فهرس الكتاب

شرح الزرقاني - بَابُ التَّرْغِيبِ فِي الْجِهَادِ

رقم الحديث 1006 حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا ذَهَبَ إِلَى قُبَاءٍ يَدْخُلُ عَلَى أُمِّ حَرَامٍ بِنْتِ مِلْحَانَ، فَتُطْعِمُهُ.
وَكَانَتْ أُمُّ حَرَامٍ تَحْتَ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ فَدَخَلَ عَلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا فَأَطْعَمَتْهُ.
وَجَلَسَتْ تَفْلِي فِي رَأْسِهِ.
فَنَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا.
ثُمَّ اسْتَيْقَظَ وَهُوَ يَضْحَكُ.
قَالَتْ فَقُلْتُ: مَا يُضْحِكُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: نَاسٌ مِنْ أُمَّتِي عُرِضُوا عَلَيَّ غُزَاةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَرْكَبُونَ ثَبَجَ هَذَا الْبَحْرِ.
مُلُوكًا عَلَى الْأَسِرَّةِ، أَوْ مِثْلَ الْمُلُوكِ عَلَى الْأَسِرَّةِ يَشُكُّ إِسْحَاقُ قَالَتْ فَقُلْتُ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ، فَدَعَا لَهَا ثُمَّ وَضَعَ رَأْسَهُ فَنَامَ.
ثُمَّ اسْتَيْقَظَ يَضْحَكُ.
قَالَتْ فَقُلْتُ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا يُضْحِكُكَ؟ قَالَ: نَاسٌ مِنْ أُمَّتِي عُرِضُوا عَلَيَّ غُزَاةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ مُلُوكًا عَلَى الْأَسِرَّةِ

( مالك عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة) زيد بن سهل الأنصاري ( عن) عمه ( أنس بن مالك قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذهب إلى قباء) بضم القاف والمدّ والصرف مذكر وبالقصر والتأنيث ومنع الصرف ( يدخل على أم حرام) بحاء وراء مهملتين مفتوحتين ( بنت ملحان) بكسر الميم وإسكان اللام ومهملة فألف فنون، واسمه مالك بن خالد بن زيد بن حرام بفتح المهملتين الأنصارية خالة أنس.
قال أبو عمر: لم أقف لها على اسم صحيح.
قال في الإصابة: ويقال إنها الرميصاء، بالراء أو الغميصاء، بالغين المعجمة، ولا يصح بل الصحيح أن ذلك وصف لأختها أم سليم ثبت ذلك في حديثين لأنس وجابر عند النسائي.
( فتطعمه) مما في بيتها من الطعام ( وكانت أم حرام تحت عبادة بن الصامت) أي كانت زوجة له حينئذ في الزمن النبوي هذا ظاهره.
وللبخاري من وجه آخر التصريح عن أنس أن عبادة تزوّجها بعد.
وجمع ابن التين بأنها كانت إذ ذاك زوجته ثم طلقها ثم راجعها بعد ذلك والحافظ يحمل رواية إسحاق على أنها جملة معترضة أراد وصفها به غير مقيد بحال من الأحوال، وظهر من رواية غيره أنه إنما تزوّجها بعد وهذا أولى لاتفاق محمد بن يحيى بن حبان وعبد الله بن عبد الرحمن أبي طوالة الأنصاري كلاهما عن أنس عند البخاري على أن عبادة تزوجها بعد ذلك.

قال: ثم ظاهر رواية إسحاق أن الحديث من مسند أنس، وكذا هو ظاهر قول أبي طوالة عن أنس: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على بنت ملحان وأما محمد بن يحيى فقال: عن أنس عن خالته أم حرام وهو ظاهر في أنه من مسند أمّ حرام وهو المعتمد وكأن أنسًا لم يحضر ذلك فحمله عن خالته.
( فدخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأطعمته) لم يوقف على تعيين ما أكل عندها يومئذ ( وجلست تفلي) بفتح الفوقية وإسكان الفاء وكسر اللام من فلى يفلي كضرب يضرب أي تفتش، ( في) شعر ( رأسه) لإخراج الهوام أو للتنظيف، واختلف هل كان فيه قمل ولا يؤذيه أو لم يكن فيه أصلاً وإنما تفلي ثوبه للتنظيف من نحو الغبار وإنما كان يدخل عليها ويمكنها من التفلية لأنها ذات محرم منه لأنها خالة أبيه أو جده عبد المطلب لأن أمه من بني النجار.
وقال ابن وهب كانت إحدى خالاته من الرضاعة.
قال ابن عبد البر فأي ذلك كان فهي محرم له على أنه صلى الله عليه وسلم معصوم ليس كغيره ولا يقاس به سواه انتهى.

وحكى النووي الاتفاق على أنها محرم، وصحح الحافظ الدمياطي أن لا محرمية بينهما في جزء أفرده لذلك وقال: ليس في الحديث ما يدل على الخلوة بها فلعل ذلك كان مع ولد أو زوج أو خادم أو تابع، والعادة تقتضي المحافظة بين المخدوم وأهل الخادم لا سيما إذا كن مسنات مع ما ثبت له صلى الله عليه وسلم من العصمة وقيل هو من خصائصه، وإليه أومأ ابن عبد البر قال في الفتح، والذي وضح لنا بالأدلة القوية أن من خصائصه صلى الله عليه وسلم جواز الخلوة بالأجنبية والنظر إليها لمكان عصمته وإن نازع في ذلك القاضي عياض بأن الخصائص لا تثبت بالاحتمال قال وثبوت العصمة مسلم لكن الأصل عدم الخصوصية.

( فنام رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا) أي في يوم، وفي رواية: فقال بالقاف أي نام وقت القائلة، ( ثم استيقظ وهو يضحك) سرورًا بكون أمته تبقى بعده مظهرة أمور الإسلام قائمة بالجهاد حتى في البحر، والجملة حالية ( قالت) أم حرام ( فقلت ما يضحكك) بلفظ المضارع ( قال ناس من أمتي عرضوا علي) بشد الياء حال كونهم ( غزاة في سبيل الله يركبون ثبج) بفتح المثلثة والموحدة والجيم ( هذا) بمعنى ذلك ( البحر) أي وسطه أو معظمه أو هوله أقوال ولمسلم: يركبون ظهر البحر أي السفن التي تجري على ظهره ولما كان غالب جريها إنما يكون في وسطه قيل المراد وسطه وإلا فلا اختصاص له بالركوب زاد في رواية للبخاري الأخضر فقيل المراد الأسود وقال الكرماني الأخضر صفة لازمة للبحر لا مخصصة إذ كل البحار خضر فإن قيل الماء بسيط لا لون له قلت تتوهم الخضرة من انعكاس الهواء وسائر مقابلاته إليه ( ملوكًا) نصب بنزع الخافض أي مثل ملوك كذا قيل والظاهر أنه حال ثانية من ناس بالتقدير المذكور ( على الأسرة) جمع سرير كسرر بضمتين ( أو مثل الملوك على الأسرة يشك) بالمضارع ( إسحاق) شيخ مالك في اللفظ الذي قاله أنس.
قال أبو عمر رأى صلى الله عليه وسلم صفتهم في الجنة كما قال تعالى: { { عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ } } وقال النووي: الأصح أنه صفتهم في الدنيا أي أنهم يركبون مراكب الملوك لسعة مالهم واستقامة أمرهم وكثرة عددهم.
قال الحافظ والإتيان بالتمثيل في معظم طرق الحديث يدل على أنه رأى ما يؤول إليه أمرهم لا أنهم نالوا ذلك في تلك الحالة أو موضع التشبيه أنهم فيما هم فيه من النعيم الذي أثيبوا به على جهادهم مثل ملوك الدنيا على أسرتهم والتشبيه بالمحسوس أبلغ في نفس السامع.

( قالت) أم حرام ( فقلت) زاد ابن وضّاح له ( يا رسول الله ادع الله أن يجعلني منهم فدعا لها) واستشكل الدعاء بالشهادة لأن حاصله أن يدعو الله أن يمكن منه كافرًا يعصي الله بقتله فيقل عدد المسلمين وتسر قلوب الكفار ومقتضى قواعد الفقه أن لا يتمنى معصية الله لنفسه ولا لغيره.
وأجاب ابن المنير بأن المدعو به قصدًا إنما هو نيل الدرجة الرفيعة المعدة للشهداء، وأما قتل الكافر للمسلم فليس بمقصود للداعي وإنما هو من ضرورات الوجود لأن الله أجرى حكمه أن لا ينال تلك الدرجة إلا شهيد فاغتفر لحصول المصلحة العظمى من دفع الكفار وإذلالهم وقهرهم بقصد قتلهم حصول ما يقع في ضمن ذلك من قتل بعض المسلمين وجاز تمني الشهادة لما بذل عليه من وقعت له في إعلاء كلمة الله حتى بذل نفسه في تحصيل ذلك.
وقول ابن التين ليس في الحديث تمني الشهادة إنما فيه تمني الغزو مردود بأن الشهادة هي الثمرة العظمى المطلوبة في الغزو ( ثم وضع رأسه) ثانيًا ( فنام ثم استيقظ) حال كونه ( يضحك قالت فقلت) زاد ابن وضاح: له ( يا رسول الله ما يضحكك قال ناس من أمتي عرضوا علي غزاة في سبيل الله) يركبون البر ( ملوكًا على الأسرة أو) قال ( مثل الملوك على الأسرة كما قال في الأولى) من تشبيههم بالملوك وشك إسحاق.

( قالت: فقلت: يا رسول الله ادع الله أن يجعلني منهم قال أنت من الأولين) الذين يركبون ثبج البحر، زاد أبو عوانة من وجه آخر: ولست من الآخرين وللبخاري من وجه آخر أنه قال: في الأولى يغزون هذا البحر، وفي الثانية يغزون قيصر، فيدل على أن الثانية إنما غزت في البر كما في الفتح.
لكن في رواية أخرجها ابن عبد البر من طريق محمد بن يحيى بن حبان عن أنس عن أم حرام قال: اللهم اجعلها منهم ثم نام فاستيقظ وهو يضحك فقلت مم تضحك فقال: عرض علي ناس من أمتي يركبون ظهر البحر، لكن المروي في البخاري من الطريق المذكورة فقال مثل ذلك.

( قال) أنس ( فركبت) أم حرام ( البحر) مع زوجها عبادة ( في زمان) غزو ( معاوية بن أبي سفيان) صخر بن حرب في خلافة عثمان سنة ثمان وعشرين، وكان معاوية أمير الجيش من جهة عثمان على غزاة قبرس، وهي أول غزوة كانت إلى الروم هذا قول أكثر العلماء وأهل السير.
وقال البخاري ومسلم: في خلافة معاوية.
قال الباجي وعياض: وهو الأظهر ( فصرعت عن دابتها حين خرجت من البحر فهلكت) أي ماتت لما رجعوا من الغزو بغير مباشرة قتال ففي رواية للبخاري فخرجت مع زوجها عبادة غازيًا أول ما ركب المسلمون البحر مع معاوية فلما انصرفوا من غزوهم قافلين نزلوا الشام فقرّبت إليها دابة لتركبها فصرعتها فماتت.
وله أيضًا: فلما رجعت قرّبت لها دابة لتركبها فوقعت فاندقت عنقها.
ولمسلم مرفوعًا: من مات في سبيل الله فهو شهيد، وروى ابن وهب مرفوعًا: من صرع عن دابته في سبيل الله فمات فهو شهيد، أخرجه الطبراني بإسناد حسن.
ففي حديث أم حرام أن حكم الراجع من الغزو حكم الذاهب إليه في الثواب.
وفي الصحيح عن أم حرام أيضًا مرفوعًا: أول جيش من أمتي يغزون البحر قد أوجبوا قلت أنا منهم؟ قال: أنت منهم ثم قال: أول جيش من أمتي يغزون مدينة قيصر مغفور لهم فقلت أنا منهم؟ قال: لا.

قال المهلب فيه منقبة لمعاوية لأنه أول من غزا البحر ولابنه يزيد لأنه أول من غزا مدينة قيصر، وهي القسطنطينية.
وتعقبه ابن المنير وابن التين بما حاصله أنه لا يلزم من دخوله في ذلك العموم أن لا يخرج بدليل خاص إذ لا خلاف أن قوله مغفور لهم مشروط بأن يكونوا من أهل المغفرة حتى لو ارتد واحد بعد ذلك لم يدخل في العموم اتفاقًا، فدل على أن المراد مغفور لمن وجد شرط المغفرة فيه منهم واحتمال أن يزيد لم يحضر مع الجيش مردود إلا أن يراد لم يباشر القتال فيمكن لأنه كان أميرًا على ذلك الجيش اتفاقًا من قبل أبيه وكان فيه أبو أيوب فمات فدفن عند باب مدينة قيصر سنة اثنين وخمسين وفيه جواز ركوب البحر الملح.
وذكر مالك أن عمر بن الخطاب منع منه فلما مات استأذن معاوية عثمان فأذن له في ركوبه فلم يزل يركب إلى أيام عمر بن عبد العزيز فمنع من ركوبه، ثم ركب بعده إلى الآن.

قال ابن عبد البر: وإنما منع العمران ركوبه في التجارة وطلب الدنيا أما في الجهاد والحج فلا وقد أباحت السنة ركوبه للجهاد فالحج المفترض أولى قال: وأكثر العلماء يجوزون ركوبه في طلب الحلال إذا تعذر البر ولا خلاف بينهم في حرمة ركوبه عند ارتجاجه.
وكره مالك ركوب النساء البحر لما يخشى من اطلاعهن على عورات الرجال وعكسه، إذ يعسر الاحتراز من ذلك وخصه أصحابه بالسفن الصغار أما الكبار التي يمكن فيها الاستتار بأماكن تخصهنّ فلا حرج.

وفيه مشروعية القائلة لما فيها من الإعانة على قيام الليل وعلم من أعلام النبوة وهو الإخبار بما سيقع فوقع كما قال صلى الله عليه وسلم وفضل شهيد البحر، وقد اختلف هل هو أفضل لحديث: من لم يدرك الغزو معي فليغز في البحر فإن غزاة في البحر أفضل من غزوتين في البر، الحديث، وهو ضعيف.
أو شهيد البر أفضل لقوله صلى الله عليه وسلم: أفضل الشهداء من عقر جواده وأهريق دمه وفيه غير ذلك.

وأخرجه البخاري هنا عن عبد الله بن يوسف وفي الاستئذان عن إسماعيل ومسلم عن يحيى الثلاثة عن مالك به ( مالك عن يحيى بن سعيد) بن قيس الأنصاري ( عن أبي صالح) ذكوان ( السمان عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لولا أن أشق على أمتي) بعدم طيب نفوسهم بالتخلف عني ولا قدرة لهم على آلة السفر ولا لي ما أحملهم عليه فالاستدراك الآتي مفسر للمراد بالمشقة كرواية الصحيحين عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة: والذي نفسي بيده لولا أن رجالاً من المؤمنين لا تطيب أنفسهم أن يتخلفوا عني ولا أجد ما أحملهم عليه ( لأحببت أن لا أتخلف عن سرية) قطعة من الجيش تبعث إلى العدو ( تخرج في سبيل الله) الجهاد ( ولكني لا أجد ما أحملهم عليه) ، وفي رواية للبخاري: ولكن لا أجد حمولة ولا أجد ما أحملهم عليه والحمولة بالفتح الإبل الكبار التي يحمل عليها ( ولا يجدون ما يتحملون عليه فيخرجون) معي لعجزهم عن آلة السفر من مركوب وغيره.
وفي مسلم عن همام عن أبي هريرة لكن لا أجد سعة فأحملهم ولا يجدون سعة فيتبعوني ( ويشق عليهم أن يتخلفوا بعدي) وفي رواية للبخاري: ويشق علي أن يتخلفوا عني.
وللطبراني: ويشق علي وعليهم ( فوددت) بكسر الدال الأولى وسكون الثانية تمنيت وسبق من رواية الأعرج: والذي نفسي بيده لوددت ( أني أقاتل في سبيل الله فأقتل ثم أحيا فأقتل ثم أحيا فأقتل) بالبناء للمفعول في الجميع، وتمنى ذلك حرصًا منه على الوصول إلى أعلى درجات الشاكرين بذلاً لنفسه في مرضاة ربه وإعلاء كلمته ورغبة في الازدياد من الثواب ولتتأسى به أمته.

