماعة رواة الموطأ ومثله لا يقال بالرأي، وقد رواه أيوب بن سويد ومحمد بن مخلد وإسماعيل بن عمرو عن مالك مرفوعًا.

وروي من طرق متعددة عن أبي حازم عن سهل قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ساعتان ( يُفْتَحُ لَهُمَا أَبْوَابُ السَّمَاءِ) أي فيهما أو من أجل فضيلتهما ( وَقَلَّ دَاعٍ تُرَدُّ عَلَيْهِ دَعْوَتُهُ) إخبار بأن الإجابة في هذين الوقتين هي الأكثر وأن رد الدعاء فيهما يندر ولا يكاد يقع قاله الباجي، فأشار بقوله قل إلى أنها قد ترد لفوات شرط من شروط الدعاء أو ركن من أركانه أو نحو ذلك وقال السيوطي: بل قل هنا للنفي المحض كما هو أحد استعمالاتها.
قال ابن مالك في التسهيل وغيره: ترد قل للنفي المحض فترفع الفاعل متلوًا بصفة مطابقة له نحو: قل رجل يقول ذلك، وقل رجلان يقولان ذلك وهي من الأفعال التي منعت التصرف.

( حَضْرَةُ النِّدَاءِ لِلصَّلَاةِ) أي الأذان ( وَالصَّفُّ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) أي في قتال الكفار لإعلاء كلمة الله.
وقد روى الطبراني والحاكم في المستدرك والديلمي الحديث عن سهل به مرفوعًا.
وروى أبو نعيم في الحلية عن عائشة رفعته: ثلاث ساعات للمرء المسلم ما دعا فيهن إلا استجيب له ما لم يسأل قطيعة رحم أو مأثمًا، حين يؤذن المؤذن بالصلاة حتى يسكت، وحين يلتقي الصفان حتى يحكم الله بينهما، وحين ينزل المطر حتى يسكن.
( وَسُئِلَ مَالِكٌ عَنِ النِّدَاءِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ هَلْ يَكُونُ قَبْلَ أَنْ يَحِلَّ الْوَقْتُ؟ فَقَالَ: لَا يَكُونُ إِلَّا بَعْدَ أَنْ تَزُولَ الشَّمْسُ) لأن وقتها زوال الشمس كالظهر عند جمهور الفقهاء وأجاز أحمد صلاتها قبل الزوال وهو شذوذ.
قال مالك: لو خطب قبل الزوال وصلى بعده لم تجز ويعيدون الجمعة بخطبة ما لم تغرب الشمس نقله ابن حبيب عن مطرف عنه.
وقال ابن سحنون: يعيدون الظهر أبدًا أفذاذًا.

( وَسُئِلَ مَالِكٌ عَنْ تَثْنِيَةِ النِّدَاءِ وَالْإِقَامَةِ وَمَتَى يَجِبُ الْقِيَامُ عَلَى النَّاسِ حِينَ تُقَامُ الصَّلَاةُ؟ فَقَالَ: لَمْ يَبْلُغْنِي فِي النِّدَاءِ وَالْإِقَامَةِ إِلَّا مَا أَدْرَكْتُ النَّاسَ عَلَيْهِ) وهو شفع الأذان لما في البخاري عن أنس قال: أمر بلال أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة قال الزين بن المنير: وصف الأذان بأنه شفع يفسره قوله مثنى أي مرتين مرتين وذلك يقتضي أن يستوي جميع ألفاظه في ذلك لكن لم يختلف في أن كلمة التوحيد التي في آخره مفردة فيحمل قوله مثنى على ما سواها انتهى.
ففيه دليل على أن التكبير ليس مربعًا، وكذا قوله صلى الله عليه وسلم: الأذان مثنى مثنى أخرجه أبو داود الطيالسي عن ابن عمر.
ورواه أبو داود والنسائي وصححه ابن خزيمة وغيره من حديث ابن عمر بلفظ: مرتان مرتان.

( فَأَمَّا الْإِقَامَةُ فَإِنَّهَا لَا تُثَنَّى) حتى قد قامت الصلاة بل تفرد ( وَذَلِكَ الَّذِي لَمْ يَزَلْ عَلَيْهِ أَهْلُ الْعِلْمِ بِبَلَدِنَا) المدينة مع تأييده بالحديث الصحيح، وأما قوله في رواية أيوب السختياني عن أبي قلابة عن أنس: ويوتر الإقامة إلا الإقامة أي: قد قامت الصلاة فالمثبت غير المنفي فهو مدرج من قول أيوب وليس من الحديث كما جزم به الأصيلي وابن منده، لأن إسماعيل بن إبراهيم قال: حدثنا خالد الحذاء عن أبي قلابة عن أنس قال: أمر بلال أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة.
قال إسماعيل: فذكرته لأيوب فقال: إلا الإقامة رواه البخاري ومسلم ونظر فيما قاله الحافظ بأن عبد الرزاق رواه عن معمر عن أيوب بسنده بلفظ: كان بلال يثني الأذان ويوتر الإقامة إلا قوله قد قامت الصلاة، والأصل أن ما كان في الخبر فهو منه حتى يقوم دليل على خلافه ولا دليل في رواية إسماعيل لأن محصلها أن خالدًا كان لا يذكر الزيادة وأيوب يذكرها وكل منهما روى الحديث عن أبي قلابة عن أنس فكان في رواية أيوب زيادة حافظ فتقبل انتهى.

لكن إنما يتم له هذا النظر لو صرح أيوب بروايته له عن أبي قلابة لما ذكر له إسماعيل رواية خالد وهو إنما قال: إلا الإقامة فيتبادر منه أنه إخبار عن رأيه، وأما رواية عبد الرزاق فلا دليل فيها على عدم الإدراج لأنها من محل النزاع، وقد دلت رواية إسماعيل على الإدراج ثم هذا الحديث حجة على من قال إن الإقامة مثناة.

وزعم بعض الحنفية أن إفرادها كان أولاً ثم نسخ بحديث أبي محذورة عند أصحاب السنن وفيه تثنية الإقامة وهو متأخر عن حديث أنس فيكون ناسخًا.
وعورض بأن في بعض طرق حديث أبي محذورة المحسنة التربيع والترجيع فكان يلزمهم القول به، وقد أنكر أحمد على من ادعى النسخ بحديث أبي محذورة، واحتج بأنه صلى الله عليه وسلم رجع بعد الفتح إلى المدينة وأقر بلالاً على إفراد الإقامة وعلمه سعد القرظ فأذن به بعده كما رواه الدارقطني والحاكم.

وقال ابن عبد البر: ذهب أحمد وإسحاق وداود وابن جرير إلى أن ذلك من الاختلاف المباح فإن ربع التكبير الأول في الأذان أو ثناه أو رجع في التشهد أو لم يرجع أو ثنى الإقامة أو أفردها كلها أو إلا قد قامت الصلاة، فالجميع جائز.
قيل الحكمة في تثنية الأذان وإفراد الإقامة أن الأذان لإعلام الغائبين فكرر ليكون أوصل إليهم بخلاف الإقامة فللحاضرين، ومن ثم استحب أن يكون الأذان في مكان عال بخلاف الإقامة، وأن يكون الصوت في الأذان أرفع منه في الإقامة.

قال الحافظ: وهذا توجيه ظاهر وأما قول الخطابي لو سوى بينهما لاشتبه الأمر في ذلك وصار يفوت كثيرًا من الناس صلاة الجماعة ففيه نظر لأن الأذان يستحب على مرتفع ليشترك فيه الإسماع وأن يكون مرتلاً والإقامة مسرعة ويؤخذ حكمة الترجيع مما تقدم وإنما اختص بالتشهد لأنه أعظم ألفاظ الأذان، والله أعلم.

( وَأَمَّا قِيَامُ النَّاسِ حِينَ تُقَامُ الصَّلَاةُ فَإِنِّي لَمْ أَسْمَعْ فِي ذَلِكَ بِحَدٍّ يُقَامُ لَهُ) وما في الصحيحين عن أبي قتادة قال صلى الله عليه وسلم: إذا أقيمت الصلاة فلا تقوموا حتى تروني خرجت فهو نهي عن القيام قبل خروجه وتسويغ له عند رؤيته وهو مطلق غير مقيد بشيء من ألفاظ الإقامة.

ومن ثم اختلف السلف في ذلك فقال مالك: ( إِلَّا أَنِّي أَرَى ذَلِكَ عَلَى قَدْرِ طَاقَةِ النَّاسِ فَإِنَّ مِنْهُمُ الثَّقِيلَ وَالْخَفِيفَ وَلَا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَكُونُوا كَرَجُلٍ وَاحِدٍ) وذهب الأكثر إلى أنهم إذا كان الإمام معهم في المسجد لم يقوموا حتى تفرغ الإقامة وإذا لم يكن في المسجد لم يقوموا حتى يروه، وعن أنس أنه كان يقوم إذا قال المؤذن قد قامت الصلاة رواه ابن المنذر وغيره، ورواه سعيد بن منصور من طريق أبي إسحاق عن أصحاب عبد الله، وعن سعيد بن المسيب أنه إذا قال المؤذن: الله أكبر وجب القيام، وإذا قال: حي على الصلاة عدلت الصفوف، وإذا قال لا إله إلا الله كبر الإمام.
وعن أبي حنيفة يقومون إذا قال حي على الفلاح فإذا قال قد قامت الصلاة كبر الإمام، والحديث حجة على هؤلاء المفصلين.

قال القرطبي: ظاهر هذا الحديث أن الصلاة كانت تقام قبل أن يخرج صلى الله عليه وسلم من بيته، وهو معارض لحديث جابر بن سمرة عند مسلم أن بلالاً كان لا يقيم حتى يخرج صلى الله عليه وسلم ويجمع بينهما بأن بلالاً كان يراقب خروج النبي صلى الله عليه وسلم، فأول ما يراه يشرع في الإقامة قبل أن يراه غالب الناس ثم إذا رأوه قاموا فلا يقوم في مقامه حتى تعتدل صفوفهم.

قال الحافظ: ويشهد له ما رواه عبد الرزاق عن ابن جريج عن ابن شهاب كانوا ساعة يقول المؤذن الله أكبر يقومون إلى الصلاة فلا يأتي النبي صلى الله عليه وسلم حتى تعتدل الصفوف.
وأما حديث أبي هريرة في البخاري بلفظ: أقيمت الصلاة فسوى الناس صفوفهم فخرج صلى الله عليه وسلم، ولفظه في مستخرج أبي نعيم وصف الناس صفوفهم ثم خرج علينا، ولفظه في مسلم أقيمت الصلاة فقمنا فعدلنا الصفوف قبل أن يخرج إلينا النبي صلى الله عليه وسلم فأتى فقام مقامه فيجمع بينه وبين حديث أبي قتادة بأن ذلك ربما وقع لبيان الجواز، وبأن صنعهم في حديث أبي هريرة كان سبب النهي في حديث أبي قتادة، وأنهم كانوا يقومون ساعة تقام الصلاة ولو لم يخرج صلى الله عليه وسلم فنهاهم عن ذلك لاحتمال أن يقع له شغل يبطئ فيه عن الخروج فيشق عليهم انتظاره ولا يرد هذا حديث أنس في الصحيح أنه قام في مقامه طويلاً في مناجاة بعض القوم لاحتمال وقوعه نادرًا أو فعله لبيان الجواز انتهى.

( وَسُئِلَ مَالِكٌ عَنْ قَوْمٍ حُضُورٍ أَرَادُوا أَنْ يَجْمَعُوا الْمَكْتُوبَةَ فَأَرَادُوا أَنْ يُقِيمُوا وَلَا يُؤَذِّنُوا؟ قَالَ: ذَلِكَ مُجْزِئٌ عَنْهُمْ) إذ الأذان ليس بشرط في صحة الصلاة عند جمهور الفقهاء خلافًا لعطاء ( وَإِنَّمَا يَجِبُ النِّدَاءُ فِي مَسَاجِدِ الْجَمَاعَاتِ الَّتِي تُجْمَعُ فِيهَا الصَّلَاةُ) وجوب السنن المؤكدة على المذهب وأما في المصر فواجب كفاية، فلو اتفقوا على تركه أثموا وقوتلوا عليه لأنه شعار الإسلام ومن العلامات المفرقة بين دار الإسلام والكفر.
وفي الصحيحين واللفظ لمسلم عن أنس: كان صلى الله عليه وسلم يغير إذا طلع الفجر وكان يستمع الأذان فإن سمع أذانًا أمسك وإلا أغار.

( وَسُئِلَ مَالِكٌ عَنْ تَسْلِيمِ الْمُؤَذِّنِ عَلَى الْإِمَامِ وَدُعَائِهِ إِيَّاهُ لِلصَّلَاةِ وَعَنْ أَوَّلُ مَنْ سُلِّمَ عَلَيْهِ؟ فَقَالَ: لَمْ يَبْلُغْنِي أَنَّ التَّسْلِيمَ كَانَ فِي الزَّمَنِ الْأَوَّلِ) قال الباجي: أي لم يكن في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم، وإنما كان المؤذن يؤذن فإن كان الإمام في شغل جاء المؤذن فأعلمه باجتماع الناس دون تكلف ولا استعمال، فأما ما يتكلف اليوم من وقوف المؤذن بباب الأمير والسلام عليه والدعاء للصلاة بعد ذلك فإنه من المباهاة والتكبر والصلاة تنزه عن ذلك.

وقد قال القاضي أبو إسحاق في المبسوط عن عبد الملك بن الماجشون كيفية السلام: السلام عليك أيها الأمير ورحمة الله وبركاته الصلاة يرحمك الله.
قال إسماعيل: روي أن عمر أنكر على أبي محذورة دعاءه إياه إلى الصلاة وأول من فعله معاوية.

وقال ابن عبد البر: أول من فعل ذلك معاوية أمر المؤذن أن يشعره ويناديه فيقول: السلام على أمير المؤمنين الصلاة يرحمك الله، وقيل أول من فعله المغيرة بن شعبة والأول أصح انتهى.

وروى ابن أبي شيبة عن مجاهد قال: لما قدم عمر مكة أتاه أبو محذورة وقد أذن فقال: الصلاة يا أمير المؤمنين حي على الصلاة حي على الفلاح.
قال: ويحك أمجنون أنت أما كان في دعائك الذي دعوتنا ما نأتيك حتى تأتينا.

وفي الأوائل للعسكري من طريق الواقدي عن ابن أبي ذئب قال: قلت للزهري من أول من سلم عليه فقيل السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته حي على الصلاة حي على الفلاح الصلاة يرحمك الله؟ فقال: معاوية بالشام ومروان بن الحكم بالمدينة.

وروى ابن سعد في طبقاته عن محمد بن سعد القرظ قال: كنا نؤذن على عمر بن عبد العزيز في داره للصلاة فنقول السلام عليك أيها الأمير ورحمة الله وبركاته حي على الصلاة حي على الفلاح وفي الناس الفقهاء فلا ينكرون ذلك، وبهذا كله تعلم ضعف ما في خطط المقريزي.

قال الواقدي وغيره: كان بلال يقف على باب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الأذان فيقول: السلام عليك يا رسول الله فلما ولي أبو بكر كان سعد القرظ يقف فيقول: السلام عليك يا خليفة رسول الله الصلاة يا خليفة رسول الله، فلما ولي عمر ولقب أمير المؤمنين كان المؤذن يقف على بابه ويقول: السلام عليك يا أمير المؤمنين الصلاة يا أمير المؤمنين، ثم إن عمر أمر المؤذن فزاد فيها رحمك الله، ويقال إن عثمان هو الذي زادها، وما زال المؤذنون إذا أذنوا سلموا على الخلفاء وأمراء الأعمال ثم يقيمون الصلاة بعد السلام فيخرج الخليفة أو الأمير فيصلي بالناس هكذا كان العمل مدة أيام بني أمية ثم مدة بني العباس حتى ترك الخلفاء الصلاة بالناس فترك ذلك انتهى.
والواقدي متروك ولعل غيره تبعه، والله أعلم.

( وَسُئِلَ مَالِكٌ عَنْ مُؤَذِّنٍ أَذَّنَ لِقَوْمٍ ثُمَّ انْتَظَرَ هَلْ يَأْتِيهِ أَحَدٌ فَلَمْ يَأْتِهِ أَحَدٌ فَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَصَلَّى وَحْدَهُ ثُمَّ جَاءَ النَّاسُ بَعْدَ أَنْ فَرَغَ أَيُعِيدُ الصَّلَاةَ مَعَهُمْ؟ قَالَ: لَا يُعِيدُ الصَّلَاةَ وَمَنْ جَاءَ بَعْدَ انْصِرَافِهِ) فراغه من الصلاة ( فَلْيُصَلِّ لِنَفْسِهِ وَحْدَهُ) قال ابن نافع: معناه أن المؤذن هنا هو الإمام الراتب ولم يرد المؤذن، فإن لم يكن الإمام الراتب فلا بأس أن يجمعوا تلك الصلاة ويعيدها المؤذن معهم إن شاء.

قال ابن عبد البر: وهذا التفسير حسن على أصل قول مالك المسجد الذي له إمام راتب لا يجمع فيه صلاة واحدة مرتين وبه قال سفيان الثوري وأجازه أشهب.

وقال الباجي: إذا كان المؤذن إمامًا راتبًا فكما قال مالك: لأن الاعتبار في الجماعة بالإمام دون المأموم لما في ذلك من مخالفة الأئمة ومفارقة الجماعة، ولأن ذلك يؤدي أن لا تراعى أوقات الصلاة ويؤخر من شاء ويصلي في جماعة، وإن لم يكن المؤذن إمامًا راتبًا فقال ابن نافع حكمه حكم الفذ، وقال عيسى كالجماعة ويظهر لي أن قول عيسى في مسجد له مؤذن راتب وليس له إمام راتب لتعلق حكم الجماعة به دون المؤذن.

وقال ابن عبد البر: ولا أصل لهذه المسألة إلا المنع من الاختلاف على الأئمة وردع أهل البدع ليتركوا إظهار بدعتهم لأنهم كانوا يرغبون عن صلاة الإمام ثم يأتون بعده فيجمعون بإمامهم.

وقال أبو حنيفة والشافعي والجمهور لا بأس أن يجمع في المسجد مرتين ولم ينه الله عنه ولا رسوله ولا اتفق عليه العلماء، ودليل الجواز حديث أنه صلى الله عليه وسلم صلى إحدى صلاتي العشي فلما سلم دخل رجل لم يدرك الصلاة معه فاستقبل القبلة ليصلي فقال صلى الله عليه وسلم: ألا رجل يتصدق على هذا فيصلي معه فقام رجل ممن صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم فصلى معه انتهى.
والجواب أن هذه واقعة حال محتملة فلا ينهض حجة في عدم الكراهة.

( وَسُئِلَ مَالِكٌ عَنْ مُؤَذِّنٍ أَذَّنَ لِقَوْمٍ ثُمَّ تَنَفَّلَ فَأَرَادُوا أَنْ يُصَلُّوا بِإِقَامَةِ غَيْرِهِ؟ فَقَالَ: لَا بَأْسَ بِذَلِكَ إِقَامَتُهُ وَإِقَامَةُ غَيْرِهِ سَوَاءٌ) وبهذا قال أبو حنيفة وقال الليث والثوري والشافعي وأكثر أهل الحديث: من أذن فهو يقيم لحديث عبد الله بن الحارث الصدائي قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما كان الصبح أمرني فأذنت ثم قام إلى الصلاة فجاء بلال ليقيم فقال صلى الله عليه وسلم: إن أخا صداء أذن ومن أذن فهو يقيم.

قال ابن عبد البر: انفرد به عبد الرحمن بن زياد الإفريقي وليس بحجة عندهم، وحجة مالك حديث عبد الله بن زيد حين أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأذان فأمره أن يلقيه على بلال وقال: إنه أندى منك صوتًا فلما أذن بلال قال صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن زيد: أقم أنت فأقام وهذا الحديث أحسن إسنادًا.

( قَالَ مَالِكٌ: لَمْ تَزَلِ الصُّبْحُ يُنَادَى لَهَا قَبْلَ الْفَجْرِ) في أول السدس الأخير من الليل قاله ابن وهب وسحنون.
وقال ابن حبيب: نصف الليل، وحجة العمل المذكور حديث ابن عمر الآتي إن بلالاً ينادي بليل وبه قال الجمهور والأئمة الثلاثة، وقال أبو حنيفة وطائفة لا يؤذن لها حتى يطلع الفجر ( فَأَمَّا غَيْرُهَا مِنَ الصَّلَوَاتِ فَإِنَّا لَمْ نَرَهَا يُنَادَى لَهَا إِلَّا بَعْدَ أَنْ يَحِلَّ وَقْتُهَا) لحرمته قبل الوقت في غير الصبح.

قال الكرخي من الحنفية: كان أبو يوسف يقول: بقول أبي حنيفة: لا يؤذن لها حتى أتى المدينة فرجع إلى قول مالك وعلم أنه عملهم المتصل.

قال الباجي: يظهر لي أنه ليس في الأثر ما يقتضي أن الأذان قبل الفجر لصلاة الفجر فإن كان الخلاف في الأذان ذلك الوقت فالآثار حجة لمن أثبته وإن كان الخلاف في المقصود به فيحتاج إلى ما يبين ذلك من إبطال الأذان إلى الفجر أو غير ذلك مما يدل عليه.

( مَالِكٍ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ الْمُؤَذِّنَ جَاءَ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ يُؤْذِنُهُ لِصَلَاةِ الصُّبْحِ فَوَجَدَهُ نَائِمًا فَقَالَ: الصَّلَاةُ خَيْرٌ مِنَ النَّوْمِ فَأَمَرَهُ عُمَرُ أَنْ يَجْعَلَهَا فِي نِدَاءِ الصُّبْحِ) هذا البلاغ أخرجه الدارقطني في السنن من طريق وكيع في مصنفه عن العمري عن نافع عن ابن عمر عن عمر، وأخرج أيضًا عن سفيان عن محمد بن عجلان عن نافع عن ابن عمر عن عمر أنه قال لمؤذنه: إذا بلغت حي على الفلاح في الفجر فقل الصلاة خير من النوم الصلاة خير من النوم، فقصر ابن عبد البر في قوله لا أعلم هذا روي عن عمر من وجه يحتج به وتعلم صحته، وإنما أخرجه ابن أبي شيبة من حديث هشام بن عروة عن رجل يقال له إسماعيل لا أعرفه قال: والتثويب محفوظ في أذان بلال وأبي محذورة في صلاة الصبح للنبي صلى الله عليه وسلم، والمعنى هنا أن نداء الصبح موضع قوله لا هنا كأنه كره أن يكون منه نداء آخر عند باب الأمير كما أحدثته الأمراء، وإلا فالتثويب أشهر عند العلماء والعامة من أن يظن بعمر أنه جهل ما سن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر به مؤذنيه بلالاً بالمدينة، وأبا محذورة بمكة انتهى.

ونحو تأويله قول الباجي: يحتمل أن عمر قال ذلك إنكارًا لاستعماله لفظة من ألفاظ الأذان في غيره وقال له اجعلها فيه يعني لا تقلها في غيره انتهى.
وهو حسن متعين: فقد روى ابن ماجه من طريق ابن المسيب عن بلال أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم يؤذنه لصلاة الفجر فقيل هو نائم فقال الصلاة خير من النوم مرتين، فأقرت في تأذين الفجر فثبت الأمر على ذلك.

وروى بقي بموحدة ابن مخلد عن أبي محذورة قال: كنت غلامًا صبيًا فأذنت بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم الفجر يوم حنين: فلما انتهيت إلى حي على الفلاح قال: ألحق فيها الصلاة خير من النوم، وقال مالك في مختصر ابن شعبان: لا يترك المؤذن قوله في نداء الصبح الصلاة خير من النوم في سفر ولا حضر ومن أذن في ضيعته متنحيًا عن الناس فتركه فلا بأس وأحب إلينا أن يأتي به.

( مَالِكٍ عَنْ عَمِّهِ أَبِي سُهَيْلِ) بضم السين واسمه نافع ( بْنِ مَالِكٍ عَنْ أَبِيهِ) مالك بن أبي عامر الأصبحي ( أَنَّهُ قَالَ: مَا أَعْرِفُ شَيْئًا مِمَّا أَدْرَكْتُ عَلَيْهِ النَّاسَ) يعني الصحابة ( إِلَّا النِّدَاءَ بِالصَّلَاةِ) فإنه باق على ما كان عليه لم يدخله تغيير ولا تبديل بخلاف الصلاة فقد أخرت عن أوقاتها وسائر الأفعال قد دخلها التغيير، فأنكر أكثر أفعال أهل عصره والتغيير يمكن أن يلحق صفة الفعل كتأخير الصلاة وأن يلحق الفعل جملة كترك الأمر بكثير من المعروف والنهي عن كثير من المنكر مع علم الناس بذلك كله قاله الباجي.

وقال ابن عبد البر فيه: إن الأذان لم يتغير عما كان عليه، وكذا قال عطاء ما أعلم تأذينهم اليوم يخالف تأذين من مضى وفيه تغير الأحوال عما كانت عليه زمن الخلفاء الأربع في أكثر الأشياء، واحتج بهذا بعض من لم ير عمل أهل المدينة حجة وقال لا حجة إلا فيما نقل بالأسانيد الصحاح عن النبي صلى الله عليه وسلم أو عن الخلفاء الأربعة ومن سلك سبيلهم.

( مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ سَمِعَ الْإِقَامَةَ وَهُوَ بِالْبَقِيعِ فَأَسْرَعَ الْمَشْيَ إِلَى الْمَسْجِدِ) بدون جري لأن الإسراع المنهي عنه بقوله صلى الله عليه وسلم: فلا تأتوها وأنتم تسعون هو الجري لأنه ينافي الوقار المشروع في الصلاة وفي قصدها، وأما ما لا ينافي الوقار فجائز وكذا قول مالك بجواز تحريك الفرس لمن سمع الأذان ليدرك الصلاة يريد تحريكه للإسراع في المشي دون جري ولا خروج عن حد الوقار قاله الباجي.

وقال ابن عبد البر: الواجب أن يأتي الصلاة بالسكينة خاف فواتها أو لم يخف لأمره صلى الله عليه وسلم بذلك وهو الحجة قال وقال بعض أصحابنا إن ابن عمر لم يزد على مشيه المعهود لأن الإسراع كان عادته لبعده من الزهو وليس ببين لأن نافعًا مولاه قد عرف مشيه، ثم أخبر أنه لما سمع الإقامة أسرع، ولا يخالفه قول محمد بن زيد: كان ابن عمر إذا مشى إلى الصلاة لو مشت معه نملة ما سبقها لأنه في حال لا يخاف فيها فوات شيء من الصلاة وهي أغلب أحواله انتهى.



رقم الحديث 151 وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ أَدْبَرَ الشَّيْطَانُ، لَهُ ضُرَاطٌ، حَتَّى لَا يَسْمَعَ النِّدَاءَ، فَإِذَا قُضِيَ النِّدَاءُ، أَقْبَلَ حَتَّى إِذَا ثُوِّبَ بِالصَّلَاةِ أَدْبَرَ حَتَّى إِذَا قُضِيَ التَّثْوِيبُ أَقْبَلَ.
حَتَّى يَخْطِرَ بَيْنَ الْمَرْءِ وَنَفْسِهِ، يَقُولُ: اذْكُرْ كَذَا، اذْكُرْ كَذَا، لِمَا لَمْ يَكُنْ يَذْكُرُ.
حَتَّى يَظَلَّ الرَّجُلُ إِنْ يَدْرِي كَمْ صَلَّى.


( مَالِكٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ) الأنصاري ( أَنَّهُ قَالَ) مرسلاً ( كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) لما كثر الناس ( قَدْ أَرَادَ أَنْ يَتَّخِذَ خَشَبَتَيْنِ) هما الناقوس وهو خشبة طويلة تضرب بخشبة أصغر منها فيخرج منهما صوت كما في الفتح وغيره ( يُضْرَبُ بِهِمَا لِيَجْتَمِعَ النَّاسُ لِلصَّلَاةِ) .

قال ابن عمر: كان المسلمون حين قدموا المدينة يجتمعون فيتحينون الصلاة ليس ينادى لها فتكلموا يومًا في ذلك فقال بعضهم: أنتخذ ناقوسًا مثل ناقوس النصارى، وقال بعضهم: بل بوقًا مثل قرن اليهود، الحديث في الصحيحين.

وقال أنس: لما كثر الناس ذكروا أن يعلموا وقت الصلاة بشيء يعرفونه فذكروا أن يوروا نارًا أو يضربوا ناقوسًا رواه البخاري ومسلم وفيه اختصار وهو في أبي داود وغيره بإسناد صحيح عن أبي عمير بن أنس عن عمومة له من الأنصار اهتم النبي صلى الله عليه وسلم للصلاة كيف يجمع الناس لها قيل له: انصب راية فإذا رآها الناس أذن بعضهم بعضًا فلم يعجبه ذلك فذكر له القبع أي شبور اليهود فقال: هو من أمر اليهود، فذكر له الناقوس فقال هو من أمر النصارى وكأنه كرهه أولاً ثم أمر بعمله، ففي أبي داود عن عبد الله بن زيد لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناقوس يعمل ليضرب به للناس ليجتمعوا للصلاة طاف بي وأنا نائم رجل يحمل ناقوسًا.

( فَأُرِيَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ) بن ثعلبة بن عبد ربه أبو محمد ( الْأَنْصَارِيُّ ثُمَّ مِنْ بَنِي الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ) فيقال له الخزرجي الحارثي شهد العقبة وبدرًا.
قال الترمذي: لا نعرف له عن النبي صلى الله عليه وسلم شيئًا إلا هذا الحديث الواحد في الأذان وكذا قال ابن عدي.

قال في الإصابة: وأطلق غير واحد أنه ما له غيره وهو خطأ فقد جاءت عنه أحاديث ستة أو سبعة جمعتها في جزء مفرد، ومات سنة اثنين وثلاثين وهو ابن أربع وستين وصلى عليه عثمان قاله ولده محمد بن عبد الله نقله المدايني.
وقال الحاكم: الصحيح أنه قتل بأحد فالروايات عنه كلها منقطعة وخالف ذلك في المستدرك.

( خَشَبَتَيْنِ فِي النَّوْمِ) متعلق بأري ( فَقَالَ: إِنَّ هَاتَيْنِ لَنَحْوٌ مِمَّا يُرِيدُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أن يجمع به الناس للصلاة ( فَقِيلَ أَلَا تُؤَذِّنُونَ لِلصَّلَاةِ) وأسمعه الأذان فاستيقظ ( فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ اسْتَيْقَظَ فَذَكَرَ لَهُ ذَلِكَ) فقال: إنها لرؤيا حق إن شاء الله ( فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْأَذَانِ) كذا أورد الحديث مرسلاً مختصرًا كما سمعه من يحيى بن سعيد.

قال ابن عبد البر: وروى قصة عبد الله بن زيد هذه في بدء الأذان جماعة من الصحابة بألفاظ مختلفة ومعان متقاربة والأسانيد في ذلك متواترة وهي من وجوه حسان انتهى.

وأخرج أبو داود والترمذي وقال حسن صحيح وابن ماجه وابن خزيمة وابن حبان وصححاه من حديث محمد بن عبد الله بن زيد قال: حدثني أبي لما أمر صلى الله عليه وسلم بالناقوس يعمل به للناس ليجتمعوا للصلاة طاف بي وأنا نائم رجل يحمل ناقوسًا في يده فقلت: يا عبد الله أتبيع الناقوس؟ قال: وما تصنع به فقلت: ندعو به إلى الصلاة، قال: أفلا أدلك على ما هو خير من ذلك؟ فقلت: بلى.
قال: تقول الله أكبر فذكره مربع التكبير بلا ترجيع.
قال: ثم استأخر عني غير بعيد فقال: تقول إذا قمت إلى الصلاة فذكر الإقامة مفردة وثنى قد قامت الصلاة، فلما أصبحت أتيت رسول الله فأخبرته بما رأيت فقال: إنها لرؤيا حق إن شاء الله فقم مع بلال فألق عليه ما رأيت فليؤذن به فإنه أندى منك صوتًا فقمت مع بلال فجعلت ألقيه عليه ويؤذن به قال: فسمع بذلك عمر بن الخطاب وهو في بيته فخرج يجر رداءه يقول: والذي بعثك بالحق يا رسول الله لقد رأيت مثل ما أري.
فقال صلى الله عليه وسلم: فلله الحمد اهـ.
لفظ أبي داود وهو كالشرح لمرسل الموطأ.

ونقل ابن خزيمة عن محمد بن يحيى الذهلي بذال ولام أن هذه الطريق أصح طرقه وشاهده حديث عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن سعيد بن المسيب مرسلاً، ومنهم من وصله عن سعيد عن عبد الله بن زيد والمرسل أقوى إسنادًا.
ولأحمد عن معاذ بن جبل أن عبد الله بن زيد قال: يا رسول الله إني رأيت فيما يرى النائم ولو قلت إني لم أكن نائمًا لصدقت رأيت شخصًا عليه ثوبان أخضران فاستقبل القبلة فقال: الله أكبر، فذكر الحديث.

وعند أبي داود في حديث أبي عمير بن أنس عن عمومته من الأنصار وكان عمر قد رآه قبل ذلك فكتمه عشرين يومًا ثم أخبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: ما منعك أن تخبرني؟ فقال: سبقني عبد الله بن زيد فاستحيت وظاهره يعارض ما قبله.

قال الحافظ: ولا مخالفة لأنه يحمل على أنه لم يخبر بذلك عقب إخبار عبد الله بن زيد بل متراخيًا عنه فقوله: ما منعك أن تخبرني أي عقب إخبار عبد الله فاعتذر بالاستحياء فدل على أنه لم يخبره على الفور انتهى.
وبعده لا يخفى مع قوله فسمع عمر فخرج يقول: يا رسول الله لقد رأيت مثل ما أري فجعله حالاً من فاعل خرج أي قائلاً في حال خروجه، لكنه لا يمتنع للجمع بين الحديثين مع صحتهما.

وللطبراني في الأوسط أن أبا بكر أيضًا رأى الأذان، وذكر الجيلي في شرح التنبيه أنه رآه أربعة عشر رجلاً، وأنكره ابن الصلاح فقال: لم أجده بعد إمعان البحث، ثم النووي فقال في تنقيحه: هذا ليس بثابت ولا معروف، وإنما الثابت خروج عمر يجر رداءه.
وفي سيرة مغلطاي عن بعض كتب الفقهاء أنه رآه سبعة من الأنصار.

قال الحافظ: ولا يثبت شيء من ذلك إلا لعبد الله بن زيد، وقصة عمر جاءت في بعض طرقه.

وفي مسند الحارث بن أبي أسامة بسند واهٍ عن كثير الحضرمي قال: أول من أذن بالصلاة جبريل في السماء الدنيا فسمعه عمر وبلال فسبق عمر بلالاً فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم، ثم جاء بلال فقال له: سبقك بها عمر.
قال: وقد استشكل إثبات حكم الأذان برؤيا عبد الله بن زيد لأن رؤيا غير الأنبياء لا ينبني عليها حكم شرعي.

وأجيب باحتمال مقارنة الوحي لذلك أو لأنه صلى الله عليه وسلم أمر بمقتضى الرؤيا لينظر أيقر على ذلك أم لا.
ولا سيما لما رأى نظمها يبعد دخول الوسواس فيه وهذا ينبني على القول بجواز اجتهاده في الأحكام وهو المنصور في الأصول، ويؤيد الأول ما رواه عبد الرزاق وأبو داود في المراسيل عن عبيد بن عمير أحد كبار التابعين أن عمر لما رأى الأذان جاء ليخبر به النبي صلى الله عليه وسلم فوجد الوحي قد ورد بذلك فما راعه إلا أذان بلال فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: سبقك بذلك الوحي وهذا أصح مما حكى الداودي عن ابن إسحاق أن جبريل أتى النبي صلى الله عليه وسلم بالأذان قبل أن يخبره عبد الله بن زيد وعمر بثمانية أيام.

