فهرس الكتاب

شرح الزرقاني - بَابُ قَدْرِ السُّحُورِ مِنَ النِّدَاءِ

رقم الحديث 57 وَحَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنْ الِاسْتِطَابَةِ، فَقَالَ: أَوَلَا يَجِدُ أَحَدُكُمْ ثَلَاثَةَ أَحْجَارٍ؟.


جَامِعِ الْوُضُوءِ

( مَالِكٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ) من صغار التابعين مجمع على ثقته واحتج به جميع الأئمة، وقول عبد الرحمن بن حراش كان مالك لا يرضاه محمول على ما قاله يعقوب بن شيبة أنه لما صار إلى العراق في قدمته الثالثة انبسط في الرواية عن أبيه فأنكر ذلك عليه أهل بلده، والذي نراه أنه كان لا يحدث عن أبيه إلا بما سمعه منه، وكان تساهله أنه أرسل عن أبيه ما سمعه من غير أبيه عن أبيه وهذا هو التدليس ذكره في مقدمة فتح الباري، فالمعنى لا يرضى ما حدث به في آخر عمره لكونه دلسه لا مطلقًا إذ قد رضيه فروى عنه كثيرًا في الموطأ وغيره.

( عَنْ أَبِيهِ) عروة بن الزبير أرسله رواة الموطأ كلهم، ووصله أبو داود والنسائي من طريق مسلم بن قرط بضم القاف وسكون الراء ومهملة وهو مقبول عن عروة عن عائشة.

( أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) وقع لابن بكير في الموطأ مالك عن هشام عن أبيه عن أبي هريرة، وكذا رواه بعضهم عن سحنون عن ابن القاسم عن مالك به، وهو غلط فاحش لم يروه أحد كذلك لا من أصحاب هشام ولا من أصحاب مالك ولا رواه أحد عن عروة عن أبي هريرة قاله أبو عمر.

( سُئِلَ عَنْ الِاسْتِطَابَةِ) طلب الطيب.
قال أهل اللغة: الاستطابة الاستنجاء.
يقال: استطاب وأطاب إطابة أيضًا لأن المستنجي تطيب نفسه بإزالة الخبث عن المخرج.
وقال أبو عمر: هي والاستجمار والاستنجاء بمعنى واحد إلا أن الاستنجاء إنما يكون بالأحجار، والاستجمار والاستطابة يكونان بالماء وبالحجر كما أفاده.

( فَقَالَ: أَوَلَا يَجِدُ أَحَدُكُمْ ثَلَاثَةَ أَحْجَارٍ) يستطيب بها وتمسك بظاهره أصبغ فقصر الاستجمار على ما كان من جنس الأرض لأنه رخصة لا يتعدى بها ما ورد، وقاس المشهور عليها غيرها من كل جامد طاهر منق غير مؤذ ولا محترم لأن الرخصة في نفس الفعل لا في المفعول به ولأنه مقتضى تعليله صلى الله عليه وسلم رد الروثة بأنها رجس لا بأنها ليست بحجر، ولقوله صلى الله عليه وسلم: إذا قضى أحدكم حاجته فليستنج بثلاثة أعواد أو ثلاثة أحجار أو ثلاث حثيات من تراب ولأن الأحجار لقب لم يقل بمفهومه الجمهور.

( مالِكٍ عَنِ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) بن يعقوب الحرقي بضم الحاء المهملة وفتح الراء بعدها قاف المدني عن ابن عمر وأنس وطائفة، وعنه ابنه شبل بكسر المعجمة وسكون الموحدة ومالك وشعبة والسفيانان وخلق، وثقه أحمد وغيره مات سنة بضع وثلاثين ومائة.

( عَنْ أَبِيهِ) عبد الرحمن بن يعقوب الجهني المدني مولى الحرقة بضم المهملة وفتح الراء وقاف فخذ من جهينة ثقة روى له ولابنه مسلم والأربعة.

( عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ إِلَى الْمَقْبُرَةِ) بتثليث الباء والكسر أقلها موضع القبور ( فَقَالَ) : ليحصل لهم ثواب التحية وبركتها ( السَّلَامُ عَلَيْكُمْ دَارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ) قال ابن قرقول: بنصب دار على الاختصاص أو النداء المضاف والأول أظهر قال: ويصح الجر على البدل من الكاف والميم في عليكم، والمراد بالدار على هذين الوجهين الأخيرين الجماعة أو الأهل وعلى الأول مثله أو أهل المنزل.

قال الأبي: يعني الاختصاص اللغوي لا الصناعي لفقد شرطه وهو تقديم ضمير المتكلم أو المخاطب اهـ.
وتعقب بأنه اصطلاحي أيضًا.

قال التفتازاني في حاشية الكشاف: المراد بالاختصاص هنا النصب بإضمار فعل، وقد أكثر الكرماني من التعبير بالاختصاص في مثل هذا.

قال الباجي وعياض: يحتمل أنهم أحيوا له حتى سمعوا كلامه كأهل القليب، ويحتمل أن يسلم عليهم مع كونهم أمواتًا لامتثال أمته ذلك بعده.
قال الباجي: وهو الأظهر.
( وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ) .
قال النووي وغيره للعلماء في إتيانه بالاستثناء مع أن الموت لا شك فيه أقوال.
أظهرها: أنه ليس للشك وإنما هو للتبرك وامثتال أمر الله فيه.
قال أبو عمر: الاستثناء قد يكون في الواجب لا شكًا كقوله: { { لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاءَ اللَّهُ } } ولا يضاف الشك إلى الله، والثاني: أنه عادة المتكلم يحسن به كلامه، والثالث: أنه عائد إلى اللحوق في هذا المكان والموت بالمدينة.
والرابع: أن إن بمعنى إذ، والخامس: أنه راجع إلى استصحاب الإيمان لمن معه، والسادس: أنه كان معه من يظن بهم النفاق فعاد الاستثناء إليهم.

وحكى ابن عبد البر أنه عائد إلى معنى مؤمنين أي لاحقون في حال إيمان لأن الفتنة لا يأمنها أحد ألا ترى قول إبراهيم: { { وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأصْنَامَ } } وقول يوسف { { تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ } } ولأن نبينا يقول: اللهم اقبضني إليك غير مفتون اهـ.

واستبعد الأبي الثالث بقوله صلى الله عليه وسلم للأنصار: المحيا محياكم والممات مماتكم قال: إلا أن يكون قال ذلك قبل.

( وَدِدْتُ أَنِّي قَدْ رَأَيْتُ) في الحياة الدنيا ويحتمل تمني لقائهم بعد الموت قاله عياض، وقال بعضهم: لعله أراد أن ينقل أصحابه من علم اليقين إلى عين اليقين ويراهم هو ومن معه، وفي رواية أني لقيت ( إِخْوَانَنَا) قيل وجه اتصال وده ذلك برؤية أصحاب القبور أنه عند تصوره السابقين تصور اللاحقين أو كشف له عن عالم الأرواح السابقين واللاحقين.

( فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَسْنَا بِإِخْوَانِكَ؟ قَالَ: بَلْ أَنْتُمْ أَصْحَابِي) قال الباجي: لم ينف بذلك أخوتهم ولكن ذكر مرتبتهم الزائدة بالصحبة واختصاصهم بها وإنما منع أن يسموا بذلك لأن التسمية والوصف على سبيل الثناء، والمدح للمسمى يجب أن يكون بأرفع حالاته وأفضل صفاته وللصحابة بالصحبة درجة لا يلحقهم فيها أحد فيجب أن يوصفوا بها اهـ.

وقبله عياض ثم النووي وزاد: فهؤلاء إخوة صحابة والذين لم يأتوا إخوة ليسوا بصحابة.
وقال الأبي: حمل الباجي الأخوة على أنها في الإيمان ولا شك أن الصحبة أخص، وحملها أبو عمر على أخوة العلم والقيام بالحق عند قلة القائمين به المقول فيهم وهو يخاطب أصحابه للعامل منهم أجر سبعين منكم وغير ذلك مما وصفهم به، ورأى أن هذه الأخوة أخص من مطلق الصحبة ولا يبعد كل من الحملين.

( وَإِخْوَانُنَا الَّذِينَ لَمْ يَأْتُوا بَعْدُ) ودل بإثبات الأخوة لهؤلاء على علو مرتبتهم وأنهم حازوا فضيلة الآخرية كما حاز صلى الله عليه وسلم وأصحابه فضيلة الأولية، وهم الغرباء المشار إليهم بقوله: بدأ الإسلام غريبًا وسيعود غريبًا فطوبى للغرباء وهم الخلفاء الذين أفادهم بقوله: رحم الله خلفائي وهم القابضون على دينهم عند الفتن المشار إليهم بقوله: القابض على دينه كالقابض عل الجمر وهم المؤمنون بالغيب إلى غير ذلك مما لا يعسر على الفطن استخراجه من الأحاديث.

وأورد كيف يتمنى رؤيتهم وهو حي وهم حينئذٍ في علم الله تعالى لا وجود لهم في الخارج والمعدوم لا يرى، وأيضًا هو من تمني ما لا يكون لأن عمره لا يمتد حتى يرى آخرهم؟ وأجيب: بأن الرؤية بمعنى العلم وهو يتعلق بالمعدوم أو رؤية تمثيل بمعنى أن يمثلوا له كما مثلت له الجنة في عرض الحائط أو أن هذا من رؤية الكون وزوى الأرض حتى رأى مشارقها ومغاربها كرامة من الله له.

وعبر عن هذا بعض العارفين بأن علم الأنبياء مستمد من علم الله وعلمه لا يختلف باختلاف النسب الزمانية فكذا علم أنبيائه حالة التجلي والكشف فهم لما خلقوا عليه من التطهير والتجرد عن الأدناس صارت مرآة الكون تنجلي في سرائرهم وصار الكون كله كأنه جوهرة واحدة، وهم مرآته المصقولة التي تنجلي فيها الحقائق والدقائق لكن ذلك لا يكون إلا في مقام الجمع ووقت التجلي، وربما كان في أقل من لمحة ثم بعدها يرجع العبد لوطنه وإلى شهود تفرقته وأحكام حسه، فلما لم يكن ذلك الحال مستمرًا تمنى أن يراهم رؤية كشف وإدراك في ذلك الآن وبتأمل هذا يعلم أنه لا تعارض بينه وبين خبر تجلى لي علم ما بين المشرق والمغرب وخبر زويت لي الأرض اهـ.