قال الحافظ: حكمة إيراد هذه عقب تلك إرادة تسلية الخارجين في الجهاد عن مرافقته لهم فكأنه قال: الوجه الذي تسيرون له فيه من الفضل ما أتمنى لأجله أن أقتل مرات فمهما فاتكم من مرافقتي والقعود معي من الفضل يحصل لكم مثله أو فوقه من فضل الجهاد فراعى خواطر الجميع، وقد خرج صلى الله عليه وسلم في بعض المغازي وخلف عنه المشار إليهم وكان ذلك حيث رجحت مصلحة خروجه على مراعاة حالهم وفيه بيان شدّة شفقته صلى الله عليه وسلم على أمته ورأفته بهم والحض على حسن النية وجواز ترك بعض المصالح لمصلحة راجحة أو أرجح أو لدفع مفسدة والسعي في إزالة المكروه عن المسلمين.

( مالك عن يحيى بن سعيد) الأنصاري ( قال لما كان) وجد ( يوم أحد) بضم الهمزة والحاء وبالدال المهملتين مذكر مصروف وقيل: يجوز تأنيثه على توقع البقعة فيمنع وليس بقوي جبل بالمدينة على أقل من فرسخ منها لأن بين أوله وبين بابها المعروف بباب البقيع ميلين وأربعة أسباع ميل تزيد يسيرًا ( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من يأتيني بخبر سعد بن الربيع) بن عمرو النجاري أحد نقباء الأنصار، شهد بدرًا وآخى النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبين عبد الرحمن بن عوف فقال: إني أكثر الأنصار مالاً فأقاسمك مالي، ولي زوجتان فأيتهما أحببت أطلقها ثم تتزوجها.
قال عبد الرحمن: بارك الله لك في أهلك ومالك ( الأنصاري) أفي الأحياء هو أم في الأموات؟ فإني رأيت اثني عشر رمحًا شرعي إليه كما عند ابن إسحاق ( فقال رجل أنا يا رسول الله) آتيك بخبره ( فذهب الرجل) هو أبي بن كعب قاله ابن عبد البر وابن الأثير واليعمري.
وقال الواقدي: هو محمد بن مسلمة.

وروى الحاكم عن زيد بن ثابت قال: بعثني النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد لطلب سعد بن الربيع وقال لي: إن رأيته فأقره مني السلام وقل له: يقول لك رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف تجدك؟ فلعله صلى الله عليه وسلم بعث الثلاثة متعاقبين أو دفعة واحدة ( يطوف) يمشي ( بين القتلى) زاد الواقدي: فنادى في القتلى يا سعد بن الربيع مرة بعد أخرى فلم يجبه حتى قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسلني إليك، فأجابه بصوت ضعيف ( فقال له سعد بن الربيع ما شأنك فقال الرجل بعثني إليك رسول الله صلى الله عليه وسلم لآتيه بخبرك) وعند ابن إسحاق أمرني أن أنظر أفي الأحياء أنت أم في الأموات؟ ( قال) أنا في الأموات ( فاذهب إليه فأقرئه مني السلام) وزاد الواقدي: وقل جزاك الله عنا خير ما جزى نبيًا عن أمته، وقل له: إني لأجد ريح الجنة ( وأخبره أني قد طعنت اثنتي) ولابن وضاح ثنتي ( عشرة طعنة) بعدد الرماح التي رآها صلى الله عليه وسلم شرعي إليه.
وفي حديث زيد بن ثابت فوجده جريحًا في القتلى وبه سبعون ضربة ما بين طعنة برمح وضربة بسيف ورمية بسهم ولا تنافي كما هو ظاهر ( و) أخبره ( أني قد أنفذت مقاتلي) فأنا في الأموات ( وأخبر قومك) وعند الواقدي: وأبلغ قومك عني السلام وقل لهم ( إنه لا عذر لهم عند الله إن قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم وواحد منهم حي) زاد ابن إسحاق: ثم لم أبرح حتى مات فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته خبره.

قال ابن عبد البر: هذا الحديث لا أحفظه ولا أعرفه مسندًا، وهو محفوظ عند أهل السير، وقد ذكره ابن إسحاق عن محمد بن عبد الله بن عبد الرحمن بن صعصعة المازني.
قال الحافظ: وفي الصحيح من حديث أنس ما يشهد لبعضه.

( مالك عن يحيى بن سعيد) مرسل وصله الشيخان من رواية ابن عيينة عن عمرو بن دينار عن جابر ومسلم من حديث أنس ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رغب في الجهاد) يوم بدر فقال: والذي نفسي بيده لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابرًا محتسبًا مقبلاً غير مدبر إلا أدخله الله الجنة كما عند ابن إسحاق ( وذكر الجنة) روى مسلم عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم بدر قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض.
فقال عمير بن الحمام: يا رسول الله جنة عرضها السموات والأرض؟ قال: نعم قال: بخ بخ فقال صلى الله عليه وسلم ما يحملك على قولك بخ بخ؟ قال: لا والله يا رسول الله إلا رجاء أن أكون من أهلها.
قال: فإنك من أهلها فأخرج تمرات فجعل يأكل منهن ثم قال: لئن أنا حييت حتى آكل تمراتي، إنها لحياة طويلة فرمى بالتمرة ثم قاتل حتى قتل.
( ورجل من الأنصار) هو عمير بضم العين ابن الحمام بضم المهملة وخفة الميم الخزرجي ( يأكل تمرات في يده فقال إني لحريص على الدنيا إن جلست حتى أفرغ منهن) أي من أكل التمرات ( فرمى ما في يده) من التمر وقال: فما بيني وبين أن أدخل الجنة إلا أن يقتلني هؤلاء ( فحمل بسيفه فقاتل) القوم ( حتى قتل) زاد ابن إسحاق وهو يقول:

ركضنا إلى الله بغير زاد
إلا التقى وعمل المعاد

والصبر في الله على الجهاد
وكل زاد عرضة النفاد

غير التقى والبر والرشاد

وقتله خالد بن الأعلم العقيلي.
قال موسى بن عقبة: وهو أول قتيل قتل يومئذ وقال ابن إسحاق أولهم مهجع.
وقال ابن سعد: أولهم حارثة بن سراقة وعدة شهداء بدر أربعة عشر رجلاً ستة مهاجرون وثمانية أنصار بينتهم في شرح المواهب.

( مالك عن يحيى بن سعيد عن معاذ بن جبل أنه قال) موقوفًا وقد رواه أبو داود والنسائي، وصححه الحاكم وحسنه ابن عبد البر من طريق خالد بن معدان عن أبي بحرية عن معاذ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( الغزو غزوان) غزو على ما ينبغي، وغزو على ما لا ينبغي فاختصر الكلام واستغنى بذكر الغزاة وعد أصنافها وشرح حالهم وبيان أحكامهم عن ذكر القسمين وشرح حال كل واحد منهم مفصلا،ً قاله البيضاوي ( فغزو تنفق فيه الكريمة) قال الباجي: أي كرائم المال وخياره، وقال غيره: أي الناقة العزيزة عليه المختارة عنده.
وقال البوني: أي الذهب والفضة سميت كريمة لأنها تكرم عن السؤال وغيره وقال ابن عبد البر: أي ما يكرم عليك من المال مما يقيك به الله شح نفسك ولقد أحسن القائل:

وقد تخرج الحاجات يا أم مالك
كرائم من رب بهن ضنين

( ويياسر) بضم الياء الأولى ( فيه الشريك) أي يؤخذ باليسر والسهولة مع الرفيق نفعًا بالمعونة وكفاية للمؤنة.
وقال الباجي: يريد موافقته في رأيه مما يكون طاعة ومتابعته عليه وقلة مشاحته فيما يشاركه فيه من نفقة أو عمل ( ويطاع فيه ذو الأمر) بأن يفعل ما أمر به إذا لم يكن معصية إذ لا طاعة فيها إنما الطاعة في المعروف ( ويجتنب فيه الفساد) بأن لا يتجاوز المشروع في نحو قتل ونهب وتخريب ( فذلك الغزو خير كله) أي ذو خير وثواب والمراد أن من هذا شأنه فجميع حالاته من حركة وسكون ونوم ويقظة جالبة للخير والثواب، أي أن كلاً من ذلك له أجر ولفظ المرفوع المشار إليه، فأما من غزا ابتغاء وجه الله وأطاع الإمام وأنفق الكريمة وياسر الشريك واجتنب الفساد في الأرض فإن نومه ونبهه أجر كله ( وغزو لا ينفق فيه الكريمة ولا يياسر) بضم الياء الأولى ( فيه الشريك ولا يطاع فيه ذو الأمر) الإمام أو نائبه ( ولا يجتنب) بالبناء للمفعول في الأربعة ( فيه الفساد فذلك الغزو لا يرجع صاحبه كفافًا) من كفاف الشيء وهو خياره أو من الرزق، أي لا يرجع بخير أو بثواب يغنيه أو لا يعود رأسًا برأس بحيث لا أجر ولا وزر بل عليه الوزر العظيم.
ولفظ المرفوع: وأما من غزا فخرًا ورياء وعصى الإمام وأفسد في الأرض فإنه لن يرجع بالكفاف.



رقم الحديث 1007 حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ.
لَوَدِدْتُ أَنِّي أُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَأُقْتَلُ ثُمَّ أُحْيَا.
فَأُقْتَلُ ثُمَّ أُحْيَا.
فَأُقْتَلُ فَكَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ يَقُولُ ثَلَاثًا: أَشْهَدُ بِاللَّهِ.


( الشُّهَدَاءِ فِي سَبِيلِ اللَّه)

( مَالِكٍ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ) عبد الله بن ذكوان ( عَنِ الْأَعْرَجِ) عبد الرحمن بن هرمز ( عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ) بملكه وقدرته قاله عياض.
( لَوَدِدْتُ) بلام مفتوحة في جواب القسم وفي رواية بغير لام وكسر الدال الأولى وسكون الثانية ( أَنِّي أُقَاتِلُ) بصيغة المفاعلة ( فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَأُقْتَلُ ثُمَّ أُحْيَا) بضم الهمزة مبني للمفعول فيهما ( فَأُقْتَلُ ثُمَّ أُحْيَا فَأُقْتَلُ) وفي رواية ثم أقتل في المواضع الثلاثة بدل الفاء قال الطيبي ثم وإن دلت على تراخي الزمان لكن الحمل على تراخي الرتبة هو الوجه لأن التمني حصول درجات بعد القتل والإحياء لم يحصل قبل ومن ثم كررها لنيل مرتبة بعد مرتبة إلى أن ينتهي إلى الفردوس الأعلى ( فَكَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ يَقُولُ ثَلَاثًا أَشْهَدُ بِاللَّهِ) أنه صلى الله عليه وسلم قال ذلك وفائدة التأكيد لتطمئن نفس سامعه إليه ولا شك فيما حدثه به وهذا من كلام الراوي ويأتي من رواية أبي صالح عن أبي هريرة زيادة في أول الحديث واستشكل هذا التمني منه صلى الله عليه وسلم مع علمه بأنه لا يقتل وأجاب ابن التين باحتمال أنه قبل نزول قوله تعالى { { وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ } } ورد بأن نزولها كان في أوائل ما قدم إلى المدينة وهذا الحديث صرح أبو هريرة في الصحيحين من رواية ابن المسيب عنه بسماعه من النبي صلى الله عليه وسلم وإنما قدم أبو هريرة في أوائل سنة سبع والذي يظهر في الجواب أن تمني الفضل والخير لا يستلزم الوقوع فقد قال صلى الله عليه وسلم وددت لو أن موسى صبر وله نظائر فكأنه صلى الله عليه وسلم أراد المبالغة في بيان فضل الجهاد وتحريض المسلمين عليه قال ابن التين وهذا أشبه وفي الحديث استحباب طلب القتل في سبيل الله وجواز قوله وددت حصول كذا من الخير وإن علم أنه لا يحصل لأن فيه إظهار محبة الخير والرغبة فيه والأجر يقع على قدر النية وتمني ما يمتنع عادة وفيه أن الجهاد على الكفاية إذ لو كان على الأعيان ما تخلف عنه أحد قال الحافظ وفيه نظر لأن الخطاب إنما يتوجه على القادر أما العاجز فمعذور وقد قال تعالى { { غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ } } وأدلة كونه فرض كفاية يؤخذ من غير هذا الحديث وأخرجه البخاري في التمني عن عبد الله بن يوسف عن مالك به وأخرجه مسلم وغيره وطرقه كثيرة عن أبي هريرة في الصحيحين وغيرهما ( مَالِكٍ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنِ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ يَضْحَكُ اللَّهُ إِلَى رَجُلَيْنِ) قال الباجي: هو كناية عن التلقي بالثواب والإنعام والإكرام أو المراد تضحك ملائكته وخزنة جنته أو حملة عرشه وذلك أن مثل هذا غير معهود انتهى وللنسائي من طريق ابن عيينة عن أبي الزناد إن الله ليعجب من رجلين قال الخطابي الضحك الذي يعتري البشر عندما يستخفهم الفرح أو الطرب غير جائز على الله تعالى وإنما هذا مثل ضرب لهذا الصنيع الذي يحل محل الإعجاب عند البشر فإذا رأوه أضحكهم ومعناه الإخبار عن رضا الله بفعل أحدهما وقبوله للأجر ومجازاتهما على صنيعهما بالجنة مع اختلاف حاليهما وتأول البخاري الضحك على معنى الرحمة وهو قريب وتأويله على معنى الرضا أقرب فإن الضحك يدل على الرضا والقبول والكرام يوصفون عندما يسألهم السائل بالبشر وحسن اللقاء فيكون معنى يضحك الله يجزل العطاء وقد يكون معناه يعجب ملائكته ويضحكهم من صنيعهما وهذا مجاز يكثر مثله وقال ابن الجوزي كان أكثر السلف يمتنعون من تأويله ويروونه كما جاء وينبغي أن يراعى في مثل هذا الإمرار اعتقاد أن لا تشبه صفات الله صفات الخلق ومعنى الإمرار عدم العلم بالمراد منه مع اعتقاد التنزيه قال الحافظ ويدل على أن المراد الإقبال بالرضا تعديته بإلى تقول ضحك فلان إلى فلان إذا توجه إليه طلق الوجه مظهرًا للرضا عنه ( يَقْتُلُ) بفتح أوله ( أَحَدُهُمَا الْآخَرَ كِلَاهُمَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ) زاد مسلم من طريق همام عن أبي هريرة قالوا كيف يا رسول الله قال: ( يُقَاتِلُ هَذَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلُ) بضم الياء بالبناء للمجهول أي فيقتل الكافر المسلم ( ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَى الْقَاتِلِ) بأن يهديه إلى الإسلام ( فَيُقَاتِلُ) الكفار ( فَيُسْتَشْهَدُ) قال ابن عبد البر يستفاد من الحديث أن كل من قتل في سبيل الله فهو في الجنة قال ومعناه عند أهل العلم أن القاتل الأول كان كافرًا.

