فهرس الكتاب

شرح الزرقاني - بَابُ مَا لَا يَجُوزُ الِاعْتِكَافُ إِلَّا بِهِ

رقم الحديث 699 وَحَدَّثَنِي عَنْ مالِكٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَهْلَ الْعِلْمِ لَا يَكْرَهُونَ السِّوَاكَ لِلصَّائِمِ فِي رَمَضَانَ.
فِي سَاعَةٍ مِنْ سَاعَاتِ النَّهَارِ لَا فِي أَوَّلِهِ وَلَا فِي آخِرِهِ، وَلَمْ أَسْمَعْ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ يَكْرَهُ ذَلِكَ وَلَا يَنْهَى عَنْهُ قَالَ يَحْيَى: وسَمِعْتُ مَالِكًا يَقُولُ: فِي صِيَامِ سِتَّةِ أَيَّامٍ بَعْدَ الْفِطْرِ مِنْ رَمَضَانَ، إِنَّهُ لَمْ يَرَ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْفِقْهِ يَصُومُهَا.
وَلَمْ يَبْلُغْنِي ذَلِكَ عَنْ أَحَدٍ مِنَ السَّلَفِ.
وَإِنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ يَكْرَهُونَ ذَلِكَ.
وَيَخَافُونَ بِدْعَتَهُ.
وَأَنْ يُلْحِقَ بِرَمَضَانَ مَا لَيْسَ مِنْهُ، أَهْلُ الْجَهَالَةِ وَالْجَفَاءِ.
لَوْ رَأَوْا فِي ذَلِكَ رُخْصَةً عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ.
وَرَأَوْهُمْ يَعْمَلُونَ ذَلِكَ وقَالَ يَحْيَى: سَمِعْتُ مَالِكًا يَقُولُ: لَمْ أَسْمَعْ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْفِقْهِ.
وَمَنْ يُقْتَدَى بِهِ.
يَنْهَى عَنْ صِيَامِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ.
وَصِيَامُهُ حَسَنٌ.
وَقَدْ رَأَيْتُ بَعْضَ أَهْلِ الْعِلْمِ يَصُومُهُ وَأُرَاهُ كَانَ يَتَحَرَّاهُ.


( جامع الصيام)

( مالك عن أبي النضر) بفتح النون وسكون المعجمة سالم بن أبي أمية ( مولى عمر بن عبيد الله) بضم العينين ( عن أبي سلمة بن عبد الرحمن) بن عوف ( عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم) هكذا قال أبو النضر ووافقه يحيى بن أبي كثير في الصحيحين ومحمد بن إبراهيم وزيد بن أبي غياث عند النسائي ومحمد بن عمر وعند الترمذي كلهم عن أبي سلمة عن عائشة وخالفهم يحيى بن سعيد وسالم بن أبي الجعد فروياه عن أبي سلمة عن أم سلمة أخرجهما النسائي.
وقال الترمذي عقب طريق سالم هذا إسناد صحيح ويحتمل أن أبا سلمة رواه عن كل من عائشة وأم سلمة وأيده الحافظ بأن محمد بن إبراهيم التيمي رواه عن أبي سلمة عن عائشة تارة وعن أم سلمة تارة أخرى أخرجهما النسائي ( أنها قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم حتى نقول لا يفطر) أي ينتهي صومه إلى غاية نقول لا يفطر ( ويفطر حتى نقول لا يصوم) أي ينتهي فطره إلى غاية كذلك ( وما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم استكمل صيام شهر قط إلا رمضان) لئلا يظن وجوبه ( وما رأيته في شهر أكثر) بالنصب ثاني مفعولي رأيت ( صيامًا) بالنصب وروي بالخفض قال السهيلي وهو وهم كأنه كتب بلا ألف على لغة من يقف على المنصوب المنون بدون ألف فتوهمه مخفوضًا أو ظن بعض الرواة أنه مضاف لأن صيغة أفعل تضاف كثيرًا فتوهمها مضافة وهي ممتنعة هنا قطعًا ( منه في شعبان) متعلق بصيامًا لرفع أعمال العباد فيه ففي النسائي عن أسامة قلت يا رسول الله لم أرك تصوم من شهر من الشهور ما تصوم من شعبان قال ذلك شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان وهو شهر ترفع فيه الأعمال إلى رب العالمين فأحب أن يرفع عملي وأنا صائم فبين وجه صيامه دون غيره برفع الأعمال فيه وأنه يغفل عنه لأنه لما اكتنفه شهران عظيمان الشهر الحرام وشهر الصيام اشتغل الناس بهما فصار مغفولاً عنه ونحوه في حديث عائشة عند أبي يعلى لكن قال فيه إن الله يكتب كل نفس ميتة تلك السنة فأحب أن يأتي أجلي وأنا صائم ولا يعارضه النهي عن تقدم رمضان بيوم أو يومين بحمله على من لم يدخل في صيام اعتاده قال بعضهم كثير من الناس يظن أن صيام رجب أفضل منه لأنه شهر حرام وليس كذلك وقال أكثر فيه تعظيمًا لرمضان لحديث أنس سئل صلى الله عليه وسلم أي الصوم أفضل بعد رمضان قال شعبان لتعظيم رمضان رواه الترمذي وقال غريب ويعارضه خبر مسلم الآتي وقيل لأنه كان يصوم ثلاثة أيام من كل شهر وربما منعه من صومها عذر وكان يقضيها في شعبان قبل تمام عامه وفيه حديث ضعيف أخرجه الطبراني عن عائشة كان صلى الله عليه وسلم يصوم ثلاثة أيام من كل شهر فربما أخر ذلك حتى يجمع عليه صوم السنة فيصوم شعبان وحديث الباب دال على ضعفه فإن قيل قد قال صلى الله عليه وسلم أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم رواه مسلم فكيف أكثر منه في شعبان دونه أجيب باحتمال أنه لم يعلم فضل المحرم إلا في آخر حياته قبل التمكن من صومه أو لعله كان يعرض له أعذار تمنع من إكثار الصوم فيه كسفر ومرض وغيرهما وقد عورض هذا الحديث بما في الصحيحين من طريق يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن عائشة لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يصوم شهرًا أكثر من شعبان