فهرس الكتاب

شرح الزرقاني - بَابُ الْعَمَلِ فِي الْقِرَاءَةِ

رقم الحديث 175 حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُنَيْنٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ لُبْسِ الْقَسِّيِّ، وَعَنْ تَخَتُّمِ الذَّهَبِ، وَعَنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فِي الرُّكُوعِ.


الْعَمَلِ فِي الْقِرَاءَةِ

( مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُنَيْنٍ) بضم الحاء المهملة وفتح النون الهاشمي مولاهم المدني التابعي قال ابن سعد: كان ثقة كثير الحديث روى له الجميع ومات بعد المائة ( عَنْ أَبِيهِ) عبد الله التابعي الثقة المتوفى في أول إمارة يزيد روى له الجماعة وفي الإسناد ثلاثة من التابعين يروي بعضهم عن بعض وهو من اللطائف ( عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ) بن عبد المطلب بن هاشم أبي الحسن من السابقين الأولين، ورجح جماعة أنه أول من أسلم أمير المؤمنين مناقبه كثيرة جدًا حتى قال أحمد والنسائي وإسماعيل القاضي لم يرد في حق أحد بالأسانيد الجياد ما ورد في حق علي، مات في رمضان سنة أربعين وهو يومئذ أفضل الأحياء من بني آدم بالأرض بإجماع أهل السنة وله ثلاث وستون سنة على الأصح.

( أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ لُبْسِ الْقَسِّيِّ) بفتح القاف وكسر السين وتحتية مشددتين.
قال: ابن وهب: ثياب مضلعة أي مخططة بالحرير كانت تعمل بالقس موضع بمصر يلي الفرما قاله الباجي.
وفي مسلم عن أبي بردة قلت لعلي: ما القسية؟ قال: ثياب أتتنا من مصر والشام مضلعة فيها حرير أمثال الأترج.
وقال أبو عبيد: أهل الحديث يكسرون القاف وأهل مصر يفتحونها نسبة إلى بلد على ساحل البحر يقال لها القس بقرب دمياط.

وقال الحافظ: الكسر غلط لأنه جمع قوس، وقال ابن الأثير: هي ثياب من كتان مخلوط بحرير يؤتى بها من مصر نسبت إلى قرية على ساحل البحر قريبًا من تنيس يقال لها القس، وبعض أهل الحديث يكسرها وقيل أصل القسي القزي بالزاي منسوب إلى القز وهو ضرب من الإبريسم فأبدل من الزاي سين، وقيل منسوب إلى القس وهو الصقيع لبياضه، وفي رواية أبي مصعب والقعنبي ومعن وجماعة زيادة والمعصفر والنهي للتنزيه على المشهور ففي المدونة كره مالك الثوب المعصفر المقدم للرجال في غير الإحرام والمقدم بضم الميم وسكون الفاء وفتح الدال المهملة القوي الصبغ المشبع الذي رد في العصفر مرة بعد أخرى، وأما المعصفر غير المقدم والمزعفر فيجوز لبسهما في غير الإحرام نص على الأول في المدونة وعلى المزعفر في غيرها.
قال مالك: لا بأس بالمزعفر لغير الإحرام وكنت ألبسه.

( وَعَنْ تَخَتُّمِ الذَّهَبِ) نهي تحريم للرجال دون النساء ( وَعَنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فِي الرُّكُوعِ) والسجود كما زاده معمر عن ابن شهاب عن إبراهيم عن أبيه عن علي عند مسلم فتكره القراءة فيهما عند الجميع لهذا الحديث ولخبر مسلم عن ابن عباس مرفوعًا ألا وإني قد نهيت عن القراءة في الركوع والسجود، فأما الركوع فعظموا فيه الرب وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء فقمن أن يستجاب لكم.
وحديث الباب رواه مسلم في اللباس عن يحيى والترمذي في الصلاة عن قتيبة ومن طريق معن الثلاثة عن مالك به وتابعه الزهري في شيخه نافع عن إبراهيم عن أبيه عن علي في مسلم أيضًا.

( مَالِكٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَارِثِ التَّيْمِيِّ) بفوقية فتحتية نسبة إلى تيم قريش ( عَنْ أَبِي حَازِمٍ) بمهملة وزاي ( التَّمَّارِ) اسمه دينار مولى الأنصار كذا في رواية للنسائي وله في أخرى مولى الغفاريين وقد قيل إنه مولى أبي رهم الغفاري، وذكر حبيب بن إبراهيم عن مالك أن اسمه يسار مولى قيس بن سعد بن عبادة، وقال الآجري قلت لأبي داود أبو حازم التمار حدث عنه محمد بن إبراهيم من هو قال هو الرجل الذي من بياضة وقيل هما اثنان التمار مولى أبي رهم الغفاري والبياضي مولى الأنصار مختلف في صحبته.

( عَنِ الْبَيَاضِيِّ) بفتح الموحدة وضاد معجمة اسمه فروة بفتح الفاء وسكون الراء ابن عمرو بفتح العين ابن ودقة بفتح الواو وسكون الدال المهملة بعدها قاف كما ضبطه الداني في أطراف الموطأ قال: وهي الروضة ابن عبيد بن غانم بن بياضة فخذ من الخزرج الأنصاري شهد العقبة وبدرًا وما بعدها، وآخى النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبين عبد الله بن مخرمة العامري، وروى عبد الرزاق عن رافع بن خديج أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبعث فروة بن عمرو يخرص النخل فإذا دخل الحائط حسب ما فيه من الأقناء ثم ضرب بعضها على بعض على ما يرى فيها فلا يخطئ، وذكر وثيمة في كتاب الردة أن فروة كان ممن قاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فرسين في سبيل الله وكان يتصدق في كل يوم من نخله بألف وسق، وكان من أصحاب علي يوم الجمل، وزعم ابن مزين وابن وضاح أن مالكًا سكت عن اسمه لأنه كان ممن أعان على عثمان.
قال ابن عبد البر: وهذا لا يثبت ولا وجه لما قالاه من ذلك ولم يكن قائل هذا علم بما كان من الأنصار يوم الدار.

( أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ عَلَى النَّاسِ وَهُمْ يُصَلُّونَ) وفي رواية حماد بن زيد عن يحيى بن سعيد أن ذلك كان في رمضان والنبي صلى الله عليه وسلم معتكف في قبة على بابها حصير والناس يصلون عصبًا عصبًا أخرجه ابن عبد البر.

( وَقَدْ عَلَتْ أَصْوَاتُهُمْ بِالْقِرَاءَةِ فَقَالَ إِنَّ الْمُصَلِّيَ يُنَاجِي رَبَّهُ) قال ابن بطال: مناجاة المصلي ربه عبارة عن إحضار القلب والخشوع في الصلاة.
وقال عياض: هي إخلاص القلب وتفريغ السر بذكره وتحميده وتلاوة كتابه في الصلاة، وقال غيره: مناجاة العبد لربه ما يقع منه من الأفعال والأقوال المطلوبة في الصلاة وترك الأفعال والأقوال المنهي عنها، ومناجاة الرب لعبده إقباله عليه بالرحمة والرضوان وما يفتحه عليه من العلوم والأسرار وفيه كما قال الباجي تنبيه على معنى الصلاة والمقصود بها ليكثر الاحتراز من الأمور المكروهة المدخلة للنقص فيها والإقبال على أمور الطاعة المتممة لها.

( فَلْيَنْظُرْ بِمَا يُنَاجِيهِ بِهِ) أراد به التحذير من أن يناجيه بالقرآن على وجه مكروه وإن كان القرآن كله طاعة وقربة ( وَلَا يَجْهَرْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ بِالْقُرْآنِ) لأن فيه أذى ومنعًا من الإقبال على الصلاة وتفريغ السر لها، وتأمل ما يناجي به ربه من القرآن، وإذا منع رفع الصوت بالقرآن حينئذ لأذى المصلين فبغيره من الحديث وغيره أولى انتهى.

وقال ابن عبد البر: وإذا نهي المسلم عن أذى المسلم في عمل البر وتلاوة القرآن فإيذاؤه في غير ذلك أشد تحريمًا، وقد ورد مثل هذا الحديث من رواية أبي سعيد الخدري أخرج أبو داود عنه قال: اعتكف صلى الله عليه وسلم في المسجد فسمعهم يجهرون بالقراءة فكشف الستر وقال: ألا إن كلكم يناجي ربه فلا يؤذين بعضكم بعضًا ولا يرفع بعضكم على بعض في القراءة.

وقال في الصلاة: قال ابن عبد البر: حديث البياضي وأبي سعيد ثابتان صحيحان قال: وقد روي بسند ضعيف عن علي، قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرفع صوته بالقرآن قبل العشاء وبعدها يغلط أصحابه وهم يصلون.
قال السيوطي: وكثيرًا ما يسأل عما اشتهر على الألسنة ما أنصف القارئ المصلي ولا أصل له ولكن هذه أصوله.

( مَالِكٍ عَنْ حُمَيْدٍ) بضم الحاء ابن أبي حميد البصري يكنى أبا عبيدة مولى طلحة بن عبد الله الخزاعي الذي يقال له طلحة الطلحات واسم أبيه طرخان أو مهران أو غير ذلك إلى نحو عشرة أقوال، وهو من الثقات المتفق على الاحتجاج بهم إلا أنه كان يدلس حديث أنس، وكان سمع أكثره من ثابت وغيره من أصحاب أنس قال شعبة: لم يسمع حميد من أنس إلا أربعة وعشرين حديثًا والباقي سمعها من ثابت أو ثبته فيها وعابه زائدة لدخوله في شيء من أمر الخلفاء، وجملة الذي رواه مالك في الموطأ عنه سبعة أحاديث، مات وهو قائم يصلي في جمادى الأولى سنة اثنين ويقال ثلاث وأربعين ويقال سنة أربعين ومائة.

ولقب ( الطَّوِيلِ) قيل لطول يديه، وقال الأصمعي: رأيته ولم يكن بالطويل ولكن كان له جار يعرف بحميد القصير فقيل حميد الطويل ليعرف من الآخر ( عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ: قُمْتُ وَرَاءَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ) قال الباجي: أي وقفت مستقبل القبلة القيام المعتاد في الصلاة على رجليه جميعًا فيقرنهما ولا يحركهما ( فَكُلُّهُمْ كَانَ لَا يَقْرَأُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ إِذَا افْتَتَحَ الصَّلَاةَ) .

قال ابن عبد البر: هكذا في الموطأ عند جماعة رواته فيما علمت موقوفًا، وروته طائفة منهم الوليد بن مسلم، وموسى بن طارق، وإسماعيل بن موسى السدي، عن مالك، عن حميد، عن أنس قال: صليت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان فكلهم إلى آخره، وليس ذلك بمحفوظ.
وكذلك رواه ابن أخي ابن وهب عن عمه عبد الله بن وهب قال: حدثنا عبيد الله بن عمر ومالك وابن عيينة عن حميد عن أنس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يجهر بالقراءة ببسم الله الرحمن الرحيم، وهو خطأ عندهم من ابن أخي ابن وهب في رفعه ذلك عن عمه عن مالك والصواب عنه ما في الموطأ خاصة.

وذكر الحافظ في نكته على ابن الصلاح أن حميدًا سمع هذا الحديث من أنس وقتادة إلا أنه سمع الموقوف من أنس ومن قتادة عنه المرفوع، قال ابن أبي عدي: فكان حميد إذا قال عن أنس لم يرفعه، وإذا قال عن قتادة عنه رفعه انتهى.

ولا يعارضه ما رأيت أن طائفة روته عن مالك فرفعته بدون ذكر قتادة لقول أبي عمر إنه ليس بمحفوظ.
نعم يرد عليه رواية ابن عيينة والعمري له بدون ذكر قتادة فإن أبا عمر لم يعلها لكن قد أعلها غيره أيضًا.

قال ابن عبد البر: وقد روى هذا الحديث عن أنس ثابت وقتادة وحميد أيضًا من طرق كثيرة بأسانيد صحيحة كلهم ذكر فيه النبي صلى الله عليه وسلم، لكن اختلف عليهم في لفظه اختلافًا كثيرًا مضطربًا متدافعًا منهم من قال كانوا لا يقرؤون بسم الله الرحمن الرحيم، ومنهم من قال: كانوا لا يجهرون بها وبعضهم قال: كانوا يجهرون، وبعضهم قال كانوا لا يتركونها، ومنهم من قال: كانوا يفتتحون القراءة بالحمد لله رب العالمين، وهذا اضطراب لا تقوم معه حجة لأحد من الفقهاء.

قال الحافظ: طريق الجمع بين هذه الألفاظ حمل نفي القراءة على نفي السماع ونفي السماع على نفي الجهر ولا يلزم من قوله كانوا يفتتحون بالحمد وهو بضم الدال على الحكاية أنهم لم يقرؤوا البسملة سرًا، ويؤيده أن في رواية الحسن عن أنس عند ابن خزيمة كانوا يسرون ببسم الله الرحمن الرحيم فاندفع بهذا تعليل من أعله بالاضطراب كابن عبد البر لأن الجمع إذا أمكن تعين المصير إليه انتهى.
ولا يخفى تعسفه فإنه لم يذكر رواية كانوا يجهرون ورواية كانوا لا يتركونها إذ جمعه لا يمكن معهما فالحق مع ابن عبد البر ومن وافقه، ثم كيف يحمل نفي السماع على نفي الجهر ويقدم عليه رواية من أثبته مع كون أنس صحب النبي صلى الله عليه وسلم عشر سنين، ثم صحب أبا بكر وعمر وعثمان خمسًا وعشرين سنة فلا يسمع الجهر بها منهم في صلاة واحدة، وهذا من البعد بمكان وتأييده بما جاء أن سعيد بن يزيد سأل أنسًا عن ذلك فقال: إنك لتسألني عن شيء لا أحفظه ولا سألني عنه أحد قبلك رواه ابن خزيمة وغيره، وبه أعل حديث الباب ليس بناهض لأن أحمد روى بإسناد الصحيحين أن قتادة سأل أنسًا مثل سؤال سعيد فأجابه بقوله: صليت خلف النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان فلم يكونوا يفتتحون القراءة ببسم الله الرحمن الرحيم.
وأخرجه أبو يعلى والسراج وغيرهما.

وروى ابن المنذر عن قتادة سألت أنسًا أيقرأ الرجل في الصلاة بسم الله الرحمن الرحيم؟ فقال: صليت وراء رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان فلم أسمع أحدًا منهم يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم؟ وجمع بينهما بأنه أجاب قتادة بالحكم دون سعيد فلعله تذكره لما سأله قتادة بدليل قوله في رواية سعيد ما سألني عنه أحد قبلك وقاله لهما معًا فحفظه قتادة دون سعيد، فإن قتادة أحفظ منه بلا نزاع، والإنصاف قول السيوطي قد كثرت الأحاديث الواردة في البسملة إثباتًا ونفيًا، وكلا الأمرين صحيح أنه صلى الله عليه وسلم قرأ بها وتركها وجهر بها وأخفاها.

والذي يوضح صحة الأمرين ويزيل إشكال من شكك على الفريقين معًا أعني من أثبت أنها آية من أول الفاتحة وكل سورة ومن نفى ذلك قائلاً: إن القرآن لا يثبت بالظن.
ولا ينفى بالظن ما أشار إليه طائفة من المتأخرين أن إثباتها ونفيها كلاهما قطعي، ولا يستغرب ذلك، فإن القرآن نزل على سبعة أحرف ونزل مرات متكررة فنزل في بعضها بزيادة وفي بعضها بحذف كقراءة ملك ومالك وتجري تحتها ومن تحتها في براءة وأن الله هو الغني وأن الله الغني في سورة الحديد، فلا يشك أحد ولا يرتاب في أن القراءة بإثبات الألف ومن وهو ونحو ذلك متواترة قطعية الإثبات، وأن القراءة بحذف ذلك أيضًا متواترة قطعية الحذف وأن ميزان الإثبات والحذف في ذلك سواء.