قال الحافظ: وهو ما استنبطه البخاري ويؤيده أن في رواية همام عند مسلم ثم يتوب الله على الآخر فيهديه إلى الإسلام ثم يجاهد في سبيل الله فيستشهد وأصرح منه ما أخرجه أحمد من طريق الزهري عن ابن المسيب عن أبي هريرة قيل كيف يا رسول الله قال يكون أحدهما كافرًا فيقتل الآخر ثم يسلم فيغزو فيقتل ولكن لا مانع من أن يكون مسلمًا أيضًا لعموم قوله ثم يتوب الله على القاتل كما لو قتل مسلم مسلمًا عمدًا بلا شبهة ثم تاب القاتل واستشهد في سبيل الله وإنما يمنع دخول مثل هذا من ذهب إلى أن قاتل المسلم عمدًا لا تقبل توبته كابن عباس أخذًا بظاهر قوله تعالى { { وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا } } روى أحمد والنسائي وابن ماجه عن ابن عباس أن الآية نزلت في آخر ما نزل ولم ينسخها شيء حتى قبض صلى الله عليه وسلم ولأحمد والنسائي عن معاوية مرفوعًا كل ذنب عسى الله أن يغفره إلا الرجل يموت كافرًا أو الرجل يقتل مؤمنًا متعمدًا لكن ورد عن ابن عباس خلاف ذلك فالظاهر أنه أراد بقوله الأول التشديد والتغليظ وعليه جمهور السلف وجميع أهل السنة وصححوا توبة القاتل كغيره وقالوا المراد بالخلود المكث الطويل لتظاهر الأدلة على أن عصاة المسلمين لا يدوم عذابهم وهذا الحديث رواه البخاري عن عبد الله بن يوسف عن مالك به وتابعه سفيان عن أبي الزناد به عند مسلم وغيره.

( مَالِكٍ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنِ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ) بقدرته أو في ملكه ( لَا يُكْلَمُ) بضم الياء وسكون الكاف وفتح اللام أي يجرح ( أَحَدٌ) مسلم كما قيد به في الصحيحين من رواية همام عن أبي هريرة ( فِي سَبِيلِ اللَّهِ) أي الجهاد ( وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَنْ يُكْلَمُ فِي سَبِيلِهِ) جملة معترضة بين المستثنى منه والمستثنى مؤكدة مقررة لمعنى المعترض فيه وتفخيم شأن من يكلم في سبيل الله ونظيره قوله تعالى { { قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ } } أي بالشيء الذي وضعت وما علق به من عظائم الأمور ويجوز أن يكون تتميمًا للصيانة عن الرياء والسمعة وتنبيهًا على الإخلاص في الغزو وأن الثواب المذكور إنما هو لمن أخلص لتكون كلمة الله هي العليا ( إِلَّا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَجُرْحُهُ يَثْعَبُ) بفتح الياء وإسكان المثلثة وفتح المهملة فموحدة ( دَمًا) أي يجري متفجرًا أي كثيرًا ( اللَّوْنُ لَوْنُ دَمٍ وَالرِّيحُ رِيحُ الْمِسْكِ) أي كريحه إذ ليس هو مسكًا حقيقة بخلاف لون الدم فلا تقدير فيه لأنه دم حقيقة فليس له من أحكام الدماء وصفاتها إلا اللون فقط قال العلماء الحكمة في بعثه كذلك ليكون معه شاهد فضيلته ببذله نفسه في طاعة الله تعالى وعلى من ظلمه وظاهر الحديث أنه لا فرق بين أن يستشهد أو تبرأ جراحته قال الحافظ ويحتمل أن المراد ما مات صاحبه به قبل اندماله لا ما اندمل في الدنيا فإن أثر الجراحة وسيلان الدم يزول ولا ينفي ذلك أن له فضلاً في الجملة لكن الظاهر أن الذي يجيء يوم القيامة وجرحه يثعب دمًا من فارق الدنيا كذلك ويؤيده ما لابن حبان عن معاذ عليه طابع الشهداء ولأصحاب السنن وصححه الترمذي وابن حبان والحاكم عن معاذ مرفوعًا من جرح في سبيل الله أو نكب نكبة فإنها تجيء يوم القيامة كأغزر ما كانت لونها الزعفران وريحها المسك قال وعرف بهذه الزيادة أن الصفة المذكورة لا تختص بالشهيد بل تحصل لكل من جرح انتهى وقال النووي قالوا وهذا الفضل وإن كان ظاهره أنه في قتال الكفار فيدخل فيه من جرح في سبيل الله في قتال البغاة وقطاع الطريق وفي إقامة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ونحو ذلك وكذا قال ابن عبد البر واستشهد بقوله صلى الله عليه وسلم من قتل دون ماله فهو شهيد لكن توقف الولي العراقي في دخول من قاتل دون ماله في هذا الفضل لإشارة النبي صلى الله عليه وسلم إلى اعتبار الإخلاص بقوله والله أعلم بمن يكلم في سبيله والمقاتل دون ماله لا يقصد وجه الله بذلك وإنما يقصد صون ماله وحفظه فهو يفعل ذلك بداعية الطبع لا بداعية الشرع ولا يلزم من كونه شهيدًا أن يكون دمه يوم القيامة كريح المسك وأي بذل بذل نفسه فيه لله حتى يستحق هذا الفضل وهذا الحديث رواه البخاري عن عبد الله بن يوسف عن مالك به وتابعه سفيان بن عيينة عن أبي الزناد به عند مسلم وغيره ( مَالِكٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَانَ يَقُولُ اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْ قَتْلِي بِيَدِ رَجُلٍ صَلَّى لَكَ سَجْدَةً وَاحِدَةً يُحَاجُّنِي) يجادلني ( بِهَا عِنْدَكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) قال ابن عبد البر أراد أن يكون قاتله مخلدًا في النار ولا يكون كذلك إلا من لم يسجد لله سجدة ولم يعمل من الخير والإيمان مثقال ذرة وقد استجاب الله له فجعل قتله بالمدينة بيد فيروز النصراني أو المجوسي أبي لؤلؤة عبد المغيرة بن شعبة الصحابي ( مَالِكٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ) الأنصاري ( عَنْ سَعِيدِ) بكسر العين ( بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ) بفتح الباء وضمها نسبة إلى المقبرة قال ابن عبد البر كذا رواه يحيى وابن وهب وابن القاسم ومطرف وابن بكير وأبو مصعب والجمهور ورواه معن بن عيسى والقعنبي عن مالك عن سعيد بن أبي سعيد لم يذكرا يحيى بن سعيد فيمكن أن مالكًا سمعه من يحيى عن سعيد ثم سمعه من سعيد وقد رواه الليث وابن أبي ذئب عن سعيد المقبري انتهى أي بلا واسطة يحيى بن سعيد ومن طريق الليث رواه مسلم ورواه أيضًا من طريق يزيد بن هارون عن يحيى بن سعيد المقبري فأثبت الواسطة وهذا يؤيد أن مالكًا حدث به بالوجهين ( عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ) الأنصاري المدني مات سنة خمس وتسعين ( عَنْ أَبِيهِ) الصحابي فارس المصطفى ( أَنَّهُ قَالَ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) وفي رواية الليث عند مسلم أنه صلى الله عليه وسلم قام فيهم فذكر لهم أن الجهاد في سبيل الله والإيمان بالله أفضل الأعمال فقام رجل ( فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ قُتِلْتُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) الجهاد حال كوني ( صَابِرًا مُحْتَسِبًا) أي مخلصًا ( مُقْبِلًا) على القتال وزاد ( غَيْرَ مُدْبِرٍ) لبيان كون الإقبال في جميع الأحوال إذ قد يقبل مرة ويدبر أخرى فيصدق عليه أنه مقبل ( أَيُكَفِّرُ اللَّهُ عَنِّي خَطَايَايَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَعَمْ) يكفر ( فَلَمَّا أَدْبَرَ الرَّجُلُ نَادَاهُ) دعاه ( رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) بنفسه ( أَوْ أَمَرَ بِهِ فَنُودِيَ لَهُ) شك الراوي ( فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أخبرني ( كَيْفَ قُلْتَ فَأَعَادَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ) المذكور ( فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَعَمْ إِلَّا الدَّيْنَ) بفتح الدال، فلا يكفره إلا عفو صاحبه أو استيفاؤه.

قال ابن عبد البر: فيه أن الخطايا تكفر بالأعمال الصالحة مع الاحتساب والنية في العمل وأن أعمال البر المقبولة لا تكفر من الذنوب إلا ما بين العبد وبين ربه فأما التبعات فلا بد فيها من القصاص قال هذا في دين ترك له وفاء ولم يوص به أو قدر على الأداء فلم يؤد أو أدانه في غير حق أو سرف ومات ولم يوفه أما من أدان في حق واجب لفاقة وعسر ومات ولم يترك وفاء فلا يحبس عن الجنة لأن على السلطان فرضًا أن يؤدي عنه دينه من الصدقات أو سهم الغانمين أو الفيء وقد قيل إن تشديده صلى الله عليه وسلم في الدين كان قبل الفتوح انتهى وقال القرطبي والنووي فيه تنبيه على جميع حقوق الآدميين وإن الجهاد والشهادة وغيرهما من أعمال البر لا تكفر حقوق الآدميين وإنما تكفر حقوق الله تعالى وقال الحافظ ويستفاد منه أن الشهادة لا تكفر التبعات وهي لا تمنع درجة الشهادة وليس للشهادة معنى إلا أن يثيب من حصلت له ثوابًا مخصوصًا ويكرمه كرامة زائدة وقد بين الحديث أنه يكفر عنه ما عدا التبعات فإن كان له عمل صالح كفرت الشهادة سيئاته غير التبعات ونفعه عمله الصالح في موازنة ما عليه من التبعات ويبقى له درجة الشهادة خالصة فإن لم يكن له عمل صالح فهو تحت المشيئة انتهى وقال ابن الزملكاني فيه تنبيه على أن حقوق الآدميين لا تكفر لكونها مبنية على المشاحة والتضييق ويمكن أن يقال هذا محمول على الدين الذي هو خطيئة وهو ما استدانه صاحبه على وجه لا يجوز له فعله بأن أخذه بحيلة أو غصبه فثبت في ذمته البدل أو أدان غير عازم على الوفاء لأنه استثنى ذلك من الخطايا والأصل في الاستثناء أن يكون من الجنس ويكون الدين المأذون فيه مسكوتًا عنه في هذا الاستثناء فلا يلزم المؤاخذة به لما يلطف الله بعبده من استيهابه له وتعويض صاحبه من فضل الله فإن قيل ما تقول فيمن مات وهو عاجز عن الوفاء ولو وجد وفاء وفى قلت إن كان المال الذي لزم ذمته إنما لزمها بطريق لا يجوز تعاطي مثله كغصب أو إتلاف مقصود فلا تبرأ الذمة من ذلك إلا بوصوله إلى من وجب له أو بإبرائه منه ولا تسقطه التوبة وإنما تنفع التوبة في إسقاط العقوبة الأخروية فيما يختص بحق الله تعالى لمخالفته إلى ما نهى الله عنه وإن كان ذلك المال لزمه بطريق سائغ وهو عازم على الوفاء ولم يقدر فهذا ليس بصاحب ذنب حتى يتوب عنه ويرجى له الخير في العقبى ما دام على هذا الحال انتهى وهو نفيس وقد سبقه إلى معناه أبو عمر كما رأيته ( كَذَلِكَ قَالَ لِي جِبْرِيلُ) وفي رواية عند أبي عمر إلا الدين فإنه مأخوذ كما زعم جبريل أي قال من إطلاق الزعم على القول الحق قال ابن عبد البر فيه دليل على أن من الوحي ما يتلى وما لا يتلى وما هو قرآن وما ليس بقرآن وقد قيل في قوله تعالى { { وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللهِ وَالْحِكْمَةِ } } أن القرآن الآيات والحكمة السنة وكل من الله إلا ما قام عليه الدليل فإنه لا ينطق عن الهوى انتهى وفي الطبراني برجال ثقات عن ابن مسعود رفعه القتل في سبيل الله يكفر الذنوب كلها إلا الأمانة والأمانة في الصلاة والأمانة في الصوم والأمانة في الحديث وأشد ذلك الودائع وهذا يعارضه حديث الباب الظاهر في أنه يكفر جميع حقوق الله ومنها الصلاة والصوم إلا أنه يحمل على أنه مطلق استشهاد وحديث أبي قتادة مقيد بأنه صابر محتسب مقبل غير مدبر.