وجاءت أحاديث تدل على أن الأذان شرع بمكة قبل الهجرة.
منها للطبراني عن ابن عمر قال: لما أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم أوحى الله إليه الأذان فنزل به فعلمه بلالاً، وفي إسناده طلحة بن زيد وهو متروك وللدارقطني عن أنس أن جبريل أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالأذان حين فرضت الصلاة وإسناده ضعيف أيضًا.
ولابن مردويه عن عائشة مرفوعًا: لما أسري بي أذن جبريل فظنت الملائكة أنه يصلي بهم فقدمني فصليت وفيه من لا يعرف.
وللبزار وغيره عن علي: لما أراد الله أن يعلم رسوله الأذان أتاه جبريل بالبراق فركبها، الحديث.
وفيه: إذ خرج ملك من الحجاب فقال: الله أكبر، وفي آخره فأخذ الملك بيده فأم بأهل السماء، وفي إسناده زياد بن المنذر أبو الجارود وهو متروك أيضًا، ويمكن على تقدير الصحة أن يحمل على تعدد الإسراء فيكون وقع ذلك بالمدينة.
وقول القرطبي لا يلزم من كونه سمعه ليلة الإسراء أن يكون مشروعًا في حقه فيه نظر لقوله أوله لما أراد الله أن يعلم رسوله الأذان، وكذا قول المحب الطبري يحمل الأذان ليلة الإسراء على الأذان اللغوي وهو الإعلام فيه نظر أيضًا لتصريحه بصفته المشروعة فيه، والحق أنه لا يصح شيء من هذه الأحاديث.

وقد جزم ابن المنذر بأنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي بلا أذان منذ فرضت الصلاة بمكة إلى أن هاجر إلى المدينة إلى أن وقع التشاور في ذلك على ما في حديث ابن عمر ثم في حديث عبد الله بن زيد انتهى.

ومن الواهي أيضًا ما لابن شاهين عن زياد بن المنذر حدثني العلاء قال قلت لابن الحنفية: كنا نتحدث أن الأذان رؤيا رآها رجل من الأنصار ففزع وقال: عمدتم إلى أحسن دينكم فزعمتم أنه كان رؤيا هذا والله الباطل، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما عرج به انتهى إلى مكان من السماء وقف وبعث الله ملكًا ما رآه أحد في السماء قبل ذلك اليوم فعلمه الأذان ففيه كما رأيت زياد بن المنذر متروك، وقد صرح الحافظ الذهبي بأن هذا باطل.

قال الحافظ: وقد حاول السهيلي الجمع فتكلف وتعسف والأخذ بما صح أولى فقال بانيًا على صحة الحكمة في مجيء الأذان على لسان الصحابي أن النبي صلى الله عليه وسلم سمعه فوق سبع سموات وهو أقوى من الوحي فلما تأخر الأمر بالأذان عن فرض الصلاة وأراد إعلامهم بالوقت رأى الصحابي المنام فقصه فوافق ما كان صلى الله عليه وسلم سمعه فقال: إنها لرؤيا حق، وعلم حينئذ أن مراد الله بما أراه في السماء أن يكون سنة في الأرض وتقوى ذلك بموافقة عمر لأن السكينة تنطق على لسانه والحكمة أيضًا في إعلام الناس به على غير لسانه صلى الله عليه وسلم التنويه بقدره والرفع لذكره بلسان غيره ليكون أقوى لأمره وأفخر لشأنه انتهى ملخصًا.

والثاني حسن بديع ويؤخذ من عدم الاكتفاء برؤية عبد الله بن زيد حتى أضيف إليه عمر للتقوية التي ذكرها ولم يقتصر على عمر ليصير في معنى الشهادة وجاء في رواية ضعيفة ما ظاهره أن بلالاً رأى أيضًا لكنها مؤولة فإن لفظها سبقك بها بلال فيحمل على مباشرة التأذين برؤيا عبد الله بن زيد، ومما يكثر السؤال عنه هل باشر النبي صلى الله عليه وسلم الأذان بنفسه، وقد روى الترمذي بإسناد حسن عن يعلى بن مرة الثقفي أن النبي صلى الله عليه وسلم أذن في سفر وصلى بأصحابه وهم على رواحلهم السماء من فوقهم والبلة من أسفلهم.

قال السهيلي: فنزع بعض الناس بهذا الحديث أنه صلى الله عليه وسلم أذن بنفسه، لكن روى الحديث الدارقطني بسند الترمذي ومتنه وقال فيه: فأمر بالأذان فقام المؤذن فأذن والمفصل يقضي على المجمل المحتمل انتهى.

وتبع هذا البعض النووي فجزم أن النبي صلى الله عليه وسلم أذن مرة في سفره وعزاه للترمذي وقواه، وتعقبه الحافظ فقال: ولكن وجدنا الحديث في مسند أحمد من الوجه الذي أخرجه منه الترمذي بلفظ فأمر بلالاً فأذن فعرف أن في رواية الترمذي اختصارًا وأن معنى أذن أمر بلالاً به كما يقال أعطى الخليفة العالم الفلاني ألفًا وإنما باشر العطاء غيره ونسب للخليفة لكونه أمر به انتهى.

وانتصر بعض للنووي تبعًا للبعض بأن هذا إنما يصار إليه لو لم يحتمل تعدد الواقعة، أما إذا أمكن فيجب المصير إليه إبقاء لأذن على حقيقته عملاً بقاعدة الأصول أنه يجب إبقاء اللفظ على حقيقته وهو مردود بأن ذلك إنما يصح إذا اختلف سند الحديث ومخرجه، أما مع الاتحاد فلا ويجب رجوع المجمل إلى المفصل عملاً بقاعدة الأصول وأهل الحديث.

وقال بعض المحدثين لو لم نكتب الحديث من ستين وجهًا ما عقلناه لاختلاف الرواة في ألفاظه ونحوها: نعم قال السيوطي في شرح البخاري: قد ظفرت بحديث آخر مرسلاً رواه سعيد بن منصور، حدثنا أبو معاوية، حدثنا عبد الرحمن بن أبي بكر القرشي، عن ابن أبي مليكة، قال: أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرة فقال: حي على الفلاح قال وهذه رواية لا تقبل التأويل انتهى.
فهذا الذي يجزم فيه بالتعدد لاختلاف سنده وانظر ما أحسن قوله آخر لكن لم يبين هل كان في سفر أو حضر.

( مَالِكٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَزِيدَ) بتحتية وزاي ( اللَّيْثِيِّ) المدني نزيل الشام من ثقات التابعين ورجال الجميع، مات سنة خمس أو سبع ومائة وقد جاوز الثمانين، ولأبي عوانة من رواية ابن وهب عن مالك ويونس عن الزهري أن عطاء بن يزيد أخبره ( عَنْ أَبِي سَعِيدٍ) سعد بن مالك بن سنان بن عبيد الأنصاري ( الْخُدْرِيِّ) له ولأبيه صحبة واستصغر بأحد ثم شهد ما بعدها روى الكثير ومات بالمدينة سنة ثلاث أو أربع أو خمس وستين وقيل سنة أربع وسبعين.

( أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِذَا سَمِعْتُمُ النِّدَاءَ) أي الأذان سمي به لأنه نداء إلى الصلاة ودعاء إليها ( فَقُولُوا مِثْلَ مَا يَقُولُ الْمُؤَذِّنُ) ادعى ابن وضاح أن قوله المؤذن مدرج وأن الحديث انتهى بقوله ما يقول، وتعقب بأن الإدراج لا يثبت بمجرد الدعوى، وقد اتفقت الروايات في الصحيحين والموطأ على إثباتها، ولم يصب صاحب العمدة في حذفها وظاهره اختصاص الإجابة بمن سمع حتى لو رأى المؤذن على المنارة مثلاً في الوقت وعلم أنه يؤذن، لكن لم يسمع أذانه لبعد أو صمم لا يشرع له المتابعة قاله النووي في شرح المهذب، وقال مثل ما يقول ولم يقل مثل ما قال ليشعر بأنه يجيبه بعد كل كلمة مثل كلمتها قاله الكرماني والصريح في ذلك ما رواه النسائي عن أم حبيبة أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول مثل ما يقول المؤذن حتى يسكت.

وقال أبو الفتح اليعمري: ظاهر الحديث أنه يقول مثل ما يقول عقب فراغ المؤذن لكن الأحاديث التي تضمنت إجابة كل كلمة عقبها دلت على أن المراد المساوقة يشير إلى حديث عمر في مسلم وغيره وظاهره أيضًا أنه يقول مثله في جميع الكلمات، لكن حديث عمر أيضًا وحديث معاوية في البخاري وغيره دلا على أنه يستثنى من ذلك حي على الصلاة وحي على الفلاح فيقول بدلهما لا حول ولا قوة إلا بالله وهو المشهور عند الجمهور.

وقال ابن المنذر: يحتمل أن يكون ذلك من الاختلاف المباح فيقول تارة كذا وتارة كذا، وحكي عن بعض أهل الأصول أن الخاص والعام إذا أمكن الجمع بينهما وجب إعمالهما فلم لا يستحب للسامع أن يجمع بين الحيعلة والحوقلة وهو وجه عند الحنابلة.

وأجيب عن المشهور من حيث المعنى بأن الأذكار الزائدة على الحيعلة يشترك السامع والمؤذن في ثوابها، وأما الحيعلة فمقصودها الدعاء إلى الصلاة وذلك يحصل من المؤذن فعوض السامع عما فاته من ثوابها بثواب الحوقلة، ولقائل أن يقول يحصل للمجيب الثواب لامتثاله الأمر ويمكن أن يزداد استيقاظًا وإسراعًا إلى القيام إلى الصلاة إذا تكرر على سمعه الدعاء إليها من المؤذن ومن نفسه.
قيل: وفي الحديث دليل على أن لفظ مثل لا يقتضي المساواة من كل جهة لأنه لا يطلب برفع الصوت المطلوب من المؤذن، وفيه بحث لأن المماثلة وقعت في القول لا في صفته، والفرق أن المؤذن قصده الإعلام فاحتاج لرفع الصوت، والسامع مقصوده ذكر الله فيكفي السر أو الجهر لا مع رفع الصوت.
نعم لا يكفي إجراؤه على خاطره من غير تلفظ لظاهر الأمر بالقول وفيه جواز إجابة المؤذن في الصلاة عملاً بظاهر الأمر، ولأن المجيب لا يقصد المخاطبة واستدل به على وجوب إجابة المؤذن حكاه الطحاوي عن قوم من السلف، وبه قال الحنفية والظاهرية وابن وهب.

واستدل الجمهور لحديث مسلم وغيره أنه صلى الله عليه وسلم سمع مؤذنًا فلما كبر قال على الفطرة فلما تشهد قال خرج من النار فلما قال صلى الله عليه وسلم غير ما قال المؤذن علم أن الأمر للاستحباب، وتعقب بأنه ليس في الحديث أنه لم يقل مثل ما قال فيجوز أنه قاله ولم ينقله الراوي اكتفاء بالعادة ونقل القول الزائد، وبأنه يحتمل أن ذلك وقع قبل صدور الأمر وأن يكون لما أمر لم يرد أن يدخل نفسه في عموم من خوطب بذلك انتهى.

والحديث أخرجه البخاري عن عبد الله بن يوسف، ومسلم عن يحيى كلاهما عن مالك به.

قال الحافظ: واختلف على الزهري في إسناده وعلى مالك أيضًا لكنه اختلاف لا يقدح في صحته، فرواه عبد الرحمن بن إسحاق عن الزهري عن سعيد عن أبي هريرة أخرجه النسائي وابن ماجه، وقال أبو حاتم وأحمد بن صالح والترمذي وأبو داود: حديث مالك ومن تابعه أصح، ورواه يحيى القطان عن مالك عن الزهري عن السائب بن يزيد أخرجه مسدد في مسنده وقال: إنه خطأ.
والصواب الرواية الأولى وفيه اختلاف آخر دون ما ذكر لا نطيل به انتهى.

( مَالِكٍ عَنْ سُمَيٍّ) بضم السين المهملة بلفظ التصغير ( مَوْلَى أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) بن الحارث بن هشام ( عَنْ أَبِي صَالِحٍ) ذكوان ( السَّمَّانِ) لأنه كان يتجر في السمن والزيت فلذا قيل له الزيات أيضًا ( عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ) وضع المضارع موضع الماضي ليفيد استمرار العلم قاله الطيبي ( مَا فِي النِّدَاءِ) أي الأذان وهي رواية بشر بن عمر عن مالك عند السراج ( وَالصَّفِّ الْأَوَّلِ) زاد أبو الشيخ من طريق الأعرج عن أبي هريرة: من الخير والبركة.

وقال الطيبي: أطلق مفعول يعلم وهو ما ولم يبين الفضيلة ما هي ليفيد ضربًا من المبالغة وأنه مما لا يدخل تحت الوصف والإطلاق إنما هو في قدر الفضيلة وإلا فقد ميزت في رواية بالخير والبركة.

قال الباجي: اختلف في الصف الأول هل هو الذي يلي الإمام أو المبكر السابق إلى المسجد؟ قال القرطبي: والصحيح أنه الذي يلي الإمام قالا فإن كان بين الإمام والناس حائل كما أحدث الناس المقاصير فالصف الأول هو الذي يلي المقصورة.

وقال ابن عبد البر: لا أعلم خلافًا أن من بكر وانتظر الصلاة وإن لم يصل في الصف الأول أفضل ممن تأخر وصلى في الصف الأول وفي هذا ما يوضح معنى الصف الأول وأنه ورد من أجل البكور إليه والتقدم، وقال صلى الله عليه وسلم: أتموا الصف المقدم ثم الذي يليه فما كان من نقص فليكن في المؤخر.

( ثُمَّ لَمْ يَجِدُوا) شيئًا من وجوه الأولوية بأن يقع التساوي أما في الأذان فبأن يستووا في معرفة الوقت وحسن الصوت ونحو ذلك وأما في الصف فبأن يصلوا دفعة واحدة ويتساووا في الفضل ( إِلَّا أَنْ يَسْتَهِمُوا) أي يقترعوا ( عَلَيْهِ) أي على ما ذكر من الأمرين ليشمل الأذان والصف.

وقال ابن عبد البر: الهاء عائدة على الصف الأول لا على النداء وهو وجه الكلام، لأن الضمير يعود إلى أقرب مذكور ولا يعدل عنه إلا بدليل ونازعه القرطبي وقال: يلزم منه أن يبقى النداء ضائعًا لا فائدة له قال والضمير يعود على معنى الكلام المتقدم ومثله قوله تعالى: { { وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا } } أي جميع ما ذكر.

قال الحافظ: وقد رواه عبد الرزاق عن مالك بلفظ لاستهموا عليهما فهذا مفصح بالمراد من غير تكلف.

( لَاسْتَهَمُوا) اقترعوا ومنه قوله تعالى: { { فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ } } قال الخطابي وغيره: قيل له استهام لأنهم كانوا يكتبون أسماءهم على سهام إذا اختلفوا في شيء فمن خرج اسمه غلب، واستدل به بعضهم لمن قال بالاقتصار على مؤذن واحد وليس بظاهر لصحة استهام أكثر من واحد، ولأن الاستهام على الأذان متوجه من جهة التولية من قبل الإمام لما فيه من المزية.
وزعم بعضهم أن المراد بالاستهام هنا الترامي بالسهام وأنه خرج مخرج المبالغة واستأنس بحديث لتجالدوا عليه بالسيوف، لكن فهم البخاري أن المراد اقترعوا أولى لرواية مسلم لكانت قرعة.

وقد روى سيف بن عمر في كتاب الفتوح والطبراني عن عبد الله بن شبرمة عن شقيق وهو أبو وائل قال: افتتحنا القادسية صدر النهار فتراجعنا وقد أصيب المؤذن فتشاح الناس في الأذان بالقادسية فاختصموا إلى سعد بن أبي وقاص فأقرع بينهم فخرجت القرعة لرجل منهم فأذن، والقادسية مكان معروف بالعراق نسب إلى قادس رجل نزل به.

وحكى الجوهري أن إبراهيم الخليل قدس على ذلك المكان فلذا صار منزلاً للحاج وكان بها وقعة مشهورة للمسلمين مع الفرس في خلافة عمر سنة خمس عشرة وكان سعد يومئذ الأمير على الناس.

( وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي التَّهْجِيرِ) أي التبكير إلى الصلوات أي صلاة كانت قاله الهروي وغيره.
قال ابن عبد البر: التهجير معروف وهو البدار إلى الصلاة أول وقتها وقبله وانتظارها قال تعالى: { { فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ } } وقال صلى الله عليه وسلم: منتظر الصلاة في صلاة ما انتظرها وحسبك بهذا فضلاً وسمى صلى الله عليه وسلم انتظار الصلاة بعد الصلاة رباطًا، وجاء: رباط يوم خير من صوم شهر انتهى.

وحمله الخليل والباجي وغيرهما على ظاهره فقالوا: المراد الإتيان إلى صلاة الظهر في أول الوقت لأن التهجير مشتق من الهاجرة وهي شدة الحر نصف النهار وهو أول وقت الظهر وإلى ذلك مال البخاري.

قال الحافظ: ولا يرد على ذلك مشروعية الأمر بالإبراد لأنه أريد به الرفق، وأما من ترك قائلته وقصد إلى المسجد لينتظر الصلاة فلا يخفى ما له من الفضل.

( لَاسْتَبَقُوا إِلَيْهِ) أي التهجير.
قال ابن أبي جمرة: المراد الاستباق معنى لا حسًا لأن المسابقة على الإقدام حسًا تقتضي السرعة في المشي وهو ممنوع منه انتهى.

( وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي الْعَتَمَةِ) أي العشاء وثبت النهي عن تسميتها عتمة فهذا الحديث بيان للجواز وأن النهي ليس للتحريم أو استعمل العتمة هنا لمصلحة ونفي مفسدة لأن العرب كانت تستعمل العشاء في المغرب فلو قال ما في العشاء لحملوها على المغرب ففسد المعنى وفات المطلوب فاستعمل العتمة التي يعرفونها ولا يشكون فيها، وقواعد الشرع متظاهرة على احتمال أخف المفسدتين لدفع أعظمهما قاله النووي.

( وَالصُّبْحِ) أي ثواب صلاتهما في جماعة ( لَأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا) بفتح المهملة وسكون الموحدة أي مشيًا على اليدين والركبتين أو على مقعدته، ولابن أبي شيبة من حديث أبي الدرداء ولو حبوًا على المرافق والركب.

قال الباجي: خص هاتين الصلاتين بذلك لأن السعي إليهما أشق من غيرهما لما فيه من تنقيص أول النوم وآخره.

وقال ابن عبد البر: الآثار فيهما كثيرة منها قوله صلى الله عليه وسلم: أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر.
وقال أبو الدرداء في مرض موته: اسمعوا وبلغوا حافظوا على هاتين الصلاتين - يعني في جماعة العشاء والصبح - ولو تعلمون ما فيهما لأتيتموهما ولو حبوًا على مرافقكم وركبكم، وكذلك قال عمر وعثمان وروي مرفوعًا: شهود صلاة العشاء خير من قيام نصف ليلة وشهود صلاة الصبح خير من قيام ليلة.
وقال عمر والحسن: لأن أشهد صلاة العشاء والفجر أحب إلي من أن أحيي ما بينهما.
وقال ابن عمر: كنا إذا فقدنا الرجل في صلاة العشاء وصلاة الفجر أسأنا به الظن انتهى.

وهذا الحديث رواه البخاري عن عبد الله بن يوسف، ومسلم عن يحيى كلاهما عن مالك به.

( مَالِكٍ عَنِ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَعْقُوبَ) المدني ( عَنْ أَبِيهِ) وهو تابعي كابنه ( وَإِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ) بن أبي طلحة أحد شيوخ مالك روى عنه هنا بواسطة ( أَنَّهُمَا أَخْبَرَاهُ) أي العلاء ( أَنَّهُمَا سَمِعَا أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا ثُوِّبَ بِالصَّلَاةِ) بضم المثلثة وشد الواو وموحدة.

قال ابن عبد البر: أي أقيم وأصل ثاب رجع يقال ثاب إلى المريض جسمه فكأن المؤذن رجع إلى ضرب من الأذان للصلاة، وقد جاء هذا الحديث عن أبي هريرة بلفظ: إذا أقيمت الصلاة، وهو يبين أن التثويب هنا الإقامة انتهى.

وهي رواية الصحيحين من وجه آخر عن أبي هريرة وفي رواية لهما أيضًا: إذا سمعتم الإقامة وهي أخص من قوله في حديث أبي قتادة عندهما أيضًا إذا أتيتم الصلاة، لكن الظاهر كما قال الحافظ إنه في مفهوم الموافقة لأن المسرع إذا أقيمت الصلاة يترجى إدراك فضيلة التكبيرة الأولى ونحوها، ومع ذلك نهى عن الإسراع فغيره ممن جاء قبل الإقامة لا يحتاج إلى الإسراع لأنه يتحقق إدراك الصلاة كلها فينهى من باب أولى، ولحظ فيه بعضهم معنى آخر فقال: حكمة التقييد بالإقامة أن المسرع إذا أقيمت الصلاة يصل إليها وقد تعب فيقرأ وهو بتلك الحالة فلا يحصل له تمام الخشوع في الترتيل وغيره بخلاف من جاء قبل ذلك فلا تقام الصلاة حتى يستريح، لكن قضية هذا أنه لا يكره الإسراع لمن جاء قبل الإقامة وهو مخالف لصريح قوله: إذا أتيتم الصلاة لأنه يتناول ما قبل الإقامة وإنما قيده بالإقامة لأنها الحاملة غالبًا على الإسراع انتهى.

( فَلَا تَأْتُوهَا وَأَنْتُمْ تَسْعَوْنَ) تمشون بسرعة وتطلق على العمل نحو: { { وَمَنْ أَرَادَ الآَخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ } } { { إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى } } وعليه حمل قوله تعالى { { فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ } } كقوله: { { وَأَن لَّيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى } } أو المراد الذهاب فليس معناه الإسراع.
قال الطيبي: وأنتم تسعون حال من ضمير الفاعل وهو أبلغ في النهي من لا تسعوا وذلك لأنه مناف لما هو أولى به من الوقار والأدب وعقبه بما يدل على حسن الأدب بقوله ( وَأْتُوهَا وَعَلَيْكُمُ السَّكِينَةُ) ضبطه القرطبي بالنصب على الإغراء والنووي بالرفع على أنها جملة في موضع الحال زاد غيره أو السكينة مبتدأ وعليكم خبره، وذكر الحافظ العراقي في شرح الترمذي أن المشهور في الرواية الرفع، ووقع في رواية الحافظ أبي ذر الهروي للبخاري بالسكينة بالباء.

واستشكل بأنه متعد بنفسه عليكم أنفسكم وفيه نظر لثبوت زيادتها في أحاديث صحيحة كحديث عليكم برخصة الله، وحديث فعليه بالصوم فإنه له وجاء، وحديث عليك بالمرأة قاله لأبي طلحة في قصة صفية، وحديث عليكم بقيام الليل، وحديث عليك بخويصة نفسك وغير ذلك وتعليل هذا المعترض لا يوفي بمقصوده، إذ لا يلزم من تعديه بنفسه امتناع تعديه بالباء إذا ثبت ذلك، فيدل على أن فيه لغتين زاد في الصحيحين من وجه آخر عن أبي هريرة والوقار.
قال عياض والقرطبي: هو بمعنى السكينة وذكر للتأكيد.

وقال النووي: الظاهر أن بينهما فرقًا وأن السكينة التأني في الحركات واجتناب العبث والوقار في الهيئة كغض البصر وخفض الصوت وعدم الالتفات ذكره الحافظ، وقد منع الرضي الاعتراض بأن أسماء الأفعال وإن كان حكمها في التعدي واللزوم حكم الأفعال التي بمعناها لكن كثيرًا ما تزاد الباء في مفعولها لضعفها في العمل.

( فَمَا أَدْرَكْتُمْ) الفاء جواب شرط محذوف أي إذا فعلتم ما أمرتكم به من السكينة فما أدركتم ( فَصَلُّوا) مع الإمام ( وَمَا فَاتَكُمْ) معه ( فَأَتِمُّوا) أي أكملوا وفي رواية: فاقضوا والأولى أكثر رواية وأعمل مالك في المشهور في مذهبه الروايتين فقال يقضي القول ويبني الفعل وعنه بانيًا فيهما عملاً برواية فأتموا وعليها الشافعي حملاً لرواية فاقضوا على معنى الأداء والفراغ فلا يغاير قوله فأتموا، لأنه إذا اتحد مخرج الحديث واختلف في لفظة منه وأمكن رد الاختلاف إلى معنى واحد كان أولى.
وهنا كذلك لأن القضاء وإن كان يطلق على الفائت غالبًا لكنه يطلق على الأداء أيضًا ويرد بمعنى الفراغ كقوله تعالى: { { فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاَةُ } } وعنه يكون قاضيًا فيهما وبه قال أبو حنيفة.
وفي هذا تنبيه لدفع توهم أن النهي إنما هو لمن لم يخف فوت بعض الصلاة فصرح بالنهي وإن فات من الصلاة ما فات وبين ما يفعل فيما فات بقوله فما إلخ.

قال ابن عبد البر: الواجب أي المطلوب إتيان الصلاة بالسكينة ولو خاف فواتها لأمره صلى الله عليه وسلم بذلك وهو الحجة خلافًا لمن جوز السعي لخوف الفوات، وقد أكد ذلك ببيان العلة بقوله: ( فَإِنَّ أَحَدَكُمْ فِي صَلَاةٍ مَا كَانَ) مدة كونه ( يَعْمِدُ) بكسر الميم يقصد ( إِلَى الصَّلَاةِ) أي إنه في حكم المصلي فينبغي له اعتماد ما ينبغي للمصلي اعتماده واجتناب ما ينبغي له اجتنابه، ونبه بهذا على أنه لو لم يدرك من الصلاة شيئًا لكان محصلاً لمقصوده لكونه في صلاة، وعدم الإسراع أيضًا يستلزم كثرة الخطأ وهو معنى مقصود لذاته، وجاءت فيه أحاديث تقدم شيء منها.

وفي الصحيحين عن أنس أن بني سلمة أرادوا أن يتحولوا عن منازلهم فينزلوا قريبًا من النبي صلى الله عليه وسلم فكره أن يعروا منازلهم فقال: يا بني سلمة ألا تحتسبون آثاركم فأقاموا.
ولمسلم عن جابر فقالوا: ما يسرنا إذا كنا تحولنا.

واستدل به الجمهور على حصول فضل الجماعة بإدراك أي جزء من الصلاة لقوله: فما أدركتم فصلوا ولم يفصل بين قليل وكثير، وقيل: إنما يدرك فضلها بركعة وهو مذهب مالك للحديث السابق: من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة وقياسًا على الجمعة.
واستدل به أيضًا على طلب الدخول مع الإمام في أي حالة وجد عليها.
وأصرح منه ما أخرجه ابن أبي شيبة عن رجل من الأنصار مرفوعًا: من وجدني قائمًا أو راكعًا أو ساجدًا فليكن معي على حالتي التي أنا عليها.

واستدل به أيضًا على أن من أدرك الإمام راكعًا لم تحسب له تلك الركعة للأمر بإتمام ما فاته وقد فاته الوقوف والقراءة فيه وهو قول أبي هريرة وجماعة، واختاره ابن خزيمة وغيره، وقواه التقي السبكي.

وحجة الجمهور حديث أبي بكرة لما ركع دون الصف فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: زادك الله حرصًا ولا تعد ولم يأمره بإعادة تلك الركعة، وقد تابع مالكًا في رواية هذا الحديث عن العلاء إسماعيل بن جعفر قال: أخبرني العلاء رواه مسلم بلفظه وهو في مسند أحمد والكتب الستة من طرق عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة بلفظ: إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون وأتوها وأنتم تمشون وعليكم السكينة فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا.
وله طرق كثيرة وألفاظ متقاربة.

وأخرجه الشيخان أيضًا من حديث أبي قتادة بلفظ: إذا أتيتم الصلاة فعليكم السكينة، والباقي نحوه.

( مَالِكٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي صَعْصَعَةَ) بمهملات مفتوحات إلا العين الأولى فساكنة عمرو بن زيد ( الْأَنْصَارِيِّ ثُمَّ الْمَازِنِيِّ) بالزاي والنون من بني مازن بن النجار من الثقات، مات في خلافة المنصور ( عَنْ أَبِيهِ) عبيد الله المدني من ثقات التابعين زاد ابن عيينة وكان يتيمًا في حجر أبي سعيد وكانت أمه عند أبي سعيد أخرجه ابن خزيمة، ومات أبو صعصعة في الجاهلية وابنه عبد الرحمن صحابي.

( أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ) سعد بن مالك بن سنان الصحابي ابن الصحابي ( الْخُدْرِيَّ قَالَ لَهُ:) أي لعبد الله بن عبد الرحمن ( إِنِّي أَرَاكَ تُحِبُّ الْغَنَمَ وَالْبَادِيَةَ) أي لأجل الغنم لأن محبها يحتاج إلى إصلاحها بالمرعى وهو في الغالب يكون في البادية وهي الصحراء التي لا عمارة فيها ( فَإِذَا كُنْتَ فِي غَنَمِكَ أَوْ بَادِيَتِكَ) يحتمل أن أو شك من الراوي وأنها للتنويع لأن الغنم قد لا تكون في البادية وقد يكون في البادية حيث لا غنم قاله الحافظ وغيره.

( فَأَذَّنْتَ بِالصَّلَاةِ) أي أعلمت بوقتها.
وفي رواية للبخاري للصلاة باللام بدل الموحدة أي لأجلها ( فَارْفَعْ صَوْتَكَ بِالنِّدَاءِ) أي الأذان وفيه إشعار بأن أذان مريد الصلاة كان مقررًا عندهم لاقتصاره على الأمر بالرفع دون أصل التأذين، وفيه استحباب أذان المنفرد وهو الراجح عند الشافعية والمالكية إن سافر بناء على أن الأذان حق الوقت، ولو لم يرج حضور من يصلي معه لأنه إن فاته دعاء المصلين لم تفته شهادة من سمعه من غيرهم، وقيل لا يستحب بناء على أنه لاستدعاء الجماعة، ومنهم من فصل بين من يرجو جماعة فيستحب ومن لا فلا.

( فَإِنَّهُ لَا يَسْمَعُ مَدَى) بفتح الميم والقصر أي غاية ( صَوْتِ الْمُؤَذِّنِ) قال البيضاوي: غاية الصوت يكون للمصغي أخفى من ابتدائه فإذا شهد له من بعد عنه ووصل إليه منتهى صوته، فلأن يشهد له من دنا منه وسمع مبادي صوته أولى ( جِنٌّ) قال الرافعي: يشبه أن يريد مؤمني الجن، وأما غيرهم فلا يشهدون للمؤذن بل يفرون وينفرون من الأذان ( وَلَا إِنْسٌ) قيل خاص بالمؤمنين فأما الكافر فلا شهادة له.
قال عياض: وهذا لا يسلم لقائله لما جاء في الآثار من خلافه ( وَلَا شَيْءٌ) ظاهره يشمل الحيوانات والجمادات فهو من العام بعد الخاص ويؤيده رواية ابن خزيمة لا يسمع صوته شجر ولا مدر ولا حجر ولا جن ولا إنس، وله ولأبي داود والنسائي من طريق أبي يحيى عن أبي هريرة بلفظ: المؤذن يغفر له مدى صوته ويشهد له كل رطب ويابس ونحوه للنسائي من حديث البراء وصححه ابن السكن.

قال الخطابي: مدى الشيء غايته أي أنه يستكمل المغفرة إذا استوفى وسعه في رفع الصوت فيبلغ الغاية من المغفرة إذا بلغ الغاية من الصوت، أو أنه كلام تمثيل وتشبيه يريد أن المكان الذي ينتهي إليه الصوت لو قدر أن يكون بين أقصاه وبين مقامه الذي هو فيه ذنوب تملأ تلك المسافة غفرها الله تعالى له واستشهد المنذري لقوله الأول برواية يغفر له مد صوته بتشديد الدال أي بقدر مد صوته.

قال الحافظ: فهذه الأحاديث تبين المراد من قوله ولا شيء وتكلم بعض من لم يطلع عليها في تأويله على ما يقتضيه ظاهره، فقال القرطبي: المراد بالشيء الملائكة، وتعقب بأنهم دخلوا في الجن لأنهم يستخفون عن الأبصار، وقال غيره: المراد كل ما يسمع المؤذن من الحيوان حتى ما لا يعقل لأنه الذي يصح أن يسمع صوته دون الجمادات، ومنهم من حمله على ظاهره ولا يمتنع ذلك عقلاً ولا شرعًا.

قال ابن بزيزة: تقرر في العادة أن السماع والشهادة والتسبيح لا يكون إلا من حي فهل ذلك حكاية على لسان الحال لأن الموجودات ناطقة بلسان حالها بجلال بارئها، أو هو على ظاهره ولا يمتنع عقلاً أن الله يخلق فيها الحياة والكلام.

وتقدم البحث في ذلك في قول النار: أكل بعضي بعضًا، وفي مسلم عن جابر بن سمرة مرفوعًا: إني لأعرف حجرًا بمكة كان يسلم علي قبل أن أبعث، ونقل ابن التين عن أبي عبد الملك أن قوله هنا ولا شيء نظير قوله تعالى: { { وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ } } وتعقبه بأن الآية مختلف فيها وما عرفت وجه هذا التعقب فإنهما سواء في الاحتمال، ونقل الاختلاف إلا أن يقول إن الآية لم يختلف في كونها على عمومها، وإنما اختلف في تسبيح بعض الأشياء هل هو على الحقيقة أو المجاز بخلاف الحديث.

( إِلَّا شَهِدَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) قال الزين بن المنير: السر في هذه الشهادة مع أنها تقع عند عالم الغيب والشهادة أن أحكام الآخرة جرت على أحكام نعت الخلق في الدنيا من توجيه الدعوى والجواب والشهادة، وقال التوربشتي: المراد من هذه الشهادة إشهار المشهود له يوم القيامة بالفضل وعلو الدرجة وكما أن الله يفضح بالشهادة قومًا فكذلك يكرم بالشهادة آخرين.
وقال الباجي: فائدة ذلك أن من يشهد له يوم القيامة يكون أعظم أجرًا في الآخرة ممن أذن فلم يسمعه من يشهد له.

( قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أي هذا الكلام الأخير وهو أنه لا يسمع إلخ، فقد رواه ابن خزيمة من رواية ابن عيينة بلفظ: قال أبو سعيد إذا كنت في البوادي فارفع صوتك بالنداء فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا يسمع، فذكره.
ورواه يحيى بن سعيد القطان عن مالك بلفظ: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا أذنت فارفع صوتك فإنه لا يسمع، فذكره.

فالظاهر أن ذكر الغنم والبادية موقوف خلافًا لإيراد الرافعي الحديث في الشرح بلفظ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي سعيد: إنك رجل تحب الغنم وساقه إلى آخره وسبقه إلى ذلك الغزالي وإمام الحرمين والقاضي حسين وغيرهم وتعقبهم النووي، وأجاب ابن الرفعة عنهم بأنهم فهموا أن قوله سمعته من رسول الله عائد إلى كل ما ذكر ولا يخفى بعده ذكره الحافظ، بل تمنعه روايتا ابن عيينة والقطان، وقد خالف الرافعي نفسه فقال في شرح المسند قوله سمعته يعني قوله أنه لا يسمع إلخ انتهى وهو الصواب.

وفي الحديث استحباب رفع الصوت بالأذان ليكثر من يشهد له ما لم يجهده أو يتأذى به، وفيه أن حب الغنم والبادية ولا سيما عند نزول الفتنة من عمل السلف الصالح، وفيه جواز التبدي ومساكنة الأعراب ومشاركتهم في الأسباب بشرط حظ من العلم وأمن غلبة الجفاء.

