فهرس الكتاب

شرح الزرقاني - بَابُ التَّشَهُّدِ فِي الصَّلَاةِ

رقم الحديث 204 حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدٍ الْقَارِيِّ، أَنَّهُ سَمِعَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ يُعَلِّمُ النَّاسَ التَّشَهُّدَ، يَقُولُ: قُولُوا: التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ، الزَّاكِيَاتُ لِلَّهِ، الطَّيِّبَاتُ الصَّلَوَاتُ لِلَّهِ، السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ.
وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.


( مَالِكٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدٍ) بغير إضافة ( الْقَارِيِّ) بتشديد الياء نسبة إلى قارة بطن من خزيمة بن مدركة المدني عامل عمر على بيت المال يقال: إنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم، وذكره العجلي في ثقات التابعين، واختلف قول الواقدي فيه قال تارة له صحبة وتارة تابعي مات سنة ثمان وثمانين.

( أَنَّهُ سَمِعَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ يُعَلِّمُ النَّاسَ التَّشَهُّدَ) قال في الاستذكار: ما أورده مالك عن عمر وابنه وعائشة حكمه الرفع، لأن من المعلوم أنه لا يقال بالرأي ولو كان رأيًا لم يكن ذلك القول من الذكر أولى من غيره من سائر الأذكار فلم يبق إلا أن يكون توقيفًا، وقد رفعه غير مالك عن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم.

( يَقُولُ: قُولُوا التَّحِيَّاتُ) جمع تحية ومعناها السلام أو البقاء أو العظمة أو السلامة من الآفات والنقص أو الملك ( لِلَّهِ) وقال أبو سعيد الضرير: ليست التحية الملك نفسه لكنها الكلام الذي يحيى به الملك.
وقال ابن قتيبة: لم يكن يحيى إلا الملك خاصة وكان لكل ملك تحية تخصه، فلهذا جمعت، وكان المعنى التحيات التي كانوا يسلمون بها على الملوك كقولهم: أنعم صباحًا وأبيت اللعن وعش كذا سنة كلها مستحقة لله.
وقال الخطابي ثم البغوي: ولم يكن في تحياتهم شيء يصلح للثناء على الله فلذا أبهمت ألفاظها واستعمل منها معنى التعظيم فقال: قولوا التحيات لله أي أنواع الثناء والتعظيم له، وقال المحب الطبري: يحتمل أن لفظ التحية مشترك بين المعاني المتقدمة وكونها بمعنى السلام أنسب هنا.

( الزَّاكِيَاتُ لِلَّهِ) قال ابن حبيب: هي صالح الأعمال التي يزكو لصاحبها الثواب في الآخرة ( الطَّيِّبَاتُ) أي ما طاب من القول وحسن أن يثنى به على الله دون ما لا يليق بصفاته مما كان الملوك يحيون به، وقيل: الطيبات ذكر الله، وقيل الأقوال الصالحة كالدعاء والثناء، وقيل الأعمال الصالحة وهو أعم ( الصَّلَوَاتُ) الخمس أو ما هو أعم من الفرائض والنوافل في كل شريعة أو العبادات كلها أو الدعوات أو الرحمة ( لِلَّهِ) على عباده، وقيل التحيات العبادات القولية، والطيبات الصدقات المالية والصلوات العبادات الفعلية ( السَّلَامُ) قال النووي: يجوز فيه وفيما بعده حذف اللام، وإثباتها والإثبات أفضل وهو الموجود في روايات الصحيحين.

وقال الحافظ: لم يقع في شيء من طرق حديث ابن مسعود بحذف اللام، وإنما اختلف في ذلك في حديث ابن عباس وهو من أفراد مسلم.
قال الطيبي: والتعريف للعهد التقديري أي ذلك السلام الذي وجه إلى الأنبياء والرسل ( عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ) أي إحسانه ( وَبَرَكَاتُهُ) وأما للجنس بمعنى أن حقيقة السلام الذي يعرفه كل أحد وعمن يصدر وعلى من ينزل عليك، ويجوز أن يكون للعهد الخارجي إشارة إلى قوله تعالى: { { وَسَلاَمٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى } } قال: ولا شك أن هذه التقديرات أولى من تقدير النكرة لأن أصل سلام عليك سلمت سلامًا عليك، ثم حذف الفعل وأقيم المصدر مقامه وعدل عن النصب إلى الرفع على الابتداء للدلالة على ثبوت المعنى واستقراره اهـ.

وذكر صاحب الإقليد عن أبي حامد أن التنكير فيه للتعظيم وهو وجه من وجوه الترجيح لا يقف عن الوجوه المتقدمة ( السَّلَامُ) الذي وجه إلى الأمم السالفة من الصلحاء ( عَلَيْنَا) يريد به المصلي نفسه والحاضرين من الإمام والمأمومين والملائكة وفيه استحباب البداءة بالنفس في الدعاء.
وفي الترمذي مصححًا من حديث أبي بن كعب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا ذكر أحدًا فدعا له بدأ بنفسه، وأصله في مسلم ومنه قول نوح وإبراهيم كما في التنزيل ( وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِين) جمع صالح والأشهر في تفسيره أنه القائم بما يجب عليه من حقوق الله تعالى وحقوق عباده وتتفاوت درجاته.

قال الترمذي الحكيم: من أراد أن يحظى بهذا السلام الذي يسلمه الخلق في صلاتهم فليكن عبدًا صالحًا وإلا حرم هذا الفضل العظيم.
وقال الفاكهاني: ينبغي للمصلي أن يستحضر في هذا المحل جميع الأنبياء والملائكة والمؤمنين ليتوافق لفظه مع قصده.
وقال البيضاوي: علمهم أن يفردوه صلى الله عليه وسلم بالذكر لشرفه ومزيد حقه عليهم ثم علمهم أن يخصصوا أنفسهم أولاً لأن الاهتمام بها أهم ثم أمرهم بتعميم السلام على الصالحين إعلامًا منه بأن الدعاء للمؤمنين ينبغي أن يكون شاملاً لهم.

( أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ) زاد في حديث عائشة الآتي وحده لا شريك له ( وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ) وقد اختار مالك وأصحابه تشهد عمر هذا لكونه كان يعلمه الناس على المنبر والصحابة متوافرون فلم ينكره عليه أحد، فدل ذلك على أنه أفضل من غيره، وتعقب بأنه موقوف فلا يلحق بالمرفوع، ورد بأن ابن مردويه رواه في كتاب التشهد مرفوعًا، واختار الشافعي تشهد ابن عباس وهو ما رواه مسلم وأصحاب السنن عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا التشهد كما يعلمنا السورة من القرآن وكان يقول: التحيات المباركات الصلوات الطيبات لله السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله.
وهذا قريب من حديث عمر إلا أنه أبدل الزاكيات بالمباركات.