وأورد على أن المراد بعد الموت أنه يلزم منه تمني الموت وقد قال: لا يتمنين أحدكم الموت.
وأجيب بمنع الملزومية وإن سلمت فالمنع لما قال لضر نزل به.
قال الأبي: وهذا كله على أنه تمن حقيقي وقد لا يكون حقيقة وإنما هو تشريف لقدر أولئك الإخوان.

( وَأَنَا فَرَطُهُمْ) بفتح الفاء والراء وبعد الطاء هاء أي فرط إخواننا وهو في مسلم بالكاف بدل الهاء خطابًا للصحابة ( عَلَى الْحَوْضِ) قال الباجي: يريد أنه يتقدمهم إليه ويجدونه عنده يقال: فرطت القوم إذا تقدمتهم لترتاد لهم الماء وتهيئ لهم الدلاء والرشاء وافترط فلان ابنًا له أي تقدم له ابن اهـ.

وبهذا فسره أبو عبيد فضرب صلى الله عليه وسلم مثلاً لمن تقدم من أصحابه يهيئ لهم ما يحتاجون إليه وقيل معناه أنا أمامكم وأنتم ورائي لأنه يتقدم أمته شافعًا وعلى الحوض.

( فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ تَعْرِفُ مَنْ يَأْتِي بَعْدَكَ مِنْ أُمَّتِكَ؟) وفي رواية مسلم من طريق إسماعيل بن جعفر عن العلاء: كيف تعرف من لم يأت بعد من أمتك والمعنى واحد ( قَالَ: أَرَأَيْتَ) أخبرني ( لَوْ كَانَ لِرَجُلٍ) ولمسلم: لو أن رجلاً له ( خَيْلٌ غُرٌّ) بضم المعجمة وشد الراء جمع أغر أي ذو غرة وهي بياض في جبهة الفرس ( مُحَجَّلَةٌ) بمهملة فجيم من التحجيل وهو بياض في ثلاثة قوائم من قوائم الفرس وأصله من الحجل وهو الخلخال ( فِي خَيْلٍ دُهْمٍ) بضم الدال وسكون الهاء جمع أدهم والدهمة السواد ( بُهْمٍ) جمع بهيم قيل هو الأسود أيضًا، وقيل الذي لا يخالط لونه لون سواه سواء كان أسود أو أبيض أو أحمر بل يكون لونه خالصًا ( أَلَا يَعْرِفُ خَيْلَهُ؟ قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ) .
يعرفها.
وبلى حرف إيجاب يرفع حكم النفي ويوجب نقيضه أبدًا.

( قَالَ: فَإِنَّهُمْ يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) حال كونهم ( غُرًّا) أصل الغرة لمعة بيضاء في جبهة الفرس ثم استعملت في الجمال والشهرة وطيب الذكر والمراد بها هنا النور الكائن في وجوه أمته صلى الله عليه وسلم ( مُحَجَّلِينَ) من التحجيل والمراد النور أيضًا ( مِنَ الْوُضُوءِ) بضم الواو ويجوز فتحها على أنه الماء قاله ابن دقيق العيد، وظاهره أن هذه السيما، إنما تكون لمن توضأ في الدنيا، وبه جزم الأنصاري في شرح البخاري ففيه رد على من زعم أنها تكون حتى لمن لم يتوضأ كما يقال لهم أهل القبلة من صلى ومن لا، وفي قياسه على الإيمان نظر لأنه التصديق والشهادة، وإن ترك الواجب وفعل الحرام بخلاف الغرة والتحجيل فمجرد فضيلة وتشريف لمن توضأ بالفعل لا لسواه، والذي يظهر أن المراد المتوضئ في حياته لا من وضأه الغاسل فلو تيمم لعذر طول حياته حصلت له السيما لقيامه مقام الوضوء، وقد سماه النبي صلى الله عليه وسلم وضوءًا فقال: الصعيد الطيب وضوء المؤمن أخرجه النسائي بسند قوي عن أبي ذر.

( وَأَنَا فَرَطُهُمْ) متقدمهم السابق ( عَلَى الْحَوْضِ) وهذا تأكيد لتقدمه سابقًا، لكن قد علم أن مسلمًا روى السابق بالكاف فعليه يكون بين بهذا أنه كما أنه فرط أصحابه الذين خاطبهم بهذا أولاً كذلك هو فرط لأمته الآتين بعده ولله الحمد ( فَلَا يُذَادَنَّ) بذال معجمة فألف فمهملة أي لا يطردن كذا رواه يحيى ومطرف وابن نافع على النهي أي لا يفعلن أحد فعلاً يذاد به عن حوضي.

قال ابن عبد البر: ويشهد لهذه الرواية حديث سهل بن سعد مرفوعًا: إني فرطهم على الحوض من ورد شرب ومن شرب لم يظمأ أبدًا فليردن علي أقوام أعرفهم ويعرفونني ثم يحال بيني وبينهم، ورواه الأكثرون ومنهم ابن وهب وابن القاسم وأبو مصعب فليذادن بلام التأكيد على الإخبار أي ليكونن لا محالة من يذاد.

قال الباجي وابن عبد البر ولمسلم عن إسماعيل بن جعفر عن العلاء: ألا ليذادن ( رِجَالٌ) بالجمع عند جميع الرواة إلا يحيى فقال رجل بالإفراد قاله أبو عمران على إرادة الجنس ( عَنْ حَوْضِي كَمَا يُذَادُ الْبَعِيرُ) يطلق على الذكر والأنثى من الإبل بخلاف الجمل فالذكر كالإنسان والرجل ( الضَّالُّ) الذي لا رب له فيسقيه ( أُنَادِيهِمْ أَلَا هَلُمَّ) بفتح الميم مشددة يستوي فيه الجمع والمذكر والمفرد والمؤنث في لغة الحجاز ومنه والقائلين لإخوانهم هلم إلينا أي تعالوا ( أَلَا هَلُمَّ أَلَا هَلُمَّ) ذكره ثلاثًا ( فَيُقَالُ: إِنَّهُمْ قَدْ بَدَّلُوا بَعْدَكَ) قيل معناه غيروا سنتك.
وفي حديث آخر فأقول: رب إنهم من أمتي فيقول ما تدري ما أحدثوا بعدك.

واستشكل مع قوله صلى الله عليه وسلم: حياتي خير لكم ومماتي خير لكم تعرض علي أعمالكم فما كان من حسن حمدت الله عليه وما كان من سيئ استغفرت الله لكم رواه البزار بإسناد جيد.
وأجيب: بأنها تعرض عليه عرضًا مجملاً فيقال عملت أمتك شرًا، عملت خيرًا أو أنها تعرض دون تعيين عاملها ذكره الأبي وفيهما بعد فقد روى ابن المبارك عن سعيد بن المسيب ليس من يوم إلا وتعرض على النبي صلى الله عليه وسلم أعمال أمته غدوة وعشيًا فيعرفهم بسيماهم وأعمالهم، وقد أجاب بعضهم بأن مناداتهم لزيادة الحسرة والنكال إذ بمناداته لهم حصل عندهم رجاء النجاة وقطع ما يرجى أشد في النكال والحسرة من قطع ما لا يرجى ولا ينافيه قولهم إنهم بدلوا بعدك لأنه أيضًا زيادة في تنكيلهم وهي أجوبة إقناعية يرد على ثالثها رواية فأقول: رب إنهم من أمتي فيقول ما تدري ما أحدثوا بعدك.

( فَأَقُولُ: فَسُحْقًا) بضم الحاء وسكونها لغتان أي بعدًا ( فَسُحْقًا فَسُحْقًا) ثلاث مرات ونصبه بتقدير ألزمهم الله أو سحقهم سحقًا.

قال الباجي: يحتمل أن المنافقين والمرتدين وكل من توضأ يحشر بالغرة والتحجيل فلأجلها دعاهم ولو لم تكن السيما إلا للمؤمنين لما دعاهم ولما ظن أنهم منهم، ويحتمل أن يكون ذلك لمن رأى النبي صلى الله عليه وسلم فبدل بعده وارتد فدعاهم النبي صلى الله عليه وسلم لعلمه بهم أيام حياته وإظهارهم الإسلام وإن لم تكن لهم يومئذ غرة ولا تحجيل، لكن لكونهم عنده في حياته وصحبته باسم الإسلام، وظاهره قال عياض والأول أظهر فقد ورد أن المنافقين يعطون نورًا ويطفأ عند الحاجة فكما جعل الله لهم نورًا بظاهر إيمانهم ليغتروا به حتى يطفأ عند حاجتهم على الصراط، كذلك لا يبعد أن يكون لهم غرة وتحجيل حتى يذادوا عند حاجتهم إلى الورود نكالاً من الله ومكرًا بهم.

وقال الداودي: ليس في هذا ما يحتم به للمذادين بدخول النار فيحتمل أن يذادوا وقتًا فتلحقهم شدة ويقول لهم سحقًا ثم يتلافاهم الله برحمته ويشفع فيهم النبي صلى الله عليه وسلم.

قال عياض والباجي: وكأنه جعلهم من أهل الكبائر من المؤمنين.
زاد عياض أو من بدل ببدعة لا تخرجه عن الإسلام.
قال غيره: وعلى هذا لا يبعد أن يكونوا أهل غرة وتحجيل لكونهم من جملة المؤمنين.

وقال ابن عبد البر: كل من أحدث في الدين ما لا يرضاه الله فهو من المطرودين عن الحوض وأشدهم من خالف جماعة المسلمين كالخوارج والروافض وأصحاب الأهواء وكذلك الظلمة المسرفون في الجور وطمس الحق والمعلنون بالكبائر، فكل هؤلاء يخاف عليهم أن يكونوا ممن عنوا بهذا الخبر اهـ.

وهذا الحديث أخرجه مسلم من طريق معن عن مالك به، وتابعه إسماعيل بن جعفر عن العلاء بنحوه في مسلم أيضًا ولم يخرجه البخاري.

ومن اللطائف أن ابن شاكر روى في كتاب مناقب الشافعي عن يونس بن عبد الأعلى قال ذكر الشافعي الموطأ فقال: ما علمنا أن أحدًا من المتقدمين ألف كتابًا أحسن من موطأ مالك، وما ذكر فيه من الأخبار ولم يذكر مرغوبًا عنه الرواية كما ذكره غيره في كتبه وما علمته ذكر حديثًا فيه ذكر أحد من الصحابة إلا ما في حديث ليذادن رجال عن حوضي فلقد أخبرني من سمع مالكًا ذكر هذا الحديث وأنه ود أنه لم يخرجه في الموطأ.

( مَالِكٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ) بن الزبير بن العوام تابعي صغير حفيد حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم ( عَنْ أَبِيهِ) عروة أحد كبار التابعين الفقهاء ( عَنْ حُمْرَانَ) بضم الحاء المهملة ابن أبان ( مَوْلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ) اشتراه زمن أبي بكر الصديق وروى عن مولاه ومعاوية وعنه أبو وائل وعروة والحسن وزيد بن أسلم وغيرهم، ذكره ابن معين في تابعي أهل المدينة ومحدثيهم، وكان يصلي خلف عثمان ويفتح عليه وكان صاحب إذنه وكاتبه، وهو ثقة روى له الستة وقدم البصرة فكتب عنه أهلها ومات سنة خمس وسبعين وقيل غير ذلك.

( أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ جَلَسَ عَلَى الْمَقَاعِدِ) قال ابن عبد البر: هي مصاطب حول المسجد، وقيل حجارة بقرب دار عثمان يقعد عليها مع الناس.
وقال الداودي: هي الدرج وقيل هي دكاكين حول دار عثمان.
قال عياض: ولفظها يقتضي أنها مواضع جرت العادة بالقعود فيها ( فَجَاءَ الْمُؤَذِّنُ فَآذَنَهُ) أعلمه ( بِصَلَاةِ الْعَصْرِ) قال الباجي: كان المؤذن يعلمه باجتماع الناس بعد الأذان لشغله بأمور الناس ( فَدَعَا بِمَاءٍ فَتَوَضَّأَ ثُمَّ قَالَ: وَاللَّهِ لَأُحَدِّثَنَّكُمْ) أكد بالقسم واللام لزيادة تحريضهم على حفظه وعدم الاغترار به ( حَدِيثًا لَوْلَا أَنَّهُ) كذا رواه يحيى وابن بكير بالنون وهاء الضمير أي لولا أن معناه ( فِي كِتَابِ اللَّهِ مَا حَدَّثْتُكُمُوهُ) أي ما كنت حريصًا على تحديثكم به لئلا تتكلوا.
ورواه أبو مصعب بالياء ومد الألف وهاء التأنيث أي لولا آية تتضمن معناه قاله الباجي وغيره، وذكر في فتح الباري أن النون تصحيف من بعض رواته نشأ من زيادة مسلم والموطأ في كتاب الله.
ورواه البخاري لولا آية ما حدثتكموه.

( ثُمَّ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: مَا مِنِ امْرِئٍ يَتَوَضَّأُ) وفي البخاري ومسلم لا يتوضأ رجل ( فَيُحْسِنُ وُضُوءَهُ) أي يأتي به بكمال صفته وآدابه والفاء بمعنى ثم لأن إحسان الوضوء ليس متأخرًا عن الوضوء حتى يعطف عليه بفاء التعقيب بل هي لبيان المرتبة دلالة على أن الإجادة في الوضوء أفضل وأكمل من الاقتصار على الفرض منه ( ثُمَّ يُصَلِّي الصَّلَاةَ) المكتوبة كما في مسلم ( إِلَّا غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَهُ) أي بين صلاته بالوضوء ( وَبَيْنَ الصَّلَاةِ الْأُخْرَى) أي التي تليها كما في مسلم ( حَتَّى يُصَلِّيَهَا) .
قال الحافظ: أي يشرع في الصلاة الثانية، وقال غيره: أي يفرغ منها فحتى غاية تحصل المقدر في الظرف إذ الغفران لا غاية له ثم هذا مخصوص بالصغائر كما صرح به في أحاديث أخر: قال الحافظ: ظاهره يعم الكبائر والصغائر، لكن العلماء خصوه بالصغائر لوروده مقيدًا باستثناء الكبائر في غير هذه الرواية وهو في حق من له كبائر وصغائر فمن ليس له إلا صغائر كفرت عنه ومن ليس له إلا الكبائر خفف عنه منها بمقدار ما لصاحب الصغائر ومن ليس له صغائر ولا كبائر يزاد في حسناته بنظير ذلك اهـ.

وفي مسلم من وجه آخر عن عثمان مرفوعًا: ما من امرئ مسلم تحضره صلاة مكتوبة فيحسن وضوءها وخشوعها وركوعها إلا كانت كفارة لما قبلها من الذنوب ما لم تؤت كبيرة وذلك الدهر كله، وفي هذا كله فضل الوضوء وأنه مكفر للذنوب وشرف الصلاة عقبه وأن العبادة يكفر بها ذنوب كثيرة بمحض فضل الله وكرمه، ولو كان ذلك على حكم محض الجزاء وتقدير الثواب بالفعل لكانت العبادة الواحدة تكفر سيئة واحدة فلما كفرت ذنوبًا كثيرة علم أنه ليس على حكم المقابلة ولا على مقتضى المعاوضة بل بمحض الفضل العميم.

( قَالَ مَالِكٌ: أُرَاهُ) أي أظن عثمان ( يُرِيدُ هَذِهِ الْآيَةَ: { { أَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ} } ) الغداة والعشي أي الصبح والظهر والعصر.
{ { وَزُلَفًا } } جمع زلفة أي طائفة { { مِنَ اللَّيْلِ } } المغرب والعشاء { { إِنَّ الْحَسَنَاتِ } } كالصلوات الخمس { { يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ } } الذنوب الصغائر ذَلِكَ ذِكْرَى { { عظة لِلذَّاكِرِينَ } } المتعظين.
نزلت فيمن قبل أجنبية فأخبره صلى الله عليه وسلم فقال ألي هذا؟ قال: لجميع أمتي رواه الشيخان.

قال الباجي: وعلى هذا التأويل يصح الروايتان أنه آية وفي الصحيحين عن عروة أن الآية { { إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى } } زاد مسلم إلى قوله تعالى { { اللاَّعِنُونَ } } والمعنى: لولا آية تمنع من كتمان شيء من العلم ما حدثتكم به، وعلى هذا لا تصح رواية النون قاله الباجي وعياض والنووي وزاد والصحيح تأويل عروة.

قال الحافظ: لأن عروة راوي الحديث ذكره بالجزم فهو أولى أي لأن مالكًا ظنه قال وهي وإن نزلت في أهل الكتاب لكن العبرة بعموم اللفظ، وقد جاء نحو ذلك لأبي هريرة أخرج أبو خيثمة زهير بن حرب في كتاب العلم له قال: حدثنا حجاج بن محمد عن ابن جريج قال: أخبرني عطاء أنه سمع أبا هريرة والناس يسألونه يقول: لولا آية نزلت في سورة البقرة ما أخبرت بشيء { { إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى } } الآية ثم ظاهر الحديث يقتضي أن المغفرة لا تحصل بإحسان الوضوء حتى ينضاف إليه الصلاة لأن الثواب المترتب على مجموع أمرين لا يترتب على أحدهما إلا بدليل خارج، ولا يعارضه الأحاديث التالية الدالة على أن الخطايا تخرج مع الوضوء حتى يخرج من الوضوء نقيًا من الذنوب، ثم كانت صلاته ومشيه إلى المسجد نافلة لاحتمال أن يكون ذلك باختلاف الأشخاص، فرب متوض يحضره من الخشوع ما يستقل وضوءه في التكفير وآخر عند تمام الصلاة.

وحديث الباب أخرجه مسلم من رواية إسماعيل وسفيان بن عيينة كلاهما عن هشام بن عروة به.
ورواه البخاري ومسلم من طريق صالح بن كيسان عن ابن شهاب عن عروة فحصلت متابعة لمالك في شيخه هشام ولهشام في شيخه عروة.

( مَالِكٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ الصُّنَابِحِيِّ) بضم الصاد المهملة وفتح النون وكسر الموحدة نسبة إلى صنابح بطن من مراد كذا لأكثر رواة الموطأ بلا أداة كنية وهو مختلف فيه.

قال ابن السكن: يقال له صحبة مدني روى عنه عطاء بن يسار.
وقال ابن معين: عبد الله الصنابحي الذي روى عنه المدنيون يشبه أن يكون له صحبة، وأما أبو عبد الله الصنابحي المشهور فروى عن أبي بكر وعبادة ليست له صحبة ورواه مطرف وإسحاق بن الطباع عن مالك بهذا الإسناد عن أبي عبد الله الصنابحي بأداة الكنية وشذا بذلك، وقد أخرجه النسائي من طريق مالك بلا أداة كنية ولم ينفرد به مالك بل تابعه أبو غسان محمد بن مطرف عن زيد بن أسلم عن عطاء عن عبد الله الصنابحي أخرجه ابن منده به.

ونقل الترمذي عن البخاري أن مالكًا وهم في قوله عبد الله وإنما هو أبو عبد الله واسمه عبد الرحمن بن عسيلة ولم يسمع من النبي صلى الله عليه وسلم، وظاهره أن عبد الله الصنابحي لا وجود له وفيه نظر فقد روى سويد بن سعيد حديثًا غير هذا عن حفص بن ميسرة عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن عبد الله الصنابحي سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: إن الشمس تطلع بين قرني شيطان الحديث.
وكذا أخرجه الدارقطني في غرائب مالك من طريق إسماعيل بن الحارث وابن منده من طريق إسماعيل الصائغ كلاهما عن مالك وزهير بن محمد قالا: حدثنا زيد بن أسلم بهذا.

قال ابن منده: رواه محمد بن جعفر بن أبي كثير وخارجة بن مصعب عن زيد.

قلت: روى زهير بن محمد وأبو غسان محمد بن مطرف عن زيد بن أسلم بهذا السند حديثًا آخر عن عبد الله الصنابحي عن عبادة بن الصامت في الوتر أخرجه أبو داود، فورود عبد الله الصنابحي في هذين الحديثين من رواية هؤلاء الثلاثة عن شيخ مالك يدفع الجزم بوهم مالك فيه ذكره الحافظ في الإصابة اهـ.
فلله دره حافظًا فارسًا.

( أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِذَا تَوَضَّأَ الْعَبْدُ الْمُؤْمِنُ فَتَمَضْمَضَ خَرَجَتِ الْخَطَايَا مِنْ فِيهِ) قال الباجي: يحتمل أن المضمضة كفارة لما يخص الفم من الخطايا فعبر عن ذلك بخروجها منه، ويحتمل أن يعفو تعالى عن عقاب الإنسان بالذنوب التي اكتسبها وإن لم تختص بذلك العضو.
وقال عياض: ذكر خروج الخطايا استعارة لحصول المغفرة عند ذلك لأن الخطايا في الحقيقة شيء يحل في الماء أي لأنها ليست بأجسام ولا كائنة في أجسام فتخرج حقيقة وإنما هو تمثيل شبه الخطايا الحاصلة باكتساب أعضائه بأجسام ردية امتلأ بها وعاء أريد تنظيفه فتخرج منه شيئًا فشيئًا.