فإنه كان يصوم شعبان كله وجمع بينهما بأن المراد بكله غالبه لحديث الباب فهو مفسر لهذا فأطلق الكل على الأكثر وقد قال ابن المبارك جائز في كلام العرب إذا صام أكثر الشهر أن يقول صام الشهر كله ويقال قام فلان ليلته أجمع ولعله قد تعشى واشتغل ببعض أمره نقله الترمذي وقال كأنه جمع بين الحديثين بذلك فالمراد بالكل الأكثر وهو مجاز قليل الاستعمال واستبعده الطيبي بأن كل تأكيد لإرادة الشمول ودفع التجوز من احتمال البعض فتفسيره بالبعض مناف له انتهى لكن ذلك لا يمتنع هنا لما علم أن الحديث يفسر بعضه خصوصًا والمخرج متحد ويكفي نقل ابن المبارك له عن العرب ومن حفظ حجة وفي مسلم من وجه آخر عن أبي سلمة عنها كان يصوم شعبان كله قال يصوم شعبان إلا قليلاً ولم يعين فاعل قال واستبعده الحافظ العراقي بأن في الترمذي عن أم سلمة قالت ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم شهرين متتابعين إلا شعبان ورمضان فعطف رمضان عليه يبعد أن يكون المراد بشعبان أكثره إذ لا يجوز أن المراد برمضان بعضه والعطف يقتضي المشاركة فيما عطف عليه وإن مشى ذلك فإنما يمشي على رأي من يقول إن اللفظ الواحد يحمل على حقيقته ومجازه وفيه خلاف لأهل الأصول قال غيره بل لا يمشي ذلك على هذا القول أيضًا لأن من قال ذلك قاله في اللفظ الواحد وما هنا لفظان شعبان ورمضان انتهى وهو أيضًا استبعاد لا يمنع إرادته للقرينة وجمع الطيبي بينهما بأنه كان يصومه كله في وقت ويصوم معظمه في آخر لئلا يتوهم وجوبه كله كرمضان وتعقب بأن قولها كان يصوم شعبان كله يقتضي تكرار الفعل وأن ذلك عادة له على ما هو المعروف في مثل هذه العبارة وقد اختلف في دلالة كان على التكرار فصحح ابن الحاجب أنها تقتضيه قال وهذا استفدناه من قولهم كان حاتم يقري الضيف وصحح الرازي أنها لا تقتضيه لا لغة ولا عرفًا وقال النووي إنه المختار الذي عليه الأكثرون والمحققون من الأصوليين وذكر ابن دقيق العيد أنها تقتضيه عرفًا فالتعقب مبني على أحد القولين وجمع أيضًا بأنه كان يصوم تارة من أوله وأخرى من وسطه وأخرى من آخره وما يخلي منه شيئًا بلا صيام لكن في أكثر من سنة وتعقب بأن أسماء الشهور إذا ذكرت غير مضاف إليها لفظ شهر كان العمل عامًا لجميعها لا تقول سرت المحرم وقد سرت بعضًا منه ولا تقول صمت رمضان وإنما صمت بعضه فإن أضفت الشهر إليه لم يلزم التعميم هذا مذهب سيبويه وتبعوه عليه قال الصفار ولم يخالف في ذلك إلا الزجاج.
وقال الزين بن المنير إما أن يحمل قول عائشة على المبالغة والمراد الأكثر وإما أن يجمع بأن قولها الثاني متأخر عن قولها الأول فأخبرت عن أول أمره أنه كان يصوم أكثره وأخبرت ثانيًا عن آخر أمره أنه كان يصومه كله قال الحافظ ولا يخفى تكلفه والأول هو الصواب ويؤيده قول عائشة في مسلم والنسائي ولا صام شهرًا كاملاً قط منذ قدم المدينة غير رمضان وهو مثل حديث ابن عباس في الصحيحين وجمع أيضًا بأن قولها كان يصوم شعبان كله محمول على حذف أداة الاستثناء والمستثنى أي إلا قليلاً منه ويدل عليه رواية عبد الرزاق بلفظ ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر صيامًا منه في شعبان فإنه كان يصومه كله إلا قليلاً وهذا يرجع في المعنى إلى الجمع الأول وهذا الحديث رواه البخاري عن عبد الله بن يوسف ومسلم عن يحيى بن يحيى كلاهما عن مالك به ( مالك عن أبي الزناد) عبد الله بن ذكوان ( عن الأعرج) عبد الرحمن بن هرمز ( عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الصيام جنة) بضم الجيم وشد النون أي وقاية وسترة قيل من المعاصي لأنه يكسر الشهوة ويضعفها ولذا قيل إنه لجام المتقين وجنة المحاربين ورياضة الأبرار والمقربين وقيل جنة من النار وبه جزم ابن عبد البر لأنه إمساك عن الشهوات والنار محفوفة بها وقد زاد الترمذي وسعيد بن منصور عن مغيرة بن عبد الرحمن عن أبي الزناد من النار ولأحمد من طريق أبي يونس عن أبي هريرة جنة وحصن حصين من النار وللنسائي من حديث عثمان بن أبي العاصي جنة كجنة أحدكم من القتال وللطبراني عنه جنة يستجن بها العبد من النار وللبيهقي عنه جنة من عذاب الله ولأحمد من حديث أبي عبيدة بن الجراح الصيام جنة ما لم يخرقها زاد الدارمي بالغيبة والتفسيران متلازمان لأنه إذا كف نفسه عن المعاصي في الدنيا كان سترًا له من النار وفي الإكمال معناه يستر من الآثام أو من النار أو من جميع ذلك وبالأخير جزم النووي وأشار ابن عبد البر إلى ترجيح الصيام على غيره فقال حسبك لكونه جنة من النار فضلاً وروى النسائي بإسناد صحيح عن أبي أمامة قلت يا رسول الله مرني بأمر آخذه عنك قال عليك بالصوم فإنه لا مثل له وفي رواية لا عدل له والمشهور عند الجمهور ترجيح الصلاة للحديث الصحيح واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة ( فإذا كان أحدكم صائمًا فلا يرفث) بالمثلثة وتثليث الفاء أي لا يفحش ويتكلم بالكلام القبيح ويطلق أيضًا على الجماع ومقدماته وعلى ذكره مع النساء أو مطلقًا ويحتمل أن النهي لما هو أعم منها ( ولا يجهل) أي لا يفعل فعل الجهال كصياح وسفه وسخرية ونحو ذلك وعن سعيد بن منصور من طريق أبي صالح عن أبي هريرة ولا يجادل وهذه الثلاثة ممنوعة مطلقًا لكنها تتأكد بالصوم ولذا قال القرطبي لا يفهم من هذا إباحة ذلك في غير الصوم وإنما المراد أن المنع من ذلك يتأكد بالصوم قال الباجي الجهل ضد العلم يتعدى بغير حرف جر والجهل ضد الحلم يتعدى بحرف الجر قال الشاعر:

ألا لا يجهلن أحد علينا

( فإن) بتخفيف النون وفي رواية وإن بالواو ( امرؤ قاتله أو شاتمه) قال عياض قاتله دافعه ونازعه ويكون بمعنى شاتمه ولاعنه وقد جاء القتل بمعنى اللعن وفي رواية أبي صالح فإن سابه أحد أو قاتله وفي رواية فإن سابه أحد أو ما رآه يعني جادله ولأحمد فإن شاتمك أحد فقل إني صائم وإن كنت قائمًا فاجلس واستشكل ظاهره بأن المفاعلة تقتضي وقوع الفعل من الجانبين مع أن الصائم مأمور بأن يكف نفسه عن ذلك وأجاب الباجي بأن المفاعلة هنا للواحد كسافر أو المعنى فإن أراد أن يشاتمه أو يقاتله أو إن وجدت منهما جميعًا فليذكر الصوم ولا يستدم ذلك وأجاب غيره بأن المراد بالمفاعلة التهيؤ لها أي أن يتهيأ أحد لقتاله أو مشاتمته ( فليقل إني صائم إني صائم) مرتين تأكيدًا للانزجار منه أو ممن يخاطبه قال ابن عبد البر قيل يقوله بلسانه للمشاتم والمقاتل أي وصومي يمنعني من ذلك ومعنى المقاتلة مقاتلته بلسانه وقيل يقوله في نفسه أي فلا سبيل إلى شفاء غيظك ولا ينطق بأني صائم لما فيه من الرياء واطلاع الناس عليه لأن الصوم من العمل الذي لا يظهر ولذا يجزي الله الصائم أجره بغير حساب انتهى وبالثاني جزم المتولي ونقله الرافعي عن الأئمة ورجح النووي الأول في الأذكار وقال في شرح المهذب كل منهما حسن والقول باللسان أقوى ولو جمعهما كان حسنًا ونقل الزركشي إن ذكرها في الحديث مرتين إشارة لذلك فيقولها بقلبه ليكف نفسه وبلسانه ليكف خصمه وقال الروياني إن كان في رمضان فبلسانه وإلا ففي نفسه وادعى ابن العربي أن الخلاف في النفل أما الفرض فبلسانه قطعًا وقال في المصابيح الظاهر أن هذا القول علة لتأكيد المنع فكأنه يقول لخصمه إني صائم تحذيرًا وتهديدًا بالوعيد المتوجه على من انتهك حرمة الصائم وتذرع إلى تنقيص أجره بإيقاعه في المشاتمة أو بذكر نفسه تشديد المنع المعلل بالصوم ويكون من إطلاق القول على الكلام النفسي وظاهر كون الصوم جنة أن يقي صاحبه من أن يؤذى كما يقيه أن يؤذي والحديث رواه البخاري وأبو داود عن عبد الله بن مسلمة القعنبي عن مالك به وتابعه سفيان بن عيينة عن أبي الزناد عند مسلم ( مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال والذي نفسي بيده) إن شاء أبقاها وإن شاء أخذها وهو قسم كان يقسم به كثيرًا وأقسم تأكيدًا ( لخلوف) بضم الخاء المعجمة واللام وسكون الواو وبالفاء على الصحيح المشهور قال عياض الرواية الصحيحة بضم الخاء وكثير من الشيوخ يروونه بفتحها قال الخطابي وهو خطأ وحكى القابسي فيه الضم والفتح وقال أهل المشرق يقولونه بالوجهين والصواب الضم أي تغير رائحة ( فم الصائم) لخلو المعدة بترك الأكل وقال البرقي هو تغير طعم الفم وريحه بتأخير الطعام قال الباجي وليس هذا التفسير على أصل مالك وإنما هو على مذهب الشافعي وإنما يعتبر مالك تغير رائحة الفم كما تقدم وفيه رد على من قال لا تثبت الميم في الفم إلا في ضرورة الشعر لثبوته في هذا الحديث الصحيح وغيره ( أطيب عند الله) زاد مسلم والنسائي من رواية أبي صالح عن أبي هريرة يوم القيامة ( من ريح المسك) فتعلق به العز بن عبد السلام فقال هذا الطيب في الآخرة خاصة ولأبي الشيخ بإسناد فيه ضعف عن أنس مرفوعًا يخرج الصائمون من قبورهم يعرفون بريح أفواههم أفواههم أطيب عند الله من ريح المسك وقال ابن الصلاح هو عام في الدنيا والآخرة لرواية ابن حبان لخلوف فم الصائم حين يخلف أطيب عند الله من ريح المسك وروى الحسن بن سفيان في مسنده عن جابر مرفوعًا أعطيت أمتي في شهر رمضان خمسًا قال وأما الثانية فإنهم يمسون وخلوف أفواههم أطيب عند الله من ريح المسك حسنه أبو بكر بن السمعاني في أماليه وكل واحد من الحديثين صريح بأنه في وقت وجود الخلوف في الدنيا يتحقق وصفه بكونه أطيب عند الله من ريح المسك قال الخطابي طيبه عند الله رضاه به وثناؤه وقال ابن عبد البر معناه أزكى عند الله وأقرب إليه عنده من ريح المسك وقال البغوي معناه الثناء على الصائم والرضا بفعله وقال القدوري إمام الحنفية معناه أفضل عند الله من الروائح الطيبة ومثله قال البوني من قدماء المالكية وأبو عثمان الصابوني وأبو بكر السمعاني وأبو حفص الشافعيون وأبو بكر بن العربي فهؤلاء أئمة المسلمين شرقًا وغربًا لم يذكروا سوى ما ذكرته ولم يذكر أحد منهم وجهًا بتخصيصه بالآخرة مع أن كتبهم جامعة للوجوه المشهورة والغريبة ومع أن الرواية التي فيها يوم