وكذلك القول في البسملة أنها نزلت في بعض الأحرف ولم تنزل في بعضها فإثباتها قطعي وحذفها قطعي وكل متواتر وكل في السبع فإن نصف القراء السبعة قرؤوا بإثباتها، ونصفهم قرؤوا بحذفها وقراءات السبعة كلها متواترة فمن قرأ بها فهي ثابتة في حرفه متواترة إليه ثم منه إلينا ومن قرأ بحذفها فحذفها في حرفه متواتر إليه ثم منه إلينا والعطف من ذلك أن نافعًا له راويان قرأ أحدهما عنه بها والآخر بحذفها، فدل على أن الأمرين تواترا عنده بأن قرأ بالحرفين معًا كل بأسانيد متواترة.

فبهذا التقرير اجتمعت الأحاديث المختلفة على كثرة كل جانب منها وانجلى الإشكال وزال التشكيك ولا يستغرب الإثبات ممن أثبت ولا النفي ممن نفى، وقد أشار إلى بعض ما ذكرته أستاذ القراء المتأخرين الإمام شمس الدين بن الجزري فقال بعد أن حكى خمسة أقوال في كتابه النشر، وهذه الأقوال ترجع إلى النفي والإثبات، والذي نعتقده أن كليهما صحيح وأن كل ذلك حق فيكون الاختلاف فيها كاختلاف القراءات انتهى.

وقرره أيضًا بأبسط منه الحافظ فيما نقله الشيخ برهان الدين البقاعي في معجمه انتهى.
وسبقهما إلى ذلك أبو أمامة بن النقاش.

( مَالِكٍ عَنْ عَمِّهِ أَبِي سُهَيْلِ) اسمه نافع ( بْنِ مَالِكٍ عَنْ أَبِيهِ) مالك بن أبي عامر ( أَنَّهُ قَالَ: كُنَّا نَسْمَعُ قِرَاءَةَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ عِنْدَ دَارِ أَبِي جَهْمٍ) بفتح الجيم وإسكان الهاء واسمه عامر وقيل عبيد بن حذيفة صحابي قرشي عدوي من مسلمة الفتح ومشيخة قريش ومعمريهم، حضر بناء قريش للكعبة في الجاهلية وبناء ابن الزبير لها وهو أحد من ترك الخمر في الجاهلية خوفًا على عقله ( بِالْبَلَاطِ) بفتح الموحدة بزنة سحاب موضع بالمدينة بين المسجد والسوق مبلط كما في القاموس.

قال ابن عبد البر: وكان عمر مديد الصوت فيسمع صوته حيث ذكر وفيه تفسير لحديث لا يجهر بعضكم على بعض بالقرآن أنه في المنفردين وأما قراءة الإمام في المكتوبة أو غيرها فلا.

وقال الباجي: لا بأس أن يرفع الإمام صوته فيما يجهر فيه من الفرائض وكذا النوافل، وقد روى أشهب عن مالك لا بأس أن يرفع المتنفل ببيته صوته بالقراءة ولعله أنشط له وأقوى.

( مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ إِذَا فَاتَهُ شَيْءٌ مِنَ الصَّلَاةِ مَعَ الْإِمَامِ فِيمَا جَهَرَ فِيهِ الْإِمَامُ بِالْقِرَاءَةِ أَنَّهُ إِذَا سَلَّمَ الْإِمَامُ قَامَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ فَقَرَأَ لِنَفْسِهِ فِيمَا يَقْضِي وَجَهَرَ) قال الباجي: يحتمل أن يكون جهره فيما يقضي لأنه يرى أن المأموم يقضي على نحو ما فاته من القراءة والجهر مثل رواية ابن القاسم عن مالك وهذا أظهر، ويحتمل أنه يرى أن ما يأتي به آخر صلاته أن تفوته ركعة من الصبح أو ركعتان من المغرب أو ثلاثًا من العشاء، فإن الخلاف يرتفع هنا ولا بد للمأموم من الجهر في القضاء على القولين.

( مَالِكٍ عَنْ يَزِيدَ بْنِ رُومَانَ) المدني الثقة المتوفى سنة ثلاثين ومائة ( أَنَّهُ قَالَ: كُنْتُ أُصَلِّي إِلَى جَانِبِ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ) النوفلي التابعي الثقة الفاضل المتوفى سنة تسع وتسعين ( فَيَغْمِزُنِي) بكسر الميم كضرب يشير إلي ( فَأَفْتَحُ عَلَيْهِ وَنَحْنُ نُصَلِّي) وبهذا قال مالك في مختصر ابن عبد الحكم وأشهب وابن حبيب، وفيه جواز الفتح على الإمام بالأولى من إجازة الفتح على من ليس معه في صلاة لأنها تلاوة قرآن في صلاة والأصح، وبه قال ابن القاسم بطلان صلاة من فتح على من ليس معه في صلاة لأنه وإن كان تلاوة قرآن لكنه في معنى المكالمة، وكره الكوفيون الفتح على الإمام وأجازه مالك والشافعي وأكثر العلماء لأن الله لم ينه عنه ولا رسوله من وجه يحتج به، وقد تردد صلى الله عليه وسلم في آية فلما انصرف قال: ألم يكن في القوم أبيّ، يريد الفتح عليه.



رقم الحديث 176 وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَارِثِ التَّيْمِيِّ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ التَّمَّارِ، عَنِ الْبَيَاضِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ عَلَى النَّاسِ وَهُمْ يُصَلُّونَ.
وَقَدْ عَلَتْ أَصْوَاتُهُمْ بِالْقِرَاءَةِ، فَقَالَ: إِنَّ الْمُصَلِّيَ يُنَاجِي رَبَّهُ، فَلْيَنْظُرْ بِمَا يُنَاجِيهِ بِهِ، وَلَا يَجْهَرْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ بِالْقُرْآنِ.


الْعَمَلِ فِي الْقِرَاءَةِ

( مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُنَيْنٍ) بضم الحاء المهملة وفتح النون الهاشمي مولاهم المدني التابعي قال ابن سعد: كان ثقة كثير الحديث روى له الجميع ومات بعد المائة ( عَنْ أَبِيهِ) عبد الله التابعي الثقة المتوفى في أول إمارة يزيد روى له الجماعة وفي الإسناد ثلاثة من التابعين يروي بعضهم عن بعض وهو من اللطائف ( عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ) بن عبد المطلب بن هاشم أبي الحسن من السابقين الأولين، ورجح جماعة أنه أول من أسلم أمير المؤمنين مناقبه كثيرة جدًا حتى قال أحمد والنسائي وإسماعيل القاضي لم يرد في حق أحد بالأسانيد الجياد ما ورد في حق علي، مات في رمضان سنة أربعين وهو يومئذ أفضل الأحياء من بني آدم بالأرض بإجماع أهل السنة وله ثلاث وستون سنة على الأصح.

( أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ لُبْسِ الْقَسِّيِّ) بفتح القاف وكسر السين وتحتية مشددتين.
قال: ابن وهب: ثياب مضلعة أي مخططة بالحرير كانت تعمل بالقس موضع بمصر يلي الفرما قاله الباجي.
وفي مسلم عن أبي بردة قلت لعلي: ما القسية؟ قال: ثياب أتتنا من مصر والشام مضلعة فيها حرير أمثال الأترج.
وقال أبو عبيد: أهل الحديث يكسرون القاف وأهل مصر يفتحونها نسبة إلى بلد على ساحل البحر يقال لها القس بقرب دمياط.

وقال الحافظ: الكسر غلط لأنه جمع قوس، وقال ابن الأثير: هي ثياب من كتان مخلوط بحرير يؤتى بها من مصر نسبت إلى قرية على ساحل البحر قريبًا من تنيس يقال لها القس، وبعض أهل الحديث يكسرها وقيل أصل القسي القزي بالزاي منسوب إلى القز وهو ضرب من الإبريسم فأبدل من الزاي سين، وقيل منسوب إلى القس وهو الصقيع لبياضه، وفي رواية أبي مصعب والقعنبي ومعن وجماعة زيادة والمعصفر والنهي للتنزيه على المشهور ففي المدونة كره مالك الثوب المعصفر المقدم للرجال في غير الإحرام والمقدم بضم الميم وسكون الفاء وفتح الدال المهملة القوي الصبغ المشبع الذي رد في العصفر مرة بعد أخرى، وأما المعصفر غير المقدم والمزعفر فيجوز لبسهما في غير الإحرام نص على الأول في المدونة وعلى المزعفر في غيرها.
قال مالك: لا بأس بالمزعفر لغير الإحرام وكنت ألبسه.

( وَعَنْ تَخَتُّمِ الذَّهَبِ) نهي تحريم للرجال دون النساء ( وَعَنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فِي الرُّكُوعِ) والسجود كما زاده معمر عن ابن شهاب عن إبراهيم عن أبيه عن علي عند مسلم فتكره القراءة فيهما عند الجميع لهذا الحديث ولخبر مسلم عن ابن عباس مرفوعًا ألا وإني قد نهيت عن القراءة في الركوع والسجود، فأما الركوع فعظموا فيه الرب وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء فقمن أن يستجاب لكم.
وحديث الباب رواه مسلم في اللباس عن يحيى والترمذي في الصلاة عن قتيبة ومن طريق معن الثلاثة عن مالك به وتابعه الزهري في شيخه نافع عن إبراهيم عن أبيه عن علي في مسلم أيضًا.

( مَالِكٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَارِثِ التَّيْمِيِّ) بفوقية فتحتية نسبة إلى تيم قريش ( عَنْ أَبِي حَازِمٍ) بمهملة وزاي ( التَّمَّارِ) اسمه دينار مولى الأنصار كذا في رواية للنسائي وله في أخرى مولى الغفاريين وقد قيل إنه مولى أبي رهم الغفاري، وذكر حبيب بن إبراهيم عن مالك أن اسمه يسار مولى قيس بن سعد بن عبادة، وقال الآجري قلت لأبي داود أبو حازم التمار حدث عنه محمد بن إبراهيم من هو قال هو الرجل الذي من بياضة وقيل هما اثنان التمار مولى أبي رهم الغفاري والبياضي مولى الأنصار مختلف في صحبته.

( عَنِ الْبَيَاضِيِّ) بفتح الموحدة وضاد معجمة اسمه فروة بفتح الفاء وسكون الراء ابن عمرو بفتح العين ابن ودقة بفتح الواو وسكون الدال المهملة بعدها قاف كما ضبطه الداني في أطراف الموطأ قال: وهي الروضة ابن عبيد بن غانم بن بياضة فخذ من الخزرج الأنصاري شهد العقبة وبدرًا وما بعدها، وآخى النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبين عبد الله بن مخرمة العامري، وروى عبد الرزاق عن رافع بن خديج أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبعث فروة بن عمرو يخرص النخل فإذا دخل الحائط حسب ما فيه من الأقناء ثم ضرب بعضها على بعض على ما يرى فيها فلا يخطئ، وذكر وثيمة في كتاب الردة أن فروة كان ممن قاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فرسين في سبيل الله وكان يتصدق في كل يوم من نخله بألف وسق، وكان من أصحاب علي يوم الجمل، وزعم ابن مزين وابن وضاح أن مالكًا سكت عن اسمه لأنه كان ممن أعان على عثمان.
قال ابن عبد البر: وهذا لا يثبت ولا وجه لما قالاه من ذلك ولم يكن قائل هذا علم بما كان من الأنصار يوم الدار.

( أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ عَلَى النَّاسِ وَهُمْ يُصَلُّونَ) وفي رواية حماد بن زيد عن يحيى بن سعيد أن ذلك كان في رمضان والنبي صلى الله عليه وسلم معتكف في قبة على بابها حصير والناس يصلون عصبًا عصبًا أخرجه ابن عبد البر.

( وَقَدْ عَلَتْ أَصْوَاتُهُمْ بِالْقِرَاءَةِ فَقَالَ إِنَّ الْمُصَلِّيَ يُنَاجِي رَبَّهُ) قال ابن بطال: مناجاة المصلي ربه عبارة عن إحضار القلب والخشوع في الصلاة.
وقال عياض: هي إخلاص القلب وتفريغ السر بذكره وتحميده وتلاوة كتابه في الصلاة، وقال غيره: مناجاة العبد لربه ما يقع منه من الأفعال والأقوال المطلوبة في الصلاة وترك الأفعال والأقوال المنهي عنها، ومناجاة الرب لعبده إقباله عليه بالرحمة والرضوان وما يفتحه عليه من العلوم والأسرار وفيه كما قال الباجي تنبيه على معنى الصلاة والمقصود بها ليكثر الاحتراز من الأمور المكروهة المدخلة للنقص فيها والإقبال على أمور الطاعة المتممة لها.

( فَلْيَنْظُرْ بِمَا يُنَاجِيهِ بِهِ) أراد به التحذير من أن يناجيه بالقرآن على وجه مكروه وإن كان القرآن كله طاعة وقربة ( وَلَا يَجْهَرْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ بِالْقُرْآنِ) لأن فيه أذى ومنعًا من الإقبال على الصلاة وتفريغ السر لها، وتأمل ما يناجي به ربه من القرآن، وإذا منع رفع الصوت بالقرآن حينئذ لأذى المصلين فبغيره من الحديث وغيره أولى انتهى.

وقال ابن عبد البر: وإذا نهي المسلم عن أذى المسلم في عمل البر وتلاوة القرآن فإيذاؤه في غير ذلك أشد تحريمًا، وقد ورد مثل هذا الحديث من رواية أبي سعيد الخدري أخرج أبو داود عنه قال: اعتكف صلى الله عليه وسلم في المسجد فسمعهم يجهرون بالقراءة فكشف الستر وقال: ألا إن كلكم يناجي ربه فلا يؤذين بعضكم بعضًا ولا يرفع بعضكم على بعض في القراءة.

وقال في الصلاة: قال ابن عبد البر: حديث البياضي وأبي سعيد ثابتان صحيحان قال: وقد روي بسند ضعيف عن علي، قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرفع صوته بالقرآن قبل العشاء وبعدها يغلط أصحابه وهم يصلون.
قال السيوطي: وكثيرًا ما يسأل عما اشتهر على الألسنة ما أنصف القارئ المصلي ولا أصل له ولكن هذه أصوله.

( مَالِكٍ عَنْ حُمَيْدٍ) بضم الحاء ابن أبي حميد البصري يكنى أبا عبيدة مولى طلحة بن عبد الله الخزاعي الذي يقال له طلحة الطلحات واسم أبيه طرخان أو مهران أو غير ذلك إلى نحو عشرة أقوال، وهو من الثقات المتفق على الاحتجاج بهم إلا أنه كان يدلس حديث أنس، وكان سمع أكثره من ثابت وغيره من أصحاب أنس قال شعبة: لم يسمع حميد من أنس إلا أربعة وعشرين حديثًا والباقي سمعها من ثابت أو ثبته فيها وعابه زائدة لدخوله في شيء من أمر الخلفاء، وجملة الذي رواه مالك في الموطأ عنه سبعة أحاديث، مات وهو قائم يصلي في جمادى الأولى سنة اثنين ويقال ثلاث وأربعين ويقال سنة أربعين ومائة.

ولقب ( الطَّوِيلِ) قيل لطول يديه، وقال الأصمعي: رأيته ولم يكن بالطويل ولكن كان له جار يعرف بحميد القصير فقيل حميد الطويل ليعرف من الآخر ( عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ: قُمْتُ وَرَاءَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ) قال الباجي: أي وقفت مستقبل القبلة القيام المعتاد في الصلاة على رجليه جميعًا فيقرنهما ولا يحركهما ( فَكُلُّهُمْ كَانَ لَا يَقْرَأُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ إِذَا افْتَتَحَ الصَّلَاةَ) .