قال الحافظ: وكأنها بالمعنى واختار أبو حنيفة وأحمد وأصحاب الحديث، وأكثر العلماء تشهد ابن مسعود وهو ما أخرجه الأئمة الستة عنه قال: كنا إذا صلينا خلف النبي صلى الله عليه وسلم قلنا السلام على الله السلام على جبريل وميكائيل السلام على فلان وفلان، فالتفت إلينا رسول الله فقال: إن الله هو السلام فإذا صلى أحدكم فليقل التحيات لله والصلوات والطيبات السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين فإنكم إذا قلتموها أصابت كل عبد لله صالح في السماء والأرض أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله قال الترمذي: هذا أصح حديث في التشهد.

وقال البزار لما سئل عن أصح حديث في التشهد: هو عندي حديث ابن مسعود روي من نيف وعشرين طريقًا ثم سرد أكثرها وقال: لا أعلم في التشهد أثبت منه ولا أصح أسانيد ولا أشهر رجالاً.

قال الحافظ: ولا خلاف بين أهل الحديث في ذلك، وممن جزم بذلك البغوي في شرح السنة، ومن مرجحاته أنه متفق عليه دون غيره، وأن الرواة عنه من الثقات لم يختلفوا في ألفاظه بخلاف غيره وأنه تلقاه تلقينًا فروى الطحاوي عنه قال: أخذت التشهد من في رسول الله صلى الله عليه وسلم ولقننيه كلمة كلمة.
وفي البخاري عن ابن مسعود: علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم التشهد وكفي بين كفيه كما يعلمني السورة من القرآن، ورجح أيضًا ثبوت الواو في الصلوات والطيبات وهو يقتضي المغايرة بين المعطوف والمعطوف عليه فيكون كل جملة ثناء مستقلاً بخلاف حذفها فيكون صفة لما قبلها وتعدد الثناء في الأول صريح فيكون أولى، ولو قيل إن الواو مقدرة في الثاني وبأنه ورد بصيغة الأمر بخلاف غيره فمجرد حكاية، ولأحمد عنه أنه صلى الله عليه وسلم علمه التشهد وأمره أن يعلمه الناس فدل ذلك على مزيته اهـ.

وقد ورد حديث عمر بالأمر أيضًا كما رأيت فدل ذلك مع عدم الإنكار على المزية وهذا الاختلاف كله إنما هو في الأفضل، ولذا قال ابن عبد البر: كل حسن متقارب المعنى إنما فيه كلمة زائدة أو ناقصة، وتسليم الصحابة لعمر ذلك مع اختلاف رواياتهم دليل على الإباحة والتوسعة.

( مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ يَتَشَهَّدُ فَيَقُولُ: بِسْمِ اللَّهِ) في أوله كذا وقع موقوفًا عليه ووردت أيضًا في حديث أبيه عمر من رواية هشام بن عروة عند سعيد بن منصور وعبد الرزاق وغيرهما، وعورض برواية مالك عن الزهري حديث عمر وليست فيه، وفي حديث جابر المرفوع عند النسائي وابن ماجه والترمذي في العلل بلفظ: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا التشهد كما يعلمنا السورة من القرآن باسم الله وبالله التحيات إلى آخره وصححه الحاكم لكن ضعفه الحفاظ البخاري والترمذي والنسائي والبيهقي وغيرهم وقالوا: إن راويه أخطأ فيه ويدل على ذلك أنه ثبت في حديث أبي موسى مرفوعًا: فإذا قعد أحدكم فليكن أول قوله التحيات لله رواه عبد الرزاق وغيره، وقد أنكر ابن مسعود وابن عباس وغيرهما على من زادها أخرجه البيهقي وغيره.

وبالجملة؛ لم يصح زيادة البسملة كما قاله الحافظ، ولذا قال في المدونة: لم يعرف مالك في أوله باسم الله أي لم يعرفه في حديث صحيح مرفوع فلا ينافي أنه قد رواه هنا عن ابن عمر موقوفًا.

( التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ الصَّلَوَاتُ لِلَّهِ) لا يجوز أن يقصد بها غيره أو هو عبارة عن قصد إخلاصنا له ( الزَّاكِيَاتُ لِلَّهِ) وفي حديث ابن عباس المباركات بدل الزاكيات وهو مناسب لقوله تعالى: { { تَحِيَّةً مِّنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً } } ( السَّلَامُ عَلَى النَّبِيِّ) كذا وقع بإسقاط كاف الخطاب ولفظ أيها.

قال في فتح الباري: وورد في بعض طرق حديث ابن مسعود ما يقتضي المغايرة بين زمانه صلى الله عليه وسلم فيقال بلفظ الخطاب وبعده فبلفظ الغيبة فروى البخاري في الاستئذان من طريق أبي معمر عن ابن مسعود بعد أن ساق حديث التشهد قال: وهو بين ظهرانينا، فلما قبض قلنا السلام يعني على النبي.
ورواه أبو عوانة والسراج والجوزقي وأبو نعيم الأصبهاني والبيهقي من طرق متعددة من طريق أبي نعيم شيخ البخاري فيه بلفظ: فلما قبض قلنا السلام على النبي بحذف لفظ يعني، وكذا رواه أبو بكر بن أبي شيبة عن أبي نعيم وهذا صحيح بلا ريب وقد وجدت له متابعًا قويًا.

قال ابن عبد الرزاق: أخبرنا ابن جريج أخبرني عطاء أن الصحابة كانوا يقولون والنبي صلى الله عليه وسلم حي: السلام عليك أيها النبي فلما مات قالوا السلام على النبي وهذا إسناد صحيح، وما رواه سعيد بن منصور من طريق أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم علمهم التشهد فذكره قال فقال ابن عباس: إنما كنا نقول السلام عليك أيها النبي إذا كان حيًا فقال ابن مسعود: هكذا علمنا وهكذا نعلم فظاهره أن ابن عباس قاله بحثًا وأن ابن مسعود لم يرجع إليه لكن رواية أبي معمر أصح لأن أبا عبيدة لم يسمع من أبيه والإسناد إليه مع ذلك ضعيف اهـ.

( وَرَحْمَةُ اللَّهِ) أي إحسانه ( وَبَرَكَاتُهُ) أي زيادة من كل خير ( السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِين) استنبط منه السبكي أن في الصلاة حقًا للعباد مع حق الله وأن من تركها أخل بحق جميع المسلمين من مضى ومن يجيء إلى يوم القيامة لقوله السلام علينا إلخ.
وفي فتاوى القفال تركها يضر بجميع المسلمين لأن المصلي يقول ذلك في التشهد فيكون التارك مقصرًا في خدمة الله وفي حق نفسه وفي حق كافة الناس ولذا عظمت المعصية بتركها ( شَهِدْتُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ شَهِدْتُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ) هذا مخالف للمروي في الأحاديث الصحيحة بلفظ أشهد في الموضعين وهو الذي عليه المعول والعمل ( يَقُولُ هَذَا) ابن عمر ( فِي) التشهد الواقع بعد ( الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ وَيَدْعُو) ابن عمر ( إِذَا قَضَى تَشَهُّدَهُ) المذكور ( بِمَا بَدَا لَهُ) وأجازه مالك في رواية ابن نافع والمذهب رواية علي وغيره عنه كراهة الدعاء في التشهد الأول لأن المطلوب تقصيره.