قال ابن عبد البر: فيه إباحة لزوم البادية ولكن في البعد عن الجماعة والجمعة ما فيه من البعد عن الفضائل إلا أن الزمان إذا كثر فيه الشر وتعذرت فيه السلامة طابت العزلة وهي خير من خليط السوء والجليس الصالح خير من الوحدة.
وقال صلى الله عليه وسلم: يوشك أن يكون خير مال المسلم غنمًا يتبع بها شعف الجبال ومواضع القطر يفر بدينه من الفتن.

وهذا الحديث أخرجه البخاري هنا عن عبد الله بن يوسف وفي بدء الخلق عن قتيبة بن سعيد كلاهما عن مالك به، ولم يخرجه مسلم.

( مَالِكٍ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ) عبد الله بن ذكوان ( عَنِ الْأَعْرَجِ) عبد الله بن هرمز ( عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ) أي لأجلها، وللنسائي عن قتيبة عن مالك بالصلاة وهي رواية لمسلم أيضًا ويمكن حملهما على معنى واحد ( أَدْبَرَ الشَّيْطَانُ) إبليس على الظاهر، ويدل عليه كلام كثير من الشراح، ويحتمل أن المراد جنس الشيطان وهو كل متمرد من الجن أو الإنس لكن المراد هنا شيطان الجن خاصة ( لَهُ ضُرَاطٌ) جملة إسمية وقعت حالاً بدون واو لحصول الارتباط بالضمير وفي رواية للبخاري وله بالواو.
وقال عياض: يمكن حمله على ظاهره لأنه جسم متغذ يصح منه خروج الريح، ويحتمل أنه عبارة عن شدة نفاره ويقربه رواية مسلم له حصاص بمهملات مضموم الأول، وفسره الأصمعي وغيره بشدة العدو، وقال الطيبي: شبه شغل الشيطان نفسه عن سماع الأذان بالصوت الذي يملأ السمع ويمنعه عن سماع غيره ثم سماه ضراطًا.

( حَتَّى لَا يَسْمَعَ النِّدَاءَ) أي التأذين كما هو رواية التنيسي للموطأ ومسلم من رواية المغيرة عن أبي الزناد والمعنى واحد.
وقال الحافظ: ظاهره أنه يتعمد إخراج ذلك إما ليشتغل بسماع الصوت الذي يخرجه عن سماع المؤذن، أو يصنع ذلك استخفافًا كما تفعله السفهاء، أو ليقابل ما يناسب الصلاة من الطهارة بالحدث، ويحتمل أن لا يتعمد ذلك بل يحصل له عند سماع الأذان شدة خوف يحدث له ذلك الصوت بسببها، وفيه استحباب رفع الصوت بالأذان لأنه ظاهر في أنه يبعد إلى غاية ينتفي فيها سماعه للصوت، وقد بينت الغاية في رواية مسلم من حديث جابر فقال: حتى يكون مكان الروحاء.
قال سليمان يعني الأعمش فسألته أي أبا سفيان راويه عن جابر عن الروحاء فقال هي من المدينة ستة وثلاثون ميلاً، وقد أدرج هذا إسحاق بن راهويه في مسنده فقال: حتى يكون بالروحاء وهي ستة إلخ والمعتمد الأول.

( فَإِذَا قُضِيَ النِّدَاءُ) بضم القاف أي فرغ وانتهى منه ويروى بفتح القاف على حذف الفاعل والمراد المنادي أي: إذا قضى المنادي النداء ( أَقْبَلَ) زاد مسلم في رواية أبي صالح عن أبي هريرة فوسوس ( حَتَّى إِذَا ثُوِّبَ بِالصَّلَاةِ أَدْبَرَ) بضم المثلثة وشد الواو المكسورة قيل من ثاب إذا رجع وقيل من ثوب إذا أشار بثوبه عند الفزع لإعلام غيره.

قال الجمهور: المراد هنا الإقامة وبه جزم أبو عوانة والخطابي والبيهقي وغيرهم وقال القرطبي: ثوب بالصلاة أي أقيمت وأصله أنه رجع إلى ما يشبه الأذان وكل مردد صوت فهو مثوب ويدل عليه رواية مسلم من طريق أبي صالح عن أبي هريرة فإذا سمع الإقامة ذهب.

وزعم بعض الكوفيين أن المراد بالتثويب قول المؤذن بين الأذان والإقامة حي على الصلاة حي على الفلاح قد قامت الصلاة وحكاه ابن المنذر عن أبي يوسف عن أبي حنيفة وزعم أنه تفرد به لكن في سنن أبي داود عن ابن عمر أنه كره التثويب بين الأذان والإقامة فهذا يدل على أن له سلفًا في ذلك في الجملة ويحتمل أن يكون الذي تفرد به القول الخاص.

قال الخطابي: لا تعرف العامة التثويب إلا قول المؤذن الصلاة خير من النوم لكن المراد به هنا الإقامة.

( حَتَّى إِذَا قُضِيَ التَّثْوِيبُ) بالرفع نائب الفاعل والنصب مفعول ( أَقْبَلَ حَتَّى يَخْطِرَ) بفتح أوله وكسر الطاء كما ضبطه عياض عن المتقنين وقال: إنه الوجه ومعناه يوسوس وأصله من خطر البعير بذنبه إذا حركه فضرب به فخذيه قال: وسمعناه من أكثر الرواة بضم الطاء ومعناه المرور أي يدنو منه فيمر بينه وبين قلبه فيشغله عما هو فيه، وبهذا فسره الشارحون للموطأ وبالأول فسره الخليل وضعف الهجري في نوادره الضم وقال: هو يخطر بالكسر في كل شيء ( بَيْنَ الْمَرْءِ وَنَفْسِهِ) أي قلبه وكذا هو للبخاري من وجه آخر في بدء الخلق قال الباجي: المعنى أنه يحول بين المرء وبين ما يريده من إقباله على صلاته وإخلاصه فيها.

( يَقُولُ) الشيطان ( اذْكُرْ كَذَا اذْكُرْ كَذَا) وفي رواية للبخاري ومسلم بواو العطف واذكر كذا وللبخاري أيضًا في صلاة السهو اذكر كذا وكذا ( لِمَا لَمْ يَكُنْ يَذْكُرُ) أي لشيء لم يكن على ذكره قبل دخوله في الصلاة وفي رواية لمسلم لما لم يذكر من قبل، وله أيضًا من رواية عبد ربه عن الأعرج فهناه ومناه وذكره من حاجاته ما لم يكن يذكر.

ومن ثم استنبط أبو حنيفة للذي شكا إليه أنه دفن مالاً ثم لم يهتد لمكانه أن يصلي ويحرص على أن لا يحدث نفسه بشيء من أمر الدنيا ففعل فذكر مكان المال في الحال قيل خصه بما يعلم دون ما لم يعلم لأنه يميل لما يعلم أكثر لتحقق وجوده، والذي يظهر أنه أعم من ذلك فيذكره لما سبق له به علم ليشغل باله به ولما لم يكن سبق له ليوقعه في الفكرة فيه وهذا أعم من أن يكون في أمور الدنيا أو في أمور الدين كالعلم.
لكن هل يشمل ذلك التفكر في معاني الآيات التي يتلوها لا يبعد ذلك لأن غرضه نقص خشوعه وإخلاصه بأي وجه كان.

( حَتَّى يَظَلَّ الرَّجُلُ) بالظاء المعجمة المفتوحة رواية الجمهور ومعناه في الأصل اتصاف المخبر عنه بالخبر نهارًا لكنها هنا بمعنى يصير أو يبقى، وفي رواية بالضاد الساقطة مكسورة أي ينسى، ومنه أن تضل إحداهما أو يخطئ ومنه { { لاَّ يَضِلُّ رَبِّي وَلاَ يَنسَى } } ومفتوحة أي يتحير من الضلال وهو الحيرة والمشهور الأول ( إِنْ يَدْرِي) بكسر همزة إن النافية بمعنى لا، وفي رواية التنيسي لا يدري وروي بفتح الهمزة ونسبها ابن عبد البر لأكثر رواة الموطأ ووجهها بما تعقبه عليه جماعة وقال القرطبي: ليست رواية الفتح بشيء إلا مع رواية الضاد الساقطة فيكون أن والفعل بتأويل المصدر ومفعول ضل إن بإسقاط حرف الجر أي يضل عن درايته وكذا قال عياض لا يصح فتحها إلا على رواية يضل بكسر الضاد فتكون أن مع الفعل مفعوله أي يجهل درايته وينسى عدد ركعاته ( كَمْ صَلَّى) .

وللبخاري في بدء الخلق من وجه آخر عن أبي هريرة: حتى لا يدري أثلاثًا صلى أم أربعًا.

واختلف العلماء في حكمة هروب الشيطان عند سماع الأذان والإقامة دون سماع القرآن والذكر في الصلاة فقيل: حتى لا يشهد للمؤذن يوم القيامة فإنه لا يسمع صوته جن ولا إنس إلا شهد له كما تقدم، وقيل نفورًا عن سماع الأذان ثم يرجع موسوسًا ليفسد على المصلي صلاته فصار رجوعه من جنس فراره، والجامع بينهما الاستخفاف وقيل: لأن الأذان دعاء إلى الصلاة المشتملة على السجود الذي أباه وعصى بسببه.

واعترض بأنه يعود قبل السجود فلو كان هروبه لأجله لم يعد إلا عند فراغه.

وأجيب: بأنه يهرب عند سماع الدعاء لذلك ليغالط نفسه بأنه لم يخالف أمرًا ثم يرجع ليفسد على المصلي سجوده الذي أباه وقيل إنما يهرب لاتفاق الجميع على الإعلان بشهادة الحق وإقامة الشريعة.

واعترض بأن الاتفاق على ذلك حاصل قبل الأذان وبعده من جميع من يصلي.
وأجيب: بأن الإعلان أخص من الاتفاق فإن الإعلان المختص بالأذان لا يشاركه فيه غيره من الجهر بالتكبير والشهادة مثلاً، ولذا قال لعبد الله بن زيد: ألقه على بلال فإنه أندى منك صوتًا أي اقعد بالمد والإطالة والإسماع ليعم الصوت ويطول أمد التأذين فيكثر الجمع ويفوت على الشيطان مقصوده من إلهاء الآدمي عن إقامة الصلاة في جماعة أو إخراجها عن وقتها أو وقت فضيلتها، فيفر حينئذ وقد يئس أن يردهم عما أعلنوا به ثم يرجع لما طبع عليه من الأذى إلى الوسوسة.

وقال ابن الجوزي: على الأذان هيئة يشتد انزعاج الشيطان بسببها لأنه لا يكاد يقع في الأذان رياء ولا غفلة عند النطق به لأن النفس لا تحضره بخلاف الصلاة، فإن النفس تحضر فيها فيفتح لها الشيطان أبواب الوسوسة.

وقد ترجم عليه أبو عوانة في صحيحه الدليل على أن المؤذن في أذانه وإقامته منفي عنه الوسوسة والرياء لتباعد الشيطان منه وقيل لأن الأذان إعلام بالصلاة التي هي أفضل الأعمال بألفاظ هي من أفضل الذكر لا يزاد فيها ولا ينقص منها بل تقع على وفق الأمر فيفر من سماعها، وأما الصلاة فلما يقع من كثير من الناس فيها من التفريط تمكن الخبيث من المفرط فلو قدر أن المصلي وفي جميع ما أمر به فيها لم يقربه فيها إن كان وحده وهو نادر، وكذا إذا انضم إليه من هو مثله وهو أندر أشار إليه ابن أبي جمرة.

قال ابن بطال: ويشبه أن يكون الزجر عن الخروج من المسجد بعد الأذان من هذا المعنى لئلا يكون متشبهًا بالشيطان الذي يفر عند سماع الأذان، وفهم بعض السلف من هذا الحديث الإتيان بصورة الأذان وإن لم يوجد فيه شروط الأذان من وقوعه في الوقت وغير ذلك، ففي مسلم من رواية سهيل بن أبي صالح قال: أرسلني أبي إلى بني حارثة ومعي غلام لنا أو صاحب لنا فناداه مناد من حائط باسمه فأشرف الذي معي على الحائط فلم ير شيئًا فذكرت ذلك لأبي فقال: لو شعرت أنك تلقى هذا لم أرسلك ولكن إذا سمعت صوتًا فناد بالصلاة فإني سمعت أبا هريرة يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: إن الشيطان إذا نودي بالصلاة ولى وله حصاص.

وقال ابن عبد البر: قال مالك: استعمل زيد بن أسلم على معدن بني سليم وكان لا يزال يصاب فيه الناس من الجن فلما وليهم شكوا ذلك إليه فأمرهم بالأذان وأن يرفعوا أصواتهم به ففعلوا فارتفع ذلك عنهم فهم عليه حتى اليوم.
قال مالك: أعجبني ذلك من زيد وذكرت الغيلان عند عمر بن الخطاب فقال: إن شيئًا من الخلق لا يستطيع أن يتحول في غير خلقه ولكن للجن سحرة كما للإنس سحرة فإذا خشيتم شيئًا من ذلك فأذنوا بالصلاة.

وهذا الحديث رواه البخاري عن عبد الله بن يوسف عن مالك به، ورواه في السهو عن الليث عن جعفر بن ربيعة عن الأعرج به، ومسلم من طريق المغيرة الخزاعي عن أبي الزناد به، ومن طريق الأعمش وسهيل كلاهما عن أبي صالح عن أبي هريرة بنحوه.

( مَالِكٍ عَنْ أَبِي حَازِمِ) بمهملة وزاي سلمة ( بْنِ دِينَارٍ) الأعرج المدني العابد الثقة من رجال الجميع قال أبو عمر: كان أبو حازم هذا أحد الفضلاء الحكماء العلماء الثقات الأثبات وله حكم وزهديات ومواعظ ورقائق ومقطعات ومات سنة أربعين ومائة على الأصح وقيل: غير ذلك.

( عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ) بن مالك بن خالد الأنصاري الخزرجي ( السَّاعِدِيِّ) أبي العباس الصحابي ابن الصحابي مات سنة ثمان وثمانين وقيل بعدها وقد جاوز المائة ( أَنَّهُ قَالَ سَاعَتَانِ) قال ابن عبد البر: هذا الحديث موقوف عند جماعة رواة الموطأ ومثله لا يقال بالرأي، وقد رواه أيوب بن سويد ومحمد بن مخلد وإسماعيل بن عمرو عن مالك مرفوعًا.

وروي من طرق متعددة عن أبي حازم عن سهل قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ساعتان ( يُفْتَحُ لَهُمَا أَبْوَابُ السَّمَاءِ) أي فيهما أو من أجل فضيلتهما ( وَقَلَّ دَاعٍ تُرَدُّ عَلَيْهِ دَعْوَتُهُ) إخبار بأن الإجابة في هذين الوقتين هي الأكثر وأن رد الدعاء فيهما يندر ولا يكاد يقع قاله الباجي، فأشار بقوله قل إلى أنها قد ترد لفوات شرط من شروط الدعاء أو ركن من أركانه أو نحو ذلك وقال السيوطي: بل قل هنا للنفي المحض كما هو أحد استعمالاتها.
قال ابن مالك في التسهيل وغيره: ترد قل للنفي المحض فترفع الفاعل متلوًا بصفة مطابقة له نحو: قل رجل يقول ذلك، وقل رجلان يقولان ذلك وهي من الأفعال التي منعت التصرف.

( حَضْرَةُ النِّدَاءِ لِلصَّلَاةِ) أي الأذان ( وَالصَّفُّ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) أي في قتال الكفار لإعلاء كلمة الله.
وقد روى الطبراني والحاكم في المستدرك والديلمي الحديث عن سهل به مرفوعًا.
وروى أبو نعيم في الحلية عن عائشة رفعته: ثلاث ساعات للمرء المسلم ما دعا فيهن إلا استجيب له ما لم يسأل قطيعة رحم أو مأثمًا، حين يؤذن المؤذن بالصلاة حتى يسكت، وحين يلتقي الصفان حتى يحكم الله بينهما، وحين ينزل المطر حتى يسكن.
( وَسُئِلَ مَالِكٌ عَنِ النِّدَاءِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ هَلْ يَكُونُ قَبْلَ أَنْ يَحِلَّ الْوَقْتُ؟ فَقَالَ: لَا يَكُونُ إِلَّا بَعْدَ أَنْ تَزُولَ الشَّمْسُ) لأن وقتها زوال الشمس كالظهر عند جمهور الفقهاء وأجاز أحمد صلاتها قبل الزوال وهو شذوذ.
قال مالك: لو خطب قبل الزوال وصلى بعده لم تجز ويعيدون الجمعة بخطبة ما لم تغرب الشمس نقله ابن حبيب عن مطرف عنه.
وقال ابن سحنون: يعيدون الظهر أبدًا أفذاذًا.

( وَسُئِلَ مَالِكٌ عَنْ تَثْنِيَةِ النِّدَاءِ وَالْإِقَامَةِ وَمَتَى يَجِبُ الْقِيَامُ عَلَى النَّاسِ حِينَ تُقَامُ الصَّلَاةُ؟ فَقَالَ: لَمْ يَبْلُغْنِي فِي النِّدَاءِ وَالْإِقَامَةِ إِلَّا مَا أَدْرَكْتُ النَّاسَ عَلَيْهِ) وهو شفع الأذان لما في البخاري عن أنس قال: أمر بلال أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة قال الزين بن المنير: وصف الأذان بأنه شفع يفسره قوله مثنى أي مرتين مرتين وذلك يقتضي أن يستوي جميع ألفاظه في ذلك لكن لم يختلف في أن كلمة التوحيد التي في آخره مفردة فيحمل قوله مثنى على ما سواها انتهى.
ففيه دليل على أن التكبير ليس مربعًا، وكذا قوله صلى الله عليه وسلم: الأذان مثنى مثنى أخرجه أبو داود الطيالسي عن ابن عمر.
ورواه أبو داود والنسائي وصححه ابن خزيمة وغيره من حديث ابن عمر بلفظ: مرتان مرتان.

( فَأَمَّا الْإِقَامَةُ فَإِنَّهَا لَا تُثَنَّى) حتى قد قامت الصلاة بل تفرد ( وَذَلِكَ الَّذِي لَمْ يَزَلْ عَلَيْهِ أَهْلُ الْعِلْمِ بِبَلَدِنَا) المدينة مع تأييده بالحديث الصحيح، وأما قوله في رواية أيوب السختياني عن أبي قلابة عن أنس: ويوتر الإقامة إلا الإقامة أي: قد قامت الصلاة فالمثبت غير المنفي فهو مدرج من قول أيوب وليس من الحديث كما جزم به الأصيلي وابن منده، لأن إسماعيل بن إبراهيم قال: حدثنا خالد الحذاء عن أبي قلابة عن أنس قال: أمر بلال أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة.
قال إسماعيل: فذكرته لأيوب فقال: إلا الإقامة رواه البخاري ومسلم ونظر فيما قاله الحافظ بأن عبد الرزاق رواه عن معمر عن أيوب بسنده بلفظ: كان بلال يثني الأذان ويوتر الإقامة إلا قوله قد قامت الصلاة، والأصل أن ما كان في الخبر فهو منه حتى يقوم دليل على خلافه ولا دليل في رواية إسماعيل لأن محصلها أن خالدًا كان لا يذكر الزيادة وأيوب يذكرها وكل منهما روى الحديث عن أبي قلابة عن أنس فكان في رواية أيوب زيادة حافظ فتقبل انتهى.

لكن إنما يتم له هذا النظر لو صرح أيوب بروايته له عن أبي قلابة لما ذكر له إسماعيل رواية خالد وهو إنما قال: إلا الإقامة فيتبادر منه أنه إخبار عن رأيه، وأما رواية عبد الرزاق فلا دليل فيها على عدم الإدراج لأنها من محل النزاع، وقد دلت رواية إسماعيل على الإدراج ثم هذا الحديث حجة على من قال إن الإقامة مثناة.

وزعم بعض الحنفية أن إفرادها كان أولاً ثم نسخ بحديث أبي محذورة عند أصحاب السنن وفيه تثنية الإقامة وهو متأخر عن حديث أنس فيكون ناسخًا.
وعورض بأن في بعض طرق حديث أبي محذورة المحسنة التربيع والترجيع فكان يلزمهم القول به، وقد أنكر أحمد على من ادعى النسخ بحديث أبي محذورة، واحتج بأنه صلى الله عليه وسلم رجع بعد الفتح إلى المدينة وأقر بلالاً على إفراد الإقامة وعلمه سعد القرظ فأذن به بعده كما رواه الدارقطني والحاكم.

وقال ابن عبد البر: ذهب أحمد وإسحاق وداود وابن جرير إلى أن ذلك من الاختلاف المباح فإن ربع التكبير الأول في الأذان أو ثناه أو رجع في التشهد أو لم يرجع أو ثنى الإقامة أو أفردها كلها أو إلا قد قامت الصلاة، فالجميع جائز.
قيل الحكمة في تثنية الأذان وإفراد الإقامة أن الأذان لإعلام الغائبين فكرر ليكون أوصل إليهم بخلاف الإقامة فللحاضرين، ومن ثم استحب أن يكون الأذان في مكان عال بخلاف الإقامة، وأن يكون الصوت في الأذان أرفع منه في الإقامة.

قال الحافظ: وهذا توجيه ظاهر وأما قول الخطابي لو سوى بينهما لاشتبه الأمر في ذلك وصار يفوت كثيرًا من الناس صلاة الجماعة ففيه نظر لأن الأذان يستحب على مرتفع ليشترك فيه الإسماع وأن يكون مرتلاً والإقامة مسرعة ويؤخذ حكمة الترجيع مما تقدم وإنما اختص بالتشهد لأنه أعظم ألفاظ الأذان، والله أعلم.

( وَأَمَّا قِيَامُ النَّاسِ حِينَ تُقَامُ الصَّلَاةُ فَإِنِّي لَمْ أَسْمَعْ فِي ذَلِكَ بِحَدٍّ يُقَامُ لَهُ) وما في الصحيحين عن أبي قتادة قال صلى الله عليه وسلم: إذا أقيمت الصلاة فلا تقوموا حتى تروني خرجت فهو نهي عن القيام قبل خروجه وتسويغ له عند رؤيته وهو مطلق غير مقيد بشيء من ألفاظ الإقامة.

ومن ثم اختلف السلف في ذلك فقال مالك: ( إِلَّا أَنِّي أَرَى ذَلِكَ عَلَى قَدْرِ طَاقَةِ النَّاسِ فَإِنَّ مِنْهُمُ الثَّقِيلَ وَالْخَفِيفَ وَلَا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَكُونُوا كَرَجُلٍ وَاحِدٍ) وذهب الأكثر إلى أنهم إذا كان الإمام معهم في المسجد لم يقوموا حتى تفرغ الإقامة وإذا لم يكن في المسجد لم يقوموا حتى يروه، وعن أنس أنه كان يقوم إذا قال المؤذن قد قامت الصلاة رواه ابن المنذر وغيره، ورواه سعيد بن منصور من طريق أبي إسحاق عن أصحاب عبد الله، وعن سعيد بن المسيب أنه إذا قال المؤذن: الله أكبر وجب القيام، وإذا قال: حي على الصلاة عدلت الصفوف، وإذا قال لا إله إلا الله كبر الإمام.
وعن أبي حنيفة يقومون إذا قال حي على الفلاح فإذا قال قد قامت الصلاة كبر الإمام، والحديث حجة على هؤلاء المفصلين.

قال القرطبي: ظاهر هذا الحديث أن الصلاة كانت تقام قبل أن يخرج صلى الله عليه وسلم من بيته، وهو معارض لحديث جابر بن سمرة عند مسلم أن بلالاً كان لا يقيم حتى يخرج صلى الله عليه وسلم ويجمع بينهما بأن بلالاً كان يراقب خروج النبي صلى الله عليه وسلم، فأول ما يراه يشرع في الإقامة قبل أن يراه غالب الناس ثم إذا رأوه قاموا فلا يقوم في مقامه حتى تعتدل صفوفهم.

قال الحافظ: ويشهد له ما رواه عبد الرزاق عن ابن جريج عن ابن شهاب كانوا ساعة يقول المؤذن الله أكبر يقومون إلى الصلاة فلا يأتي النبي صلى الله عليه وسلم حتى تعتدل الصفوف.
وأما حديث أبي هريرة في البخاري بلفظ: أقيمت الصلاة فسوى الناس صفوفهم فخرج صلى الله عليه وسلم، ولفظه في مستخرج أبي نعيم وصف الناس صفوفهم ثم خرج علينا، ولفظه في مسلم أقيمت الصلاة فقمنا فعدلنا الصفوف قبل أن يخرج إلينا النبي صلى الله عليه وسلم فأتى فقام مقامه فيجمع بينه وبين حديث أبي قتادة بأن ذلك ربما وقع لبيان الجواز، وبأن صنعهم في حديث أبي هريرة كان سبب النهي في حديث أبي قتادة، وأنهم كانوا يقومون ساعة تقام الصلاة ولو لم يخرج صلى الله عليه وسلم فنهاهم عن ذلك لاحتمال أن يقع له شغل يبطئ فيه عن الخروج فيشق عليهم انتظاره ولا يرد هذا حديث أنس في الصحيح أنه قام في مقامه طويلاً في مناجاة بعض القوم لاحتمال وقوعه نادرًا أو فعله لبيان الجواز انتهى.

( وَسُئِلَ مَالِكٌ عَنْ قَوْمٍ حُضُورٍ أَرَادُوا أَنْ يَجْمَعُوا الْمَكْتُوبَةَ فَأَرَادُوا أَنْ يُقِيمُوا وَلَا يُؤَذِّنُوا؟ قَالَ: ذَلِكَ مُجْزِئٌ عَنْهُمْ) إذ الأذان ليس بشرط في صحة الصلاة عند جمهور الفقهاء خلافًا لعطاء ( وَإِنَّمَا يَجِبُ النِّدَاءُ فِي مَسَاجِدِ الْجَمَاعَاتِ الَّتِي تُجْمَعُ فِيهَا الصَّلَاةُ) وجوب السنن المؤكدة على المذهب وأما في المصر فواجب كفاية، فلو اتفقوا على تركه أثموا وقوتلوا عليه لأنه شعار الإسلام ومن العلامات المفرقة بين دار الإسلام والكفر.
وفي الصحيحين واللفظ لمسلم عن أنس: كان صلى الله عليه وسلم يغير إذا طلع الفجر وكان يستمع الأذان فإن سمع أذانًا أمسك وإلا أغار.

( وَسُئِلَ مَالِكٌ عَنْ تَسْلِيمِ الْمُؤَذِّنِ عَلَى الْإِمَامِ وَدُعَائِهِ إِيَّاهُ لِلصَّلَاةِ وَعَنْ أَوَّلُ مَنْ سُلِّمَ عَلَيْهِ؟ فَقَالَ: لَمْ يَبْلُغْنِي أَنَّ التَّسْلِيمَ كَانَ فِي الزَّمَنِ الْأَوَّلِ) قال الباجي: أي لم يكن في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم، وإنما كان المؤذن يؤذن فإن كان الإمام في شغل جاء المؤذن فأعلمه باجتماع الناس دون تكلف ولا استعمال، فأما ما يتكلف اليوم من وقوف المؤذن بباب الأمير والسلام عليه والدعاء للصلاة بعد ذلك فإنه من المباهاة والتكبر والصلاة تنزه عن ذلك.

وقد قال القاضي أبو إسحاق في المبسوط عن عبد الملك بن الماجشون كيفية السلام: السلام عليك أيها الأمير ورحمة الله وبركاته الصلاة يرحمك الله.
قال إسماعيل: روي أن عمر أنكر على أبي محذورة دعاءه إياه إلى الصلاة وأول من فعله معاوية.

وقال ابن عبد البر: أول من فعل ذلك معاوية أمر المؤذن أن يشعره ويناديه فيقول: السلام على أمير المؤمنين الصلاة يرحمك الله، وقيل أول من فعله المغيرة بن شعبة والأول أصح انتهى.

وروى ابن أبي شيبة عن مجاهد قال: لما قدم عمر مكة أتاه أبو محذورة وقد أذن فقال: الصلاة يا أمير المؤمنين حي على الصلاة حي على الفلاح.
قال: ويحك أمجنون أنت أما كان في دعائك الذي دعوتنا ما نأتيك حتى تأتينا.

وفي الأوائل للعسكري من طريق الواقدي عن ابن أبي ذئب قال: قلت للزهري من أول من سلم عليه فقيل السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته حي على الصلاة حي على الفلاح الصلاة يرحمك الله؟ فقال: معاوية بالشام ومروان بن الحكم بالمدينة.

وروى ابن سعد في طبقاته عن محمد بن سعد القرظ قال: كنا نؤذن على عمر بن عبد العزيز في داره للصلاة فنقول السلام عليك أيها الأمير ورحمة الله وبركاته حي على الصلاة حي على الفلاح وفي الناس الفقهاء فلا ينكرون ذلك، وبهذا كله تعلم ضعف ما في خطط المقريزي.

قال الواقدي وغيره: كان بلال يقف على باب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الأذان فيقول: السلام عليك يا رسول الله فلما ولي أبو بكر كان سعد القرظ يقف فيقول: السلام عليك يا خليفة رسول الله الصلاة يا خليفة رسول الله، فلما ولي عمر ولقب أمير المؤمنين كان المؤذن يقف على بابه ويقول: السلام عليك يا أمير المؤمنين الصلاة يا أمير المؤمنين، ثم إن عمر أمر المؤذن فزاد فيها رحمك الله، ويقال إن عثمان هو الذي زادها، وما زال المؤذنون إذا أذنوا سلموا على الخلفاء وأمراء الأعمال ثم يقيمون الصلاة بعد السلام فيخرج الخليفة أو الأمير فيصلي بالناس هكذا كان العمل مدة أيام بني أمية ثم مدة بني العباس حتى ترك الخلفاء الصلاة بالناس فترك ذلك انتهى.
والواقدي متروك ولعل غيره تبعه، والله أعلم.

( وَسُئِلَ مَالِكٌ عَنْ مُؤَذِّنٍ أَذَّنَ لِقَوْمٍ ثُمَّ انْتَظَرَ هَلْ يَأْتِيهِ أَحَدٌ فَلَمْ يَأْتِهِ أَحَدٌ فَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَصَلَّى وَحْدَهُ ثُمَّ جَاءَ النَّاسُ بَعْدَ أَنْ فَرَغَ أَيُعِيدُ الصَّلَاةَ مَعَهُمْ؟ قَالَ: لَا يُعِيدُ الصَّلَاةَ وَمَنْ جَاءَ بَعْدَ انْصِرَافِهِ) فراغه من الصلاة ( فَلْيُصَلِّ لِنَفْسِهِ وَحْدَهُ) قال ابن نافع: معناه أن المؤذن هنا هو الإمام الراتب ولم يرد المؤذن، فإن لم يكن الإمام الراتب فلا بأس أن يجمعوا تلك الصلاة ويعيدها المؤذن معهم إن شاء.

قال ابن عبد البر: وهذا التفسير حسن على أصل قول مالك المسجد الذي له إمام راتب لا يجمع فيه صلاة واحدة مرتين وبه قال سفيان الثوري وأجازه أشهب.

وقال الباجي: إذا كان المؤذن إمامًا راتبًا فكما قال مالك: لأن الاعتبار في الجماعة بالإمام دون المأموم لما في ذلك من مخالفة الأئمة ومفارقة الجماعة، ولأن ذلك يؤدي أن لا تراعى أوقات الصلاة ويؤخر من شاء ويصلي في جماعة، وإن لم يكن المؤذن إمامًا راتبًا فقال ابن نافع حكمه حكم الفذ، وقال عيسى كالجماعة ويظهر لي أن قول عيسى في مسجد له مؤذن راتب وليس له إمام راتب لتعلق حكم الجماعة به دون المؤذن.

وقال ابن عبد البر: ولا أصل لهذه المسألة إلا المنع من الاختلاف على الأئمة وردع أهل البدع ليتركوا إظهار بدعتهم لأنهم كانوا يرغبون عن صلاة الإمام ثم يأتون بعده فيجمعون بإمامهم.

وقال أبو حنيفة والشافعي والجمهور لا بأس أن يجمع في المسجد مرتين ولم ينه الله عنه ولا رسوله ولا اتفق عليه العلماء، ودليل الجواز حديث أنه صلى الله عليه وسلم صلى إحدى صلاتي العشي فلما سلم دخل رجل لم يدرك الصلاة معه فاستقبل القبلة ليصلي فقال صلى الله عليه وسلم: ألا رجل يتصدق على هذا فيصلي معه فقام رجل ممن صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم فصلى معه انتهى.
والجواب أن هذه واقعة حال محتملة فلا ينهض حجة في عدم الكراهة.

( وَسُئِلَ مَالِكٌ عَنْ مُؤَذِّنٍ أَذَّنَ لِقَوْمٍ ثُمَّ تَنَفَّلَ فَأَرَادُوا أَنْ يُصَلُّوا بِإِقَامَةِ غَيْرِهِ؟ فَقَالَ: لَا بَأْسَ بِذَلِكَ إِقَامَتُهُ وَإِقَامَةُ غَيْرِهِ سَوَاءٌ) وبهذا قال أبو حنيفة وقال الليث والثوري والشافعي وأكثر أهل الحديث: من أذن فهو يقيم لحديث عبد الله بن الحارث الصدائي قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما كان الصبح أمرني فأذنت ثم قام إلى الصلاة فجاء بلال ليقيم فقال صلى الله عليه وسلم: إن أخا صداء أذن ومن أذن فهو يقيم.

قال ابن عبد البر: انفرد به عبد الرحمن بن زياد الإفريقي وليس بحجة عندهم، وحجة مالك حديث عبد الله بن زيد حين أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأذان فأمره أن يلقيه على بلال وقال: إنه أندى منك صوتًا فلما أذن بلال قال صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن زيد: أقم أنت فأقام وهذا الحديث أحسن إسنادًا.

( قَالَ مَالِكٌ: لَمْ تَزَلِ الصُّبْحُ يُنَادَى لَهَا قَبْلَ الْفَجْرِ) في أول السدس الأخير من الليل قاله ابن وهب وسحنون.
وقال ابن حبيب: نصف الليل، وحجة العمل المذكور حديث ابن عمر الآتي إن بلالاً ينادي بليل وبه قال الجمهور والأئمة الثلاثة، وقال أبو حنيفة وطائفة لا يؤذن لها حتى يطلع الفجر ( فَأَمَّا غَيْرُهَا مِنَ الصَّلَوَاتِ فَإِنَّا لَمْ نَرَهَا يُنَادَى لَهَا إِلَّا بَعْدَ أَنْ يَحِلَّ وَقْتُهَا) لحرمته قبل الوقت في غير الصبح.

قال الكرخي من الحنفية: كان أبو يوسف يقول: بقول أبي حنيفة: لا يؤذن لها حتى أتى المدينة فرجع إلى قول مالك وعلم أنه عملهم المتصل.

قال الباجي: يظهر لي أنه ليس في الأثر ما يقتضي أن الأذان قبل الفجر لصلاة الفجر فإن كان الخلاف في الأذان ذلك الوقت فالآثار حجة لمن أثبته وإن كان الخلاف في المقصود به فيحتاج إلى ما يبين ذلك من إبطال الأذان إلى الفجر أو غير ذلك مما يدل عليه.

( مَالِكٍ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ الْمُؤَذِّنَ جَاءَ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ يُؤْذِنُهُ لِصَلَاةِ الصُّبْحِ فَوَجَدَهُ نَائِمًا فَقَالَ: الصَّلَاةُ خَيْرٌ مِنَ النَّوْمِ فَأَمَرَهُ عُمَرُ أَنْ يَجْعَلَهَا فِي نِدَاءِ الصُّبْحِ) هذا البلاغ أخرجه الدارقطني في السنن من طريق وكيع في مصنفه عن العمري عن نافع عن ابن عمر عن عمر، وأخرج أيضًا عن سفيان عن محمد بن عجلان عن نافع عن ابن عمر عن عمر أنه قال لمؤذنه: إذا بلغت حي على الفلاح في الفجر فقل الصلاة خير من النوم الصلاة خير من النوم، فقصر ابن عبد البر في قوله لا أعلم هذا روي عن عمر من وجه يحتج به وتعلم صحته، وإنما أخرجه ابن أبي شيبة من حديث هشام بن عروة عن رجل يقال له إسماعيل لا أعرفه قال: والتثويب محفوظ في أذان بلال وأبي محذورة في صلاة الصبح للنبي صلى الله عليه وسلم، والمعنى هنا أن نداء الصبح موضع قوله لا هنا كأنه كره أن يكون منه نداء آخر عند باب الأمير كما أحدثته الأمراء، وإلا فالتثويب أشهر عند العلماء والعامة من أن يظن بعمر أنه جهل ما سن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر به مؤذنيه بلالاً بالمدينة، وأبا محذورة بمكة انتهى.