قال ابن عبد البر: هكذا في الموطأ عند جماعة رواته فيما علمت موقوفًا، وروته طائفة منهم الوليد بن مسلم، وموسى بن طارق، وإسماعيل بن موسى السدي، عن مالك، عن حميد، عن أنس قال: صليت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان فكلهم إلى آخره، وليس ذلك بمحفوظ.
وكذلك رواه ابن أخي ابن وهب عن عمه عبد الله بن وهب قال: حدثنا عبيد الله بن عمر ومالك وابن عيينة عن حميد عن أنس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يجهر بالقراءة ببسم الله الرحمن الرحيم، وهو خطأ عندهم من ابن أخي ابن وهب في رفعه ذلك عن عمه عن مالك والصواب عنه ما في الموطأ خاصة.

وذكر الحافظ في نكته على ابن الصلاح أن حميدًا سمع هذا الحديث من أنس وقتادة إلا أنه سمع الموقوف من أنس ومن قتادة عنه المرفوع، قال ابن أبي عدي: فكان حميد إذا قال عن أنس لم يرفعه، وإذا قال عن قتادة عنه رفعه انتهى.

ولا يعارضه ما رأيت أن طائفة روته عن مالك فرفعته بدون ذكر قتادة لقول أبي عمر إنه ليس بمحفوظ.
نعم يرد عليه رواية ابن عيينة والعمري له بدون ذكر قتادة فإن أبا عمر لم يعلها لكن قد أعلها غيره أيضًا.

قال ابن عبد البر: وقد روى هذا الحديث عن أنس ثابت وقتادة وحميد أيضًا من طرق كثيرة بأسانيد صحيحة كلهم ذكر فيه النبي صلى الله عليه وسلم، لكن اختلف عليهم في لفظه اختلافًا كثيرًا مضطربًا متدافعًا منهم من قال كانوا لا يقرؤون بسم الله الرحمن الرحيم، ومنهم من قال: كانوا لا يجهرون بها وبعضهم قال: كانوا يجهرون، وبعضهم قال كانوا لا يتركونها، ومنهم من قال: كانوا يفتتحون القراءة بالحمد لله رب العالمين، وهذا اضطراب لا تقوم معه حجة لأحد من الفقهاء.

قال الحافظ: طريق الجمع بين هذه الألفاظ حمل نفي القراءة على نفي السماع ونفي السماع على نفي الجهر ولا يلزم من قوله كانوا يفتتحون بالحمد وهو بضم الدال على الحكاية أنهم لم يقرؤوا البسملة سرًا، ويؤيده أن في رواية الحسن عن أنس عند ابن خزيمة كانوا يسرون ببسم الله الرحمن الرحيم فاندفع بهذا تعليل من أعله بالاضطراب كابن عبد البر لأن الجمع إذا أمكن تعين المصير إليه انتهى.
ولا يخفى تعسفه فإنه لم يذكر رواية كانوا يجهرون ورواية كانوا لا يتركونها إذ جمعه لا يمكن معهما فالحق مع ابن عبد البر ومن وافقه، ثم كيف يحمل نفي السماع على نفي الجهر ويقدم عليه رواية من أثبته مع كون أنس صحب النبي صلى الله عليه وسلم عشر سنين، ثم صحب أبا بكر وعمر وعثمان خمسًا وعشرين سنة فلا يسمع الجهر بها منهم في صلاة واحدة، وهذا من البعد بمكان وتأييده بما جاء أن سعيد بن يزيد سأل أنسًا عن ذلك فقال: إنك لتسألني عن شيء لا أحفظه ولا سألني عنه أحد قبلك رواه ابن خزيمة وغيره، وبه أعل حديث الباب ليس بناهض لأن أحمد روى بإسناد الصحيحين أن قتادة سأل أنسًا مثل سؤال سعيد فأجابه بقوله: صليت خلف النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان فلم يكونوا يفتتحون القراءة ببسم الله الرحمن الرحيم.
وأخرجه أبو يعلى والسراج وغيرهما.

وروى ابن المنذر عن قتادة سألت أنسًا أيقرأ الرجل في الصلاة بسم الله الرحمن الرحيم؟ فقال: صليت وراء رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان فلم أسمع أحدًا منهم يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم؟ وجمع بينهما بأنه أجاب قتادة بالحكم دون سعيد فلعله تذكره لما سأله قتادة بدليل قوله في رواية سعيد ما سألني عنه أحد قبلك وقاله لهما معًا فحفظه قتادة دون سعيد، فإن قتادة أحفظ منه بلا نزاع، والإنصاف قول السيوطي قد كثرت الأحاديث الواردة في البسملة إثباتًا ونفيًا، وكلا الأمرين صحيح أنه صلى الله عليه وسلم قرأ بها وتركها وجهر بها وأخفاها.

والذي يوضح صحة الأمرين ويزيل إشكال من شكك على الفريقين معًا أعني من أثبت أنها آية من أول الفاتحة وكل سورة ومن نفى ذلك قائلاً: إن القرآن لا يثبت بالظن.
ولا ينفى بالظن ما أشار إليه طائفة من المتأخرين أن إثباتها ونفيها كلاهما قطعي، ولا يستغرب ذلك، فإن القرآن نزل على سبعة أحرف ونزل مرات متكررة فنزل في بعضها بزيادة وفي بعضها بحذف كقراءة ملك ومالك وتجري تحتها ومن تحتها في براءة وأن الله هو الغني وأن الله الغني في سورة الحديد، فلا يشك أحد ولا يرتاب في أن القراءة بإثبات الألف ومن وهو ونحو ذلك متواترة قطعية الإثبات، وأن القراءة بحذف ذلك أيضًا متواترة قطعية الحذف وأن ميزان الإثبات والحذف في ذلك سواء.

وكذلك القول في البسملة أنها نزلت في بعض الأحرف ولم تنزل في بعضها فإثباتها قطعي وحذفها قطعي وكل متواتر وكل في السبع فإن نصف القراء السبعة قرؤوا بإثباتها، ونصفهم قرؤوا بحذفها وقراءات السبعة كلها متواترة فمن قرأ بها فهي ثابتة في حرفه متواترة إليه ثم منه إلينا ومن قرأ بحذفها فحذفها في حرفه متواتر إليه ثم منه إلينا والعطف من ذلك أن نافعًا له راويان قرأ أحدهما عنه بها والآخر بحذفها، فدل على أن الأمرين تواترا عنده بأن قرأ بالحرفين معًا كل بأسانيد متواترة.

فبهذا التقرير اجتمعت الأحاديث المختلفة على كثرة كل جانب منها وانجلى الإشكال وزال التشكيك ولا يستغرب الإثبات ممن أثبت ولا النفي ممن نفى، وقد أشار إلى بعض ما ذكرته أستاذ القراء المتأخرين الإمام شمس الدين بن الجزري فقال بعد أن حكى خمسة أقوال في كتابه النشر، وهذه الأقوال ترجع إلى النفي والإثبات، والذي نعتقده أن كليهما صحيح وأن كل ذلك حق فيكون الاختلاف فيها كاختلاف القراءات انتهى.

وقرره أيضًا بأبسط منه الحافظ فيما نقله الشيخ برهان الدين البقاعي في معجمه انتهى.
وسبقهما إلى ذلك أبو أمامة بن النقاش.

( مَالِكٍ عَنْ عَمِّهِ أَبِي سُهَيْلِ) اسمه نافع ( بْنِ مَالِكٍ عَنْ أَبِيهِ) مالك بن أبي عامر ( أَنَّهُ قَالَ: كُنَّا نَسْمَعُ قِرَاءَةَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ عِنْدَ دَارِ أَبِي جَهْمٍ) بفتح الجيم وإسكان الهاء واسمه عامر وقيل عبيد بن حذيفة صحابي قرشي عدوي من مسلمة الفتح ومشيخة قريش ومعمريهم، حضر بناء قريش للكعبة في الجاهلية وبناء ابن الزبير لها وهو أحد من ترك الخمر في الجاهلية خوفًا على عقله ( بِالْبَلَاطِ) بفتح الموحدة بزنة سحاب موضع بالمدينة بين المسجد والسوق مبلط كما في القاموس.

قال ابن عبد البر: وكان عمر مديد الصوت فيسمع صوته حيث ذكر وفيه تفسير لحديث لا يجهر بعضكم على بعض بالقرآن أنه في المنفردين وأما قراءة الإمام في المكتوبة أو غيرها فلا.

وقال الباجي: لا بأس أن يرفع الإمام صوته فيما يجهر فيه من الفرائض وكذا النوافل، وقد روى أشهب عن مالك لا بأس أن يرفع المتنفل ببيته صوته بالقراءة ولعله أنشط له وأقوى.

( مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ إِذَا فَاتَهُ شَيْءٌ مِنَ الصَّلَاةِ مَعَ الْإِمَامِ فِيمَا جَهَرَ فِيهِ الْإِمَامُ بِالْقِرَاءَةِ أَنَّهُ إِذَا سَلَّمَ الْإِمَامُ قَامَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ فَقَرَأَ لِنَفْسِهِ فِيمَا يَقْضِي وَجَهَرَ) قال الباجي: يحتمل أن يكون جهره فيما يقضي لأنه يرى أن المأموم يقضي على نحو ما فاته من القراءة والجهر مثل رواية ابن القاسم عن مالك وهذا أظهر، ويحتمل أنه يرى أن ما يأتي به آخر صلاته أن تفوته ركعة من الصبح أو ركعتان من المغرب أو ثلاثًا من العشاء، فإن الخلاف يرتفع هنا ولا بد للمأموم من الجهر في القضاء على القولين.

( مَالِكٍ عَنْ يَزِيدَ بْنِ رُومَانَ) المدني الثقة المتوفى سنة ثلاثين ومائة ( أَنَّهُ قَالَ: كُنْتُ أُصَلِّي إِلَى جَانِبِ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ) النوفلي التابعي الثقة الفاضل المتوفى سنة تسع وتسعين ( فَيَغْمِزُنِي) بكسر الميم كضرب يشير إلي ( فَأَفْتَحُ عَلَيْهِ وَنَحْنُ نُصَلِّي) وبهذا قال مالك في مختصر ابن عبد الحكم وأشهب وابن حبيب، وفيه جواز الفتح على الإمام بالأولى من إجازة الفتح على من ليس معه في صلاة لأنها تلاوة قرآن في صلاة والأصح، وبه قال ابن القاسم بطلان صلاة من فتح على من ليس معه في صلاة لأنه وإن كان تلاوة قرآن لكنه في معنى المكالمة، وكره الكوفيون الفتح على الإمام وأجازه مالك والشافعي وأكثر العلماء لأن الله لم ينه عنه ولا رسوله من وجه يحتج به، وقد تردد صلى الله عليه وسلم في آية فلما انصرف قال: ألم يكن في القوم أبيّ، يريد الفتح عليه.



رقم الحديث 177 وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ حُمَيْدٍ الطَّوِيلِ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ: قُمْتُ وَرَاءَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ فَكُلُّهُمْ كَانَ لَا يَقْرَأُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ إِذَا افْتَتَحَ الصَّلَاةَ.


الْعَمَلِ فِي الْقِرَاءَةِ

( مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُنَيْنٍ) بضم الحاء المهملة وفتح النون الهاشمي مولاهم المدني التابعي قال ابن سعد: كان ثقة كثير الحديث روى له الجميع ومات بعد المائة ( عَنْ أَبِيهِ) عبد الله التابعي الثقة المتوفى في أول إمارة يزيد روى له الجماعة وفي الإسناد ثلاثة من التابعين يروي بعضهم عن بعض وهو من اللطائف ( عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ) بن عبد المطلب بن هاشم أبي الحسن من السابقين الأولين، ورجح جماعة أنه أول من أسلم أمير المؤمنين مناقبه كثيرة جدًا حتى قال أحمد والنسائي وإسماعيل القاضي لم يرد في حق أحد بالأسانيد الجياد ما ورد في حق علي، مات في رمضان سنة أربعين وهو يومئذ أفضل الأحياء من بني آدم بالأرض بإجماع أهل السنة وله ثلاث وستون سنة على الأصح.

( أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ لُبْسِ الْقَسِّيِّ) بفتح القاف وكسر السين وتحتية مشددتين.
قال: ابن وهب: ثياب مضلعة أي مخططة بالحرير كانت تعمل بالقس موضع بمصر يلي الفرما قاله الباجي.
وفي مسلم عن أبي بردة قلت لعلي: ما القسية؟ قال: ثياب أتتنا من مصر والشام مضلعة فيها حرير أمثال الأترج.
وقال أبو عبيد: أهل الحديث يكسرون القاف وأهل مصر يفتحونها نسبة إلى بلد على ساحل البحر يقال لها القس بقرب دمياط.

وقال الحافظ: الكسر غلط لأنه جمع قوس، وقال ابن الأثير: هي ثياب من كتان مخلوط بحرير يؤتى بها من مصر نسبت إلى قرية على ساحل البحر قريبًا من تنيس يقال لها القس، وبعض أهل الحديث يكسرها وقيل أصل القسي القزي بالزاي منسوب إلى القز وهو ضرب من الإبريسم فأبدل من الزاي سين، وقيل منسوب إلى القس وهو الصقيع لبياضه، وفي رواية أبي مصعب والقعنبي ومعن وجماعة زيادة والمعصفر والنهي للتنزيه على المشهور ففي المدونة كره مالك الثوب المعصفر المقدم للرجال في غير الإحرام والمقدم بضم الميم وسكون الفاء وفتح الدال المهملة القوي الصبغ المشبع الذي رد في العصفر مرة بعد أخرى، وأما المعصفر غير المقدم والمزعفر فيجوز لبسهما في غير الإحرام نص على الأول في المدونة وعلى المزعفر في غيرها.
قال مالك: لا بأس بالمزعفر لغير الإحرام وكنت ألبسه.

( وَعَنْ تَخَتُّمِ الذَّهَبِ) نهي تحريم للرجال دون النساء ( وَعَنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فِي الرُّكُوعِ) والسجود كما زاده معمر عن ابن شهاب عن إبراهيم عن أبيه عن علي عند مسلم فتكره القراءة فيهما عند الجميع لهذا الحديث ولخبر مسلم عن ابن عباس مرفوعًا ألا وإني قد نهيت عن القراءة في الركوع والسجود، فأما الركوع فعظموا فيه الرب وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء فقمن أن يستجاب لكم.
وحديث الباب رواه مسلم في اللباس عن يحيى والترمذي في الصلاة عن قتيبة ومن طريق معن الثلاثة عن مالك به وتابعه الزهري في شيخه نافع عن إبراهيم عن أبيه عن علي في مسلم أيضًا.

( مَالِكٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَارِثِ التَّيْمِيِّ) بفوقية فتحتية نسبة إلى تيم قريش ( عَنْ أَبِي حَازِمٍ) بمهملة وزاي ( التَّمَّارِ) اسمه دينار مولى الأنصار كذا في رواية للنسائي وله في أخرى مولى الغفاريين وقد قيل إنه مولى أبي رهم الغفاري، وذكر حبيب بن إبراهيم عن مالك أن اسمه يسار مولى قيس بن سعد بن عبادة، وقال الآجري قلت لأبي داود أبو حازم التمار حدث عنه محمد بن إبراهيم من هو قال هو الرجل الذي من بياضة وقيل هما اثنان التمار مولى أبي رهم الغفاري والبياضي مولى الأنصار مختلف في صحبته.