( فَإِذَا جَلَسَ فِي آخِرِ صَلَاتِهِ تَشَهَّدَ كَذَلِكَ أَيْضًا إِلَّا أَنَّهُ يُقَدِّمُ التَّشَهُّدَ ثُمَّ يَدْعُو بِمَا بَدَا لَهُ) من أمر الدنيا والآخرة لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث ابن مسعود بعد التشهد: ثم يتخير من الدعاء أعجبه إليه فيدعو به وخالف في ذلك طاوس والنخعي وأبو حنيفة فقالوا: لا يدعو في الصلاة إلا بما في القرآن كذا أطلق ابن بطال وجماعة عن أبي حنيفة والموجود في كتب الحنفية أنه لا يدعو في الصلاة إلا بما في القرآن أو ثبت في الحديث أو كان مأثورًا أعم من أن يكون مرفوعًا أو غير مرفوع، لكن ظاهر الحديث يرد عليهم، وكذا يرد على قول ابن سيرين لا يدعو في الصلاة إلا بأمر الآخرة، واستثنى بعض الشافعية ما يقبح من أمر الدنيا فإن أراد الفاحش من اللفظ فمحتمل وإلا فلا شك أن الدعاء بالأمور المحرمة مطلقًا لا يجوز، ذكره الحافظ.

( فَإِذَا قَضَى تَشَهُّدَهُ وَأَرَادَ أَنْ يُسَلِّمَ قَالَ: السَّلَامُ عَلَى النَّبِيِّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ) وهذه زيادة تكرير في التشهد كأن ابن عمر اختاره ليختمه بالسلام على النبي والصالحين لأنه فصل بين التشهد والسلام بالدعاء، وروى علي عن مالك استحباب ذلك.
قال الباجي: ولا يثبت ( السَّلَامُ عَلَيْكُمْ عَنْ يَمِينِهِ) تسليمة التحليل ( ثُمَّ يَرُدُّ عَلَى الْإِمَامِ فَإِنْ سَلَّمَ عَلَيْهِ أَحَدٌ عَنْ يَسَارِهِ) بأن كان مصليًا مع الإمام ( رَدَّ عَلَيْهِ) ولعل مالكًا ذكر حديث ابن عمر هذا الموقوف عليه لما فيه من أن المأموم يسلم ثلاثًا إن كان على يساره أحد لأنه المشهور من قول مالك وقال الأئمة الثلاثة وغيرهم: على كل مصل تسليمتان عن يمينه وشماله ولو مأمومًا، وإلا فمالك لا يقول بما في خبر ابن عمر هذا من البسملة في أوله وإبداله أشهد بشهدت والدعاء في التشهد الأول وإعادة السلام على النبي والصالحين بعد الدعاء وقبل السلام ولا إبدال عليك أيها النبي بالسلام على النبي.

( مَالِكٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهَا كَانَتْ تَقُولُ: إِذَا تَشَهَّدَتِ التَّحِيَّاتُ الطَّيِّبَاتُ الصَّلَوَاتُ الزَّاكِيَاتُ لِلَّهِ) فتسقط لفظ لله عقب التحيات والصلوات بخلاف ما في حديث عمر وابن مسعود وابن عباس إثباتها وهي مرفوعة فتقدم على الموقوف.

( أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ) وزادت على حديث عمر ( وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ) وكذا ثبتت هذه الزيادة في حديث أبي موسى مرفوعًا عند مسلم، وكذا في حديث ابن مسعود عند ابن أبي شيبة وسنده ضعيف، وكذا في حديث ابن عمر مرفوعًا عند الدارقطني لكن سنده ضعيف، وقد روى أبو داود من وجه صحيح عن ابن عمر في التشهد أشهد أن لا إله إلا الله.
قال ابن عمر: زدت فيها وحده لا شريك له وهذا ظاهره الوقف.

( وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ) لم تختلف الطرق عنها ولا عن ابن مسعود في ذلك، وكذا في حديث أبي موسى وابن عمر وجابر والزبير عند الطحاوي وغيره.
وروى عبد الرزاق عن ابن جريج عن عطاء قال: بينا النبي صلى الله عليه وسلم يعلم الناس التشهد إذ قال رجل وأشهد أن محمدًا رسوله وعبده فقال صلى الله عليه وسلم: لقد كنت عبدًا قبل أن أكون رسولاً قل عبده ورسوله رجاله ثقات وهو مرسل.
وفي حديث ابن عباس عند مسلم وغيره: وأشهد أن محمدًا رسول الله ومنهم من حذف أشهد.

ورواه ابن ماجه بلفظ ابن مسعود ( السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ) قال التوربشتي: السلام بمعنى السلامة كالمقام والمقامة، والسلام اسم من أسماء الله تعالى وضع المصدر موضع الاسم مبالغة، والمعنى أنه سالم من كل عيب وآفة ونقص وفساد، ومعنى السلام عليك الدعاء أي سلمت من المكاره، وقيل معناه اسم السلام عليك كأنه برك عليه باسم الله.

فإن قيل: كيف شرع هذا اللفظ وهو خطاب بشر مع أنه منهي عنه في الصلاة؟ فالجواب: أن ذلك من خصائصه صلى الله عليه وسلم.

( السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِين) القائمين بحق الله وحق العباد تعميم بعد تخصيص ( السَّلَامُ عَلَيْكُمْ) للخروج من الصلاة.

( مَالِكٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيِّ عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَتْ تَقُولُ: إِذَا تَشَهَّدَتْ) في الصلاة ( التَّحِيَّاتُ الطَّيِّبَاتُ الصَّلَوَاتُ الزَّاكِيَاتُ لِلَّهِ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ) سأل الطيبي عن حكمة العدول عن الغيبة إلى الخطاب في هذا مع أن لفظ الغيبة هو مقتضى السياق كأن يقول السلام على النبي فينتقل من تحية الله إلى تحية النبي ثم إلى تحية النفس ثم إلى الصالحين.
وأجاب بما حاصله نحن نتبع لفظ الرسول بعينه الذي علمه للصحابة، ويحتمل أن يقال على طريقة أهل العرفان إن المصلين لما استفتحوا باب الملكوت بالتحيات أذن لهم بالدخول في حرم الحي الذي لا يموت فقرت أعينهم بالمناجاة فنبهوا على أن ذلك بواسطة نبي الرحمة وبركة متابعته فالتفتوا فإذا الحبيب في حرم الحبيب حاضر، فأقبلوا عليه قائلين: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، وقدح الحافظ في وجه هذا الاحتمال بما تقدم أنه صح المغايرة بين حياته صلى الله عليه وسلم فيقول بالخطاب وبعد مماته فيقول على النبي بلفظ الغيبة اهـ.