ونحو تأويله قول الباجي: يحتمل أن عمر قال ذلك إنكارًا لاستعماله لفظة من ألفاظ الأذان في غيره وقال له اجعلها فيه يعني لا تقلها في غيره انتهى.
وهو حسن متعين: فقد روى ابن ماجه من طريق ابن المسيب عن بلال أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم يؤذنه لصلاة الفجر فقيل هو نائم فقال الصلاة خير من النوم مرتين، فأقرت في تأذين الفجر فثبت الأمر على ذلك.

وروى بقي بموحدة ابن مخلد عن أبي محذورة قال: كنت غلامًا صبيًا فأذنت بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم الفجر يوم حنين: فلما انتهيت إلى حي على الفلاح قال: ألحق فيها الصلاة خير من النوم، وقال مالك في مختصر ابن شعبان: لا يترك المؤذن قوله في نداء الصبح الصلاة خير من النوم في سفر ولا حضر ومن أذن في ضيعته متنحيًا عن الناس فتركه فلا بأس وأحب إلينا أن يأتي به.

( مَالِكٍ عَنْ عَمِّهِ أَبِي سُهَيْلِ) بضم السين واسمه نافع ( بْنِ مَالِكٍ عَنْ أَبِيهِ) مالك بن أبي عامر الأصبحي ( أَنَّهُ قَالَ: مَا أَعْرِفُ شَيْئًا مِمَّا أَدْرَكْتُ عَلَيْهِ النَّاسَ) يعني الصحابة ( إِلَّا النِّدَاءَ بِالصَّلَاةِ) فإنه باق على ما كان عليه لم يدخله تغيير ولا تبديل بخلاف الصلاة فقد أخرت عن أوقاتها وسائر الأفعال قد دخلها التغيير، فأنكر أكثر أفعال أهل عصره والتغيير يمكن أن يلحق صفة الفعل كتأخير الصلاة وأن يلحق الفعل جملة كترك الأمر بكثير من المعروف والنهي عن كثير من المنكر مع علم الناس بذلك كله قاله الباجي.

وقال ابن عبد البر فيه: إن الأذان لم يتغير عما كان عليه، وكذا قال عطاء ما أعلم تأذينهم اليوم يخالف تأذين من مضى وفيه تغير الأحوال عما كانت عليه زمن الخلفاء الأربع في أكثر الأشياء، واحتج بهذا بعض من لم ير عمل أهل المدينة حجة وقال لا حجة إلا فيما نقل بالأسانيد الصحاح عن النبي صلى الله عليه وسلم أو عن الخلفاء الأربعة ومن سلك سبيلهم.

( مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ سَمِعَ الْإِقَامَةَ وَهُوَ بِالْبَقِيعِ فَأَسْرَعَ الْمَشْيَ إِلَى الْمَسْجِدِ) بدون جري لأن الإسراع المنهي عنه بقوله صلى الله عليه وسلم: فلا تأتوها وأنتم تسعون هو الجري لأنه ينافي الوقار المشروع في الصلاة وفي قصدها، وأما ما لا ينافي الوقار فجائز وكذا قول مالك بجواز تحريك الفرس لمن سمع الأذان ليدرك الصلاة يريد تحريكه للإسراع في المشي دون جري ولا خروج عن حد الوقار قاله الباجي.

وقال ابن عبد البر: الواجب أن يأتي الصلاة بالسكينة خاف فواتها أو لم يخف لأمره صلى الله عليه وسلم بذلك وهو الحجة قال وقال بعض أصحابنا إن ابن عمر لم يزد على مشيه المعهود لأن الإسراع كان عادته لبعده من الزهو وليس ببين لأن نافعًا مولاه قد عرف مشيه، ثم أخبر أنه لما سمع الإقامة أسرع، ولا يخالفه قول محمد بن زيد: كان ابن عمر إذا مشى إلى الصلاة لو مشت معه نملة ما سبقها لأنه في حال لا يخاف فيها فوات شيء من الصلاة وهي أغلب أحواله انتهى.



رقم الحديث 151 وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ الْمُؤَذِّنَ جَاءَ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ يُؤْذِنُهُ لِصَلَاةِ الصُّبْحِ، فَوَجَدَهُ نَائِمًا.
فَقَالَ: الصَّلَاةُ خَيْرٌ مِنَ النَّوْمِ، فَأَمَرَهُ عُمَرُ أَنْ يَجْعَلَهَا فِي نِدَاءِ الصُّبْحِ.


( مَالِكٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ) الأنصاري ( أَنَّهُ قَالَ) مرسلاً ( كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) لما كثر الناس ( قَدْ أَرَادَ أَنْ يَتَّخِذَ خَشَبَتَيْنِ) هما الناقوس وهو خشبة طويلة تضرب بخشبة أصغر منها فيخرج منهما صوت كما في الفتح وغيره ( يُضْرَبُ بِهِمَا لِيَجْتَمِعَ النَّاسُ لِلصَّلَاةِ) .

قال ابن عمر: كان المسلمون حين قدموا المدينة يجتمعون فيتحينون الصلاة ليس ينادى لها فتكلموا يومًا في ذلك فقال بعضهم: أنتخذ ناقوسًا مثل ناقوس النصارى، وقال بعضهم: بل بوقًا مثل قرن اليهود، الحديث في الصحيحين.

وقال أنس: لما كثر الناس ذكروا أن يعلموا وقت الصلاة بشيء يعرفونه فذكروا أن يوروا نارًا أو يضربوا ناقوسًا رواه البخاري ومسلم وفيه اختصار وهو في أبي داود وغيره بإسناد صحيح عن أبي عمير بن أنس عن عمومة له من الأنصار اهتم النبي صلى الله عليه وسلم للصلاة كيف يجمع الناس لها قيل له: انصب راية فإذا رآها الناس أذن بعضهم بعضًا فلم يعجبه ذلك فذكر له القبع أي شبور اليهود فقال: هو من أمر اليهود، فذكر له الناقوس فقال هو من أمر النصارى وكأنه كرهه أولاً ثم أمر بعمله، ففي أبي داود عن عبد الله بن زيد لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناقوس يعمل ليضرب به للناس ليجتمعوا للصلاة طاف بي وأنا نائم رجل يحمل ناقوسًا.

( فَأُرِيَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ) بن ثعلبة بن عبد ربه أبو محمد ( الْأَنْصَارِيُّ ثُمَّ مِنْ بَنِي الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ) فيقال له الخزرجي الحارثي شهد العقبة وبدرًا.
قال الترمذي: لا نعرف له عن النبي صلى الله عليه وسلم شيئًا إلا هذا الحديث الواحد في الأذان وكذا قال ابن عدي.

قال في الإصابة: وأطلق غير واحد أنه ما له غيره وهو خطأ فقد جاءت عنه أحاديث ستة أو سبعة جمعتها في جزء مفرد، ومات سنة اثنين وثلاثين وهو ابن أربع وستين وصلى عليه عثمان قاله ولده محمد بن عبد الله نقله المدايني.
وقال الحاكم: الصحيح أنه قتل بأحد فالروايات عنه كلها منقطعة وخالف ذلك في المستدرك.

( خَشَبَتَيْنِ فِي النَّوْمِ) متعلق بأري ( فَقَالَ: إِنَّ هَاتَيْنِ لَنَحْوٌ مِمَّا يُرِيدُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أن يجمع به الناس للصلاة ( فَقِيلَ أَلَا تُؤَذِّنُونَ لِلصَّلَاةِ) وأسمعه الأذان فاستيقظ ( فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ اسْتَيْقَظَ فَذَكَرَ لَهُ ذَلِكَ) فقال: إنها لرؤيا حق إن شاء الله ( فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْأَذَانِ) كذا أورد الحديث مرسلاً مختصرًا كما سمعه من يحيى بن سعيد.

قال ابن عبد البر: وروى قصة عبد الله بن زيد هذه في بدء الأذان جماعة من الصحابة بألفاظ مختلفة ومعان متقاربة والأسانيد في ذلك متواترة وهي من وجوه حسان انتهى.

وأخرج أبو داود والترمذي وقال حسن صحيح وابن ماجه وابن خزيمة وابن حبان وصححاه من حديث محمد بن عبد الله بن زيد قال: حدثني أبي لما أمر صلى الله عليه وسلم بالناقوس يعمل به للناس ليجتمعوا للصلاة طاف بي وأنا نائم رجل يحمل ناقوسًا في يده فقلت: يا عبد الله أتبيع الناقوس؟ قال: وما تصنع به فقلت: ندعو به إلى الصلاة، قال: أفلا أدلك على ما هو خير من ذلك؟ فقلت: بلى.
قال: تقول الله أكبر فذكره مربع التكبير بلا ترجيع.
قال: ثم استأخر عني غير بعيد فقال: تقول إذا قمت إلى الصلاة فذكر الإقامة مفردة وثنى قد قامت الصلاة، فلما أصبحت أتيت رسول الله فأخبرته بما رأيت فقال: إنها لرؤيا حق إن شاء الله فقم مع بلال فألق عليه ما رأيت فليؤذن به فإنه أندى منك صوتًا فقمت مع بلال فجعلت ألقيه عليه ويؤذن به قال: فسمع بذلك عمر بن الخطاب وهو في بيته فخرج يجر رداءه يقول: والذي بعثك بالحق يا رسول الله لقد رأيت مثل ما أري.
فقال صلى الله عليه وسلم: فلله الحمد اهـ.
لفظ أبي داود وهو كالشرح لمرسل الموطأ.

ونقل ابن خزيمة عن محمد بن يحيى الذهلي بذال ولام أن هذه الطريق أصح طرقه وشاهده حديث عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن سعيد بن المسيب مرسلاً، ومنهم من وصله عن سعيد عن عبد الله بن زيد والمرسل أقوى إسنادًا.
ولأحمد عن معاذ بن جبل أن عبد الله بن زيد قال: يا رسول الله إني رأيت فيما يرى النائم ولو قلت إني لم أكن نائمًا لصدقت رأيت شخصًا عليه ثوبان أخضران فاستقبل القبلة فقال: الله أكبر، فذكر الحديث.

وعند أبي داود في حديث أبي عمير بن أنس عن عمومته من الأنصار وكان عمر قد رآه قبل ذلك فكتمه عشرين يومًا ثم أخبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: ما منعك أن تخبرني؟ فقال: سبقني عبد الله بن زيد فاستحيت وظاهره يعارض ما قبله.

قال الحافظ: ولا مخالفة لأنه يحمل على أنه لم يخبر بذلك عقب إخبار عبد الله بن زيد بل متراخيًا عنه فقوله: ما منعك أن تخبرني أي عقب إخبار عبد الله فاعتذر بالاستحياء فدل على أنه لم يخبره على الفور انتهى.
وبعده لا يخفى مع قوله فسمع عمر فخرج يقول: يا رسول الله لقد رأيت مثل ما أري فجعله حالاً من فاعل خرج أي قائلاً في حال خروجه، لكنه لا يمتنع للجمع بين الحديثين مع صحتهما.

وللطبراني في الأوسط أن أبا بكر أيضًا رأى الأذان، وذكر الجيلي في شرح التنبيه أنه رآه أربعة عشر رجلاً، وأنكره ابن الصلاح فقال: لم أجده بعد إمعان البحث، ثم النووي فقال في تنقيحه: هذا ليس بثابت ولا معروف، وإنما الثابت خروج عمر يجر رداءه.
وفي سيرة مغلطاي عن بعض كتب الفقهاء أنه رآه سبعة من الأنصار.

قال الحافظ: ولا يثبت شيء من ذلك إلا لعبد الله بن زيد، وقصة عمر جاءت في بعض طرقه.

وفي مسند الحارث بن أبي أسامة بسند واهٍ عن كثير الحضرمي قال: أول من أذن بالصلاة جبريل في السماء الدنيا فسمعه عمر وبلال فسبق عمر بلالاً فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم، ثم جاء بلال فقال له: سبقك بها عمر.
قال: وقد استشكل إثبات حكم الأذان برؤيا عبد الله بن زيد لأن رؤيا غير الأنبياء لا ينبني عليها حكم شرعي.

وأجيب باحتمال مقارنة الوحي لذلك أو لأنه صلى الله عليه وسلم أمر بمقتضى الرؤيا لينظر أيقر على ذلك أم لا.
ولا سيما لما رأى نظمها يبعد دخول الوسواس فيه وهذا ينبني على القول بجواز اجتهاده في الأحكام وهو المنصور في الأصول، ويؤيد الأول ما رواه عبد الرزاق وأبو داود في المراسيل عن عبيد بن عمير أحد كبار التابعين أن عمر لما رأى الأذان جاء ليخبر به النبي صلى الله عليه وسلم فوجد الوحي قد ورد بذلك فما راعه إلا أذان بلال فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: سبقك بذلك الوحي وهذا أصح مما حكى الداودي عن ابن إسحاق أن جبريل أتى النبي صلى الله عليه وسلم بالأذان قبل أن يخبره عبد الله بن زيد وعمر بثمانية أيام.

وجاءت أحاديث تدل على أن الأذان شرع بمكة قبل الهجرة.
منها للطبراني عن ابن عمر قال: لما أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم أوحى الله إليه الأذان فنزل به فعلمه بلالاً، وفي إسناده طلحة بن زيد وهو متروك وللدارقطني عن أنس أن جبريل أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالأذان حين فرضت الصلاة وإسناده ضعيف أيضًا.
ولابن مردويه عن عائشة مرفوعًا: لما أسري بي أذن جبريل فظنت الملائكة أنه يصلي بهم فقدمني فصليت وفيه من لا يعرف.
وللبزار وغيره عن علي: لما أراد الله أن يعلم رسوله الأذان أتاه جبريل بالبراق فركبها، الحديث.
وفيه: إذ خرج ملك من الحجاب فقال: الله أكبر، وفي آخره فأخذ الملك بيده فأم بأهل السماء، وفي إسناده زياد بن المنذر أبو الجارود وهو متروك أيضًا، ويمكن على تقدير الصحة أن يحمل على تعدد الإسراء فيكون وقع ذلك بالمدينة.
وقول القرطبي لا يلزم من كونه سمعه ليلة الإسراء أن يكون مشروعًا في حقه فيه نظر لقوله أوله لما أراد الله أن يعلم رسوله الأذان، وكذا قول المحب الطبري يحمل الأذان ليلة الإسراء على الأذان اللغوي وهو الإعلام فيه نظر أيضًا لتصريحه بصفته المشروعة فيه، والحق أنه لا يصح شيء من هذه الأحاديث.

وقد جزم ابن المنذر بأنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي بلا أذان منذ فرضت الصلاة بمكة إلى أن هاجر إلى المدينة إلى أن وقع التشاور في ذلك على ما في حديث ابن عمر ثم في حديث عبد الله بن زيد انتهى.

ومن الواهي أيضًا ما لابن شاهين عن زياد بن المنذر حدثني العلاء قال قلت لابن الحنفية: كنا نتحدث أن الأذان رؤيا رآها رجل من الأنصار ففزع وقال: عمدتم إلى أحسن دينكم فزعمتم أنه كان رؤيا هذا والله الباطل، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما عرج به انتهى إلى مكان من السماء وقف وبعث الله ملكًا ما رآه أحد في السماء قبل ذلك اليوم فعلمه الأذان ففيه كما رأيت زياد بن المنذر متروك، وقد صرح الحافظ الذهبي بأن هذا باطل.

قال الحافظ: وقد حاول السهيلي الجمع فتكلف وتعسف والأخذ بما صح أولى فقال بانيًا على صحة الحكمة في مجيء الأذان على لسان الصحابي أن النبي صلى الله عليه وسلم سمعه فوق سبع سموات وهو أقوى من الوحي فلما تأخر الأمر بالأذان عن فرض الصلاة وأراد إعلامهم بالوقت رأى الصحابي المنام فقصه فوافق ما كان صلى الله عليه وسلم سمعه فقال: إنها لرؤيا حق، وعلم حينئذ أن مراد الله بما أراه في السماء أن يكون سنة في الأرض وتقوى ذلك بموافقة عمر لأن السكينة تنطق على لسانه والحكمة أيضًا في إعلام الناس به على غير لسانه صلى الله عليه وسلم التنويه بقدره والرفع لذكره بلسان غيره ليكون أقوى لأمره وأفخر لشأنه انتهى ملخصًا.

والثاني حسن بديع ويؤخذ من عدم الاكتفاء برؤية عبد الله بن زيد حتى أضيف إليه عمر للتقوية التي ذكرها ولم يقتصر على عمر ليصير في معنى الشهادة وجاء في رواية ضعيفة ما ظاهره أن بلالاً رأى أيضًا لكنها مؤولة فإن لفظها سبقك بها بلال فيحمل على مباشرة التأذين برؤيا عبد الله بن زيد، ومما يكثر السؤال عنه هل باشر النبي صلى الله عليه وسلم الأذان بنفسه، وقد روى الترمذي بإسناد حسن عن يعلى بن مرة الثقفي أن النبي صلى الله عليه وسلم أذن في سفر وصلى بأصحابه وهم على رواحلهم السماء من فوقهم والبلة من أسفلهم.

قال السهيلي: فنزع بعض الناس بهذا الحديث أنه صلى الله عليه وسلم أذن بنفسه، لكن روى الحديث الدارقطني بسند الترمذي ومتنه وقال فيه: فأمر بالأذان فقام المؤذن فأذن والمفصل يقضي على المجمل المحتمل انتهى.

وتبع هذا البعض النووي فجزم أن النبي صلى الله عليه وسلم أذن مرة في سفره وعزاه للترمذي وقواه، وتعقبه الحافظ فقال: ولكن وجدنا الحديث في مسند أحمد من الوجه الذي أخرجه منه الترمذي بلفظ فأمر بلالاً فأذن فعرف أن في رواية الترمذي اختصارًا وأن معنى أذن أمر بلالاً به كما يقال أعطى الخليفة العالم الفلاني ألفًا وإنما باشر العطاء غيره ونسب للخليفة لكونه أمر به انتهى.

وانتصر بعض للنووي تبعًا للبعض بأن هذا إنما يصار إليه لو لم يحتمل تعدد الواقعة، أما إذا أمكن فيجب المصير إليه إبقاء لأذن على حقيقته عملاً بقاعدة الأصول أنه يجب إبقاء اللفظ على حقيقته وهو مردود بأن ذلك إنما يصح إذا اختلف سند الحديث ومخرجه، أما مع الاتحاد فلا ويجب رجوع المجمل إلى المفصل عملاً بقاعدة الأصول وأهل الحديث.

وقال بعض المحدثين لو لم نكتب الحديث من ستين وجهًا ما عقلناه لاختلاف الرواة في ألفاظه ونحوها: نعم قال السيوطي في شرح البخاري: قد ظفرت بحديث آخر مرسلاً رواه سعيد بن منصور، حدثنا أبو معاوية، حدثنا عبد الرحمن بن أبي بكر القرشي، عن ابن أبي مليكة، قال: أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرة فقال: حي على الفلاح قال وهذه رواية لا تقبل التأويل انتهى.
فهذا الذي يجزم فيه بالتعدد لاختلاف سنده وانظر ما أحسن قوله آخر لكن لم يبين هل كان في سفر أو حضر.

( مَالِكٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَزِيدَ) بتحتية وزاي ( اللَّيْثِيِّ) المدني نزيل الشام من ثقات التابعين ورجال الجميع، مات سنة خمس أو سبع ومائة وقد جاوز الثمانين، ولأبي عوانة من رواية ابن وهب عن مالك ويونس عن الزهري أن عطاء بن يزيد أخبره ( عَنْ أَبِي سَعِيدٍ) سعد بن مالك بن سنان بن عبيد الأنصاري ( الْخُدْرِيِّ) له ولأبيه صحبة واستصغر بأحد ثم شهد ما بعدها روى الكثير ومات بالمدينة سنة ثلاث أو أربع أو خمس وستين وقيل سنة أربع وسبعين.

( أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِذَا سَمِعْتُمُ النِّدَاءَ) أي الأذان سمي به لأنه نداء إلى الصلاة ودعاء إليها ( فَقُولُوا مِثْلَ مَا يَقُولُ الْمُؤَذِّنُ) ادعى ابن وضاح أن قوله المؤذن مدرج وأن الحديث انتهى بقوله ما يقول، وتعقب بأن الإدراج لا يثبت بمجرد الدعوى، وقد اتفقت الروايات في الصحيحين والموطأ على إثباتها، ولم يصب صاحب العمدة في حذفها وظاهره اختصاص الإجابة بمن سمع حتى لو رأى المؤذن على المنارة مثلاً في الوقت وعلم أنه يؤذن، لكن لم يسمع أذانه لبعد أو صمم لا يشرع له المتابعة قاله النووي في شرح المهذب، وقال مثل ما يقول ولم يقل مثل ما قال ليشعر بأنه يجيبه بعد كل كلمة مثل كلمتها قاله الكرماني والصريح في ذلك ما رواه النسائي عن أم حبيبة أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول مثل ما يقول المؤذن حتى يسكت.

وقال أبو الفتح اليعمري: ظاهر الحديث أنه يقول مثل ما يقول عقب فراغ المؤذن لكن الأحاديث التي تضمنت إجابة كل كلمة عقبها دلت على أن المراد المساوقة يشير إلى حديث عمر في مسلم وغيره وظاهره أيضًا أنه يقول مثله في جميع الكلمات، لكن حديث عمر أيضًا وحديث معاوية في البخاري وغيره دلا على أنه يستثنى من ذلك حي على الصلاة وحي على الفلاح فيقول بدلهما لا حول ولا قوة إلا بالله وهو المشهور عند الجمهور.

وقال ابن المنذر: يحتمل أن يكون ذلك من الاختلاف المباح فيقول تارة كذا وتارة كذا، وحكي عن بعض أهل الأصول أن الخاص والعام إذا أمكن الجمع بينهما وجب إعمالهما فلم لا يستحب للسامع أن يجمع بين الحيعلة والحوقلة وهو وجه عند الحنابلة.

وأجيب عن المشهور من حيث المعنى بأن الأذكار الزائدة على الحيعلة يشترك السامع والمؤذن في ثوابها، وأما الحيعلة فمقصودها الدعاء إلى الصلاة وذلك يحصل من المؤذن فعوض السامع عما فاته من ثوابها بثواب الحوقلة، ولقائل أن يقول يحصل للمجيب الثواب لامتثاله الأمر ويمكن أن يزداد استيقاظًا وإسراعًا إلى القيام إلى الصلاة إذا تكرر على سمعه الدعاء إليها من المؤذن ومن نفسه.
قيل: وفي الحديث دليل على أن لفظ مثل لا يقتضي المساواة من كل جهة لأنه لا يطلب برفع الصوت المطلوب من المؤذن، وفيه بحث لأن المماثلة وقعت في القول لا في صفته، والفرق أن المؤذن قصده الإعلام فاحتاج لرفع الصوت، والسامع مقصوده ذكر الله فيكفي السر أو الجهر لا مع رفع الصوت.
نعم لا يكفي إجراؤه على خاطره من غير تلفظ لظاهر الأمر بالقول وفيه جواز إجابة المؤذن في الصلاة عملاً بظاهر الأمر، ولأن المجيب لا يقصد المخاطبة واستدل به على وجوب إجابة المؤذن حكاه الطحاوي عن قوم من السلف، وبه قال الحنفية والظاهرية وابن وهب.

واستدل الجمهور لحديث مسلم وغيره أنه صلى الله عليه وسلم سمع مؤذنًا فلما كبر قال على الفطرة فلما تشهد قال خرج من النار فلما قال صلى الله عليه وسلم غير ما قال المؤذن علم أن الأمر للاستحباب، وتعقب بأنه ليس في الحديث أنه لم يقل مثل ما قال فيجوز أنه قاله ولم ينقله الراوي اكتفاء بالعادة ونقل القول الزائد، وبأنه يحتمل أن ذلك وقع قبل صدور الأمر وأن يكون لما أمر لم يرد أن يدخل نفسه في عموم من خوطب بذلك انتهى.

والحديث أخرجه البخاري عن عبد الله بن يوسف، ومسلم عن يحيى كلاهما عن مالك به.

قال الحافظ: واختلف على الزهري في إسناده وعلى مالك أيضًا لكنه اختلاف لا يقدح في صحته، فرواه عبد الرحمن بن إسحاق عن الزهري عن سعيد عن أبي هريرة أخرجه النسائي وابن ماجه، وقال أبو حاتم وأحمد بن صالح والترمذي وأبو داود: حديث مالك ومن تابعه أصح، ورواه يحيى القطان عن مالك عن الزهري عن السائب بن يزيد أخرجه مسدد في مسنده وقال: إنه خطأ.
والصواب الرواية الأولى وفيه اختلاف آخر دون ما ذكر لا نطيل به انتهى.

( مَالِكٍ عَنْ سُمَيٍّ) بضم السين المهملة بلفظ التصغير ( مَوْلَى أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) بن الحارث بن هشام ( عَنْ أَبِي صَالِحٍ) ذكوان ( السَّمَّانِ) لأنه كان يتجر في السمن والزيت فلذا قيل له الزيات أيضًا ( عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ) وضع المضارع موضع الماضي ليفيد استمرار العلم قاله الطيبي ( مَا فِي النِّدَاءِ) أي الأذان وهي رواية بشر بن عمر عن مالك عند السراج ( وَالصَّفِّ الْأَوَّلِ) زاد أبو الشيخ من طريق الأعرج عن أبي هريرة: من الخير والبركة.

وقال الطيبي: أطلق مفعول يعلم وهو ما ولم يبين الفضيلة ما هي ليفيد ضربًا من المبالغة وأنه مما لا يدخل تحت الوصف والإطلاق إنما هو في قدر الفضيلة وإلا فقد ميزت في رواية بالخير والبركة.

قال الباجي: اختلف في الصف الأول هل هو الذي يلي الإمام أو المبكر السابق إلى المسجد؟ قال القرطبي: والصحيح أنه الذي يلي الإمام قالا فإن كان بين الإمام والناس حائل كما أحدث الناس المقاصير فالصف الأول هو الذي يلي المقصورة.

وقال ابن عبد البر: لا أعلم خلافًا أن من بكر وانتظر الصلاة وإن لم يصل في الصف الأول أفضل ممن تأخر وصلى في الصف الأول وفي هذا ما يوضح معنى الصف الأول وأنه ورد من أجل البكور إليه والتقدم، وقال صلى الله عليه وسلم: أتموا الصف المقدم ثم الذي يليه فما كان من نقص فليكن في المؤخر.

( ثُمَّ لَمْ يَجِدُوا) شيئًا من وجوه الأولوية بأن يقع التساوي أما في الأذان فبأن يستووا في معرفة الوقت وحسن الصوت ونحو ذلك وأما في الصف فبأن يصلوا دفعة واحدة ويتساووا في الفضل ( إِلَّا أَنْ يَسْتَهِمُوا) أي يقترعوا ( عَلَيْهِ) أي على ما ذكر من الأمرين ليشمل الأذان والصف.

وقال ابن عبد البر: الهاء عائدة على الصف الأول لا على النداء وهو وجه الكلام، لأن الضمير يعود إلى أقرب مذكور ولا يعدل عنه إلا بدليل ونازعه القرطبي وقال: يلزم منه أن يبقى النداء ضائعًا لا فائدة له قال والضمير يعود على معنى الكلام المتقدم ومثله قوله تعالى: { { وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا } } أي جميع ما ذكر.

قال الحافظ: وقد رواه عبد الرزاق عن مالك بلفظ لاستهموا عليهما فهذا مفصح بالمراد من غير تكلف.

( لَاسْتَهَمُوا) اقترعوا ومنه قوله تعالى: { { فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ } } قال الخطابي وغيره: قيل له استهام لأنهم كانوا يكتبون أسماءهم على سهام إذا اختلفوا في شيء فمن خرج اسمه غلب، واستدل به بعضهم لمن قال بالاقتصار على مؤذن واحد وليس بظاهر لصحة استهام أكثر من واحد، ولأن الاستهام على الأذان متوجه من جهة التولية من قبل الإمام لما فيه من المزية.
وزعم بعضهم أن المراد بالاستهام هنا الترامي بالسهام وأنه خرج مخرج المبالغة واستأنس بحديث لتجالدوا عليه بالسيوف، لكن فهم البخاري أن المراد اقترعوا أولى لرواية مسلم لكانت قرعة.

وقد روى سيف بن عمر في كتاب الفتوح والطبراني عن عبد الله بن شبرمة عن شقيق وهو أبو وائل قال: افتتحنا القادسية صدر النهار فتراجعنا وقد أصيب المؤذن فتشاح الناس في الأذان بالقادسية فاختصموا إلى سعد بن أبي وقاص فأقرع بينهم فخرجت القرعة لرجل منهم فأذن، والقادسية مكان معروف بالعراق نسب إلى قادس رجل نزل به.

وحكى الجوهري أن إبراهيم الخليل قدس على ذلك المكان فلذا صار منزلاً للحاج وكان بها وقعة مشهورة للمسلمين مع الفرس في خلافة عمر سنة خمس عشرة وكان سعد يومئذ الأمير على الناس.

( وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي التَّهْجِيرِ) أي التبكير إلى الصلوات أي صلاة كانت قاله الهروي وغيره.
قال ابن عبد البر: التهجير معروف وهو البدار إلى الصلاة أول وقتها وقبله وانتظارها قال تعالى: { { فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ } } وقال صلى الله عليه وسلم: منتظر الصلاة في صلاة ما انتظرها وحسبك بهذا فضلاً وسمى صلى الله عليه وسلم انتظار الصلاة بعد الصلاة رباطًا، وجاء: رباط يوم خير من صوم شهر انتهى.

وحمله الخليل والباجي وغيرهما على ظاهره فقالوا: المراد الإتيان إلى صلاة الظهر في أول الوقت لأن التهجير مشتق من الهاجرة وهي شدة الحر نصف النهار وهو أول وقت الظهر وإلى ذلك مال البخاري.

قال الحافظ: ولا يرد على ذلك مشروعية الأمر بالإبراد لأنه أريد به الرفق، وأما من ترك قائلته وقصد إلى المسجد لينتظر الصلاة فلا يخفى ما له من الفضل.

( لَاسْتَبَقُوا إِلَيْهِ) أي التهجير.
قال ابن أبي جمرة: المراد الاستباق معنى لا حسًا لأن المسابقة على الإقدام حسًا تقتضي السرعة في المشي وهو ممنوع منه انتهى.

( وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي الْعَتَمَةِ) أي العشاء وثبت النهي عن تسميتها عتمة فهذا الحديث بيان للجواز وأن النهي ليس للتحريم أو استعمل العتمة هنا لمصلحة ونفي مفسدة لأن العرب كانت تستعمل العشاء في المغرب فلو قال ما في العشاء لحملوها على المغرب ففسد المعنى وفات المطلوب فاستعمل العتمة التي يعرفونها ولا يشكون فيها، وقواعد الشرع متظاهرة على احتمال أخف المفسدتين لدفع أعظمهما قاله النووي.

( وَالصُّبْحِ) أي ثواب صلاتهما في جماعة ( لَأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا) بفتح المهملة وسكون الموحدة أي مشيًا على اليدين والركبتين أو على مقعدته، ولابن أبي شيبة من حديث أبي الدرداء ولو حبوًا على المرافق والركب.

قال الباجي: خص هاتين الصلاتين بذلك لأن السعي إليهما أشق من غيرهما لما فيه من تنقيص أول النوم وآخره.

وقال ابن عبد البر: الآثار فيهما كثيرة منها قوله صلى الله عليه وسلم: أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر.
وقال أبو الدرداء في مرض موته: اسمعوا وبلغوا حافظوا على هاتين الصلاتين - يعني في جماعة العشاء والصبح - ولو تعلمون ما فيهما لأتيتموهما ولو حبوًا على مرافقكم وركبكم، وكذلك قال عمر وعثمان وروي مرفوعًا: شهود صلاة العشاء خير من قيام نصف ليلة وشهود صلاة الصبح خير من قيام ليلة.
وقال عمر والحسن: لأن أشهد صلاة العشاء والفجر أحب إلي من أن أحيي ما بينهما.
وقال ابن عمر: كنا إذا فقدنا الرجل في صلاة العشاء وصلاة الفجر أسأنا به الظن انتهى.

وهذا الحديث رواه البخاري عن عبد الله بن يوسف، ومسلم عن يحيى كلاهما عن مالك به.

( مَالِكٍ عَنِ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَعْقُوبَ) المدني ( عَنْ أَبِيهِ) وهو تابعي كابنه ( وَإِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ) بن أبي طلحة أحد شيوخ مالك روى عنه هنا بواسطة ( أَنَّهُمَا أَخْبَرَاهُ) أي العلاء ( أَنَّهُمَا سَمِعَا أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا ثُوِّبَ بِالصَّلَاةِ) بضم المثلثة وشد الواو وموحدة.

قال ابن عبد البر: أي أقيم وأصل ثاب رجع يقال ثاب إلى المريض جسمه فكأن المؤذن رجع إلى ضرب من الأذان للصلاة، وقد جاء هذا الحديث عن أبي هريرة بلفظ: إذا أقيمت الصلاة، وهو يبين أن التثويب هنا الإقامة انتهى.

وهي رواية الصحيحين من وجه آخر عن أبي هريرة وفي رواية لهما أيضًا: إذا سمعتم الإقامة وهي أخص من قوله في حديث أبي قتادة عندهما أيضًا إذا أتيتم الصلاة، لكن الظاهر كما قال الحافظ إنه في مفهوم الموافقة لأن المسرع إذا أقيمت الصلاة يترجى إدراك فضيلة التكبيرة الأولى ونحوها، ومع ذلك نهى عن الإسراع فغيره ممن جاء قبل الإقامة لا يحتاج إلى الإسراع لأنه يتحقق إدراك الصلاة كلها فينهى من باب أولى، ولحظ فيه بعضهم معنى آخر فقال: حكمة التقييد بالإقامة أن المسرع إذا أقيمت الصلاة يصل إليها وقد تعب فيقرأ وهو بتلك الحالة فلا يحصل له تمام الخشوع في الترتيل وغيره بخلاف من جاء قبل ذلك فلا تقام الصلاة حتى يستريح، لكن قضية هذا أنه لا يكره الإسراع لمن جاء قبل الإقامة وهو مخالف لصريح قوله: إذا أتيتم الصلاة لأنه يتناول ما قبل الإقامة وإنما قيده بالإقامة لأنها الحاملة غالبًا على الإسراع انتهى.

( فَلَا تَأْتُوهَا وَأَنْتُمْ تَسْعَوْنَ) تمشون بسرعة وتطلق على العمل نحو: { { وَمَنْ أَرَادَ الآَخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ } } { { إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى } } وعليه حمل قوله تعالى { { فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ } } كقوله: { { وَأَن لَّيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى } } أو المراد الذهاب فليس معناه الإسراع.
قال الطيبي: وأنتم تسعون حال من ضمير الفاعل وهو أبلغ في النهي من لا تسعوا وذلك لأنه مناف لما هو أولى به من الوقار والأدب وعقبه بما يدل على حسن الأدب بقوله ( وَأْتُوهَا وَعَلَيْكُمُ السَّكِينَةُ) ضبطه القرطبي بالنصب على الإغراء والنووي بالرفع على أنها جملة في موضع الحال زاد غيره أو السكينة مبتدأ وعليكم خبره، وذكر الحافظ العراقي في شرح الترمذي أن المشهور في الرواية الرفع، ووقع في رواية الحافظ أبي ذر الهروي للبخاري بالسكينة بالباء.