( مَالِكٍ عَنْ أَبِي النَّضْرِ) سالم بن أبي أمية ( مَوْلَى عُمَرَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ) بضم العينين القرشي التيمي ( أَنَّهُ بَلَغَهُ) قال ابن عبد البر مرسل عند جميع الرواة لكن معناه يستند من وجوه صحاح كثيرة ( أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِشُهَدَاءِ أُحُدٍ) أي لأجلهم وفي شأنهم لما أشرف عليهم مقتولين كما رواه ابن إسحاق عن عبد الله بن ثعلبة وهم سبعون كما صرح به البراء بن عازب وأنس في الصحيح وأبي بن كعب وقال في حديثه أربعة وستون من الأنصار وستة من المهاجرين رواه الحاكم وابن حبان وصححاه وهو المؤيد بقوله تعالى { { أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا } } اتفق علماء التفسير على أن المخاطب بذلك أهل أحد وأن أصابتهم مثليها يوم بدر بقتل سبعين وأسر سبعين وبهذا جزم ابن إسحاق وغيره والزيادة عليهم إن ثبتت فإنما نشأت من الخلاف في تفصيلهم وليست زيادة حقيقة ( هَؤُلَاءِ أَشْهَدُ عَلَيْهِمْ) بما فعلوه من بذل أجسامهم وأرواحهم وترك من له الأولاد أولاده كأبي جابر ترك تسع بنات طيبة بذلك قلوبهم فرحين مستبشرين بوعد خالقهم حتى أن منهم من قال إني لأجد ريح الجنة دون أحد كأنس بن النضر وسعد بن الربيع ومنهم من ألقى تمرات كن في يده وقاتل حتى قتل ومنهم من قال حين خرج اللهم لا تردني إلى أهلي كعمرو بن الجموح ومنهم من خلفه النبي صلى الله عليه وسلم لكبر سنه فخرج رجاء الشهادة وهو اليمان وثابت بن وقش فحذف المشهود به للعلم به وقال ابن عبد البر أي أشهد لهم بالإيمان الصحيح والسلامة من الذنوب الموبقات ومن التبديل والتغيير والمنافسة في الدنيا ونحو ذلك انتهى فجعل على بمعنى اللام وقال السهيلي أشهد من الشهادة وهي ولاية وقيادة فوصلت بحرف على لأنه مشهود له وعليه وقال البيضاوي هذه الشهاد وإن كانت لهم لكن لما كان صلى الله عليه وسلم كالرقيب المؤتمن على أمته عدى بعلى.
( فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ أَلَسْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ بِإِخْوَانِهِمْ أَسْلَمْنَا كَمَا أَسْلَمُوا وَجَاهَدْنَا كَمَا جَاهَدُوا) فلم خص هؤلاء بشهادتك عليهم ( فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلَى) أنتم إخوانهم إلخ ( وَلَكِنْ لَا أَدْرِي مَا تُحْدِثُونَ بَعْدِي) فلذا خصصتهم بالشهادة المستفادة من حصر المبتدأ في الخبر بقوله هؤلاء أشهد عليهم ( فَبَكَى أَبُو بَكْرٍ ثُمَّ بَكَى) كرره لمزيد أسفه على فراق المصطفى ( ثُمَّ قَالَ أَئِنَّا لَكَائِنُونَ) أي موجودون ( بَعْدَكَ) استفهام تأسف لا حقيقي لاستحالته من أبي بكر بعد أن أخبره النبي صلى الله عليه وسلم قال ابن عبد البر فيه أن شهداء أحد ومن مات قبله صلى الله عليه وسلم أفضل ممن خلفهم بعده وهذا في الجملة لأن منهم من أصاب الدنيا بعده وأصابت منه أما الخصوص والتعيين فلا سبيل إليه.
( مَالِكٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسًا وَقَبْرٌ يُحْفَرُ) جملة حالية لميت ( بِالْمَدِينَةِ) ولابن وضاح في المدينة ( فَاطَّلَعَ) نظر ( رَجُلٌ فِي الْقَبْرِ فَقَالَ بِئْسَ مَضْجَعُ الْمُؤْمِنِ) بفتح الميم والجيم موضع الضجوع جمعه مضاجع ( فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِئْسَ مَا قُلْتَ) لأن القبر للمؤمن روضة من رياض الجنة ( فَقَالَ الرَّجُلُ إِنِّي لَمْ أُرِدْ هَذَا) أي ذم القبر ( يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّمَا أَرَدْتُ الْقَتْلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) الجهاد ( فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا مِثْلَ لِلْقَتْلِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) في الثواب والفضل ولكن للدفن بالمدينة مزيد الفضل ( مَا عَلَى الْأَرْضِ بُقْعَةٌ) بضم الباء في الأكثر فيجمع على بقع كغرفة وغرف وتفتح فتجمع على بقاع مثل كلبة وكلاب أي قطعة من الأرض ( هِيَ أَحَبُّ إِلَيَّ أَنْ يَكُونَ قَبْرِي بِهَا مِنْهَا) أي المدينة قال ذلك ( ثَلَاثَ مَرَّاتٍ) للتأكيد.

قال الباجي: هذا أحد الأدلة على تفضيل المدينة على مكة وكذا أثر عمر الذي يليه.
وقال ابن عبد البر: هذا الحديث لا أحفظه مسندًا ولكن معناه موجود من رواية مالك وغيره اهـ.

وفيه حضوره صلى الله عليه وسلم الجنائز وحفر القبر والدفن للموعظة والاعتبار ورقة القلب ليتأسى به فيه ويكون سنة بعده وأن الكلام يحمل على ظاهره فيحمد على حسنه ويلام على ضدّه حتى يعلم مراد قائله فيحمل عليه دون ظاهره.



رقم الحديث 1008 وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، قَالَ، لَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ يَأْتِينِي بِخَبَرِ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ الْأَنْصَارِيِّ، فَقَالَ رَجُلٌ: أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ.
فَذَهَبَ الرَّجُلُ يَطُوفُ بَيْنَ الْقَتْلَى، فَقَالَ لَهُ سَعْدُ بْنُ الرَّبِيعِ: مَا شَأْنُكَ؟ فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ: بَعَثَنِي إِلَيْكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِآتِيَهُ بِخَبَرِكَ، قَالَ: فَاذْهَبْ إِلَيْهِ فَاقْرَأْهُ مِنِّي السَّلَامَ.
وَأَخْبِرْهُ أَنِّي قَدْ طُعِنْتُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ طَعْنَةً.
وَأَنِّي قَدْ أُنْفِذَتْ مَقَاتِلِي.
وَأَخْبِرْ قَوْمَكَ أَنَّهُ لَا عُذْرَ لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ، إِنْ قُتِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَوَاحِدٌ مِنْهُمْ حَيٌّ.


( مالك عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة) زيد بن سهل الأنصاري ( عن) عمه ( أنس بن مالك قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذهب إلى قباء) بضم القاف والمدّ والصرف مذكر وبالقصر والتأنيث ومنع الصرف ( يدخل على أم حرام) بحاء وراء مهملتين مفتوحتين ( بنت ملحان) بكسر الميم وإسكان اللام ومهملة فألف فنون، واسمه مالك بن خالد بن زيد بن حرام بفتح المهملتين الأنصارية خالة أنس.
قال أبو عمر: لم أقف لها على اسم صحيح.
قال في الإصابة: ويقال إنها الرميصاء، بالراء أو الغميصاء، بالغين المعجمة، ولا يصح بل الصحيح أن ذلك وصف لأختها أم سليم ثبت ذلك في حديثين لأنس وجابر عند النسائي.
( فتطعمه) مما في بيتها من الطعام ( وكانت أم حرام تحت عبادة بن الصامت) أي كانت زوجة له حينئذ في الزمن النبوي هذا ظاهره.
وللبخاري من وجه آخر التصريح عن أنس أن عبادة تزوّجها بعد.
وجمع ابن التين بأنها كانت إذ ذاك زوجته ثم طلقها ثم راجعها بعد ذلك والحافظ يحمل رواية إسحاق على أنها جملة معترضة أراد وصفها به غير مقيد بحال من الأحوال، وظهر من رواية غيره أنه إنما تزوّجها بعد وهذا أولى لاتفاق محمد بن يحيى بن حبان وعبد الله بن عبد الرحمن أبي طوالة الأنصاري كلاهما عن أنس عند البخاري على أن عبادة تزوجها بعد ذلك.

قال: ثم ظاهر رواية إسحاق أن الحديث من مسند أنس، وكذا هو ظاهر قول أبي طوالة عن أنس: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على بنت ملحان وأما محمد بن يحيى فقال: عن أنس عن خالته أم حرام وهو ظاهر في أنه من مسند أمّ حرام وهو المعتمد وكأن أنسًا لم يحضر ذلك فحمله عن خالته.
( فدخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأطعمته) لم يوقف على تعيين ما أكل عندها يومئذ ( وجلست تفلي) بفتح الفوقية وإسكان الفاء وكسر اللام من فلى يفلي كضرب يضرب أي تفتش، ( في) شعر ( رأسه) لإخراج الهوام أو للتنظيف، واختلف هل كان فيه قمل ولا يؤذيه أو لم يكن فيه أصلاً وإنما تفلي ثوبه للتنظيف من نحو الغبار وإنما كان يدخل عليها ويمكنها من التفلية لأنها ذات محرم منه لأنها خالة أبيه أو جده عبد المطلب لأن أمه من بني النجار.
وقال ابن وهب كانت إحدى خالاته من الرضاعة.
قال ابن عبد البر فأي ذلك كان فهي محرم له على أنه صلى الله عليه وسلم معصوم ليس كغيره ولا يقاس به سواه انتهى.

وحكى النووي الاتفاق على أنها محرم، وصحح الحافظ الدمياطي أن لا محرمية بينهما في جزء أفرده لذلك وقال: ليس في الحديث ما يدل على الخلوة بها فلعل ذلك كان مع ولد أو زوج أو خادم أو تابع، والعادة تقتضي المحافظة بين المخدوم وأهل الخادم لا سيما إذا كن مسنات مع ما ثبت له صلى الله عليه وسلم من العصمة وقيل هو من خصائصه، وإليه أومأ ابن عبد البر قال في الفتح، والذي وضح لنا بالأدلة القوية أن من خصائصه صلى الله عليه وسلم جواز الخلوة بالأجنبية والنظر إليها لمكان عصمته وإن نازع في ذلك القاضي عياض بأن الخصائص لا تثبت بالاحتمال قال وثبوت العصمة مسلم لكن الأصل عدم الخصوصية.

( فنام رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا) أي في يوم، وفي رواية: فقال بالقاف أي نام وقت القائلة، ( ثم استيقظ وهو يضحك) سرورًا بكون أمته تبقى بعده مظهرة أمور الإسلام قائمة بالجهاد حتى في البحر، والجملة حالية ( قالت) أم حرام ( فقلت ما يضحكك) بلفظ المضارع ( قال ناس من أمتي عرضوا علي) بشد الياء حال كونهم ( غزاة في سبيل الله يركبون ثبج) بفتح المثلثة والموحدة والجيم ( هذا) بمعنى ذلك ( البحر) أي وسطه أو معظمه أو هوله أقوال ولمسلم: يركبون ظهر البحر أي السفن التي تجري على ظهره ولما كان غالب جريها إنما يكون في وسطه قيل المراد وسطه وإلا فلا اختصاص له بالركوب زاد في رواية للبخاري الأخضر فقيل المراد الأسود وقال الكرماني الأخضر صفة لازمة للبحر لا مخصصة إذ كل البحار خضر فإن قيل الماء بسيط لا لون له قلت تتوهم الخضرة من انعكاس الهواء وسائر مقابلاته إليه ( ملوكًا) نصب بنزع الخافض أي مثل ملوك كذا قيل والظاهر أنه حال ثانية من ناس بالتقدير المذكور ( على الأسرة) جمع سرير كسرر بضمتين ( أو مثل الملوك على الأسرة يشك) بالمضارع ( إسحاق) شيخ مالك في اللفظ الذي قاله أنس.
قال أبو عمر رأى صلى الله عليه وسلم صفتهم في الجنة كما قال تعالى: { { عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ } } وقال النووي: الأصح أنه صفتهم في الدنيا أي أنهم يركبون مراكب الملوك لسعة مالهم واستقامة أمرهم وكثرة عددهم.
قال الحافظ والإتيان بالتمثيل في معظم طرق الحديث يدل على أنه رأى ما يؤول إليه أمرهم لا أنهم نالوا ذلك في تلك الحالة أو موضع التشبيه أنهم فيما هم فيه من النعيم الذي أثيبوا به على جهادهم مثل ملوك الدنيا على أسرتهم والتشبيه بالمحسوس أبلغ في نفس السامع.

( قالت) أم حرام ( فقلت) زاد ابن وضّاح له ( يا رسول الله ادع الله أن يجعلني منهم فدعا لها) واستشكل الدعاء بالشهادة لأن حاصله أن يدعو الله أن يمكن منه كافرًا يعصي الله بقتله فيقل عدد المسلمين وتسر قلوب الكفار ومقتضى قواعد الفقه أن لا يتمنى معصية الله لنفسه ولا لغيره.
وأجاب ابن المنير بأن المدعو به قصدًا إنما هو نيل الدرجة الرفيعة المعدة للشهداء، وأما قتل الكافر للمسلم فليس بمقصود للداعي وإنما هو من ضرورات الوجود لأن الله أجرى حكمه أن لا ينال تلك الدرجة إلا شهيد فاغتفر لحصول المصلحة العظمى من دفع الكفار وإذلالهم وقهرهم بقصد قتلهم حصول ما يقع في ضمن ذلك من قتل بعض المسلمين وجاز تمني الشهادة لما بذل عليه من وقعت له في إعلاء كلمة الله حتى بذل نفسه في تحصيل ذلك.
وقول ابن التين ليس في الحديث تمني الشهادة إنما فيه تمني الغزو مردود بأن الشهادة هي الثمرة العظمى المطلوبة في الغزو ( ثم وضع رأسه) ثانيًا ( فنام ثم استيقظ) حال كونه ( يضحك قالت فقلت) زاد ابن وضاح: له ( يا رسول الله ما يضحكك قال ناس من أمتي عرضوا علي غزاة في سبيل الله) يركبون البر ( ملوكًا على الأسرة أو) قال ( مثل الملوك على الأسرة كما قال في الأولى) من تشبيههم بالملوك وشك إسحاق.

( قالت: فقلت: يا رسول الله ادع الله أن يجعلني منهم قال أنت من الأولين) الذين يركبون ثبج البحر، زاد أبو عوانة من وجه آخر: ولست من الآخرين وللبخاري من وجه آخر أنه قال: في الأولى يغزون هذا البحر، وفي الثانية يغزون قيصر، فيدل على أن الثانية إنما غزت في البر كما في الفتح.
لكن في رواية أخرجها ابن عبد البر من طريق محمد بن يحيى بن حبان عن أنس عن أم حرام قال: اللهم اجعلها منهم ثم نام فاستيقظ وهو يضحك فقلت مم تضحك فقال: عرض علي ناس من أمتي يركبون ظهر البحر، لكن المروي في البخاري من الطريق المذكورة فقال مثل ذلك.

( قال) أنس ( فركبت) أم حرام ( البحر) مع زوجها عبادة ( في زمان) غزو ( معاوية بن أبي سفيان) صخر بن حرب في خلافة عثمان سنة ثمان وعشرين، وكان معاوية أمير الجيش من جهة عثمان على غزاة قبرس، وهي أول غزوة كانت إلى الروم هذا قول أكثر العلماء وأهل السير.
وقال البخاري ومسلم: في خلافة معاوية.
قال الباجي وعياض: وهو الأظهر ( فصرعت عن دابتها حين خرجت من البحر فهلكت) أي ماتت لما رجعوا من الغزو بغير مباشرة قتال ففي رواية للبخاري فخرجت مع زوجها عبادة غازيًا أول ما ركب المسلمون البحر مع معاوية فلما انصرفوا من غزوهم قافلين نزلوا الشام فقرّبت إليها دابة لتركبها فصرعتها فماتت.
وله أيضًا: فلما رجعت قرّبت لها دابة لتركبها فوقعت فاندقت عنقها.
ولمسلم مرفوعًا: من مات في سبيل الله فهو شهيد، وروى ابن وهب مرفوعًا: من صرع عن دابته في سبيل الله فمات فهو شهيد، أخرجه الطبراني بإسناد حسن.
ففي حديث أم حرام أن حكم الراجع من الغزو حكم الذاهب إليه في الثواب.
وفي الصحيح عن أم حرام أيضًا مرفوعًا: أول جيش من أمتي يغزون البحر قد أوجبوا قلت أنا منهم؟ قال: أنت منهم ثم قال: أول جيش من أمتي يغزون مدينة قيصر مغفور لهم فقلت أنا منهم؟ قال: لا.

قال المهلب فيه منقبة لمعاوية لأنه أول من غزا البحر ولابنه يزيد لأنه أول من غزا مدينة قيصر، وهي القسطنطينية.
وتعقبه ابن المنير وابن التين بما حاصله أنه لا يلزم من دخوله في ذلك العموم أن لا يخرج بدليل خاص إذ لا خلاف أن قوله مغفور لهم مشروط بأن يكونوا من أهل المغفرة حتى لو ارتد واحد بعد ذلك لم يدخل في العموم اتفاقًا، فدل على أن المراد مغفور لمن وجد شرط المغفرة فيه منهم واحتمال أن يزيد لم يحضر مع الجيش مردود إلا أن يراد لم يباشر القتال فيمكن لأنه كان أميرًا على ذلك الجيش اتفاقًا من قبل أبيه وكان فيه أبو أيوب فمات فدفن عند باب مدينة قيصر سنة اثنين وخمسين وفيه جواز ركوب البحر الملح.
وذكر مالك أن عمر بن الخطاب منع منه فلما مات استأذن معاوية عثمان فأذن له في ركوبه فلم يزل يركب إلى أيام عمر بن عبد العزيز فمنع من ركوبه، ثم ركب بعده إلى الآن.