لكن المقرر في الفروع إنما يقال: السلام عليك أيها النبي ولو بعد وفاته اتباعًا لأمره وتعليمه فتمت النكتة، ثم قال الحافظ فإن قيل: لم عدل عن الوصف بالرسالة إلى الوصف بالنبوة مع أن وصف الرسالة أعم في حق البشر؟ أجاب بعضهم: بأن حكمة ذلك أن يجمع له الوصفين لأنه وصف بالرسالة في آخر التشهد وإن كان الرسول البشري يستلزم النبوة، لكن التصريح بهما أبلغ.
قيل: وحكمة تقديم وصف النبوة أنها كذلك وجدت في الخارج لنزول قوله تعالى: { { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ } } قبل قوله: { { يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ } }

( السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ) قال ابن عبد البر: روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يسلم تسليمة واحدة من طرق معلولة لا تصح، لكن روي عن الخلفاء الأربعة وابن عمر وأنس وابن أبي أوفى وجمع من التابعين أنهم كانوا يسلمون واحدة، واختلف عن أكثرهم فروي عنهم تسليمتان كما رويت الواحدة، والعمل المشهور المتواتر بالمدينة التسليمة الواحدة، ومثل هذا يصح الاحتجاج به لوقوعه في كل يوم مرارًا والحجة له قوله صلى الله عليه وسلم: تحليلها التسليم والواحدة يقع عليها اسم التسليم وعنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يسلم تسليمتين من وجوه كثيرة صحاح.

( مَالِكٍ أَنَّهُ سَأَلَ ابْنَ شِهَابٍ وَنَافِعًا مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ عَنْ رَجُلٍ دَخَلَ مَعَ الْإِمَامِ فِي الصَّلَاةِ وَقَدْ سَبَقَهُ الْإِمَامُ بِرَكْعَةٍ أَيَتَشَهَّدُ مَعَهُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ وَالْأَرْبَعِ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لَهُ وِتْرًا فَقَالَا لِيَتَشَهَّدْ مَعَهُ.
قَالَ مَالِكٌ: وَهُوَ الْأَمْرُ عِنْدَنَا)
بالمدينة وهذا مما لا نزاع فيه لحديث إنما جعل الإمام ليؤتم به فلا تختلفوا عليه.



رقم الحديث 205 وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ يَتَشَهَّدُ فَيَقُولُ: بِسْمِ اللَّهِ، التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ، الصَّلَوَاتُ لِلَّهِ، الزَّاكِيَاتُ لِلَّهِ، السَّلَامُ عَلَى النَّبِيِّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ، شَهِدْتُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، شَهِدْتُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، يَقُولُ هَذَا فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ.
وَيَدْعُو، إِذَا قَضَى تَشَهُّدَهُ، بِمَا بَدَا لَهُ.
فَإِذَا جَلَسَ فِي آخِرِ صَلَاتِهِ، تَشَهَّدَ كَذَلِكَ أَيْضًا، إِلَّا أَنَّهُ يُقَدِّمُ التَّشَهُّدَ، ثُمَّ يَدْعُو بِمَا بَدَا لَهُ.
فَإِذَا قَضَى تَشَهُّدَهُ، وَأَرَادَ أَنْ يُسَلِّمَ، قَالَ: السَّلَامُ عَلَى النَّبِيِّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ، السَّلَامُ عَلَيْكُمْ عَنْ يَمِينِهِ، ثُمَّ يَرُدُّ عَلَى الْإِمَامِ.
فَإِنْ سَلَّمَ عَلَيْهِ أَحَدٌ عَنْ يَسَارِهِ، رَدَّ عَلَيْهِ.


( مَالِكٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدٍ) بغير إضافة ( الْقَارِيِّ) بتشديد الياء نسبة إلى قارة بطن من خزيمة بن مدركة المدني عامل عمر على بيت المال يقال: إنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم، وذكره العجلي في ثقات التابعين، واختلف قول الواقدي فيه قال تارة له صحبة وتارة تابعي مات سنة ثمان وثمانين.

( أَنَّهُ سَمِعَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ يُعَلِّمُ النَّاسَ التَّشَهُّدَ) قال في الاستذكار: ما أورده مالك عن عمر وابنه وعائشة حكمه الرفع، لأن من المعلوم أنه لا يقال بالرأي ولو كان رأيًا لم يكن ذلك القول من الذكر أولى من غيره من سائر الأذكار فلم يبق إلا أن يكون توقيفًا، وقد رفعه غير مالك عن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم.

( يَقُولُ: قُولُوا التَّحِيَّاتُ) جمع تحية ومعناها السلام أو البقاء أو العظمة أو السلامة من الآفات والنقص أو الملك ( لِلَّهِ) وقال أبو سعيد الضرير: ليست التحية الملك نفسه لكنها الكلام الذي يحيى به الملك.
وقال ابن قتيبة: لم يكن يحيى إلا الملك خاصة وكان لكل ملك تحية تخصه، فلهذا جمعت، وكان المعنى التحيات التي كانوا يسلمون بها على الملوك كقولهم: أنعم صباحًا وأبيت اللعن وعش كذا سنة كلها مستحقة لله.
وقال الخطابي ثم البغوي: ولم يكن في تحياتهم شيء يصلح للثناء على الله فلذا أبهمت ألفاظها واستعمل منها معنى التعظيم فقال: قولوا التحيات لله أي أنواع الثناء والتعظيم له، وقال المحب الطبري: يحتمل أن لفظ التحية مشترك بين المعاني المتقدمة وكونها بمعنى السلام أنسب هنا.

( الزَّاكِيَاتُ لِلَّهِ) قال ابن حبيب: هي صالح الأعمال التي يزكو لصاحبها الثواب في الآخرة ( الطَّيِّبَاتُ) أي ما طاب من القول وحسن أن يثنى به على الله دون ما لا يليق بصفاته مما كان الملوك يحيون به، وقيل: الطيبات ذكر الله، وقيل الأقوال الصالحة كالدعاء والثناء، وقيل الأعمال الصالحة وهو أعم ( الصَّلَوَاتُ) الخمس أو ما هو أعم من الفرائض والنوافل في كل شريعة أو العبادات كلها أو الدعوات أو الرحمة ( لِلَّهِ) على عباده، وقيل التحيات العبادات القولية، والطيبات الصدقات المالية والصلوات العبادات الفعلية ( السَّلَامُ) قال النووي: يجوز فيه وفيما بعده حذف اللام، وإثباتها والإثبات أفضل وهو الموجود في روايات الصحيحين.

