فهرس الكتاب

شرح الزرقاني - بَابُ النِّدَاءِ فِي السَّفَرِ وَعَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ

رقم الحديث 56 وَحَدَّثَنِي عَنْ مالِكٍ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ الْأَنْصَارِيِّ، أَنَّ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ قَدِمَ مِنَ الْعِرَاقِ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ أَبُو طَلْحَةَ وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ فَقَرَّبَ لَهُمَا طَعَامًا قَدْ مَسَّتْهُ النَّارُ، فَأَكَلُوا مِنْهُ.
فَقَامَ أَنَسٌ فَتَوَضَّأَ فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ مَا هَذَا يَا أَنَسُ أَعِرَاقِيَّةٌ؟ فَقَالَ أَنَسٌ: لَيْتَنِي لَمْ أَفْعَلْ.
وَقَامَ أَبُو طَلْحَةَ وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، فَصَلَّيَا وَلَمْ يَتَوَضَّآَ.


( مَالِكٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ) العدوي مولى عمر ( عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ) بلفظ ضد يمين ( عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكَلَ كَتِفَ شَاةٍ) أي لحمه.
وفي رواية للبخاري معرق أي أكل ما على العرق بفتح المهملة وسكون الراء وهو العظم ويقال له أيضًا العراق بالضم، وأفاد القاضي إسماعيل أن ذلك في بيت ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب وهي بنت عمه صلى الله عليه وسلم، ويحتمل أنه كان في بيت ميمونة كما في الصحيحين عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم أكل عندها كتفًا ثم صلى ولم يتوضأ ولا مانع من التعدد كما في الفتح.

( ثُمَّ صَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ) فهذا نص في أن لا وضوء مما مست النار، وأما خبر زيد بن ثابت مرفوعًا: الوضوء مما مست النار، وحديث أبي هريرة وعائشة رفعاه: توضئوا مما مست النار أخرج الثلاثة مسلم، وحديث جابر بن سمرة عند مسلم أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم أتوضأ من لحم الغنم؟ قال: إن شئت فتوضأ وإن شئت فلا تتوضأ قال: أتوضأ من لحم الإبل؟ قال: نعم توضأ من لحوم الإبل فقد حمل ذلك الوضوء على غسل اليد والمضمضة لزيادة دسومته وزهومة لحم الإبل، وقد نهى صلى الله عليه وسلم أن يبيت وفي يده أو فمه دسم خوفًا من عقرب ونحوها وبأنها منسوخة بقول جابر كان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك الوضوء مما مست النار رواه أبو داود وغيره.
وقد أومأ مسلم إلى النسخ فروى أولاً أحاديث زيد وأبي هريرة وعائشة، ثم عقبها بحديث ابن عباس هذا فرواه عن القعنبي والبخاري عن ابن يوسف كلاهما عن مالك به.

( مالِكٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ) بكسر العين الأنصاري ( عَنْ بُشَيْرِ) بضم الموحدة وفتح المعجمة ( بْنِ يَسَارٍ) بتحتية ومهملة ( مَوْلَى بَنِي حَارِثَةَ) من الأنصار الأنصاري الحارثي المدني وثقه ابن معين.
قال ابن سعد: كان شيخًا كبيرًا فقيهًا أدرك عامة الصحابة وكان قليل الحديث.

( عَنْ سُوَيْدِ) بضم السين ( بْنِ النُّعْمَانِ) بضم النون ابن مالك الأنصاري صحابي شهد أحدًا وما بعدها ما روى عنه سوى بشير، وذكر العسكري أنه استشهد بالقادسية قال في الإصابة: وفيه نظر لأن بشير بن يسار سمع منه وهو لم يلحق ذلك الزمان ( أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ خَرَجَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ خَيْبَرَ) بخاء معجمة مفتوحة وتحتية ساكنة وموحدة مفتوحة وراء غير منصرف للعلمية والتأنيث وهي مدينة كبيرة ذات حصون ومزارع ونخل كثير على ثمانية برد من المدينة إلى جهة الشام.
ذكر أبو عبيد البكري أنها سميت باسم رجل من العماليق نزلها وهو خيبر أخو يثرب ابنا قانية بن مهاييل، وقيل الخيبر بلسان اليهود الحصن ولذا سميت خيابر أيضًا ذكره الحازمي.

( حَتَّى إِذَا كَانُوا بِالصَّهْبَاءِ) بفتح المهملة والمد ( وَهِيَ مِنْ أَدْنَى) أي أسفل ( خَيْبَرَ) أي طرفها مما يلي المدينة وفي رواية للبخاري وهي على روحة من خيبر، وقال أبو عبيد البكري: هي على بريد، وبين البخاري في الأطعمة من حديث ابن عيينة أن قوله وهي أدنى خيبر من قول يحيى بن سعيد أدرجت ( نَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَلَّى الْعَصْرَ ثُمَّ دَعَا بِالْأَزْوَادِ) جمع زاد وهو ما يؤكل في السفر ( فَلَمْ يُؤْتَ إِلَّا بِالسَّوِيقِ) قال الداودي: وهو دقيق الشعير أو السلت المقلو، وقال غيره يكون من القمح وقد وصفه أعرابي فقال عدة المسافر وطعام العجلان وبلغة المريض ( فَأَمَرَ بِهِ فَثُرِّيَ) بضم المثلثة وشد الراء ويجوز تخفيفها أي بل بالماء لما لحقه من اليبس ( فَأَكَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) منه ( وَأَكَلْنَا) منه.
زاد في رواية للبخاري وشربنا وله في أخرى فلكنا وأكلنا وشربنا أي من الماء أو من مائع السويق.

( ثُمَّ قَامَ إِلَى الْمَغْرِبِ فَمَضْمَضَ) قبل الدخول في الصلاة ( وَمَضْمَضْنَا) وفائدتها وإن كان لا دسم في السويق أنه يحتبس بقاياه بين الأسنان ونواحي الفم فيشغله ببلعه عن الصلاة ( ثُمَّ صَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ) بسبب أكل السويق.

قال الخطابي: فيه أن الوضوء مما مست النار منسوخ لأنه متقدم، وخيبر كانت سنة سبع.
قال الحافظ: لا دلالة فيه لأن أبا هريرة حضر بعد فتحها، وروي الأمر بالوضوء كما في مسلم، وكان يفتي به بعد النبي صلى الله عليه وسلم، واستدل به البخاري على جواز صلاتين فأكثر بوضوء واحد وعلى استحباب المضمضة بعد الطعام وفيه جمع الرفقاء على الزاد في السفر وإن كان بعضهم أكثر أكلاً وحمل الأزواد في السفر وأنه لا يقدح في التوكل، وأخذ منه المهلب أن الإمام يأخذ المحتكرين بإخراج الطعام عند قلته ليبيعوه من أهل الحاجة، وأن الإمام ينظر لأهل العسكر فيجمع الزاد ليصيب منه من لا زاد معه.

وأخرجه البخاري عن عبد الله بن يوسف عن مالك به ولم يخرجه مسلم.

( مالِكٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ) بن عبد الله بن الهدير بالتصغير التيمي المدني عن أبيه وجابر وابن عمر وابن عباس وأبي أيوب وأبي هريرة وعائشة وخلق، وعنه الزهري وأبو حنيفة ومالك والسفيانان وخلق.
قال ابن عيينة: كان من معادن الصدق ويجتمع إليه الصالحون، وثقه ابن معين وأبو حاتم مات سنة ثلاثين ومائة أو بعدها بسنة.

( وَعَنْ صَفْوَانَ بْنِ سُلَيْمٍ) بضم السين ( أَنَّهُمَا أَخْبَرَاهُ) أي مالكًا ( عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَارِثِ التَّيْمِيِّ) أي تيم قريش ( عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْهُدَيْرِ) بالتصغير ابن عبد العزى بن عامر بن الحارث بن حارثة بن سعد بن تيم بن مرة التيمي، ولد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وله عن أبي بكر وعمر وغيرهما وهو معدود في كبار التابعين قاله أبو عمر، ومنهم من أدخل بين عبد الله والهدير ربيعة آخر، وذكره ابن حبان فقال: له صحبة ثم ذكره في ثقات التابعين.
وقال الدارقطني: تابع كبير قليل المسند وكان ثقة من خيار الناس مات سنة ثلاث وتسعين.

( أَنَّهُ تَعَشَّى مَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ) طعامًا مسته النار ( ثُمَّ صَلَّى) عمر ( وَلَمْ يَتَوَضَّأْ) ففيه دلالة على النسخ.
وقد روى الطبراني في مسند الشاميين بإسناد حسن عن مسلم بن عامر قال: رأيت أبا بكر وعمر وعثمان أكلوا مما مست النار ولم يتوضئوا وجاء من طرق كثيرة عن جابر مرفوعًا وموقوفًا على الثلاثة مفرقًا ومجموعًا.

( مالِكٍ عَنْ ضَمْرَةَ) بفتح المعجمة وإسكان الميم ( بْنِ سَعِيدٍ) بن أبي حنة بمهملة ثم نون وقيل موحدة الأنصاري ( الْمَازِنِيِّ) نسبة إلى مازن بن النجار المدني تابع صغير ثقة ( عَنْ أَبَانَ بْنِ عُثْمَانَ) الأموي أبي سعيد أو أبي عبد الله المدني ثقة مات سنة خمس ومائة.

( أَنَّ) أباه ( عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ) أمير المؤمنين ( أَكَلَ خُبْزًا وَلَحْمًا ثُمَّ مَضْمَضَ) فاه ( وَغَسَلَ يَدَيْهِ وَمَسَحَ بِهِمَا وَجْهَهُ) لعله خشي أن يعلق به شيء من الطعام ( ثُمَّ صَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ) فهو دليل أيضًا على نسخ الوضوء مما مست النار.

( مَالِكٍ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ) أبا الحسن الهاشمي أمير المؤمنين كثير الفضائل ( وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ كَانَا لَا يَتَوَضَّآَنِ مِمَّا مَسَّتِ النَّارُ) لأنه ليس بناقض.

( مَالِكٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ) الأنصاري ( أَنَّهُ سَأَلَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ) العنزي حليف بني عدي ولد على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ووثقه العجلي مات سنة بضع وثمانين.

( عَنِ الرَّجُلِ يَتَوَضَّأُ لِلصَّلَاةِ ثُمَّ يُصِيبُ طَعَامًا قَدْ مَسَّتْهُ النَّارُ أَيَتَوَضَّأُ؟ قَالَ: رَأَيْتُ أَبِي) عامر بن ربيعة بن كعب بن مالك العنزي بفتح المهملة وسكون النون وزاي حليف آل الخطاب صحابي مشهور أسلم قديمًا وهاجر وشهد بدرًا مات ليالي قتل عثمان ( يَفْعَلُ ذَلِكَ وَلَا يَتَوَضَّأُ) فدل ذلك على النسخ أيضًا.

( مَالِكٍ عَنْ أَبِي نُعَيْمٍ) بضم النون ( وَهْبِ بْنِ كَيْسَانَ) القرشي مولاهم المدني المعلم عن جابر وابن عباس وابن الزبير وأسماء وعدة، وعنه مالك وابن إسحاق وأيوب السختياني وآخرون، وثقه النسائي وغيره، وروى له الجميع ومات سنة سبع وعشرين ومائة.

( أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ) بن عمرو بن حرام بمهملة وراء ( الْأَنْصَارِيَّ) السلمي بفتحتين صحابي ابن صحابي غزا تسع عشرة غزوة مع المصطفى ولم يشهد بدرًا ولا أحدًا منعه أبوه واستغفر له النبي صلى الله عليه وسلم ليلة البعير خمسًا وعشرين مرة، وكانت له حلقة في المسجد النبوي يؤخذ عنه، ومات بالمدينة وقيل بمكة وقيل بقبا سنة ثمان وسبعين أو سنة تسع أو سبع أو أربع أو ثلاث أو اثنين وهو ابن أربع وتسعين سنة.

( يَقُولُ: رَأَيْتُ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ) لسبقه لتصديق النبي صلى الله عليه وسلم وكان علي يحلف أن الله أنزل اسم أبي بكر من السماء الصديق ( أَكَلَ لَحْمًا ثُمَّ صَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ) فهؤلاء الخلفاء الأربع وعامر بن ربيعة وابن عباس فعلوا ذلك بعد النبي صلى الله عليه وسلم فدل على نسخ الوضوء مما مست النار، وقد قال مالك: إذا جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثان مختلفان وعمل أبو بكر وعمر بأحدهما دل على أن الحق ما عملا به، وكان مكحول يتوضأ مما مست النار فأخبره عطاء بن أبي رباح بحديث جابر هذا عن أبي بكر فترك الوضوء وقال: لأن يقع أبو بكر من السماء إلى الأرض أحب إليه من أن يخالف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأتى الإمام بذلك لرد قول شيخه ابن شهاب أنه ناسخ لحديث الإباحة.

روى البخاري ومسلم عن عمرو بن أمية أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يحتز كتف شاة يأكل منها فدعي إلى الصلاة فألقاها والسكين وصلى ولم يتوضأ.
زاد البيهقي قال الزهري: فذهبت تلك القصة في الناس ثم أخبر رجال من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ونساء من أزواجه أنه قال: توضئوا مما مست النار قال: وكان الزهري يرى أن الأمر بذلك ناسخ لأحاديث الإباحة لأن الإباحة سابقة واعترض عليه بحديث جابر قال: كان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك الوضوء مما مست النار رواه أبو داود والنسائي وغيرهما وصححه ابن خزيمة وابن حبان وغيرهما، لكن قال أبو داود وغيره: المراد بالأمر هنا الشأن والقصة لا مقابل النهي وأن هذا اللفظ مختصر من حديث جابر المشهور في قصة المرأة التي صنعت للنبي صلى الله عليه وسلم شاة فأكل منها ثم توضأ وصلى الظهر ثم أكل منها وصلى العصر ولم يتوضأ، فيحتمل أن هذه القصة وقعت قبل الأمر بالوضوء مما مست النار، وأن وضوءه لصلاة الظهر كان لحدث لا للأكل من الشاة.

وحكى البيهقي عن عثمان الدارمي أنه قال: لما اختلفت أحاديث الباب ولم يتبين الراجح منها نظرنا إلى ما عمل به الخلفاء الراشدون بعد النبي صلى الله عليه وسلم فرجحنا به أحد الجانبين، وبهذا يظهر حكمة ذكر الإمام لفعل الخلفاء الأربعة وغيرهم من الصحابة بعد تصديره بحديثي ابن عباس وسويد في أن المصطفى أكل مما مست النار ولم يتوضأ.

وجمع الخطابي بوجه آخر وهو أن أحاديث الأمر محمولة على الاستحباب لا على الوجوب.

( مَالِكٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ) وصله أبو داود من طريق ابن جريج والترمذي من طريق سفيان بن عيينة كلاهما عن محمد بن المنكدر عن جابر ( أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دُعِيَ لِطَعَامٍ) أي دعته امرأة من الأنصار كما في الطريق الموصولة ( فَقُرِّبَ إِلَيْهِ لَحْمٌ) من شاة ذبحتها له الأنصارية ( وَخُبْزٌ فَأَكَلَ مِنْهُ ثُمَّ تَوَضَّأَ) للأكل من الشاة أو لأنه كان محدثًا فلا دلالة فيه على وجوب الوضوء مما مست النار ولا على ندبه ( وَصَلَّى) الظهر ( ثُمَّ أُتِيَ بِفَضْلِ) أي باقي ( ذَلِكَ الطَّعَامِ فَأَكَلَ مِنْهُ ثُمَّ صَلَّى) العصر ( وَلَمْ يَتَوَضَّأْ) .

وفي رواية ابن القاسم وابن بكير: ثم دعي بفضل ذلك الطعام فقال: دعي مكان أتي فيحتمل أن صاحب الطعام سأله ذلك فأجابه لإدخال السرور عليه ويكون وقت قيامه للصلاة لم ينو الرجوع لحديث: إذا حضر الطعام فابدءوا به قبل الصلاة أي لئلا يشتغل به عن الإقبال إليها، وإن كان صلى الله عليه وسلم ليس كغيره لكنه مشرع وفيه: أنه أكل اللحم في يوم مرتين ولا يلزم أنه شبع منه فلا يعارضه قول عائشة: ما شبع من لحم في يوم مرتين كما توهم.

( مالِكٍ عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ) بالقاف ابن أبي عياش بتحتية ومعجمة القرشي مولاهم المدني عن أم خالد بنت خالد ولها صحبة ونافع وسالم والزهري وخلق، وعنه مالك وشعبة والسفيانان وابن جريج وغيرهم، وثقه أحمد ويحيى وأبو حاتم وغيرهم ولم يصح أن ابن معين لينه وقال معن وغيره: وكان مالك إذا سئل عن المغازي يقول: عليك بمغازي الرجل الصالح موسى بن عقبة فإنها أصح المغازي مات سنة إحدى وأربعين ومائة وقيل بعدها.

( عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ) بتحتية قبل الزاي ابن جارية بجيم وتحتية ( الْأَنْصَارِيِّ) أبي محمد المدني أخي عاصم بن عمر لأمه يقال ولد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وذكره ابن حبان في ثقات التابعين مات سنة ثلاث وتسعين وأبوه صحابي مشهور.

( أَنَّ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ قَدِمَ مِنَ الْعِرَاقِ فَدَخَلَ عَلَيْهِ) زوج أمه ( أَبُو طَلْحَةَ) زيد بن سهل الأنصاري النجاري مشهور بكنيته من كبار الصحابة شهد بدرًا وما بعدها مات سنة أربع وثلاثين.
وقال أبو زرعة الدمشقي: عاش بعد النبي صلى الله عليه وسلم أربعين سنة.

( وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ) الأنصاري الخزرجي أبو المنذر سيد القراء من فضلاء الصحابة في سنة موته خلف كثير فقيل سنة تسع عشرة وقيل اثنين وثلاثين وقيل غير ذلك ( فَقَرَّبَ لَهُمَا طَعَامًا قَدْ مَسَّتْهُ النَّارُ فَأَكَلُوا مِنْهُ فَقَامَ أَنَسٌ فَتَوَضَّأَ فَقَالَ) له ( أَبُو طَلْحَةَ وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ: مَا هَذَا) الفعل ( يَا أَنَسُ أَعِرَاقِيَّةٌ؟) أي أبالعراق استفدت هذا العلم وتركت عمل أهل المدينة المتلقى عن النبي صلى الله عليه وسلم ( فَقَالَ أَنَسٌ: لَيْتَنِي لَمْ أَفْعَلْ) أي لأنه يوهم للشبهة.

( وَقَامَ أَبُو طَلْحَةَ وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ فَصَلَّيَا وَلَمْ يَتَوَضَّآَ) فدل فعلهما وإنكارهما وهما منهما على أنس ورجوعه إليهما على أن إجماع أهل المدينة على أن لا وضوء مما مست النار وهو من الحجج القوية الدالة على نسخ الوضوء منه، ومن ثم ختم به هذا الباب وهو يفيد أيضًا رد ما ذهب إليه الخطابي من حمل أحاديث الأمر على الاستحباب إذ لو كان مستحبًا ما ساغ إنكارهما عليه، والله أعلم.



رقم الحديث 156 حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ أَذَّنَ بِالصَّلَاةِ فِي لَيْلَةٍ ذَاتِ بَرْدٍ وَرِيحٍ، فَقَالَ: أَلَا صَلُّوا فِي الرِّحَالِ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَأْمُرُ الْمُؤَذِّنَ، إِذَا كَانَتْ لَيْلَةٌ بَارِدَةٌ ذَاتُ مَطَرٍ يَقُولُ: أَلَا صَلُّوا فِي الرِّحَالِ.


( مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ أَذَّنَ بِالصَّلَاةِ فِي لَيْلَةٍ ذَاتِ بَرْدٍ وَرِيحٍ) وكان مسافرًا فأذن بمحل يقال له ضجنان بفتح الضاد المعجمة وسكون الجيم ونونين بينهما ألف بزنة فعلان غير منصرف قال في الفائق: جبل بينه وبين مكة خمسة وعشرون ميلاً وبهذا يطابق الترجمة وقد أخرجه البخاري من طريق عبيد الله بن عمر قال: حدثني نافع قال: أذن ابن عمر في ليلة باردة بضجنان ( فَقَالَ: أَلَا صَلُّوا فِي الرِّحَالِ) جمع رحل وهو المنزل والمسكن قال الرافعي: وقد سمي ما يستصحبه الإنسان في سفره من الأثاث رحلاً وقال الباجي: لفظ في الرحال يدل على السفر فأذن لهم أن يصلوا بصلاته إذا كان إمامًا ويحتمل أنه أذن لهم أن يصلوا فيها أفذاذًا أو يؤم كل طائفة رجل منهم.

( ثُمَّ قَالَ) ابن عمر ( إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَأْمُرُ الْمُؤَذِّنَ إِذَا كَانَتْ لَيْلَةٌ بَارِدَةٌ ذَاتُ مَطَرٍ يَقُولُ: أَلَا صَلُّوا فِي الرِّحَالِ) فقاس ابن عمر الريح على المطر والعلة الجامعة بينهما المشقة اللاحقة قاله الباجي: وقوفًا مع هذه الرواية وفي البخاري في الطريق التي ذكرتها، وأخبرنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمر مؤذنًا يؤذن ثم يقول على أثره: ألا صلوا في الرحال في الليلة الباردة والمطيرة في السفر.

قال الحافظ: وأو للتنويع لا للشك وظاهره اختصاص ذلك بالسفر، ورواية مالك مطلقة وبها أخذ الجمهور لكن قاعدة حمل المطلق على المقيد تقتضي أن يختص ذلك بالمسافر مطلقًا ويلحق به من يلحقه بذلك مشقة في الحضر دون من لا يلحقه قال: وفي صحيح أبي عوانة ليلة باردة أو ذات مطر أو ذات ريح، ودل ذلك على أن كلاً من الثلاثة عذر في التأخير عن الجماعة.

ونقل ابن بطال فيه الإجماع لكن المعروف عند المالكية والشافعية أن الريح عذر في الليل فقط، وظاهر الحديث اختصاص الثلاثة بالليل لكن في السنن من طريق ابن إسحاق عن نافع في هذا الحديث في الليلة المطيرة والغداة القرة، وفيها بإسناد صحيح من حديث أبي المليح عن أبيه أنهم مطروا يومًا فرخص لهم ولم أر في شيء من الأحاديث الترخيص بعذر الريح في النهار صريحًا، لكن القياس يقتضي إلحاقه، وقد نقله ابن الرفعة وجهًا قال أعني الحافظ وصريح قوله ثم يقول على أثره أن القول المذكور كان بعد فراغ الأذان.