( عَنِ الْبَيَاضِيِّ) بفتح الموحدة وضاد معجمة اسمه فروة بفتح الفاء وسكون الراء ابن عمرو بفتح العين ابن ودقة بفتح الواو وسكون الدال المهملة بعدها قاف كما ضبطه الداني في أطراف الموطأ قال: وهي الروضة ابن عبيد بن غانم بن بياضة فخذ من الخزرج الأنصاري شهد العقبة وبدرًا وما بعدها، وآخى النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبين عبد الله بن مخرمة العامري، وروى عبد الرزاق عن رافع بن خديج أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبعث فروة بن عمرو يخرص النخل فإذا دخل الحائط حسب ما فيه من الأقناء ثم ضرب بعضها على بعض على ما يرى فيها فلا يخطئ، وذكر وثيمة في كتاب الردة أن فروة كان ممن قاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فرسين في سبيل الله وكان يتصدق في كل يوم من نخله بألف وسق، وكان من أصحاب علي يوم الجمل، وزعم ابن مزين وابن وضاح أن مالكًا سكت عن اسمه لأنه كان ممن أعان على عثمان.
قال ابن عبد البر: وهذا لا يثبت ولا وجه لما قالاه من ذلك ولم يكن قائل هذا علم بما كان من الأنصار يوم الدار.

( أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ عَلَى النَّاسِ وَهُمْ يُصَلُّونَ) وفي رواية حماد بن زيد عن يحيى بن سعيد أن ذلك كان في رمضان والنبي صلى الله عليه وسلم معتكف في قبة على بابها حصير والناس يصلون عصبًا عصبًا أخرجه ابن عبد البر.

( وَقَدْ عَلَتْ أَصْوَاتُهُمْ بِالْقِرَاءَةِ فَقَالَ إِنَّ الْمُصَلِّيَ يُنَاجِي رَبَّهُ) قال ابن بطال: مناجاة المصلي ربه عبارة عن إحضار القلب والخشوع في الصلاة.
وقال عياض: هي إخلاص القلب وتفريغ السر بذكره وتحميده وتلاوة كتابه في الصلاة، وقال غيره: مناجاة العبد لربه ما يقع منه من الأفعال والأقوال المطلوبة في الصلاة وترك الأفعال والأقوال المنهي عنها، ومناجاة الرب لعبده إقباله عليه بالرحمة والرضوان وما يفتحه عليه من العلوم والأسرار وفيه كما قال الباجي تنبيه على معنى الصلاة والمقصود بها ليكثر الاحتراز من الأمور المكروهة المدخلة للنقص فيها والإقبال على أمور الطاعة المتممة لها.

( فَلْيَنْظُرْ بِمَا يُنَاجِيهِ بِهِ) أراد به التحذير من أن يناجيه بالقرآن على وجه مكروه وإن كان القرآن كله طاعة وقربة ( وَلَا يَجْهَرْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ بِالْقُرْآنِ) لأن فيه أذى ومنعًا من الإقبال على الصلاة وتفريغ السر لها، وتأمل ما يناجي به ربه من القرآن، وإذا منع رفع الصوت بالقرآن حينئذ لأذى المصلين فبغيره من الحديث وغيره أولى انتهى.

وقال ابن عبد البر: وإذا نهي المسلم عن أذى المسلم في عمل البر وتلاوة القرآن فإيذاؤه في غير ذلك أشد تحريمًا، وقد ورد مثل هذا الحديث من رواية أبي سعيد الخدري أخرج أبو داود عنه قال: اعتكف صلى الله عليه وسلم في المسجد فسمعهم يجهرون بالقراءة فكشف الستر وقال: ألا إن كلكم يناجي ربه فلا يؤذين بعضكم بعضًا ولا يرفع بعضكم على بعض في القراءة.

وقال في الصلاة: قال ابن عبد البر: حديث البياضي وأبي سعيد ثابتان صحيحان قال: وقد روي بسند ضعيف عن علي، قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرفع صوته بالقرآن قبل العشاء وبعدها يغلط أصحابه وهم يصلون.
قال السيوطي: وكثيرًا ما يسأل عما اشتهر على الألسنة ما أنصف القارئ المصلي ولا أصل له ولكن هذه أصوله.

( مَالِكٍ عَنْ حُمَيْدٍ) بضم الحاء ابن أبي حميد البصري يكنى أبا عبيدة مولى طلحة بن عبد الله الخزاعي الذي يقال له طلحة الطلحات واسم أبيه طرخان أو مهران أو غير ذلك إلى نحو عشرة أقوال، وهو من الثقات المتفق على الاحتجاج بهم إلا أنه كان يدلس حديث أنس، وكان سمع أكثره من ثابت وغيره من أصحاب أنس قال شعبة: لم يسمع حميد من أنس إلا أربعة وعشرين حديثًا والباقي سمعها من ثابت أو ثبته فيها وعابه زائدة لدخوله في شيء من أمر الخلفاء، وجملة الذي رواه مالك في الموطأ عنه سبعة أحاديث، مات وهو قائم يصلي في جمادى الأولى سنة اثنين ويقال ثلاث وأربعين ويقال سنة أربعين ومائة.

ولقب ( الطَّوِيلِ) قيل لطول يديه، وقال الأصمعي: رأيته ولم يكن بالطويل ولكن كان له جار يعرف بحميد القصير فقيل حميد الطويل ليعرف من الآخر ( عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ: قُمْتُ وَرَاءَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ) قال الباجي: أي وقفت مستقبل القبلة القيام المعتاد في الصلاة على رجليه جميعًا فيقرنهما ولا يحركهما ( فَكُلُّهُمْ كَانَ لَا يَقْرَأُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ إِذَا افْتَتَحَ الصَّلَاةَ) .

قال ابن عبد البر: هكذا في الموطأ عند جماعة رواته فيما علمت موقوفًا، وروته طائفة منهم الوليد بن مسلم، وموسى بن طارق، وإسماعيل بن موسى السدي، عن مالك، عن حميد، عن أنس قال: صليت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان فكلهم إلى آخره، وليس ذلك بمحفوظ.
وكذلك رواه ابن أخي ابن وهب عن عمه عبد الله بن وهب قال: حدثنا عبيد الله بن عمر ومالك وابن عيينة عن حميد عن أنس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يجهر بالقراءة ببسم الله الرحمن الرحيم، وهو خطأ عندهم من ابن أخي ابن وهب في رفعه ذلك عن عمه عن مالك والصواب عنه ما في الموطأ خاصة.

وذكر الحافظ في نكته على ابن الصلاح أن حميدًا سمع هذا الحديث من أنس وقتادة إلا أنه سمع الموقوف من أنس ومن قتادة عنه المرفوع، قال ابن أبي عدي: فكان حميد إذا قال عن أنس لم يرفعه، وإذا قال عن قتادة عنه رفعه انتهى.

ولا يعارضه ما رأيت أن طائفة روته عن مالك فرفعته بدون ذكر قتادة لقول أبي عمر إنه ليس بمحفوظ.
نعم يرد عليه رواية ابن عيينة والعمري له بدون ذكر قتادة فإن أبا عمر لم يعلها لكن قد أعلها غيره أيضًا.

قال ابن عبد البر: وقد روى هذا الحديث عن أنس ثابت وقتادة وحميد أيضًا من طرق كثيرة بأسانيد صحيحة كلهم ذكر فيه النبي صلى الله عليه وسلم، لكن اختلف عليهم في لفظه اختلافًا كثيرًا مضطربًا متدافعًا منهم من قال كانوا لا يقرؤون بسم الله الرحمن الرحيم، ومنهم من قال: كانوا لا يجهرون بها وبعضهم قال: كانوا يجهرون، وبعضهم قال كانوا لا يتركونها، ومنهم من قال: كانوا يفتتحون القراءة بالحمد لله رب العالمين، وهذا اضطراب لا تقوم معه حجة لأحد من الفقهاء.

قال الحافظ: طريق الجمع بين هذه الألفاظ حمل نفي القراءة على نفي السماع ونفي السماع على نفي الجهر ولا يلزم من قوله كانوا يفتتحون بالحمد وهو بضم الدال على الحكاية أنهم لم يقرؤوا البسملة سرًا، ويؤيده أن في رواية الحسن عن أنس عند ابن خزيمة كانوا يسرون ببسم الله الرحمن الرحيم فاندفع بهذا تعليل من أعله بالاضطراب كابن عبد البر لأن الجمع إذا أمكن تعين المصير إليه انتهى.
ولا يخفى تعسفه فإنه لم يذكر رواية كانوا يجهرون ورواية كانوا لا يتركونها إذ جمعه لا يمكن معهما فالحق مع ابن عبد البر ومن وافقه، ثم كيف يحمل نفي السماع على نفي الجهر ويقدم عليه رواية من أثبته مع كون أنس صحب النبي صلى الله عليه وسلم عشر سنين، ثم صحب أبا بكر وعمر وعثمان خمسًا وعشرين سنة فلا يسمع الجهر بها منهم في صلاة واحدة، وهذا من البعد بمكان وتأييده بما جاء أن سعيد بن يزيد سأل أنسًا عن ذلك فقال: إنك لتسألني عن شيء لا أحفظه ولا سألني عنه أحد قبلك رواه ابن خزيمة وغيره، وبه أعل حديث الباب ليس بناهض لأن أحمد روى بإسناد الصحيحين أن قتادة سأل أنسًا مثل سؤال سعيد فأجابه بقوله: صليت خلف النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان فلم يكونوا يفتتحون القراءة ببسم الله الرحمن الرحيم.
وأخرجه أبو يعلى والسراج وغيرهما.

وروى ابن المنذر عن قتادة سألت أنسًا أيقرأ الرجل في الصلاة بسم الله الرحمن الرحيم؟ فقال: صليت وراء رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان فلم أسمع أحدًا منهم يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم؟ وجمع بينهما بأنه أجاب قتادة بالحكم دون سعيد فلعله تذكره لما سأله قتادة بدليل قوله في رواية سعيد ما سألني عنه أحد قبلك وقاله لهما معًا فحفظه قتادة دون سعيد، فإن قتادة أحفظ منه بلا نزاع، والإنصاف قول السيوطي قد كثرت الأحاديث الواردة في البسملة إثباتًا ونفيًا، وكلا الأمرين صحيح أنه صلى الله عليه وسلم قرأ بها وتركها وجهر بها وأخفاها.

والذي يوضح صحة الأمرين ويزيل إشكال من شكك على الفريقين معًا أعني من أثبت أنها آية من أول الفاتحة وكل سورة ومن نفى ذلك قائلاً: إن القرآن لا يثبت بالظن.
ولا ينفى بالظن ما أشار إليه طائفة من المتأخرين أن إثباتها ونفيها كلاهما قطعي، ولا يستغرب ذلك، فإن القرآن نزل على سبعة أحرف ونزل مرات متكررة فنزل في بعضها بزيادة وفي بعضها بحذف كقراءة ملك ومالك وتجري تحتها ومن تحتها في براءة وأن الله هو الغني وأن الله الغني في سورة الحديد، فلا يشك أحد ولا يرتاب في أن القراءة بإثبات الألف ومن وهو ونحو ذلك متواترة قطعية الإثبات، وأن القراءة بحذف ذلك أيضًا متواترة قطعية الحذف وأن ميزان الإثبات والحذف في ذلك سواء.

وكذلك القول في البسملة أنها نزلت في بعض الأحرف ولم تنزل في بعضها فإثباتها قطعي وحذفها قطعي وكل متواتر وكل في السبع فإن نصف القراء السبعة قرؤوا بإثباتها، ونصفهم قرؤوا بحذفها وقراءات السبعة كلها متواترة فمن قرأ بها فهي ثابتة في حرفه متواترة إليه ثم منه إلينا ومن قرأ بحذفها فحذفها في حرفه متواتر إليه ثم منه إلينا والعطف من ذلك أن نافعًا له راويان قرأ أحدهما عنه بها والآخر بحذفها، فدل على أن الأمرين تواترا عنده بأن قرأ بالحرفين معًا كل بأسانيد متواترة.

فبهذا التقرير اجتمعت الأحاديث المختلفة على كثرة كل جانب منها وانجلى الإشكال وزال التشكيك ولا يستغرب الإثبات ممن أثبت ولا النفي ممن نفى، وقد أشار إلى بعض ما ذكرته أستاذ القراء المتأخرين الإمام شمس الدين بن الجزري فقال بعد أن حكى خمسة أقوال في كتابه النشر، وهذه الأقوال ترجع إلى النفي والإثبات، والذي نعتقده أن كليهما صحيح وأن كل ذلك حق فيكون الاختلاف فيها كاختلاف القراءات انتهى.

وقرره أيضًا بأبسط منه الحافظ فيما نقله الشيخ برهان الدين البقاعي في معجمه انتهى.
وسبقهما إلى ذلك أبو أمامة بن النقاش.

( مَالِكٍ عَنْ عَمِّهِ أَبِي سُهَيْلِ) اسمه نافع ( بْنِ مَالِكٍ عَنْ أَبِيهِ) مالك بن أبي عامر ( أَنَّهُ قَالَ: كُنَّا نَسْمَعُ قِرَاءَةَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ عِنْدَ دَارِ أَبِي جَهْمٍ) بفتح الجيم وإسكان الهاء واسمه عامر وقيل عبيد بن حذيفة صحابي قرشي عدوي من مسلمة الفتح ومشيخة قريش ومعمريهم، حضر بناء قريش للكعبة في الجاهلية وبناء ابن الزبير لها وهو أحد من ترك الخمر في الجاهلية خوفًا على عقله ( بِالْبَلَاطِ) بفتح الموحدة بزنة سحاب موضع بالمدينة بين المسجد والسوق مبلط كما في القاموس.

قال ابن عبد البر: وكان عمر مديد الصوت فيسمع صوته حيث ذكر وفيه تفسير لحديث لا يجهر بعضكم على بعض بالقرآن أنه في المنفردين وأما قراءة الإمام في المكتوبة أو غيرها فلا.

وقال الباجي: لا بأس أن يرفع الإمام صوته فيما يجهر فيه من الفرائض وكذا النوافل، وقد روى أشهب عن مالك لا بأس أن يرفع المتنفل ببيته صوته بالقراءة ولعله أنشط له وأقوى.

( مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ إِذَا فَاتَهُ شَيْءٌ مِنَ الصَّلَاةِ مَعَ الْإِمَامِ فِيمَا جَهَرَ فِيهِ الْإِمَامُ بِالْقِرَاءَةِ أَنَّهُ إِذَا سَلَّمَ الْإِمَامُ قَامَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ فَقَرَأَ لِنَفْسِهِ فِيمَا يَقْضِي وَجَهَرَ) قال الباجي: يحتمل أن يكون جهره فيما يقضي لأنه يرى أن المأموم يقضي على نحو ما فاته من القراءة والجهر مثل رواية ابن القاسم عن مالك وهذا أظهر، ويحتمل أنه يرى أن ما يأتي به آخر صلاته أن تفوته ركعة من الصبح أو ركعتان من المغرب أو ثلاثًا من العشاء، فإن الخلاف يرتفع هنا ولا بد للمأموم من الجهر في القضاء على القولين.

( مَالِكٍ عَنْ يَزِيدَ بْنِ رُومَانَ) المدني الثقة المتوفى سنة ثلاثين ومائة ( أَنَّهُ قَالَ: كُنْتُ أُصَلِّي إِلَى جَانِبِ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ) النوفلي التابعي الثقة الفاضل المتوفى سنة تسع وتسعين ( فَيَغْمِزُنِي) بكسر الميم كضرب يشير إلي ( فَأَفْتَحُ عَلَيْهِ وَنَحْنُ نُصَلِّي) وبهذا قال مالك في مختصر ابن عبد الحكم وأشهب وابن حبيب، وفيه جواز الفتح على الإمام بالأولى من إجازة الفتح على من ليس معه في صلاة لأنها تلاوة قرآن في صلاة والأصح، وبه قال ابن القاسم بطلان صلاة من فتح على من ليس معه في صلاة لأنه وإن كان تلاوة قرآن لكنه في معنى المكالمة، وكره الكوفيون الفتح على الإمام وأجازه مالك والشافعي وأكثر العلماء لأن الله لم ينه عنه ولا رسوله من وجه يحتج به، وقد تردد صلى الله عليه وسلم في آية فلما انصرف قال: ألم يكن في القوم أبيّ، يريد الفتح عليه.