وقال الحافظ: لم يقع في شيء من طرق حديث ابن مسعود بحذف اللام، وإنما اختلف في ذلك في حديث ابن عباس وهو من أفراد مسلم.
قال الطيبي: والتعريف للعهد التقديري أي ذلك السلام الذي وجه إلى الأنبياء والرسل ( عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ) أي إحسانه ( وَبَرَكَاتُهُ) وأما للجنس بمعنى أن حقيقة السلام الذي يعرفه كل أحد وعمن يصدر وعلى من ينزل عليك، ويجوز أن يكون للعهد الخارجي إشارة إلى قوله تعالى: { { وَسَلاَمٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى } } قال: ولا شك أن هذه التقديرات أولى من تقدير النكرة لأن أصل سلام عليك سلمت سلامًا عليك، ثم حذف الفعل وأقيم المصدر مقامه وعدل عن النصب إلى الرفع على الابتداء للدلالة على ثبوت المعنى واستقراره اهـ.

وذكر صاحب الإقليد عن أبي حامد أن التنكير فيه للتعظيم وهو وجه من وجوه الترجيح لا يقف عن الوجوه المتقدمة ( السَّلَامُ) الذي وجه إلى الأمم السالفة من الصلحاء ( عَلَيْنَا) يريد به المصلي نفسه والحاضرين من الإمام والمأمومين والملائكة وفيه استحباب البداءة بالنفس في الدعاء.
وفي الترمذي مصححًا من حديث أبي بن كعب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا ذكر أحدًا فدعا له بدأ بنفسه، وأصله في مسلم ومنه قول نوح وإبراهيم كما في التنزيل ( وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِين) جمع صالح والأشهر في تفسيره أنه القائم بما يجب عليه من حقوق الله تعالى وحقوق عباده وتتفاوت درجاته.

قال الترمذي الحكيم: من أراد أن يحظى بهذا السلام الذي يسلمه الخلق في صلاتهم فليكن عبدًا صالحًا وإلا حرم هذا الفضل العظيم.
وقال الفاكهاني: ينبغي للمصلي أن يستحضر في هذا المحل جميع الأنبياء والملائكة والمؤمنين ليتوافق لفظه مع قصده.
وقال البيضاوي: علمهم أن يفردوه صلى الله عليه وسلم بالذكر لشرفه ومزيد حقه عليهم ثم علمهم أن يخصصوا أنفسهم أولاً لأن الاهتمام بها أهم ثم أمرهم بتعميم السلام على الصالحين إعلامًا منه بأن الدعاء للمؤمنين ينبغي أن يكون شاملاً لهم.

( أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ) زاد في حديث عائشة الآتي وحده لا شريك له ( وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ) وقد اختار مالك وأصحابه تشهد عمر هذا لكونه كان يعلمه الناس على المنبر والصحابة متوافرون فلم ينكره عليه أحد، فدل ذلك على أنه أفضل من غيره، وتعقب بأنه موقوف فلا يلحق بالمرفوع، ورد بأن ابن مردويه رواه في كتاب التشهد مرفوعًا، واختار الشافعي تشهد ابن عباس وهو ما رواه مسلم وأصحاب السنن عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا التشهد كما يعلمنا السورة من القرآن وكان يقول: التحيات المباركات الصلوات الطيبات لله السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله.
وهذا قريب من حديث عمر إلا أنه أبدل الزاكيات بالمباركات.

قال الحافظ: وكأنها بالمعنى واختار أبو حنيفة وأحمد وأصحاب الحديث، وأكثر العلماء تشهد ابن مسعود وهو ما أخرجه الأئمة الستة عنه قال: كنا إذا صلينا خلف النبي صلى الله عليه وسلم قلنا السلام على الله السلام على جبريل وميكائيل السلام على فلان وفلان، فالتفت إلينا رسول الله فقال: إن الله هو السلام فإذا صلى أحدكم فليقل التحيات لله والصلوات والطيبات السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين فإنكم إذا قلتموها أصابت كل عبد لله صالح في السماء والأرض أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله قال الترمذي: هذا أصح حديث في التشهد.

وقال البزار لما سئل عن أصح حديث في التشهد: هو عندي حديث ابن مسعود روي من نيف وعشرين طريقًا ثم سرد أكثرها وقال: لا أعلم في التشهد أثبت منه ولا أصح أسانيد ولا أشهر رجالاً.

قال الحافظ: ولا خلاف بين أهل الحديث في ذلك، وممن جزم بذلك البغوي في شرح السنة، ومن مرجحاته أنه متفق عليه دون غيره، وأن الرواة عنه من الثقات لم يختلفوا في ألفاظه بخلاف غيره وأنه تلقاه تلقينًا فروى الطحاوي عنه قال: أخذت التشهد من في رسول الله صلى الله عليه وسلم ولقننيه كلمة كلمة.
وفي البخاري عن ابن مسعود: علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم التشهد وكفي بين كفيه كما يعلمني السورة من القرآن، ورجح أيضًا ثبوت الواو في الصلوات والطيبات وهو يقتضي المغايرة بين المعطوف والمعطوف عليه فيكون كل جملة ثناء مستقلاً بخلاف حذفها فيكون صفة لما قبلها وتعدد الثناء في الأول صريح فيكون أولى، ولو قيل إن الواو مقدرة في الثاني وبأنه ورد بصيغة الأمر بخلاف غيره فمجرد حكاية، ولأحمد عنه أنه صلى الله عليه وسلم علمه التشهد وأمره أن يعلمه الناس فدل ذلك على مزيته اهـ.

وقد ورد حديث عمر بالأمر أيضًا كما رأيت فدل ذلك مع عدم الإنكار على المزية وهذا الاختلاف كله إنما هو في الأفضل، ولذا قال ابن عبد البر: كل حسن متقارب المعنى إنما فيه كلمة زائدة أو ناقصة، وتسليم الصحابة لعمر ذلك مع اختلاف رواياتهم دليل على الإباحة والتوسعة.

( مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ يَتَشَهَّدُ فَيَقُولُ: بِسْمِ اللَّهِ) في أوله كذا وقع موقوفًا عليه ووردت أيضًا في حديث أبيه عمر من رواية هشام بن عروة عند سعيد بن منصور وعبد الرزاق وغيرهما، وعورض برواية مالك عن الزهري حديث عمر وليست فيه، وفي حديث جابر المرفوع عند النسائي وابن ماجه والترمذي في العلل بلفظ: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا التشهد كما يعلمنا السورة من القرآن باسم الله وبالله التحيات إلى آخره وصححه الحاكم لكن ضعفه الحفاظ البخاري والترمذي والنسائي والبيهقي وغيرهم وقالوا: إن راويه أخطأ فيه ويدل على ذلك أنه ثبت في حديث أبي موسى مرفوعًا: فإذا قعد أحدكم فليكن أول قوله التحيات لله رواه عبد الرزاق وغيره، وقد أنكر ابن مسعود وابن عباس وغيرهما على من زادها أخرجه البيهقي وغيره.

وبالجملة؛ لم يصح زيادة البسملة كما قاله الحافظ، ولذا قال في المدونة: لم يعرف مالك في أوله باسم الله أي لم يعرفه في حديث صحيح مرفوع فلا ينافي أنه قد رواه هنا عن ابن عمر موقوفًا.

( التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ الصَّلَوَاتُ لِلَّهِ) لا يجوز أن يقصد بها غيره أو هو عبارة عن قصد إخلاصنا له ( الزَّاكِيَاتُ لِلَّهِ) وفي حديث ابن عباس المباركات بدل الزاكيات وهو مناسب لقوله تعالى: { { تَحِيَّةً مِّنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً } } ( السَّلَامُ عَلَى النَّبِيِّ) كذا وقع بإسقاط كاف الخطاب ولفظ أيها.

قال في فتح الباري: وورد في بعض طرق حديث ابن مسعود ما يقتضي المغايرة بين زمانه صلى الله عليه وسلم فيقال بلفظ الخطاب وبعده فبلفظ الغيبة فروى البخاري في الاستئذان من طريق أبي معمر عن ابن مسعود بعد أن ساق حديث التشهد قال: وهو بين ظهرانينا، فلما قبض قلنا السلام يعني على النبي.
ورواه أبو عوانة والسراج والجوزقي وأبو نعيم الأصبهاني والبيهقي من طرق متعددة من طريق أبي نعيم شيخ البخاري فيه بلفظ: فلما قبض قلنا السلام على النبي بحذف لفظ يعني، وكذا رواه أبو بكر بن أبي شيبة عن أبي نعيم وهذا صحيح بلا ريب وقد وجدت له متابعًا قويًا.

قال ابن عبد الرزاق: أخبرنا ابن جريج أخبرني عطاء أن الصحابة كانوا يقولون والنبي صلى الله عليه وسلم حي: السلام عليك أيها النبي فلما مات قالوا السلام على النبي وهذا إسناد صحيح، وما رواه سعيد بن منصور من طريق أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم علمهم التشهد فذكره قال فقال ابن عباس: إنما كنا نقول السلام عليك أيها النبي إذا كان حيًا فقال ابن مسعود: هكذا علمنا وهكذا نعلم فظاهره أن ابن عباس قاله بحثًا وأن ابن مسعود لم يرجع إليه لكن رواية أبي معمر أصح لأن أبا عبيدة لم يسمع من أبيه والإسناد إليه مع ذلك ضعيف اهـ.

( وَرَحْمَةُ اللَّهِ) أي إحسانه ( وَبَرَكَاتُهُ) أي زيادة من كل خير ( السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِين) استنبط منه السبكي أن في الصلاة حقًا للعباد مع حق الله وأن من تركها أخل بحق جميع المسلمين من مضى ومن يجيء إلى يوم القيامة لقوله السلام علينا إلخ.
وفي فتاوى القفال تركها يضر بجميع المسلمين لأن المصلي يقول ذلك في التشهد فيكون التارك مقصرًا في خدمة الله وفي حق نفسه وفي حق كافة الناس ولذا عظمت المعصية بتركها ( شَهِدْتُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ شَهِدْتُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ) هذا مخالف للمروي في الأحاديث الصحيحة بلفظ أشهد في الموضعين وهو الذي عليه المعول والعمل ( يَقُولُ هَذَا) ابن عمر ( فِي) التشهد الواقع بعد ( الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ وَيَدْعُو) ابن عمر ( إِذَا قَضَى تَشَهُّدَهُ) المذكور ( بِمَا بَدَا لَهُ) وأجازه مالك في رواية ابن نافع والمذهب رواية علي وغيره عنه كراهة الدعاء في التشهد الأول لأن المطلوب تقصيره.

( فَإِذَا جَلَسَ فِي آخِرِ صَلَاتِهِ تَشَهَّدَ كَذَلِكَ أَيْضًا إِلَّا أَنَّهُ يُقَدِّمُ التَّشَهُّدَ ثُمَّ يَدْعُو بِمَا بَدَا لَهُ) من أمر الدنيا والآخرة لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث ابن مسعود بعد التشهد: ثم يتخير من الدعاء أعجبه إليه فيدعو به وخالف في ذلك طاوس والنخعي وأبو حنيفة فقالوا: لا يدعو في الصلاة إلا بما في القرآن كذا أطلق ابن بطال وجماعة عن أبي حنيفة والموجود في كتب الحنفية أنه لا يدعو في الصلاة إلا بما في القرآن أو ثبت في الحديث أو كان مأثورًا أعم من أن يكون مرفوعًا أو غير مرفوع، لكن ظاهر الحديث يرد عليهم، وكذا يرد على قول ابن سيرين لا يدعو في الصلاة إلا بأمر الآخرة، واستثنى بعض الشافعية ما يقبح من أمر الدنيا فإن أراد الفاحش من اللفظ فمحتمل وإلا فلا شك أن الدعاء بالأمور المحرمة مطلقًا لا يجوز، ذكره الحافظ.

( فَإِذَا قَضَى تَشَهُّدَهُ وَأَرَادَ أَنْ يُسَلِّمَ قَالَ: السَّلَامُ عَلَى النَّبِيِّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ) وهذه زيادة تكرير في التشهد كأن ابن عمر اختاره ليختمه بالسلام على النبي والصالحين لأنه فصل بين التشهد والسلام بالدعاء، وروى علي عن مالك استحباب ذلك.
قال الباجي: ولا يثبت ( السَّلَامُ عَلَيْكُمْ عَنْ يَمِينِهِ) تسليمة التحليل ( ثُمَّ يَرُدُّ عَلَى الْإِمَامِ فَإِنْ سَلَّمَ عَلَيْهِ أَحَدٌ عَنْ يَسَارِهِ) بأن كان مصليًا مع الإمام ( رَدَّ عَلَيْهِ) ولعل مالكًا ذكر حديث ابن عمر هذا الموقوف عليه لما فيه من أن المأموم يسلم ثلاثًا إن كان على يساره أحد لأنه المشهور من قول مالك وقال الأئمة الثلاثة وغيرهم: على كل مصل تسليمتان عن يمينه وشماله ولو مأمومًا، وإلا فمالك لا يقول بما في خبر ابن عمر هذا من البسملة في أوله وإبداله أشهد بشهدت والدعاء في التشهد الأول وإعادة السلام على النبي والصالحين بعد الدعاء وقبل السلام ولا إبدال عليك أيها النبي بالسلام على النبي.

( مَالِكٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهَا كَانَتْ تَقُولُ: إِذَا تَشَهَّدَتِ التَّحِيَّاتُ الطَّيِّبَاتُ الصَّلَوَاتُ الزَّاكِيَاتُ لِلَّهِ) فتسقط لفظ لله عقب التحيات والصلوات بخلاف ما في حديث عمر وابن مسعود وابن عباس إثباتها وهي مرفوعة فتقدم على الموقوف.

( أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ) وزادت على حديث عمر ( وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ) وكذا ثبتت هذه الزيادة في حديث أبي موسى مرفوعًا عند مسلم، وكذا في حديث ابن مسعود عند ابن أبي شيبة وسنده ضعيف، وكذا في حديث ابن عمر مرفوعًا عند الدارقطني لكن سنده ضعيف، وقد روى أبو داود من وجه صحيح عن ابن عمر في التشهد أشهد أن لا إله إلا الله.
قال ابن عمر: زدت فيها وحده لا شريك له وهذا ظاهره الوقف.

( وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ) لم تختلف الطرق عنها ولا عن ابن مسعود في ذلك، وكذا في حديث أبي موسى وابن عمر وجابر والزبير عند الطحاوي وغيره.
وروى عبد الرزاق عن ابن جريج عن عطاء قال: بينا النبي صلى الله عليه وسلم يعلم الناس التشهد إذ قال رجل وأشهد أن محمدًا رسوله وعبده فقال صلى الله عليه وسلم: لقد كنت عبدًا قبل أن أكون رسولاً قل عبده ورسوله رجاله ثقات وهو مرسل.
وفي حديث ابن عباس عند مسلم وغيره: وأشهد أن محمدًا رسول الله ومنهم من حذف أشهد.

ورواه ابن ماجه بلفظ ابن مسعود ( السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ) قال التوربشتي: السلام بمعنى السلامة كالمقام والمقامة، والسلام اسم من أسماء الله تعالى وضع المصدر موضع الاسم مبالغة، والمعنى أنه سالم من كل عيب وآفة ونقص وفساد، ومعنى السلام عليك الدعاء أي سلمت من المكاره، وقيل معناه اسم السلام عليك كأنه برك عليه باسم الله.

فإن قيل: كيف شرع هذا اللفظ وهو خطاب بشر مع أنه منهي عنه في الصلاة؟ فالجواب: أن ذلك من خصائصه صلى الله عليه وسلم.

( السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِين) القائمين بحق الله وحق العباد تعميم بعد تخصيص ( السَّلَامُ عَلَيْكُمْ) للخروج من الصلاة.

( مَالِكٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيِّ عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَتْ تَقُولُ: إِذَا تَشَهَّدَتْ) في الصلاة ( التَّحِيَّاتُ الطَّيِّبَاتُ الصَّلَوَاتُ الزَّاكِيَاتُ لِلَّهِ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ) سأل الطيبي عن حكمة العدول عن الغيبة إلى الخطاب في هذا مع أن لفظ الغيبة هو مقتضى السياق كأن يقول السلام على النبي فينتقل من تحية الله إلى تحية النبي ثم إلى تحية النفس ثم إلى الصالحين.
وأجاب بما حاصله نحن نتبع لفظ الرسول بعينه الذي علمه للصحابة، ويحتمل أن يقال على طريقة أهل العرفان إن المصلين لما استفتحوا باب الملكوت بالتحيات أذن لهم بالدخول في حرم الحي الذي لا يموت فقرت أعينهم بالمناجاة فنبهوا على أن ذلك بواسطة نبي الرحمة وبركة متابعته فالتفتوا فإذا الحبيب في حرم الحبيب حاضر، فأقبلوا عليه قائلين: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، وقدح الحافظ في وجه هذا الاحتمال بما تقدم أنه صح المغايرة بين حياته صلى الله عليه وسلم فيقول بالخطاب وبعد مماته فيقول على النبي بلفظ الغيبة اهـ.

لكن المقرر في الفروع إنما يقال: السلام عليك أيها النبي ولو بعد وفاته اتباعًا لأمره وتعليمه فتمت النكتة، ثم قال الحافظ فإن قيل: لم عدل عن الوصف بالرسالة إلى الوصف بالنبوة مع أن وصف الرسالة أعم في حق البشر؟ أجاب بعضهم: بأن حكمة ذلك أن يجمع له الوصفين لأنه وصف بالرسالة في آخر التشهد وإن كان الرسول البشري يستلزم النبوة، لكن التصريح بهما أبلغ.
قيل: وحكمة تقديم وصف النبوة أنها كذلك وجدت في الخارج لنزول قوله تعالى: { { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ } } قبل قوله: { { يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ } }

( السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ) قال ابن عبد البر: روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يسلم تسليمة واحدة من طرق معلولة لا تصح، لكن روي عن الخلفاء الأربعة وابن عمر وأنس وابن أبي أوفى وجمع من التابعين أنهم كانوا يسلمون واحدة، واختلف عن أكثرهم فروي عنهم تسليمتان كما رويت الواحدة، والعمل المشهور المتواتر بالمدينة التسليمة الواحدة، ومثل هذا يصح الاحتجاج به لوقوعه في كل يوم مرارًا والحجة له قوله صلى الله عليه وسلم: تحليلها التسليم والواحدة يقع عليها اسم التسليم وعنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يسلم تسليمتين من وجوه كثيرة صحاح.

( مَالِكٍ أَنَّهُ سَأَلَ ابْنَ شِهَابٍ وَنَافِعًا مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ عَنْ رَجُلٍ دَخَلَ مَعَ الْإِمَامِ فِي الصَّلَاةِ وَقَدْ سَبَقَهُ الْإِمَامُ بِرَكْعَةٍ أَيَتَشَهَّدُ مَعَهُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ وَالْأَرْبَعِ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لَهُ وِتْرًا فَقَالَا لِيَتَشَهَّدْ مَعَهُ.
قَالَ مَالِكٌ: وَهُوَ الْأَمْرُ عِنْدَنَا)
بالمدينة وهذا مما لا نزاع فيه لحديث إنما جعل الإمام ليؤتم به فلا تختلفوا عليه.



رقم الحديث 207 وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهَا كَانَتْ تَقُولُ، إِذَا تَشَهَّدَتِ: التَّحِيَّاتُ الطَّيِّبَاتُ، الصَّلَوَاتُ الزَّاكِيَاتُ لِلَّهِ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ، السَّلَامُ عَلَيْكُمْ.


( مَالِكٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدٍ) بغير إضافة ( الْقَارِيِّ) بتشديد الياء نسبة إلى قارة بطن من خزيمة بن مدركة المدني عامل عمر على بيت المال يقال: إنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم، وذكره العجلي في ثقات التابعين، واختلف قول الواقدي فيه قال تارة له صحبة وتارة تابعي مات سنة ثمان وثمانين.

( أَنَّهُ سَمِعَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ يُعَلِّمُ النَّاسَ التَّشَهُّدَ) قال في الاستذكار: ما أورده مالك عن عمر وابنه وعائشة حكمه الرفع، لأن من المعلوم أنه لا يقال بالرأي ولو كان رأيًا لم يكن ذلك القول من الذكر أولى من غيره من سائر الأذكار فلم يبق إلا أن يكون توقيفًا، وقد رفعه غير مالك عن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم.