وقال القرطبي: لما ذكر رواية مسلم بلفظ يقول في آخر ندائه يحتمل أن المراد في آخره قبيل الفراغ منه جمعًا بينه وبين حديث ابن عباس يعني المروي في الصحيحين عن عبد الله بن الحارث: خطبنا ابن عباس في يوم رزع بفتح الراء وإسكان الزاي ومهملة أي غيم بارد فيه مطر قليل، وفي رواية في يوم مطير فلما بلغ المؤذن حي على الصلاة أمر أن ينادي الصلاة في الرحال فنظر القوم بعضهم إلى بعض فقال: فعل هذا من هو خير مني.

وحمله ابن خزيمة على ظاهره وأنه يقال بدلاً من الحيعلة نظرًا إلى المعنى لأن معناها هلموا إلى الصلاة، ومعنى صلوا في الرحال تأخروا عن المجيء فلا يناسب إيراد اللفظين معًا لأن أحدهما نقيض الآخر، ويمكن الجمع بينهما ولا يلزم منه ما قال لأنه ندب إلى المجيء من أراد استكمال الفضيلة ولو تحمل المشقة، ويؤيده حديث جابر في مسلم خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فمطرنا فقال ليصل منكم من شاء في رحله.

وقال النووي في حديث ابن عباس إن هذه الكلمة تقال في الأذان وفي حديث ابن عمر أنها تقال بعده والأمران جائزان كما نص عليه الشافعي، لكن بعده أحسن ليتم نظم الأذان فدل كلامه على أنها ليست بدلاً من حي على الصلاة بخلاف كلام ابن خزيمة، وورد الجمع بينهما في حديث رواه عبد الرزاق وغيره بإسناد صحيح عن نعيم بن النحام قال: أذن مؤذن النبي صلى الله عليه وسلم للصبح في ليلة باردة فتمنيت لو قال: ومن قعد فلا حرج، فلما قال: الصلاة خير من النوم قالها انتهى.

وقال ابن عبد البر: أجاز قوم بهذا الحديث الكلام في الأذان إذا كان لا بد منه، ورخص فيه قوم مطلقًا منهم أحمد وكرهه مالك كرد السلام وتشميت العاطس فإن فعل أساء وبنى وقاله الشافعي وأبو حنيفة وجماعة، ولم يقل أحد فيما علمت بإعادته لمن تكلم فيه إلا ابن شهاب بإسناد فيه ضعف انتهى.
وهذا الحديث رواه البخاري في صلاة الجماعة عن عبد الله بن يوسف ومسلم عن يحيى كلاهما عن مالك به.
وتابعه عبيد الله بن عمر بضم العين فيهما عن نافع نحوه كما مر عند البخاري هنا ومسلم في الجماعة.

( مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ لَا يَزِيدُ عَلَى الْإِقَامَةِ فِي السَّفَرِ) لأنه لا معنى للتأذين إلا ليجتمع الناس.
والمسافر سقطت عنه الجمعة فكذا الجماعة ( إِلَّا فِي الصُّبْحِ فَإِنَّهُ كَانَ يُنَادِي) يؤذن ( فِيهَا وَيُقِيمُ) إظهارًا لشعائر الإسلام لأنه وقت الإغارة على الكفار، وكان صلى الله عليه وسلم في ذلك الوقت يغير إذا لم يسمع الأذان ويمسك إذا سمعه، ويحتمل أن ابن عمر كان في السفر الذي قال فيه: ألا صلوا في الرحال أميرًا وفي السفر الذي لم يزد فيه على الإقامة غير أمير قاله الباجي.
وقال البوني: إنه لإعلام من معه من نائم وغيره بطلوع الفجر وسائر الصلوات لا تخفى عليهم.

( وَكَانَ يَقُولُ: إِنَّمَا الْأَذَانُ لِلْإِمَامِ الَّذِي يَجْتَمِعُ النَّاسُ إِلَيْهِ) وفي رواية عبد الرزاق بإسناد صحيح عن ابن عمر: إنما التأذين لجيش أو ركب عليهم أمير فينادى بالصلاة ليجتمعوا لها فأما غيرهم فإنما هي الإقامة.

وحكى نحوه عن مالك والمشهور من مذهبه وعليه الأئمة الثلاثة وغيرهم مشروعية الأذان لكل أحد، وبالغ عطاء فقال: إذا كنت في سفر فلم تؤذن ولم تقم فأعد الصلاة ولعله كان يراه شرطًا في صحة الصلاة واستحباب الإعادة لا وجوبها.

قال ابن عبد البر: والحجة لذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يؤذن لها في السفر والحضر ويأمر، بذلك وأجمعوا على جوازه للمسافر وأنه مأجور في أذانه، وأجمعوا على الأذان في الأمصار فلا تسقط تلك السنة في السفر لأنهم لم يجمعوا على سقوطها، فدل على إبطال قول من زعم أنه لا معنى له إلا ليجتمع الناس بل له فضل كثير جاءت به الآثار.

( مَالِكٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ أَنَّ أَبَاهُ قَالَ لَهُ: إِذَا كُنْتَ فِي سَفَرٍ فَإِنْ شِئْتَ أَنْ تُؤَذِّنَ وَتُقِيمَ) لتحصيل المستحب الوارد به السنة ( فَعَلْتَ وَإِنْ شِئْتَ فَأَقِمْ وَلَا تُؤَذِّنْ) لأنه لا خلاف في مشروعية الإقامة في كل حال: قال ابن عبد البر وكان عروة يختار لنفسه أن يؤذن لفضل الأذان عنده في السفر والحضر.

( قَالَ يَحْيَى: سَمِعْتُ مَالِكًا يَقُولُ: لَا بَأْسَ أَنْ يُؤَذِّنَ الرَّجُلُ وَهُوَ رَاكِبٌ) قال ابن عبد البر: كان ابن عمر يؤذن على البعير وينزل فيقيم، وأجاز الحسن أن يؤذن ويقيم على راحلته ثم ينزل فيصلي، ولا أعلم خلافًا في أذان المسافر راكبًا، وكرهه عطاء إلا من علة أو ضرورة ومن كرهه للمقيم لم يرد عليه إعادة الأذان وكره مالك والأوزاعي أن يؤذن قاعدًا وأجازه أبو حنيفة.

وقال وائل بن حجر: حق وسنة مسنونة أن لا يؤذن إلا وهو قائم ولا يؤذن إلا وهو على طهر ووائل صحابي، وقوله سنة يدخل في المسند وذلك أولى من الرأي انتهى.

وفي الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم قال: يا بلال قم فأذن قال ابن المنذر وابن خزيمة وعياض فيه حجة لشرع الأذان قائمًا.
وتعقبه النووي بأن المراد بقوله: قم اذهب إلى موضع بارز فناد فيه بالصلاة ليسمعك الناس وليس فيه تعرض للقيام في حال الأذان.

قال الحافظ: وما نفاه ليس ببعيد من ظاهر اللفظ فإن الصيغة محتملة للأمرين وإن كان ما قاله أرجح، ونقل عياض أن مذهب العلماء كافة أن الأذان قاعدًا لا يجوز إلا أبا ثور وأبا الفرج المالكي، وتعقب بأن الخلاف معروف عند الشافعية وغيرهم وأنه لو أذن قاعدًا صح، والصواب قول ابن المنذر اتفقوا على أن القيام من السنة.

( مَالِكٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ) بن قيس الأنصاري ( عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: مَنْ صَلَّى بِأَرْضٍ فَلَاةٍ) بزنة حصاة لا ماء فيها والجمع فلا كحصى وجمع الجمع أفلاء مثل سبب وأسباب ( صَلَّى عَنْ يَمِينِهِ مَلَكٌ وَعَنْ شِمَالِهِ مَلَكٌ) يحتمل أنهما الحافظان وأن ذلك مكانهما من المكلف في الصلاة وغيرها، ويحتمل أن هذا حكم يختص بالملائكة وحكم الآدميين مخالف لذلك، فإنه لو صلى معه رجلان قاما وراءه لحديث أنس: فقمت أنا واليتيم وراءه والعجوز من ورائنا، ويحتمل أن يبلغ بالملكين درجة الجماعة إذا كان بموضع لا يقدر عليها وهو راغب فيها.

( فَإِذَا أَذَّنَ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ) كذا رواية يحيى بأو وفي رواية أبي مصعب فإن أذن وأقام ( صَلَّى وَرَاءَهُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ أَمْثَالُ الْجِبَالِ) وهذه الرواية عندي هي الأصل، ورواية يحيى تحتمل الشك وتحتمل التقسيم والأظهر رواية غيره وفيه أن للجماعة الكثيرة من الفضيلة ما ليس لليسيرة، وإلا فلا فائدة لهذا المصلي في ذلك قاله كله الباجي.

وفي السيوطي: هذا الحديث مرسل له حكم الرفع وقد ورد موصولاً ومرفوعًا، فأخرج النسائي من طريق داود بن أبي هند عن أبي عثمان النهدي عن سلمان الفارسي قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: إذا كان الرجل في أرض فيء فأقام الصلاة صلى خلفه ملكان فإن أذن وأقام صلى خلفه من الملائكة ما لا يراه طرفاه يركعون بركوعه ويسجدون بسجوده ويؤمنون على دعائه ورواه سعيد بن منصور وابن أبي شيبة والبيهقي من طريق سليمان التيمي عن أبي عثمان النهدي عن سلمان موقوفًا.

واستدل به الحناطي من الشافعية على أنه لو حلف من صلى في فضاء من الأرض منفردًا بأذان وإقامة أنه صلى بالجماعة كان بارًا في يمينه ولا كفارة عليه، ووقفه السبكي في الحلبيات واستدل به وبحديث الموطأ هذا انتهى وفيه نظر لأن الأيمان مبنية على العرف.



رقم الحديث 157 وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ لَا يَزِيدُ عَلَى الْإِقَامَةِ فِي السَّفَرِ إِلَّا فِي الصُّبْحِ فَإِنَّهُ كَانَ يُنَادِي فِيهَا، وَيُقِيمُ.
وَكَانَ يَقُولُ: إِنَّمَا الْأَذَانُ لِلْإِمَامِ الَّذِي يَجْتَمِعُ النَّاسُ إِلَيْهِ.


( مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ أَذَّنَ بِالصَّلَاةِ فِي لَيْلَةٍ ذَاتِ بَرْدٍ وَرِيحٍ) وكان مسافرًا فأذن بمحل يقال له ضجنان بفتح الضاد المعجمة وسكون الجيم ونونين بينهما ألف بزنة فعلان غير منصرف قال في الفائق: جبل بينه وبين مكة خمسة وعشرون ميلاً وبهذا يطابق الترجمة وقد أخرجه البخاري من طريق عبيد الله بن عمر قال: حدثني نافع قال: أذن ابن عمر في ليلة باردة بضجنان ( فَقَالَ: أَلَا صَلُّوا فِي الرِّحَالِ) جمع رحل وهو المنزل والمسكن قال الرافعي: وقد سمي ما يستصحبه الإنسان في سفره من الأثاث رحلاً وقال الباجي: لفظ في الرحال يدل على السفر فأذن لهم أن يصلوا بصلاته إذا كان إمامًا ويحتمل أنه أذن لهم أن يصلوا فيها أفذاذًا أو يؤم كل طائفة رجل منهم.