رقم الحديث 178 وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ عَمِّهِ أَبِي سُهَيْلِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ قَالَ: كُنَّا نَسْمَعُ قِرَاءَةَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ عِنْدَ دَارِ أَبِي جَهْمٍ بِالْبَلَاطِ.


الْعَمَلِ فِي الْقِرَاءَةِ

( مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُنَيْنٍ) بضم الحاء المهملة وفتح النون الهاشمي مولاهم المدني التابعي قال ابن سعد: كان ثقة كثير الحديث روى له الجميع ومات بعد المائة ( عَنْ أَبِيهِ) عبد الله التابعي الثقة المتوفى في أول إمارة يزيد روى له الجماعة وفي الإسناد ثلاثة من التابعين يروي بعضهم عن بعض وهو من اللطائف ( عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ) بن عبد المطلب بن هاشم أبي الحسن من السابقين الأولين، ورجح جماعة أنه أول من أسلم أمير المؤمنين مناقبه كثيرة جدًا حتى قال أحمد والنسائي وإسماعيل القاضي لم يرد في حق أحد بالأسانيد الجياد ما ورد في حق علي، مات في رمضان سنة أربعين وهو يومئذ أفضل الأحياء من بني آدم بالأرض بإجماع أهل السنة وله ثلاث وستون سنة على الأصح.

( أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ لُبْسِ الْقَسِّيِّ) بفتح القاف وكسر السين وتحتية مشددتين.
قال: ابن وهب: ثياب مضلعة أي مخططة بالحرير كانت تعمل بالقس موضع بمصر يلي الفرما قاله الباجي.
وفي مسلم عن أبي بردة قلت لعلي: ما القسية؟ قال: ثياب أتتنا من مصر والشام مضلعة فيها حرير أمثال الأترج.
وقال أبو عبيد: أهل الحديث يكسرون القاف وأهل مصر يفتحونها نسبة إلى بلد على ساحل البحر يقال لها القس بقرب دمياط.

وقال الحافظ: الكسر غلط لأنه جمع قوس، وقال ابن الأثير: هي ثياب من كتان مخلوط بحرير يؤتى بها من مصر نسبت إلى قرية على ساحل البحر قريبًا من تنيس يقال لها القس، وبعض أهل الحديث يكسرها وقيل أصل القسي القزي بالزاي منسوب إلى القز وهو ضرب من الإبريسم فأبدل من الزاي سين، وقيل منسوب إلى القس وهو الصقيع لبياضه، وفي رواية أبي مصعب والقعنبي ومعن وجماعة زيادة والمعصفر والنهي للتنزيه على المشهور ففي المدونة كره مالك الثوب المعصفر المقدم للرجال في غير الإحرام والمقدم بضم الميم وسكون الفاء وفتح الدال المهملة القوي الصبغ المشبع الذي رد في العصفر مرة بعد أخرى، وأما المعصفر غير المقدم والمزعفر فيجوز لبسهما في غير الإحرام نص على الأول في المدونة وعلى المزعفر في غيرها.
قال مالك: لا بأس بالمزعفر لغير الإحرام وكنت ألبسه.

( وَعَنْ تَخَتُّمِ الذَّهَبِ) نهي تحريم للرجال دون النساء ( وَعَنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فِي الرُّكُوعِ) والسجود كما زاده معمر عن ابن شهاب عن إبراهيم عن أبيه عن علي عند مسلم فتكره القراءة فيهما عند الجميع لهذا الحديث ولخبر مسلم عن ابن عباس مرفوعًا ألا وإني قد نهيت عن القراءة في الركوع والسجود، فأما الركوع فعظموا فيه الرب وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء فقمن أن يستجاب لكم.
وحديث الباب رواه مسلم في اللباس عن يحيى والترمذي في الصلاة عن قتيبة ومن طريق معن الثلاثة عن مالك به وتابعه الزهري في شيخه نافع عن إبراهيم عن أبيه عن علي في مسلم أيضًا.

( مَالِكٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَارِثِ التَّيْمِيِّ) بفوقية فتحتية نسبة إلى تيم قريش ( عَنْ أَبِي حَازِمٍ) بمهملة وزاي ( التَّمَّارِ) اسمه دينار مولى الأنصار كذا في رواية للنسائي وله في أخرى مولى الغفاريين وقد قيل إنه مولى أبي رهم الغفاري، وذكر حبيب بن إبراهيم عن مالك أن اسمه يسار مولى قيس بن سعد بن عبادة، وقال الآجري قلت لأبي داود أبو حازم التمار حدث عنه محمد بن إبراهيم من هو قال هو الرجل الذي من بياضة وقيل هما اثنان التمار مولى أبي رهم الغفاري والبياضي مولى الأنصار مختلف في صحبته.

( عَنِ الْبَيَاضِيِّ) بفتح الموحدة وضاد معجمة اسمه فروة بفتح الفاء وسكون الراء ابن عمرو بفتح العين ابن ودقة بفتح الواو وسكون الدال المهملة بعدها قاف كما ضبطه الداني في أطراف الموطأ قال: وهي الروضة ابن عبيد بن غانم بن بياضة فخذ من الخزرج الأنصاري شهد العقبة وبدرًا وما بعدها، وآخى النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبين عبد الله بن مخرمة العامري، وروى عبد الرزاق عن رافع بن خديج أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبعث فروة بن عمرو يخرص النخل فإذا دخل الحائط حسب ما فيه من الأقناء ثم ضرب بعضها على بعض على ما يرى فيها فلا يخطئ، وذكر وثيمة في كتاب الردة أن فروة كان ممن قاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فرسين في سبيل الله وكان يتصدق في كل يوم من نخله بألف وسق، وكان من أصحاب علي يوم الجمل، وزعم ابن مزين وابن وضاح أن مالكًا سكت عن اسمه لأنه كان ممن أعان على عثمان.
قال ابن عبد البر: وهذا لا يثبت ولا وجه لما قالاه من ذلك ولم يكن قائل هذا علم بما كان من الأنصار يوم الدار.

( أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ عَلَى النَّاسِ وَهُمْ يُصَلُّونَ) وفي رواية حماد بن زيد عن يحيى بن سعيد أن ذلك كان في رمضان والنبي صلى الله عليه وسلم معتكف في قبة على بابها حصير والناس يصلون عصبًا عصبًا أخرجه ابن عبد البر.

( وَقَدْ عَلَتْ أَصْوَاتُهُمْ بِالْقِرَاءَةِ فَقَالَ إِنَّ الْمُصَلِّيَ يُنَاجِي رَبَّهُ) قال ابن بطال: مناجاة المصلي ربه عبارة عن إحضار القلب والخشوع في الصلاة.
وقال عياض: هي إخلاص القلب وتفريغ السر بذكره وتحميده وتلاوة كتابه في الصلاة، وقال غيره: مناجاة العبد لربه ما يقع منه من الأفعال والأقوال المطلوبة في الصلاة وترك الأفعال والأقوال المنهي عنها، ومناجاة الرب لعبده إقباله عليه بالرحمة والرضوان وما يفتحه عليه من العلوم والأسرار وفيه كما قال الباجي تنبيه على معنى الصلاة والمقصود بها ليكثر الاحتراز من الأمور المكروهة المدخلة للنقص فيها والإقبال على أمور الطاعة المتممة لها.

( فَلْيَنْظُرْ بِمَا يُنَاجِيهِ بِهِ) أراد به التحذير من أن يناجيه بالقرآن على وجه مكروه وإن كان القرآن كله طاعة وقربة ( وَلَا يَجْهَرْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ بِالْقُرْآنِ) لأن فيه أذى ومنعًا من الإقبال على الصلاة وتفريغ السر لها، وتأمل ما يناجي به ربه من القرآن، وإذا منع رفع الصوت بالقرآن حينئذ لأذى المصلين فبغيره من الحديث وغيره أولى انتهى.

وقال ابن عبد البر: وإذا نهي المسلم عن أذى المسلم في عمل البر وتلاوة القرآن فإيذاؤه في غير ذلك أشد تحريمًا، وقد ورد مثل هذا الحديث من رواية أبي سعيد الخدري أخرج أبو داود عنه قال: اعتكف صلى الله عليه وسلم في المسجد فسمعهم يجهرون بالقراءة فكشف الستر وقال: ألا إن كلكم يناجي ربه فلا يؤذين بعضكم بعضًا ولا يرفع بعضكم على بعض في القراءة.

وقال في الصلاة: قال ابن عبد البر: حديث البياضي وأبي سعيد ثابتان صحيحان قال: وقد روي بسند ضعيف عن علي، قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرفع صوته بالقرآن قبل العشاء وبعدها يغلط أصحابه وهم يصلون.
قال السيوطي: وكثيرًا ما يسأل عما اشتهر على الألسنة ما أنصف القارئ المصلي ولا أصل له ولكن هذه أصوله.

( مَالِكٍ عَنْ حُمَيْدٍ) بضم الحاء ابن أبي حميد البصري يكنى أبا عبيدة مولى طلحة بن عبد الله الخزاعي الذي يقال له طلحة الطلحات واسم أبيه طرخان أو مهران أو غير ذلك إلى نحو عشرة أقوال، وهو من الثقات المتفق على الاحتجاج بهم إلا أنه كان يدلس حديث أنس، وكان سمع أكثره من ثابت وغيره من أصحاب أنس قال شعبة: لم يسمع حميد من أنس إلا أربعة وعشرين حديثًا والباقي سمعها من ثابت أو ثبته فيها وعابه زائدة لدخوله في شيء من أمر الخلفاء، وجملة الذي رواه مالك في الموطأ عنه سبعة أحاديث، مات وهو قائم يصلي في جمادى الأولى سنة اثنين ويقال ثلاث وأربعين ويقال سنة أربعين ومائة.

ولقب ( الطَّوِيلِ) قيل لطول يديه، وقال الأصمعي: رأيته ولم يكن بالطويل ولكن كان له جار يعرف بحميد القصير فقيل حميد الطويل ليعرف من الآخر ( عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ: قُمْتُ وَرَاءَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ) قال الباجي: أي وقفت مستقبل القبلة القيام المعتاد في الصلاة على رجليه جميعًا فيقرنهما ولا يحركهما ( فَكُلُّهُمْ كَانَ لَا يَقْرَأُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ إِذَا افْتَتَحَ الصَّلَاةَ) .

قال ابن عبد البر: هكذا في الموطأ عند جماعة رواته فيما علمت موقوفًا، وروته طائفة منهم الوليد بن مسلم، وموسى بن طارق، وإسماعيل بن موسى السدي، عن مالك، عن حميد، عن أنس قال: صليت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان فكلهم إلى آخره، وليس ذلك بمحفوظ.
وكذلك رواه ابن أخي ابن وهب عن عمه عبد الله بن وهب قال: حدثنا عبيد الله بن عمر ومالك وابن عيينة عن حميد عن أنس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يجهر بالقراءة ببسم الله الرحمن الرحيم، وهو خطأ عندهم من ابن أخي ابن وهب في رفعه ذلك عن عمه عن مالك والصواب عنه ما في الموطأ خاصة.

وذكر الحافظ في نكته على ابن الصلاح أن حميدًا سمع هذا الحديث من أنس وقتادة إلا أنه سمع الموقوف من أنس ومن قتادة عنه المرفوع، قال ابن أبي عدي: فكان حميد إذا قال عن أنس لم يرفعه، وإذا قال عن قتادة عنه رفعه انتهى.

ولا يعارضه ما رأيت أن طائفة روته عن مالك فرفعته بدون ذكر قتادة لقول أبي عمر إنه ليس بمحفوظ.
نعم يرد عليه رواية ابن عيينة والعمري له بدون ذكر قتادة فإن أبا عمر لم يعلها لكن قد أعلها غيره أيضًا.

قال ابن عبد البر: وقد روى هذا الحديث عن أنس ثابت وقتادة وحميد أيضًا من طرق كثيرة بأسانيد صحيحة كلهم ذكر فيه النبي صلى الله عليه وسلم، لكن اختلف عليهم في لفظه اختلافًا كثيرًا مضطربًا متدافعًا منهم من قال كانوا لا يقرؤون بسم الله الرحمن الرحيم، ومنهم من قال: كانوا لا يجهرون بها وبعضهم قال: كانوا يجهرون، وبعضهم قال كانوا لا يتركونها، ومنهم من قال: كانوا يفتتحون القراءة بالحمد لله رب العالمين، وهذا اضطراب لا تقوم معه حجة لأحد من الفقهاء.

قال الحافظ: طريق الجمع بين هذه الألفاظ حمل نفي القراءة على نفي السماع ونفي السماع على نفي الجهر ولا يلزم من قوله كانوا يفتتحون بالحمد وهو بضم الدال على الحكاية أنهم لم يقرؤوا البسملة سرًا، ويؤيده أن في رواية الحسن عن أنس عند ابن خزيمة كانوا يسرون ببسم الله الرحمن الرحيم فاندفع بهذا تعليل من أعله بالاضطراب كابن عبد البر لأن الجمع إذا أمكن تعين المصير إليه انتهى.
ولا يخفى تعسفه فإنه لم يذكر رواية كانوا يجهرون ورواية كانوا لا يتركونها إذ جمعه لا يمكن معهما فالحق مع ابن عبد البر ومن وافقه، ثم كيف يحمل نفي السماع على نفي الجهر ويقدم عليه رواية من أثبته مع كون أنس صحب النبي صلى الله عليه وسلم عشر سنين، ثم صحب أبا بكر وعمر وعثمان خمسًا وعشرين سنة فلا يسمع الجهر بها منهم في صلاة واحدة، وهذا من البعد بمكان وتأييده بما جاء أن سعيد بن يزيد سأل أنسًا عن ذلك فقال: إنك لتسألني عن شيء لا أحفظه ولا سألني عنه أحد قبلك رواه ابن خزيمة وغيره، وبه أعل حديث الباب ليس بناهض لأن أحمد روى بإسناد الصحيحين أن قتادة سأل أنسًا مثل سؤال سعيد فأجابه بقوله: صليت خلف النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان فلم يكونوا يفتتحون القراءة ببسم الله الرحمن الرحيم.
وأخرجه أبو يعلى والسراج وغيرهما.

وروى ابن المنذر عن قتادة سألت أنسًا أيقرأ الرجل في الصلاة بسم الله الرحمن الرحيم؟ فقال: صليت وراء رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان فلم أسمع أحدًا منهم يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم؟ وجمع بينهما بأنه أجاب قتادة بالحكم دون سعيد فلعله تذكره لما سأله قتادة بدليل قوله في رواية سعيد ما سألني عنه أحد قبلك وقاله لهما معًا فحفظه قتادة دون سعيد، فإن قتادة أحفظ منه بلا نزاع، والإنصاف قول السيوطي قد كثرت الأحاديث الواردة في البسملة إثباتًا ونفيًا، وكلا الأمرين صحيح أنه صلى الله عليه وسلم قرأ بها وتركها وجهر بها وأخفاها.

والذي يوضح صحة الأمرين ويزيل إشكال من شكك على الفريقين معًا أعني من أثبت أنها آية من أول الفاتحة وكل سورة ومن نفى ذلك قائلاً: إن القرآن لا يثبت بالظن.
ولا ينفى بالظن ما أشار إليه طائفة من المتأخرين أن إثباتها ونفيها كلاهما قطعي، ولا يستغرب ذلك، فإن القرآن نزل على سبعة أحرف ونزل مرات متكررة فنزل في بعضها بزيادة وفي بعضها بحذف كقراءة ملك ومالك وتجري تحتها ومن تحتها في براءة وأن الله هو الغني وأن الله الغني في سورة الحديد، فلا يشك أحد ولا يرتاب في أن القراءة بإثبات الألف ومن وهو ونحو ذلك متواترة قطعية الإثبات، وأن القراءة بحذف ذلك أيضًا متواترة قطعية الحذف وأن ميزان الإثبات والحذف في ذلك سواء.