واستشكل بأنه متعد بنفسه عليكم أنفسكم وفيه نظر لثبوت زيادتها في أحاديث صحيحة كحديث عليكم برخصة الله، وحديث فعليه بالصوم فإنه له وجاء، وحديث عليك بالمرأة قاله لأبي طلحة في قصة صفية، وحديث عليكم بقيام الليل، وحديث عليك بخويصة نفسك وغير ذلك وتعليل هذا المعترض لا يوفي بمقصوده، إذ لا يلزم من تعديه بنفسه امتناع تعديه بالباء إذا ثبت ذلك، فيدل على أن فيه لغتين زاد في الصحيحين من وجه آخر عن أبي هريرة والوقار.
قال عياض والقرطبي: هو بمعنى السكينة وذكر للتأكيد.

وقال النووي: الظاهر أن بينهما فرقًا وأن السكينة التأني في الحركات واجتناب العبث والوقار في الهيئة كغض البصر وخفض الصوت وعدم الالتفات ذكره الحافظ، وقد منع الرضي الاعتراض بأن أسماء الأفعال وإن كان حكمها في التعدي واللزوم حكم الأفعال التي بمعناها لكن كثيرًا ما تزاد الباء في مفعولها لضعفها في العمل.

( فَمَا أَدْرَكْتُمْ) الفاء جواب شرط محذوف أي إذا فعلتم ما أمرتكم به من السكينة فما أدركتم ( فَصَلُّوا) مع الإمام ( وَمَا فَاتَكُمْ) معه ( فَأَتِمُّوا) أي أكملوا وفي رواية: فاقضوا والأولى أكثر رواية وأعمل مالك في المشهور في مذهبه الروايتين فقال يقضي القول ويبني الفعل وعنه بانيًا فيهما عملاً برواية فأتموا وعليها الشافعي حملاً لرواية فاقضوا على معنى الأداء والفراغ فلا يغاير قوله فأتموا، لأنه إذا اتحد مخرج الحديث واختلف في لفظة منه وأمكن رد الاختلاف إلى معنى واحد كان أولى.
وهنا كذلك لأن القضاء وإن كان يطلق على الفائت غالبًا لكنه يطلق على الأداء أيضًا ويرد بمعنى الفراغ كقوله تعالى: { { فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاَةُ } } وعنه يكون قاضيًا فيهما وبه قال أبو حنيفة.
وفي هذا تنبيه لدفع توهم أن النهي إنما هو لمن لم يخف فوت بعض الصلاة فصرح بالنهي وإن فات من الصلاة ما فات وبين ما يفعل فيما فات بقوله فما إلخ.

قال ابن عبد البر: الواجب أي المطلوب إتيان الصلاة بالسكينة ولو خاف فواتها لأمره صلى الله عليه وسلم بذلك وهو الحجة خلافًا لمن جوز السعي لخوف الفوات، وقد أكد ذلك ببيان العلة بقوله: ( فَإِنَّ أَحَدَكُمْ فِي صَلَاةٍ مَا كَانَ) مدة كونه ( يَعْمِدُ) بكسر الميم يقصد ( إِلَى الصَّلَاةِ) أي إنه في حكم المصلي فينبغي له اعتماد ما ينبغي للمصلي اعتماده واجتناب ما ينبغي له اجتنابه، ونبه بهذا على أنه لو لم يدرك من الصلاة شيئًا لكان محصلاً لمقصوده لكونه في صلاة، وعدم الإسراع أيضًا يستلزم كثرة الخطأ وهو معنى مقصود لذاته، وجاءت فيه أحاديث تقدم شيء منها.

وفي الصحيحين عن أنس أن بني سلمة أرادوا أن يتحولوا عن منازلهم فينزلوا قريبًا من النبي صلى الله عليه وسلم فكره أن يعروا منازلهم فقال: يا بني سلمة ألا تحتسبون آثاركم فأقاموا.
ولمسلم عن جابر فقالوا: ما يسرنا إذا كنا تحولنا.

واستدل به الجمهور على حصول فضل الجماعة بإدراك أي جزء من الصلاة لقوله: فما أدركتم فصلوا ولم يفصل بين قليل وكثير، وقيل: إنما يدرك فضلها بركعة وهو مذهب مالك للحديث السابق: من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة وقياسًا على الجمعة.
واستدل به أيضًا على طلب الدخول مع الإمام في أي حالة وجد عليها.
وأصرح منه ما أخرجه ابن أبي شيبة عن رجل من الأنصار مرفوعًا: من وجدني قائمًا أو راكعًا أو ساجدًا فليكن معي على حالتي التي أنا عليها.

واستدل به أيضًا على أن من أدرك الإمام راكعًا لم تحسب له تلك الركعة للأمر بإتمام ما فاته وقد فاته الوقوف والقراءة فيه وهو قول أبي هريرة وجماعة، واختاره ابن خزيمة وغيره، وقواه التقي السبكي.

وحجة الجمهور حديث أبي بكرة لما ركع دون الصف فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: زادك الله حرصًا ولا تعد ولم يأمره بإعادة تلك الركعة، وقد تابع مالكًا في رواية هذا الحديث عن العلاء إسماعيل بن جعفر قال: أخبرني العلاء رواه مسلم بلفظه وهو في مسند أحمد والكتب الستة من طرق عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة بلفظ: إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون وأتوها وأنتم تمشون وعليكم السكينة فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا.
وله طرق كثيرة وألفاظ متقاربة.

وأخرجه الشيخان أيضًا من حديث أبي قتادة بلفظ: إذا أتيتم الصلاة فعليكم السكينة، والباقي نحوه.

( مَالِكٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي صَعْصَعَةَ) بمهملات مفتوحات إلا العين الأولى فساكنة عمرو بن زيد ( الْأَنْصَارِيِّ ثُمَّ الْمَازِنِيِّ) بالزاي والنون من بني مازن بن النجار من الثقات، مات في خلافة المنصور ( عَنْ أَبِيهِ) عبيد الله المدني من ثقات التابعين زاد ابن عيينة وكان يتيمًا في حجر أبي سعيد وكانت أمه عند أبي سعيد أخرجه ابن خزيمة، ومات أبو صعصعة في الجاهلية وابنه عبد الرحمن صحابي.

( أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ) سعد بن مالك بن سنان الصحابي ابن الصحابي ( الْخُدْرِيَّ قَالَ لَهُ:) أي لعبد الله بن عبد الرحمن ( إِنِّي أَرَاكَ تُحِبُّ الْغَنَمَ وَالْبَادِيَةَ) أي لأجل الغنم لأن محبها يحتاج إلى إصلاحها بالمرعى وهو في الغالب يكون في البادية وهي الصحراء التي لا عمارة فيها ( فَإِذَا كُنْتَ فِي غَنَمِكَ أَوْ بَادِيَتِكَ) يحتمل أن أو شك من الراوي وأنها للتنويع لأن الغنم قد لا تكون في البادية وقد يكون في البادية حيث لا غنم قاله الحافظ وغيره.

( فَأَذَّنْتَ بِالصَّلَاةِ) أي أعلمت بوقتها.
وفي رواية للبخاري للصلاة باللام بدل الموحدة أي لأجلها ( فَارْفَعْ صَوْتَكَ بِالنِّدَاءِ) أي الأذان وفيه إشعار بأن أذان مريد الصلاة كان مقررًا عندهم لاقتصاره على الأمر بالرفع دون أصل التأذين، وفيه استحباب أذان المنفرد وهو الراجح عند الشافعية والمالكية إن سافر بناء على أن الأذان حق الوقت، ولو لم يرج حضور من يصلي معه لأنه إن فاته دعاء المصلين لم تفته شهادة من سمعه من غيرهم، وقيل لا يستحب بناء على أنه لاستدعاء الجماعة، ومنهم من فصل بين من يرجو جماعة فيستحب ومن لا فلا.

( فَإِنَّهُ لَا يَسْمَعُ مَدَى) بفتح الميم والقصر أي غاية ( صَوْتِ الْمُؤَذِّنِ) قال البيضاوي: غاية الصوت يكون للمصغي أخفى من ابتدائه فإذا شهد له من بعد عنه ووصل إليه منتهى صوته، فلأن يشهد له من دنا منه وسمع مبادي صوته أولى ( جِنٌّ) قال الرافعي: يشبه أن يريد مؤمني الجن، وأما غيرهم فلا يشهدون للمؤذن بل يفرون وينفرون من الأذان ( وَلَا إِنْسٌ) قيل خاص بالمؤمنين فأما الكافر فلا شهادة له.
قال عياض: وهذا لا يسلم لقائله لما جاء في الآثار من خلافه ( وَلَا شَيْءٌ) ظاهره يشمل الحيوانات والجمادات فهو من العام بعد الخاص ويؤيده رواية ابن خزيمة لا يسمع صوته شجر ولا مدر ولا حجر ولا جن ولا إنس، وله ولأبي داود والنسائي من طريق أبي يحيى عن أبي هريرة بلفظ: المؤذن يغفر له مدى صوته ويشهد له كل رطب ويابس ونحوه للنسائي من حديث البراء وصححه ابن السكن.

قال الخطابي: مدى الشيء غايته أي أنه يستكمل المغفرة إذا استوفى وسعه في رفع الصوت فيبلغ الغاية من المغفرة إذا بلغ الغاية من الصوت، أو أنه كلام تمثيل وتشبيه يريد أن المكان الذي ينتهي إليه الصوت لو قدر أن يكون بين أقصاه وبين مقامه الذي هو فيه ذنوب تملأ تلك المسافة غفرها الله تعالى له واستشهد المنذري لقوله الأول برواية يغفر له مد صوته بتشديد الدال أي بقدر مد صوته.

قال الحافظ: فهذه الأحاديث تبين المراد من قوله ولا شيء وتكلم بعض من لم يطلع عليها في تأويله على ما يقتضيه ظاهره، فقال القرطبي: المراد بالشيء الملائكة، وتعقب بأنهم دخلوا في الجن لأنهم يستخفون عن الأبصار، وقال غيره: المراد كل ما يسمع المؤذن من الحيوان حتى ما لا يعقل لأنه الذي يصح أن يسمع صوته دون الجمادات، ومنهم من حمله على ظاهره ولا يمتنع ذلك عقلاً ولا شرعًا.

قال ابن بزيزة: تقرر في العادة أن السماع والشهادة والتسبيح لا يكون إلا من حي فهل ذلك حكاية على لسان الحال لأن الموجودات ناطقة بلسان حالها بجلال بارئها، أو هو على ظاهره ولا يمتنع عقلاً أن الله يخلق فيها الحياة والكلام.

وتقدم البحث في ذلك في قول النار: أكل بعضي بعضًا، وفي مسلم عن جابر بن سمرة مرفوعًا: إني لأعرف حجرًا بمكة كان يسلم علي قبل أن أبعث، ونقل ابن التين عن أبي عبد الملك أن قوله هنا ولا شيء نظير قوله تعالى: { { وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ } } وتعقبه بأن الآية مختلف فيها وما عرفت وجه هذا التعقب فإنهما سواء في الاحتمال، ونقل الاختلاف إلا أن يقول إن الآية لم يختلف في كونها على عمومها، وإنما اختلف في تسبيح بعض الأشياء هل هو على الحقيقة أو المجاز بخلاف الحديث.

( إِلَّا شَهِدَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) قال الزين بن المنير: السر في هذه الشهادة مع أنها تقع عند عالم الغيب والشهادة أن أحكام الآخرة جرت على أحكام نعت الخلق في الدنيا من توجيه الدعوى والجواب والشهادة، وقال التوربشتي: المراد من هذه الشهادة إشهار المشهود له يوم القيامة بالفضل وعلو الدرجة وكما أن الله يفضح بالشهادة قومًا فكذلك يكرم بالشهادة آخرين.
وقال الباجي: فائدة ذلك أن من يشهد له يوم القيامة يكون أعظم أجرًا في الآخرة ممن أذن فلم يسمعه من يشهد له.

( قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أي هذا الكلام الأخير وهو أنه لا يسمع إلخ، فقد رواه ابن خزيمة من رواية ابن عيينة بلفظ: قال أبو سعيد إذا كنت في البوادي فارفع صوتك بالنداء فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا يسمع، فذكره.
ورواه يحيى بن سعيد القطان عن مالك بلفظ: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا أذنت فارفع صوتك فإنه لا يسمع، فذكره.

فالظاهر أن ذكر الغنم والبادية موقوف خلافًا لإيراد الرافعي الحديث في الشرح بلفظ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي سعيد: إنك رجل تحب الغنم وساقه إلى آخره وسبقه إلى ذلك الغزالي وإمام الحرمين والقاضي حسين وغيرهم وتعقبهم النووي، وأجاب ابن الرفعة عنهم بأنهم فهموا أن قوله سمعته من رسول الله عائد إلى كل ما ذكر ولا يخفى بعده ذكره الحافظ، بل تمنعه روايتا ابن عيينة والقطان، وقد خالف الرافعي نفسه فقال في شرح المسند قوله سمعته يعني قوله أنه لا يسمع إلخ انتهى وهو الصواب.

وفي الحديث استحباب رفع الصوت بالأذان ليكثر من يشهد له ما لم يجهده أو يتأذى به، وفيه أن حب الغنم والبادية ولا سيما عند نزول الفتنة من عمل السلف الصالح، وفيه جواز التبدي ومساكنة الأعراب ومشاركتهم في الأسباب بشرط حظ من العلم وأمن غلبة الجفاء.

قال ابن عبد البر: فيه إباحة لزوم البادية ولكن في البعد عن الجماعة والجمعة ما فيه من البعد عن الفضائل إلا أن الزمان إذا كثر فيه الشر وتعذرت فيه السلامة طابت العزلة وهي خير من خليط السوء والجليس الصالح خير من الوحدة.
وقال صلى الله عليه وسلم: يوشك أن يكون خير مال المسلم غنمًا يتبع بها شعف الجبال ومواضع القطر يفر بدينه من الفتن.

وهذا الحديث أخرجه البخاري هنا عن عبد الله بن يوسف وفي بدء الخلق عن قتيبة بن سعيد كلاهما عن مالك به، ولم يخرجه مسلم.

( مَالِكٍ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ) عبد الله بن ذكوان ( عَنِ الْأَعْرَجِ) عبد الله بن هرمز ( عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ) أي لأجلها، وللنسائي عن قتيبة عن مالك بالصلاة وهي رواية لمسلم أيضًا ويمكن حملهما على معنى واحد ( أَدْبَرَ الشَّيْطَانُ) إبليس على الظاهر، ويدل عليه كلام كثير من الشراح، ويحتمل أن المراد جنس الشيطان وهو كل متمرد من الجن أو الإنس لكن المراد هنا شيطان الجن خاصة ( لَهُ ضُرَاطٌ) جملة إسمية وقعت حالاً بدون واو لحصول الارتباط بالضمير وفي رواية للبخاري وله بالواو.
وقال عياض: يمكن حمله على ظاهره لأنه جسم متغذ يصح منه خروج الريح، ويحتمل أنه عبارة عن شدة نفاره ويقربه رواية مسلم له حصاص بمهملات مضموم الأول، وفسره الأصمعي وغيره بشدة العدو، وقال الطيبي: شبه شغل الشيطان نفسه عن سماع الأذان بالصوت الذي يملأ السمع ويمنعه عن سماع غيره ثم سماه ضراطًا.

( حَتَّى لَا يَسْمَعَ النِّدَاءَ) أي التأذين كما هو رواية التنيسي للموطأ ومسلم من رواية المغيرة عن أبي الزناد والمعنى واحد.
وقال الحافظ: ظاهره أنه يتعمد إخراج ذلك إما ليشتغل بسماع الصوت الذي يخرجه عن سماع المؤذن، أو يصنع ذلك استخفافًا كما تفعله السفهاء، أو ليقابل ما يناسب الصلاة من الطهارة بالحدث، ويحتمل أن لا يتعمد ذلك بل يحصل له عند سماع الأذان شدة خوف يحدث له ذلك الصوت بسببها، وفيه استحباب رفع الصوت بالأذان لأنه ظاهر في أنه يبعد إلى غاية ينتفي فيها سماعه للصوت، وقد بينت الغاية في رواية مسلم من حديث جابر فقال: حتى يكون مكان الروحاء.
قال سليمان يعني الأعمش فسألته أي أبا سفيان راويه عن جابر عن الروحاء فقال هي من المدينة ستة وثلاثون ميلاً، وقد أدرج هذا إسحاق بن راهويه في مسنده فقال: حتى يكون بالروحاء وهي ستة إلخ والمعتمد الأول.

( فَإِذَا قُضِيَ النِّدَاءُ) بضم القاف أي فرغ وانتهى منه ويروى بفتح القاف على حذف الفاعل والمراد المنادي أي: إذا قضى المنادي النداء ( أَقْبَلَ) زاد مسلم في رواية أبي صالح عن أبي هريرة فوسوس ( حَتَّى إِذَا ثُوِّبَ بِالصَّلَاةِ أَدْبَرَ) بضم المثلثة وشد الواو المكسورة قيل من ثاب إذا رجع وقيل من ثوب إذا أشار بثوبه عند الفزع لإعلام غيره.

قال الجمهور: المراد هنا الإقامة وبه جزم أبو عوانة والخطابي والبيهقي وغيرهم وقال القرطبي: ثوب بالصلاة أي أقيمت وأصله أنه رجع إلى ما يشبه الأذان وكل مردد صوت فهو مثوب ويدل عليه رواية مسلم من طريق أبي صالح عن أبي هريرة فإذا سمع الإقامة ذهب.

وزعم بعض الكوفيين أن المراد بالتثويب قول المؤذن بين الأذان والإقامة حي على الصلاة حي على الفلاح قد قامت الصلاة وحكاه ابن المنذر عن أبي يوسف عن أبي حنيفة وزعم أنه تفرد به لكن في سنن أبي داود عن ابن عمر أنه كره التثويب بين الأذان والإقامة فهذا يدل على أن له سلفًا في ذلك في الجملة ويحتمل أن يكون الذي تفرد به القول الخاص.

قال الخطابي: لا تعرف العامة التثويب إلا قول المؤذن الصلاة خير من النوم لكن المراد به هنا الإقامة.

( حَتَّى إِذَا قُضِيَ التَّثْوِيبُ) بالرفع نائب الفاعل والنصب مفعول ( أَقْبَلَ حَتَّى يَخْطِرَ) بفتح أوله وكسر الطاء كما ضبطه عياض عن المتقنين وقال: إنه الوجه ومعناه يوسوس وأصله من خطر البعير بذنبه إذا حركه فضرب به فخذيه قال: وسمعناه من أكثر الرواة بضم الطاء ومعناه المرور أي يدنو منه فيمر بينه وبين قلبه فيشغله عما هو فيه، وبهذا فسره الشارحون للموطأ وبالأول فسره الخليل وضعف الهجري في نوادره الضم وقال: هو يخطر بالكسر في كل شيء ( بَيْنَ الْمَرْءِ وَنَفْسِهِ) أي قلبه وكذا هو للبخاري من وجه آخر في بدء الخلق قال الباجي: المعنى أنه يحول بين المرء وبين ما يريده من إقباله على صلاته وإخلاصه فيها.

( يَقُولُ) الشيطان ( اذْكُرْ كَذَا اذْكُرْ كَذَا) وفي رواية للبخاري ومسلم بواو العطف واذكر كذا وللبخاري أيضًا في صلاة السهو اذكر كذا وكذا ( لِمَا لَمْ يَكُنْ يَذْكُرُ) أي لشيء لم يكن على ذكره قبل دخوله في الصلاة وفي رواية لمسلم لما لم يذكر من قبل، وله أيضًا من رواية عبد ربه عن الأعرج فهناه ومناه وذكره من حاجاته ما لم يكن يذكر.

ومن ثم استنبط أبو حنيفة للذي شكا إليه أنه دفن مالاً ثم لم يهتد لمكانه أن يصلي ويحرص على أن لا يحدث نفسه بشيء من أمر الدنيا ففعل فذكر مكان المال في الحال قيل خصه بما يعلم دون ما لم يعلم لأنه يميل لما يعلم أكثر لتحقق وجوده، والذي يظهر أنه أعم من ذلك فيذكره لما سبق له به علم ليشغل باله به ولما لم يكن سبق له ليوقعه في الفكرة فيه وهذا أعم من أن يكون في أمور الدنيا أو في أمور الدين كالعلم.
لكن هل يشمل ذلك التفكر في معاني الآيات التي يتلوها لا يبعد ذلك لأن غرضه نقص خشوعه وإخلاصه بأي وجه كان.

( حَتَّى يَظَلَّ الرَّجُلُ) بالظاء المعجمة المفتوحة رواية الجمهور ومعناه في الأصل اتصاف المخبر عنه بالخبر نهارًا لكنها هنا بمعنى يصير أو يبقى، وفي رواية بالضاد الساقطة مكسورة أي ينسى، ومنه أن تضل إحداهما أو يخطئ ومنه { { لاَّ يَضِلُّ رَبِّي وَلاَ يَنسَى } } ومفتوحة أي يتحير من الضلال وهو الحيرة والمشهور الأول ( إِنْ يَدْرِي) بكسر همزة إن النافية بمعنى لا، وفي رواية التنيسي لا يدري وروي بفتح الهمزة ونسبها ابن عبد البر لأكثر رواة الموطأ ووجهها بما تعقبه عليه جماعة وقال القرطبي: ليست رواية الفتح بشيء إلا مع رواية الضاد الساقطة فيكون أن والفعل بتأويل المصدر ومفعول ضل إن بإسقاط حرف الجر أي يضل عن درايته وكذا قال عياض لا يصح فتحها إلا على رواية يضل بكسر الضاد فتكون أن مع الفعل مفعوله أي يجهل درايته وينسى عدد ركعاته ( كَمْ صَلَّى) .

وللبخاري في بدء الخلق من وجه آخر عن أبي هريرة: حتى لا يدري أثلاثًا صلى أم أربعًا.

واختلف العلماء في حكمة هروب الشيطان عند سماع الأذان والإقامة دون سماع القرآن والذكر في الصلاة فقيل: حتى لا يشهد للمؤذن يوم القيامة فإنه لا يسمع صوته جن ولا إنس إلا شهد له كما تقدم، وقيل نفورًا عن سماع الأذان ثم يرجع موسوسًا ليفسد على المصلي صلاته فصار رجوعه من جنس فراره، والجامع بينهما الاستخفاف وقيل: لأن الأذان دعاء إلى الصلاة المشتملة على السجود الذي أباه وعصى بسببه.

واعترض بأنه يعود قبل السجود فلو كان هروبه لأجله لم يعد إلا عند فراغه.

وأجيب: بأنه يهرب عند سماع الدعاء لذلك ليغالط نفسه بأنه لم يخالف أمرًا ثم يرجع ليفسد على المصلي سجوده الذي أباه وقيل إنما يهرب لاتفاق الجميع على الإعلان بشهادة الحق وإقامة الشريعة.

واعترض بأن الاتفاق على ذلك حاصل قبل الأذان وبعده من جميع من يصلي.
وأجيب: بأن الإعلان أخص من الاتفاق فإن الإعلان المختص بالأذان لا يشاركه فيه غيره من الجهر بالتكبير والشهادة مثلاً، ولذا قال لعبد الله بن زيد: ألقه على بلال فإنه أندى منك صوتًا أي اقعد بالمد والإطالة والإسماع ليعم الصوت ويطول أمد التأذين فيكثر الجمع ويفوت على الشيطان مقصوده من إلهاء الآدمي عن إقامة الصلاة في جماعة أو إخراجها عن وقتها أو وقت فضيلتها، فيفر حينئذ وقد يئس أن يردهم عما أعلنوا به ثم يرجع لما طبع عليه من الأذى إلى الوسوسة.

وقال ابن الجوزي: على الأذان هيئة يشتد انزعاج الشيطان بسببها لأنه لا يكاد يقع في الأذان رياء ولا غفلة عند النطق به لأن النفس لا تحضره بخلاف الصلاة، فإن النفس تحضر فيها فيفتح لها الشيطان أبواب الوسوسة.

وقد ترجم عليه أبو عوانة في صحيحه الدليل على أن المؤذن في أذانه وإقامته منفي عنه الوسوسة والرياء لتباعد الشيطان منه وقيل لأن الأذان إعلام بالصلاة التي هي أفضل الأعمال بألفاظ هي من أفضل الذكر لا يزاد فيها ولا ينقص منها بل تقع على وفق الأمر فيفر من سماعها، وأما الصلاة فلما يقع من كثير من الناس فيها من التفريط تمكن الخبيث من المفرط فلو قدر أن المصلي وفي جميع ما أمر به فيها لم يقربه فيها إن كان وحده وهو نادر، وكذا إذا انضم إليه من هو مثله وهو أندر أشار إليه ابن أبي جمرة.

قال ابن بطال: ويشبه أن يكون الزجر عن الخروج من المسجد بعد الأذان من هذا المعنى لئلا يكون متشبهًا بالشيطان الذي يفر عند سماع الأذان، وفهم بعض السلف من هذا الحديث الإتيان بصورة الأذان وإن لم يوجد فيه شروط الأذان من وقوعه في الوقت وغير ذلك، ففي مسلم من رواية سهيل بن أبي صالح قال: أرسلني أبي إلى بني حارثة ومعي غلام لنا أو صاحب لنا فناداه مناد من حائط باسمه فأشرف الذي معي على الحائط فلم ير شيئًا فذكرت ذلك لأبي فقال: لو شعرت أنك تلقى هذا لم أرسلك ولكن إذا سمعت صوتًا فناد بالصلاة فإني سمعت أبا هريرة يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: إن الشيطان إذا نودي بالصلاة ولى وله حصاص.

وقال ابن عبد البر: قال مالك: استعمل زيد بن أسلم على معدن بني سليم وكان لا يزال يصاب فيه الناس من الجن فلما وليهم شكوا ذلك إليه فأمرهم بالأذان وأن يرفعوا أصواتهم به ففعلوا فارتفع ذلك عنهم فهم عليه حتى اليوم.
قال مالك: أعجبني ذلك من زيد وذكرت الغيلان عند عمر بن الخطاب فقال: إن شيئًا من الخلق لا يستطيع أن يتحول في غير خلقه ولكن للجن سحرة كما للإنس سحرة فإذا خشيتم شيئًا من ذلك فأذنوا بالصلاة.

وهذا الحديث رواه البخاري عن عبد الله بن يوسف عن مالك به، ورواه في السهو عن الليث عن جعفر بن ربيعة عن الأعرج به، ومسلم من طريق المغيرة الخزاعي عن أبي الزناد به، ومن طريق الأعمش وسهيل كلاهما عن أبي صالح عن أبي هريرة بنحوه.

( مَالِكٍ عَنْ أَبِي حَازِمِ) بمهملة وزاي سلمة ( بْنِ دِينَارٍ) الأعرج المدني العابد الثقة من رجال الجميع قال أبو عمر: كان أبو حازم هذا أحد الفضلاء الحكماء العلماء الثقات الأثبات وله حكم وزهديات ومواعظ ورقائق ومقطعات ومات سنة أربعين ومائة على الأصح وقيل: غير ذلك.

( عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ) بن مالك بن خالد الأنصاري الخزرجي ( السَّاعِدِيِّ) أبي العباس الصحابي ابن الصحابي مات سنة ثمان وثمانين وقيل بعدها وقد جاوز المائة ( أَنَّهُ قَالَ سَاعَتَانِ) قال ابن عبد البر: هذا الحديث موقوف عند جماعة رواة الموطأ ومثله لا يقال بالرأي، وقد رواه أيوب بن سويد ومحمد بن مخلد وإسماعيل بن عمرو عن مالك مرفوعًا.

وروي من طرق متعددة عن أبي حازم عن سهل قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ساعتان ( يُفْتَحُ لَهُمَا أَبْوَابُ السَّمَاءِ) أي فيهما أو من أجل فضيلتهما ( وَقَلَّ دَاعٍ تُرَدُّ عَلَيْهِ دَعْوَتُهُ) إخبار بأن الإجابة في هذين الوقتين هي الأكثر وأن رد الدعاء فيهما يندر ولا يكاد يقع قاله الباجي، فأشار بقوله قل إلى أنها قد ترد لفوات شرط من شروط الدعاء أو ركن من أركانه أو نحو ذلك وقال السيوطي: بل قل هنا للنفي المحض كما هو أحد استعمالاتها.
قال ابن مالك في التسهيل وغيره: ترد قل للنفي المحض فترفع الفاعل متلوًا بصفة مطابقة له نحو: قل رجل يقول ذلك، وقل رجلان يقولان ذلك وهي من الأفعال التي منعت التصرف.

( حَضْرَةُ النِّدَاءِ لِلصَّلَاةِ) أي الأذان ( وَالصَّفُّ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) أي في قتال الكفار لإعلاء كلمة الله.
وقد روى الطبراني والحاكم في المستدرك والديلمي الحديث عن سهل به مرفوعًا.
وروى أبو نعيم في الحلية عن عائشة رفعته: ثلاث ساعات للمرء المسلم ما دعا فيهن إلا استجيب له ما لم يسأل قطيعة رحم أو مأثمًا، حين يؤذن المؤذن بالصلاة حتى يسكت، وحين يلتقي الصفان حتى يحكم الله بينهما، وحين ينزل المطر حتى يسكن.
( وَسُئِلَ مَالِكٌ عَنِ النِّدَاءِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ هَلْ يَكُونُ قَبْلَ أَنْ يَحِلَّ الْوَقْتُ؟ فَقَالَ: لَا يَكُونُ إِلَّا بَعْدَ أَنْ تَزُولَ الشَّمْسُ) لأن وقتها زوال الشمس كالظهر عند جمهور الفقهاء وأجاز أحمد صلاتها قبل الزوال وهو شذوذ.
قال مالك: لو خطب قبل الزوال وصلى بعده لم تجز ويعيدون الجمعة بخطبة ما لم تغرب الشمس نقله ابن حبيب عن مطرف عنه.
وقال ابن سحنون: يعيدون الظهر أبدًا أفذاذًا.

( وَسُئِلَ مَالِكٌ عَنْ تَثْنِيَةِ النِّدَاءِ وَالْإِقَامَةِ وَمَتَى يَجِبُ الْقِيَامُ عَلَى النَّاسِ حِينَ تُقَامُ الصَّلَاةُ؟ فَقَالَ: لَمْ يَبْلُغْنِي فِي النِّدَاءِ وَالْإِقَامَةِ إِلَّا مَا أَدْرَكْتُ النَّاسَ عَلَيْهِ) وهو شفع الأذان لما في البخاري عن أنس قال: أمر بلال أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة قال الزين بن المنير: وصف الأذان بأنه شفع يفسره قوله مثنى أي مرتين مرتين وذلك يقتضي أن يستوي جميع ألفاظه في ذلك لكن لم يختلف في أن كلمة التوحيد التي في آخره مفردة فيحمل قوله مثنى على ما سواها انتهى.
ففيه دليل على أن التكبير ليس مربعًا، وكذا قوله صلى الله عليه وسلم: الأذان مثنى مثنى أخرجه أبو داود الطيالسي عن ابن عمر.
ورواه أبو داود والنسائي وصححه ابن خزيمة وغيره من حديث ابن عمر بلفظ: مرتان مرتان.

( فَأَمَّا الْإِقَامَةُ فَإِنَّهَا لَا تُثَنَّى) حتى قد قامت الصلاة بل تفرد ( وَذَلِكَ الَّذِي لَمْ يَزَلْ عَلَيْهِ أَهْلُ الْعِلْمِ بِبَلَدِنَا) المدينة مع تأييده بالحديث الصحيح، وأما قوله في رواية أيوب السختياني عن أبي قلابة عن أنس: ويوتر الإقامة إلا الإقامة أي: قد قامت الصلاة فالمثبت غير المنفي فهو مدرج من قول أيوب وليس من الحديث كما جزم به الأصيلي وابن منده، لأن إسماعيل بن إبراهيم قال: حدثنا خالد الحذاء عن أبي قلابة عن أنس قال: أمر بلال أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة.
قال إسماعيل: فذكرته لأيوب فقال: إلا الإقامة رواه البخاري ومسلم ونظر فيما قاله الحافظ بأن عبد الرزاق رواه عن معمر عن أيوب بسنده بلفظ: كان بلال يثني الأذان ويوتر الإقامة إلا قوله قد قامت الصلاة، والأصل أن ما كان في الخبر فهو منه حتى يقوم دليل على خلافه ولا دليل في رواية إسماعيل لأن محصلها أن خالدًا كان لا يذكر الزيادة وأيوب يذكرها وكل منهما روى الحديث عن أبي قلابة عن أنس فكان في رواية أيوب زيادة حافظ فتقبل انتهى.

لكن إنما يتم له هذا النظر لو صرح أيوب بروايته له عن أبي قلابة لما ذكر له إسماعيل رواية خالد وهو إنما قال: إلا الإقامة فيتبادر منه أنه إخبار عن رأيه، وأما رواية عبد الرزاق فلا دليل فيها على عدم الإدراج لأنها من محل النزاع، وقد دلت رواية إسماعيل على الإدراج ثم هذا الحديث حجة على من قال إن الإقامة مثناة.

وزعم بعض الحنفية أن إفرادها كان أولاً ثم نسخ بحديث أبي محذورة عند أصحاب السنن وفيه تثنية الإقامة وهو متأخر عن حديث أنس فيكون ناسخًا.
وعورض بأن في بعض طرق حديث أبي محذورة المحسنة التربيع والترجيع فكان يلزمهم القول به، وقد أنكر أحمد على من ادعى النسخ بحديث أبي محذورة، واحتج بأنه صلى الله عليه وسلم رجع بعد الفتح إلى المدينة وأقر بلالاً على إفراد الإقامة وعلمه سعد القرظ فأذن به بعده كما رواه الدارقطني والحاكم.

وقال ابن عبد البر: ذهب أحمد وإسحاق وداود وابن جرير إلى أن ذلك من الاختلاف المباح فإن ربع التكبير الأول في الأذان أو ثناه أو رجع في التشهد أو لم يرجع أو ثنى الإقامة أو أفردها كلها أو إلا قد قامت الصلاة، فالجميع جائز.
قيل الحكمة في تثنية الأذان وإفراد الإقامة أن الأذان لإعلام الغائبين فكرر ليكون أوصل إليهم بخلاف الإقامة فللحاضرين، ومن ثم استحب أن يكون الأذان في مكان عال بخلاف الإقامة، وأن يكون الصوت في الأذان أرفع منه في الإقامة.

قال الحافظ: وهذا توجيه ظاهر وأما قول الخطابي لو سوى بينهما لاشتبه الأمر في ذلك وصار يفوت كثيرًا من الناس صلاة الجماعة ففيه نظر لأن الأذان يستحب على مرتفع ليشترك فيه الإسماع وأن يكون مرتلاً والإقامة مسرعة ويؤخذ حكمة الترجيع مما تقدم وإنما اختص بالتشهد لأنه أعظم ألفاظ الأذان، والله أعلم.

( وَأَمَّا قِيَامُ النَّاسِ حِينَ تُقَامُ الصَّلَاةُ فَإِنِّي لَمْ أَسْمَعْ فِي ذَلِكَ بِحَدٍّ يُقَامُ لَهُ) وما في الصحيحين عن أبي قتادة قال صلى الله عليه وسلم: إذا أقيمت الصلاة فلا تقوموا حتى تروني خرجت فهو نهي عن القيام قبل خروجه وتسويغ له عند رؤيته وهو مطلق غير مقيد بشيء من ألفاظ الإقامة.