( ثُمَّ قَالَ) ابن عمر ( إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَأْمُرُ الْمُؤَذِّنَ إِذَا كَانَتْ لَيْلَةٌ بَارِدَةٌ ذَاتُ مَطَرٍ يَقُولُ: أَلَا صَلُّوا فِي الرِّحَالِ) فقاس ابن عمر الريح على المطر والعلة الجامعة بينهما المشقة اللاحقة قاله الباجي: وقوفًا مع هذه الرواية وفي البخاري في الطريق التي ذكرتها، وأخبرنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمر مؤذنًا يؤذن ثم يقول على أثره: ألا صلوا في الرحال في الليلة الباردة والمطيرة في السفر.

قال الحافظ: وأو للتنويع لا للشك وظاهره اختصاص ذلك بالسفر، ورواية مالك مطلقة وبها أخذ الجمهور لكن قاعدة حمل المطلق على المقيد تقتضي أن يختص ذلك بالمسافر مطلقًا ويلحق به من يلحقه بذلك مشقة في الحضر دون من لا يلحقه قال: وفي صحيح أبي عوانة ليلة باردة أو ذات مطر أو ذات ريح، ودل ذلك على أن كلاً من الثلاثة عذر في التأخير عن الجماعة.

ونقل ابن بطال فيه الإجماع لكن المعروف عند المالكية والشافعية أن الريح عذر في الليل فقط، وظاهر الحديث اختصاص الثلاثة بالليل لكن في السنن من طريق ابن إسحاق عن نافع في هذا الحديث في الليلة المطيرة والغداة القرة، وفيها بإسناد صحيح من حديث أبي المليح عن أبيه أنهم مطروا يومًا فرخص لهم ولم أر في شيء من الأحاديث الترخيص بعذر الريح في النهار صريحًا، لكن القياس يقتضي إلحاقه، وقد نقله ابن الرفعة وجهًا قال أعني الحافظ وصريح قوله ثم يقول على أثره أن القول المذكور كان بعد فراغ الأذان.

وقال القرطبي: لما ذكر رواية مسلم بلفظ يقول في آخر ندائه يحتمل أن المراد في آخره قبيل الفراغ منه جمعًا بينه وبين حديث ابن عباس يعني المروي في الصحيحين عن عبد الله بن الحارث: خطبنا ابن عباس في يوم رزع بفتح الراء وإسكان الزاي ومهملة أي غيم بارد فيه مطر قليل، وفي رواية في يوم مطير فلما بلغ المؤذن حي على الصلاة أمر أن ينادي الصلاة في الرحال فنظر القوم بعضهم إلى بعض فقال: فعل هذا من هو خير مني.

وحمله ابن خزيمة على ظاهره وأنه يقال بدلاً من الحيعلة نظرًا إلى المعنى لأن معناها هلموا إلى الصلاة، ومعنى صلوا في الرحال تأخروا عن المجيء فلا يناسب إيراد اللفظين معًا لأن أحدهما نقيض الآخر، ويمكن الجمع بينهما ولا يلزم منه ما قال لأنه ندب إلى المجيء من أراد استكمال الفضيلة ولو تحمل المشقة، ويؤيده حديث جابر في مسلم خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فمطرنا فقال ليصل منكم من شاء في رحله.

وقال النووي في حديث ابن عباس إن هذه الكلمة تقال في الأذان وفي حديث ابن عمر أنها تقال بعده والأمران جائزان كما نص عليه الشافعي، لكن بعده أحسن ليتم نظم الأذان فدل كلامه على أنها ليست بدلاً من حي على الصلاة بخلاف كلام ابن خزيمة، وورد الجمع بينهما في حديث رواه عبد الرزاق وغيره بإسناد صحيح عن نعيم بن النحام قال: أذن مؤذن النبي صلى الله عليه وسلم للصبح في ليلة باردة فتمنيت لو قال: ومن قعد فلا حرج، فلما قال: الصلاة خير من النوم قالها انتهى.

وقال ابن عبد البر: أجاز قوم بهذا الحديث الكلام في الأذان إذا كان لا بد منه، ورخص فيه قوم مطلقًا منهم أحمد وكرهه مالك كرد السلام وتشميت العاطس فإن فعل أساء وبنى وقاله الشافعي وأبو حنيفة وجماعة، ولم يقل أحد فيما علمت بإعادته لمن تكلم فيه إلا ابن شهاب بإسناد فيه ضعف انتهى.
وهذا الحديث رواه البخاري في صلاة الجماعة عن عبد الله بن يوسف ومسلم عن يحيى كلاهما عن مالك به.
وتابعه عبيد الله بن عمر بضم العين فيهما عن نافع نحوه كما مر عند البخاري هنا ومسلم في الجماعة.

( مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ لَا يَزِيدُ عَلَى الْإِقَامَةِ فِي السَّفَرِ) لأنه لا معنى للتأذين إلا ليجتمع الناس.
والمسافر سقطت عنه الجمعة فكذا الجماعة ( إِلَّا فِي الصُّبْحِ فَإِنَّهُ كَانَ يُنَادِي) يؤذن ( فِيهَا وَيُقِيمُ) إظهارًا لشعائر الإسلام لأنه وقت الإغارة على الكفار، وكان صلى الله عليه وسلم في ذلك الوقت يغير إذا لم يسمع الأذان ويمسك إذا سمعه، ويحتمل أن ابن عمر كان في السفر الذي قال فيه: ألا صلوا في الرحال أميرًا وفي السفر الذي لم يزد فيه على الإقامة غير أمير قاله الباجي.
وقال البوني: إنه لإعلام من معه من نائم وغيره بطلوع الفجر وسائر الصلوات لا تخفى عليهم.

( وَكَانَ يَقُولُ: إِنَّمَا الْأَذَانُ لِلْإِمَامِ الَّذِي يَجْتَمِعُ النَّاسُ إِلَيْهِ) وفي رواية عبد الرزاق بإسناد صحيح عن ابن عمر: إنما التأذين لجيش أو ركب عليهم أمير فينادى بالصلاة ليجتمعوا لها فأما غيرهم فإنما هي الإقامة.

وحكى نحوه عن مالك والمشهور من مذهبه وعليه الأئمة الثلاثة وغيرهم مشروعية الأذان لكل أحد، وبالغ عطاء فقال: إذا كنت في سفر فلم تؤذن ولم تقم فأعد الصلاة ولعله كان يراه شرطًا في صحة الصلاة واستحباب الإعادة لا وجوبها.

قال ابن عبد البر: والحجة لذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يؤذن لها في السفر والحضر ويأمر، بذلك وأجمعوا على جوازه للمسافر وأنه مأجور في أذانه، وأجمعوا على الأذان في الأمصار فلا تسقط تلك السنة في السفر لأنهم لم يجمعوا على سقوطها، فدل على إبطال قول من زعم أنه لا معنى له إلا ليجتمع الناس بل له فضل كثير جاءت به الآثار.

( مَالِكٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ أَنَّ أَبَاهُ قَالَ لَهُ: إِذَا كُنْتَ فِي سَفَرٍ فَإِنْ شِئْتَ أَنْ تُؤَذِّنَ وَتُقِيمَ) لتحصيل المستحب الوارد به السنة ( فَعَلْتَ وَإِنْ شِئْتَ فَأَقِمْ وَلَا تُؤَذِّنْ) لأنه لا خلاف في مشروعية الإقامة في كل حال: قال ابن عبد البر وكان عروة يختار لنفسه أن يؤذن لفضل الأذان عنده في السفر والحضر.

( قَالَ يَحْيَى: سَمِعْتُ مَالِكًا يَقُولُ: لَا بَأْسَ أَنْ يُؤَذِّنَ الرَّجُلُ وَهُوَ رَاكِبٌ) قال ابن عبد البر: كان ابن عمر يؤذن على البعير وينزل فيقيم، وأجاز الحسن أن يؤذن ويقيم على راحلته ثم ينزل فيصلي، ولا أعلم خلافًا في أذان المسافر راكبًا، وكرهه عطاء إلا من علة أو ضرورة ومن كرهه للمقيم لم يرد عليه إعادة الأذان وكره مالك والأوزاعي أن يؤذن قاعدًا وأجازه أبو حنيفة.

وقال وائل بن حجر: حق وسنة مسنونة أن لا يؤذن إلا وهو قائم ولا يؤذن إلا وهو على طهر ووائل صحابي، وقوله سنة يدخل في المسند وذلك أولى من الرأي انتهى.

وفي الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم قال: يا بلال قم فأذن قال ابن المنذر وابن خزيمة وعياض فيه حجة لشرع الأذان قائمًا.
وتعقبه النووي بأن المراد بقوله: قم اذهب إلى موضع بارز فناد فيه بالصلاة ليسمعك الناس وليس فيه تعرض للقيام في حال الأذان.

قال الحافظ: وما نفاه ليس ببعيد من ظاهر اللفظ فإن الصيغة محتملة للأمرين وإن كان ما قاله أرجح، ونقل عياض أن مذهب العلماء كافة أن الأذان قاعدًا لا يجوز إلا أبا ثور وأبا الفرج المالكي، وتعقب بأن الخلاف معروف عند الشافعية وغيرهم وأنه لو أذن قاعدًا صح، والصواب قول ابن المنذر اتفقوا على أن القيام من السنة.

( مَالِكٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ) بن قيس الأنصاري ( عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: مَنْ صَلَّى بِأَرْضٍ فَلَاةٍ) بزنة حصاة لا ماء فيها والجمع فلا كحصى وجمع الجمع أفلاء مثل سبب وأسباب ( صَلَّى عَنْ يَمِينِهِ مَلَكٌ وَعَنْ شِمَالِهِ مَلَكٌ) يحتمل أنهما الحافظان وأن ذلك مكانهما من المكلف في الصلاة وغيرها، ويحتمل أن هذا حكم يختص بالملائكة وحكم الآدميين مخالف لذلك، فإنه لو صلى معه رجلان قاما وراءه لحديث أنس: فقمت أنا واليتيم وراءه والعجوز من ورائنا، ويحتمل أن يبلغ بالملكين درجة الجماعة إذا كان بموضع لا يقدر عليها وهو راغب فيها.

( فَإِذَا أَذَّنَ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ) كذا رواية يحيى بأو وفي رواية أبي مصعب فإن أذن وأقام ( صَلَّى وَرَاءَهُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ أَمْثَالُ الْجِبَالِ) وهذه الرواية عندي هي الأصل، ورواية يحيى تحتمل الشك وتحتمل التقسيم والأظهر رواية غيره وفيه أن للجماعة الكثيرة من الفضيلة ما ليس لليسيرة، وإلا فلا فائدة لهذا المصلي في ذلك قاله كله الباجي.