وكذلك القول في البسملة أنها نزلت في بعض الأحرف ولم تنزل في بعضها فإثباتها قطعي وحذفها قطعي وكل متواتر وكل في السبع فإن نصف القراء السبعة قرؤوا بإثباتها، ونصفهم قرؤوا بحذفها وقراءات السبعة كلها متواترة فمن قرأ بها فهي ثابتة في حرفه متواترة إليه ثم منه إلينا ومن قرأ بحذفها فحذفها في حرفه متواتر إليه ثم منه إلينا والعطف من ذلك أن نافعًا له راويان قرأ أحدهما عنه بها والآخر بحذفها، فدل على أن الأمرين تواترا عنده بأن قرأ بالحرفين معًا كل بأسانيد متواترة.

فبهذا التقرير اجتمعت الأحاديث المختلفة على كثرة كل جانب منها وانجلى الإشكال وزال التشكيك ولا يستغرب الإثبات ممن أثبت ولا النفي ممن نفى، وقد أشار إلى بعض ما ذكرته أستاذ القراء المتأخرين الإمام شمس الدين بن الجزري فقال بعد أن حكى خمسة أقوال في كتابه النشر، وهذه الأقوال ترجع إلى النفي والإثبات، والذي نعتقده أن كليهما صحيح وأن كل ذلك حق فيكون الاختلاف فيها كاختلاف القراءات انتهى.

وقرره أيضًا بأبسط منه الحافظ فيما نقله الشيخ برهان الدين البقاعي في معجمه انتهى.
وسبقهما إلى ذلك أبو أمامة بن النقاش.

( مَالِكٍ عَنْ عَمِّهِ أَبِي سُهَيْلِ) اسمه نافع ( بْنِ مَالِكٍ عَنْ أَبِيهِ) مالك بن أبي عامر ( أَنَّهُ قَالَ: كُنَّا نَسْمَعُ قِرَاءَةَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ عِنْدَ دَارِ أَبِي جَهْمٍ) بفتح الجيم وإسكان الهاء واسمه عامر وقيل عبيد بن حذيفة صحابي قرشي عدوي من مسلمة الفتح ومشيخة قريش ومعمريهم، حضر بناء قريش للكعبة في الجاهلية وبناء ابن الزبير لها وهو أحد من ترك الخمر في الجاهلية خوفًا على عقله ( بِالْبَلَاطِ) بفتح الموحدة بزنة سحاب موضع بالمدينة بين المسجد والسوق مبلط كما في القاموس.

قال ابن عبد البر: وكان عمر مديد الصوت فيسمع صوته حيث ذكر وفيه تفسير لحديث لا يجهر بعضكم على بعض بالقرآن أنه في المنفردين وأما قراءة الإمام في المكتوبة أو غيرها فلا.

وقال الباجي: لا بأس أن يرفع الإمام صوته فيما يجهر فيه من الفرائض وكذا النوافل، وقد روى أشهب عن مالك لا بأس أن يرفع المتنفل ببيته صوته بالقراءة ولعله أنشط له وأقوى.

( مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ إِذَا فَاتَهُ شَيْءٌ مِنَ الصَّلَاةِ مَعَ الْإِمَامِ فِيمَا جَهَرَ فِيهِ الْإِمَامُ بِالْقِرَاءَةِ أَنَّهُ إِذَا سَلَّمَ الْإِمَامُ قَامَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ فَقَرَأَ لِنَفْسِهِ فِيمَا يَقْضِي وَجَهَرَ) قال الباجي: يحتمل أن يكون جهره فيما يقضي لأنه يرى أن المأموم يقضي على نحو ما فاته من القراءة والجهر مثل رواية ابن القاسم عن مالك وهذا أظهر، ويحتمل أنه يرى أن ما يأتي به آخر صلاته أن تفوته ركعة من الصبح أو ركعتان من المغرب أو ثلاثًا من العشاء، فإن الخلاف يرتفع هنا ولا بد للمأموم من الجهر في القضاء على القولين.

( مَالِكٍ عَنْ يَزِيدَ بْنِ رُومَانَ) المدني الثقة المتوفى سنة ثلاثين ومائة ( أَنَّهُ قَالَ: كُنْتُ أُصَلِّي إِلَى جَانِبِ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ) النوفلي التابعي الثقة الفاضل المتوفى سنة تسع وتسعين ( فَيَغْمِزُنِي) بكسر الميم كضرب يشير إلي ( فَأَفْتَحُ عَلَيْهِ وَنَحْنُ نُصَلِّي) وبهذا قال مالك في مختصر ابن عبد الحكم وأشهب وابن حبيب، وفيه جواز الفتح على الإمام بالأولى من إجازة الفتح على من ليس معه في صلاة لأنها تلاوة قرآن في صلاة والأصح، وبه قال ابن القاسم بطلان صلاة من فتح على من ليس معه في صلاة لأنه وإن كان تلاوة قرآن لكنه في معنى المكالمة، وكره الكوفيون الفتح على الإمام وأجازه مالك والشافعي وأكثر العلماء لأن الله لم ينه عنه ولا رسوله من وجه يحتج به، وقد تردد صلى الله عليه وسلم في آية فلما انصرف قال: ألم يكن في القوم أبيّ، يريد الفتح عليه.



رقم الحديث 179 وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ إِذَا فَاتَهُ شَيْءٌ مِنَ الصَّلَاةِ مَعَ الْإِمَامِ، فِيمَا جَهَرَ فِيهِ الْإِمَامُ بِالْقِرَاءَةِ أَنَّهُ إِذَا سَلَّمَ الْإِمَامُ، قَامَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ فَقَرَأَ لِنَفْسِهِ فِيمَا يَقْضِي، وَجَهَرَ.


الْعَمَلِ فِي الْقِرَاءَةِ

( مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُنَيْنٍ) بضم الحاء المهملة وفتح النون الهاشمي مولاهم المدني التابعي قال ابن سعد: كان ثقة كثير الحديث روى له الجميع ومات بعد المائة ( عَنْ أَبِيهِ) عبد الله التابعي الثقة المتوفى في أول إمارة يزيد روى له الجماعة وفي الإسناد ثلاثة من التابعين يروي بعضهم عن بعض وهو من اللطائف ( عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ) بن عبد المطلب بن هاشم أبي الحسن من السابقين الأولين، ورجح جماعة أنه أول من أسلم أمير المؤمنين مناقبه كثيرة جدًا حتى قال أحمد والنسائي وإسماعيل القاضي لم يرد في حق أحد بالأسانيد الجياد ما ورد في حق علي، مات في رمضان سنة أربعين وهو يومئذ أفضل الأحياء من بني آدم بالأرض بإجماع أهل السنة وله ثلاث وستون سنة على الأصح.

( أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ لُبْسِ الْقَسِّيِّ) بفتح القاف وكسر السين وتحتية مشددتين.
قال: ابن وهب: ثياب مضلعة أي مخططة بالحرير كانت تعمل بالقس موضع بمصر يلي الفرما قاله الباجي.
وفي مسلم عن أبي بردة قلت لعلي: ما القسية؟ قال: ثياب أتتنا من مصر والشام مضلعة فيها حرير أمثال الأترج.
وقال أبو عبيد: أهل الحديث يكسرون القاف وأهل مصر يفتحونها نسبة إلى بلد على ساحل البحر يقال لها القس بقرب دمياط.

وقال الحافظ: الكسر غلط لأنه جمع قوس، وقال ابن الأثير: هي ثياب من كتان مخلوط بحرير يؤتى بها من مصر نسبت إلى قرية على ساحل البحر قريبًا من تنيس يقال لها القس، وبعض أهل الحديث يكسرها وقيل أصل القسي القزي بالزاي منسوب إلى القز وهو ضرب من الإبريسم فأبدل من الزاي سين، وقيل منسوب إلى القس وهو الصقيع لبياضه، وفي رواية أبي مصعب والقعنبي ومعن وجماعة زيادة والمعصفر والنهي للتنزيه على المشهور ففي المدونة كره مالك الثوب المعصفر المقدم للرجال في غير الإحرام والمقدم بضم الميم وسكون الفاء وفتح الدال المهملة القوي الصبغ المشبع الذي رد في العصفر مرة بعد أخرى، وأما المعصفر غير المقدم والمزعفر فيجوز لبسهما في غير الإحرام نص على الأول في المدونة وعلى المزعفر في غيرها.
قال مالك: لا بأس بالمزعفر لغير الإحرام وكنت ألبسه.

( وَعَنْ تَخَتُّمِ الذَّهَبِ) نهي تحريم للرجال دون النساء ( وَعَنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فِي الرُّكُوعِ) والسجود كما زاده معمر عن ابن شهاب عن إبراهيم عن أبيه عن علي عند مسلم فتكره القراءة فيهما عند الجميع لهذا الحديث ولخبر مسلم عن ابن عباس مرفوعًا ألا وإني قد نهيت عن القراءة في الركوع والسجود، فأما الركوع فعظموا فيه الرب وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء فقمن أن يستجاب لكم.
وحديث الباب رواه مسلم في اللباس عن يحيى والترمذي في الصلاة عن قتيبة ومن طريق معن الثلاثة عن مالك به وتابعه الزهري في شيخه نافع عن إبراهيم عن أبيه عن علي في مسلم أيضًا.

( مَالِكٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَارِثِ التَّيْمِيِّ) بفوقية فتحتية نسبة إلى تيم قريش ( عَنْ أَبِي حَازِمٍ) بمهملة وزاي ( التَّمَّارِ) اسمه دينار مولى الأنصار كذا في رواية للنسائي وله في أخرى مولى الغفاريين وقد قيل إنه مولى أبي رهم الغفاري، وذكر حبيب بن إبراهيم عن مالك أن اسمه يسار مولى قيس بن سعد بن عبادة، وقال الآجري قلت لأبي داود أبو حازم التمار حدث عنه محمد بن إبراهيم من هو قال هو الرجل الذي من بياضة وقيل هما اثنان التمار مولى أبي رهم الغفاري والبياضي مولى الأنصار مختلف في صحبته.

( عَنِ الْبَيَاضِيِّ) بفتح الموحدة وضاد معجمة اسمه فروة بفتح الفاء وسكون الراء ابن عمرو بفتح العين ابن ودقة بفتح الواو وسكون الدال المهملة بعدها قاف كما ضبطه الداني في أطراف الموطأ قال: وهي الروضة ابن عبيد بن غانم بن بياضة فخذ من الخزرج الأنصاري شهد العقبة وبدرًا وما بعدها، وآخى النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبين عبد الله بن مخرمة العامري، وروى عبد الرزاق عن رافع بن خديج أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبعث فروة بن عمرو يخرص النخل فإذا دخل الحائط حسب ما فيه من الأقناء ثم ضرب بعضها على بعض على ما يرى فيها فلا يخطئ، وذكر وثيمة في كتاب الردة أن فروة كان ممن قاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فرسين في سبيل الله وكان يتصدق في كل يوم من نخله بألف وسق، وكان من أصحاب علي يوم الجمل، وزعم ابن مزين وابن وضاح أن مالكًا سكت عن اسمه لأنه كان ممن أعان على عثمان.
قال ابن عبد البر: وهذا لا يثبت ولا وجه لما قالاه من ذلك ولم يكن قائل هذا علم بما كان من الأنصار يوم الدار.

( أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ عَلَى النَّاسِ وَهُمْ يُصَلُّونَ) وفي رواية حماد بن زيد عن يحيى بن سعيد أن ذلك كان في رمضان والنبي صلى الله عليه وسلم معتكف في قبة على بابها حصير والناس يصلون عصبًا عصبًا أخرجه ابن عبد البر.

( وَقَدْ عَلَتْ أَصْوَاتُهُمْ بِالْقِرَاءَةِ فَقَالَ إِنَّ الْمُصَلِّيَ يُنَاجِي رَبَّهُ) قال ابن بطال: مناجاة المصلي ربه عبارة عن إحضار القلب والخشوع في الصلاة.
وقال عياض: هي إخلاص القلب وتفريغ السر بذكره وتحميده وتلاوة كتابه في الصلاة، وقال غيره: مناجاة العبد لربه ما يقع منه من الأفعال والأقوال المطلوبة في الصلاة وترك الأفعال والأقوال المنهي عنها، ومناجاة الرب لعبده إقباله عليه بالرحمة والرضوان وما يفتحه عليه من العلوم والأسرار وفيه كما قال الباجي تنبيه على معنى الصلاة والمقصود بها ليكثر الاحتراز من الأمور المكروهة المدخلة للنقص فيها والإقبال على أمور الطاعة المتممة لها.

( فَلْيَنْظُرْ بِمَا يُنَاجِيهِ بِهِ) أراد به التحذير من أن يناجيه بالقرآن على وجه مكروه وإن كان القرآن كله طاعة وقربة ( وَلَا يَجْهَرْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ بِالْقُرْآنِ) لأن فيه أذى ومنعًا من الإقبال على الصلاة وتفريغ السر لها، وتأمل ما يناجي به ربه من القرآن، وإذا منع رفع الصوت بالقرآن حينئذ لأذى المصلين فبغيره من الحديث وغيره أولى انتهى.

وقال ابن عبد البر: وإذا نهي المسلم عن أذى المسلم في عمل البر وتلاوة القرآن فإيذاؤه في غير ذلك أشد تحريمًا، وقد ورد مثل هذا الحديث من رواية أبي سعيد الخدري أخرج أبو داود عنه قال: اعتكف صلى الله عليه وسلم في المسجد فسمعهم يجهرون بالقراءة فكشف الستر وقال: ألا إن كلكم يناجي ربه فلا يؤذين بعضكم بعضًا ولا يرفع بعضكم على بعض في القراءة.

وقال في الصلاة: قال ابن عبد البر: حديث البياضي وأبي سعيد ثابتان صحيحان قال: وقد روي بسند ضعيف عن علي، قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرفع صوته بالقرآن قبل العشاء وبعدها يغلط أصحابه وهم يصلون.
قال السيوطي: وكثيرًا ما يسأل عما اشتهر على الألسنة ما أنصف القارئ المصلي ولا أصل له ولكن هذه أصوله.

( مَالِكٍ عَنْ حُمَيْدٍ) بضم الحاء ابن أبي حميد البصري يكنى أبا عبيدة مولى طلحة بن عبد الله الخزاعي الذي يقال له طلحة الطلحات واسم أبيه طرخان أو مهران أو غير ذلك إلى نحو عشرة أقوال، وهو من الثقات المتفق على الاحتجاج بهم إلا أنه كان يدلس حديث أنس، وكان سمع أكثره من ثابت وغيره من أصحاب أنس قال شعبة: لم يسمع حميد من أنس إلا أربعة وعشرين حديثًا والباقي سمعها من ثابت أو ثبته فيها وعابه زائدة لدخوله في شيء من أمر الخلفاء، وجملة الذي رواه مالك في الموطأ عنه سبعة أحاديث، مات وهو قائم يصلي في جمادى الأولى سنة اثنين ويقال ثلاث وأربعين ويقال سنة أربعين ومائة.

ولقب ( الطَّوِيلِ) قيل لطول يديه، وقال الأصمعي: رأيته ولم يكن بالطويل ولكن كان له جار يعرف بحميد القصير فقيل حميد الطويل ليعرف من الآخر ( عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ: قُمْتُ وَرَاءَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ) قال الباجي: أي وقفت مستقبل القبلة القيام المعتاد في الصلاة على رجليه جميعًا فيقرنهما ولا يحركهما ( فَكُلُّهُمْ كَانَ لَا يَقْرَأُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ إِذَا افْتَتَحَ الصَّلَاةَ) .