( وَإِذَا اسْتَنْثَرَ) بوزن استفعل أخرج ماء الاستنشاق ( خَرَجَتِ الْخَطَايَا مِنْ أَنْفِهِ فَإِذَا غَسَلَ وَجْهَهُ خَرَجَتِ الْخَطَايَا مِنْ وَجْهِهِ حَتَّى تَخْرُجَ مِنْ تَحْتِ أَشْفَارِ عَيْنَيْهِ) جمع شفر.
قال ابن قتيبة: والعامة تجعل أشفار العين الشعر وهو غلط وإنما الأشفار حروف العين التي ينبت عليها الشعر والشعر الهدب.
قال الباجي: جعل العينين مخرجًا لخطايا الوجه دون الفم والأنف لأنهما يختصان بطهارة مشروعة في الوضوء دون العينين.

( فَإِذَا غَسَلَ يَدَيْهِ خَرَجَتِ الْخَطَايَا مِنْ يَدَيْهِ حَتَّى تَخْرُجَ مِنْ تَحْتِ أَظْفَارِ يَدَيْهِ) جمع ظفر بضمتين على أفصح لغاته وبها قرأ السبعة { { حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ } } ويجمع أيضًا على أظفر وبإسكان الفاء للتخفيف، وبه قرأ الحسن البصري وبكسر الظاء بزنة حمل وبكسرتين للاتباع وبهما قرئ في الشواذ وأظفور وجمعه أظافير مثل أسبوع وأسابيع قال الشاعر:

ما بين لقمته الأولى إذا انحدرت
وبين أخرى تليها قيد أظفور

( فَإِذَا مَسَحَ بِرَأْسِهِ خَرَجَتِ الْخَطَايَا مِنْ رَأْسِهِ حَتَّى تَخْرُجَ مِنْ أُذُنَيْهِ) تثنية أذن بضمتين وقد تسكن الذال تخفيفًا مؤنثة.
قال الباجي: جعلهما مخرجًا لخطايا الرأس مع إفرادهما بأخذ الماء لهما ولم يجعل الفم والأنف مخرجًا لخطايا الوجه لأنهما مقدمان على الوجه فلم يكن لهما حكم التبع وخرجت خطاياهما منهما قبل خروجها من الوجه والأذنان مؤخران عن الرأس فكان لهما حكم التبع اهـ.

وفيه إشعار بأن خطايا الرأس متعلقة بالسمع وأصرح منه حديث أبي أمامة عند الطبراني في الصغير وإذا مسح برأسه كفر به ما سمعت أذناه.

( فَإِذَا غَسَلَ رِجْلَيْهِ خَرَجَتِ الْخَطَايَا مِنْ رِجْلَيْهِ حَتَّى تَخْرُجَ مِنْ تَحْتِ أَظْفَارِ رِجْلَيْهِ) ولما كانت إزالة النجاسة العينية بإسالة الماء الذي هو الغسل ناسب في ذكر إزالة النجاسة الباطنية التي هي الآثام ذكر الإسالة التي هي الغسل دون المسح.

( قَالَ) صلى الله عليه وسلم ( ثُمَّ كَانَ مَشْيُهُ إِلَى الْمَسْجِدِ وَصَلَاتُهُ نَافِلَةً لَهُ) .
أي زيادة له في الأجر على خروج الخطايا وغفرانها، ومعلوم ما في المشي والصلاة من الثواب الجزيل.

وهذا الحديث رواه الإمام أحمد والنسائي وابن ماجه وصححه الحاكم كلهم من هذا الطريق عن عبد الله الصنابحي به، وأخرج مسلم عن عثمان مرفوعًا: من توضأ فأحسن الوضوء خرجت خطاياه من جسده حتى تخرج من تحت أظفاره.

( مَالِكٍ عَنْ سُهَيْلِ) بضم السين وفتح الهاء ( بْنِ أَبِي صَالِحٍ) ذكوان المدني يكنى أبا يزيد صدوق تغير حفظه بآخرة وهو أحد الأئمة المشهورين المكثرين وثقه النسائي والدارقطني وغيرهما.
وقال أبو حاتم: يكتب حديثه ولا يحتج به، وقال ابن معين: صويلح، وقال البخاري: كان له أخ فمات فوجد عليه فساء حفظه، وله في البخاري حديث واحد في الجهاد مقرون بيحيى بن سعيد الأنصاري وذكر له حديثين آخرين متابعة في الدعوات واحتج به الباقون، ومعلوم أن رواية مالك ونحوه عنه كانت قبل التغير، وله في الموطأ عشرة أحاديث مرفوعة مات في خلافة المنصور.

( عَنْ أَبِيهِ) أبي صالح ذكوان السمان الزيات لأنه كان يبيع السمن والزيت ويختلف بهما من العراق إلى الحجاز المدني ثقة ثبت كثير الحديث.
روى عن سعيد وأبي الدرداء وأبي هريرة وعائشة وخلق، وعنه بنوه سهيل وصالح وعبد الله وعطاء بن أبي رباح والأعمش وغيرهم مات سنة إحدى ومائة من الهجرة.

( عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِذَا تَوَضَّأَ الْعَبْدُ الْمُسْلِمُ أَوِ الْمُؤْمِنُ) قال الباجي: شك من الراوي على الظاهر قال غيره وفيه تحري المسموع وإلا فهما متقاربان، ويحتمل أن يكون تنبيهًا من النبي صلى الله عليه وسلم على الترادف فإنهما يستعملان مترادفين، وعبر بالعبد إشارة إلى كونه عبادة وجواب الشرط قوله: ( فَغَسَلَ وَجْهَهُ) والفاء مرتبة له على الشرط أي إذا أراد الوضوء فغسل وجهه كذا قال بعض شراح مسلم وفيه تعسف والمتبادر أن الجواب قوله: ( خَرَجَتْ مِنْ وَجْهِهِ كُلُّ خَطِيئَةٍ) إثم ( نَظَرَ إِلَيْهَا بِعَيْنَيْهِ) بالإفراد ويروى بالتثنية أي نظر إلى سببها إطلاقًا لاسم المسبب على السبب مبالغة، وفيه دلالة على أن الوضوء يكفر عن كل عضو ما اختص به من الخطايا ( مَعَ الْمَاءِ أَوْ مَعَ آخِرِ قَطْرِ الْمَاءِ) شك من الراوي، وقيل ليس بشك بل لأحد الأمرين نظرًا إلى البداية والنهاية فإن الابتداء بالماء والنهاية بآخر قطر الماء، وتخصيص العين في هذا الحديث والوجه مشتمل على العين والفم والأنف والأذن لأن جناية العين أكثر، فإذا خرج الأكثر خرج الأقل فالعين كالغاية لما يغفر.
وقال الطيبي: لأن العين طليعة القلب ورائده فإذا ذكرت أغنت عن سواها.

( فَإِذَا غَسَلَ يَدَيْهِ) بالتثنية ( خَرَجَتْ مِنْ يَدَيْهِ كُلُّ خَطِيئَةٍ بَطَشَتْهَا) أي عملتها ( يَدَاهُ) والبطش الأخذ بعنف وبطشت اليد إذا عملت فهي باطشة وبابه ضرب وبه قرأ السبعة، وفي لغة من باب قتل وبها قرأ الحسن البصري وأبو جعفر المدني ( مَعَ الْمَاءِ أَوْ مَعَ آخِرِ قَطْرِ الْمَاءِ) مصدر قطر من باب نصر أي سيلانه كذا لأكثر رواة الموطأ وزاد ابن وهب:

( فَإِذَا غَسَلَ رِجْلَيْهِ خَرَجَتْ كُلُّ خَطِيئَةٍ مَشَتْهَا رِجْلَاهُ) أي مشى لها بهما أو مشت فيها قال تعالى: { { كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُم مَّشَوْا فِيهِ } } فالضمير يرجع إلى خطيئة ونصب بنزع الخافض أو هو مصدر أي مشت المشية رجلاه ( مَعَ الْمَاءِ أَوْ مَعَ آخِرِ قَطْرِ الْمَاءِ) وقوله بعينه ويداه ورجلاه تأكيدات تفيد المبالغة في الإزالة ( حَتَّى يَخْرُجَ نَقِيًّا) بالنون والقاف نظيفًا ( مِنَ الذُّنُوبِ) بخروجها عنه.

وخص العلماء هذا ونحوه من الأحاديث التي فيها غفران الذنوب بالصغائر أما الكبائر فلا يكفرها إلا التوبة لحديث الصحيحين الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان كفارات لما بينها ما اجتنبت الكبائر فجعلوا التقييد في هذا الحديث مقيدًا للإطلاق في غيره، لكن قال ابن دقيق العيد: فيه نظر.
وقال ابن التين: اختلف هل يغفر له بهذا الكبائر إذا لم يصر عليها أم لا يغفر سوى الصغائر؟ قال: وهذا كله لا يدخل فيه مظالم العباد.
وقال في المفهم: لا يبعد أن بعض الأشخاص تغفر له الكبائر والصغائر بحسب ما يحضره من الإخلاص ويراعيه من الإحسان والآداب وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
وقال النووي: ما وردت به الأحاديث أنه يكفر إن وجد ما يكفره من الصغائر كفره وإن لم يصادف صغيرة ولا كبيرة كتب له به حسنات ورفع به درجات وإن صادف كبيرة أو كبائر ولم يصادف صغيرة رجونا أن يخفف من الكبائر اهـ.

وهذا الحديث أخرجه مسلم حدثنا سويد بن سعيد عن مالك بن أنس، وحدثني أبو الطاهر واللفظ له قال: أخبرنا عبد الله بن وهب عن مالك بن أنس فذكره.
ورواه الترمذي عن قتيبة ومن طريق معن بن عيسى كليهما عن مالك به كرواية الأكثر دون زيادة ابن وهب، لكنها زيادة ثقة حافظ غير منافية فيجب قبولها لأنه حفظ ما لم يحفظ غيره.

( مَالِكٍ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ) زيد بن سهل ( عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ: رَأَيْتُ) أي أبصرت ( رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَ) الحال أنه قد ( حَانَتْ) بالحاء المهملة أي قربت ( صَلَاةُ الْعَصْرِ) زاد في رواية الشيخين من طريق سعيد عن قتادة عن أنس وهو بالزوراء بفتح الزاي وسكون الواو ثم راء موضع بسوق المدينة.
وزعم الداودي أن الزوراء مكان مرتفع كالمنارة.
قال الحافظ: وكأنه أخذه من أمر عثمان بالتأذين على الزوراء وليس بلازم بل الواقع أن المكان الذي أمر بالتأذين فيه كان بالزوراء لا أنه الزوراء نفسها، ولأبي نعيم من طريق همام عن قتادة عن أنس شهدت النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه عند الزوراء أو عند بيوت المدينة.