قال ابن عبد البر: وإنما منع العمران ركوبه في التجارة وطلب الدنيا أما في الجهاد والحج فلا وقد أباحت السنة ركوبه للجهاد فالحج المفترض أولى قال: وأكثر العلماء يجوزون ركوبه في طلب الحلال إذا تعذر البر ولا خلاف بينهم في حرمة ركوبه عند ارتجاجه.
وكره مالك ركوب النساء البحر لما يخشى من اطلاعهن على عورات الرجال وعكسه، إذ يعسر الاحتراز من ذلك وخصه أصحابه بالسفن الصغار أما الكبار التي يمكن فيها الاستتار بأماكن تخصهنّ فلا حرج.

وفيه مشروعية القائلة لما فيها من الإعانة على قيام الليل وعلم من أعلام النبوة وهو الإخبار بما سيقع فوقع كما قال صلى الله عليه وسلم وفضل شهيد البحر، وقد اختلف هل هو أفضل لحديث: من لم يدرك الغزو معي فليغز في البحر فإن غزاة في البحر أفضل من غزوتين في البر، الحديث، وهو ضعيف.
أو شهيد البر أفضل لقوله صلى الله عليه وسلم: أفضل الشهداء من عقر جواده وأهريق دمه وفيه غير ذلك.

وأخرجه البخاري هنا عن عبد الله بن يوسف وفي الاستئذان عن إسماعيل ومسلم عن يحيى الثلاثة عن مالك به ( مالك عن يحيى بن سعيد) بن قيس الأنصاري ( عن أبي صالح) ذكوان ( السمان عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لولا أن أشق على أمتي) بعدم طيب نفوسهم بالتخلف عني ولا قدرة لهم على آلة السفر ولا لي ما أحملهم عليه فالاستدراك الآتي مفسر للمراد بالمشقة كرواية الصحيحين عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة: والذي نفسي بيده لولا أن رجالاً من المؤمنين لا تطيب أنفسهم أن يتخلفوا عني ولا أجد ما أحملهم عليه ( لأحببت أن لا أتخلف عن سرية) قطعة من الجيش تبعث إلى العدو ( تخرج في سبيل الله) الجهاد ( ولكني لا أجد ما أحملهم عليه) ، وفي رواية للبخاري: ولكن لا أجد حمولة ولا أجد ما أحملهم عليه والحمولة بالفتح الإبل الكبار التي يحمل عليها ( ولا يجدون ما يتحملون عليه فيخرجون) معي لعجزهم عن آلة السفر من مركوب وغيره.
وفي مسلم عن همام عن أبي هريرة لكن لا أجد سعة فأحملهم ولا يجدون سعة فيتبعوني ( ويشق عليهم أن يتخلفوا بعدي) وفي رواية للبخاري: ويشق علي أن يتخلفوا عني.
وللطبراني: ويشق علي وعليهم ( فوددت) بكسر الدال الأولى وسكون الثانية تمنيت وسبق من رواية الأعرج: والذي نفسي بيده لوددت ( أني أقاتل في سبيل الله فأقتل ثم أحيا فأقتل ثم أحيا فأقتل) بالبناء للمفعول في الجميع، وتمنى ذلك حرصًا منه على الوصول إلى أعلى درجات الشاكرين بذلاً لنفسه في مرضاة ربه وإعلاء كلمته ورغبة في الازدياد من الثواب ولتتأسى به أمته.

قال الحافظ: حكمة إيراد هذه عقب تلك إرادة تسلية الخارجين في الجهاد عن مرافقته لهم فكأنه قال: الوجه الذي تسيرون له فيه من الفضل ما أتمنى لأجله أن أقتل مرات فمهما فاتكم من مرافقتي والقعود معي من الفضل يحصل لكم مثله أو فوقه من فضل الجهاد فراعى خواطر الجميع، وقد خرج صلى الله عليه وسلم في بعض المغازي وخلف عنه المشار إليهم وكان ذلك حيث رجحت مصلحة خروجه على مراعاة حالهم وفيه بيان شدّة شفقته صلى الله عليه وسلم على أمته ورأفته بهم والحض على حسن النية وجواز ترك بعض المصالح لمصلحة راجحة أو أرجح أو لدفع مفسدة والسعي في إزالة المكروه عن المسلمين.

( مالك عن يحيى بن سعيد) الأنصاري ( قال لما كان) وجد ( يوم أحد) بضم الهمزة والحاء وبالدال المهملتين مذكر مصروف وقيل: يجوز تأنيثه على توقع البقعة فيمنع وليس بقوي جبل بالمدينة على أقل من فرسخ منها لأن بين أوله وبين بابها المعروف بباب البقيع ميلين وأربعة أسباع ميل تزيد يسيرًا ( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من يأتيني بخبر سعد بن الربيع) بن عمرو النجاري أحد نقباء الأنصار، شهد بدرًا وآخى النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبين عبد الرحمن بن عوف فقال: إني أكثر الأنصار مالاً فأقاسمك مالي، ولي زوجتان فأيتهما أحببت أطلقها ثم تتزوجها.
قال عبد الرحمن: بارك الله لك في أهلك ومالك ( الأنصاري) أفي الأحياء هو أم في الأموات؟ فإني رأيت اثني عشر رمحًا شرعي إليه كما عند ابن إسحاق ( فقال رجل أنا يا رسول الله) آتيك بخبره ( فذهب الرجل) هو أبي بن كعب قاله ابن عبد البر وابن الأثير واليعمري.
وقال الواقدي: هو محمد بن مسلمة.

وروى الحاكم عن زيد بن ثابت قال: بعثني النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد لطلب سعد بن الربيع وقال لي: إن رأيته فأقره مني السلام وقل له: يقول لك رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف تجدك؟ فلعله صلى الله عليه وسلم بعث الثلاثة متعاقبين أو دفعة واحدة ( يطوف) يمشي ( بين القتلى) زاد الواقدي: فنادى في القتلى يا سعد بن الربيع مرة بعد أخرى فلم يجبه حتى قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسلني إليك، فأجابه بصوت ضعيف ( فقال له سعد بن الربيع ما شأنك فقال الرجل بعثني إليك رسول الله صلى الله عليه وسلم لآتيه بخبرك) وعند ابن إسحاق أمرني أن أنظر أفي الأحياء أنت أم في الأموات؟ ( قال) أنا في الأموات ( فاذهب إليه فأقرئه مني السلام) وزاد الواقدي: وقل جزاك الله عنا خير ما جزى نبيًا عن أمته، وقل له: إني لأجد ريح الجنة ( وأخبره أني قد طعنت اثنتي) ولابن وضاح ثنتي ( عشرة طعنة) بعدد الرماح التي رآها صلى الله عليه وسلم شرعي إليه.
وفي حديث زيد بن ثابت فوجده جريحًا في القتلى وبه سبعون ضربة ما بين طعنة برمح وضربة بسيف ورمية بسهم ولا تنافي كما هو ظاهر ( و) أخبره ( أني قد أنفذت مقاتلي) فأنا في الأموات ( وأخبر قومك) وعند الواقدي: وأبلغ قومك عني السلام وقل لهم ( إنه لا عذر لهم عند الله إن قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم وواحد منهم حي) زاد ابن إسحاق: ثم لم أبرح حتى مات فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته خبره.

قال ابن عبد البر: هذا الحديث لا أحفظه ولا أعرفه مسندًا، وهو محفوظ عند أهل السير، وقد ذكره ابن إسحاق عن محمد بن عبد الله بن عبد الرحمن بن صعصعة المازني.
قال الحافظ: وفي الصحيح من حديث أنس ما يشهد لبعضه.

( مالك عن يحيى بن سعيد) مرسل وصله الشيخان من رواية ابن عيينة عن عمرو بن دينار عن جابر ومسلم من حديث أنس ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رغب في الجهاد) يوم بدر فقال: والذي نفسي بيده لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابرًا محتسبًا مقبلاً غير مدبر إلا أدخله الله الجنة كما عند ابن إسحاق ( وذكر الجنة) روى مسلم عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم بدر قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض.
فقال عمير بن الحمام: يا رسول الله جنة عرضها السموات والأرض؟ قال: نعم قال: بخ بخ فقال صلى الله عليه وسلم ما يحملك على قولك بخ بخ؟ قال: لا والله يا رسول الله إلا رجاء أن أكون من أهلها.
قال: فإنك من أهلها فأخرج تمرات فجعل يأكل منهن ثم قال: لئن أنا حييت حتى آكل تمراتي، إنها لحياة طويلة فرمى بالتمرة ثم قاتل حتى قتل.
( ورجل من الأنصار) هو عمير بضم العين ابن الحمام بضم المهملة وخفة الميم الخزرجي ( يأكل تمرات في يده فقال إني لحريص على الدنيا إن جلست حتى أفرغ منهن) أي من أكل التمرات ( فرمى ما في يده) من التمر وقال: فما بيني وبين أن أدخل الجنة إلا أن يقتلني هؤلاء ( فحمل بسيفه فقاتل) القوم ( حتى قتل) زاد ابن إسحاق وهو يقول:

ركضنا إلى الله بغير زاد
إلا التقى وعمل المعاد

والصبر في الله على الجهاد
وكل زاد عرضة النفاد

غير التقى والبر والرشاد

وقتله خالد بن الأعلم العقيلي.
قال موسى بن عقبة: وهو أول قتيل قتل يومئذ وقال ابن إسحاق أولهم مهجع.
وقال ابن سعد: أولهم حارثة بن سراقة وعدة شهداء بدر أربعة عشر رجلاً ستة مهاجرون وثمانية أنصار بينتهم في شرح المواهب.

( مالك عن يحيى بن سعيد عن معاذ بن جبل أنه قال) موقوفًا وقد رواه أبو داود والنسائي، وصححه الحاكم وحسنه ابن عبد البر من طريق خالد بن معدان عن أبي بحرية عن معاذ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( الغزو غزوان) غزو على ما ينبغي، وغزو على ما لا ينبغي فاختصر الكلام واستغنى بذكر الغزاة وعد أصنافها وشرح حالهم وبيان أحكامهم عن ذكر القسمين وشرح حال كل واحد منهم مفصلا،ً قاله البيضاوي ( فغزو تنفق فيه الكريمة) قال الباجي: أي كرائم المال وخياره، وقال غيره: أي الناقة العزيزة عليه المختارة عنده.
وقال البوني: أي الذهب والفضة سميت كريمة لأنها تكرم عن السؤال وغيره وقال ابن عبد البر: أي ما يكرم عليك من المال مما يقيك به الله شح نفسك ولقد أحسن القائل:

وقد تخرج الحاجات يا أم مالك
كرائم من رب بهن ضنين

( ويياسر) بضم الياء الأولى ( فيه الشريك) أي يؤخذ باليسر والسهولة مع الرفيق نفعًا بالمعونة وكفاية للمؤنة.
وقال الباجي: يريد موافقته في رأيه مما يكون طاعة ومتابعته عليه وقلة مشاحته فيما يشاركه فيه من نفقة أو عمل ( ويطاع فيه ذو الأمر) بأن يفعل ما أمر به إذا لم يكن معصية إذ لا طاعة فيها إنما الطاعة في المعروف ( ويجتنب فيه الفساد) بأن لا يتجاوز المشروع في نحو قتل ونهب وتخريب ( فذلك الغزو خير كله) أي ذو خير وثواب والمراد أن من هذا شأنه فجميع حالاته من حركة وسكون ونوم ويقظة جالبة للخير والثواب، أي أن كلاً من ذلك له أجر ولفظ المرفوع المشار إليه، فأما من غزا ابتغاء وجه الله وأطاع الإمام وأنفق الكريمة وياسر الشريك واجتنب الفساد في الأرض فإن نومه ونبهه أجر كله ( وغزو لا ينفق فيه الكريمة ولا يياسر) بضم الياء الأولى ( فيه الشريك ولا يطاع فيه ذو الأمر) الإمام أو نائبه ( ولا يجتنب) بالبناء للمفعول في الأربعة ( فيه الفساد فذلك الغزو لا يرجع صاحبه كفافًا) من كفاف الشيء وهو خياره أو من الرزق، أي لا يرجع بخير أو بثواب يغنيه أو لا يعود رأسًا برأس بحيث لا أجر ولا وزر بل عليه الوزر العظيم.
ولفظ المرفوع: وأما من غزا فخرًا ورياء وعصى الإمام وأفسد في الأرض فإنه لن يرجع بالكفاف.



رقم الحديث 1009 وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَغَّبَ فِي الْجِهَادِ، وَذَكَرَ الْجَنَّةَ، وَرَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ يَأْكُلُ تَمَرَاتٍ فِي يَدِهِ، فَقَالَ: إِنِّي لَحَرِيصٌ عَلَى الدُّنْيَا إِنْ جَلَسْتُ حَتَّى أَفْرُغَ مِنْهُنَّ، فَرَمَى مَا فِي يَدِهِ، فَحَمَلَ بِسَيْفِهِ، فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ.


( مالك عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة) زيد بن سهل الأنصاري ( عن) عمه ( أنس بن مالك قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذهب إلى قباء) بضم القاف والمدّ والصرف مذكر وبالقصر والتأنيث ومنع الصرف ( يدخل على أم حرام) بحاء وراء مهملتين مفتوحتين ( بنت ملحان) بكسر الميم وإسكان اللام ومهملة فألف فنون، واسمه مالك بن خالد بن زيد بن حرام بفتح المهملتين الأنصارية خالة أنس.
قال أبو عمر: لم أقف لها على اسم صحيح.
قال في الإصابة: ويقال إنها الرميصاء، بالراء أو الغميصاء، بالغين المعجمة، ولا يصح بل الصحيح أن ذلك وصف لأختها أم سليم ثبت ذلك في حديثين لأنس وجابر عند النسائي.
( فتطعمه) مما في بيتها من الطعام ( وكانت أم حرام تحت عبادة بن الصامت) أي كانت زوجة له حينئذ في الزمن النبوي هذا ظاهره.
وللبخاري من وجه آخر التصريح عن أنس أن عبادة تزوّجها بعد.
وجمع ابن التين بأنها كانت إذ ذاك زوجته ثم طلقها ثم راجعها بعد ذلك والحافظ يحمل رواية إسحاق على أنها جملة معترضة أراد وصفها به غير مقيد بحال من الأحوال، وظهر من رواية غيره أنه إنما تزوّجها بعد وهذا أولى لاتفاق محمد بن يحيى بن حبان وعبد الله بن عبد الرحمن أبي طوالة الأنصاري كلاهما عن أنس عند البخاري على أن عبادة تزوجها بعد ذلك.