قال ابن عبد البر: هكذا في الموطأ عند جماعة رواته فيما علمت موقوفًا، وروته طائفة منهم الوليد بن مسلم، وموسى بن طارق، وإسماعيل بن موسى السدي، عن مالك، عن حميد، عن أنس قال: صليت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان فكلهم إلى آخره، وليس ذلك بمحفوظ.
وكذلك رواه ابن أخي ابن وهب عن عمه عبد الله بن وهب قال: حدثنا عبيد الله بن عمر ومالك وابن عيينة عن حميد عن أنس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يجهر بالقراءة ببسم الله الرحمن الرحيم، وهو خطأ عندهم من ابن أخي ابن وهب في رفعه ذلك عن عمه عن مالك والصواب عنه ما في الموطأ خاصة.

وذكر الحافظ في نكته على ابن الصلاح أن حميدًا سمع هذا الحديث من أنس وقتادة إلا أنه سمع الموقوف من أنس ومن قتادة عنه المرفوع، قال ابن أبي عدي: فكان حميد إذا قال عن أنس لم يرفعه، وإذا قال عن قتادة عنه رفعه انتهى.

ولا يعارضه ما رأيت أن طائفة روته عن مالك فرفعته بدون ذكر قتادة لقول أبي عمر إنه ليس بمحفوظ.
نعم يرد عليه رواية ابن عيينة والعمري له بدون ذكر قتادة فإن أبا عمر لم يعلها لكن قد أعلها غيره أيضًا.

قال ابن عبد البر: وقد روى هذا الحديث عن أنس ثابت وقتادة وحميد أيضًا من طرق كثيرة بأسانيد صحيحة كلهم ذكر فيه النبي صلى الله عليه وسلم، لكن اختلف عليهم في لفظه اختلافًا كثيرًا مضطربًا متدافعًا منهم من قال كانوا لا يقرؤون بسم الله الرحمن الرحيم، ومنهم من قال: كانوا لا يجهرون بها وبعضهم قال: كانوا يجهرون، وبعضهم قال كانوا لا يتركونها، ومنهم من قال: كانوا يفتتحون القراءة بالحمد لله رب العالمين، وهذا اضطراب لا تقوم معه حجة لأحد من الفقهاء.

قال الحافظ: طريق الجمع بين هذه الألفاظ حمل نفي القراءة على نفي السماع ونفي السماع على نفي الجهر ولا يلزم من قوله كانوا يفتتحون بالحمد وهو بضم الدال على الحكاية أنهم لم يقرؤوا البسملة سرًا، ويؤيده أن في رواية الحسن عن أنس عند ابن خزيمة كانوا يسرون ببسم الله الرحمن الرحيم فاندفع بهذا تعليل من أعله بالاضطراب كابن عبد البر لأن الجمع إذا أمكن تعين المصير إليه انتهى.
ولا يخفى تعسفه فإنه لم يذكر رواية كانوا يجهرون ورواية كانوا لا يتركونها إذ جمعه لا يمكن معهما فالحق مع ابن عبد البر ومن وافقه، ثم كيف يحمل نفي السماع على نفي الجهر ويقدم عليه رواية من أثبته مع كون أنس صحب النبي صلى الله عليه وسلم عشر سنين، ثم صحب أبا بكر وعمر وعثمان خمسًا وعشرين سنة فلا يسمع الجهر بها منهم في صلاة واحدة، وهذا من البعد بمكان وتأييده بما جاء أن سعيد بن يزيد سأل أنسًا عن ذلك فقال: إنك لتسألني عن شيء لا أحفظه ولا سألني عنه أحد قبلك رواه ابن خزيمة وغيره، وبه أعل حديث الباب ليس بناهض لأن أحمد روى بإسناد الصحيحين أن قتادة سأل أنسًا مثل سؤال سعيد فأجابه بقوله: صليت خلف النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان فلم يكونوا يفتتحون القراءة ببسم الله الرحمن الرحيم.
وأخرجه أبو يعلى والسراج وغيرهما.

وروى ابن المنذر عن قتادة سألت أنسًا أيقرأ الرجل في الصلاة بسم الله الرحمن الرحيم؟ فقال: صليت وراء رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان فلم أسمع أحدًا منهم يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم؟ وجمع بينهما بأنه أجاب قتادة بالحكم دون سعيد فلعله تذكره لما سأله قتادة بدليل قوله في رواية سعيد ما سألني عنه أحد قبلك وقاله لهما معًا فحفظه قتادة دون سعيد، فإن قتادة أحفظ منه بلا نزاع، والإنصاف قول السيوطي قد كثرت الأحاديث الواردة في البسملة إثباتًا ونفيًا، وكلا الأمرين صحيح أنه صلى الله عليه وسلم قرأ بها وتركها وجهر بها وأخفاها.

والذي يوضح صحة الأمرين ويزيل إشكال من شكك على الفريقين معًا أعني من أثبت أنها آية من أول الفاتحة وكل سورة ومن نفى ذلك قائلاً: إن القرآن لا يثبت بالظن.
ولا ينفى بالظن ما أشار إليه طائفة من المتأخرين أن إثباتها ونفيها كلاهما قطعي، ولا يستغرب ذلك، فإن القرآن نزل على سبعة أحرف ونزل مرات متكررة فنزل في بعضها بزيادة وفي بعضها بحذف كقراءة ملك ومالك وتجري تحتها ومن تحتها في براءة وأن الله هو الغني وأن الله الغني في سورة الحديد، فلا يشك أحد ولا يرتاب في أن القراءة بإثبات الألف ومن وهو ونحو ذلك متواترة قطعية الإثبات، وأن القراءة بحذف ذلك أيضًا متواترة قطعية الحذف وأن ميزان الإثبات والحذف في ذلك سواء.

وكذلك القول في البسملة أنها نزلت في بعض الأحرف ولم تنزل في بعضها فإثباتها قطعي وحذفها قطعي وكل متواتر وكل في السبع فإن نصف القراء السبعة قرؤوا بإثباتها، ونصفهم قرؤوا بحذفها وقراءات السبعة كلها متواترة فمن قرأ بها فهي ثابتة في حرفه متواترة إليه ثم منه إلينا ومن قرأ بحذفها فحذفها في حرفه متواتر إليه ثم منه إلينا والعطف من ذلك أن نافعًا له راويان قرأ أحدهما عنه بها والآخر بحذفها، فدل على أن الأمرين تواترا عنده بأن قرأ بالحرفين معًا كل بأسانيد متواترة.

فبهذا التقرير اجتمعت الأحاديث المختلفة على كثرة كل جانب منها وانجلى الإشكال وزال التشكيك ولا يستغرب الإثبات ممن أثبت ولا النفي ممن نفى، وقد أشار إلى بعض ما ذكرته أستاذ القراء المتأخرين الإمام شمس الدين بن الجزري فقال بعد أن حكى خمسة أقوال في كتابه النشر، وهذه الأقوال ترجع إلى النفي والإثبات، والذي نعتقده أن كليهما صحيح وأن كل ذلك حق فيكون الاختلاف فيها كاختلاف القراءات انتهى.

وقرره أيضًا بأبسط منه الحافظ فيما نقله الشيخ برهان الدين البقاعي في معجمه انتهى.
وسبقهما إلى ذلك أبو أمامة بن النقاش.

( مَالِكٍ عَنْ عَمِّهِ أَبِي سُهَيْلِ) اسمه نافع ( بْنِ مَالِكٍ عَنْ أَبِيهِ) مالك بن أبي عامر ( أَنَّهُ قَالَ: كُنَّا نَسْمَعُ قِرَاءَةَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ عِنْدَ دَارِ أَبِي جَهْمٍ) بفتح الجيم وإسكان الهاء واسمه عامر وقيل عبيد بن حذيفة صحابي قرشي عدوي من مسلمة الفتح ومشيخة قريش ومعمريهم، حضر بناء قريش للكعبة في الجاهلية وبناء ابن الزبير لها وهو أحد من ترك الخمر في الجاهلية خوفًا على عقله ( بِالْبَلَاطِ) بفتح الموحدة بزنة سحاب موضع بالمدينة بين المسجد والسوق مبلط كما في القاموس.

قال ابن عبد البر: وكان عمر مديد الصوت فيسمع صوته حيث ذكر وفيه تفسير لحديث لا يجهر بعضكم على بعض بالقرآن أنه في المنفردين وأما قراءة الإمام في المكتوبة أو غيرها فلا.

وقال الباجي: لا بأس أن يرفع الإمام صوته فيما يجهر فيه من الفرائض وكذا النوافل، وقد روى أشهب عن مالك لا بأس أن يرفع المتنفل ببيته صوته بالقراءة ولعله أنشط له وأقوى.

( مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ إِذَا فَاتَهُ شَيْءٌ مِنَ الصَّلَاةِ مَعَ الْإِمَامِ فِيمَا جَهَرَ فِيهِ الْإِمَامُ بِالْقِرَاءَةِ أَنَّهُ إِذَا سَلَّمَ الْإِمَامُ قَامَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ فَقَرَأَ لِنَفْسِهِ فِيمَا يَقْضِي وَجَهَرَ) قال الباجي: يحتمل أن يكون جهره فيما يقضي لأنه يرى أن المأموم يقضي على نحو ما فاته من القراءة والجهر مثل رواية ابن القاسم عن مالك وهذا أظهر، ويحتمل أنه يرى أن ما يأتي به آخر صلاته أن تفوته ركعة من الصبح أو ركعتان من المغرب أو ثلاثًا من العشاء، فإن الخلاف يرتفع هنا ولا بد للمأموم من الجهر في القضاء على القولين.

( مَالِكٍ عَنْ يَزِيدَ بْنِ رُومَانَ) المدني الثقة المتوفى سنة ثلاثين ومائة ( أَنَّهُ قَالَ: كُنْتُ أُصَلِّي إِلَى جَانِبِ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ) النوفلي التابعي الثقة الفاضل المتوفى سنة تسع وتسعين ( فَيَغْمِزُنِي) بكسر الميم كضرب يشير إلي ( فَأَفْتَحُ عَلَيْهِ وَنَحْنُ نُصَلِّي) وبهذا قال مالك في مختصر ابن عبد الحكم وأشهب وابن حبيب، وفيه جواز الفتح على الإمام بالأولى من إجازة الفتح على من ليس معه في صلاة لأنها تلاوة قرآن في صلاة والأصح، وبه قال ابن القاسم بطلان صلاة من فتح على من ليس معه في صلاة لأنه وإن كان تلاوة قرآن لكنه في معنى المكالمة، وكره الكوفيون الفتح على الإمام وأجازه مالك والشافعي وأكثر العلماء لأن الله لم ينه عنه ولا رسوله من وجه يحتج به، وقد تردد صلى الله عليه وسلم في آية فلما انصرف قال: ألم يكن في القوم أبيّ، يريد الفتح عليه.



رقم الحديث 180 وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ رُومَانَ أَنَّهُ قَالَ: كُنْتُ أُصَلِّي إِلَى جَانِبِ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ فَيَغْمِزُنِي فَأَفْتَحُ عَلَيْهِ وَنَحْنُ نُصَلِّي.


الْعَمَلِ فِي الْقِرَاءَةِ

( مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُنَيْنٍ) بضم الحاء المهملة وفتح النون الهاشمي مولاهم المدني التابعي قال ابن سعد: كان ثقة كثير الحديث روى له الجميع ومات بعد المائة ( عَنْ أَبِيهِ) عبد الله التابعي الثقة المتوفى في أول إمارة يزيد روى له الجماعة وفي الإسناد ثلاثة من التابعين يروي بعضهم عن بعض وهو من اللطائف ( عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ) بن عبد المطلب بن هاشم أبي الحسن من السابقين الأولين، ورجح جماعة أنه أول من أسلم أمير المؤمنين مناقبه كثيرة جدًا حتى قال أحمد والنسائي وإسماعيل القاضي لم يرد في حق أحد بالأسانيد الجياد ما ورد في حق علي، مات في رمضان سنة أربعين وهو يومئذ أفضل الأحياء من بني آدم بالأرض بإجماع أهل السنة وله ثلاث وستون سنة على الأصح.

( أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ لُبْسِ الْقَسِّيِّ) بفتح القاف وكسر السين وتحتية مشددتين.
قال: ابن وهب: ثياب مضلعة أي مخططة بالحرير كانت تعمل بالقس موضع بمصر يلي الفرما قاله الباجي.
وفي مسلم عن أبي بردة قلت لعلي: ما القسية؟ قال: ثياب أتتنا من مصر والشام مضلعة فيها حرير أمثال الأترج.
وقال أبو عبيد: أهل الحديث يكسرون القاف وأهل مصر يفتحونها نسبة إلى بلد على ساحل البحر يقال لها القس بقرب دمياط.

وقال الحافظ: الكسر غلط لأنه جمع قوس، وقال ابن الأثير: هي ثياب من كتان مخلوط بحرير يؤتى بها من مصر نسبت إلى قرية على ساحل البحر قريبًا من تنيس يقال لها القس، وبعض أهل الحديث يكسرها وقيل أصل القسي القزي بالزاي منسوب إلى القز وهو ضرب من الإبريسم فأبدل من الزاي سين، وقيل منسوب إلى القس وهو الصقيع لبياضه، وفي رواية أبي مصعب والقعنبي ومعن وجماعة زيادة والمعصفر والنهي للتنزيه على المشهور ففي المدونة كره مالك الثوب المعصفر المقدم للرجال في غير الإحرام والمقدم بضم الميم وسكون الفاء وفتح الدال المهملة القوي الصبغ المشبع الذي رد في العصفر مرة بعد أخرى، وأما المعصفر غير المقدم والمزعفر فيجوز لبسهما في غير الإحرام نص على الأول في المدونة وعلى المزعفر في غيرها.
قال مالك: لا بأس بالمزعفر لغير الإحرام وكنت ألبسه.

( وَعَنْ تَخَتُّمِ الذَّهَبِ) نهي تحريم للرجال دون النساء ( وَعَنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فِي الرُّكُوعِ) والسجود كما زاده معمر عن ابن شهاب عن إبراهيم عن أبيه عن علي عند مسلم فتكره القراءة فيهما عند الجميع لهذا الحديث ولخبر مسلم عن ابن عباس مرفوعًا ألا وإني قد نهيت عن القراءة في الركوع والسجود، فأما الركوع فعظموا فيه الرب وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء فقمن أن يستجاب لكم.
وحديث الباب رواه مسلم في اللباس عن يحيى والترمذي في الصلاة عن قتيبة ومن طريق معن الثلاثة عن مالك به وتابعه الزهري في شيخه نافع عن إبراهيم عن أبيه عن علي في مسلم أيضًا.

( مَالِكٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَارِثِ التَّيْمِيِّ) بفوقية فتحتية نسبة إلى تيم قريش ( عَنْ أَبِي حَازِمٍ) بمهملة وزاي ( التَّمَّارِ) اسمه دينار مولى الأنصار كذا في رواية للنسائي وله في أخرى مولى الغفاريين وقد قيل إنه مولى أبي رهم الغفاري، وذكر حبيب بن إبراهيم عن مالك أن اسمه يسار مولى قيس بن سعد بن عبادة، وقال الآجري قلت لأبي داود أبو حازم التمار حدث عنه محمد بن إبراهيم من هو قال هو الرجل الذي من بياضة وقيل هما اثنان التمار مولى أبي رهم الغفاري والبياضي مولى الأنصار مختلف في صحبته.