ومن ثم اختلف السلف في ذلك فقال مالك: ( إِلَّا أَنِّي أَرَى ذَلِكَ عَلَى قَدْرِ طَاقَةِ النَّاسِ فَإِنَّ مِنْهُمُ الثَّقِيلَ وَالْخَفِيفَ وَلَا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَكُونُوا كَرَجُلٍ وَاحِدٍ) وذهب الأكثر إلى أنهم إذا كان الإمام معهم في المسجد لم يقوموا حتى تفرغ الإقامة وإذا لم يكن في المسجد لم يقوموا حتى يروه، وعن أنس أنه كان يقوم إذا قال المؤذن قد قامت الصلاة رواه ابن المنذر وغيره، ورواه سعيد بن منصور من طريق أبي إسحاق عن أصحاب عبد الله، وعن سعيد بن المسيب أنه إذا قال المؤذن: الله أكبر وجب القيام، وإذا قال: حي على الصلاة عدلت الصفوف، وإذا قال لا إله إلا الله كبر الإمام.
وعن أبي حنيفة يقومون إذا قال حي على الفلاح فإذا قال قد قامت الصلاة كبر الإمام، والحديث حجة على هؤلاء المفصلين.

قال القرطبي: ظاهر هذا الحديث أن الصلاة كانت تقام قبل أن يخرج صلى الله عليه وسلم من بيته، وهو معارض لحديث جابر بن سمرة عند مسلم أن بلالاً كان لا يقيم حتى يخرج صلى الله عليه وسلم ويجمع بينهما بأن بلالاً كان يراقب خروج النبي صلى الله عليه وسلم، فأول ما يراه يشرع في الإقامة قبل أن يراه غالب الناس ثم إذا رأوه قاموا فلا يقوم في مقامه حتى تعتدل صفوفهم.

قال الحافظ: ويشهد له ما رواه عبد الرزاق عن ابن جريج عن ابن شهاب كانوا ساعة يقول المؤذن الله أكبر يقومون إلى الصلاة فلا يأتي النبي صلى الله عليه وسلم حتى تعتدل الصفوف.
وأما حديث أبي هريرة في البخاري بلفظ: أقيمت الصلاة فسوى الناس صفوفهم فخرج صلى الله عليه وسلم، ولفظه في مستخرج أبي نعيم وصف الناس صفوفهم ثم خرج علينا، ولفظه في مسلم أقيمت الصلاة فقمنا فعدلنا الصفوف قبل أن يخرج إلينا النبي صلى الله عليه وسلم فأتى فقام مقامه فيجمع بينه وبين حديث أبي قتادة بأن ذلك ربما وقع لبيان الجواز، وبأن صنعهم في حديث أبي هريرة كان سبب النهي في حديث أبي قتادة، وأنهم كانوا يقومون ساعة تقام الصلاة ولو لم يخرج صلى الله عليه وسلم فنهاهم عن ذلك لاحتمال أن يقع له شغل يبطئ فيه عن الخروج فيشق عليهم انتظاره ولا يرد هذا حديث أنس في الصحيح أنه قام في مقامه طويلاً في مناجاة بعض القوم لاحتمال وقوعه نادرًا أو فعله لبيان الجواز انتهى.

( وَسُئِلَ مَالِكٌ عَنْ قَوْمٍ حُضُورٍ أَرَادُوا أَنْ يَجْمَعُوا الْمَكْتُوبَةَ فَأَرَادُوا أَنْ يُقِيمُوا وَلَا يُؤَذِّنُوا؟ قَالَ: ذَلِكَ مُجْزِئٌ عَنْهُمْ) إذ الأذان ليس بشرط في صحة الصلاة عند جمهور الفقهاء خلافًا لعطاء ( وَإِنَّمَا يَجِبُ النِّدَاءُ فِي مَسَاجِدِ الْجَمَاعَاتِ الَّتِي تُجْمَعُ فِيهَا الصَّلَاةُ) وجوب السنن المؤكدة على المذهب وأما في المصر فواجب كفاية، فلو اتفقوا على تركه أثموا وقوتلوا عليه لأنه شعار الإسلام ومن العلامات المفرقة بين دار الإسلام والكفر.
وفي الصحيحين واللفظ لمسلم عن أنس: كان صلى الله عليه وسلم يغير إذا طلع الفجر وكان يستمع الأذان فإن سمع أذانًا أمسك وإلا أغار.

( وَسُئِلَ مَالِكٌ عَنْ تَسْلِيمِ الْمُؤَذِّنِ عَلَى الْإِمَامِ وَدُعَائِهِ إِيَّاهُ لِلصَّلَاةِ وَعَنْ أَوَّلُ مَنْ سُلِّمَ عَلَيْهِ؟ فَقَالَ: لَمْ يَبْلُغْنِي أَنَّ التَّسْلِيمَ كَانَ فِي الزَّمَنِ الْأَوَّلِ) قال الباجي: أي لم يكن في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم، وإنما كان المؤذن يؤذن فإن كان الإمام في شغل جاء المؤذن فأعلمه باجتماع الناس دون تكلف ولا استعمال، فأما ما يتكلف اليوم من وقوف المؤذن بباب الأمير والسلام عليه والدعاء للصلاة بعد ذلك فإنه من المباهاة والتكبر والصلاة تنزه عن ذلك.

وقد قال القاضي أبو إسحاق في المبسوط عن عبد الملك بن الماجشون كيفية السلام: السلام عليك أيها الأمير ورحمة الله وبركاته الصلاة يرحمك الله.
قال إسماعيل: روي أن عمر أنكر على أبي محذورة دعاءه إياه إلى الصلاة وأول من فعله معاوية.

وقال ابن عبد البر: أول من فعل ذلك معاوية أمر المؤذن أن يشعره ويناديه فيقول: السلام على أمير المؤمنين الصلاة يرحمك الله، وقيل أول من فعله المغيرة بن شعبة والأول أصح انتهى.

وروى ابن أبي شيبة عن مجاهد قال: لما قدم عمر مكة أتاه أبو محذورة وقد أذن فقال: الصلاة يا أمير المؤمنين حي على الصلاة حي على الفلاح.
قال: ويحك أمجنون أنت أما كان في دعائك الذي دعوتنا ما نأتيك حتى تأتينا.

وفي الأوائل للعسكري من طريق الواقدي عن ابن أبي ذئب قال: قلت للزهري من أول من سلم عليه فقيل السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته حي على الصلاة حي على الفلاح الصلاة يرحمك الله؟ فقال: معاوية بالشام ومروان بن الحكم بالمدينة.

وروى ابن سعد في طبقاته عن محمد بن سعد القرظ قال: كنا نؤذن على عمر بن عبد العزيز في داره للصلاة فنقول السلام عليك أيها الأمير ورحمة الله وبركاته حي على الصلاة حي على الفلاح وفي الناس الفقهاء فلا ينكرون ذلك، وبهذا كله تعلم ضعف ما في خطط المقريزي.

قال الواقدي وغيره: كان بلال يقف على باب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الأذان فيقول: السلام عليك يا رسول الله فلما ولي أبو بكر كان سعد القرظ يقف فيقول: السلام عليك يا خليفة رسول الله الصلاة يا خليفة رسول الله، فلما ولي عمر ولقب أمير المؤمنين كان المؤذن يقف على بابه ويقول: السلام عليك يا أمير المؤمنين الصلاة يا أمير المؤمنين، ثم إن عمر أمر المؤذن فزاد فيها رحمك الله، ويقال إن عثمان هو الذي زادها، وما زال المؤذنون إذا أذنوا سلموا على الخلفاء وأمراء الأعمال ثم يقيمون الصلاة بعد السلام فيخرج الخليفة أو الأمير فيصلي بالناس هكذا كان العمل مدة أيام بني أمية ثم مدة بني العباس حتى ترك الخلفاء الصلاة بالناس فترك ذلك انتهى.
والواقدي متروك ولعل غيره تبعه، والله أعلم.

( وَسُئِلَ مَالِكٌ عَنْ مُؤَذِّنٍ أَذَّنَ لِقَوْمٍ ثُمَّ انْتَظَرَ هَلْ يَأْتِيهِ أَحَدٌ فَلَمْ يَأْتِهِ أَحَدٌ فَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَصَلَّى وَحْدَهُ ثُمَّ جَاءَ النَّاسُ بَعْدَ أَنْ فَرَغَ أَيُعِيدُ الصَّلَاةَ مَعَهُمْ؟ قَالَ: لَا يُعِيدُ الصَّلَاةَ وَمَنْ جَاءَ بَعْدَ انْصِرَافِهِ) فراغه من الصلاة ( فَلْيُصَلِّ لِنَفْسِهِ وَحْدَهُ) قال ابن نافع: معناه أن المؤذن هنا هو الإمام الراتب ولم يرد المؤذن، فإن لم يكن الإمام الراتب فلا بأس أن يجمعوا تلك الصلاة ويعيدها المؤذن معهم إن شاء.

قال ابن عبد البر: وهذا التفسير حسن على أصل قول مالك المسجد الذي له إمام راتب لا يجمع فيه صلاة واحدة مرتين وبه قال سفيان الثوري وأجازه أشهب.

وقال الباجي: إذا كان المؤذن إمامًا راتبًا فكما قال مالك: لأن الاعتبار في الجماعة بالإمام دون المأموم لما في ذلك من مخالفة الأئمة ومفارقة الجماعة، ولأن ذلك يؤدي أن لا تراعى أوقات الصلاة ويؤخر من شاء ويصلي في جماعة، وإن لم يكن المؤذن إمامًا راتبًا فقال ابن نافع حكمه حكم الفذ، وقال عيسى كالجماعة ويظهر لي أن قول عيسى في مسجد له مؤذن راتب وليس له إمام راتب لتعلق حكم الجماعة به دون المؤذن.

وقال ابن عبد البر: ولا أصل لهذه المسألة إلا المنع من الاختلاف على الأئمة وردع أهل البدع ليتركوا إظهار بدعتهم لأنهم كانوا يرغبون عن صلاة الإمام ثم يأتون بعده فيجمعون بإمامهم.

وقال أبو حنيفة والشافعي والجمهور لا بأس أن يجمع في المسجد مرتين ولم ينه الله عنه ولا رسوله ولا اتفق عليه العلماء، ودليل الجواز حديث أنه صلى الله عليه وسلم صلى إحدى صلاتي العشي فلما سلم دخل رجل لم يدرك الصلاة معه فاستقبل القبلة ليصلي فقال صلى الله عليه وسلم: ألا رجل يتصدق على هذا فيصلي معه فقام رجل ممن صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم فصلى معه انتهى.
والجواب أن هذه واقعة حال محتملة فلا ينهض حجة في عدم الكراهة.

( وَسُئِلَ مَالِكٌ عَنْ مُؤَذِّنٍ أَذَّنَ لِقَوْمٍ ثُمَّ تَنَفَّلَ فَأَرَادُوا أَنْ يُصَلُّوا بِإِقَامَةِ غَيْرِهِ؟ فَقَالَ: لَا بَأْسَ بِذَلِكَ إِقَامَتُهُ وَإِقَامَةُ غَيْرِهِ سَوَاءٌ) وبهذا قال أبو حنيفة وقال الليث والثوري والشافعي وأكثر أهل الحديث: من أذن فهو يقيم لحديث عبد الله بن الحارث الصدائي قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما كان الصبح أمرني فأذنت ثم قام إلى الصلاة فجاء بلال ليقيم فقال صلى الله عليه وسلم: إن أخا صداء أذن ومن أذن فهو يقيم.

قال ابن عبد البر: انفرد به عبد الرحمن بن زياد الإفريقي وليس بحجة عندهم، وحجة مالك حديث عبد الله بن زيد حين أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأذان فأمره أن يلقيه على بلال وقال: إنه أندى منك صوتًا فلما أذن بلال قال صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن زيد: أقم أنت فأقام وهذا الحديث أحسن إسنادًا.

( قَالَ مَالِكٌ: لَمْ تَزَلِ الصُّبْحُ يُنَادَى لَهَا قَبْلَ الْفَجْرِ) في أول السدس الأخير من الليل قاله ابن وهب وسحنون.
وقال ابن حبيب: نصف الليل، وحجة العمل المذكور حديث ابن عمر الآتي إن بلالاً ينادي بليل وبه قال الجمهور والأئمة الثلاثة، وقال أبو حنيفة وطائفة لا يؤذن لها حتى يطلع الفجر ( فَأَمَّا غَيْرُهَا مِنَ الصَّلَوَاتِ فَإِنَّا لَمْ نَرَهَا يُنَادَى لَهَا إِلَّا بَعْدَ أَنْ يَحِلَّ وَقْتُهَا) لحرمته قبل الوقت في غير الصبح.

قال الكرخي من الحنفية: كان أبو يوسف يقول: بقول أبي حنيفة: لا يؤذن لها حتى أتى المدينة فرجع إلى قول مالك وعلم أنه عملهم المتصل.

قال الباجي: يظهر لي أنه ليس في الأثر ما يقتضي أن الأذان قبل الفجر لصلاة الفجر فإن كان الخلاف في الأذان ذلك الوقت فالآثار حجة لمن أثبته وإن كان الخلاف في المقصود به فيحتاج إلى ما يبين ذلك من إبطال الأذان إلى الفجر أو غير ذلك مما يدل عليه.

( مَالِكٍ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ الْمُؤَذِّنَ جَاءَ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ يُؤْذِنُهُ لِصَلَاةِ الصُّبْحِ فَوَجَدَهُ نَائِمًا فَقَالَ: الصَّلَاةُ خَيْرٌ مِنَ النَّوْمِ فَأَمَرَهُ عُمَرُ أَنْ يَجْعَلَهَا فِي نِدَاءِ الصُّبْحِ) هذا البلاغ أخرجه الدارقطني في السنن من طريق وكيع في مصنفه عن العمري عن نافع عن ابن عمر عن عمر، وأخرج أيضًا عن سفيان عن محمد بن عجلان عن نافع عن ابن عمر عن عمر أنه قال لمؤذنه: إذا بلغت حي على الفلاح في الفجر فقل الصلاة خير من النوم الصلاة خير من النوم، فقصر ابن عبد البر في قوله لا أعلم هذا روي عن عمر من وجه يحتج به وتعلم صحته، وإنما أخرجه ابن أبي شيبة من حديث هشام بن عروة عن رجل يقال له إسماعيل لا أعرفه قال: والتثويب محفوظ في أذان بلال وأبي محذورة في صلاة الصبح للنبي صلى الله عليه وسلم، والمعنى هنا أن نداء الصبح موضع قوله لا هنا كأنه كره أن يكون منه نداء آخر عند باب الأمير كما أحدثته الأمراء، وإلا فالتثويب أشهر عند العلماء والعامة من أن يظن بعمر أنه جهل ما سن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر به مؤذنيه بلالاً بالمدينة، وأبا محذورة بمكة انتهى.

ونحو تأويله قول الباجي: يحتمل أن عمر قال ذلك إنكارًا لاستعماله لفظة من ألفاظ الأذان في غيره وقال له اجعلها فيه يعني لا تقلها في غيره انتهى.
وهو حسن متعين: فقد روى ابن ماجه من طريق ابن المسيب عن بلال أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم يؤذنه لصلاة الفجر فقيل هو نائم فقال الصلاة خير من النوم مرتين، فأقرت في تأذين الفجر فثبت الأمر على ذلك.

وروى بقي بموحدة ابن مخلد عن أبي محذورة قال: كنت غلامًا صبيًا فأذنت بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم الفجر يوم حنين: فلما انتهيت إلى حي على الفلاح قال: ألحق فيها الصلاة خير من النوم، وقال مالك في مختصر ابن شعبان: لا يترك المؤذن قوله في نداء الصبح الصلاة خير من النوم في سفر ولا حضر ومن أذن في ضيعته متنحيًا عن الناس فتركه فلا بأس وأحب إلينا أن يأتي به.

( مَالِكٍ عَنْ عَمِّهِ أَبِي سُهَيْلِ) بضم السين واسمه نافع ( بْنِ مَالِكٍ عَنْ أَبِيهِ) مالك بن أبي عامر الأصبحي ( أَنَّهُ قَالَ: مَا أَعْرِفُ شَيْئًا مِمَّا أَدْرَكْتُ عَلَيْهِ النَّاسَ) يعني الصحابة ( إِلَّا النِّدَاءَ بِالصَّلَاةِ) فإنه باق على ما كان عليه لم يدخله تغيير ولا تبديل بخلاف الصلاة فقد أخرت عن أوقاتها وسائر الأفعال قد دخلها التغيير، فأنكر أكثر أفعال أهل عصره والتغيير يمكن أن يلحق صفة الفعل كتأخير الصلاة وأن يلحق الفعل جملة كترك الأمر بكثير من المعروف والنهي عن كثير من المنكر مع علم الناس بذلك كله قاله الباجي.

وقال ابن عبد البر فيه: إن الأذان لم يتغير عما كان عليه، وكذا قال عطاء ما أعلم تأذينهم اليوم يخالف تأذين من مضى وفيه تغير الأحوال عما كانت عليه زمن الخلفاء الأربع في أكثر الأشياء، واحتج بهذا بعض من لم ير عمل أهل المدينة حجة وقال لا حجة إلا فيما نقل بالأسانيد الصحاح عن النبي صلى الله عليه وسلم أو عن الخلفاء الأربعة ومن سلك سبيلهم.

( مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ سَمِعَ الْإِقَامَةَ وَهُوَ بِالْبَقِيعِ فَأَسْرَعَ الْمَشْيَ إِلَى الْمَسْجِدِ) بدون جري لأن الإسراع المنهي عنه بقوله صلى الله عليه وسلم: فلا تأتوها وأنتم تسعون هو الجري لأنه ينافي الوقار المشروع في الصلاة وفي قصدها، وأما ما لا ينافي الوقار فجائز وكذا قول مالك بجواز تحريك الفرس لمن سمع الأذان ليدرك الصلاة يريد تحريكه للإسراع في المشي دون جري ولا خروج عن حد الوقار قاله الباجي.

وقال ابن عبد البر: الواجب أن يأتي الصلاة بالسكينة خاف فواتها أو لم يخف لأمره صلى الله عليه وسلم بذلك وهو الحجة قال وقال بعض أصحابنا إن ابن عمر لم يزد على مشيه المعهود لأن الإسراع كان عادته لبعده من الزهو وليس ببين لأن نافعًا مولاه قد عرف مشيه، ثم أخبر أنه لما سمع الإقامة أسرع، ولا يخالفه قول محمد بن زيد: كان ابن عمر إذا مشى إلى الصلاة لو مشت معه نملة ما سبقها لأنه في حال لا يخاف فيها فوات شيء من الصلاة وهي أغلب أحواله انتهى.



رقم الحديث 152 وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ أَبِي حَازِمِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ أَنَّهُ قَالَ: سَاعَتَانِ يُفْتَحُ لَهُمَا أَبْوَابُ السَّمَاءِ، وَقَلَّ دَاعٍ تُرَدُّ عَلَيْهِ دَعْوَتُهُ: حَضْرَةُ النِّدَاءِ لِلصَّلَاةِ، وَالصَّفُّ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَسُئِلَ مَالِكٌ عَنِ النِّدَاءِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ.
هَلْ يَكُونُ قَبْلَ أَنْ يَحِلَّ الْوَقْتُ؟ فَقَالَ: لَا يَكُونُ إِلَّا بَعْدَ أَنْ تَزُولَ الشَّمْسُ وَسُئِلَ مَالِكٌ عَنْ تَثْنِيَةِ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ، وَمَتَى يَجِبُ الْقِيَامُ عَلَى النَّاسِ حِينَ تُقَامُ الصَّلَاةُ؟ فَقَالَ: لَمْ يَبْلُغْنِي فِي النِّدَاءِ وَالْإِقَامَةِ إِلَّا مَا أَدْرَكْتُ النَّاسَ عَلَيْهِ، فَأَمَّا الْإِقَامَةُ، فَإِنَّهَا لَا تُثَنَّى.
وَذَلِكَ الَّذِي لَمْ يَزَلْ عَلَيْهِ أَهْلُ الْعِلْمِ بِبَلَدِنَا.
.
وَأَمَّا قِيَامُ النَّاسِ، حِينَ تُقَامُ الصَّلَاةُ، فَإِنِّي لَمْ أَسْمَعْ فِي ذَلِكَ بِحَدٍّ يُقَامُ لَهُ، إِلَّا أَنِّي أَرَى ذَلِكَ عَلَى قَدْرِ طَاقَةِ النَّاسِ، فَإِنَّ مِنْهُمُ الثَّقِيلَ وَالْخَفِيفَ، وَلَا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَكُونُوا كَرَجُلٍ وَاحِدٍ وَسُئِلَ مَالِكٌ عَنْ قَوْمٍ حُضُورٍ أَرَادُوا أَنْ يَجْمَعُوا الْمَكْتُوبَةَ، فَأَرَادُوا أَنْ يُقِيمُوا وَلَا يُؤَذِّنُوا؟ قَالَ مَالِكٌ: ذَلِكَ مُجْزِئٌ عَنْهُمْ.
وَإِنَّمَا يَجِبُ النِّدَاءُ فِي مَسَاجِدِ الْجَمَاعَاتِ الَّتِي تُجْمَعُ فِيهَا الصَّلَاةُ وَسُئِلَ مَالِكٌ عَنْ تَسْلِيمِ الْمُؤَذِّنِ عَلَى الْإِمَامِ، وَدُعَائِهِ إِيَّاهُ لِلصَّلَاةِ، وَمَنْ أَوَّلُ مَنْ سُلِّمَ عَلَيْهِ؟ فَقَالَ: لَمْ يَبْلُغْنِي أَنَّ التَّسْلِيمَ كَانَ فِي الزَّمَانِ الْأَوَّلِ قَالَ يَحْيَى: وَسُئِلَ مَالِكٌ عَنْ مُؤَذِّنٍ أَذَّنَ لِقَوْمٍ، ثُمَّ انْتَظَرَ هَلْ يَأْتِيهِ أَحَدٌ؟ فَلَمْ يَأْتِهِ أَحَدٌ، فَأَقَامَ الصَّلَاةَ، وَصَلَّى وَحْدَهُ، ثُمَّ جَاءَ النَّاسُ بَعْدَ أَنْ فَرَغَ، أَيُعِيدُ الصَّلَاةَ مَعَهُمْ؟ قَالَ: لَا يُعِيدُ الصَّلَاةَ.
وَمَنْ جَاءَ بَعْدَ انْصِرَافِهِ، فَلْيُصَلِّ لِنَفْسِهِ وَحْدَهُ قَالَ يَحْيَى: وَسُئِلَ مَالِكٌ عَنْ مُؤَذِّنٍ أَذَّنَ لِقَوْمٍ، ثُمَّ تَنَفَّلَ، فَأَرَادُوا أَنْ يُصَلُّوا بِإِقَامَةِ غَيْرِهِ؟ فَقَالَ: لَا بَأْسَ بِذَلِكَ.
إِقَامَتُهُ وَإِقَامَةُ غَيْرِهِ سَوَاءٌ قَالَ يَحْيَى: قَالَ مَالِكٌ: لَمْ تَزَلِ الصُّبْحُ يُنَادَى لَهَا قَبْلَ الْفَجْرِ.
فَأَمَّا غَيْرُهَا مِنَ الصَّلَوَاتِ، فَإِنَّا لَمْ نَرَهَا يُنَادَى لَهَا، إِلَّا بَعْدَ أَنْ يَحِلَّ وَقْتُهَا.


( مَالِكٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ) الأنصاري ( أَنَّهُ قَالَ) مرسلاً ( كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) لما كثر الناس ( قَدْ أَرَادَ أَنْ يَتَّخِذَ خَشَبَتَيْنِ) هما الناقوس وهو خشبة طويلة تضرب بخشبة أصغر منها فيخرج منهما صوت كما في الفتح وغيره ( يُضْرَبُ بِهِمَا لِيَجْتَمِعَ النَّاسُ لِلصَّلَاةِ) .

قال ابن عمر: كان المسلمون حين قدموا المدينة يجتمعون فيتحينون الصلاة ليس ينادى لها فتكلموا يومًا في ذلك فقال بعضهم: أنتخذ ناقوسًا مثل ناقوس النصارى، وقال بعضهم: بل بوقًا مثل قرن اليهود، الحديث في الصحيحين.

وقال أنس: لما كثر الناس ذكروا أن يعلموا وقت الصلاة بشيء يعرفونه فذكروا أن يوروا نارًا أو يضربوا ناقوسًا رواه البخاري ومسلم وفيه اختصار وهو في أبي داود وغيره بإسناد صحيح عن أبي عمير بن أنس عن عمومة له من الأنصار اهتم النبي صلى الله عليه وسلم للصلاة كيف يجمع الناس لها قيل له: انصب راية فإذا رآها الناس أذن بعضهم بعضًا فلم يعجبه ذلك فذكر له القبع أي شبور اليهود فقال: هو من أمر اليهود، فذكر له الناقوس فقال هو من أمر النصارى وكأنه كرهه أولاً ثم أمر بعمله، ففي أبي داود عن عبد الله بن زيد لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناقوس يعمل ليضرب به للناس ليجتمعوا للصلاة طاف بي وأنا نائم رجل يحمل ناقوسًا.

( فَأُرِيَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ) بن ثعلبة بن عبد ربه أبو محمد ( الْأَنْصَارِيُّ ثُمَّ مِنْ بَنِي الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ) فيقال له الخزرجي الحارثي شهد العقبة وبدرًا.
قال الترمذي: لا نعرف له عن النبي صلى الله عليه وسلم شيئًا إلا هذا الحديث الواحد في الأذان وكذا قال ابن عدي.

قال في الإصابة: وأطلق غير واحد أنه ما له غيره وهو خطأ فقد جاءت عنه أحاديث ستة أو سبعة جمعتها في جزء مفرد، ومات سنة اثنين وثلاثين وهو ابن أربع وستين وصلى عليه عثمان قاله ولده محمد بن عبد الله نقله المدايني.
وقال الحاكم: الصحيح أنه قتل بأحد فالروايات عنه كلها منقطعة وخالف ذلك في المستدرك.

( خَشَبَتَيْنِ فِي النَّوْمِ) متعلق بأري ( فَقَالَ: إِنَّ هَاتَيْنِ لَنَحْوٌ مِمَّا يُرِيدُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أن يجمع به الناس للصلاة ( فَقِيلَ أَلَا تُؤَذِّنُونَ لِلصَّلَاةِ) وأسمعه الأذان فاستيقظ ( فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ اسْتَيْقَظَ فَذَكَرَ لَهُ ذَلِكَ) فقال: إنها لرؤيا حق إن شاء الله ( فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْأَذَانِ) كذا أورد الحديث مرسلاً مختصرًا كما سمعه من يحيى بن سعيد.

قال ابن عبد البر: وروى قصة عبد الله بن زيد هذه في بدء الأذان جماعة من الصحابة بألفاظ مختلفة ومعان متقاربة والأسانيد في ذلك متواترة وهي من وجوه حسان انتهى.

وأخرج أبو داود والترمذي وقال حسن صحيح وابن ماجه وابن خزيمة وابن حبان وصححاه من حديث محمد بن عبد الله بن زيد قال: حدثني أبي لما أمر صلى الله عليه وسلم بالناقوس يعمل به للناس ليجتمعوا للصلاة طاف بي وأنا نائم رجل يحمل ناقوسًا في يده فقلت: يا عبد الله أتبيع الناقوس؟ قال: وما تصنع به فقلت: ندعو به إلى الصلاة، قال: أفلا أدلك على ما هو خير من ذلك؟ فقلت: بلى.
قال: تقول الله أكبر فذكره مربع التكبير بلا ترجيع.
قال: ثم استأخر عني غير بعيد فقال: تقول إذا قمت إلى الصلاة فذكر الإقامة مفردة وثنى قد قامت الصلاة، فلما أصبحت أتيت رسول الله فأخبرته بما رأيت فقال: إنها لرؤيا حق إن شاء الله فقم مع بلال فألق عليه ما رأيت فليؤذن به فإنه أندى منك صوتًا فقمت مع بلال فجعلت ألقيه عليه ويؤذن به قال: فسمع بذلك عمر بن الخطاب وهو في بيته فخرج يجر رداءه يقول: والذي بعثك بالحق يا رسول الله لقد رأيت مثل ما أري.
فقال صلى الله عليه وسلم: فلله الحمد اهـ.
لفظ أبي داود وهو كالشرح لمرسل الموطأ.

ونقل ابن خزيمة عن محمد بن يحيى الذهلي بذال ولام أن هذه الطريق أصح طرقه وشاهده حديث عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن سعيد بن المسيب مرسلاً، ومنهم من وصله عن سعيد عن عبد الله بن زيد والمرسل أقوى إسنادًا.
ولأحمد عن معاذ بن جبل أن عبد الله بن زيد قال: يا رسول الله إني رأيت فيما يرى النائم ولو قلت إني لم أكن نائمًا لصدقت رأيت شخصًا عليه ثوبان أخضران فاستقبل القبلة فقال: الله أكبر، فذكر الحديث.

وعند أبي داود في حديث أبي عمير بن أنس عن عمومته من الأنصار وكان عمر قد رآه قبل ذلك فكتمه عشرين يومًا ثم أخبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: ما منعك أن تخبرني؟ فقال: سبقني عبد الله بن زيد فاستحيت وظاهره يعارض ما قبله.

قال الحافظ: ولا مخالفة لأنه يحمل على أنه لم يخبر بذلك عقب إخبار عبد الله بن زيد بل متراخيًا عنه فقوله: ما منعك أن تخبرني أي عقب إخبار عبد الله فاعتذر بالاستحياء فدل على أنه لم يخبره على الفور انتهى.
وبعده لا يخفى مع قوله فسمع عمر فخرج يقول: يا رسول الله لقد رأيت مثل ما أري فجعله حالاً من فاعل خرج أي قائلاً في حال خروجه، لكنه لا يمتنع للجمع بين الحديثين مع صحتهما.

وللطبراني في الأوسط أن أبا بكر أيضًا رأى الأذان، وذكر الجيلي في شرح التنبيه أنه رآه أربعة عشر رجلاً، وأنكره ابن الصلاح فقال: لم أجده بعد إمعان البحث، ثم النووي فقال في تنقيحه: هذا ليس بثابت ولا معروف، وإنما الثابت خروج عمر يجر رداءه.
وفي سيرة مغلطاي عن بعض كتب الفقهاء أنه رآه سبعة من الأنصار.

قال الحافظ: ولا يثبت شيء من ذلك إلا لعبد الله بن زيد، وقصة عمر جاءت في بعض طرقه.

وفي مسند الحارث بن أبي أسامة بسند واهٍ عن كثير الحضرمي قال: أول من أذن بالصلاة جبريل في السماء الدنيا فسمعه عمر وبلال فسبق عمر بلالاً فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم، ثم جاء بلال فقال له: سبقك بها عمر.
قال: وقد استشكل إثبات حكم الأذان برؤيا عبد الله بن زيد لأن رؤيا غير الأنبياء لا ينبني عليها حكم شرعي.

وأجيب باحتمال مقارنة الوحي لذلك أو لأنه صلى الله عليه وسلم أمر بمقتضى الرؤيا لينظر أيقر على ذلك أم لا.
ولا سيما لما رأى نظمها يبعد دخول الوسواس فيه وهذا ينبني على القول بجواز اجتهاده في الأحكام وهو المنصور في الأصول، ويؤيد الأول ما رواه عبد الرزاق وأبو داود في المراسيل عن عبيد بن عمير أحد كبار التابعين أن عمر لما رأى الأذان جاء ليخبر به النبي صلى الله عليه وسلم فوجد الوحي قد ورد بذلك فما راعه إلا أذان بلال فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: سبقك بذلك الوحي وهذا أصح مما حكى الداودي عن ابن إسحاق أن جبريل أتى النبي صلى الله عليه وسلم بالأذان قبل أن يخبره عبد الله بن زيد وعمر بثمانية أيام.

وجاءت أحاديث تدل على أن الأذان شرع بمكة قبل الهجرة.
منها للطبراني عن ابن عمر قال: لما أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم أوحى الله إليه الأذان فنزل به فعلمه بلالاً، وفي إسناده طلحة بن زيد وهو متروك وللدارقطني عن أنس أن جبريل أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالأذان حين فرضت الصلاة وإسناده ضعيف أيضًا.
ولابن مردويه عن عائشة مرفوعًا: لما أسري بي أذن جبريل فظنت الملائكة أنه يصلي بهم فقدمني فصليت وفيه من لا يعرف.
وللبزار وغيره عن علي: لما أراد الله أن يعلم رسوله الأذان أتاه جبريل بالبراق فركبها، الحديث.
وفيه: إذ خرج ملك من الحجاب فقال: الله أكبر، وفي آخره فأخذ الملك بيده فأم بأهل السماء، وفي إسناده زياد بن المنذر أبو الجارود وهو متروك أيضًا، ويمكن على تقدير الصحة أن يحمل على تعدد الإسراء فيكون وقع ذلك بالمدينة.
وقول القرطبي لا يلزم من كونه سمعه ليلة الإسراء أن يكون مشروعًا في حقه فيه نظر لقوله أوله لما أراد الله أن يعلم رسوله الأذان، وكذا قول المحب الطبري يحمل الأذان ليلة الإسراء على الأذان اللغوي وهو الإعلام فيه نظر أيضًا لتصريحه بصفته المشروعة فيه، والحق أنه لا يصح شيء من هذه الأحاديث.

وقد جزم ابن المنذر بأنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي بلا أذان منذ فرضت الصلاة بمكة إلى أن هاجر إلى المدينة إلى أن وقع التشاور في ذلك على ما في حديث ابن عمر ثم في حديث عبد الله بن زيد انتهى.

ومن الواهي أيضًا ما لابن شاهين عن زياد بن المنذر حدثني العلاء قال قلت لابن الحنفية: كنا نتحدث أن الأذان رؤيا رآها رجل من الأنصار ففزع وقال: عمدتم إلى أحسن دينكم فزعمتم أنه كان رؤيا هذا والله الباطل، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما عرج به انتهى إلى مكان من السماء وقف وبعث الله ملكًا ما رآه أحد في السماء قبل ذلك اليوم فعلمه الأذان ففيه كما رأيت زياد بن المنذر متروك، وقد صرح الحافظ الذهبي بأن هذا باطل.

قال الحافظ: وقد حاول السهيلي الجمع فتكلف وتعسف والأخذ بما صح أولى فقال بانيًا على صحة الحكمة في مجيء الأذان على لسان الصحابي أن النبي صلى الله عليه وسلم سمعه فوق سبع سموات وهو أقوى من الوحي فلما تأخر الأمر بالأذان عن فرض الصلاة وأراد إعلامهم بالوقت رأى الصحابي المنام فقصه فوافق ما كان صلى الله عليه وسلم سمعه فقال: إنها لرؤيا حق، وعلم حينئذ أن مراد الله بما أراه في السماء أن يكون سنة في الأرض وتقوى ذلك بموافقة عمر لأن السكينة تنطق على لسانه والحكمة أيضًا في إعلام الناس به على غير لسانه صلى الله عليه وسلم التنويه بقدره والرفع لذكره بلسان غيره ليكون أقوى لأمره وأفخر لشأنه انتهى ملخصًا.

والثاني حسن بديع ويؤخذ من عدم الاكتفاء برؤية عبد الله بن زيد حتى أضيف إليه عمر للتقوية التي ذكرها ولم يقتصر على عمر ليصير في معنى الشهادة وجاء في رواية ضعيفة ما ظاهره أن بلالاً رأى أيضًا لكنها مؤولة فإن لفظها سبقك بها بلال فيحمل على مباشرة التأذين برؤيا عبد الله بن زيد، ومما يكثر السؤال عنه هل باشر النبي صلى الله عليه وسلم الأذان بنفسه، وقد روى الترمذي بإسناد حسن عن يعلى بن مرة الثقفي أن النبي صلى الله عليه وسلم أذن في سفر وصلى بأصحابه وهم على رواحلهم السماء من فوقهم والبلة من أسفلهم.

قال السهيلي: فنزع بعض الناس بهذا الحديث أنه صلى الله عليه وسلم أذن بنفسه، لكن روى الحديث الدارقطني بسند الترمذي ومتنه وقال فيه: فأمر بالأذان فقام المؤذن فأذن والمفصل يقضي على المجمل المحتمل انتهى.