القيامة مشهورة في الصحيح بل جزموا بأنه عبارة عن الرضا والقبول ونحوهما مما هو ثابت في الدنيا والآخرة وأما ذكر يوم القيامة في تلك الرواية فلأنه يوم الجزاء وفيه يظهر رجحان الخلوف في الميزان على المسك المستعمل لدفع الرائحة الكريهة طلبًا لرضا الله حيث يؤمر باجتنابها واجتلاب الرائحة الطيبة كما في المساجد والصلوات وغيرها من العبادات فخص يوم القيامة في رواية لذلك كما خص قوله تعالى { { إن ربهم بهم يومئذ لخبير } } وأطلق في باقي الروايات نظرًا إلى أن أصل أفضليته ثابت في الدارين انتهى وهذه إحدى المسائل التي اختلف فيها المتعاصران المذكوران ابن الصلاح والعز وقد اختلف في معناه لأن استطابة الروائح من صفات الحيوان الذي له طبع يميل إلى الشيء فيستطيبه أو ينفر عنه فيستقذره والله سبحانه منزه عن ذلك مع أنه يعلم الأشياء على ما هي عليه فقال المازري هو مجاز لأنه جرت العادة بتقريب الروائح الطيبة منا فاستعير ذلك لتقريب الصوم من الله فالمعنى أطيب عند الله من ريح المسك عندكم أي يقرب إليه أكثر من تقريب المسك إليكم وإلى هذا أشار ابن عبد البر وقيل معناه أن حكم الخلوف والمسك عند الله على ضد ما هو عندكم وهو قريب مما قبله وقيل معناه أن الله يثيبه في الآخرة حتى تكون نكهته أطيب من ريح المسك كما يأتي المكلوم وريح جرحه يفوح مسكًا وقيل معناه أن صاحبه ينال من الثواب ما هو أفضل من ريح المسك لا سيما بالإضافة إلى الخلوف حكاهما عياض وقال الداودي وجماعة المعنى أن الخلوف أكثر ثوابًا من المسك المندوب في الجمع والأعياد ومجالس الذكر والخير وصححه النووي وحاصله حمل معنى الطيب على القبول والرضا ونقل القاضي حسين أن للطاعات يوم القيامة ريحًا يفوح قال فريح الصيام فيها بين العبادات كالمسك وقيل المعنى أطيب عند ملائكة الله وأنهم يستطيبون الخلوف أكثر من المسك وإن كان عندنا بضد ذلك وقال ابن بطال أي أزكى عند الله إذ هو تعالى لا يوصف بالشم وقال ابن المنير لكنه يوصف بأنه عالم بهذا النوع من الإدراك وكذلك بقية المدركات المحسوسات يعلمها تعالى على ما هي عليه لأنه خالقها ألا يعلم من خلق وهذا مذهب الأشعري فإن قيل لم كان أطيب ودم الشهيد ريحه ريح المسك مع ما فيه من المخاطرة بالنفس وبذل الروح أجيب بأن الصوم أحد أركان الإسلام فهو أعظم من الجهاد أو نظرًا إلى أصل كل منهما فأصل الخلوف طاهر بخلاف الدم فكأن ما أصله طاهر أطيب ريحًا وبأن الجهاد فرض كفاية والصوم فرض عين وهو أفضل من الكفاية وروى أحمد مرفوعًا دينار تنفقه على أهلك ودينار تنفقه في سبيل الله أفضلهما الذي تنفقه على أهلك ففضل النفقة على الأهل لأنه فرض عين على النفقة في الجهاد لأنه كفاية ولا يعارضه ما رواه الطيالسي عن أبي قتادة قال خطب النبي صلى الله عليه وسلم فذكر الجهاد وفضله على سائر الأعمال المكتوبة لاحتمال أن يكون ذلك قبل وجوب الصيام وقول إمام الحرمين وطائفة فرض الكفاية أفضل من فرض العين ضعيف فنص الشافعي فرض العين أفضل وقد قال صلى الله عليه وسلم لمن سأله عن أفضل الأعمال عليك بالصوم ( إنما يذر) بذال معجمة بترك الصائم ولم يصرح بنسبته إلى الله تعالى للعلم به وعدم الإشكال فيه ولأحمد عن إسحاق بن الطباع عن مالك يقول الله عز وجل إنما يذر ( شهوته) أي الجماع ولابن خزيمة زوجته ( وطعامه وشرابه) فالعطف مغاير وإن جعلت شهوته عامة فهو من الخاص بعد العام وفي فوائد سموية يترك شهوته من الطعام والشراب والجماع ( من أجلي) لامتثال شرعي ذلك قال الحافظ قد يفهم الحصر التنبيه على الجهة التي يستحق بها الصائم ذلك وهو الإخلاص الخاص به حتى لو صام لغرض آخر لتخمة لا يحصل له ذلك الفضل لكن المدار في هذه الأشياء على الداعي القوي الذي يدور معه الفعل وجودًا وعدمًا ولا شك أن من لم يعرض له في خاطره شهوة شيء طول نهاره ليس في الفضل كمن عرض له ذلك فجاهد نفسه في تركه ( فالصيام لي) بفاء السببية ( وأنا أجزي) بفتح الهمزة ( به) صاحبه ولما أفاد سعة الجزاء وفخامته لتوليه بنفسه دفع توهم أن له غاية ينتهي إليها كغيره من الأعمال بقوله ( كل حسنة بعشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلا الصيام فهو لي وأنا أجزي به) بلا عدد ولا حساب وأعاده للتأكيد وهذا كقوله تعالى { { إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب } } والصابرون الصائمون في أكثر الأقوال لأنهم يصبرون أنفسهم عن الشهوات وعنه سموية إلا الصوم فإنه لا يدري أحد ما فيه وللبيهقي والطبراني عن ابن عمر في حديث وأما العمل الذي لا يعلم مقدار ثواب عامله إلا الله فالصيام واتفقوا على أن المراد بالصائم هنا من سلم صيامه من المعاصي قولاً وفعلاً ونقل ابن العربي عن بعض الزهاد تخصيصه بصوم خواص الخواص فإنه أربعة أنواع صيام العوام وهو الصوم عن المفطرات وصيام خواص العوام وهو هذا مع اجتناب المحرمات قولاً وفعلاً وصيام الخواص وهو الصوم عن غير ذكر الله