( فَالْتَمَسَ) أي طلب ( النَّاسُ وَضُوءًا) بفتح الواو ما يتوضئون به ( فَلَمْ يَجِدُوهُ) أي لم يصيبوا الماء، وفي رواية بحذف الضمير قال أبو عمر: فيه تسمية الشيء باسم ما قرب منه وكان في معناه وارتبط به لأنه سمى الماء وضوءًا لأنه يقوم به الوضوء اهـ.
وكأنه قرأه بضم الواو.

( فَأُتِيَ) بضم الهمزة مبني للمفعول ( رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِوَضُوءٍ فِي إِنَاءٍ) وفي رواية فجاء رجل بقدح فيه ماء ورد فصغر أن يبسط صلى الله عليه وسلم فيه كفه فضم أصابعه، وروى المهلب أن الماء كان مقدار وضوء رجل واحد، ولأبي نعيم والحارث بن أبي أسامة من طريق شريك عن أنس أنه الآتي بالماء ولفظه قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: انطلق إلى بيت أم سلمة فأتيته بقدح ماء إما ثلثه وإما نصفه الحديث، وفيه أنه رده بعد فراغهم إليها وفيه قدر ما كان فيه أولاً.

( فَوَضَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ الْإِنَاءِ يَدَهُ) اليمنى على الظاهر كما قال شيخ الإسلام الأنصاري ( ثُمَّ أَمَرَ النَّاسَ يَتَوَضَّئُونَ) وفي رواية أن يتوضئوا ( مِنْهُ) أي من ذلك الإناء.
قال الباجي: هذا إنما يكون بوحي يعلم به أنه إذا وضع يده في الإناء نبع الماء حتى يعم أصحابه الوضوء.

( قَالَ أَنَسٌ: فَرَأَيْتُ الْمَاءَ يَنْبُعُ) بفتح أوله وضم الموحدة ويجوز كسرها وفتحها أي يخرج ( مِنْ تَحْتِ) وفي رواية يفور من بين ( أَصَابِعِهِ) قال القرطبي: لم نسمع بهذه المعجزة عن غير نبينا صلى الله عليه وسلم حيث نبع الماء من بين عظمه ولحمه ودمه، ونقل ابن عبد البر عن المزني أن نبع الماء من بين أصابعه صلى الله عليه وسلم أبلغ في المعجزة من نبع الماء من الحجر حيث ضربه موسى بالعصا فتفجرت منه المياه لأن خروج الماء من الحجارة معهود بخلاف خروج الماء من بين اللحم والدم.

( فَتَوَضَّأَ النَّاسُ) وكانوا ثمانين رجلاً كما في رواية حميد عن أنس عند البخاري، وله عن الحسن عن أنس كانوا سبعين أو نحوه، وفي مسلم سبعين أو ثمانين، وفي الصحيحين من طريق سعيد عن قتادة عن أنس أتى النبي صلى الله عليه وسلم بإناء وهو بالزوراء فوضع يده في الإناء فجعل الماء ينبع من بين أصابعه وأطراف أصابعه حتى توضأ القوم.
قال: أي قتادة فقلنا لأنس كم كنتم؟ قال: كنا ثلاثمائة أو زهاء ثلاثمائة وللإسماعيلي ثلاثمائة بالجزم دون قوله أو زهاء بضم الزاي أي مقارب، وبهذا يظهر تعدد القصة إذ كانوا مرة ثمانين أو سبعين ومرة ثلاثمائة أو ما قاربها فهما كما قال النووي قضيتان جرتا في وقتين حضرهما جميعًا أنس.

( حَتَّى تَوَضَّئُوا مِنْ عِنْدِ آخِرِهِمْ) قال الكرماني: حتى للتدريج ومن للبيان أي توضأ الناس حتى توضأ الذين هم عند آخرهم وهو كناية عن جميعهم، وعند بمعنى في لأن عند وإن كانت للظرفية الخاصة لكن المبالغة تقتضي أن تكون لمطلق الظرفية فكأنه قال الذين هم في آخرهم.
وقال التيمي: المعنى توضأ القوم حتى وصلت النوبة إلى الآخر، وقال النووي: من هنا بمعنى إلى وهي لغة، وتعقبه الكرماني بأنها شاذة قال: ثم إن إلى لا يجوز أن تدخل على عند ويلزم عليه وعلى ما قاله التيمي أن لا يدخل الأخير، لكن ما قاله الكرماني من أن إلى لا تدخل على عند لا يلزم مثله في من إذا وقعت بمعنى إلى، وعلى توجيه النووي يمكن أن يقال عند زائدة.

وفي الحديث دليل على أن المواساة مشروعة عند الضرورة لمن كان في مائه فضلة عن وضوءه وأن اغتراف المتوضئ من الماء لا يصيره مستعملاً، واستدل به الشافعي على أن الأمر بغسل اليد قبل إدخالها الإناء أمر ندب لا حتم.

قال عياض: نبع الماء رواه الثقات من العدد الكثير والجم الغفير عن الكافة متصلة بالصحابة وكان ذلك في مواطن اجتماع الكثير منهم في المحافل ومجامع العساكر ولم يرد عن أحد منهم إنكار على راوي ذلك فهذا النوع ملحق بالقطعي من معجزاته.

وقال القرطبي: نبع الماء من بين أصابعه تكرر في عدة مواطن في مشاهد عظيمة وورد من طرق كثيرة يفيد مجموعها العلم القطعي المستفاد من التواتر المعنوي.

قال الحافظ: فأخذ القرطبي كلام عياض وتصرف فيه وحديث نبع الماء جاء من رواية أنس عند الشيخين وأحمد وغيرهم من خمسة طرق، وعن جابر عندهم من أربعة، وعن ابن مسعود في البخاري والترمذي، وعن ابن عباس عند أحمد والطبراني من طريقين، وعن أبي ليلى والد عبد الرحمن عند الطبراني فعدد هؤلاء الصحابة أي الخمسة ليس كما يفهم من إطلاقهما، وأما تكثير الماء بأن لمسه بيده أو تفل فيه أو أمر بوضع شيء فيه كسهم من كنانته فجاء عن عمران في الصحيحين، والبراء بن عازب في البخاري، وأحمد من طريقين، وأبي قتادة في مسلم، وأنس في دلائل البيهقي، وزياد بن الحارث الصدائي عنده، وعن بريج بضم الموحدة وشد الراء الصدائي أيضًا فإذا ضم هذا إلى هذا بلغ الكثرة المذكورة أو قاربها، وأما من رواها من أهل القرن الثاني فهم أكثر عددًا وإن كان شطر طرقه أفرادًا.

وبالجملة؛ يستفاد منها رد قول ابن بطال هذا الحديث شهده جمع من الصحابة إلا أنه لم يرو إلا من طريق أنس وذلك لطول عمره وطلب الناس علو السند، وهذا ينادى عليه بقلة الاطلاع والاستحضار لأحاديث الكتاب الذي شرحه انتهى.

وحديث الباب رواه البخاري عن عبد الله بن يوسف ومسلم في الفضائل من طريق معن بن عيسى وعبد الله بن وهب الثلاثة عن مالك به.

( مَالِكٍ عَنْ نُعَيْمِ) بضم النون وفتح العين ( بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمَدَنِيِّ) مولى آل عمر روى عن جابر وابن عمر وأبي هريرة وأنس وجماعة، وعنه محمد ابنه ومالك وآخرون، وثقه ابن معين وأبو حاتم وغيرهما ( الْمُجْمِرِ) بضم الميم وسكون الجيم وكسر الميم الثانية اسم فاعل من الإجمار على المشهور وبفتح الجيم وشد الميم الثانية من التجمير.

قال الحافظ: وصف هو وأبوه بذلك لكونهما كانا يبخران مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، وزعم بعض العلماء أن وصف عبد الله بذلك حقيقة ووصف ابنه نعيم بذلك مجاز فيه نظر، فقد جزم إبراهيم الحربي بأن نعيمًا كان يباشر ذلك.

وقال السيوطي: كان عبد الله يجمر المسجد إذا قعد عمر على المنبر، وقيل كان من الذين يجمرون الكعبة زاد غيره، وقيل كان عبد الله يجمر المسجد النبوي في رمضان وغيره ولا مانع من الجمع.

( أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ:) قال ابن عبد البر، قال مالك وغيره: كان نعيم يوقف كثيرًا من أحاديث أبي هريرة، ومثل هذا الحديث لا يقال من جهة الرأي فهو مسند، وقد ورد معناه من حديث أبي هريرة وغيره بأسانيد صحاح.

( مَنْ تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ وُضُوءَهُ) بإتيانه بفرائضه وسننه وفضائله وتجنب منهياته ( ثُمَّ خَرَجَ عَامِدًا إِلَى الصَّلَاةِ) أي قاصدًا لها دون غيرها ( فَإِنَّهُ فِي صَلَاةٍ) أي في حكمها من جهة كونه مأمورًا بترك العبث وفي استعمال الخشوع وللوسائل حكم المقاصد وهذا الحكم مستمر ( مَادَامَ يَعْمِدُ) بكسر الميم يقصد وزنًا ومعنى وماضيه عمد كقصد وفي لغة قليلة من باب فرح ( إِلَى الصَّلَاةِ) أي مادام مستمرًا على ما يقصده، ثم المراد أن يكون باعث خروجه قصد الصلاة وإن عرض له في خروجه أمر دنيوي فقضاه والمدار على الإخلاص فحسب، وفي معناه ما روى الحاكم عن أبي هريرة مرفوعًا: إذا توضأ أحدكم في بيته ثم أتى المسجد كان في صلاة حتى يرجع فلا يفعل هكذا وشبك بين أصابعه.

وروى أحمد وأبو داود والترمذي وصححه ابن خزيمة وابن حبان عن كعب بن عجرة مرفوعًا: إذا توضأ أحدكم فأحسن وضوءه ثم خرج عامدًا إلى المسجد فلا يشبكن بين يديه فإنه في صلاة.

( وَإِنَّهُ) بفتح الهمزة وكسرها ( يُكْتَبُ لَهُ بِإِحْدَى خُطْوَتَيْهِ) بضم الخاء ما بين القدمين وبالفتح المرة الواحدة قاله الجوهري، وجزم اليعمري أنها هنا بالفتح والقرطبي.
والحافظ بالضم وهي اليمنى ( حَسَنَةٌ وَيُمْحَى عَنْهُ بِالْأُخْرَى) أي اليسرى ( سَيِّئَةٌ) .