وتبع هذا البعض النووي فجزم أن النبي صلى الله عليه وسلم أذن مرة في سفره وعزاه للترمذي وقواه، وتعقبه الحافظ فقال: ولكن وجدنا الحديث في مسند أحمد من الوجه الذي أخرجه منه الترمذي بلفظ فأمر بلالاً فأذن فعرف أن في رواية الترمذي اختصارًا وأن معنى أذن أمر بلالاً به كما يقال أعطى الخليفة العالم الفلاني ألفًا وإنما باشر العطاء غيره ونسب للخليفة لكونه أمر به انتهى.

وانتصر بعض للنووي تبعًا للبعض بأن هذا إنما يصار إليه لو لم يحتمل تعدد الواقعة، أما إذا أمكن فيجب المصير إليه إبقاء لأذن على حقيقته عملاً بقاعدة الأصول أنه يجب إبقاء اللفظ على حقيقته وهو مردود بأن ذلك إنما يصح إذا اختلف سند الحديث ومخرجه، أما مع الاتحاد فلا ويجب رجوع المجمل إلى المفصل عملاً بقاعدة الأصول وأهل الحديث.

وقال بعض المحدثين لو لم نكتب الحديث من ستين وجهًا ما عقلناه لاختلاف الرواة في ألفاظه ونحوها: نعم قال السيوطي في شرح البخاري: قد ظفرت بحديث آخر مرسلاً رواه سعيد بن منصور، حدثنا أبو معاوية، حدثنا عبد الرحمن بن أبي بكر القرشي، عن ابن أبي مليكة، قال: أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرة فقال: حي على الفلاح قال وهذه رواية لا تقبل التأويل انتهى.
فهذا الذي يجزم فيه بالتعدد لاختلاف سنده وانظر ما أحسن قوله آخر لكن لم يبين هل كان في سفر أو حضر.

( مَالِكٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَزِيدَ) بتحتية وزاي ( اللَّيْثِيِّ) المدني نزيل الشام من ثقات التابعين ورجال الجميع، مات سنة خمس أو سبع ومائة وقد جاوز الثمانين، ولأبي عوانة من رواية ابن وهب عن مالك ويونس عن الزهري أن عطاء بن يزيد أخبره ( عَنْ أَبِي سَعِيدٍ) سعد بن مالك بن سنان بن عبيد الأنصاري ( الْخُدْرِيِّ) له ولأبيه صحبة واستصغر بأحد ثم شهد ما بعدها روى الكثير ومات بالمدينة سنة ثلاث أو أربع أو خمس وستين وقيل سنة أربع وسبعين.

( أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِذَا سَمِعْتُمُ النِّدَاءَ) أي الأذان سمي به لأنه نداء إلى الصلاة ودعاء إليها ( فَقُولُوا مِثْلَ مَا يَقُولُ الْمُؤَذِّنُ) ادعى ابن وضاح أن قوله المؤذن مدرج وأن الحديث انتهى بقوله ما يقول، وتعقب بأن الإدراج لا يثبت بمجرد الدعوى، وقد اتفقت الروايات في الصحيحين والموطأ على إثباتها، ولم يصب صاحب العمدة في حذفها وظاهره اختصاص الإجابة بمن سمع حتى لو رأى المؤذن على المنارة مثلاً في الوقت وعلم أنه يؤذن، لكن لم يسمع أذانه لبعد أو صمم لا يشرع له المتابعة قاله النووي في شرح المهذب، وقال مثل ما يقول ولم يقل مثل ما قال ليشعر بأنه يجيبه بعد كل كلمة مثل كلمتها قاله الكرماني والصريح في ذلك ما رواه النسائي عن أم حبيبة أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول مثل ما يقول المؤذن حتى يسكت.

وقال أبو الفتح اليعمري: ظاهر الحديث أنه يقول مثل ما يقول عقب فراغ المؤذن لكن الأحاديث التي تضمنت إجابة كل كلمة عقبها دلت على أن المراد المساوقة يشير إلى حديث عمر في مسلم وغيره وظاهره أيضًا أنه يقول مثله في جميع الكلمات، لكن حديث عمر أيضًا وحديث معاوية في البخاري وغيره دلا على أنه يستثنى من ذلك حي على الصلاة وحي على الفلاح فيقول بدلهما لا حول ولا قوة إلا بالله وهو المشهور عند الجمهور.

وقال ابن المنذر: يحتمل أن يكون ذلك من الاختلاف المباح فيقول تارة كذا وتارة كذا، وحكي عن بعض أهل الأصول أن الخاص والعام إذا أمكن الجمع بينهما وجب إعمالهما فلم لا يستحب للسامع أن يجمع بين الحيعلة والحوقلة وهو وجه عند الحنابلة.

وأجيب عن المشهور من حيث المعنى بأن الأذكار الزائدة على الحيعلة يشترك السامع والمؤذن في ثوابها، وأما الحيعلة فمقصودها الدعاء إلى الصلاة وذلك يحصل من المؤذن فعوض السامع عما فاته من ثوابها بثواب الحوقلة، ولقائل أن يقول يحصل للمجيب الثواب لامتثاله الأمر ويمكن أن يزداد استيقاظًا وإسراعًا إلى القيام إلى الصلاة إذا تكرر على سمعه الدعاء إليها من المؤذن ومن نفسه.
قيل: وفي الحديث دليل على أن لفظ مثل لا يقتضي المساواة من كل جهة لأنه لا يطلب برفع الصوت المطلوب من المؤذن، وفيه بحث لأن المماثلة وقعت في القول لا في صفته، والفرق أن المؤذن قصده الإعلام فاحتاج لرفع الصوت، والسامع مقصوده ذكر الله فيكفي السر أو الجهر لا مع رفع الصوت.
نعم لا يكفي إجراؤه على خاطره من غير تلفظ لظاهر الأمر بالقول وفيه جواز إجابة المؤذن في الصلاة عملاً بظاهر الأمر، ولأن المجيب لا يقصد المخاطبة واستدل به على وجوب إجابة المؤذن حكاه الطحاوي عن قوم من السلف، وبه قال الحنفية والظاهرية وابن وهب.

واستدل الجمهور لحديث مسلم وغيره أنه صلى الله عليه وسلم سمع مؤذنًا فلما كبر قال على الفطرة فلما تشهد قال خرج من النار فلما قال صلى الله عليه وسلم غير ما قال المؤذن علم أن الأمر للاستحباب، وتعقب بأنه ليس في الحديث أنه لم يقل مثل ما قال فيجوز أنه قاله ولم ينقله الراوي اكتفاء بالعادة ونقل القول الزائد، وبأنه يحتمل أن ذلك وقع قبل صدور الأمر وأن يكون لما أمر لم يرد أن يدخل نفسه في عموم من خوطب بذلك انتهى.

والحديث أخرجه البخاري عن عبد الله بن يوسف، ومسلم عن يحيى كلاهما عن مالك به.

قال الحافظ: واختلف على الزهري في إسناده وعلى مالك أيضًا لكنه اختلاف لا يقدح في صحته، فرواه عبد الرحمن بن إسحاق عن الزهري عن سعيد عن أبي هريرة أخرجه النسائي وابن ماجه، وقال أبو حاتم وأحمد بن صالح والترمذي وأبو داود: حديث مالك ومن تابعه أصح، ورواه يحيى القطان عن مالك عن الزهري عن السائب بن يزيد أخرجه مسدد في مسنده وقال: إنه خطأ.
والصواب الرواية الأولى وفيه اختلاف آخر دون ما ذكر لا نطيل به انتهى.

( مَالِكٍ عَنْ سُمَيٍّ) بضم السين المهملة بلفظ التصغير ( مَوْلَى أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) بن الحارث بن هشام ( عَنْ أَبِي صَالِحٍ) ذكوان ( السَّمَّانِ) لأنه كان يتجر في السمن والزيت فلذا قيل له الزيات أيضًا ( عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ) وضع المضارع موضع الماضي ليفيد استمرار العلم قاله الطيبي ( مَا فِي النِّدَاءِ) أي الأذان وهي رواية بشر بن عمر عن مالك عند السراج ( وَالصَّفِّ الْأَوَّلِ) زاد أبو الشيخ من طريق الأعرج عن أبي هريرة: من الخير والبركة.

وقال الطيبي: أطلق مفعول يعلم وهو ما ولم يبين الفضيلة ما هي ليفيد ضربًا من المبالغة وأنه مما لا يدخل تحت الوصف والإطلاق إنما هو في قدر الفضيلة وإلا فقد ميزت في رواية بالخير والبركة.

قال الباجي: اختلف في الصف الأول هل هو الذي يلي الإمام أو المبكر السابق إلى المسجد؟ قال القرطبي: والصحيح أنه الذي يلي الإمام قالا فإن كان بين الإمام والناس حائل كما أحدث الناس المقاصير فالصف الأول هو الذي يلي المقصورة.

وقال ابن عبد البر: لا أعلم خلافًا أن من بكر وانتظر الصلاة وإن لم يصل في الصف الأول أفضل ممن تأخر وصلى في الصف الأول وفي هذا ما يوضح معنى الصف الأول وأنه ورد من أجل البكور إليه والتقدم، وقال صلى الله عليه وسلم: أتموا الصف المقدم ثم الذي يليه فما كان من نقص فليكن في المؤخر.

( ثُمَّ لَمْ يَجِدُوا) شيئًا من وجوه الأولوية بأن يقع التساوي أما في الأذان فبأن يستووا في معرفة الوقت وحسن الصوت ونحو ذلك وأما في الصف فبأن يصلوا دفعة واحدة ويتساووا في الفضل ( إِلَّا أَنْ يَسْتَهِمُوا) أي يقترعوا ( عَلَيْهِ) أي على ما ذكر من الأمرين ليشمل الأذان والصف.

وقال ابن عبد البر: الهاء عائدة على الصف الأول لا على النداء وهو وجه الكلام، لأن الضمير يعود إلى أقرب مذكور ولا يعدل عنه إلا بدليل ونازعه القرطبي وقال: يلزم منه أن يبقى النداء ضائعًا لا فائدة له قال والضمير يعود على معنى الكلام المتقدم ومثله قوله تعالى: { { وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا } } أي جميع ما ذكر.

قال الحافظ: وقد رواه عبد الرزاق عن مالك بلفظ لاستهموا عليهما فهذا مفصح بالمراد من غير تكلف.

( لَاسْتَهَمُوا) اقترعوا ومنه قوله تعالى: { { فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ } } قال الخطابي وغيره: قيل له استهام لأنهم كانوا يكتبون أسماءهم على سهام إذا اختلفوا في شيء فمن خرج اسمه غلب، واستدل به بعضهم لمن قال بالاقتصار على مؤذن واحد وليس بظاهر لصحة استهام أكثر من واحد، ولأن الاستهام على الأذان متوجه من جهة التولية من قبل الإمام لما فيه من المزية.
وزعم بعضهم أن المراد بالاستهام هنا الترامي بالسهام وأنه خرج مخرج المبالغة واستأنس بحديث لتجالدوا عليه بالسيوف، لكن فهم البخاري أن المراد اقترعوا أولى لرواية مسلم لكانت قرعة.

وقد روى سيف بن عمر في كتاب الفتوح والطبراني عن عبد الله بن شبرمة عن شقيق وهو أبو وائل قال: افتتحنا القادسية صدر النهار فتراجعنا وقد أصيب المؤذن فتشاح الناس في الأذان بالقادسية فاختصموا إلى سعد بن أبي وقاص فأقرع بينهم فخرجت القرعة لرجل منهم فأذن، والقادسية مكان معروف بالعراق نسب إلى قادس رجل نزل به.

وحكى الجوهري أن إبراهيم الخليل قدس على ذلك المكان فلذا صار منزلاً للحاج وكان بها وقعة مشهورة للمسلمين مع الفرس في خلافة عمر سنة خمس عشرة وكان سعد يومئذ الأمير على الناس.

( وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي التَّهْجِيرِ) أي التبكير إلى الصلوات أي صلاة كانت قاله الهروي وغيره.
قال ابن عبد البر: التهجير معروف وهو البدار إلى الصلاة أول وقتها وقبله وانتظارها قال تعالى: { { فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ } } وقال صلى الله عليه وسلم: منتظر الصلاة في صلاة ما انتظرها وحسبك بهذا فضلاً وسمى صلى الله عليه وسلم انتظار الصلاة بعد الصلاة رباطًا، وجاء: رباط يوم خير من صوم شهر انتهى.

وحمله الخليل والباجي وغيرهما على ظاهره فقالوا: المراد الإتيان إلى صلاة الظهر في أول الوقت لأن التهجير مشتق من الهاجرة وهي شدة الحر نصف النهار وهو أول وقت الظهر وإلى ذلك مال البخاري.

قال الحافظ: ولا يرد على ذلك مشروعية الأمر بالإبراد لأنه أريد به الرفق، وأما من ترك قائلته وقصد إلى المسجد لينتظر الصلاة فلا يخفى ما له من الفضل.

( لَاسْتَبَقُوا إِلَيْهِ) أي التهجير.
قال ابن أبي جمرة: المراد الاستباق معنى لا حسًا لأن المسابقة على الإقدام حسًا تقتضي السرعة في المشي وهو ممنوع منه انتهى.

( وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي الْعَتَمَةِ) أي العشاء وثبت النهي عن تسميتها عتمة فهذا الحديث بيان للجواز وأن النهي ليس للتحريم أو استعمل العتمة هنا لمصلحة ونفي مفسدة لأن العرب كانت تستعمل العشاء في المغرب فلو قال ما في العشاء لحملوها على المغرب ففسد المعنى وفات المطلوب فاستعمل العتمة التي يعرفونها ولا يشكون فيها، وقواعد الشرع متظاهرة على احتمال أخف المفسدتين لدفع أعظمهما قاله النووي.

( وَالصُّبْحِ) أي ثواب صلاتهما في جماعة ( لَأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا) بفتح المهملة وسكون الموحدة أي مشيًا على اليدين والركبتين أو على مقعدته، ولابن أبي شيبة من حديث أبي الدرداء ولو حبوًا على المرافق والركب.

قال الباجي: خص هاتين الصلاتين بذلك لأن السعي إليهما أشق من غيرهما لما فيه من تنقيص أول النوم وآخره.

وقال ابن عبد البر: الآثار فيهما كثيرة منها قوله صلى الله عليه وسلم: أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر.
وقال أبو الدرداء في مرض موته: اسمعوا وبلغوا حافظوا على هاتين الصلاتين - يعني في جماعة العشاء والصبح - ولو تعلمون ما فيهما لأتيتموهما ولو حبوًا على مرافقكم وركبكم، وكذلك قال عمر وعثمان وروي مرفوعًا: شهود صلاة العشاء خير من قيام نصف ليلة وشهود صلاة الصبح خير من قيام ليلة.
وقال عمر والحسن: لأن أشهد صلاة العشاء والفجر أحب إلي من أن أحيي ما بينهما.
وقال ابن عمر: كنا إذا فقدنا الرجل في صلاة العشاء وصلاة الفجر أسأنا به الظن انتهى.

وهذا الحديث رواه البخاري عن عبد الله بن يوسف، ومسلم عن يحيى كلاهما عن مالك به.

( مَالِكٍ عَنِ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَعْقُوبَ) المدني ( عَنْ أَبِيهِ) وهو تابعي كابنه ( وَإِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ) بن أبي طلحة أحد شيوخ مالك روى عنه هنا بواسطة ( أَنَّهُمَا أَخْبَرَاهُ) أي العلاء ( أَنَّهُمَا سَمِعَا أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا ثُوِّبَ بِالصَّلَاةِ) بضم المثلثة وشد الواو وموحدة.

قال ابن عبد البر: أي أقيم وأصل ثاب رجع يقال ثاب إلى المريض جسمه فكأن المؤذن رجع إلى ضرب من الأذان للصلاة، وقد جاء هذا الحديث عن أبي هريرة بلفظ: إذا أقيمت الصلاة، وهو يبين أن التثويب هنا الإقامة انتهى.

وهي رواية الصحيحين من وجه آخر عن أبي هريرة وفي رواية لهما أيضًا: إذا سمعتم الإقامة وهي أخص من قوله في حديث أبي قتادة عندهما أيضًا إذا أتيتم الصلاة، لكن الظاهر كما قال الحافظ إنه في مفهوم الموافقة لأن المسرع إذا أقيمت الصلاة يترجى إدراك فضيلة التكبيرة الأولى ونحوها، ومع ذلك نهى عن الإسراع فغيره ممن جاء قبل الإقامة لا يحتاج إلى الإسراع لأنه يتحقق إدراك الصلاة كلها فينهى من باب أولى، ولحظ فيه بعضهم معنى آخر فقال: حكمة التقييد بالإقامة أن المسرع إذا أقيمت الصلاة يصل إليها وقد تعب فيقرأ وهو بتلك الحالة فلا يحصل له تمام الخشوع في الترتيل وغيره بخلاف من جاء قبل ذلك فلا تقام الصلاة حتى يستريح، لكن قضية هذا أنه لا يكره الإسراع لمن جاء قبل الإقامة وهو مخالف لصريح قوله: إذا أتيتم الصلاة لأنه يتناول ما قبل الإقامة وإنما قيده بالإقامة لأنها الحاملة غالبًا على الإسراع انتهى.

( فَلَا تَأْتُوهَا وَأَنْتُمْ تَسْعَوْنَ) تمشون بسرعة وتطلق على العمل نحو: { { وَمَنْ أَرَادَ الآَخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ } } { { إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى } } وعليه حمل قوله تعالى { { فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ } } كقوله: { { وَأَن لَّيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى } } أو المراد الذهاب فليس معناه الإسراع.
قال الطيبي: وأنتم تسعون حال من ضمير الفاعل وهو أبلغ في النهي من لا تسعوا وذلك لأنه مناف لما هو أولى به من الوقار والأدب وعقبه بما يدل على حسن الأدب بقوله ( وَأْتُوهَا وَعَلَيْكُمُ السَّكِينَةُ) ضبطه القرطبي بالنصب على الإغراء والنووي بالرفع على أنها جملة في موضع الحال زاد غيره أو السكينة مبتدأ وعليكم خبره، وذكر الحافظ العراقي في شرح الترمذي أن المشهور في الرواية الرفع، ووقع في رواية الحافظ أبي ذر الهروي للبخاري بالسكينة بالباء.

واستشكل بأنه متعد بنفسه عليكم أنفسكم وفيه نظر لثبوت زيادتها في أحاديث صحيحة كحديث عليكم برخصة الله، وحديث فعليه بالصوم فإنه له وجاء، وحديث عليك بالمرأة قاله لأبي طلحة في قصة صفية، وحديث عليكم بقيام الليل، وحديث عليك بخويصة نفسك وغير ذلك وتعليل هذا المعترض لا يوفي بمقصوده، إذ لا يلزم من تعديه بنفسه امتناع تعديه بالباء إذا ثبت ذلك، فيدل على أن فيه لغتين زاد في الصحيحين من وجه آخر عن أبي هريرة والوقار.
قال عياض والقرطبي: هو بمعنى السكينة وذكر للتأكيد.

وقال النووي: الظاهر أن بينهما فرقًا وأن السكينة التأني في الحركات واجتناب العبث والوقار في الهيئة كغض البصر وخفض الصوت وعدم الالتفات ذكره الحافظ، وقد منع الرضي الاعتراض بأن أسماء الأفعال وإن كان حكمها في التعدي واللزوم حكم الأفعال التي بمعناها لكن كثيرًا ما تزاد الباء في مفعولها لضعفها في العمل.

( فَمَا أَدْرَكْتُمْ) الفاء جواب شرط محذوف أي إذا فعلتم ما أمرتكم به من السكينة فما أدركتم ( فَصَلُّوا) مع الإمام ( وَمَا فَاتَكُمْ) معه ( فَأَتِمُّوا) أي أكملوا وفي رواية: فاقضوا والأولى أكثر رواية وأعمل مالك في المشهور في مذهبه الروايتين فقال يقضي القول ويبني الفعل وعنه بانيًا فيهما عملاً برواية فأتموا وعليها الشافعي حملاً لرواية فاقضوا على معنى الأداء والفراغ فلا يغاير قوله فأتموا، لأنه إذا اتحد مخرج الحديث واختلف في لفظة منه وأمكن رد الاختلاف إلى معنى واحد كان أولى.
وهنا كذلك لأن القضاء وإن كان يطلق على الفائت غالبًا لكنه يطلق على الأداء أيضًا ويرد بمعنى الفراغ كقوله تعالى: { { فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاَةُ } } وعنه يكون قاضيًا فيهما وبه قال أبو حنيفة.
وفي هذا تنبيه لدفع توهم أن النهي إنما هو لمن لم يخف فوت بعض الصلاة فصرح بالنهي وإن فات من الصلاة ما فات وبين ما يفعل فيما فات بقوله فما إلخ.

قال ابن عبد البر: الواجب أي المطلوب إتيان الصلاة بالسكينة ولو خاف فواتها لأمره صلى الله عليه وسلم بذلك وهو الحجة خلافًا لمن جوز السعي لخوف الفوات، وقد أكد ذلك ببيان العلة بقوله: ( فَإِنَّ أَحَدَكُمْ فِي صَلَاةٍ مَا كَانَ) مدة كونه ( يَعْمِدُ) بكسر الميم يقصد ( إِلَى الصَّلَاةِ) أي إنه في حكم المصلي فينبغي له اعتماد ما ينبغي للمصلي اعتماده واجتناب ما ينبغي له اجتنابه، ونبه بهذا على أنه لو لم يدرك من الصلاة شيئًا لكان محصلاً لمقصوده لكونه في صلاة، وعدم الإسراع أيضًا يستلزم كثرة الخطأ وهو معنى مقصود لذاته، وجاءت فيه أحاديث تقدم شيء منها.

وفي الصحيحين عن أنس أن بني سلمة أرادوا أن يتحولوا عن منازلهم فينزلوا قريبًا من النبي صلى الله عليه وسلم فكره أن يعروا منازلهم فقال: يا بني سلمة ألا تحتسبون آثاركم فأقاموا.
ولمسلم عن جابر فقالوا: ما يسرنا إذا كنا تحولنا.

واستدل به الجمهور على حصول فضل الجماعة بإدراك أي جزء من الصلاة لقوله: فما أدركتم فصلوا ولم يفصل بين قليل وكثير، وقيل: إنما يدرك فضلها بركعة وهو مذهب مالك للحديث السابق: من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة وقياسًا على الجمعة.
واستدل به أيضًا على طلب الدخول مع الإمام في أي حالة وجد عليها.
وأصرح منه ما أخرجه ابن أبي شيبة عن رجل من الأنصار مرفوعًا: من وجدني قائمًا أو راكعًا أو ساجدًا فليكن معي على حالتي التي أنا عليها.

واستدل به أيضًا على أن من أدرك الإمام راكعًا لم تحسب له تلك الركعة للأمر بإتمام ما فاته وقد فاته الوقوف والقراءة فيه وهو قول أبي هريرة وجماعة، واختاره ابن خزيمة وغيره، وقواه التقي السبكي.

وحجة الجمهور حديث أبي بكرة لما ركع دون الصف فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: زادك الله حرصًا ولا تعد ولم يأمره بإعادة تلك الركعة، وقد تابع مالكًا في رواية هذا الحديث عن العلاء إسماعيل بن جعفر قال: أخبرني العلاء رواه مسلم بلفظه وهو في مسند أحمد والكتب الستة من طرق عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة بلفظ: إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون وأتوها وأنتم تمشون وعليكم السكينة فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا.
وله طرق كثيرة وألفاظ متقاربة.

وأخرجه الشيخان أيضًا من حديث أبي قتادة بلفظ: إذا أتيتم الصلاة فعليكم السكينة، والباقي نحوه.

( مَالِكٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي صَعْصَعَةَ) بمهملات مفتوحات إلا العين الأولى فساكنة عمرو بن زيد ( الْأَنْصَارِيِّ ثُمَّ الْمَازِنِيِّ) بالزاي والنون من بني مازن بن النجار من الثقات، مات في خلافة المنصور ( عَنْ أَبِيهِ) عبيد الله المدني من ثقات التابعين زاد ابن عيينة وكان يتيمًا في حجر أبي سعيد وكانت أمه عند أبي سعيد أخرجه ابن خزيمة، ومات أبو صعصعة في الجاهلية وابنه عبد الرحمن صحابي.

( أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ) سعد بن مالك بن سنان الصحابي ابن الصحابي ( الْخُدْرِيَّ قَالَ لَهُ:) أي لعبد الله بن عبد الرحمن ( إِنِّي أَرَاكَ تُحِبُّ الْغَنَمَ وَالْبَادِيَةَ) أي لأجل الغنم لأن محبها يحتاج إلى إصلاحها بالمرعى وهو في الغالب يكون في البادية وهي الصحراء التي لا عمارة فيها ( فَإِذَا كُنْتَ فِي غَنَمِكَ أَوْ بَادِيَتِكَ) يحتمل أن أو شك من الراوي وأنها للتنويع لأن الغنم قد لا تكون في البادية وقد يكون في البادية حيث لا غنم قاله الحافظ وغيره.

( فَأَذَّنْتَ بِالصَّلَاةِ) أي أعلمت بوقتها.
وفي رواية للبخاري للصلاة باللام بدل الموحدة أي لأجلها ( فَارْفَعْ صَوْتَكَ بِالنِّدَاءِ) أي الأذان وفيه إشعار بأن أذان مريد الصلاة كان مقررًا عندهم لاقتصاره على الأمر بالرفع دون أصل التأذين، وفيه استحباب أذان المنفرد وهو الراجح عند الشافعية والمالكية إن سافر بناء على أن الأذان حق الوقت، ولو لم يرج حضور من يصلي معه لأنه إن فاته دعاء المصلين لم تفته شهادة من سمعه من غيرهم، وقيل لا يستحب بناء على أنه لاستدعاء الجماعة، ومنهم من فصل بين من يرجو جماعة فيستحب ومن لا فلا.

( فَإِنَّهُ لَا يَسْمَعُ مَدَى) بفتح الميم والقصر أي غاية ( صَوْتِ الْمُؤَذِّنِ) قال البيضاوي: غاية الصوت يكون للمصغي أخفى من ابتدائه فإذا شهد له من بعد عنه ووصل إليه منتهى صوته، فلأن يشهد له من دنا منه وسمع مبادي صوته أولى ( جِنٌّ) قال الرافعي: يشبه أن يريد مؤمني الجن، وأما غيرهم فلا يشهدون للمؤذن بل يفرون وينفرون من الأذان ( وَلَا إِنْسٌ) قيل خاص بالمؤمنين فأما الكافر فلا شهادة له.
قال عياض: وهذا لا يسلم لقائله لما جاء في الآثار من خلافه ( وَلَا شَيْءٌ) ظاهره يشمل الحيوانات والجمادات فهو من العام بعد الخاص ويؤيده رواية ابن خزيمة لا يسمع صوته شجر ولا مدر ولا حجر ولا جن ولا إنس، وله ولأبي داود والنسائي من طريق أبي يحيى عن أبي هريرة بلفظ: المؤذن يغفر له مدى صوته ويشهد له كل رطب ويابس ونحوه للنسائي من حديث البراء وصححه ابن السكن.

قال الخطابي: مدى الشيء غايته أي أنه يستكمل المغفرة إذا استوفى وسعه في رفع الصوت فيبلغ الغاية من المغفرة إذا بلغ الغاية من الصوت، أو أنه كلام تمثيل وتشبيه يريد أن المكان الذي ينتهي إليه الصوت لو قدر أن يكون بين أقصاه وبين مقامه الذي هو فيه ذنوب تملأ تلك المسافة غفرها الله تعالى له واستشهد المنذري لقوله الأول برواية يغفر له مد صوته بتشديد الدال أي بقدر مد صوته.

قال الحافظ: فهذه الأحاديث تبين المراد من قوله ولا شيء وتكلم بعض من لم يطلع عليها في تأويله على ما يقتضيه ظاهره، فقال القرطبي: المراد بالشيء الملائكة، وتعقب بأنهم دخلوا في الجن لأنهم يستخفون عن الأبصار، وقال غيره: المراد كل ما يسمع المؤذن من الحيوان حتى ما لا يعقل لأنه الذي يصح أن يسمع صوته دون الجمادات، ومنهم من حمله على ظاهره ولا يمتنع ذلك عقلاً ولا شرعًا.

قال ابن بزيزة: تقرر في العادة أن السماع والشهادة والتسبيح لا يكون إلا من حي فهل ذلك حكاية على لسان الحال لأن الموجودات ناطقة بلسان حالها بجلال بارئها، أو هو على ظاهره ولا يمتنع عقلاً أن الله يخلق فيها الحياة والكلام.

وتقدم البحث في ذلك في قول النار: أكل بعضي بعضًا، وفي مسلم عن جابر بن سمرة مرفوعًا: إني لأعرف حجرًا بمكة كان يسلم علي قبل أن أبعث، ونقل ابن التين عن أبي عبد الملك أن قوله هنا ولا شيء نظير قوله تعالى: { { وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ } } وتعقبه بأن الآية مختلف فيها وما عرفت وجه هذا التعقب فإنهما سواء في الاحتمال، ونقل الاختلاف إلا أن يقول إن الآية لم يختلف في كونها على عمومها، وإنما اختلف في تسبيح بعض الأشياء هل هو على الحقيقة أو المجاز بخلاف الحديث.

( إِلَّا شَهِدَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) قال الزين بن المنير: السر في هذه الشهادة مع أنها تقع عند عالم الغيب والشهادة أن أحكام الآخرة جرت على أحكام نعت الخلق في الدنيا من توجيه الدعوى والجواب والشهادة، وقال التوربشتي: المراد من هذه الشهادة إشهار المشهود له يوم القيامة بالفضل وعلو الدرجة وكما أن الله يفضح بالشهادة قومًا فكذلك يكرم بالشهادة آخرين.
وقال الباجي: فائدة ذلك أن من يشهد له يوم القيامة يكون أعظم أجرًا في الآخرة ممن أذن فلم يسمعه من يشهد له.

( قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أي هذا الكلام الأخير وهو أنه لا يسمع إلخ، فقد رواه ابن خزيمة من رواية ابن عيينة بلفظ: قال أبو سعيد إذا كنت في البوادي فارفع صوتك بالنداء فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا يسمع، فذكره.
ورواه يحيى بن سعيد القطان عن مالك بلفظ: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا أذنت فارفع صوتك فإنه لا يسمع، فذكره.

فالظاهر أن ذكر الغنم والبادية موقوف خلافًا لإيراد الرافعي الحديث في الشرح بلفظ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي سعيد: إنك رجل تحب الغنم وساقه إلى آخره وسبقه إلى ذلك الغزالي وإمام الحرمين والقاضي حسين وغيرهم وتعقبهم النووي، وأجاب ابن الرفعة عنهم بأنهم فهموا أن قوله سمعته من رسول الله عائد إلى كل ما ذكر ولا يخفى بعده ذكره الحافظ، بل تمنعه روايتا ابن عيينة والقطان، وقد خالف الرافعي نفسه فقال في شرح المسند قوله سمعته يعني قوله أنه لا يسمع إلخ انتهى وهو الصواب.

وفي الحديث استحباب رفع الصوت بالأذان ليكثر من يشهد له ما لم يجهده أو يتأذى به، وفيه أن حب الغنم والبادية ولا سيما عند نزول الفتنة من عمل السلف الصالح، وفيه جواز التبدي ومساكنة الأعراب ومشاركتهم في الأسباب بشرط حظ من العلم وأمن غلبة الجفاء.

قال ابن عبد البر: فيه إباحة لزوم البادية ولكن في البعد عن الجماعة والجمعة ما فيه من البعد عن الفضائل إلا أن الزمان إذا كثر فيه الشر وتعذرت فيه السلامة طابت العزلة وهي خير من خليط السوء والجليس الصالح خير من الوحدة.
وقال صلى الله عليه وسلم: يوشك أن يكون خير مال المسلم غنمًا يتبع بها شعف الجبال ومواضع القطر يفر بدينه من الفتن.

وهذا الحديث أخرجه البخاري هنا عن عبد الله بن يوسف وفي بدء الخلق عن قتيبة بن سعيد كلاهما عن مالك به، ولم يخرجه مسلم.

( مَالِكٍ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ) عبد الله بن ذكوان ( عَنِ الْأَعْرَجِ) عبد الله بن هرمز ( عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ) أي لأجلها، وللنسائي عن قتيبة عن مالك بالصلاة وهي رواية لمسلم أيضًا ويمكن حملهما على معنى واحد ( أَدْبَرَ الشَّيْطَانُ) إبليس على الظاهر، ويدل عليه كلام كثير من الشراح، ويحتمل أن المراد جنس الشيطان وهو كل متمرد من الجن أو الإنس لكن المراد هنا شيطان الجن خاصة ( لَهُ ضُرَاطٌ) جملة إسمية وقعت حالاً بدون واو لحصول الارتباط بالضمير وفي رواية للبخاري وله بالواو.
وقال عياض: يمكن حمله على ظاهره لأنه جسم متغذ يصح منه خروج الريح، ويحتمل أنه عبارة عن شدة نفاره ويقربه رواية مسلم له حصاص بمهملات مضموم الأول، وفسره الأصمعي وغيره بشدة العدو، وقال الطيبي: شبه شغل الشيطان نفسه عن سماع الأذان بالصوت الذي يملأ السمع ويمنعه عن سماع غيره ثم سماه ضراطًا.

( حَتَّى لَا يَسْمَعَ النِّدَاءَ) أي التأذين كما هو رواية التنيسي للموطأ ومسلم من رواية المغيرة عن أبي الزناد والمعنى واحد.
وقال الحافظ: ظاهره أنه يتعمد إخراج ذلك إما ليشتغل بسماع الصوت الذي يخرجه عن سماع المؤذن، أو يصنع ذلك استخفافًا كما تفعله السفهاء، أو ليقابل ما يناسب الصلاة من الطهارة بالحدث، ويحتمل أن لا يتعمد ذلك بل يحصل له عند سماع الأذان شدة خوف يحدث له ذلك الصوت بسببها، وفيه استحباب رفع الصوت بالأذان لأنه ظاهر في أنه يبعد إلى غاية ينتفي فيها سماعه للصوت، وقد بينت الغاية في رواية مسلم من حديث جابر فقال: حتى يكون مكان الروحاء.
قال سليمان يعني الأعمش فسألته أي أبا سفيان راويه عن جابر عن الروحاء فقال هي من المدينة ستة وثلاثون ميلاً، وقد أدرج هذا إسحاق بن راهويه في مسنده فقال: حتى يكون بالروحاء وهي ستة إلخ والمعتمد الأول.

( فَإِذَا قُضِيَ النِّدَاءُ) بضم القاف أي فرغ وانتهى منه ويروى بفتح القاف على حذف الفاعل والمراد المنادي أي: إذا قضى المنادي النداء ( أَقْبَلَ) زاد مسلم في رواية أبي صالح عن أبي هريرة فوسوس ( حَتَّى إِذَا ثُوِّبَ بِالصَّلَاةِ أَدْبَرَ) بضم المثلثة وشد الواو المكسورة قيل من ثاب إذا رجع وقيل من ثوب إذا أشار بثوبه عند الفزع لإعلام غيره.

قال الجمهور: المراد هنا الإقامة وبه جزم أبو عوانة والخطابي والبيهقي وغيرهم وقال القرطبي: ثوب بالصلاة أي أقيمت وأصله أنه رجع إلى ما يشبه الأذان وكل مردد صوت فهو مثوب ويدل عليه رواية مسلم من طريق أبي صالح عن أبي هريرة فإذا سمع الإقامة ذهب.

وزعم بعض الكوفيين أن المراد بالتثويب قول المؤذن بين الأذان والإقامة حي على الصلاة حي على الفلاح قد قامت الصلاة وحكاه ابن المنذر عن أبي يوسف عن أبي حنيفة وزعم أنه تفرد به لكن في سنن أبي داود عن ابن عمر أنه كره التثويب بين الأذان والإقامة فهذا يدل على أن له سلفًا في ذلك في الجملة ويحتمل أن يكون الذي تفرد به القول الخاص.

قال الخطابي: لا تعرف العامة التثويب إلا قول المؤذن الصلاة خير من النوم لكن المراد به هنا الإقامة.