وفي السيوطي: هذا الحديث مرسل له حكم الرفع وقد ورد موصولاً ومرفوعًا، فأخرج النسائي من طريق داود بن أبي هند عن أبي عثمان النهدي عن سلمان الفارسي قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: إذا كان الرجل في أرض فيء فأقام الصلاة صلى خلفه ملكان فإن أذن وأقام صلى خلفه من الملائكة ما لا يراه طرفاه يركعون بركوعه ويسجدون بسجوده ويؤمنون على دعائه ورواه سعيد بن منصور وابن أبي شيبة والبيهقي من طريق سليمان التيمي عن أبي عثمان النهدي عن سلمان موقوفًا.

واستدل به الحناطي من الشافعية على أنه لو حلف من صلى في فضاء من الأرض منفردًا بأذان وإقامة أنه صلى بالجماعة كان بارًا في يمينه ولا كفارة عليه، ووقفه السبكي في الحلبيات واستدل به وبحديث الموطأ هذا انتهى وفيه نظر لأن الأيمان مبنية على العرف.



رقم الحديث 158 وَحَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، أَنَّ أَبَاهُ قَالَ لَهُ: إِذَا كُنْتَ فِي سَفَرٍ، فَإِنْ شِئْتَ أَنْ تُؤَذِّنَ وَتُقِيمَ فَعَلْتَ، وَإِنْ شِئْتَ فَأَقِمْ وَلَا تُؤَذِّنْ قَالَ يَحْيَى: سَمِعْتُ مَالِكًا يَقُولُ: لَا بَأْسَ أَنْ يُؤَذِّنَ الرَّجُلُ وَهُوَ رَاكِبٌ.


( مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ أَذَّنَ بِالصَّلَاةِ فِي لَيْلَةٍ ذَاتِ بَرْدٍ وَرِيحٍ) وكان مسافرًا فأذن بمحل يقال له ضجنان بفتح الضاد المعجمة وسكون الجيم ونونين بينهما ألف بزنة فعلان غير منصرف قال في الفائق: جبل بينه وبين مكة خمسة وعشرون ميلاً وبهذا يطابق الترجمة وقد أخرجه البخاري من طريق عبيد الله بن عمر قال: حدثني نافع قال: أذن ابن عمر في ليلة باردة بضجنان ( فَقَالَ: أَلَا صَلُّوا فِي الرِّحَالِ) جمع رحل وهو المنزل والمسكن قال الرافعي: وقد سمي ما يستصحبه الإنسان في سفره من الأثاث رحلاً وقال الباجي: لفظ في الرحال يدل على السفر فأذن لهم أن يصلوا بصلاته إذا كان إمامًا ويحتمل أنه أذن لهم أن يصلوا فيها أفذاذًا أو يؤم كل طائفة رجل منهم.

( ثُمَّ قَالَ) ابن عمر ( إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَأْمُرُ الْمُؤَذِّنَ إِذَا كَانَتْ لَيْلَةٌ بَارِدَةٌ ذَاتُ مَطَرٍ يَقُولُ: أَلَا صَلُّوا فِي الرِّحَالِ) فقاس ابن عمر الريح على المطر والعلة الجامعة بينهما المشقة اللاحقة قاله الباجي: وقوفًا مع هذه الرواية وفي البخاري في الطريق التي ذكرتها، وأخبرنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمر مؤذنًا يؤذن ثم يقول على أثره: ألا صلوا في الرحال في الليلة الباردة والمطيرة في السفر.

قال الحافظ: وأو للتنويع لا للشك وظاهره اختصاص ذلك بالسفر، ورواية مالك مطلقة وبها أخذ الجمهور لكن قاعدة حمل المطلق على المقيد تقتضي أن يختص ذلك بالمسافر مطلقًا ويلحق به من يلحقه بذلك مشقة في الحضر دون من لا يلحقه قال: وفي صحيح أبي عوانة ليلة باردة أو ذات مطر أو ذات ريح، ودل ذلك على أن كلاً من الثلاثة عذر في التأخير عن الجماعة.

ونقل ابن بطال فيه الإجماع لكن المعروف عند المالكية والشافعية أن الريح عذر في الليل فقط، وظاهر الحديث اختصاص الثلاثة بالليل لكن في السنن من طريق ابن إسحاق عن نافع في هذا الحديث في الليلة المطيرة والغداة القرة، وفيها بإسناد صحيح من حديث أبي المليح عن أبيه أنهم مطروا يومًا فرخص لهم ولم أر في شيء من الأحاديث الترخيص بعذر الريح في النهار صريحًا، لكن القياس يقتضي إلحاقه، وقد نقله ابن الرفعة وجهًا قال أعني الحافظ وصريح قوله ثم يقول على أثره أن القول المذكور كان بعد فراغ الأذان.

وقال القرطبي: لما ذكر رواية مسلم بلفظ يقول في آخر ندائه يحتمل أن المراد في آخره قبيل الفراغ منه جمعًا بينه وبين حديث ابن عباس يعني المروي في الصحيحين عن عبد الله بن الحارث: خطبنا ابن عباس في يوم رزع بفتح الراء وإسكان الزاي ومهملة أي غيم بارد فيه مطر قليل، وفي رواية في يوم مطير فلما بلغ المؤذن حي على الصلاة أمر أن ينادي الصلاة في الرحال فنظر القوم بعضهم إلى بعض فقال: فعل هذا من هو خير مني.

وحمله ابن خزيمة على ظاهره وأنه يقال بدلاً من الحيعلة نظرًا إلى المعنى لأن معناها هلموا إلى الصلاة، ومعنى صلوا في الرحال تأخروا عن المجيء فلا يناسب إيراد اللفظين معًا لأن أحدهما نقيض الآخر، ويمكن الجمع بينهما ولا يلزم منه ما قال لأنه ندب إلى المجيء من أراد استكمال الفضيلة ولو تحمل المشقة، ويؤيده حديث جابر في مسلم خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فمطرنا فقال ليصل منكم من شاء في رحله.

وقال النووي في حديث ابن عباس إن هذه الكلمة تقال في الأذان وفي حديث ابن عمر أنها تقال بعده والأمران جائزان كما نص عليه الشافعي، لكن بعده أحسن ليتم نظم الأذان فدل كلامه على أنها ليست بدلاً من حي على الصلاة بخلاف كلام ابن خزيمة، وورد الجمع بينهما في حديث رواه عبد الرزاق وغيره بإسناد صحيح عن نعيم بن النحام قال: أذن مؤذن النبي صلى الله عليه وسلم للصبح في ليلة باردة فتمنيت لو قال: ومن قعد فلا حرج، فلما قال: الصلاة خير من النوم قالها انتهى.

وقال ابن عبد البر: أجاز قوم بهذا الحديث الكلام في الأذان إذا كان لا بد منه، ورخص فيه قوم مطلقًا منهم أحمد وكرهه مالك كرد السلام وتشميت العاطس فإن فعل أساء وبنى وقاله الشافعي وأبو حنيفة وجماعة، ولم يقل أحد فيما علمت بإعادته لمن تكلم فيه إلا ابن شهاب بإسناد فيه ضعف انتهى.
وهذا الحديث رواه البخاري في صلاة الجماعة عن عبد الله بن يوسف ومسلم عن يحيى كلاهما عن مالك به.
وتابعه عبيد الله بن عمر بضم العين فيهما عن نافع نحوه كما مر عند البخاري هنا ومسلم في الجماعة.

( مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ لَا يَزِيدُ عَلَى الْإِقَامَةِ فِي السَّفَرِ) لأنه لا معنى للتأذين إلا ليجتمع الناس.
والمسافر سقطت عنه الجمعة فكذا الجماعة ( إِلَّا فِي الصُّبْحِ فَإِنَّهُ كَانَ يُنَادِي) يؤذن ( فِيهَا وَيُقِيمُ) إظهارًا لشعائر الإسلام لأنه وقت الإغارة على الكفار، وكان صلى الله عليه وسلم في ذلك الوقت يغير إذا لم يسمع الأذان ويمسك إذا سمعه، ويحتمل أن ابن عمر كان في السفر الذي قال فيه: ألا صلوا في الرحال أميرًا وفي السفر الذي لم يزد فيه على الإقامة غير أمير قاله الباجي.
وقال البوني: إنه لإعلام من معه من نائم وغيره بطلوع الفجر وسائر الصلوات لا تخفى عليهم.

( وَكَانَ يَقُولُ: إِنَّمَا الْأَذَانُ لِلْإِمَامِ الَّذِي يَجْتَمِعُ النَّاسُ إِلَيْهِ) وفي رواية عبد الرزاق بإسناد صحيح عن ابن عمر: إنما التأذين لجيش أو ركب عليهم أمير فينادى بالصلاة ليجتمعوا لها فأما غيرهم فإنما هي الإقامة.

وحكى نحوه عن مالك والمشهور من مذهبه وعليه الأئمة الثلاثة وغيرهم مشروعية الأذان لكل أحد، وبالغ عطاء فقال: إذا كنت في سفر فلم تؤذن ولم تقم فأعد الصلاة ولعله كان يراه شرطًا في صحة الصلاة واستحباب الإعادة لا وجوبها.

قال ابن عبد البر: والحجة لذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يؤذن لها في السفر والحضر ويأمر، بذلك وأجمعوا على جوازه للمسافر وأنه مأجور في أذانه، وأجمعوا على الأذان في الأمصار فلا تسقط تلك السنة في السفر لأنهم لم يجمعوا على سقوطها، فدل على إبطال قول من زعم أنه لا معنى له إلا ليجتمع الناس بل له فضل كثير جاءت به الآثار.

( مَالِكٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ أَنَّ أَبَاهُ قَالَ لَهُ: إِذَا كُنْتَ فِي سَفَرٍ فَإِنْ شِئْتَ أَنْ تُؤَذِّنَ وَتُقِيمَ) لتحصيل المستحب الوارد به السنة ( فَعَلْتَ وَإِنْ شِئْتَ فَأَقِمْ وَلَا تُؤَذِّنْ) لأنه لا خلاف في مشروعية الإقامة في كل حال: قال ابن عبد البر وكان عروة يختار لنفسه أن يؤذن لفضل الأذان عنده في السفر والحضر.

( قَالَ يَحْيَى: سَمِعْتُ مَالِكًا يَقُولُ: لَا بَأْسَ أَنْ يُؤَذِّنَ الرَّجُلُ وَهُوَ رَاكِبٌ) قال ابن عبد البر: كان ابن عمر يؤذن على البعير وينزل فيقيم، وأجاز الحسن أن يؤذن ويقيم على راحلته ثم ينزل فيصلي، ولا أعلم خلافًا في أذان المسافر راكبًا، وكرهه عطاء إلا من علة أو ضرورة ومن كرهه للمقيم لم يرد عليه إعادة الأذان وكره مالك والأوزاعي أن يؤذن قاعدًا وأجازه أبو حنيفة.

وقال وائل بن حجر: حق وسنة مسنونة أن لا يؤذن إلا وهو قائم ولا يؤذن إلا وهو على طهر ووائل صحابي، وقوله سنة يدخل في المسند وذلك أولى من الرأي انتهى.

وفي الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم قال: يا بلال قم فأذن قال ابن المنذر وابن خزيمة وعياض فيه حجة لشرع الأذان قائمًا.
وتعقبه النووي بأن المراد بقوله: قم اذهب إلى موضع بارز فناد فيه بالصلاة ليسمعك الناس وليس فيه تعرض للقيام في حال الأذان.