قال: ثم ظاهر رواية إسحاق أن الحديث من مسند أنس، وكذا هو ظاهر قول أبي طوالة عن أنس: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على بنت ملحان وأما محمد بن يحيى فقال: عن أنس عن خالته أم حرام وهو ظاهر في أنه من مسند أمّ حرام وهو المعتمد وكأن أنسًا لم يحضر ذلك فحمله عن خالته.
( فدخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأطعمته) لم يوقف على تعيين ما أكل عندها يومئذ ( وجلست تفلي) بفتح الفوقية وإسكان الفاء وكسر اللام من فلى يفلي كضرب يضرب أي تفتش، ( في) شعر ( رأسه) لإخراج الهوام أو للتنظيف، واختلف هل كان فيه قمل ولا يؤذيه أو لم يكن فيه أصلاً وإنما تفلي ثوبه للتنظيف من نحو الغبار وإنما كان يدخل عليها ويمكنها من التفلية لأنها ذات محرم منه لأنها خالة أبيه أو جده عبد المطلب لأن أمه من بني النجار.
وقال ابن وهب كانت إحدى خالاته من الرضاعة.
قال ابن عبد البر فأي ذلك كان فهي محرم له على أنه صلى الله عليه وسلم معصوم ليس كغيره ولا يقاس به سواه انتهى.

وحكى النووي الاتفاق على أنها محرم، وصحح الحافظ الدمياطي أن لا محرمية بينهما في جزء أفرده لذلك وقال: ليس في الحديث ما يدل على الخلوة بها فلعل ذلك كان مع ولد أو زوج أو خادم أو تابع، والعادة تقتضي المحافظة بين المخدوم وأهل الخادم لا سيما إذا كن مسنات مع ما ثبت له صلى الله عليه وسلم من العصمة وقيل هو من خصائصه، وإليه أومأ ابن عبد البر قال في الفتح، والذي وضح لنا بالأدلة القوية أن من خصائصه صلى الله عليه وسلم جواز الخلوة بالأجنبية والنظر إليها لمكان عصمته وإن نازع في ذلك القاضي عياض بأن الخصائص لا تثبت بالاحتمال قال وثبوت العصمة مسلم لكن الأصل عدم الخصوصية.

( فنام رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا) أي في يوم، وفي رواية: فقال بالقاف أي نام وقت القائلة، ( ثم استيقظ وهو يضحك) سرورًا بكون أمته تبقى بعده مظهرة أمور الإسلام قائمة بالجهاد حتى في البحر، والجملة حالية ( قالت) أم حرام ( فقلت ما يضحكك) بلفظ المضارع ( قال ناس من أمتي عرضوا علي) بشد الياء حال كونهم ( غزاة في سبيل الله يركبون ثبج) بفتح المثلثة والموحدة والجيم ( هذا) بمعنى ذلك ( البحر) أي وسطه أو معظمه أو هوله أقوال ولمسلم: يركبون ظهر البحر أي السفن التي تجري على ظهره ولما كان غالب جريها إنما يكون في وسطه قيل المراد وسطه وإلا فلا اختصاص له بالركوب زاد في رواية للبخاري الأخضر فقيل المراد الأسود وقال الكرماني الأخضر صفة لازمة للبحر لا مخصصة إذ كل البحار خضر فإن قيل الماء بسيط لا لون له قلت تتوهم الخضرة من انعكاس الهواء وسائر مقابلاته إليه ( ملوكًا) نصب بنزع الخافض أي مثل ملوك كذا قيل والظاهر أنه حال ثانية من ناس بالتقدير المذكور ( على الأسرة) جمع سرير كسرر بضمتين ( أو مثل الملوك على الأسرة يشك) بالمضارع ( إسحاق) شيخ مالك في اللفظ الذي قاله أنس.
قال أبو عمر رأى صلى الله عليه وسلم صفتهم في الجنة كما قال تعالى: { { عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ } } وقال النووي: الأصح أنه صفتهم في الدنيا أي أنهم يركبون مراكب الملوك لسعة مالهم واستقامة أمرهم وكثرة عددهم.
قال الحافظ والإتيان بالتمثيل في معظم طرق الحديث يدل على أنه رأى ما يؤول إليه أمرهم لا أنهم نالوا ذلك في تلك الحالة أو موضع التشبيه أنهم فيما هم فيه من النعيم الذي أثيبوا به على جهادهم مثل ملوك الدنيا على أسرتهم والتشبيه بالمحسوس أبلغ في نفس السامع.

( قالت) أم حرام ( فقلت) زاد ابن وضّاح له ( يا رسول الله ادع الله أن يجعلني منهم فدعا لها) واستشكل الدعاء بالشهادة لأن حاصله أن يدعو الله أن يمكن منه كافرًا يعصي الله بقتله فيقل عدد المسلمين وتسر قلوب الكفار ومقتضى قواعد الفقه أن لا يتمنى معصية الله لنفسه ولا لغيره.
وأجاب ابن المنير بأن المدعو به قصدًا إنما هو نيل الدرجة الرفيعة المعدة للشهداء، وأما قتل الكافر للمسلم فليس بمقصود للداعي وإنما هو من ضرورات الوجود لأن الله أجرى حكمه أن لا ينال تلك الدرجة إلا شهيد فاغتفر لحصول المصلحة العظمى من دفع الكفار وإذلالهم وقهرهم بقصد قتلهم حصول ما يقع في ضمن ذلك من قتل بعض المسلمين وجاز تمني الشهادة لما بذل عليه من وقعت له في إعلاء كلمة الله حتى بذل نفسه في تحصيل ذلك.
وقول ابن التين ليس في الحديث تمني الشهادة إنما فيه تمني الغزو مردود بأن الشهادة هي الثمرة العظمى المطلوبة في الغزو ( ثم وضع رأسه) ثانيًا ( فنام ثم استيقظ) حال كونه ( يضحك قالت فقلت) زاد ابن وضاح: له ( يا رسول الله ما يضحكك قال ناس من أمتي عرضوا علي غزاة في سبيل الله) يركبون البر ( ملوكًا على الأسرة أو) قال ( مثل الملوك على الأسرة كما قال في الأولى) من تشبيههم بالملوك وشك إسحاق.

( قالت: فقلت: يا رسول الله ادع الله أن يجعلني منهم قال أنت من الأولين) الذين يركبون ثبج البحر، زاد أبو عوانة من وجه آخر: ولست من الآخرين وللبخاري من وجه آخر أنه قال: في الأولى يغزون هذا البحر، وفي الثانية يغزون قيصر، فيدل على أن الثانية إنما غزت في البر كما في الفتح.
لكن في رواية أخرجها ابن عبد البر من طريق محمد بن يحيى بن حبان عن أنس عن أم حرام قال: اللهم اجعلها منهم ثم نام فاستيقظ وهو يضحك فقلت مم تضحك فقال: عرض علي ناس من أمتي يركبون ظهر البحر، لكن المروي في البخاري من الطريق المذكورة فقال مثل ذلك.

( قال) أنس ( فركبت) أم حرام ( البحر) مع زوجها عبادة ( في زمان) غزو ( معاوية بن أبي سفيان) صخر بن حرب في خلافة عثمان سنة ثمان وعشرين، وكان معاوية أمير الجيش من جهة عثمان على غزاة قبرس، وهي أول غزوة كانت إلى الروم هذا قول أكثر العلماء وأهل السير.
وقال البخاري ومسلم: في خلافة معاوية.
قال الباجي وعياض: وهو الأظهر ( فصرعت عن دابتها حين خرجت من البحر فهلكت) أي ماتت لما رجعوا من الغزو بغير مباشرة قتال ففي رواية للبخاري فخرجت مع زوجها عبادة غازيًا أول ما ركب المسلمون البحر مع معاوية فلما انصرفوا من غزوهم قافلين نزلوا الشام فقرّبت إليها دابة لتركبها فصرعتها فماتت.
وله أيضًا: فلما رجعت قرّبت لها دابة لتركبها فوقعت فاندقت عنقها.
ولمسلم مرفوعًا: من مات في سبيل الله فهو شهيد، وروى ابن وهب مرفوعًا: من صرع عن دابته في سبيل الله فمات فهو شهيد، أخرجه الطبراني بإسناد حسن.
ففي حديث أم حرام أن حكم الراجع من الغزو حكم الذاهب إليه في الثواب.
وفي الصحيح عن أم حرام أيضًا مرفوعًا: أول جيش من أمتي يغزون البحر قد أوجبوا قلت أنا منهم؟ قال: أنت منهم ثم قال: أول جيش من أمتي يغزون مدينة قيصر مغفور لهم فقلت أنا منهم؟ قال: لا.

قال المهلب فيه منقبة لمعاوية لأنه أول من غزا البحر ولابنه يزيد لأنه أول من غزا مدينة قيصر، وهي القسطنطينية.
وتعقبه ابن المنير وابن التين بما حاصله أنه لا يلزم من دخوله في ذلك العموم أن لا يخرج بدليل خاص إذ لا خلاف أن قوله مغفور لهم مشروط بأن يكونوا من أهل المغفرة حتى لو ارتد واحد بعد ذلك لم يدخل في العموم اتفاقًا، فدل على أن المراد مغفور لمن وجد شرط المغفرة فيه منهم واحتمال أن يزيد لم يحضر مع الجيش مردود إلا أن يراد لم يباشر القتال فيمكن لأنه كان أميرًا على ذلك الجيش اتفاقًا من قبل أبيه وكان فيه أبو أيوب فمات فدفن عند باب مدينة قيصر سنة اثنين وخمسين وفيه جواز ركوب البحر الملح.
وذكر مالك أن عمر بن الخطاب منع منه فلما مات استأذن معاوية عثمان فأذن له في ركوبه فلم يزل يركب إلى أيام عمر بن عبد العزيز فمنع من ركوبه، ثم ركب بعده إلى الآن.

قال ابن عبد البر: وإنما منع العمران ركوبه في التجارة وطلب الدنيا أما في الجهاد والحج فلا وقد أباحت السنة ركوبه للجهاد فالحج المفترض أولى قال: وأكثر العلماء يجوزون ركوبه في طلب الحلال إذا تعذر البر ولا خلاف بينهم في حرمة ركوبه عند ارتجاجه.
وكره مالك ركوب النساء البحر لما يخشى من اطلاعهن على عورات الرجال وعكسه، إذ يعسر الاحتراز من ذلك وخصه أصحابه بالسفن الصغار أما الكبار التي يمكن فيها الاستتار بأماكن تخصهنّ فلا حرج.

وفيه مشروعية القائلة لما فيها من الإعانة على قيام الليل وعلم من أعلام النبوة وهو الإخبار بما سيقع فوقع كما قال صلى الله عليه وسلم وفضل شهيد البحر، وقد اختلف هل هو أفضل لحديث: من لم يدرك الغزو معي فليغز في البحر فإن غزاة في البحر أفضل من غزوتين في البر، الحديث، وهو ضعيف.
أو شهيد البر أفضل لقوله صلى الله عليه وسلم: أفضل الشهداء من عقر جواده وأهريق دمه وفيه غير ذلك.

وأخرجه البخاري هنا عن عبد الله بن يوسف وفي الاستئذان عن إسماعيل ومسلم عن يحيى الثلاثة عن مالك به ( مالك عن يحيى بن سعيد) بن قيس الأنصاري ( عن أبي صالح) ذكوان ( السمان عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لولا أن أشق على أمتي) بعدم طيب نفوسهم بالتخلف عني ولا قدرة لهم على آلة السفر ولا لي ما أحملهم عليه فالاستدراك الآتي مفسر للمراد بالمشقة كرواية الصحيحين عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة: والذي نفسي بيده لولا أن رجالاً من المؤمنين لا تطيب أنفسهم أن يتخلفوا عني ولا أجد ما أحملهم عليه ( لأحببت أن لا أتخلف عن سرية) قطعة من الجيش تبعث إلى العدو ( تخرج في سبيل الله) الجهاد ( ولكني لا أجد ما أحملهم عليه) ، وفي رواية للبخاري: ولكن لا أجد حمولة ولا أجد ما أحملهم عليه والحمولة بالفتح الإبل الكبار التي يحمل عليها ( ولا يجدون ما يتحملون عليه فيخرجون) معي لعجزهم عن آلة السفر من مركوب وغيره.
وفي مسلم عن همام عن أبي هريرة لكن لا أجد سعة فأحملهم ولا يجدون سعة فيتبعوني ( ويشق عليهم أن يتخلفوا بعدي) وفي رواية للبخاري: ويشق علي أن يتخلفوا عني.
وللطبراني: ويشق علي وعليهم ( فوددت) بكسر الدال الأولى وسكون الثانية تمنيت وسبق من رواية الأعرج: والذي نفسي بيده لوددت ( أني أقاتل في سبيل الله فأقتل ثم أحيا فأقتل ثم أحيا فأقتل) بالبناء للمفعول في الجميع، وتمنى ذلك حرصًا منه على الوصول إلى أعلى درجات الشاكرين بذلاً لنفسه في مرضاة ربه وإعلاء كلمته ورغبة في الازدياد من الثواب ولتتأسى به أمته.

قال الحافظ: حكمة إيراد هذه عقب تلك إرادة تسلية الخارجين في الجهاد عن مرافقته لهم فكأنه قال: الوجه الذي تسيرون له فيه من الفضل ما أتمنى لأجله أن أقتل مرات فمهما فاتكم من مرافقتي والقعود معي من الفضل يحصل لكم مثله أو فوقه من فضل الجهاد فراعى خواطر الجميع، وقد خرج صلى الله عليه وسلم في بعض المغازي وخلف عنه المشار إليهم وكان ذلك حيث رجحت مصلحة خروجه على مراعاة حالهم وفيه بيان شدّة شفقته صلى الله عليه وسلم على أمته ورأفته بهم والحض على حسن النية وجواز ترك بعض المصالح لمصلحة راجحة أو أرجح أو لدفع مفسدة والسعي في إزالة المكروه عن المسلمين.

( مالك عن يحيى بن سعيد) الأنصاري ( قال لما كان) وجد ( يوم أحد) بضم الهمزة والحاء وبالدال المهملتين مذكر مصروف وقيل: يجوز تأنيثه على توقع البقعة فيمنع وليس بقوي جبل بالمدينة على أقل من فرسخ منها لأن بين أوله وبين بابها المعروف بباب البقيع ميلين وأربعة أسباع ميل تزيد يسيرًا ( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من يأتيني بخبر سعد بن الربيع) بن عمرو النجاري أحد نقباء الأنصار، شهد بدرًا وآخى النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبين عبد الرحمن بن عوف فقال: إني أكثر الأنصار مالاً فأقاسمك مالي، ولي زوجتان فأيتهما أحببت أطلقها ثم تتزوجها.
قال عبد الرحمن: بارك الله لك في أهلك ومالك ( الأنصاري) أفي الأحياء هو أم في الأموات؟ فإني رأيت اثني عشر رمحًا شرعي إليه كما عند ابن إسحاق ( فقال رجل أنا يا رسول الله) آتيك بخبره ( فذهب الرجل) هو أبي بن كعب قاله ابن عبد البر وابن الأثير واليعمري.
وقال الواقدي: هو محمد بن مسلمة.

وروى الحاكم عن زيد بن ثابت قال: بعثني النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد لطلب سعد بن الربيع وقال لي: إن رأيته فأقره مني السلام وقل له: يقول لك رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف تجدك؟ فلعله صلى الله عليه وسلم بعث الثلاثة متعاقبين أو دفعة واحدة ( يطوف) يمشي ( بين القتلى) زاد الواقدي: فنادى في القتلى يا سعد بن الربيع مرة بعد أخرى فلم يجبه حتى قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسلني إليك، فأجابه بصوت ضعيف ( فقال له سعد بن الربيع ما شأنك فقال الرجل بعثني إليك رسول الله صلى الله عليه وسلم لآتيه بخبرك) وعند ابن إسحاق أمرني أن أنظر أفي الأحياء أنت أم في الأموات؟ ( قال) أنا في الأموات ( فاذهب إليه فأقرئه مني السلام) وزاد الواقدي: وقل جزاك الله عنا خير ما جزى نبيًا عن أمته، وقل له: إني لأجد ريح الجنة ( وأخبره أني قد طعنت اثنتي) ولابن وضاح ثنتي ( عشرة طعنة) بعدد الرماح التي رآها صلى الله عليه وسلم شرعي إليه.
وفي حديث زيد بن ثابت فوجده جريحًا في القتلى وبه سبعون ضربة ما بين طعنة برمح وضربة بسيف ورمية بسهم ولا تنافي كما هو ظاهر ( و) أخبره ( أني قد أنفذت مقاتلي) فأنا في الأموات ( وأخبر قومك) وعند الواقدي: وأبلغ قومك عني السلام وقل لهم ( إنه لا عذر لهم عند الله إن قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم وواحد منهم حي) زاد ابن إسحاق: ثم لم أبرح حتى مات فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته خبره.