وعبادته وصيام خواص الخواص وهو الصوم عن غير الله فلا فطر لهم إلى يوم لقائه قال الحافظ وهذا مقام عال لكن في حصر المراد من الحديث في هذا النوع نظر لا يخفى وقد اختلف في معناه مع أن الأعمال كلها لله وهو الذي يجزي بها على عشرة أقوال أحدها: أن الصيام لا يقع فيه رياء كغيره حكاه المازري ونقله عياض عن أبي عبيد ويؤيده حديث الصيام لا رياء فيه قال الله عز وجل هو لي وأنا أجزي به رواه البيهقي عن أبي هريرة بإسناد ضعيف وأبو عبيد مرسلاً ولو صح لرفع النزاع وكونه لا رياء فيه معناه في فعله وإن كان فيه الرياء بالقول كمن يخبر بأنه صائم رياء فإنما يقع الرياء فيه من الإخبار بخلاف بقية الأعمال قد يدخلها بمجرد فعلها وحاول بعضهم إلحاق الذكر بالصوم لإمكان فعله بحركة اللسان ولا يشعر الحاضرون ثانيها معناه أنا المنفرد بعلم مقدار ثوابه وتضعيف حسناته وغيره من العبادات أظهر سبحانه بعض مخلوقاته عليها ولا يبطله كما ادعى القرطبي أن صوم اليوم بعشرة أيام كما في الأحاديث لأنه يكتب كذلك وأما قدر ثوابه فلا يعلمه إلا الله ثالثها معناه أحب العبادات إلي والمقدم عندي ولذا قال أبو عمر كفى به فضلاً للصيام على سائر العبادات وللنسائي عليك بالصوم فإنه لا مثل له لكن يعكر عليه الحديث الصحيح واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة رابعها الإضافة للتشريف والتعظيم كما يقال بيت الله وإن كانت البيوت كلها لله وناقة الله وأن المساجد لله مع أن العالم كله لله قال الزين بن المنير التخصيص في موضع التعميم في مثل هذا السياق لا يفهم منه إلا التشريف والتعظيم خامسها أن الاستغناء عن الطعام وغيره من الشهوات من صفات الله تعالى فلما تقرب إليه الصائم بما يوافق صفاته أضافه إليه وإن كانت صفات الله لا يشبهها شيء سادسها المعنى كذلك لكن بالنسبة إلى الملائكة لأنه من صفاتهم سابعها أنه خاص لله تعالى وليس للعبد حظ فيه قاله الخطابي ونقله عياض وغيره فإن أراد بالحظ الثناء عليه للعبادة رجع إلى المعنى الأول وبه أفصح ابن الجوزي فقال لا حظ فيه للصائم بخلاف غيره فله فيه حظ لثناء الناس عليه أي وإن أراد عدم انبساط نفسه به أصلاً غالبًا بخلاف غيره من العبادات فيوجد للنفس فيها حظ كالغسل والوضوء فله فيه حظ التبرد أو التدفي وكالحج فله فيه حظ التنقل والتفرج على الأمكنة وهكذا فلا يرجع إلى المعنى الأول بل يكون غيره وهذا هو الظاهر ثامنها سبب إضافته إلى الله أنه لم يعبد به غيره بخلاف الصلاة والصدقة والطواف ونحو ذلك واعترض بأن عباد النجوم وأصحاب الهياكل والاستخدامات يتعبدون لها بالصيام وأجيب بأنهم لا يعتقدون إلهية الكواكب وإنما يعتقدون أنها فعالة بنفسها وليس هذا الجواب بطائل لأنهم طائفتان إحداهما تعتقد إلهية الكواكب وهم من كان قبل ظهور الإسلام وبقي منهم من بقي على كفره والأخرى من دخل في الإسلام وبقي على تعظيم الكواكب وهم الذين أشير إليهم تاسعها أن جميع العبادات يوفى منها مظالم العباد إلا الصيام رواه البيهقي عن ابن عيينة قال إذا كان يوم القيامة يحاسب الله عبده ويؤدي ما عليه من المظالم من عمله حتى لا يبقى له إلا الصوم فيتحمل الله ما بقي عليه من المظالم ويدخله بالصوم الجنة وتعقبه القرطبي بأن ظاهر حديث المقاصة أنه يؤخذ كبقية الأعمال لأن فيه المفلس يأتي يوم القيامة بصلاة وصدقة وصيام ويأتي وقد شتم هذا وضرب هذا وأخذ مال هذا فيؤخذ لهذا من حسناته ولهذا من حسناته فإن فنيت حسناته قبل ما يقتص ما عليه طرحت عليه سيئاتهم ثم طرح في النار قلت إن ثبت قول ابن عيينة أمكن تخصيص الصيام من ذلك وقد يدل له حديث أحمد عن أبي هريرة رفعه كل العمل كفارة إلا الصوم الصوم لي وأنا أجزي به رواه أبو داود بلفظ قال ربكم كل العمل كفارة إلا الصوم فهذا الاستثناء شاهد لذلك لكن يعارضه حديث حذيفة في الصحيحين فتنة الرجل في أهله وماله وولده وجاره يكفرها الصلاة والصيام والصدقة ويجاب بحمل الإثبات على كفارة شيء مخصوص والنفي على كفارة شيء آخر فإنه مقيد بفتنة المال وما ذكر معه لكن حمله البخاري على تكفير مطلق الخطيئة ويؤيده ما في مسلم الصلوات الخمس ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر ولابن حبان مرفوعًا من صام رمضان وعرف حدوده كفر ما قبله ولمسلم صيام عرفة يكفر سنتين وصيام عاشوراء يكفر سنة وعلى هذا فقوله كل العمل كفارة إلا الصيام أي فإنه كفارة وزيادة ثواب على الكفارة بشرط خلوصه من الرياء والشوائب عاشرها أن الصوم لا يظهر فتكتبه الحفظة كما لا تكتب سائر أعمال القلوب واستند قائله إلى حديث واهٍ جدًا أورده ابن العربي في المسلسلات ولفظه قال الله الإخلاص سر من سري استودعته قلب من أحب لا يطلع عليه ملك فيكتبه ولا شيطان فيفسده ويكفي في رده الحديث الصحيح في كتابة الحسنة لمن هم بها ولم يعملها فهذا ما وقفت عليه من الأجوبة وأقربها إلى الصواب الأول والثاني ويقرب منهما الثامن والتاسع