قال الباجي: يحتمل أن لخطاته حكمين فيكتب له ببعضها حسنات ويمحى عنه ببعضها سيئات وأن حكم زيادة الحسنات غير حكم محو السيئات وهذا ظاهر اللفظ ولذلك فرق بينهما، وذكر قوم أن معنى ذلك واحد وأن كتب الحسنات هو بعينه محو السيئات انتهى.

وقال غيره: فيه تكفير السيئات مع رفع الدرجات لأنه قد يجتمع في العمل شيئان أحدهما رافع والآخر مكفر كل منهما باعتبار فلا إشكال فيه ولا تأويل كما ظن، وفيه إشعار بأن هذا الجزاء للماشي لا للراكب أي بلا عذر وذكر رجله غالبي فبدلها في حق فاقدها مثلها.

وروى الطبراني والحاكم وصححه البيهقي عن ابن عمر رفعه: إذا توضأ أحدكم فأحسن الوضوء ثم خرج إلى المسجد لا ينزعه إلا الصلاة لم تزل رجله اليسرى تمحو عنه سيئة وتكتب له اليمنى حسنة حتى يدخل المسجد.

وروى أبو داود والبيهقي عن سعيد بن المسيب عن بعض الأنصار سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إذا توضأ أحدكم فأحسن الوضوء ثم خرج إلى الصلاة لم يرفع قدمه اليمنى إلا كتب الله عز وجل له حسنة ولم يضع قدمه اليسرى إلا حط الله عنه سيئة فليقرب أحدكم أو ليبعد.

قال العراقي: خص تحصيل الحسنة باليمنى لشرف جهة اليمنى وحكمة ترتب الحسنة على رفعها حصول رفع الدرجة بها وحكمة ترتب حط السيئة على وضع اليسرى مناسبة الحط للوضع فلم يرتب حط السيئة على رفع اليسرى كما فعل في اليمنى بل على وضعها، أو يقال أن قاصد المشي للعبادة أول ما يبدأ برفع اليمنى للمشي فرتب الأجر على ابتداء العمل.

( فَإِذَا سَمِعَ أَحَدُكُمُ الْإِقَامَةَ) للصلاة وهو ماش إليها ( فَلَا يَسْعَ) أي لا يسرع ولا يعجل في مشيته بل يمشي على هينته لئلا يخرج عن الوقار المشروع في إتيان الصلاة ولأنه تقل به الخطا وكثرتها مرغب فيه لكتب الحسنات ومحو السيئات كما ذكر ( فَإِنَّ أَعْظَمَكُمْ أَجْرًا أَبْعَدُكُمْ دَارًا) من المسجد ( قَالُوا: لِمَ) أي لأي شيء ( يَا أَبَا هُرَيْرَةَ؟) بعد الدار أعظم أجرًا ( قَالَ: مِنْ أَجْلِ كَثْرَةِ الْخُطَا) بضم الخاء وفتح الطاء جمع خطوة بالضم وفيه فضل الدار البعيدة عن المسجد.

وقد روى الترمذي وحسنه والحاكم وصححه عن أبي سعيد الخدري والطبراني عن ابن عباس: كانت بنو سلمة في ناحية المدينة فأرادوا النقلة إلى قرب المسجد فنزلت هذه الآية: { { إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ } } فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن آثاركم تكتب فلم ينتقلوا أي أعمالهم المندرجة فيها آثار خطاهم، ولا يعارضه ما ورد إن من شؤم الدار بعدها عن المسجد لأن شؤمها من حيث أنه قد يؤدي إلى تفويت الصلاة بالمسجد وفضلها بالنسبة إلى من يتحمل المشقة ويتكلف المسافة لإدراك الفضل فشؤمها وفضلها أمران اعتباريان فلا تنافي.

( مَالِكٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ أَنَّهُ سَمِعَ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ يُسْأَلُ عَنِ الْوُضُوءِ مِنَ الْغَائِطِ بِالْمَاءِ فَقَالَ سَعِيدٌ: إِنَّمَا ذَلِكَ وُضُوءُ النِّسَاءِ) قال ابن نافع: يريد أن الاستجمار بالحجارة يجزي الرجل وإنما يكون أي يتعين الاستنجاء بالماء للنساء.
وقال الباجي: يحتمل أنه أراد أن ذلك عادة النساء وأن عادة الرجال الاستجمار وأن يريد عيب الاستنجاء بالماء كقوله صلى الله عليه وسلم: إنما التصفيق للنساء وهذا لا يراه مالك ولا أكثر أهل العلم.

( مَالِكٍ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ) بكسر الزاي عبد الله بن ذكوان القرشي مولاهم المدني ( عَنِ الْأَعْرَجِ) عبد الرحمن بن هرمز ( عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِذَا شَرِبَ الْكَلْبُ) .

قال الحافظ: كذا للموطأ والمشهور عن أبي الزناد من رواية جمهور أصحابه عنه إذا ولغ وهو المعروف لغة يقال ولغ يلغ بالفتح فيهما إذا شرب بطرف لسانه أو أدخل لسانه فيه فحركه وقال ثعلب: هو أن يدخل لسانه في الماء وغيره من كل مائع ليحركه زاد ابن درستويه شرب أو لم يشرب، وقال مكي: فإن كان غير مائع يقال لعقه، وقال المطرز: فإن كان فارغًا يقال لحسه، وادعى ابن عبد البر أن لفظ شرب لم يروه إلا مالك، وأن غيره رواه بلفظ ولغ وليس كما ادعى، فقد رواه ابن خزيمة وابن المنذر من طريقين عن هشام بن حسان عن ابن سيرين عن أبي هريرة بلفظ: إذا شرب، لكن المشهور عن هشام بن حسان بلفظ: إذا ولغ أخرجه مسلم وغيره من طرق عنه.
وقد رواه عن أبي الزناد شيخ مالك بلفظ: إذا شرب، ورقاء بن عمر أخرجه الجوزقي، والمغيرة بن عبد الرحمن أخرجه أبو يعلى نعم، وروي عن مالك بلفظ: إذا ولغ أخرجه أبو عبيد في كتاب الطهور له عن إسماعيل بن عمر عنه، ومن طريقه أورده الإسماعيلي، وكذا أخرجه الدارقطني في الموطآت له عن طريق أبي علي الحنفي عن مالك وهو في نسخة صحيحة من سنن ابن ماجه من رواية روح بن عبادة عن مالك أيضًا، وكأن أبا الزناد حدث به باللفظين لتقاربهما في المعنى، لكن الشرب كما بينا أعم من الولوغ فلا يقوم مقامه، ومفهوم الشرط في إذا ولغ يقتضي قصر الحكم على ذلك.

( فِي) أي من كما في رواية أو التقدير شرب الماء في ( إِنَاءِ أَحَدِكُمْ) ظاهره العموم في الآنية والإضافة يلغي اعتبارها لأن ذلك لا يتوقف على ملك وكذا قوله ( فَلْيَغْسِلْهُ) لا يتوقف على أن يكون هو الغاسل، وزاد علي بن مسهر عن الأعمش: عن أبي صالح وأبي رزين عن أبي هريرة فليرقه رواه مسلم والنسائي قائلاً لا أعلم أحدًا تابع علي بن مسهر على زيادة فليرقه، وقال حمزة الكتاني: إنها غير محفوظة، وقال ابن عبد البر: لم يذكرها الحفاظ من أصحاب الأعمش، وقال ابن منده: لا تعرف عن النبي صلى الله عليه وسلم بوجه من الوجوه إلا عن علي بن مسهر.

قال الحافظ: ورد الأمر بالإراقة أيضًا من طريق عطاء عن أبي هريرة مرفوعًا أخرجه ابن عدي لكن في رفعه نظر والصحيح أنه موقوف، وكذا ذكر الإراقة حماد بن زيد عن أيوب عن ابن سيرين عن أبي هريرة موقوفًا وإسناده صحيح أخرجه الدارقطني وغيره.

( سَبْعَ مَرَّاتٍ) قال الحافظ: لم يقع في رواية مالك التتريب ولا ثبت في شيء من الروايات عن أبي هريرة إلا عن ابن سيرين على أن بعض أصحابه لم يذكره عنه، وروي أيضًا عن الحسن وأبي رافع عند الدارقطني وعبد الرحمن والد السدي عند البزار، واختلف الرواة عن ابن سيرين فلمسلم وغيره من طريق هشام بن حسان عنه أولاهن بالتراب وهي رواية الأكثر عنه، وكذا في حديث أبي رافع، وللشافعي عن ابن عيينة عن ابن سيرين أولاهن أو أخراهن.
وقال قتادة عن ابن سيرين أولاهن عند الدارقطني، ولأبي داود عن قتادة عنه السابعة بالتراب اهـ.

فحاصله أنها شاذة وإن صح إسنادها فلذا لم يقل مالك بالتتريب أصلاً مع قوله باستحباب التسبيع في ولوغه في الماء فقط على المشهور، وقول الحافظ أوجب المالكية التسبيع على المشهور عندهم ولم يقولوا بالتتريب لأنه لم يقع في رواية مالك تبع فيه قول جماعة أنه ظاهر المذهب ولكنه ضعيف، وقول الشهاب القرافي صحت الأحاديث بالتتريب فالعجب منهم كيف لم يقولوا بها مدفوع بأنها شاذة وإن صحت كما أفاده الحافظ بما قدمته عنه، وقال بعده بكثير لو سلكنا الترجيح في هذا الباب لم نقل بالتتريب أصلاً لأن رواية مالك بدونه أرجح من رواية من أثبته.

وهذا الحديث أخرجه البخاري عن عبد الله بن يوسف، ومسلم عن يحيى كلاهما عن مالك به.

( مَالِكٍ أَنَّهُ بَلَغَهُ) جاء هذا صحيحًا مسندًا من حديث ابن عمر، وعند ابن ماجه والبيهقي إلا أن فيه واعلموا أن من أفضل أعمالكم الصلاة، ومن حديث ثوبان أخرجه أحمد وابن ماجه وابن حبان والحاكم وصححه على شرطهما والبيهقي إلا أن فيه واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة وسائره بلفظ الموطأ.

( أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: اسْتَقِيمُوا) أي لا تزيغوا وتميلوا عما سن لكم وفرض عليكم وليتكم تطيقون ذلك قاله ابن عبد البر، وقال غيره: أي الزموا المنهج المستقيم بالمحافظة على إيفاء حقوق الحق جل جلاله ورعاية حدوده والرضا بالقضاء ( وَلَنْ تُحْصُوا) ثواب الاستقامة إن استقمتم قاله مطرف قال تعالى: { { وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا } } ولن تطيقوا أن تستقيموا حق الاستقامة لعسرها كما أشار له ابن عبد البر بقوله: وليتكم تطيقون أو لن تطيقوها بقوتكم وحولكم وإن بذلتم جهدكم بل بالله أو استقيموا على الطريق الحسنى وسددوا وقاربوا فإنكم لن تطيقوا الإحاطة في الأعمال ولا بد للمخلوق من تقصير وملال، وهذا معنى قول الباجي أي لا يمكنكم استيعاب أعمال البر من قوله تعالى: { { عَلِمَ أَلَّن تُحْصُوهُ } } اهـ.
وكأن القصد به تنبيه المكلف على رؤية التقصير وتحريضه على الجد لئلا يتكل على عمله، ولذا قال البيضاوي أخبرهم بعد الأمر بذلك أنهم لا يقدرون على إيفاء حقه والبلوغ إلى غايته لئلا يغفلوا عنه فكأنه يقول لا تتكلوا على ما تأتون به ولا تيأسوا من رحمة ربكم فيما تذرون عجزًا وقصورًا لا تقصيرًا.

وقال الطيبي: قوله ولن تحصوا إخبار واعتراض بين المعطوف والمعطوف عليه كما اعترض ولن تفعلوا بين الشرط والجزاء في قوله: { { فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا وَلَن تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا } } كأنه صلى الله عليه وسلم لما أمرهم بالاستقامة وهي شاقة جدًا تداركه بقوله ولن تحصوا رحمة ورأفة منه على هذه الأمة المرحومة كما قال الله تعالى: { { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } } بعد ما أنزل { { اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ } } أي واجب تقواه.

( وَاعْمَلُوا) الأعمال الصالحة كلها ( وَخَيْرُ أَعْمَالِكُمُ الصَّلَاةُ) أي إنها أكثر أعمالكم أجرًا فلذا كانت أفضل الأعمال لجمعها العبادات كقراءة وتسبيح وتكبير وتهليل وإمساك عن كلام البشر والمفطرات وهي معراج المؤمن ومقربته إلى الله فالزموها وأقيموا حدودها سيما مقدمتها التي هي شطر الإيمان فحافظوا عليها فإنه لا يحافظ عليها إلا مؤمن راسخ القدم في التقوى كما قال: ( وَلَا) وفي رواية: ولن ( يُحَافِظُ عَلَى الْوُضُوءِ) الظاهري والباطني ( إِلَّا مُؤْمِنٌ) كامل الإيمان فلا يديم فعله في المكاره وغيرها منافق فالظاهري ظاهر والباطني طهارة السر عن الأغيار والمحافظة على المجاهدة التي يكون بها تارة غالبًا وتارة مغلوبًا أي لن تطيقوا الاستقامة في تطهير سركم ولكن جاهدوا في تطهيره مرة بعد أخرى كتطهير الحدث مرة بعد أخرى فأنتم في الاستقامة بين عجز البشرية وبين الاستظهار بالربوبية فتكونون بين رعاية وإهمال وتقصير وإكمال ومراقبة وإغفال وبين جد وفتور كما أنكم بين حدث وطهور، وفيه استحباب إدامة الوضوء وتجديده إن صلى به لأن تجديده من المحافظة الكاملة عليه.

ومن شواهد هذا الحديث أيضًا قوله صلى الله عليه وسلم: استقيموا ونعمًا إن استقمتم وخير أعمالكم الصلاة ولن يحافظ على الوضوء إلا مؤمن رواه ابن ماجه عن أبي أمامة والطبراني.



رقم الحديث 161 حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِنَّ بِلَالًا يُنَادِي بِلَيْلٍ فَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يُنَادِيَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ.


قَدْرِ السُّحُورِ مِنَ النِّدَاءِ

( مَالِكٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِنَّ بِلَالًا يُنَادِي) أي يؤذن وهي رواية الأصيلي في البخاري ( بِلَيْلٍ) أي فيه ( فَكُلُوا وَاشْرَبُوا) فيه إشعار بأن الأذان كان علامة عندهم على دخول الوقت، فبين لهم أن أذان بلال بخلاف ذلك ( حَتَّى يُنَادِيَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ) اسمه عمرو وقيل كان اسمه الحصين فسماه النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله، ولا يمتنع أنه كان له اسمان وهو قرشي عامري أسلم قديمًا والأشهر في اسم أبيه قيس بن زائدة وكان صلى الله عليه وسلم يكرمه ويستخلفه على المدينة، وشهد القادسية في خلافة عمر واستشهد بها، وقيل رجع إلى المدينة فمات وهو الأعمى المذكور في سورة عبس واسم أمه عاتكة بنت عبد الله المخزومية وزعم بعضهم أنه ولد أعمى فكنيت أمه به لاكتتام نور بصره والمعروف أنه عمي بعد بدر بسنتين كذا في فتح الباري، وتعقب بأن نزول عبس بمكة قبل الهجرة فالظاهر والله أعلم بعد البعثة بسنتين.

وقد روى ابن سعد والبيهقي عن أنس قال: إن جبريل أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده ابن أم مكتوم فقال: متى ذهب بصرك؟ قال: وأنا غلام ولفظ البيهقي: وأنا صغير فقال: قال الله تعالى إذا ما أخذت كريمة عبدي لم أجد له بها جزاء إلا الجنة.

وفي الحديث جواز الأذان قبل الفجر واستحباب أذان واحد بعد واحد وأما اثنان معًا فمنع منه قوم وقالوا: أول من أحدثه بنو أمية وقال الشافعية: لا يكره إلا إن حصل من ذلك تهويش وجواز اتخاذ مؤذنين في مسجد واحد، وأما الزيادة عليهما فليس في الحديث تعرض له.

وقد روى علي عن مالك لا بأس أن يؤذن للقوم في السفر والحرس والمركب ثلاثة وأربعة وفي المسجد أربعة وخمسة، وقيده ابن حبيب بما إذا اتسع وقته كالصبح والظهر والعشاء فيؤذن خمسة إلى عشرة واحد بعد واحد، وفي العصر ثلاثة إلى خمسة وفي المغرب لا يؤذن إلا واحد وفيه جواز كون الأعمى مؤذنًا إذا كان له من يعلمه بالأوقات وجواز تقليده للبصير في دخول الوقت وجواز العمل بخبر الواحد وأن ما بعد الفجر من النهار.
قيل وجواز الأكل مع الشك في طلوع الفجر لأن الأصل بقاء الليل وفيه نظر فأين الشك مع إخبار الصادق أنه يؤذن بليل فلا يرد على قول مالك بحرمته ووجوب القضاء وفيه جواز اعتماد الصوت في الرواية إذا كان عارفًا به وإن لم يشاهد الراوي وخالف في ذلك شعبة لاحتمال الاشتباه وجواز نسبة الرجل إلى أمه إذا اشتهر بذلك واحتيج إليه.

وأخرجه البخاري عن عبد الله بن يوسف عن مالك به.

( مالِكٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ) هذا إسناد آخر لمالك في هذا الحديث.
قال ابن عبد البر: لم يختلف على مالك في الإسناد الأول أنه موصول وأما هذا فرواه يحيى وأكثر الرواة مرسلاً، ووصله القعنبي فقال عن أبيه ( أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:) ووافقه على وصله جماعة منهم ابن أبي أويس وابن نافع وابن مهدي انتهى.
وقضيته أنه في الموطأ.
وقال الدارقطني: تفرد القعنبي بروايته إياه في الموطأ موصولاً عن مالك ولم يذكر غيره من رواة الموطأ فيه ابن عمر، ووافقه على وصله عن مالك خارج الموطأ عبد الرحمن بن مهدي وعبد الرزاق وروح بن عبادة وأبو قرة وكامل بن طلحة وآخرون، ووصله عن الزهري جماعة من حفاظ أصحابه.

( إِنَّ بِلَالًا يُنَادِي بِلَيْلٍ) فيه إشعار بأن ذلك كان من عادته المستمرة، وزعم بعضهم أنه ابتدأ ذلك باجتهاد منه وعلى تقدير صحته فقد أقره النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك فصار في حكم المأمور به ( فَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يُنَادِيَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ) وفي صحيح ابن خزيمة وابن المنذر وابن حبان وغيرهم من طرق من حديث أنيسة مرفوعًا: أن ابن أم مكتوم ينادي بليل فكلوا واشربوا حتى يؤذن بلال، وادعى ابن عبد البر وجماعة من الأئمة أنه مقلوب وأن الصواب حديث الباب.

قال الحافظ: وقد كنت أميل إلى ذلك إلى أن رأيت الحديث في صحيح ابن خزيمة من طريقين آخرين عن عائشة وفي بعض ألفاظه ما يبعد وقوع الوهم فيه وهو قوله: إذا أذن عمرو فإنه ضرير البصر فلا يغرنكم وإذا أذن بلال فلا يطعمن أحد، وأخرجه أحمد.

وجاء عن عائشة أيضًا أنها كانت تنكر حديث ابن عمر وتقول: إنه غلط أخرج ذلك البيهقي من طريق الدراوردي عن هشام عن أبيه عنها مرفوعًا: أن ابن أم مكتوم يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى يؤذن بلال قالت عائشة: وكان بلال لا يؤذن حتى يبصر الفجر.
قال: وكانت عائشة تقول غلط ابن عمر انتهى.

وهذا مما يقضي منه العجب ففي صحيح البخاري من طريق القاسم بن محمد عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: إن بلالاً يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى ينادي ابن أم مكتوم فإنه لا يؤذن حتى يطلع الفجر، وكذا أخرجه مسلم فقد جاء عنها في أرفع الصحيح مثل رواية ابن عمر فكيف تغلطه، فالظاهر أن تلك الرواية وهم من بعض الرواة عنها والله أعلم.

قال الحافظ: عقب ما مر وقد جمع ابن خزيمة والصبغي بين الحديثين باحتمال أن الأذان كان نوبًا بين بلال وابن أم مكتوم فكان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم الناس أن الأذان الأول منهما لا يحرم على الصائم شيئًا ولا يدل على دخول وقت الصلاة بخلاف الثاني وجزم ابن حبان بذلك ولم يبده احتمالاً وأنكر ذلك عليه الضياء وغيره.