قال الحافظ: وما نفاه ليس ببعيد من ظاهر اللفظ فإن الصيغة محتملة للأمرين وإن كان ما قاله أرجح، ونقل عياض أن مذهب العلماء كافة أن الأذان قاعدًا لا يجوز إلا أبا ثور وأبا الفرج المالكي، وتعقب بأن الخلاف معروف عند الشافعية وغيرهم وأنه لو أذن قاعدًا صح، والصواب قول ابن المنذر اتفقوا على أن القيام من السنة.

( مَالِكٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ) بن قيس الأنصاري ( عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: مَنْ صَلَّى بِأَرْضٍ فَلَاةٍ) بزنة حصاة لا ماء فيها والجمع فلا كحصى وجمع الجمع أفلاء مثل سبب وأسباب ( صَلَّى عَنْ يَمِينِهِ مَلَكٌ وَعَنْ شِمَالِهِ مَلَكٌ) يحتمل أنهما الحافظان وأن ذلك مكانهما من المكلف في الصلاة وغيرها، ويحتمل أن هذا حكم يختص بالملائكة وحكم الآدميين مخالف لذلك، فإنه لو صلى معه رجلان قاما وراءه لحديث أنس: فقمت أنا واليتيم وراءه والعجوز من ورائنا، ويحتمل أن يبلغ بالملكين درجة الجماعة إذا كان بموضع لا يقدر عليها وهو راغب فيها.

( فَإِذَا أَذَّنَ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ) كذا رواية يحيى بأو وفي رواية أبي مصعب فإن أذن وأقام ( صَلَّى وَرَاءَهُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ أَمْثَالُ الْجِبَالِ) وهذه الرواية عندي هي الأصل، ورواية يحيى تحتمل الشك وتحتمل التقسيم والأظهر رواية غيره وفيه أن للجماعة الكثيرة من الفضيلة ما ليس لليسيرة، وإلا فلا فائدة لهذا المصلي في ذلك قاله كله الباجي.

وفي السيوطي: هذا الحديث مرسل له حكم الرفع وقد ورد موصولاً ومرفوعًا، فأخرج النسائي من طريق داود بن أبي هند عن أبي عثمان النهدي عن سلمان الفارسي قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: إذا كان الرجل في أرض فيء فأقام الصلاة صلى خلفه ملكان فإن أذن وأقام صلى خلفه من الملائكة ما لا يراه طرفاه يركعون بركوعه ويسجدون بسجوده ويؤمنون على دعائه ورواه سعيد بن منصور وابن أبي شيبة والبيهقي من طريق سليمان التيمي عن أبي عثمان النهدي عن سلمان موقوفًا.

واستدل به الحناطي من الشافعية على أنه لو حلف من صلى في فضاء من الأرض منفردًا بأذان وإقامة أنه صلى بالجماعة كان بارًا في يمينه ولا كفارة عليه، ووقفه السبكي في الحلبيات واستدل به وبحديث الموطأ هذا انتهى وفيه نظر لأن الأيمان مبنية على العرف.



رقم الحديث 159 وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: مَنْ صَلَّى بِأَرْضٍ فَلَاةٍ صَلَّى عَنْ يَمِينِهِ مَلَكٌ، وَعَنْ شِمَالِهِ مَلَكٌ، فَإِذَا أَذَّنَ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ أَوْ أَقَامَ، صَلَّى وَرَاءَهُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ أَمْثَالُ الْجِبَالِ.


( مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ أَذَّنَ بِالصَّلَاةِ فِي لَيْلَةٍ ذَاتِ بَرْدٍ وَرِيحٍ) وكان مسافرًا فأذن بمحل يقال له ضجنان بفتح الضاد المعجمة وسكون الجيم ونونين بينهما ألف بزنة فعلان غير منصرف قال في الفائق: جبل بينه وبين مكة خمسة وعشرون ميلاً وبهذا يطابق الترجمة وقد أخرجه البخاري من طريق عبيد الله بن عمر قال: حدثني نافع قال: أذن ابن عمر في ليلة باردة بضجنان ( فَقَالَ: أَلَا صَلُّوا فِي الرِّحَالِ) جمع رحل وهو المنزل والمسكن قال الرافعي: وقد سمي ما يستصحبه الإنسان في سفره من الأثاث رحلاً وقال الباجي: لفظ في الرحال يدل على السفر فأذن لهم أن يصلوا بصلاته إذا كان إمامًا ويحتمل أنه أذن لهم أن يصلوا فيها أفذاذًا أو يؤم كل طائفة رجل منهم.

( ثُمَّ قَالَ) ابن عمر ( إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَأْمُرُ الْمُؤَذِّنَ إِذَا كَانَتْ لَيْلَةٌ بَارِدَةٌ ذَاتُ مَطَرٍ يَقُولُ: أَلَا صَلُّوا فِي الرِّحَالِ) فقاس ابن عمر الريح على المطر والعلة الجامعة بينهما المشقة اللاحقة قاله الباجي: وقوفًا مع هذه الرواية وفي البخاري في الطريق التي ذكرتها، وأخبرنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمر مؤذنًا يؤذن ثم يقول على أثره: ألا صلوا في الرحال في الليلة الباردة والمطيرة في السفر.

قال الحافظ: وأو للتنويع لا للشك وظاهره اختصاص ذلك بالسفر، ورواية مالك مطلقة وبها أخذ الجمهور لكن قاعدة حمل المطلق على المقيد تقتضي أن يختص ذلك بالمسافر مطلقًا ويلحق به من يلحقه بذلك مشقة في الحضر دون من لا يلحقه قال: وفي صحيح أبي عوانة ليلة باردة أو ذات مطر أو ذات ريح، ودل ذلك على أن كلاً من الثلاثة عذر في التأخير عن الجماعة.

ونقل ابن بطال فيه الإجماع لكن المعروف عند المالكية والشافعية أن الريح عذر في الليل فقط، وظاهر الحديث اختصاص الثلاثة بالليل لكن في السنن من طريق ابن إسحاق عن نافع في هذا الحديث في الليلة المطيرة والغداة القرة، وفيها بإسناد صحيح من حديث أبي المليح عن أبيه أنهم مطروا يومًا فرخص لهم ولم أر في شيء من الأحاديث الترخيص بعذر الريح في النهار صريحًا، لكن القياس يقتضي إلحاقه، وقد نقله ابن الرفعة وجهًا قال أعني الحافظ وصريح قوله ثم يقول على أثره أن القول المذكور كان بعد فراغ الأذان.

وقال القرطبي: لما ذكر رواية مسلم بلفظ يقول في آخر ندائه يحتمل أن المراد في آخره قبيل الفراغ منه جمعًا بينه وبين حديث ابن عباس يعني المروي في الصحيحين عن عبد الله بن الحارث: خطبنا ابن عباس في يوم رزع بفتح الراء وإسكان الزاي ومهملة أي غيم بارد فيه مطر قليل، وفي رواية في يوم مطير فلما بلغ المؤذن حي على الصلاة أمر أن ينادي الصلاة في الرحال فنظر القوم بعضهم إلى بعض فقال: فعل هذا من هو خير مني.

وحمله ابن خزيمة على ظاهره وأنه يقال بدلاً من الحيعلة نظرًا إلى المعنى لأن معناها هلموا إلى الصلاة، ومعنى صلوا في الرحال تأخروا عن المجيء فلا يناسب إيراد اللفظين معًا لأن أحدهما نقيض الآخر، ويمكن الجمع بينهما ولا يلزم منه ما قال لأنه ندب إلى المجيء من أراد استكمال الفضيلة ولو تحمل المشقة، ويؤيده حديث جابر في مسلم خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فمطرنا فقال ليصل منكم من شاء في رحله.

وقال النووي في حديث ابن عباس إن هذه الكلمة تقال في الأذان وفي حديث ابن عمر أنها تقال بعده والأمران جائزان كما نص عليه الشافعي، لكن بعده أحسن ليتم نظم الأذان فدل كلامه على أنها ليست بدلاً من حي على الصلاة بخلاف كلام ابن خزيمة، وورد الجمع بينهما في حديث رواه عبد الرزاق وغيره بإسناد صحيح عن نعيم بن النحام قال: أذن مؤذن النبي صلى الله عليه وسلم للصبح في ليلة باردة فتمنيت لو قال: ومن قعد فلا حرج، فلما قال: الصلاة خير من النوم قالها انتهى.

وقال ابن عبد البر: أجاز قوم بهذا الحديث الكلام في الأذان إذا كان لا بد منه، ورخص فيه قوم مطلقًا منهم أحمد وكرهه مالك كرد السلام وتشميت العاطس فإن فعل أساء وبنى وقاله الشافعي وأبو حنيفة وجماعة، ولم يقل أحد فيما علمت بإعادته لمن تكلم فيه إلا ابن شهاب بإسناد فيه ضعف انتهى.
وهذا الحديث رواه البخاري في صلاة الجماعة عن عبد الله بن يوسف ومسلم عن يحيى كلاهما عن مالك به.
وتابعه عبيد الله بن عمر بضم العين فيهما عن نافع نحوه كما مر عند البخاري هنا ومسلم في الجماعة.

( مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ لَا يَزِيدُ عَلَى الْإِقَامَةِ فِي السَّفَرِ) لأنه لا معنى للتأذين إلا ليجتمع الناس.
والمسافر سقطت عنه الجمعة فكذا الجماعة ( إِلَّا فِي الصُّبْحِ فَإِنَّهُ كَانَ يُنَادِي) يؤذن ( فِيهَا وَيُقِيمُ) إظهارًا لشعائر الإسلام لأنه وقت الإغارة على الكفار، وكان صلى الله عليه وسلم في ذلك الوقت يغير إذا لم يسمع الأذان ويمسك إذا سمعه، ويحتمل أن ابن عمر كان في السفر الذي قال فيه: ألا صلوا في الرحال أميرًا وفي السفر الذي لم يزد فيه على الإقامة غير أمير قاله الباجي.
وقال البوني: إنه لإعلام من معه من نائم وغيره بطلوع الفجر وسائر الصلوات لا تخفى عليهم.

( وَكَانَ يَقُولُ: إِنَّمَا الْأَذَانُ لِلْإِمَامِ الَّذِي يَجْتَمِعُ النَّاسُ إِلَيْهِ) وفي رواية عبد الرزاق بإسناد صحيح عن ابن عمر: إنما التأذين لجيش أو ركب عليهم أمير فينادى بالصلاة ليجتمعوا لها فأما غيرهم فإنما هي الإقامة.

وحكى نحوه عن مالك والمشهور من مذهبه وعليه الأئمة الثلاثة وغيرهم مشروعية الأذان لكل أحد، وبالغ عطاء فقال: إذا كنت في سفر فلم تؤذن ولم تقم فأعد الصلاة ولعله كان يراه شرطًا في صحة الصلاة واستحباب الإعادة لا وجوبها.

قال ابن عبد البر: والحجة لذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يؤذن لها في السفر والحضر ويأمر، بذلك وأجمعوا على جوازه للمسافر وأنه مأجور في أذانه، وأجمعوا على الأذان في الأمصار فلا تسقط تلك السنة في السفر لأنهم لم يجمعوا على سقوطها، فدل على إبطال قول من زعم أنه لا معنى له إلا ليجتمع الناس بل له فضل كثير جاءت به الآثار.

( مَالِكٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ أَنَّ أَبَاهُ قَالَ لَهُ: إِذَا كُنْتَ فِي سَفَرٍ فَإِنْ شِئْتَ أَنْ تُؤَذِّنَ وَتُقِيمَ) لتحصيل المستحب الوارد به السنة ( فَعَلْتَ وَإِنْ شِئْتَ فَأَقِمْ وَلَا تُؤَذِّنْ) لأنه لا خلاف في مشروعية الإقامة في كل حال: قال ابن عبد البر وكان عروة يختار لنفسه أن يؤذن لفضل الأذان عنده في السفر والحضر.

( قَالَ يَحْيَى: سَمِعْتُ مَالِكًا يَقُولُ: لَا بَأْسَ أَنْ يُؤَذِّنَ الرَّجُلُ وَهُوَ رَاكِبٌ) قال ابن عبد البر: كان ابن عمر يؤذن على البعير وينزل فيقيم، وأجاز الحسن أن يؤذن ويقيم على راحلته ثم ينزل فيصلي، ولا أعلم خلافًا في أذان المسافر راكبًا، وكرهه عطاء إلا من علة أو ضرورة ومن كرهه للمقيم لم يرد عليه إعادة الأذان وكره مالك والأوزاعي أن يؤذن قاعدًا وأجازه أبو حنيفة.

وقال وائل بن حجر: حق وسنة مسنونة أن لا يؤذن إلا وهو قائم ولا يؤذن إلا وهو على طهر ووائل صحابي، وقوله سنة يدخل في المسند وذلك أولى من الرأي انتهى.

وفي الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم قال: يا بلال قم فأذن قال ابن المنذر وابن خزيمة وعياض فيه حجة لشرع الأذان قائمًا.
وتعقبه النووي بأن المراد بقوله: قم اذهب إلى موضع بارز فناد فيه بالصلاة ليسمعك الناس وليس فيه تعرض للقيام في حال الأذان.

قال الحافظ: وما نفاه ليس ببعيد من ظاهر اللفظ فإن الصيغة محتملة للأمرين وإن كان ما قاله أرجح، ونقل عياض أن مذهب العلماء كافة أن الأذان قاعدًا لا يجوز إلا أبا ثور وأبا الفرج المالكي، وتعقب بأن الخلاف معروف عند الشافعية وغيرهم وأنه لو أذن قاعدًا صح، والصواب قول ابن المنذر اتفقوا على أن القيام من السنة.

( مَالِكٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ) بن قيس الأنصاري ( عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: مَنْ صَلَّى بِأَرْضٍ فَلَاةٍ) بزنة حصاة لا ماء فيها والجمع فلا كحصى وجمع الجمع أفلاء مثل سبب وأسباب ( صَلَّى عَنْ يَمِينِهِ مَلَكٌ وَعَنْ شِمَالِهِ مَلَكٌ) يحتمل أنهما الحافظان وأن ذلك مكانهما من المكلف في الصلاة وغيرها، ويحتمل أن هذا حكم يختص بالملائكة وحكم الآدميين مخالف لذلك، فإنه لو صلى معه رجلان قاما وراءه لحديث أنس: فقمت أنا واليتيم وراءه والعجوز من ورائنا، ويحتمل أن يبلغ بالملكين درجة الجماعة إذا كان بموضع لا يقدر عليها وهو راغب فيها.

( فَإِذَا أَذَّنَ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ) كذا رواية يحيى بأو وفي رواية أبي مصعب فإن أذن وأقام ( صَلَّى وَرَاءَهُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ أَمْثَالُ الْجِبَالِ) وهذه الرواية عندي هي الأصل، ورواية يحيى تحتمل الشك وتحتمل التقسيم والأظهر رواية غيره وفيه أن للجماعة الكثيرة من الفضيلة ما ليس لليسيرة، وإلا فلا فائدة لهذا المصلي في ذلك قاله كله الباجي.

وفي السيوطي: هذا الحديث مرسل له حكم الرفع وقد ورد موصولاً ومرفوعًا، فأخرج النسائي من طريق داود بن أبي هند عن أبي عثمان النهدي عن سلمان الفارسي قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: إذا كان الرجل في أرض فيء فأقام الصلاة صلى خلفه ملكان فإن أذن وأقام صلى خلفه من الملائكة ما لا يراه طرفاه يركعون بركوعه ويسجدون بسجوده ويؤمنون على دعائه ورواه سعيد بن منصور وابن أبي شيبة والبيهقي من طريق سليمان التيمي عن أبي عثمان النهدي عن سلمان موقوفًا.

واستدل به الحناطي من الشافعية على أنه لو حلف من صلى في فضاء من الأرض منفردًا بأذان وإقامة أنه صلى بالجماعة كان بارًا في يمينه ولا كفارة عليه، ووقفه السبكي في الحلبيات واستدل به وبحديث الموطأ هذا انتهى وفيه نظر لأن الأيمان مبنية على العرف.



رقم الحديث 159 وَحَدَّثَنِي عَنْ مالِكٍ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِنَّ بِلَالًا يُنَادِي بِلَيْلٍ، فَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يُنَادِيَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ، قَالَ: وَكَانَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ رَجُلًا أَعْمَى، لَا يُنَادِي حَتَّى يُقَالَ لَهُ: أَصْبَحْتَ.
أَصْبَحْتَ.


قَدْرِ السُّحُورِ مِنَ النِّدَاءِ

( مَالِكٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِنَّ بِلَالًا يُنَادِي) أي يؤذن وهي رواية الأصيلي في البخاري ( بِلَيْلٍ) أي فيه ( فَكُلُوا وَاشْرَبُوا) فيه إشعار بأن الأذان كان علامة عندهم على دخول الوقت، فبين لهم أن أذان بلال بخلاف ذلك ( حَتَّى يُنَادِيَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ) اسمه عمرو وقيل كان اسمه الحصين فسماه النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله، ولا يمتنع أنه كان له اسمان وهو قرشي عامري أسلم قديمًا والأشهر في اسم أبيه قيس بن زائدة وكان صلى الله عليه وسلم يكرمه ويستخلفه على المدينة، وشهد القادسية في خلافة عمر واستشهد بها، وقيل رجع إلى المدينة فمات وهو الأعمى المذكور في سورة عبس واسم أمه عاتكة بنت عبد الله المخزومية وزعم بعضهم أنه ولد أعمى فكنيت أمه به لاكتتام نور بصره والمعروف أنه عمي بعد بدر بسنتين كذا في فتح الباري، وتعقب بأن نزول عبس بمكة قبل الهجرة فالظاهر والله أعلم بعد البعثة بسنتين.

وقد روى ابن سعد والبيهقي عن أنس قال: إن جبريل أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده ابن أم مكتوم فقال: متى ذهب بصرك؟ قال: وأنا غلام ولفظ البيهقي: وأنا صغير فقال: قال الله تعالى إذا ما أخذت كريمة عبدي لم أجد له بها جزاء إلا الجنة.

وفي الحديث جواز الأذان قبل الفجر واستحباب أذان واحد بعد واحد وأما اثنان معًا فمنع منه قوم وقالوا: أول من أحدثه بنو أمية وقال الشافعية: لا يكره إلا إن حصل من ذلك تهويش وجواز اتخاذ مؤذنين في مسجد واحد، وأما الزيادة عليهما فليس في الحديث تعرض له.

وقد روى علي عن مالك لا بأس أن يؤذن للقوم في السفر والحرس والمركب ثلاثة وأربعة وفي المسجد أربعة وخمسة، وقيده ابن حبيب بما إذا اتسع وقته كالصبح والظهر والعشاء فيؤذن خمسة إلى عشرة واحد بعد واحد، وفي العصر ثلاثة إلى خمسة وفي المغرب لا يؤذن إلا واحد وفيه جواز كون الأعمى مؤذنًا إذا كان له من يعلمه بالأوقات وجواز تقليده للبصير في دخول الوقت وجواز العمل بخبر الواحد وأن ما بعد الفجر من النهار.
قيل وجواز الأكل مع الشك في طلوع الفجر لأن الأصل بقاء الليل وفيه نظر فأين الشك مع إخبار الصادق أنه يؤذن بليل فلا يرد على قول مالك بحرمته ووجوب القضاء وفيه جواز اعتماد الصوت في الرواية إذا كان عارفًا به وإن لم يشاهد الراوي وخالف في ذلك شعبة لاحتمال الاشتباه وجواز نسبة الرجل إلى أمه إذا اشتهر بذلك واحتيج إليه.

وأخرجه البخاري عن عبد الله بن يوسف عن مالك به.

( مالِكٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ) هذا إسناد آخر لمالك في هذا الحديث.
قال ابن عبد البر: لم يختلف على مالك في الإسناد الأول أنه موصول وأما هذا فرواه يحيى وأكثر الرواة مرسلاً، ووصله القعنبي فقال عن أبيه ( أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:) ووافقه على وصله جماعة منهم ابن أبي أويس وابن نافع وابن مهدي انتهى.
وقضيته أنه في الموطأ.
وقال الدارقطني: تفرد القعنبي بروايته إياه في الموطأ موصولاً عن مالك ولم يذكر غيره من رواة الموطأ فيه ابن عمر، ووافقه على وصله عن مالك خارج الموطأ عبد الرحمن بن مهدي وعبد الرزاق وروح بن عبادة وأبو قرة وكامل بن طلحة وآخرون، ووصله عن الزهري جماعة من حفاظ أصحابه.

( إِنَّ بِلَالًا يُنَادِي بِلَيْلٍ) فيه إشعار بأن ذلك كان من عادته المستمرة، وزعم بعضهم أنه ابتدأ ذلك باجتهاد منه وعلى تقدير صحته فقد أقره النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك فصار في حكم المأمور به ( فَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يُنَادِيَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ) وفي صحيح ابن خزيمة وابن المنذر وابن حبان وغيرهم من طرق من حديث أنيسة مرفوعًا: أن ابن أم مكتوم ينادي بليل فكلوا واشربوا حتى يؤذن بلال، وادعى ابن عبد البر وجماعة من الأئمة أنه مقلوب وأن الصواب حديث الباب.

قال الحافظ: وقد كنت أميل إلى ذلك إلى أن رأيت الحديث في صحيح ابن خزيمة من طريقين آخرين عن عائشة وفي بعض ألفاظه ما يبعد وقوع الوهم فيه وهو قوله: إذا أذن عمرو فإنه ضرير البصر فلا يغرنكم وإذا أذن بلال فلا يطعمن أحد، وأخرجه أحمد.

وجاء عن عائشة أيضًا أنها كانت تنكر حديث ابن عمر وتقول: إنه غلط أخرج ذلك البيهقي من طريق الدراوردي عن هشام عن أبيه عنها مرفوعًا: أن ابن أم مكتوم يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى يؤذن بلال قالت عائشة: وكان بلال لا يؤذن حتى يبصر الفجر.
قال: وكانت عائشة تقول غلط ابن عمر انتهى.

وهذا مما يقضي منه العجب ففي صحيح البخاري من طريق القاسم بن محمد عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: إن بلالاً يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى ينادي ابن أم مكتوم فإنه لا يؤذن حتى يطلع الفجر، وكذا أخرجه مسلم فقد جاء عنها في أرفع الصحيح مثل رواية ابن عمر فكيف تغلطه، فالظاهر أن تلك الرواية وهم من بعض الرواة عنها والله أعلم.