وبلغني أن الطالقاني بلغها أكثر في حظائر القدس ولم أقف عليه انتهى ملخصًا وقال بعض الصوفية معناه أن الصوم لي لا لك أي أنا الذي ينبغي لي أن لا أطعم ولا أشرب وإذا كان كذلك وكان دخولك فيه لأني شرعته لك فأنا أجزي به كأنه يقول أنا جزاؤه لأن صفة التنزيه عن الطعام والشراب والشهوة تطلبني وقد تلبست بها وليست لك لكنك اتصفت بها حال صومك فهي تدخلك علي فإن الصبر حبس النفس وقد حبستها بأمري عما تقتضيه حقيقتها من الطعام والشراب والشهوة فلذا قال للصائم فرحتان فرحة عند فطره وفرحة عند لقاء ربه رواه الشيخان وفرحة الفطر لروحه الحيواني لا غير والثانية لنفسه الناطقة لطيفة ربانية فأورثه الصوم لقاء الله وهو المشاهدة انتهى وقد علم كل أناس مشربهم والحديث رواه البخاري عن القعنبي عن مالك لكنه وصله بالحديث قبله لاتحاد إسنادهما وقد فعل ذلك غير مرة ولا مانع منه كما قدمته عن الحافظ لكنه قال هنا هما حديثان أفردهما الموطأ وجمعهما عنه القعنبي وعنه رواه البخاري هنا انتهى وأخرجه أبو داود والترمذي والنسائي كلهم من طريق مالك وغيره وتابعه جماعة عن أبي الزناد في الصحيحين وغيرهما والله أعلم ( مالك عن عمه أبي سهيل) نافع ( بن مالك عن أبيه) مالك بن أبي عامر المدني الأصبحي ( عن أبي هريرة أنه قال) كذا وقع موقوفًا في الموطآت إلا موطأ معن بن عيسى فرفعه وهو لا يكون إلا توقيفًا قاله ابن عبد البر وقد رواه الشيخان من طريق إسماعيل بن جعفر الأنصاري ومن طريق الزهري كلاهما عن أبي سهيل المذكور عن أبيه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ( إذا دخل رمضان فتحت) بتشديد الفوقية ويجوز تخفيفها ( أبواب الجنة) حقيقة لمن مات فيه أو عمل عملاً لا يفسد عليه وذلك علامة للملائكة لدخول الشهر وتعظيم حرمته وللبخاري أبواب السماء فقيل إنه من تصرف الرواة وأصله الجنة وقال ابن بطال المراد من السماء الجنة بقرينة قوله ( وغلقت أبواب النار) حقيقة أيضًا لذلك ( وصفدت) بضم المهملة وشد الفاء غلت ( الشياطين) أي شدت بالأصفاد وهي الأغلال التي يغل بها اليدان والرجلان وتربط في العنق وهي بمعنى رواية البخاري وسلسلت الشياطين حقيقة أيضًا منعًا لهم من أذى المؤمنين والتشويش عليهم أو مجاز عن كثرة الثواب والعفو ويؤيده رواية لمسلم فتحت أبواب الرحمة إلا أن يقال الرحمة من أسماء الجنة أو من تصرف الرواة وأن الشياطين يقل إغواؤهم وإيذاؤهم فيكونون كالمصفدين ويكون تصفيدهم عن أشياء لناس دون ناس لحديث صفدت مردة الشياطين أو فتح أبواب الجنة عبارة عما يفتحه الله لعباده من الطاعات في هذا الشهر التي لا تقع في غيره عمومًا كالصيام والقيام وفعل الخيرات والانكفاف عن كثير من المخالفات وهذه أسباب لدخول الجنة وأبواب لها وكذلك تغليق أبواب النار وتصفيد الشياطين عبارة عما ينكفون عنه من المخالفات هكذا أبدى القاضي عياض احتمالي الحقيقة والمجاز على السواء ونقله النووي وأقره ورجح القرطبي وابن المنير الحقيقة إذ لا ضرورة تدعو إلى صرف اللفظ عن ظاهره وقال ابن العربي لا تمتنع الحقيقة لأنهم ذرية إبليس يأكلون ويشربون ويطؤون ويموتون ويعذبون ولا ينعمون وقال ابن بزيزة يدل على أن التصفيد حقيقة ما في كثير من الأخبار أنها تصفد وترمى في البحر ورجح التوربشتي المجاز فقال هو كناية عن تنزيل الرحمة وإزالة الغلق عن مصاعد أعمال العباد تارة ببذل التوفيق وأخرى بحسن القبول وغلق أبواب جهنم عبارة عن تنزه أنفس الصوام عن رجس الفواحش والتخلص من البواعث على المعاصي بقمع الشهوات ويمنع حمله على ظاهره أنه ذكر على سبيل المن على الصوام وإتمام النعمة عليهم فيما أمروا به وندبوا إليه حتى صارت الجنان في هذا الشهر كأن أبوابها فتحت ونعيمها هيئ والنيران كأن أبوابها غلقت وأنكالها عطلت وإذا ذهبنا إلى الظاهر لم تقع المنة موقعها وتخلو عن الفائدة لأن الإنسان ما دام في الدنيا غير ميسر لدخول إحدى الدارين ورده الطيبي بأن فائدة الفتح توقيف الملائكة على استحماد فعل الصائمين وأن ذلك منه تعالى بمنزلة عظيمة وأيضًا إذا علم المكلف المعتقد ذلك بإخبار الصادق يزيد ذلك في نشاطه ويتلقاه بمزيد القبول ويشهد له حديث عمر إن الجنة لتزخرف لرمضان قال ابن العربي وقد استراب مريب فقال نرى المعاصي في رمضان كما هي في غيره فما هذا التصفيد وما معنى الحديث وقد كذب وجهل فإنه لا يتعين في المعاصي والمخالفة أن تكون من وسوسة الشيطان إذ قد يكون من النفس وشهواتها سلمنا أنه من الشيطان فليس من شرط وسوسته التي يجدها الإنسان في نفسه اتصالها بالنفس إذ قد يكون مع بعده عنها لأنها من فعل الله فكما يوجد الألم في جسد المسحور والمعيون عند تكلم الساحر أو العاين فكذلك يوجد عند وسوسته من خارج أو أن المراد بالشياطين المردة لأنهم في الكفر والتمرد طبقات فتصفد المردة لا غير فتقل المخالفات ولا شك في قلتها في رمضان فمن زعم أنها فيه كغيره فقد باهت وسقطت مكالمته انتهى.