( حَتَّى إِذَا قُضِيَ التَّثْوِيبُ) بالرفع نائب الفاعل والنصب مفعول ( أَقْبَلَ حَتَّى يَخْطِرَ) بفتح أوله وكسر الطاء كما ضبطه عياض عن المتقنين وقال: إنه الوجه ومعناه يوسوس وأصله من خطر البعير بذنبه إذا حركه فضرب به فخذيه قال: وسمعناه من أكثر الرواة بضم الطاء ومعناه المرور أي يدنو منه فيمر بينه وبين قلبه فيشغله عما هو فيه، وبهذا فسره الشارحون للموطأ وبالأول فسره الخليل وضعف الهجري في نوادره الضم وقال: هو يخطر بالكسر في كل شيء ( بَيْنَ الْمَرْءِ وَنَفْسِهِ) أي قلبه وكذا هو للبخاري من وجه آخر في بدء الخلق قال الباجي: المعنى أنه يحول بين المرء وبين ما يريده من إقباله على صلاته وإخلاصه فيها.

( يَقُولُ) الشيطان ( اذْكُرْ كَذَا اذْكُرْ كَذَا) وفي رواية للبخاري ومسلم بواو العطف واذكر كذا وللبخاري أيضًا في صلاة السهو اذكر كذا وكذا ( لِمَا لَمْ يَكُنْ يَذْكُرُ) أي لشيء لم يكن على ذكره قبل دخوله في الصلاة وفي رواية لمسلم لما لم يذكر من قبل، وله أيضًا من رواية عبد ربه عن الأعرج فهناه ومناه وذكره من حاجاته ما لم يكن يذكر.

ومن ثم استنبط أبو حنيفة للذي شكا إليه أنه دفن مالاً ثم لم يهتد لمكانه أن يصلي ويحرص على أن لا يحدث نفسه بشيء من أمر الدنيا ففعل فذكر مكان المال في الحال قيل خصه بما يعلم دون ما لم يعلم لأنه يميل لما يعلم أكثر لتحقق وجوده، والذي يظهر أنه أعم من ذلك فيذكره لما سبق له به علم ليشغل باله به ولما لم يكن سبق له ليوقعه في الفكرة فيه وهذا أعم من أن يكون في أمور الدنيا أو في أمور الدين كالعلم.
لكن هل يشمل ذلك التفكر في معاني الآيات التي يتلوها لا يبعد ذلك لأن غرضه نقص خشوعه وإخلاصه بأي وجه كان.

( حَتَّى يَظَلَّ الرَّجُلُ) بالظاء المعجمة المفتوحة رواية الجمهور ومعناه في الأصل اتصاف المخبر عنه بالخبر نهارًا لكنها هنا بمعنى يصير أو يبقى، وفي رواية بالضاد الساقطة مكسورة أي ينسى، ومنه أن تضل إحداهما أو يخطئ ومنه { { لاَّ يَضِلُّ رَبِّي وَلاَ يَنسَى } } ومفتوحة أي يتحير من الضلال وهو الحيرة والمشهور الأول ( إِنْ يَدْرِي) بكسر همزة إن النافية بمعنى لا، وفي رواية التنيسي لا يدري وروي بفتح الهمزة ونسبها ابن عبد البر لأكثر رواة الموطأ ووجهها بما تعقبه عليه جماعة وقال القرطبي: ليست رواية الفتح بشيء إلا مع رواية الضاد الساقطة فيكون أن والفعل بتأويل المصدر ومفعول ضل إن بإسقاط حرف الجر أي يضل عن درايته وكذا قال عياض لا يصح فتحها إلا على رواية يضل بكسر الضاد فتكون أن مع الفعل مفعوله أي يجهل درايته وينسى عدد ركعاته ( كَمْ صَلَّى) .

وللبخاري في بدء الخلق من وجه آخر عن أبي هريرة: حتى لا يدري أثلاثًا صلى أم أربعًا.

واختلف العلماء في حكمة هروب الشيطان عند سماع الأذان والإقامة دون سماع القرآن والذكر في الصلاة فقيل: حتى لا يشهد للمؤذن يوم القيامة فإنه لا يسمع صوته جن ولا إنس إلا شهد له كما تقدم، وقيل نفورًا عن سماع الأذان ثم يرجع موسوسًا ليفسد على المصلي صلاته فصار رجوعه من جنس فراره، والجامع بينهما الاستخفاف وقيل: لأن الأذان دعاء إلى الصلاة المشتملة على السجود الذي أباه وعصى بسببه.

واعترض بأنه يعود قبل السجود فلو كان هروبه لأجله لم يعد إلا عند فراغه.

وأجيب: بأنه يهرب عند سماع الدعاء لذلك ليغالط نفسه بأنه لم يخالف أمرًا ثم يرجع ليفسد على المصلي سجوده الذي أباه وقيل إنما يهرب لاتفاق الجميع على الإعلان بشهادة الحق وإقامة الشريعة.

واعترض بأن الاتفاق على ذلك حاصل قبل الأذان وبعده من جميع من يصلي.
وأجيب: بأن الإعلان أخص من الاتفاق فإن الإعلان المختص بالأذان لا يشاركه فيه غيره من الجهر بالتكبير والشهادة مثلاً، ولذا قال لعبد الله بن زيد: ألقه على بلال فإنه أندى منك صوتًا أي اقعد بالمد والإطالة والإسماع ليعم الصوت ويطول أمد التأذين فيكثر الجمع ويفوت على الشيطان مقصوده من إلهاء الآدمي عن إقامة الصلاة في جماعة أو إخراجها عن وقتها أو وقت فضيلتها، فيفر حينئذ وقد يئس أن يردهم عما أعلنوا به ثم يرجع لما طبع عليه من الأذى إلى الوسوسة.

وقال ابن الجوزي: على الأذان هيئة يشتد انزعاج الشيطان بسببها لأنه لا يكاد يقع في الأذان رياء ولا غفلة عند النطق به لأن النفس لا تحضره بخلاف الصلاة، فإن النفس تحضر فيها فيفتح لها الشيطان أبواب الوسوسة.

وقد ترجم عليه أبو عوانة في صحيحه الدليل على أن المؤذن في أذانه وإقامته منفي عنه الوسوسة والرياء لتباعد الشيطان منه وقيل لأن الأذان إعلام بالصلاة التي هي أفضل الأعمال بألفاظ هي من أفضل الذكر لا يزاد فيها ولا ينقص منها بل تقع على وفق الأمر فيفر من سماعها، وأما الصلاة فلما يقع من كثير من الناس فيها من التفريط تمكن الخبيث من المفرط فلو قدر أن المصلي وفي جميع ما أمر به فيها لم يقربه فيها إن كان وحده وهو نادر، وكذا إذا انضم إليه من هو مثله وهو أندر أشار إليه ابن أبي جمرة.

قال ابن بطال: ويشبه أن يكون الزجر عن الخروج من المسجد بعد الأذان من هذا المعنى لئلا يكون متشبهًا بالشيطان الذي يفر عند سماع الأذان، وفهم بعض السلف من هذا الحديث الإتيان بصورة الأذان وإن لم يوجد فيه شروط الأذان من وقوعه في الوقت وغير ذلك، ففي مسلم من رواية سهيل بن أبي صالح قال: أرسلني أبي إلى بني حارثة ومعي غلام لنا أو صاحب لنا فناداه مناد من حائط باسمه فأشرف الذي معي على الحائط فلم ير شيئًا فذكرت ذلك لأبي فقال: لو شعرت أنك تلقى هذا لم أرسلك ولكن إذا سمعت صوتًا فناد بالصلاة فإني سمعت أبا هريرة يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: إن الشيطان إذا نودي بالصلاة ولى وله حصاص.

وقال ابن عبد البر: قال مالك: استعمل زيد بن أسلم على معدن بني سليم وكان لا يزال يصاب فيه الناس من الجن فلما وليهم شكوا ذلك إليه فأمرهم بالأذان وأن يرفعوا أصواتهم به ففعلوا فارتفع ذلك عنهم فهم عليه حتى اليوم.
قال مالك: أعجبني ذلك من زيد وذكرت الغيلان عند عمر بن الخطاب فقال: إن شيئًا من الخلق لا يستطيع أن يتحول في غير خلقه ولكن للجن سحرة كما للإنس سحرة فإذا خشيتم شيئًا من ذلك فأذنوا بالصلاة.

وهذا الحديث رواه البخاري عن عبد الله بن يوسف عن مالك به، ورواه في السهو عن الليث عن جعفر بن ربيعة عن الأعرج به، ومسلم من طريق المغيرة الخزاعي عن أبي الزناد به، ومن طريق الأعمش وسهيل كلاهما عن أبي صالح عن أبي هريرة بنحوه.

( مَالِكٍ عَنْ أَبِي حَازِمِ) بمهملة وزاي سلمة ( بْنِ دِينَارٍ) الأعرج المدني العابد الثقة من رجال الجميع قال أبو عمر: كان أبو حازم هذا أحد الفضلاء الحكماء العلماء الثقات الأثبات وله حكم وزهديات ومواعظ ورقائق ومقطعات ومات سنة أربعين ومائة على الأصح وقيل: غير ذلك.

( عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ) بن مالك بن خالد الأنصاري الخزرجي ( السَّاعِدِيِّ) أبي العباس الصحابي ابن الصحابي مات سنة ثمان وثمانين وقيل بعدها وقد جاوز المائة ( أَنَّهُ قَالَ سَاعَتَانِ) قال ابن عبد البر: هذا الحديث موقوف عند جماعة رواة الموطأ ومثله لا يقال بالرأي، وقد رواه أيوب بن سويد ومحمد بن مخلد وإسماعيل بن عمرو عن مالك مرفوعًا.

وروي من طرق متعددة عن أبي حازم عن سهل قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ساعتان ( يُفْتَحُ لَهُمَا أَبْوَابُ السَّمَاءِ) أي فيهما أو من أجل فضيلتهما ( وَقَلَّ دَاعٍ تُرَدُّ عَلَيْهِ دَعْوَتُهُ) إخبار بأن الإجابة في هذين الوقتين هي الأكثر وأن رد الدعاء فيهما يندر ولا يكاد يقع قاله الباجي، فأشار بقوله قل إلى أنها قد ترد لفوات شرط من شروط الدعاء أو ركن من أركانه أو نحو ذلك وقال السيوطي: بل قل هنا للنفي المحض كما هو أحد استعمالاتها.
قال ابن مالك في التسهيل وغيره: ترد قل للنفي المحض فترفع الفاعل متلوًا بصفة مطابقة له نحو: قل رجل يقول ذلك، وقل رجلان يقولان ذلك وهي من الأفعال التي منعت التصرف.

( حَضْرَةُ النِّدَاءِ لِلصَّلَاةِ) أي الأذان ( وَالصَّفُّ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) أي في قتال الكفار لإعلاء كلمة الله.
وقد روى الطبراني والحاكم في المستدرك والديلمي الحديث عن سهل به مرفوعًا.
وروى أبو نعيم في الحلية عن عائشة رفعته: ثلاث ساعات للمرء المسلم ما دعا فيهن إلا استجيب له ما لم يسأل قطيعة رحم أو مأثمًا، حين يؤذن المؤذن بالصلاة حتى يسكت، وحين يلتقي الصفان حتى يحكم الله بينهما، وحين ينزل المطر حتى يسكن.
( وَسُئِلَ مَالِكٌ عَنِ النِّدَاءِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ هَلْ يَكُونُ قَبْلَ أَنْ يَحِلَّ الْوَقْتُ؟ فَقَالَ: لَا يَكُونُ إِلَّا بَعْدَ أَنْ تَزُولَ الشَّمْسُ) لأن وقتها زوال الشمس كالظهر عند جمهور الفقهاء وأجاز أحمد صلاتها قبل الزوال وهو شذوذ.
قال مالك: لو خطب قبل الزوال وصلى بعده لم تجز ويعيدون الجمعة بخطبة ما لم تغرب الشمس نقله ابن حبيب عن مطرف عنه.
وقال ابن سحنون: يعيدون الظهر أبدًا أفذاذًا.

( وَسُئِلَ مَالِكٌ عَنْ تَثْنِيَةِ النِّدَاءِ وَالْإِقَامَةِ وَمَتَى يَجِبُ الْقِيَامُ عَلَى النَّاسِ حِينَ تُقَامُ الصَّلَاةُ؟ فَقَالَ: لَمْ يَبْلُغْنِي فِي النِّدَاءِ وَالْإِقَامَةِ إِلَّا مَا أَدْرَكْتُ النَّاسَ عَلَيْهِ) وهو شفع الأذان لما في البخاري عن أنس قال: أمر بلال أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة قال الزين بن المنير: وصف الأذان بأنه شفع يفسره قوله مثنى أي مرتين مرتين وذلك يقتضي أن يستوي جميع ألفاظه في ذلك لكن لم يختلف في أن كلمة التوحيد التي في آخره مفردة فيحمل قوله مثنى على ما سواها انتهى.
ففيه دليل على أن التكبير ليس مربعًا، وكذا قوله صلى الله عليه وسلم: الأذان مثنى مثنى أخرجه أبو داود الطيالسي عن ابن عمر.
ورواه أبو داود والنسائي وصححه ابن خزيمة وغيره من حديث ابن عمر بلفظ: مرتان مرتان.

( فَأَمَّا الْإِقَامَةُ فَإِنَّهَا لَا تُثَنَّى) حتى قد قامت الصلاة بل تفرد ( وَذَلِكَ الَّذِي لَمْ يَزَلْ عَلَيْهِ أَهْلُ الْعِلْمِ بِبَلَدِنَا) المدينة مع تأييده بالحديث الصحيح، وأما قوله في رواية أيوب السختياني عن أبي قلابة عن أنس: ويوتر الإقامة إلا الإقامة أي: قد قامت الصلاة فالمثبت غير المنفي فهو مدرج من قول أيوب وليس من الحديث كما جزم به الأصيلي وابن منده، لأن إسماعيل بن إبراهيم قال: حدثنا خالد الحذاء عن أبي قلابة عن أنس قال: أمر بلال أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة.
قال إسماعيل: فذكرته لأيوب فقال: إلا الإقامة رواه البخاري ومسلم ونظر فيما قاله الحافظ بأن عبد الرزاق رواه عن معمر عن أيوب بسنده بلفظ: كان بلال يثني الأذان ويوتر الإقامة إلا قوله قد قامت الصلاة، والأصل أن ما كان في الخبر فهو منه حتى يقوم دليل على خلافه ولا دليل في رواية إسماعيل لأن محصلها أن خالدًا كان لا يذكر الزيادة وأيوب يذكرها وكل منهما روى الحديث عن أبي قلابة عن أنس فكان في رواية أيوب زيادة حافظ فتقبل انتهى.

لكن إنما يتم له هذا النظر لو صرح أيوب بروايته له عن أبي قلابة لما ذكر له إسماعيل رواية خالد وهو إنما قال: إلا الإقامة فيتبادر منه أنه إخبار عن رأيه، وأما رواية عبد الرزاق فلا دليل فيها على عدم الإدراج لأنها من محل النزاع، وقد دلت رواية إسماعيل على الإدراج ثم هذا الحديث حجة على من قال إن الإقامة مثناة.

وزعم بعض الحنفية أن إفرادها كان أولاً ثم نسخ بحديث أبي محذورة عند أصحاب السنن وفيه تثنية الإقامة وهو متأخر عن حديث أنس فيكون ناسخًا.
وعورض بأن في بعض طرق حديث أبي محذورة المحسنة التربيع والترجيع فكان يلزمهم القول به، وقد أنكر أحمد على من ادعى النسخ بحديث أبي محذورة، واحتج بأنه صلى الله عليه وسلم رجع بعد الفتح إلى المدينة وأقر بلالاً على إفراد الإقامة وعلمه سعد القرظ فأذن به بعده كما رواه الدارقطني والحاكم.

وقال ابن عبد البر: ذهب أحمد وإسحاق وداود وابن جرير إلى أن ذلك من الاختلاف المباح فإن ربع التكبير الأول في الأذان أو ثناه أو رجع في التشهد أو لم يرجع أو ثنى الإقامة أو أفردها كلها أو إلا قد قامت الصلاة، فالجميع جائز.
قيل الحكمة في تثنية الأذان وإفراد الإقامة أن الأذان لإعلام الغائبين فكرر ليكون أوصل إليهم بخلاف الإقامة فللحاضرين، ومن ثم استحب أن يكون الأذان في مكان عال بخلاف الإقامة، وأن يكون الصوت في الأذان أرفع منه في الإقامة.

قال الحافظ: وهذا توجيه ظاهر وأما قول الخطابي لو سوى بينهما لاشتبه الأمر في ذلك وصار يفوت كثيرًا من الناس صلاة الجماعة ففيه نظر لأن الأذان يستحب على مرتفع ليشترك فيه الإسماع وأن يكون مرتلاً والإقامة مسرعة ويؤخذ حكمة الترجيع مما تقدم وإنما اختص بالتشهد لأنه أعظم ألفاظ الأذان، والله أعلم.

( وَأَمَّا قِيَامُ النَّاسِ حِينَ تُقَامُ الصَّلَاةُ فَإِنِّي لَمْ أَسْمَعْ فِي ذَلِكَ بِحَدٍّ يُقَامُ لَهُ) وما في الصحيحين عن أبي قتادة قال صلى الله عليه وسلم: إذا أقيمت الصلاة فلا تقوموا حتى تروني خرجت فهو نهي عن القيام قبل خروجه وتسويغ له عند رؤيته وهو مطلق غير مقيد بشيء من ألفاظ الإقامة.

ومن ثم اختلف السلف في ذلك فقال مالك: ( إِلَّا أَنِّي أَرَى ذَلِكَ عَلَى قَدْرِ طَاقَةِ النَّاسِ فَإِنَّ مِنْهُمُ الثَّقِيلَ وَالْخَفِيفَ وَلَا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَكُونُوا كَرَجُلٍ وَاحِدٍ) وذهب الأكثر إلى أنهم إذا كان الإمام معهم في المسجد لم يقوموا حتى تفرغ الإقامة وإذا لم يكن في المسجد لم يقوموا حتى يروه، وعن أنس أنه كان يقوم إذا قال المؤذن قد قامت الصلاة رواه ابن المنذر وغيره، ورواه سعيد بن منصور من طريق أبي إسحاق عن أصحاب عبد الله، وعن سعيد بن المسيب أنه إذا قال المؤذن: الله أكبر وجب القيام، وإذا قال: حي على الصلاة عدلت الصفوف، وإذا قال لا إله إلا الله كبر الإمام.
وعن أبي حنيفة يقومون إذا قال حي على الفلاح فإذا قال قد قامت الصلاة كبر الإمام، والحديث حجة على هؤلاء المفصلين.

قال القرطبي: ظاهر هذا الحديث أن الصلاة كانت تقام قبل أن يخرج صلى الله عليه وسلم من بيته، وهو معارض لحديث جابر بن سمرة عند مسلم أن بلالاً كان لا يقيم حتى يخرج صلى الله عليه وسلم ويجمع بينهما بأن بلالاً كان يراقب خروج النبي صلى الله عليه وسلم، فأول ما يراه يشرع في الإقامة قبل أن يراه غالب الناس ثم إذا رأوه قاموا فلا يقوم في مقامه حتى تعتدل صفوفهم.

قال الحافظ: ويشهد له ما رواه عبد الرزاق عن ابن جريج عن ابن شهاب كانوا ساعة يقول المؤذن الله أكبر يقومون إلى الصلاة فلا يأتي النبي صلى الله عليه وسلم حتى تعتدل الصفوف.
وأما حديث أبي هريرة في البخاري بلفظ: أقيمت الصلاة فسوى الناس صفوفهم فخرج صلى الله عليه وسلم، ولفظه في مستخرج أبي نعيم وصف الناس صفوفهم ثم خرج علينا، ولفظه في مسلم أقيمت الصلاة فقمنا فعدلنا الصفوف قبل أن يخرج إلينا النبي صلى الله عليه وسلم فأتى فقام مقامه فيجمع بينه وبين حديث أبي قتادة بأن ذلك ربما وقع لبيان الجواز، وبأن صنعهم في حديث أبي هريرة كان سبب النهي في حديث أبي قتادة، وأنهم كانوا يقومون ساعة تقام الصلاة ولو لم يخرج صلى الله عليه وسلم فنهاهم عن ذلك لاحتمال أن يقع له شغل يبطئ فيه عن الخروج فيشق عليهم انتظاره ولا يرد هذا حديث أنس في الصحيح أنه قام في مقامه طويلاً في مناجاة بعض القوم لاحتمال وقوعه نادرًا أو فعله لبيان الجواز انتهى.

( وَسُئِلَ مَالِكٌ عَنْ قَوْمٍ حُضُورٍ أَرَادُوا أَنْ يَجْمَعُوا الْمَكْتُوبَةَ فَأَرَادُوا أَنْ يُقِيمُوا وَلَا يُؤَذِّنُوا؟ قَالَ: ذَلِكَ مُجْزِئٌ عَنْهُمْ) إذ الأذان ليس بشرط في صحة الصلاة عند جمهور الفقهاء خلافًا لعطاء ( وَإِنَّمَا يَجِبُ النِّدَاءُ فِي مَسَاجِدِ الْجَمَاعَاتِ الَّتِي تُجْمَعُ فِيهَا الصَّلَاةُ) وجوب السنن المؤكدة على المذهب وأما في المصر فواجب كفاية، فلو اتفقوا على تركه أثموا وقوتلوا عليه لأنه شعار الإسلام ومن العلامات المفرقة بين دار الإسلام والكفر.
وفي الصحيحين واللفظ لمسلم عن أنس: كان صلى الله عليه وسلم يغير إذا طلع الفجر وكان يستمع الأذان فإن سمع أذانًا أمسك وإلا أغار.

( وَسُئِلَ مَالِكٌ عَنْ تَسْلِيمِ الْمُؤَذِّنِ عَلَى الْإِمَامِ وَدُعَائِهِ إِيَّاهُ لِلصَّلَاةِ وَعَنْ أَوَّلُ مَنْ سُلِّمَ عَلَيْهِ؟ فَقَالَ: لَمْ يَبْلُغْنِي أَنَّ التَّسْلِيمَ كَانَ فِي الزَّمَنِ الْأَوَّلِ) قال الباجي: أي لم يكن في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم، وإنما كان المؤذن يؤذن فإن كان الإمام في شغل جاء المؤذن فأعلمه باجتماع الناس دون تكلف ولا استعمال، فأما ما يتكلف اليوم من وقوف المؤذن بباب الأمير والسلام عليه والدعاء للصلاة بعد ذلك فإنه من المباهاة والتكبر والصلاة تنزه عن ذلك.

وقد قال القاضي أبو إسحاق في المبسوط عن عبد الملك بن الماجشون كيفية السلام: السلام عليك أيها الأمير ورحمة الله وبركاته الصلاة يرحمك الله.
قال إسماعيل: روي أن عمر أنكر على أبي محذورة دعاءه إياه إلى الصلاة وأول من فعله معاوية.

وقال ابن عبد البر: أول من فعل ذلك معاوية أمر المؤذن أن يشعره ويناديه فيقول: السلام على أمير المؤمنين الصلاة يرحمك الله، وقيل أول من فعله المغيرة بن شعبة والأول أصح انتهى.

وروى ابن أبي شيبة عن مجاهد قال: لما قدم عمر مكة أتاه أبو محذورة وقد أذن فقال: الصلاة يا أمير المؤمنين حي على الصلاة حي على الفلاح.
قال: ويحك أمجنون أنت أما كان في دعائك الذي دعوتنا ما نأتيك حتى تأتينا.

وفي الأوائل للعسكري من طريق الواقدي عن ابن أبي ذئب قال: قلت للزهري من أول من سلم عليه فقيل السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته حي على الصلاة حي على الفلاح الصلاة يرحمك الله؟ فقال: معاوية بالشام ومروان بن الحكم بالمدينة.

وروى ابن سعد في طبقاته عن محمد بن سعد القرظ قال: كنا نؤذن على عمر بن عبد العزيز في داره للصلاة فنقول السلام عليك أيها الأمير ورحمة الله وبركاته حي على الصلاة حي على الفلاح وفي الناس الفقهاء فلا ينكرون ذلك، وبهذا كله تعلم ضعف ما في خطط المقريزي.

قال الواقدي وغيره: كان بلال يقف على باب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الأذان فيقول: السلام عليك يا رسول الله فلما ولي أبو بكر كان سعد القرظ يقف فيقول: السلام عليك يا خليفة رسول الله الصلاة يا خليفة رسول الله، فلما ولي عمر ولقب أمير المؤمنين كان المؤذن يقف على بابه ويقول: السلام عليك يا أمير المؤمنين الصلاة يا أمير المؤمنين، ثم إن عمر أمر المؤذن فزاد فيها رحمك الله، ويقال إن عثمان هو الذي زادها، وما زال المؤذنون إذا أذنوا سلموا على الخلفاء وأمراء الأعمال ثم يقيمون الصلاة بعد السلام فيخرج الخليفة أو الأمير فيصلي بالناس هكذا كان العمل مدة أيام بني أمية ثم مدة بني العباس حتى ترك الخلفاء الصلاة بالناس فترك ذلك انتهى.
والواقدي متروك ولعل غيره تبعه، والله أعلم.

( وَسُئِلَ مَالِكٌ عَنْ مُؤَذِّنٍ أَذَّنَ لِقَوْمٍ ثُمَّ انْتَظَرَ هَلْ يَأْتِيهِ أَحَدٌ فَلَمْ يَأْتِهِ أَحَدٌ فَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَصَلَّى وَحْدَهُ ثُمَّ جَاءَ النَّاسُ بَعْدَ أَنْ فَرَغَ أَيُعِيدُ الصَّلَاةَ مَعَهُمْ؟ قَالَ: لَا يُعِيدُ الصَّلَاةَ وَمَنْ جَاءَ بَعْدَ انْصِرَافِهِ) فراغه من الصلاة ( فَلْيُصَلِّ لِنَفْسِهِ وَحْدَهُ) قال ابن نافع: معناه أن المؤذن هنا هو الإمام الراتب ولم يرد المؤذن، فإن لم يكن الإمام الراتب فلا بأس أن يجمعوا تلك الصلاة ويعيدها المؤذن معهم إن شاء.

قال ابن عبد البر: وهذا التفسير حسن على أصل قول مالك المسجد الذي له إمام راتب لا يجمع فيه صلاة واحدة مرتين وبه قال سفيان الثوري وأجازه أشهب.

وقال الباجي: إذا كان المؤذن إمامًا راتبًا فكما قال مالك: لأن الاعتبار في الجماعة بالإمام دون المأموم لما في ذلك من مخالفة الأئمة ومفارقة الجماعة، ولأن ذلك يؤدي أن لا تراعى أوقات الصلاة ويؤخر من شاء ويصلي في جماعة، وإن لم يكن المؤذن إمامًا راتبًا فقال ابن نافع حكمه حكم الفذ، وقال عيسى كالجماعة ويظهر لي أن قول عيسى في مسجد له مؤذن راتب وليس له إمام راتب لتعلق حكم الجماعة به دون المؤذن.

وقال ابن عبد البر: ولا أصل لهذه المسألة إلا المنع من الاختلاف على الأئمة وردع أهل البدع ليتركوا إظهار بدعتهم لأنهم كانوا يرغبون عن صلاة الإمام ثم يأتون بعده فيجمعون بإمامهم.

وقال أبو حنيفة والشافعي والجمهور لا بأس أن يجمع في المسجد مرتين ولم ينه الله عنه ولا رسوله ولا اتفق عليه العلماء، ودليل الجواز حديث أنه صلى الله عليه وسلم صلى إحدى صلاتي العشي فلما سلم دخل رجل لم يدرك الصلاة معه فاستقبل القبلة ليصلي فقال صلى الله عليه وسلم: ألا رجل يتصدق على هذا فيصلي معه فقام رجل ممن صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم فصلى معه انتهى.
والجواب أن هذه واقعة حال محتملة فلا ينهض حجة في عدم الكراهة.

( وَسُئِلَ مَالِكٌ عَنْ مُؤَذِّنٍ أَذَّنَ لِقَوْمٍ ثُمَّ تَنَفَّلَ فَأَرَادُوا أَنْ يُصَلُّوا بِإِقَامَةِ غَيْرِهِ؟ فَقَالَ: لَا بَأْسَ بِذَلِكَ إِقَامَتُهُ وَإِقَامَةُ غَيْرِهِ سَوَاءٌ) وبهذا قال أبو حنيفة وقال الليث والثوري والشافعي وأكثر أهل الحديث: من أذن فهو يقيم لحديث عبد الله بن الحارث الصدائي قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما كان الصبح أمرني فأذنت ثم قام إلى الصلاة فجاء بلال ليقيم فقال صلى الله عليه وسلم: إن أخا صداء أذن ومن أذن فهو يقيم.

قال ابن عبد البر: انفرد به عبد الرحمن بن زياد الإفريقي وليس بحجة عندهم، وحجة مالك حديث عبد الله بن زيد حين أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأذان فأمره أن يلقيه على بلال وقال: إنه أندى منك صوتًا فلما أذن بلال قال صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن زيد: أقم أنت فأقام وهذا الحديث أحسن إسنادًا.

( قَالَ مَالِكٌ: لَمْ تَزَلِ الصُّبْحُ يُنَادَى لَهَا قَبْلَ الْفَجْرِ) في أول السدس الأخير من الليل قاله ابن وهب وسحنون.
وقال ابن حبيب: نصف الليل، وحجة العمل المذكور حديث ابن عمر الآتي إن بلالاً ينادي بليل وبه قال الجمهور والأئمة الثلاثة، وقال أبو حنيفة وطائفة لا يؤذن لها حتى يطلع الفجر ( فَأَمَّا غَيْرُهَا مِنَ الصَّلَوَاتِ فَإِنَّا لَمْ نَرَهَا يُنَادَى لَهَا إِلَّا بَعْدَ أَنْ يَحِلَّ وَقْتُهَا) لحرمته قبل الوقت في غير الصبح.

قال الكرخي من الحنفية: كان أبو يوسف يقول: بقول أبي حنيفة: لا يؤذن لها حتى أتى المدينة فرجع إلى قول مالك وعلم أنه عملهم المتصل.

قال الباجي: يظهر لي أنه ليس في الأثر ما يقتضي أن الأذان قبل الفجر لصلاة الفجر فإن كان الخلاف في الأذان ذلك الوقت فالآثار حجة لمن أثبته وإن كان الخلاف في المقصود به فيحتاج إلى ما يبين ذلك من إبطال الأذان إلى الفجر أو غير ذلك مما يدل عليه.

( مَالِكٍ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ الْمُؤَذِّنَ جَاءَ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ يُؤْذِنُهُ لِصَلَاةِ الصُّبْحِ فَوَجَدَهُ نَائِمًا فَقَالَ: الصَّلَاةُ خَيْرٌ مِنَ النَّوْمِ فَأَمَرَهُ عُمَرُ أَنْ يَجْعَلَهَا فِي نِدَاءِ الصُّبْحِ) هذا البلاغ أخرجه الدارقطني في السنن من طريق وكيع في مصنفه عن العمري عن نافع عن ابن عمر عن عمر، وأخرج أيضًا عن سفيان عن محمد بن عجلان عن نافع عن ابن عمر عن عمر أنه قال لمؤذنه: إذا بلغت حي على الفلاح في الفجر فقل الصلاة خير من النوم الصلاة خير من النوم، فقصر ابن عبد البر في قوله لا أعلم هذا روي عن عمر من وجه يحتج به وتعلم صحته، وإنما أخرجه ابن أبي شيبة من حديث هشام بن عروة عن رجل يقال له إسماعيل لا أعرفه قال: والتثويب محفوظ في أذان بلال وأبي محذورة في صلاة الصبح للنبي صلى الله عليه وسلم، والمعنى هنا أن نداء الصبح موضع قوله لا هنا كأنه كره أن يكون منه نداء آخر عند باب الأمير كما أحدثته الأمراء، وإلا فالتثويب أشهر عند العلماء والعامة من أن يظن بعمر أنه جهل ما سن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر به مؤذنيه بلالاً بالمدينة، وأبا محذورة بمكة انتهى.

ونحو تأويله قول الباجي: يحتمل أن عمر قال ذلك إنكارًا لاستعماله لفظة من ألفاظ الأذان في غيره وقال له اجعلها فيه يعني لا تقلها في غيره انتهى.
وهو حسن متعين: فقد روى ابن ماجه من طريق ابن المسيب عن بلال أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم يؤذنه لصلاة الفجر فقيل هو نائم فقال الصلاة خير من النوم مرتين، فأقرت في تأذين الفجر فثبت الأمر على ذلك.

وروى بقي بموحدة ابن مخلد عن أبي محذورة قال: كنت غلامًا صبيًا فأذنت بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم الفجر يوم حنين: فلما انتهيت إلى حي على الفلاح قال: ألحق فيها الصلاة خير من النوم، وقال مالك في مختصر ابن شعبان: لا يترك المؤذن قوله في نداء الصبح الصلاة خير من النوم في سفر ولا حضر ومن أذن في ضيعته متنحيًا عن الناس فتركه فلا بأس وأحب إلينا أن يأتي به.

( مَالِكٍ عَنْ عَمِّهِ أَبِي سُهَيْلِ) بضم السين واسمه نافع ( بْنِ مَالِكٍ عَنْ أَبِيهِ) مالك بن أبي عامر الأصبحي ( أَنَّهُ قَالَ: مَا أَعْرِفُ شَيْئًا مِمَّا أَدْرَكْتُ عَلَيْهِ النَّاسَ) يعني الصحابة ( إِلَّا النِّدَاءَ بِالصَّلَاةِ) فإنه باق على ما كان عليه لم يدخله تغيير ولا تبديل بخلاف الصلاة فقد أخرت عن أوقاتها وسائر الأفعال قد دخلها التغيير، فأنكر أكثر أفعال أهل عصره والتغيير يمكن أن يلحق صفة الفعل كتأخير الصلاة وأن يلحق الفعل جملة كترك الأمر بكثير من المعروف والنهي عن كثير من المنكر مع علم الناس بذلك كله قاله الباجي.

وقال ابن عبد البر فيه: إن الأذان لم يتغير عما كان عليه، وكذا قال عطاء ما أعلم تأذينهم اليوم يخالف تأذين من مضى وفيه تغير الأحوال عما كانت عليه زمن الخلفاء الأربع في أكثر الأشياء، واحتج بهذا بعض من لم ير عمل أهل المدينة حجة وقال لا حجة إلا فيما نقل بالأسانيد الصحاح عن النبي صلى الله عليه وسلم أو عن الخلفاء الأربعة ومن سلك سبيلهم.

( مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ سَمِعَ الْإِقَامَةَ وَهُوَ بِالْبَقِيعِ فَأَسْرَعَ الْمَشْيَ إِلَى الْمَسْجِدِ) بدون جري لأن الإسراع المنهي عنه بقوله صلى الله عليه وسلم: فلا تأتوها وأنتم تسعون هو الجري لأنه ينافي الوقار المشروع في الصلاة وفي قصدها، وأما ما لا ينافي الوقار فجائز وكذا قول مالك بجواز تحريك الفرس لمن سمع الأذان ليدرك الصلاة يريد تحريكه للإسراع في المشي دون جري ولا خروج عن حد الوقار قاله الباجي.

وقال ابن عبد البر: الواجب أن يأتي الصلاة بالسكينة خاف فواتها أو لم يخف لأمره صلى الله عليه وسلم بذلك وهو الحجة قال وقال بعض أصحابنا إن ابن عمر لم يزد على مشيه المعهود لأن الإسراع كان عادته لبعده من الزهو وليس ببين لأن نافعًا مولاه قد عرف مشيه، ثم أخبر أنه لما سمع الإقامة أسرع، ولا يخالفه قول محمد بن زيد: كان ابن عمر إذا مشى إلى الصلاة لو مشت معه نملة ما سبقها لأنه في حال لا يخاف فيها فوات شيء من الصلاة وهي أغلب أحواله انتهى.