قال ابن عبد البر: هذا الحديث لا أحفظه ولا أعرفه مسندًا، وهو محفوظ عند أهل السير، وقد ذكره ابن إسحاق عن محمد بن عبد الله بن عبد الرحمن بن صعصعة المازني.
قال الحافظ: وفي الصحيح من حديث أنس ما يشهد لبعضه.

( مالك عن يحيى بن سعيد) مرسل وصله الشيخان من رواية ابن عيينة عن عمرو بن دينار عن جابر ومسلم من حديث أنس ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رغب في الجهاد) يوم بدر فقال: والذي نفسي بيده لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابرًا محتسبًا مقبلاً غير مدبر إلا أدخله الله الجنة كما عند ابن إسحاق ( وذكر الجنة) روى مسلم عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم بدر قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض.
فقال عمير بن الحمام: يا رسول الله جنة عرضها السموات والأرض؟ قال: نعم قال: بخ بخ فقال صلى الله عليه وسلم ما يحملك على قولك بخ بخ؟ قال: لا والله يا رسول الله إلا رجاء أن أكون من أهلها.
قال: فإنك من أهلها فأخرج تمرات فجعل يأكل منهن ثم قال: لئن أنا حييت حتى آكل تمراتي، إنها لحياة طويلة فرمى بالتمرة ثم قاتل حتى قتل.
( ورجل من الأنصار) هو عمير بضم العين ابن الحمام بضم المهملة وخفة الميم الخزرجي ( يأكل تمرات في يده فقال إني لحريص على الدنيا إن جلست حتى أفرغ منهن) أي من أكل التمرات ( فرمى ما في يده) من التمر وقال: فما بيني وبين أن أدخل الجنة إلا أن يقتلني هؤلاء ( فحمل بسيفه فقاتل) القوم ( حتى قتل) زاد ابن إسحاق وهو يقول:

ركضنا إلى الله بغير زاد
إلا التقى وعمل المعاد

والصبر في الله على الجهاد
وكل زاد عرضة النفاد

غير التقى والبر والرشاد

وقتله خالد بن الأعلم العقيلي.
قال موسى بن عقبة: وهو أول قتيل قتل يومئذ وقال ابن إسحاق أولهم مهجع.
وقال ابن سعد: أولهم حارثة بن سراقة وعدة شهداء بدر أربعة عشر رجلاً ستة مهاجرون وثمانية أنصار بينتهم في شرح المواهب.

( مالك عن يحيى بن سعيد عن معاذ بن جبل أنه قال) موقوفًا وقد رواه أبو داود والنسائي، وصححه الحاكم وحسنه ابن عبد البر من طريق خالد بن معدان عن أبي بحرية عن معاذ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( الغزو غزوان) غزو على ما ينبغي، وغزو على ما لا ينبغي فاختصر الكلام واستغنى بذكر الغزاة وعد أصنافها وشرح حالهم وبيان أحكامهم عن ذكر القسمين وشرح حال كل واحد منهم مفصلا،ً قاله البيضاوي ( فغزو تنفق فيه الكريمة) قال الباجي: أي كرائم المال وخياره، وقال غيره: أي الناقة العزيزة عليه المختارة عنده.
وقال البوني: أي الذهب والفضة سميت كريمة لأنها تكرم عن السؤال وغيره وقال ابن عبد البر: أي ما يكرم عليك من المال مما يقيك به الله شح نفسك ولقد أحسن القائل:

وقد تخرج الحاجات يا أم مالك
كرائم من رب بهن ضنين

( ويياسر) بضم الياء الأولى ( فيه الشريك) أي يؤخذ باليسر والسهولة مع الرفيق نفعًا بالمعونة وكفاية للمؤنة.
وقال الباجي: يريد موافقته في رأيه مما يكون طاعة ومتابعته عليه وقلة مشاحته فيما يشاركه فيه من نفقة أو عمل ( ويطاع فيه ذو الأمر) بأن يفعل ما أمر به إذا لم يكن معصية إذ لا طاعة فيها إنما الطاعة في المعروف ( ويجتنب فيه الفساد) بأن لا يتجاوز المشروع في نحو قتل ونهب وتخريب ( فذلك الغزو خير كله) أي ذو خير وثواب والمراد أن من هذا شأنه فجميع حالاته من حركة وسكون ونوم ويقظة جالبة للخير والثواب، أي أن كلاً من ذلك له أجر ولفظ المرفوع المشار إليه، فأما من غزا ابتغاء وجه الله وأطاع الإمام وأنفق الكريمة وياسر الشريك واجتنب الفساد في الأرض فإن نومه ونبهه أجر كله ( وغزو لا ينفق فيه الكريمة ولا يياسر) بضم الياء الأولى ( فيه الشريك ولا يطاع فيه ذو الأمر) الإمام أو نائبه ( ولا يجتنب) بالبناء للمفعول في الأربعة ( فيه الفساد فذلك الغزو لا يرجع صاحبه كفافًا) من كفاف الشيء وهو خياره أو من الرزق، أي لا يرجع بخير أو بثواب يغنيه أو لا يعود رأسًا برأس بحيث لا أجر ولا وزر بل عليه الوزر العظيم.
ولفظ المرفوع: وأما من غزا فخرًا ورياء وعصى الإمام وأفسد في الأرض فإنه لن يرجع بالكفاف.



رقم الحديث 1010 وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ أَنَّهُ قَالَ: الْغَزْوُ غَزْوَانِ: فَغَزْوٌ تُنْفَقُ فِيهِ الْكَرِيمَةُ، وَيُيَاسَرُ فِيهِ الشَّرِيكُ، وَيُطَاعُ فِيهِ ذُو الْأَمْرِ، وَيُجْتَنَبُ فِيهِ الْفَسَادُ، فَذَلِكَ الْغَزْوُ خَيْرٌ كُلُّهُ.
وَغَزْوٌ لَا تُنْفَقُ فِيهِ الْكَرِيمَةُ وَلَا يُيَاسَرُ فِيهِ الشَّرِيكُ، وَلَا يُطَاعُ فِيهِ ذُو الْأَمْرِ، وَلَا يُجْتَنَبُ فِيهِ الْفَسَادُ، فَذَلِكَ الْغَزْوُ لَا يَرْجِعُ صَاحِبُهُ كَفَافًا.


( مالك عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة) زيد بن سهل الأنصاري ( عن) عمه ( أنس بن مالك قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذهب إلى قباء) بضم القاف والمدّ والصرف مذكر وبالقصر والتأنيث ومنع الصرف ( يدخل على أم حرام) بحاء وراء مهملتين مفتوحتين ( بنت ملحان) بكسر الميم وإسكان اللام ومهملة فألف فنون، واسمه مالك بن خالد بن زيد بن حرام بفتح المهملتين الأنصارية خالة أنس.
قال أبو عمر: لم أقف لها على اسم صحيح.
قال في الإصابة: ويقال إنها الرميصاء، بالراء أو الغميصاء، بالغين المعجمة، ولا يصح بل الصحيح أن ذلك وصف لأختها أم سليم ثبت ذلك في حديثين لأنس وجابر عند النسائي.
( فتطعمه) مما في بيتها من الطعام ( وكانت أم حرام تحت عبادة بن الصامت) أي كانت زوجة له حينئذ في الزمن النبوي هذا ظاهره.
وللبخاري من وجه آخر التصريح عن أنس أن عبادة تزوّجها بعد.
وجمع ابن التين بأنها كانت إذ ذاك زوجته ثم طلقها ثم راجعها بعد ذلك والحافظ يحمل رواية إسحاق على أنها جملة معترضة أراد وصفها به غير مقيد بحال من الأحوال، وظهر من رواية غيره أنه إنما تزوّجها بعد وهذا أولى لاتفاق محمد بن يحيى بن حبان وعبد الله بن عبد الرحمن أبي طوالة الأنصاري كلاهما عن أنس عند البخاري على أن عبادة تزوجها بعد ذلك.

قال: ثم ظاهر رواية إسحاق أن الحديث من مسند أنس، وكذا هو ظاهر قول أبي طوالة عن أنس: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على بنت ملحان وأما محمد بن يحيى فقال: عن أنس عن خالته أم حرام وهو ظاهر في أنه من مسند أمّ حرام وهو المعتمد وكأن أنسًا لم يحضر ذلك فحمله عن خالته.
( فدخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأطعمته) لم يوقف على تعيين ما أكل عندها يومئذ ( وجلست تفلي) بفتح الفوقية وإسكان الفاء وكسر اللام من فلى يفلي كضرب يضرب أي تفتش، ( في) شعر ( رأسه) لإخراج الهوام أو للتنظيف، واختلف هل كان فيه قمل ولا يؤذيه أو لم يكن فيه أصلاً وإنما تفلي ثوبه للتنظيف من نحو الغبار وإنما كان يدخل عليها ويمكنها من التفلية لأنها ذات محرم منه لأنها خالة أبيه أو جده عبد المطلب لأن أمه من بني النجار.
وقال ابن وهب كانت إحدى خالاته من الرضاعة.
قال ابن عبد البر فأي ذلك كان فهي محرم له على أنه صلى الله عليه وسلم معصوم ليس كغيره ولا يقاس به سواه انتهى.

وحكى النووي الاتفاق على أنها محرم، وصحح الحافظ الدمياطي أن لا محرمية بينهما في جزء أفرده لذلك وقال: ليس في الحديث ما يدل على الخلوة بها فلعل ذلك كان مع ولد أو زوج أو خادم أو تابع، والعادة تقتضي المحافظة بين المخدوم وأهل الخادم لا سيما إذا كن مسنات مع ما ثبت له صلى الله عليه وسلم من العصمة وقيل هو من خصائصه، وإليه أومأ ابن عبد البر قال في الفتح، والذي وضح لنا بالأدلة القوية أن من خصائصه صلى الله عليه وسلم جواز الخلوة بالأجنبية والنظر إليها لمكان عصمته وإن نازع في ذلك القاضي عياض بأن الخصائص لا تثبت بالاحتمال قال وثبوت العصمة مسلم لكن الأصل عدم الخصوصية.

( فنام رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا) أي في يوم، وفي رواية: فقال بالقاف أي نام وقت القائلة، ( ثم استيقظ وهو يضحك) سرورًا بكون أمته تبقى بعده مظهرة أمور الإسلام قائمة بالجهاد حتى في البحر، والجملة حالية ( قالت) أم حرام ( فقلت ما يضحكك) بلفظ المضارع ( قال ناس من أمتي عرضوا علي) بشد الياء حال كونهم ( غزاة في سبيل الله يركبون ثبج) بفتح المثلثة والموحدة والجيم ( هذا) بمعنى ذلك ( البحر) أي وسطه أو معظمه أو هوله أقوال ولمسلم: يركبون ظهر البحر أي السفن التي تجري على ظهره ولما كان غالب جريها إنما يكون في وسطه قيل المراد وسطه وإلا فلا اختصاص له بالركوب زاد في رواية للبخاري الأخضر فقيل المراد الأسود وقال الكرماني الأخضر صفة لازمة للبحر لا مخصصة إذ كل البحار خضر فإن قيل الماء بسيط لا لون له قلت تتوهم الخضرة من انعكاس الهواء وسائر مقابلاته إليه ( ملوكًا) نصب بنزع الخافض أي مثل ملوك كذا قيل والظاهر أنه حال ثانية من ناس بالتقدير المذكور ( على الأسرة) جمع سرير كسرر بضمتين ( أو مثل الملوك على الأسرة يشك) بالمضارع ( إسحاق) شيخ مالك في اللفظ الذي قاله أنس.
قال أبو عمر رأى صلى الله عليه وسلم صفتهم في الجنة كما قال تعالى: { { عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ } } وقال النووي: الأصح أنه صفتهم في الدنيا أي أنهم يركبون مراكب الملوك لسعة مالهم واستقامة أمرهم وكثرة عددهم.
قال الحافظ والإتيان بالتمثيل في معظم طرق الحديث يدل على أنه رأى ما يؤول إليه أمرهم لا أنهم نالوا ذلك في تلك الحالة أو موضع التشبيه أنهم فيما هم فيه من النعيم الذي أثيبوا به على جهادهم مثل ملوك الدنيا على أسرتهم والتشبيه بالمحسوس أبلغ في نفس السامع.

( قالت) أم حرام ( فقلت) زاد ابن وضّاح له ( يا رسول الله ادع الله أن يجعلني منهم فدعا لها) واستشكل الدعاء بالشهادة لأن حاصله أن يدعو الله أن يمكن منه كافرًا يعصي الله بقتله فيقل عدد المسلمين وتسر قلوب الكفار ومقتضى قواعد الفقه أن لا يتمنى معصية الله لنفسه ولا لغيره.
وأجاب ابن المنير بأن المدعو به قصدًا إنما هو نيل الدرجة الرفيعة المعدة للشهداء، وأما قتل الكافر للمسلم فليس بمقصود للداعي وإنما هو من ضرورات الوجود لأن الله أجرى حكمه أن لا ينال تلك الدرجة إلا شهيد فاغتفر لحصول المصلحة العظمى من دفع الكفار وإذلالهم وقهرهم بقصد قتلهم حصول ما يقع في ضمن ذلك من قتل بعض المسلمين وجاز تمني الشهادة لما بذل عليه من وقعت له في إعلاء كلمة الله حتى بذل نفسه في تحصيل ذلك.
وقول ابن التين ليس في الحديث تمني الشهادة إنما فيه تمني الغزو مردود بأن الشهادة هي الثمرة العظمى المطلوبة في الغزو ( ثم وضع رأسه) ثانيًا ( فنام ثم استيقظ) حال كونه ( يضحك قالت فقلت) زاد ابن وضاح: له ( يا رسول الله ما يضحكك قال ناس من أمتي عرضوا علي غزاة في سبيل الله) يركبون البر ( ملوكًا على الأسرة أو) قال ( مثل الملوك على الأسرة كما قال في الأولى) من تشبيههم بالملوك وشك إسحاق.

( قالت: فقلت: يا رسول الله ادع الله أن يجعلني منهم قال أنت من الأولين) الذين يركبون ثبج البحر، زاد أبو عوانة من وجه آخر: ولست من الآخرين وللبخاري من وجه آخر أنه قال: في الأولى يغزون هذا البحر، وفي الثانية يغزون قيصر، فيدل على أن الثانية إنما غزت في البر كما في الفتح.
لكن في رواية أخرجها ابن عبد البر من طريق محمد بن يحيى بن حبان عن أنس عن أم حرام قال: اللهم اجعلها منهم ثم نام فاستيقظ وهو يضحك فقلت مم تضحك فقال: عرض علي ناس من أمتي يركبون ظهر البحر، لكن المروي في البخاري من الطريق المذكورة فقال مثل ذلك.