ويؤيد هذا رواية الترمذي وغيره صفدت الشياطين مردة الجن وأجاب القرطبي بأنها إنما تغل عن الصائمين الصوم الذي حوفظ على شروطه وروعيت آدابه وقال الحليمي إن المراد بالشياطين مسترقو السمع منهم لأنهم كانوا منعوا في زمن نزول القرآن من استراقه فزيدوا التسلسل في رمضان مبالغة في الحفظ ويحتمل أن المراد أن الشياطين لا يخلصون من افتتان المسلمين إلى ما يخلصون إليه في غيره لاشتغالهم بالصيام الذي فيه قمع الشهوات وقراءة القرآن والذكر انتهى.
وقال غيره المراد بعضهم وهم المردة لحديث الترمذي والنسائي وابن ماجه وابن حبان والحاكم عن أبي هريرة مرفوعًا إذا كان أول ليلة من شهر رمضان صفدت الشياطين مردة الجن وغلقت أبواب النار فلم يفتح منها باب وفتحت أبواب الجنة فلم يغلق منها باب ونادى مناد يا باغي الخير أقبل ويا باغي الشر أقصر فلله عتقاء من النار وذلك كل ليلة ( مالك أنه سمع أهل العلم لا يكرهون السواك للصائم في رمضان في ساعة من ساعات النهار لا في أوله) وهو ما قبل الزوال فإنه مجمع على استحبابه ( ولا في آخره) من الزوال للغروب ( ولم أسمع أحدًا من أهل العلم يكره ذلك ولا ينهى عنه) بل يستحبونه لظاهر الأدلة كحديث أفضل خصال الصائم السواك ولم يخص وقتًا وخبر لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك مع كل صلاة ولم يخص صائمًا من غيره ولا وقتًا وقال عامر بن ربيعة رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يستاك وهو صائم ما لا أعد ولا أحصي رواه أبو داود وغيره وبهذا قال عمر وابن عباس وجماعة من التابعين وأبو حنيفة والثوري والأوزاعي وقال النووي في شرح المهذب إنه المختار وكره عطاء ومجاهد والشافعي وإسحاق وأبو ثور السواك للصائم آخر النهار لحديث خلوف فم الصائم لأنه يزيل الخلوف الذي هذه صفته وفضيلته وإن كان في السواك فضل لكن فضل الخلوف أعظم وتعقب بأن الخلوف لا ينقطع ما دامت المعدة خالية غايته أنه يخف وقال بعضهم السواك مطهرة للفم فلا يكره كالمضمضة للصائم لا سيما وهي رائحة تتأذى بها الملائكة فلا تترك هنالك وأما الخبر ففائدته عظيمة بديعة وهي أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما مدح الخلوف نهيًا للناس عن تقذر مكالمة الصائمين بسبب الخلوف لا نهيًا للصائمين عن السواك والله غني عن وصول الرائحة الطيبة إليه فعلمنا يقينًا أنه لم يرد بالنهي بقاء الرائحة وإنما أراد نهي الناس عن كراهتها وهذا التأويل أولى لأن فيه إكرام الصائم ولا تعرض فيه للسواك فيذكر أو يتأول ولذا قال ابن دقيق العيد يحتاج إلى دليل خاص بهذا الوقت يخص به عموم عند كل صلاة وفي رواية عند كل وضوء وحديث الخلوف لا يخصصه انتهى.
وتعقب قياسه على دم الشهيد بالفرق بأن الصائم مناج لربه فندب له تطييب فمه والشهيد ليس بمناج وهو جيفة أشد من الدم فزواله لا يؤثر شيئًا بل بقاؤه يوجب مزيد الرحمة له ولأنه أثر الظلم الذي ينتصف به من خصمه وسبيل الخصومة الظهور ولأنه بعد الموت فيأمن فيه الرياء ولا يرد أن مناجاة الصائم لربه مع دوام الخلوف أولى لقوله أطيب عند الله من ريح المسك لأن مدحه يدل على فضله لا على أفضليته على غيره فهذا الوتر أفضل من الفجر وفي الحديث ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها وكم من عبادة أثنى عليها مع فضل غيرها عليها وهذه المسألة من قاعدة ازدحام المصالح التي يتعذر الجمع بينها فالسواك إجلالاً لله حال مناجاته في الصلاة لأن تطهير الفم للمناجاة تعظيم لها والخلوف منافٍ لذلك فقدم السواك لخبر لولا أن أشق ( قال يحيى وسمعت مالكًا يقول في صيام ستة أيام بعد الفطر من رمضان أنه لم ير أحدًا من أهل العلم والفقه) الاجتهاد ( يصومها ولم يبلغني ذلك عن أحد من السلف) الذين لم أدركهم كالصحابة وكبار التابعين ( وأن أهل العلم يكرهون ذلك ويخافون بدعته وأن يلحق) بضم الياء وكسر الحاء ( برمضان ما ليس منه أهل الجهالة) بالرفع فاعل يلحق ( والجفاء) الغلظة والفظاظة ( لو رأوا في ذلك رخصة عند أهل العلم ورأوهم يعملون ذلك) قال مطرف فإنما كره صيامها لذلك فأما من صامها رغبة لما جاء فيها فلا كراهة وفي مسلم والسنن عن أبي أيوب مرفوعًا من صام رمضان ثم أتبعه ستًا من شوال كان كصيام الدهر قال عياض لأن الحسنة بعشرة والستة تمام السنة كما رواه النسائي قال شيوخنا إنما كره مالك صومها مخافة أن يلحق الجهلة برمضان غيره أما صومها على ما أراده الشرع فلا يكره وقيل لم يبلغه الحديث أو لم يثبت عنده أو وجد العمل على خلافه ويحتمل أنه إنما كره وصل صومها بيوم الفطر فلو صامها أثناء الشهر فلا كراهة وهو ظاهر قوله ستة أيام بعد الفطر من رمضان وقال أبو عمر كان مالك متحفظًا كثير الاحتياط في الدين والصيام عمل بر فلم يره من ذلك خوفًا على الجهلة كما أوضحه انتهى.