قال السيوطي قد ورد ذلك قال ابن أبي شيبة: حدثنا عثمان حدثنا شعبة عن حبيب بن عبد الرحمن قال: سمعت عمتي تقول وكانت حجت مع النبي صلى الله عليه وسلم قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن ابن أم مكتوم ينادي بليل فكلوا واشربوا حتى ينادي بلال وإن بلالاً ينادي بليل فكلوا واشربوا حتى ينادي ابن أم مكتوم انتهى.

قال الحافظ: وقيل لم يكن نوبًا وإنما كانت لهما حالتان مختلفتان فإن بلالاً كان في أول ما شرع الأذان يؤذن وحده ولا يؤذن للصبح حتى يطلع الفجر وعلى ذلك تحمل رواية عروة عن امرأة من بني النجار قالت: كان بلال يجلس على بيتي وهو أعلى بيت في المدينة فإذا رأى الفجر تمطى ثم أذن أخرجه أبو داود وإسناده حسن.

ورواية حميد عن أنس أن سائلاً سأل عن وقت الصلاة، فأمر صلى الله عليه وسلم بلالاً فأذن حين طلع الفجر الحديث أخرجه النسائي وإسناده صحيح، ثم أردف بابن أم مكتوم فكان يؤذن بليل واستمر بلال على حالته الأولى وعلى ذلك تنزل رواية أنيسة وغيرها، ثم في آخر الأمر أخر ابن أم مكتوم لضعفه ووكل به من يراعي له الفجر، واستقر أذان بلال بليل وكان سبب ذلك ما روي أنه كان ربما أخطأ الفجر فأذن قبل طلوعه وأنه أخطأه مرة فأمره صلى الله عليه وسلم أن يرجع فيقول: ألا إن العبد نام يعني إن غلبة النوم على عينيه منعته من تبين الفجر وهو حديث أخرجه أبو داود وغيره من طريق حماد بن سلمة عن أيوب عن نافع عن ابن عمر موصولاً مرفوعًا، ورواته ثقات حفاظ، لكن اتفق أئمة الحديث على ابن المديني وأحمد والبخاري والذهلي وأبو حاتم وأبو داود والترمذي والأثرم والدارقطني على أن حمادًا أخطأ في رفعه، وأن الصواب وقفه على عمر بن الخطاب أنه هو الذي وقع له ذلك مع مؤذنه وأن حمادًا انفرد برفعه ومع ذلك فقد وجد له متابع أخرجه البيهقي من طريق سعيد بن زربي وهو بفتح الزاي وسكون الراء بعدها موحدة ثم ياء كياء النسبة فرواه عن أيوب موصولاً، لكن سعيد ضعيف.

ورواه عبد الرزاق عن معمر عن أيوب أيضًا لكنه أعضله فلم يذكر نافعًا ولا ابن عمر وله طريق أخرى عن نافع عند الدارقطني وغيره اختلف في رفعها ووقفها أيضًا، وأخرى مرسلة من طريق يونس بن عبيد وغيره عن حميد بن هلال، وأخرى من طريق سعيد عن قتادة مرسلة، ووصلها أبو يوسف عن سعيد بذكر أنس فهذه طرق يقوى بعضها ببعض قوة ظاهرة، فلهذا والله أعلم استقر بلال يؤذن الأذان الأول انتهى.

( قَالَ: وَكَانَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ رَجُلًا أَعْمَى) ظاهره على رواية القعنبي أن فاعل قال هو ابن عمر وبه جزم الشيخ موفق الدين الحنبلي في المغني وفي البخاري في الصيام ما يشهد له وصرح الحميدي في الجمع بأن عبد العزيز بن أبي سلمة رواه عن ابن شهاب عن سالم عن أبيه أنه قال وكان ابن أم مكتوم فثبتت صحة وصله لكن رواه الإسماعيلي عن أبي خليفة والطحاوي عن يزيد بن سنان كلاهما عن القعنبي فعينا أن فاعل قال ابن شهاب وكذا رواه إسماعيل بن إسحاق ومعاذ بن المثنى وأبو مسلم الكجي الثلاثة عند الدارقطني والخزاعي عند أبي الشيخ وتمام عند أبي نعيم وعثمان الدارمي عند البيهقي كلهم عن القعنبي.

ورواه البيهقي من رواية الربيع بن سليمان عن ابن وهب عن يونس والليث جميعًا عن ابن شهاب وفيه قال سالم: وكان رجلاً ضرير البصر.

قال الحافظ: ولا يمنع كون ابن شهاب قاله أن يكون شيخه سالم قاله وكذا شيخ شيخه ابن عمر أيضًا ولابن شهاب فيه شيخ آخر رواه عبد الرزاق عن معمر عنه عن سعيد بن المسيب وفيه الزيادة.

قال ابن عبد البر: هو حديث آخر لابن شهاب وقد وافق ابن إسحاق معمرًا فيه عن الزهري.

( لَا يُنَادِي حَتَّى يُقَالَ لَهُ أَصْبَحْتَ أَصْبَحْتَ) بالتكرار للتأكيد أي دخلت في الصباح هذا ظاهره.

واستشكل بأنه جعل أذانه غاية للأكل فلو لم يؤذن حتى يدخل الصباح للزم منه جواز الأكل بعد طلوع الفجر والإجماع على خلافه إلا من شذ كالأعمش.
وأجاب ابن حبيب وابن عبد البر والأصيلي وجماعة من الشراح: بأن المراد قاربت الصباح ويعكر على هذا الجواب أن في رواية الربيع التي قدمناها ولم يكن يؤذن حتى يقول له الناس حين ينظرون إلى بزوغ الفجر أذن.

وأصرح من ذلك رواية البخاري في الصيام حتى يؤذن ابن أم مكتوم فإنه لا يؤذن حتى يطلع الفجر، وإنما قلت إنه أبلغ لكون جميعه من كلام النبي صلى الله عليه وسلم وأيضًا فقوله: إن بلالاً يؤذن بليل يشعر أن ابن أم مكتوم بخلافه ولأنه لو كان قبل الصبح لم يكن بينه وبين بلال فرق لصدق أن كلاً منهما أذن قبل الوقت وهذا الموضع عندي في غاية الإشكال وأقرب ما يقال فيه إنه جعل علامة لتحريم الأكل وكان له من يراعي الوقت بحيث يكون أذانه مقارنًا لابتداء طلوع الفجر وهو المراد بالبزوغ وعند أخذه في الأذان يعترض الفجر في الأفق ثم ظهر لي أنه لا يلزم من كون المراد بقولهم أصبحت أي قاربت الصباح وقوع أذانه قبل الفجر لاحتمال أن قولهم ذلك يقع في آخر جزء من الليل وأذانه يقع في أول جزء من طلوع الفجر وهذا وإن كان مستبعدًا في العادة فليس بمستبعد من مؤذن النبي صلى الله عليه وسلم المؤيد بالملائكة فلا يشاركه فيه من لم يكن بتلك الصفة.
وقد روى أبو قرة من وجه آخر عن ابن عمر حديثًا فيه: وكان ابن أم مكتوم يتوخى الفجر فلا يخطيه.
ذكره الحافظ ولا عطر بعد عروس قال رحمه الله: وفيه جواز أذان الأعمى إذا كان له من يخبره بالوقت لأنه في الأصل مبني على المشاهدة، وعلى هذا القيد يحمل ما روى ابن أبي شيبة وابن المنذر عن ابن مسعود وابن الزبير وغيرهما أنهم كرهوا أن يكون المؤذن أعمى.

ونقل النووي عن أبي حنيفة وداود أن أذان الأعمى لا يصح تعقبه السروجي بأنه غلط على أبي حنيفة.
نعم في المحيط للحنفية كراهته وفيه جواز تقليده للبصير في دخول الوقت وجواز ذكر الرجل بما فيه من العاهة إذا كان لقصد التعريف ونحوه والأذان قبل الفجر، وإليه ذهب الجمهور.

وخالف النووي وأبو حنيفة ومحمد وهل يكتفى به وإليه ذهب مالك والشافعي وأحمد وأصحابهم، وخالف ابن خزيمة وابن المنذر وطائفة من أهل الحديث وادعى بعضهم أنه لم يرد في شيء من الحديث ما يدل على الاكتفاء، وتعقب بحديث ابن مسعود في الصحيحين مرفوعًا: لا يمنعن أحدكم أذان بلال من سحوره فإنه يؤذن بليل ليرجع قائمكم ولينبه نائمكم.

وأجيب: بأنه مسكوت عنه فلا يدل وعلى التنزل فمحله إذا لم يرد خلافه وهنا قد ورد حديث ابن عمر وعائشة بما يشعر بعدم الاكتفاء.
نعم حديث زياد بن الحارث عند أبي داود يدل على الاكتفاء فإن فيه أنه أذن قبل الفجر بأمره صلى الله عليه وسلم وأنه استأذنه في الإقامة فمنعه إلى أن يطلع الفجر فأمره فأقام، لكن في إسناده ضعف.
وأيضًا فهي واقعة عين وكانت في سفر، ومن ثم قال القرطبي: إنه مذهب واضح على أن العمل المنقول بالمدينة على خلافه فلم يرده إلا بالعمل على قاعدة المالكية وادعى بعض الحنفية أن النداء قبل الفجر لم يكن بألفاظ الأذان وإنما كان تذكيرًا أو تسحيًرا كما يقع للناس اليوم وهذا مردود لأن الذي يصنعه الناس اليوم محدث قطعًا، وقد تظافرت الطرق على التعبير بلفظ الأذان فحمله على معناه الشرعي مقدم ولأن الأذان الأول لو كان بألفاظ مخصوصة لما التبس على السامعين، وسياق الخبر يقتضي أنه خشي عليهم الالتباس وادعى ابن القطان أن ذلك كان في رمضان خاصة وفيه نظر، وتمسك الطحاوي بحديث ابن مسعود هذا لمذهبه فقال: قد أخبر أن ذلك النداء كان لما ذكر لا للصلاة.
وتعقب بأن قوله لا للصلاة زيادة في الخبر وليس فيه حصر فيما ذكر.

فإن قيل: تقدم في تعريف الأذان الشرعي أنه إعلام بدخول وقت الصلاة بألفاظ مخصوصة والأذان قبل الوقت ليس إعلامًا به فالجواب: أن الإعلام بالوقت أعم من أن يكون إعلامًا بأنه دخل أو قارب أن يدخل وإنما اختصت الصبح بذلك من بين الصلوات لأن الصلاة في أول وقتها مرغب فيه والصبح تأتي غالبًا عقب نوم فناسب أن ينصب من يوقظ الناس قبل دخول وقتها ليتأهبوا ويدركوا فضيلة أول الوقت انتهى.

وهذا الحديث رواه البخاري حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك به.