( قال) أنس ( فركبت) أم حرام ( البحر) مع زوجها عبادة ( في زمان) غزو ( معاوية بن أبي سفيان) صخر بن حرب في خلافة عثمان سنة ثمان وعشرين، وكان معاوية أمير الجيش من جهة عثمان على غزاة قبرس، وهي أول غزوة كانت إلى الروم هذا قول أكثر العلماء وأهل السير.
وقال البخاري ومسلم: في خلافة معاوية.
قال الباجي وعياض: وهو الأظهر ( فصرعت عن دابتها حين خرجت من البحر فهلكت) أي ماتت لما رجعوا من الغزو بغير مباشرة قتال ففي رواية للبخاري فخرجت مع زوجها عبادة غازيًا أول ما ركب المسلمون البحر مع معاوية فلما انصرفوا من غزوهم قافلين نزلوا الشام فقرّبت إليها دابة لتركبها فصرعتها فماتت.
وله أيضًا: فلما رجعت قرّبت لها دابة لتركبها فوقعت فاندقت عنقها.
ولمسلم مرفوعًا: من مات في سبيل الله فهو شهيد، وروى ابن وهب مرفوعًا: من صرع عن دابته في سبيل الله فمات فهو شهيد، أخرجه الطبراني بإسناد حسن.
ففي حديث أم حرام أن حكم الراجع من الغزو حكم الذاهب إليه في الثواب.
وفي الصحيح عن أم حرام أيضًا مرفوعًا: أول جيش من أمتي يغزون البحر قد أوجبوا قلت أنا منهم؟ قال: أنت منهم ثم قال: أول جيش من أمتي يغزون مدينة قيصر مغفور لهم فقلت أنا منهم؟ قال: لا.

قال المهلب فيه منقبة لمعاوية لأنه أول من غزا البحر ولابنه يزيد لأنه أول من غزا مدينة قيصر، وهي القسطنطينية.
وتعقبه ابن المنير وابن التين بما حاصله أنه لا يلزم من دخوله في ذلك العموم أن لا يخرج بدليل خاص إذ لا خلاف أن قوله مغفور لهم مشروط بأن يكونوا من أهل المغفرة حتى لو ارتد واحد بعد ذلك لم يدخل في العموم اتفاقًا، فدل على أن المراد مغفور لمن وجد شرط المغفرة فيه منهم واحتمال أن يزيد لم يحضر مع الجيش مردود إلا أن يراد لم يباشر القتال فيمكن لأنه كان أميرًا على ذلك الجيش اتفاقًا من قبل أبيه وكان فيه أبو أيوب فمات فدفن عند باب مدينة قيصر سنة اثنين وخمسين وفيه جواز ركوب البحر الملح.
وذكر مالك أن عمر بن الخطاب منع منه فلما مات استأذن معاوية عثمان فأذن له في ركوبه فلم يزل يركب إلى أيام عمر بن عبد العزيز فمنع من ركوبه، ثم ركب بعده إلى الآن.

قال ابن عبد البر: وإنما منع العمران ركوبه في التجارة وطلب الدنيا أما في الجهاد والحج فلا وقد أباحت السنة ركوبه للجهاد فالحج المفترض أولى قال: وأكثر العلماء يجوزون ركوبه في طلب الحلال إذا تعذر البر ولا خلاف بينهم في حرمة ركوبه عند ارتجاجه.
وكره مالك ركوب النساء البحر لما يخشى من اطلاعهن على عورات الرجال وعكسه، إذ يعسر الاحتراز من ذلك وخصه أصحابه بالسفن الصغار أما الكبار التي يمكن فيها الاستتار بأماكن تخصهنّ فلا حرج.

وفيه مشروعية القائلة لما فيها من الإعانة على قيام الليل وعلم من أعلام النبوة وهو الإخبار بما سيقع فوقع كما قال صلى الله عليه وسلم وفضل شهيد البحر، وقد اختلف هل هو أفضل لحديث: من لم يدرك الغزو معي فليغز في البحر فإن غزاة في البحر أفضل من غزوتين في البر، الحديث، وهو ضعيف.
أو شهيد البر أفضل لقوله صلى الله عليه وسلم: أفضل الشهداء من عقر جواده وأهريق دمه وفيه غير ذلك.

وأخرجه البخاري هنا عن عبد الله بن يوسف وفي الاستئذان عن إسماعيل ومسلم عن يحيى الثلاثة عن مالك به ( مالك عن يحيى بن سعيد) بن قيس الأنصاري ( عن أبي صالح) ذكوان ( السمان عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لولا أن أشق على أمتي) بعدم طيب نفوسهم بالتخلف عني ولا قدرة لهم على آلة السفر ولا لي ما أحملهم عليه فالاستدراك الآتي مفسر للمراد بالمشقة كرواية الصحيحين عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة: والذي نفسي بيده لولا أن رجالاً من المؤمنين لا تطيب أنفسهم أن يتخلفوا عني ولا أجد ما أحملهم عليه ( لأحببت أن لا أتخلف عن سرية) قطعة من الجيش تبعث إلى العدو ( تخرج في سبيل الله) الجهاد ( ولكني لا أجد ما أحملهم عليه) ، وفي رواية للبخاري: ولكن لا أجد حمولة ولا أجد ما أحملهم عليه والحمولة بالفتح الإبل الكبار التي يحمل عليها ( ولا يجدون ما يتحملون عليه فيخرجون) معي لعجزهم عن آلة السفر من مركوب وغيره.
وفي مسلم عن همام عن أبي هريرة لكن لا أجد سعة فأحملهم ولا يجدون سعة فيتبعوني ( ويشق عليهم أن يتخلفوا بعدي) وفي رواية للبخاري: ويشق علي أن يتخلفوا عني.
وللطبراني: ويشق علي وعليهم ( فوددت) بكسر الدال الأولى وسكون الثانية تمنيت وسبق من رواية الأعرج: والذي نفسي بيده لوددت ( أني أقاتل في سبيل الله فأقتل ثم أحيا فأقتل ثم أحيا فأقتل) بالبناء للمفعول في الجميع، وتمنى ذلك حرصًا منه على الوصول إلى أعلى درجات الشاكرين بذلاً لنفسه في مرضاة ربه وإعلاء كلمته ورغبة في الازدياد من الثواب ولتتأسى به أمته.

قال الحافظ: حكمة إيراد هذه عقب تلك إرادة تسلية الخارجين في الجهاد عن مرافقته لهم فكأنه قال: الوجه الذي تسيرون له فيه من الفضل ما أتمنى لأجله أن أقتل مرات فمهما فاتكم من مرافقتي والقعود معي من الفضل يحصل لكم مثله أو فوقه من فضل الجهاد فراعى خواطر الجميع، وقد خرج صلى الله عليه وسلم في بعض المغازي وخلف عنه المشار إليهم وكان ذلك حيث رجحت مصلحة خروجه على مراعاة حالهم وفيه بيان شدّة شفقته صلى الله عليه وسلم على أمته ورأفته بهم والحض على حسن النية وجواز ترك بعض المصالح لمصلحة راجحة أو أرجح أو لدفع مفسدة والسعي في إزالة المكروه عن المسلمين.

( مالك عن يحيى بن سعيد) الأنصاري ( قال لما كان) وجد ( يوم أحد) بضم الهمزة والحاء وبالدال المهملتين مذكر مصروف وقيل: يجوز تأنيثه على توقع البقعة فيمنع وليس بقوي جبل بالمدينة على أقل من فرسخ منها لأن بين أوله وبين بابها المعروف بباب البقيع ميلين وأربعة أسباع ميل تزيد يسيرًا ( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من يأتيني بخبر سعد بن الربيع) بن عمرو النجاري أحد نقباء الأنصار، شهد بدرًا وآخى النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبين عبد الرحمن بن عوف فقال: إني أكثر الأنصار مالاً فأقاسمك مالي، ولي زوجتان فأيتهما أحببت أطلقها ثم تتزوجها.
قال عبد الرحمن: بارك الله لك في أهلك ومالك ( الأنصاري) أفي الأحياء هو أم في الأموات؟ فإني رأيت اثني عشر رمحًا شرعي إليه كما عند ابن إسحاق ( فقال رجل أنا يا رسول الله) آتيك بخبره ( فذهب الرجل) هو أبي بن كعب قاله ابن عبد البر وابن الأثير واليعمري.
وقال الواقدي: هو محمد بن مسلمة.

وروى الحاكم عن زيد بن ثابت قال: بعثني النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد لطلب سعد بن الربيع وقال لي: إن رأيته فأقره مني السلام وقل له: يقول لك رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف تجدك؟ فلعله صلى الله عليه وسلم بعث الثلاثة متعاقبين أو دفعة واحدة ( يطوف) يمشي ( بين القتلى) زاد الواقدي: فنادى في القتلى يا سعد بن الربيع مرة بعد أخرى فلم يجبه حتى قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسلني إليك، فأجابه بصوت ضعيف ( فقال له سعد بن الربيع ما شأنك فقال الرجل بعثني إليك رسول الله صلى الله عليه وسلم لآتيه بخبرك) وعند ابن إسحاق أمرني أن أنظر أفي الأحياء أنت أم في الأموات؟ ( قال) أنا في الأموات ( فاذهب إليه فأقرئه مني السلام) وزاد الواقدي: وقل جزاك الله عنا خير ما جزى نبيًا عن أمته، وقل له: إني لأجد ريح الجنة ( وأخبره أني قد طعنت اثنتي) ولابن وضاح ثنتي ( عشرة طعنة) بعدد الرماح التي رآها صلى الله عليه وسلم شرعي إليه.
وفي حديث زيد بن ثابت فوجده جريحًا في القتلى وبه سبعون ضربة ما بين طعنة برمح وضربة بسيف ورمية بسهم ولا تنافي كما هو ظاهر ( و) أخبره ( أني قد أنفذت مقاتلي) فأنا في الأموات ( وأخبر قومك) وعند الواقدي: وأبلغ قومك عني السلام وقل لهم ( إنه لا عذر لهم عند الله إن قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم وواحد منهم حي) زاد ابن إسحاق: ثم لم أبرح حتى مات فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته خبره.

قال ابن عبد البر: هذا الحديث لا أحفظه ولا أعرفه مسندًا، وهو محفوظ عند أهل السير، وقد ذكره ابن إسحاق عن محمد بن عبد الله بن عبد الرحمن بن صعصعة المازني.
قال الحافظ: وفي الصحيح من حديث أنس ما يشهد لبعضه.

( مالك عن يحيى بن سعيد) مرسل وصله الشيخان من رواية ابن عيينة عن عمرو بن دينار عن جابر ومسلم من حديث أنس ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رغب في الجهاد) يوم بدر فقال: والذي نفسي بيده لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابرًا محتسبًا مقبلاً غير مدبر إلا أدخله الله الجنة كما عند ابن إسحاق ( وذكر الجنة) روى مسلم عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم بدر قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض.
فقال عمير بن الحمام: يا رسول الله جنة عرضها السموات والأرض؟ قال: نعم قال: بخ بخ فقال صلى الله عليه وسلم ما يحملك على قولك بخ بخ؟ قال: لا والله يا رسول الله إلا رجاء أن أكون من أهلها.
قال: فإنك من أهلها فأخرج تمرات فجعل يأكل منهن ثم قال: لئن أنا حييت حتى آكل تمراتي، إنها لحياة طويلة فرمى بالتمرة ثم قاتل حتى قتل.
( ورجل من الأنصار) هو عمير بضم العين ابن الحمام بضم المهملة وخفة الميم الخزرجي ( يأكل تمرات في يده فقال إني لحريص على الدنيا إن جلست حتى أفرغ منهن) أي من أكل التمرات ( فرمى ما في يده) من التمر وقال: فما بيني وبين أن أدخل الجنة إلا أن يقتلني هؤلاء ( فحمل بسيفه فقاتل) القوم ( حتى قتل) زاد ابن إسحاق وهو يقول:

ركضنا إلى الله بغير زاد
إلا التقى وعمل المعاد

والصبر في الله على الجهاد
وكل زاد عرضة النفاد

غير التقى والبر والرشاد

وقتله خالد بن الأعلم العقيلي.
قال موسى بن عقبة: وهو أول قتيل قتل يومئذ وقال ابن إسحاق أولهم مهجع.
وقال ابن سعد: أولهم حارثة بن سراقة وعدة شهداء بدر أربعة عشر رجلاً ستة مهاجرون وثمانية أنصار بينتهم في شرح المواهب.

( مالك عن يحيى بن سعيد عن معاذ بن جبل أنه قال) موقوفًا وقد رواه أبو داود والنسائي، وصححه الحاكم وحسنه ابن عبد البر من طريق خالد بن معدان عن أبي بحرية عن معاذ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( الغزو غزوان) غزو على ما ينبغي، وغزو على ما لا ينبغي فاختصر الكلام واستغنى بذكر الغزاة وعد أصنافها وشرح حالهم وبيان أحكامهم عن ذكر القسمين وشرح حال كل واحد منهم مفصلا،ً قاله البيضاوي ( فغزو تنفق فيه الكريمة) قال الباجي: أي كرائم المال وخياره، وقال غيره: أي الناقة العزيزة عليه المختارة عنده.
وقال البوني: أي الذهب والفضة سميت كريمة لأنها تكرم عن السؤال وغيره وقال ابن عبد البر: أي ما يكرم عليك من المال مما يقيك به الله شح نفسك ولقد أحسن القائل:

وقد تخرج الحاجات يا أم مالك
كرائم من رب بهن ضنين

( ويياسر) بضم الياء الأولى ( فيه الشريك) أي يؤخذ باليسر والسهولة مع الرفيق نفعًا بالمعونة وكفاية للمؤنة.
وقال الباجي: يريد موافقته في رأيه مما يكون طاعة ومتابعته عليه وقلة مشاحته فيما يشاركه فيه من نفقة أو عمل ( ويطاع فيه ذو الأمر) بأن يفعل ما أمر به إذا لم يكن معصية إذ لا طاعة فيها إنما الطاعة في المعروف ( ويجتنب فيه الفساد) بأن لا يتجاوز المشروع في نحو قتل ونهب وتخريب ( فذلك الغزو خير كله) أي ذو خير وثواب والمراد أن من هذا شأنه فجميع حالاته من حركة وسكون ونوم ويقظة جالبة للخير والثواب، أي أن كلاً من ذلك له أجر ولفظ المرفوع المشار إليه، فأما من غزا ابتغاء وجه الله وأطاع الإمام وأنفق الكريمة وياسر الشريك واجتنب الفساد في الأرض فإن نومه ونبهه أجر كله ( وغزو لا ينفق فيه الكريمة ولا يياسر) بضم الياء الأولى ( فيه الشريك ولا يطاع فيه ذو الأمر) الإمام أو نائبه ( ولا يجتنب) بالبناء للمفعول في الأربعة ( فيه الفساد فذلك الغزو لا يرجع صاحبه كفافًا) من كفاف الشيء وهو خياره أو من الرزق، أي لا يرجع بخير أو بثواب يغنيه أو لا يعود رأسًا برأس بحيث لا أجر ولا وزر بل عليه الوزر العظيم.
ولفظ المرفوع: وأما من غزا فخرًا ورياء وعصى الإمام وأفسد في الأرض فإنه لن يرجع بالكفاف.