ووجه كونه لم يثبت عنده وإن كان في مسلم أن فيه سعد بن سعيد ضعفه أحمد بن حنبل وقال النسائي ليس بالقوي وقال ابن سعد ثقة قليل الحديث وقال ابن عيينة وغيره إنه موقوف على أبي أيوب أي وهو مما يمكن قوله رأيا إذ الحسنة بعشرة فله علتان الاختلاف في راويه والوقف ( وقال يحيى سمعت مالكًا يقول لم أسمع أحدًا من أهل العلم والفقه ومن يقتدى به ينهى عن صيام يوم الجمعة وصيامه حسن) أي مستحب لحديث ابن مسعود كان صلى الله عليه وسلم يصوم ثلاثة أيام من كل شهر وقلما رأيته يفطر يوم الجمعة رواه الترمذي وحسنه وصححه ابن عبد البر وقال ابن عمر ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مفطرًا يوم الجمعة قط وحديث من صام يوم الجمعة كتب له عشرة أيام غر زهر من أيام الآخرة لا تشاكلهن أيام الدنيا ( وقد رأيت بعض أهل العلم) قال أبو عمر قيل إنه محمد بن المنكدر وقيل صفوان بن سليم ( يصومه وأراه) بضم الهمزة أظنه ( كان يتحراه) قال الباجي أتى به إخبارًا لا اختيارًا لفعله لرواية ابن القاسم كراهة صوم يوم موقت أو شهر ويحتمل أن هذا قول له بكراهة قصد يوم الجمعة بالصوم وفي الصحيحين عن أبي هريرة مرفوعًا لا يصوم أحدكم يوم الجمعة إلا أن يصوم قبله يومًا أو بعده وفيهما عن جابر نهى صلى الله عليه وسلم عن صوم يوم الجمعة زاد مسلم ورب هذا البيت وللنسائي ورب الكعبة فلذا ذهب الجمهور إلى كراهة إفراده قال عياض ولعل قول مالك يرجع إليه لأنه قال صومه حسن ومذهبه كراهة تخصيص يوم معين بالصوم وإنما حكى صومه عن غيره وظنه أنه كان يتحراه ولم يقل عن نفسه وأنا أراه وأحبه وأشار الباجي إلى احتمال أنه قول آخر له يوافق الحديث وقال الداودي لم يبلغه ولو بلغه لم يخالفه قال الأبي فالحاصل أن المازري والداودي فهما من الموطأ الجواز وعياض رده إلى ما علم من مذهبه من كراهة تخصيص يوم بالصوم وعضد ذلك بما أشار إليه الباجي من احتمال أن ما في الموطأ قول آخر له بالكراهة كما في الحديث وأكثر الشيوخ إنما يحكى عن مالك الجواز وهو ظاهر قول ابن حبيب، وردّ الترغيب في صيام يوم الجمعة.



رقم الحديث 699 حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ بَلَغَهُ، أَنَّ الْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدٍ وَنَافِعًا مَوْلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَا: لَا اعْتِكَافَ إِلَّا بِصِيَامٍ بِقَوْلِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي كِتَابِهِ { { وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ، ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ.
وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ
}
}
فَإِنَّمَا ذَكَرَ اللَّهُ الِاعْتِكَافَ مَعَ الصِّيَامِ
قَالَ مَالِكٌ: وَعَلَى ذَلِكَ الْأَمْرُ عِنْدَنَا أَنَّهُ لَا اعْتِكَافَ إِلَّا بِصِيَامٍ.


( ما لا يجوز الاعتكاف إلا به)

( مالك أنه بلغه أن القاسم بن محمد) بن أبي بكر ( ونافعًا مولى عبد الله بن عمر) شيخ مالك وكأنه لم يسمعه منه فأورده بلاغًا ( قالا: لا اعتكاف إلا بصيام بقول) أي بسبب قول ( الله تبارك وتعالى في كتابه: { { وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض } } ) بياض الصبح ( { { من الخيط الأسود } } ) سواد الليل ( { { من الفجر } } ) بيان للخيط الأبيض ( { { ثم أتموا الصيام إلى الليل ولا تباشروهن } } ) لا تجامعوهن لقوله قبل { { أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم } } ثم قال فالآن باشروهن وقيل معناه لا تلامسوهن بشهوة ( { { وأنتم عاكفون } } ) معتكفون ( { { في المساجد } } فإنما ذكر الله الاعتكاف مع الصيام) فيفيد أنه لا اعتكاف إلا به نعم ليس من شرطه أن يكون للاعتكاف بل يصح بصيام رمضان وبنذر وغيره وتعقب هذا الاستدلال بأنه ليس في الآية ما يدل على تلازمهما وإلا لكان لا صوم إلا باعتكاف ولا قائل به ويرد بأن القاسم ونافعًا لم يدعيا التلازم حتى يقال لا دلالة عليه في الآية إذ مفاد كلامهما إنما هو ملزومية الاعتكاف للصائم واللازم إذا كان أعم كالصوم هنا ينفرد عن الملزوم أي يوجد بدونه فسقط قوله لا صوم إلا باعتكاف بخلاف الملزوم الذي هو الاعتكاف لا يوجد إلا بلازمه وهو الصوم فصح الاستدلال بالآية ( قال مالك وعلى ذلك الأمر عندنا أنه لا اعتكاف إلا بصيام) وبه قال ابن عمر وابن عباس رواه عنهما عبد الرزاق بإسناد صحيح وعائشة وعروة والشعبي والزهري وأبو حنيفة وقال علي وابن مسعود وجماعة من التابعين وإسحاق ابن علية وداود يصح بالصوم وعن أحمد القولان لحديث ابن عمر في الصحيحين أن عمر سأل النبي صلى الله عليه وسلم قال كنت نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام فقال أوف بنذرك والليل ليس محلاً للصوم فلو كان شرطًا لأمره به وتعقب بأنه في رواية لمسلم يومًا بدل ليلة وجمع ابن حبان وغيره بينهما بأنه نذر اعتكاف يوم وليلة فمن أطلق ليلة أراد بيومها ومن أطلق يومًا أراد بليلته وقد ورد الأمر بالصوم عند أبي داود والنسائي ولفظه قال له النبي صلى الله عليه وسلم اعتكف وصم وإن كان في إسنادهما راو ضعيف فقد انجبر بظاهر الآية ودعوى أن رواية يومًا شاذة لا تسمع مع إمكان الجمع.