قال الحافظ: عقب ما مر وقد جمع ابن خزيمة والصبغي بين الحديثين باحتمال أن الأذان كان نوبًا بين بلال وابن أم مكتوم فكان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم الناس أن الأذان الأول منهما لا يحرم على الصائم شيئًا ولا يدل على دخول وقت الصلاة بخلاف الثاني وجزم ابن حبان بذلك ولم يبده احتمالاً وأنكر ذلك عليه الضياء وغيره.

قال السيوطي قد ورد ذلك قال ابن أبي شيبة: حدثنا عثمان حدثنا شعبة عن حبيب بن عبد الرحمن قال: سمعت عمتي تقول وكانت حجت مع النبي صلى الله عليه وسلم قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن ابن أم مكتوم ينادي بليل فكلوا واشربوا حتى ينادي بلال وإن بلالاً ينادي بليل فكلوا واشربوا حتى ينادي ابن أم مكتوم انتهى.

قال الحافظ: وقيل لم يكن نوبًا وإنما كانت لهما حالتان مختلفتان فإن بلالاً كان في أول ما شرع الأذان يؤذن وحده ولا يؤذن للصبح حتى يطلع الفجر وعلى ذلك تحمل رواية عروة عن امرأة من بني النجار قالت: كان بلال يجلس على بيتي وهو أعلى بيت في المدينة فإذا رأى الفجر تمطى ثم أذن أخرجه أبو داود وإسناده حسن.

ورواية حميد عن أنس أن سائلاً سأل عن وقت الصلاة، فأمر صلى الله عليه وسلم بلالاً فأذن حين طلع الفجر الحديث أخرجه النسائي وإسناده صحيح، ثم أردف بابن أم مكتوم فكان يؤذن بليل واستمر بلال على حالته الأولى وعلى ذلك تنزل رواية أنيسة وغيرها، ثم في آخر الأمر أخر ابن أم مكتوم لضعفه ووكل به من يراعي له الفجر، واستقر أذان بلال بليل وكان سبب ذلك ما روي أنه كان ربما أخطأ الفجر فأذن قبل طلوعه وأنه أخطأه مرة فأمره صلى الله عليه وسلم أن يرجع فيقول: ألا إن العبد نام يعني إن غلبة النوم على عينيه منعته من تبين الفجر وهو حديث أخرجه أبو داود وغيره من طريق حماد بن سلمة عن أيوب عن نافع عن ابن عمر موصولاً مرفوعًا، ورواته ثقات حفاظ، لكن اتفق أئمة الحديث على ابن المديني وأحمد والبخاري والذهلي وأبو حاتم وأبو داود والترمذي والأثرم والدارقطني على أن حمادًا أخطأ في رفعه، وأن الصواب وقفه على عمر بن الخطاب أنه هو الذي وقع له ذلك مع مؤذنه وأن حمادًا انفرد برفعه ومع ذلك فقد وجد له متابع أخرجه البيهقي من طريق سعيد بن زربي وهو بفتح الزاي وسكون الراء بعدها موحدة ثم ياء كياء النسبة فرواه عن أيوب موصولاً، لكن سعيد ضعيف.

ورواه عبد الرزاق عن معمر عن أيوب أيضًا لكنه أعضله فلم يذكر نافعًا ولا ابن عمر وله طريق أخرى عن نافع عند الدارقطني وغيره اختلف في رفعها ووقفها أيضًا، وأخرى مرسلة من طريق يونس بن عبيد وغيره عن حميد بن هلال، وأخرى من طريق سعيد عن قتادة مرسلة، ووصلها أبو يوسف عن سعيد بذكر أنس فهذه طرق يقوى بعضها ببعض قوة ظاهرة، فلهذا والله أعلم استقر بلال يؤذن الأذان الأول انتهى.

( قَالَ: وَكَانَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ رَجُلًا أَعْمَى) ظاهره على رواية القعنبي أن فاعل قال هو ابن عمر وبه جزم الشيخ موفق الدين الحنبلي في المغني وفي البخاري في الصيام ما يشهد له وصرح الحميدي في الجمع بأن عبد العزيز بن أبي سلمة رواه عن ابن شهاب عن سالم عن أبيه أنه قال وكان ابن أم مكتوم فثبتت صحة وصله لكن رواه الإسماعيلي عن أبي خليفة والطحاوي عن يزيد بن سنان كلاهما عن القعنبي فعينا أن فاعل قال ابن شهاب وكذا رواه إسماعيل بن إسحاق ومعاذ بن المثنى وأبو مسلم الكجي الثلاثة عند الدارقطني والخزاعي عند أبي الشيخ وتمام عند أبي نعيم وعثمان الدارمي عند البيهقي كلهم عن القعنبي.

ورواه البيهقي من رواية الربيع بن سليمان عن ابن وهب عن يونس والليث جميعًا عن ابن شهاب وفيه قال سالم: وكان رجلاً ضرير البصر.

قال الحافظ: ولا يمنع كون ابن شهاب قاله أن يكون شيخه سالم قاله وكذا شيخ شيخه ابن عمر أيضًا ولابن شهاب فيه شيخ آخر رواه عبد الرزاق عن معمر عنه عن سعيد بن المسيب وفيه الزيادة.

قال ابن عبد البر: هو حديث آخر لابن شهاب وقد وافق ابن إسحاق معمرًا فيه عن الزهري.

( لَا يُنَادِي حَتَّى يُقَالَ لَهُ أَصْبَحْتَ أَصْبَحْتَ) بالتكرار للتأكيد أي دخلت في الصباح هذا ظاهره.

واستشكل بأنه جعل أذانه غاية للأكل فلو لم يؤذن حتى يدخل الصباح للزم منه جواز الأكل بعد طلوع الفجر والإجماع على خلافه إلا من شذ كالأعمش.
وأجاب ابن حبيب وابن عبد البر والأصيلي وجماعة من الشراح: بأن المراد قاربت الصباح ويعكر على هذا الجواب أن في رواية الربيع التي قدمناها ولم يكن يؤذن حتى يقول له الناس حين ينظرون إلى بزوغ الفجر أذن.

وأصرح من ذلك رواية البخاري في الصيام حتى يؤذن ابن أم مكتوم فإنه لا يؤذن حتى يطلع الفجر، وإنما قلت إنه أبلغ لكون جميعه من كلام النبي صلى الله عليه وسلم وأيضًا فقوله: إن بلالاً يؤذن بليل يشعر أن ابن أم مكتوم بخلافه ولأنه لو كان قبل الصبح لم يكن بينه وبين بلال فرق لصدق أن كلاً منهما أذن قبل الوقت وهذا الموضع عندي في غاية الإشكال وأقرب ما يقال فيه إنه جعل علامة لتحريم الأكل وكان له من يراعي الوقت بحيث يكون أذانه مقارنًا لابتداء طلوع الفجر وهو المراد بالبزوغ وعند أخذه في الأذان يعترض الفجر في الأفق ثم ظهر لي أنه لا يلزم من كون المراد بقولهم أصبحت أي قاربت الصباح وقوع أذانه قبل الفجر لاحتمال أن قولهم ذلك يقع في آخر جزء من الليل وأذانه يقع في أول جزء من طلوع الفجر وهذا وإن كان مستبعدًا في العادة فليس بمستبعد من مؤذن النبي صلى الله عليه وسلم المؤيد بالملائكة فلا يشاركه فيه من لم يكن بتلك الصفة.
وقد روى أبو قرة من وجه آخر عن ابن عمر حديثًا فيه: وكان ابن أم مكتوم يتوخى الفجر فلا يخطيه.
ذكره الحافظ ولا عطر بعد عروس قال رحمه الله: وفيه جواز أذان الأعمى إذا كان له من يخبره بالوقت لأنه في الأصل مبني على المشاهدة، وعلى هذا القيد يحمل ما روى ابن أبي شيبة وابن المنذر عن ابن مسعود وابن الزبير وغيرهما أنهم كرهوا أن يكون المؤذن أعمى.

ونقل النووي عن أبي حنيفة وداود أن أذان الأعمى لا يصح تعقبه السروجي بأنه غلط على أبي حنيفة.
نعم في المحيط للحنفية كراهته وفيه جواز تقليده للبصير في دخول الوقت وجواز ذكر الرجل بما فيه من العاهة إذا كان لقصد التعريف ونحوه والأذان قبل الفجر، وإليه ذهب الجمهور.

وخالف النووي وأبو حنيفة ومحمد وهل يكتفى به وإليه ذهب مالك والشافعي وأحمد وأصحابهم، وخالف ابن خزيمة وابن المنذر وطائفة من أهل الحديث وادعى بعضهم أنه لم يرد في شيء من الحديث ما يدل على الاكتفاء، وتعقب بحديث ابن مسعود في الصحيحين مرفوعًا: لا يمنعن أحدكم أذان بلال من سحوره فإنه يؤذن بليل ليرجع قائمكم ولينبه نائمكم.

وأجيب: بأنه مسكوت عنه فلا يدل وعلى التنزل فمحله إذا لم يرد خلافه وهنا قد ورد حديث ابن عمر وعائشة بما يشعر بعدم الاكتفاء.
نعم حديث زياد بن الحارث عند أبي داود يدل على الاكتفاء فإن فيه أنه أذن قبل الفجر بأمره صلى الله عليه وسلم وأنه استأذنه في الإقامة فمنعه إلى أن يطلع الفجر فأمره فأقام، لكن في إسناده ضعف.
وأيضًا فهي واقعة عين وكانت في سفر، ومن ثم قال القرطبي: إنه مذهب واضح على أن العمل المنقول بالمدينة على خلافه فلم يرده إلا بالعمل على قاعدة المالكية وادعى بعض الحنفية أن النداء قبل الفجر لم يكن بألفاظ الأذان وإنما كان تذكيرًا أو تسحيًرا كما يقع للناس اليوم وهذا مردود لأن الذي يصنعه الناس اليوم محدث قطعًا، وقد تظافرت الطرق على التعبير بلفظ الأذان فحمله على معناه الشرعي مقدم ولأن الأذان الأول لو كان بألفاظ مخصوصة لما التبس على السامعين، وسياق الخبر يقتضي أنه خشي عليهم الالتباس وادعى ابن القطان أن ذلك كان في رمضان خاصة وفيه نظر، وتمسك الطحاوي بحديث ابن مسعود هذا لمذهبه فقال: قد أخبر أن ذلك النداء كان لما ذكر لا للصلاة.
وتعقب بأن قوله لا للصلاة زيادة في الخبر وليس فيه حصر فيما ذكر.

فإن قيل: تقدم في تعريف الأذان الشرعي أنه إعلام بدخول وقت الصلاة بألفاظ مخصوصة والأذان قبل الوقت ليس إعلامًا به فالجواب: أن الإعلام بالوقت أعم من أن يكون إعلامًا بأنه دخل أو قارب أن يدخل وإنما اختصت الصبح بذلك من بين الصلوات لأن الصلاة في أول وقتها مرغب فيه والصبح تأتي غالبًا عقب نوم فناسب أن ينصب من يوقظ الناس قبل دخول وقتها ليتأهبوا ويدركوا فضيلة أول الوقت انتهى.

وهذا الحديث رواه البخاري حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك به.