( عَنِ الْبَيَاضِيِّ) بفتح الموحدة وضاد معجمة اسمه فروة بفتح الفاء وسكون الراء ابن عمرو بفتح العين ابن ودقة بفتح الواو وسكون الدال المهملة بعدها قاف كما ضبطه الداني في أطراف الموطأ قال: وهي الروضة ابن عبيد بن غانم بن بياضة فخذ من الخزرج الأنصاري شهد العقبة وبدرًا وما بعدها، وآخى النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبين عبد الله بن مخرمة العامري، وروى عبد الرزاق عن رافع بن خديج أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبعث فروة بن عمرو يخرص النخل فإذا دخل الحائط حسب ما فيه من الأقناء ثم ضرب بعضها على بعض على ما يرى فيها فلا يخطئ، وذكر وثيمة في كتاب الردة أن فروة كان ممن قاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فرسين في سبيل الله وكان يتصدق في كل يوم من نخله بألف وسق، وكان من أصحاب علي يوم الجمل، وزعم ابن مزين وابن وضاح أن مالكًا سكت عن اسمه لأنه كان ممن أعان على عثمان.
قال ابن عبد البر: وهذا لا يثبت ولا وجه لما قالاه من ذلك ولم يكن قائل هذا علم بما كان من الأنصار يوم الدار.

( أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ عَلَى النَّاسِ وَهُمْ يُصَلُّونَ) وفي رواية حماد بن زيد عن يحيى بن سعيد أن ذلك كان في رمضان والنبي صلى الله عليه وسلم معتكف في قبة على بابها حصير والناس يصلون عصبًا عصبًا أخرجه ابن عبد البر.

( وَقَدْ عَلَتْ أَصْوَاتُهُمْ بِالْقِرَاءَةِ فَقَالَ إِنَّ الْمُصَلِّيَ يُنَاجِي رَبَّهُ) قال ابن بطال: مناجاة المصلي ربه عبارة عن إحضار القلب والخشوع في الصلاة.
وقال عياض: هي إخلاص القلب وتفريغ السر بذكره وتحميده وتلاوة كتابه في الصلاة، وقال غيره: مناجاة العبد لربه ما يقع منه من الأفعال والأقوال المطلوبة في الصلاة وترك الأفعال والأقوال المنهي عنها، ومناجاة الرب لعبده إقباله عليه بالرحمة والرضوان وما يفتحه عليه من العلوم والأسرار وفيه كما قال الباجي تنبيه على معنى الصلاة والمقصود بها ليكثر الاحتراز من الأمور المكروهة المدخلة للنقص فيها والإقبال على أمور الطاعة المتممة لها.

( فَلْيَنْظُرْ بِمَا يُنَاجِيهِ بِهِ) أراد به التحذير من أن يناجيه بالقرآن على وجه مكروه وإن كان القرآن كله طاعة وقربة ( وَلَا يَجْهَرْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ بِالْقُرْآنِ) لأن فيه أذى ومنعًا من الإقبال على الصلاة وتفريغ السر لها، وتأمل ما يناجي به ربه من القرآن، وإذا منع رفع الصوت بالقرآن حينئذ لأذى المصلين فبغيره من الحديث وغيره أولى انتهى.

وقال ابن عبد البر: وإذا نهي المسلم عن أذى المسلم في عمل البر وتلاوة القرآن فإيذاؤه في غير ذلك أشد تحريمًا، وقد ورد مثل هذا الحديث من رواية أبي سعيد الخدري أخرج أبو داود عنه قال: اعتكف صلى الله عليه وسلم في المسجد فسمعهم يجهرون بالقراءة فكشف الستر وقال: ألا إن كلكم يناجي ربه فلا يؤذين بعضكم بعضًا ولا يرفع بعضكم على بعض في القراءة.

وقال في الصلاة: قال ابن عبد البر: حديث البياضي وأبي سعيد ثابتان صحيحان قال: وقد روي بسند ضعيف عن علي، قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرفع صوته بالقرآن قبل العشاء وبعدها يغلط أصحابه وهم يصلون.
قال السيوطي: وكثيرًا ما يسأل عما اشتهر على الألسنة ما أنصف القارئ المصلي ولا أصل له ولكن هذه أصوله.

( مَالِكٍ عَنْ حُمَيْدٍ) بضم الحاء ابن أبي حميد البصري يكنى أبا عبيدة مولى طلحة بن عبد الله الخزاعي الذي يقال له طلحة الطلحات واسم أبيه طرخان أو مهران أو غير ذلك إلى نحو عشرة أقوال، وهو من الثقات المتفق على الاحتجاج بهم إلا أنه كان يدلس حديث أنس، وكان سمع أكثره من ثابت وغيره من أصحاب أنس قال شعبة: لم يسمع حميد من أنس إلا أربعة وعشرين حديثًا والباقي سمعها من ثابت أو ثبته فيها وعابه زائدة لدخوله في شيء من أمر الخلفاء، وجملة الذي رواه مالك في الموطأ عنه سبعة أحاديث، مات وهو قائم يصلي في جمادى الأولى سنة اثنين ويقال ثلاث وأربعين ويقال سنة أربعين ومائة.

ولقب ( الطَّوِيلِ) قيل لطول يديه، وقال الأصمعي: رأيته ولم يكن بالطويل ولكن كان له جار يعرف بحميد القصير فقيل حميد الطويل ليعرف من الآخر ( عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ: قُمْتُ وَرَاءَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ) قال الباجي: أي وقفت مستقبل القبلة القيام المعتاد في الصلاة على رجليه جميعًا فيقرنهما ولا يحركهما ( فَكُلُّهُمْ كَانَ لَا يَقْرَأُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ إِذَا افْتَتَحَ الصَّلَاةَ) .

قال ابن عبد البر: هكذا في الموطأ عند جماعة رواته فيما علمت موقوفًا، وروته طائفة منهم الوليد بن مسلم، وموسى بن طارق، وإسماعيل بن موسى السدي، عن مالك، عن حميد، عن أنس قال: صليت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان فكلهم إلى آخره، وليس ذلك بمحفوظ.
وكذلك رواه ابن أخي ابن وهب عن عمه عبد الله بن وهب قال: حدثنا عبيد الله بن عمر ومالك وابن عيينة عن حميد عن أنس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يجهر بالقراءة ببسم الله الرحمن الرحيم، وهو خطأ عندهم من ابن أخي ابن وهب في رفعه ذلك عن عمه عن مالك والصواب عنه ما في الموطأ خاصة.

وذكر الحافظ في نكته على ابن الصلاح أن حميدًا سمع هذا الحديث من أنس وقتادة إلا أنه سمع الموقوف من أنس ومن قتادة عنه المرفوع، قال ابن أبي عدي: فكان حميد إذا قال عن أنس لم يرفعه، وإذا قال عن قتادة عنه رفعه انتهى.

ولا يعارضه ما رأيت أن طائفة روته عن مالك فرفعته بدون ذكر قتادة لقول أبي عمر إنه ليس بمحفوظ.
نعم يرد عليه رواية ابن عيينة والعمري له بدون ذكر قتادة فإن أبا عمر لم يعلها لكن قد أعلها غيره أيضًا.

قال ابن عبد البر: وقد روى هذا الحديث عن أنس ثابت وقتادة وحميد أيضًا من طرق كثيرة بأسانيد صحيحة كلهم ذكر فيه النبي صلى الله عليه وسلم، لكن اختلف عليهم في لفظه اختلافًا كثيرًا مضطربًا متدافعًا منهم من قال كانوا لا يقرؤون بسم الله الرحمن الرحيم، ومنهم من قال: كانوا لا يجهرون بها وبعضهم قال: كانوا يجهرون، وبعضهم قال كانوا لا يتركونها، ومنهم من قال: كانوا يفتتحون القراءة بالحمد لله رب العالمين، وهذا اضطراب لا تقوم معه حجة لأحد من الفقهاء.

قال الحافظ: طريق الجمع بين هذه الألفاظ حمل نفي القراءة على نفي السماع ونفي السماع على نفي الجهر ولا يلزم من قوله كانوا يفتتحون بالحمد وهو بضم الدال على الحكاية أنهم لم يقرؤوا البسملة سرًا، ويؤيده أن في رواية الحسن عن أنس عند ابن خزيمة كانوا يسرون ببسم الله الرحمن الرحيم فاندفع بهذا تعليل من أعله بالاضطراب كابن عبد البر لأن الجمع إذا أمكن تعين المصير إليه انتهى.
ولا يخفى تعسفه فإنه لم يذكر رواية كانوا يجهرون ورواية كانوا لا يتركونها إذ جمعه لا يمكن معهما فالحق مع ابن عبد البر ومن وافقه، ثم كيف يحمل نفي السماع على نفي الجهر ويقدم عليه رواية من أثبته مع كون أنس صحب النبي صلى الله عليه وسلم عشر سنين، ثم صحب أبا بكر وعمر وعثمان خمسًا وعشرين سنة فلا يسمع الجهر بها منهم في صلاة واحدة، وهذا من البعد بمكان وتأييده بما جاء أن سعيد بن يزيد سأل أنسًا عن ذلك فقال: إنك لتسألني عن شيء لا أحفظه ولا سألني عنه أحد قبلك رواه ابن خزيمة وغيره، وبه أعل حديث الباب ليس بناهض لأن أحمد روى بإسناد الصحيحين أن قتادة سأل أنسًا مثل سؤال سعيد فأجابه بقوله: صليت خلف النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان فلم يكونوا يفتتحون القراءة ببسم الله الرحمن الرحيم.
وأخرجه أبو يعلى والسراج وغيرهما.

وروى ابن المنذر عن قتادة سألت أنسًا أيقرأ الرجل في الصلاة بسم الله الرحمن الرحيم؟ فقال: صليت وراء رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان فلم أسمع أحدًا منهم يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم؟ وجمع بينهما بأنه أجاب قتادة بالحكم دون سعيد فلعله تذكره لما سأله قتادة بدليل قوله في رواية سعيد ما سألني عنه أحد قبلك وقاله لهما معًا فحفظه قتادة دون سعيد، فإن قتادة أحفظ منه بلا نزاع، والإنصاف قول السيوطي قد كثرت الأحاديث الواردة في البسملة إثباتًا ونفيًا، وكلا الأمرين صحيح أنه صلى الله عليه وسلم قرأ بها وتركها وجهر بها وأخفاها.

والذي يوضح صحة الأمرين ويزيل إشكال من شكك على الفريقين معًا أعني من أثبت أنها آية من أول الفاتحة وكل سورة ومن نفى ذلك قائلاً: إن القرآن لا يثبت بالظن.
ولا ينفى بالظن ما أشار إليه طائفة من المتأخرين أن إثباتها ونفيها كلاهما قطعي، ولا يستغرب ذلك، فإن القرآن نزل على سبعة أحرف ونزل مرات متكررة فنزل في بعضها بزيادة وفي بعضها بحذف كقراءة ملك ومالك وتجري تحتها ومن تحتها في براءة وأن الله هو الغني وأن الله الغني في سورة الحديد، فلا يشك أحد ولا يرتاب في أن القراءة بإثبات الألف ومن وهو ونحو ذلك متواترة قطعية الإثبات، وأن القراءة بحذف ذلك أيضًا متواترة قطعية الحذف وأن ميزان الإثبات والحذف في ذلك سواء.

وكذلك القول في البسملة أنها نزلت في بعض الأحرف ولم تنزل في بعضها فإثباتها قطعي وحذفها قطعي وكل متواتر وكل في السبع فإن نصف القراء السبعة قرؤوا بإثباتها، ونصفهم قرؤوا بحذفها وقراءات السبعة كلها متواترة فمن قرأ بها فهي ثابتة في حرفه متواترة إليه ثم منه إلينا ومن قرأ بحذفها فحذفها في حرفه متواتر إليه ثم منه إلينا والعطف من ذلك أن نافعًا له راويان قرأ أحدهما عنه بها والآخر بحذفها، فدل على أن الأمرين تواترا عنده بأن قرأ بالحرفين معًا كل بأسانيد متواترة.

فبهذا التقرير اجتمعت الأحاديث المختلفة على كثرة كل جانب منها وانجلى الإشكال وزال التشكيك ولا يستغرب الإثبات ممن أثبت ولا النفي ممن نفى، وقد أشار إلى بعض ما ذكرته أستاذ القراء المتأخرين الإمام شمس الدين بن الجزري فقال بعد أن حكى خمسة أقوال في كتابه النشر، وهذه الأقوال ترجع إلى النفي والإثبات، والذي نعتقده أن كليهما صحيح وأن كل ذلك حق فيكون الاختلاف فيها كاختلاف القراءات انتهى.

وقرره أيضًا بأبسط منه الحافظ فيما نقله الشيخ برهان الدين البقاعي في معجمه انتهى.
وسبقهما إلى ذلك أبو أمامة بن النقاش.

( مَالِكٍ عَنْ عَمِّهِ أَبِي سُهَيْلِ) اسمه نافع ( بْنِ مَالِكٍ عَنْ أَبِيهِ) مالك بن أبي عامر ( أَنَّهُ قَالَ: كُنَّا نَسْمَعُ قِرَاءَةَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ عِنْدَ دَارِ أَبِي جَهْمٍ) بفتح الجيم وإسكان الهاء واسمه عامر وقيل عبيد بن حذيفة صحابي قرشي عدوي من مسلمة الفتح ومشيخة قريش ومعمريهم، حضر بناء قريش للكعبة في الجاهلية وبناء ابن الزبير لها وهو أحد من ترك الخمر في الجاهلية خوفًا على عقله ( بِالْبَلَاطِ) بفتح الموحدة بزنة سحاب موضع بالمدينة بين المسجد والسوق مبلط كما في القاموس.

قال ابن عبد البر: وكان عمر مديد الصوت فيسمع صوته حيث ذكر وفيه تفسير لحديث لا يجهر بعضكم على بعض بالقرآن أنه في المنفردين وأما قراءة الإمام في المكتوبة أو غيرها فلا.

وقال الباجي: لا بأس أن يرفع الإمام صوته فيما يجهر فيه من الفرائض وكذا النوافل، وقد روى أشهب عن مالك لا بأس أن يرفع المتنفل ببيته صوته بالقراءة ولعله أنشط له وأقوى.

( مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ إِذَا فَاتَهُ شَيْءٌ مِنَ الصَّلَاةِ مَعَ الْإِمَامِ فِيمَا جَهَرَ فِيهِ الْإِمَامُ بِالْقِرَاءَةِ أَنَّهُ إِذَا سَلَّمَ الْإِمَامُ قَامَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ فَقَرَأَ لِنَفْسِهِ فِيمَا يَقْضِي وَجَهَرَ) قال الباجي: يحتمل أن يكون جهره فيما يقضي لأنه يرى أن المأموم يقضي على نحو ما فاته من القراءة والجهر مثل رواية ابن القاسم عن مالك وهذا أظهر، ويحتمل أنه يرى أن ما يأتي به آخر صلاته أن تفوته ركعة من الصبح أو ركعتان من المغرب أو ثلاثًا من العشاء، فإن الخلاف يرتفع هنا ولا بد للمأموم من الجهر في القضاء على القولين.

( مَالِكٍ عَنْ يَزِيدَ بْنِ رُومَانَ) المدني الثقة المتوفى سنة ثلاثين ومائة ( أَنَّهُ قَالَ: كُنْتُ أُصَلِّي إِلَى جَانِبِ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ) النوفلي التابعي الثقة الفاضل المتوفى سنة تسع وتسعين ( فَيَغْمِزُنِي) بكسر الميم كضرب يشير إلي ( فَأَفْتَحُ عَلَيْهِ وَنَحْنُ نُصَلِّي) وبهذا قال مالك في مختصر ابن عبد الحكم وأشهب وابن حبيب، وفيه جواز الفتح على الإمام بالأولى من إجازة الفتح على من ليس معه في صلاة لأنها تلاوة قرآن في صلاة والأصح، وبه قال ابن القاسم بطلان صلاة من فتح على من ليس معه في صلاة لأنه وإن كان تلاوة قرآن لكنه في معنى المكالمة، وكره الكوفيون الفتح على الإمام وأجازه مالك والشافعي وأكثر العلماء لأن الله لم ينه عنه ولا رسوله من وجه يحتج به، وقد تردد صلى الله عليه وسلم في آية فلما انصرف قال: ألم يكن في القوم أبيّ، يريد الفتح عليه.