( يَقُولُ: قُولُوا التَّحِيَّاتُ) جمع تحية ومعناها السلام أو البقاء أو العظمة أو السلامة من الآفات والنقص أو الملك ( لِلَّهِ) وقال أبو سعيد الضرير: ليست التحية الملك نفسه لكنها الكلام الذي يحيى به الملك.
وقال ابن قتيبة: لم يكن يحيى إلا الملك خاصة وكان لكل ملك تحية تخصه، فلهذا جمعت، وكان المعنى التحيات التي كانوا يسلمون بها على الملوك كقولهم: أنعم صباحًا وأبيت اللعن وعش كذا سنة كلها مستحقة لله.
وقال الخطابي ثم البغوي: ولم يكن في تحياتهم شيء يصلح للثناء على الله فلذا أبهمت ألفاظها واستعمل منها معنى التعظيم فقال: قولوا التحيات لله أي أنواع الثناء والتعظيم له، وقال المحب الطبري: يحتمل أن لفظ التحية مشترك بين المعاني المتقدمة وكونها بمعنى السلام أنسب هنا.

( الزَّاكِيَاتُ لِلَّهِ) قال ابن حبيب: هي صالح الأعمال التي يزكو لصاحبها الثواب في الآخرة ( الطَّيِّبَاتُ) أي ما طاب من القول وحسن أن يثنى به على الله دون ما لا يليق بصفاته مما كان الملوك يحيون به، وقيل: الطيبات ذكر الله، وقيل الأقوال الصالحة كالدعاء والثناء، وقيل الأعمال الصالحة وهو أعم ( الصَّلَوَاتُ) الخمس أو ما هو أعم من الفرائض والنوافل في كل شريعة أو العبادات كلها أو الدعوات أو الرحمة ( لِلَّهِ) على عباده، وقيل التحيات العبادات القولية، والطيبات الصدقات المالية والصلوات العبادات الفعلية ( السَّلَامُ) قال النووي: يجوز فيه وفيما بعده حذف اللام، وإثباتها والإثبات أفضل وهو الموجود في روايات الصحيحين.

وقال الحافظ: لم يقع في شيء من طرق حديث ابن مسعود بحذف اللام، وإنما اختلف في ذلك في حديث ابن عباس وهو من أفراد مسلم.
قال الطيبي: والتعريف للعهد التقديري أي ذلك السلام الذي وجه إلى الأنبياء والرسل ( عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ) أي إحسانه ( وَبَرَكَاتُهُ) وأما للجنس بمعنى أن حقيقة السلام الذي يعرفه كل أحد وعمن يصدر وعلى من ينزل عليك، ويجوز أن يكون للعهد الخارجي إشارة إلى قوله تعالى: { { وَسَلاَمٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى } } قال: ولا شك أن هذه التقديرات أولى من تقدير النكرة لأن أصل سلام عليك سلمت سلامًا عليك، ثم حذف الفعل وأقيم المصدر مقامه وعدل عن النصب إلى الرفع على الابتداء للدلالة على ثبوت المعنى واستقراره اهـ.

وذكر صاحب الإقليد عن أبي حامد أن التنكير فيه للتعظيم وهو وجه من وجوه الترجيح لا يقف عن الوجوه المتقدمة ( السَّلَامُ) الذي وجه إلى الأمم السالفة من الصلحاء ( عَلَيْنَا) يريد به المصلي نفسه والحاضرين من الإمام والمأمومين والملائكة وفيه استحباب البداءة بالنفس في الدعاء.
وفي الترمذي مصححًا من حديث أبي بن كعب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا ذكر أحدًا فدعا له بدأ بنفسه، وأصله في مسلم ومنه قول نوح وإبراهيم كما في التنزيل ( وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِين) جمع صالح والأشهر في تفسيره أنه القائم بما يجب عليه من حقوق الله تعالى وحقوق عباده وتتفاوت درجاته.

قال الترمذي الحكيم: من أراد أن يحظى بهذا السلام الذي يسلمه الخلق في صلاتهم فليكن عبدًا صالحًا وإلا حرم هذا الفضل العظيم.
وقال الفاكهاني: ينبغي للمصلي أن يستحضر في هذا المحل جميع الأنبياء والملائكة والمؤمنين ليتوافق لفظه مع قصده.
وقال البيضاوي: علمهم أن يفردوه صلى الله عليه وسلم بالذكر لشرفه ومزيد حقه عليهم ثم علمهم أن يخصصوا أنفسهم أولاً لأن الاهتمام بها أهم ثم أمرهم بتعميم السلام على الصالحين إعلامًا منه بأن الدعاء للمؤمنين ينبغي أن يكون شاملاً لهم.

( أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ) زاد في حديث عائشة الآتي وحده لا شريك له ( وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ) وقد اختار مالك وأصحابه تشهد عمر هذا لكونه كان يعلمه الناس على المنبر والصحابة متوافرون فلم ينكره عليه أحد، فدل ذلك على أنه أفضل من غيره، وتعقب بأنه موقوف فلا يلحق بالمرفوع، ورد بأن ابن مردويه رواه في كتاب التشهد مرفوعًا، واختار الشافعي تشهد ابن عباس وهو ما رواه مسلم وأصحاب السنن عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا التشهد كما يعلمنا السورة من القرآن وكان يقول: التحيات المباركات الصلوات الطيبات لله السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله.
وهذا قريب من حديث عمر إلا أنه أبدل الزاكيات بالمباركات.

قال الحافظ: وكأنها بالمعنى واختار أبو حنيفة وأحمد وأصحاب الحديث، وأكثر العلماء تشهد ابن مسعود وهو ما أخرجه الأئمة الستة عنه قال: كنا إذا صلينا خلف النبي صلى الله عليه وسلم قلنا السلام على الله السلام على جبريل وميكائيل السلام على فلان وفلان، فالتفت إلينا رسول الله فقال: إن الله هو السلام فإذا صلى أحدكم فليقل التحيات لله والصلوات والطيبات السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين فإنكم إذا قلتموها أصابت كل عبد لله صالح في السماء والأرض أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله قال الترمذي: هذا أصح حديث في التشهد.

وقال البزار لما سئل عن أصح حديث في التشهد: هو عندي حديث ابن مسعود روي من نيف وعشرين طريقًا ثم سرد أكثرها وقال: لا أعلم في التشهد أثبت منه ولا أصح أسانيد ولا أشهر رجالاً.

قال الحافظ: ولا خلاف بين أهل الحديث في ذلك، وممن جزم بذلك البغوي في شرح السنة، ومن مرجحاته أنه متفق عليه دون غيره، وأن الرواة عنه من الثقات لم يختلفوا في ألفاظه بخلاف غيره وأنه تلقاه تلقينًا فروى الطحاوي عنه قال: أخذت التشهد من في رسول الله صلى الله عليه وسلم ولقننيه كلمة كلمة.
وفي البخاري عن ابن مسعود: علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم التشهد وكفي بين كفيه كما يعلمني السورة من القرآن، ورجح أيضًا ثبوت الواو في الصلوات والطيبات وهو يقتضي المغايرة بين المعطوف والمعطوف عليه فيكون كل جملة ثناء مستقلاً بخلاف حذفها فيكون صفة لما قبلها وتعدد الثناء في الأول صريح فيكون أولى، ولو قيل إن الواو مقدرة في الثاني وبأنه ورد بصيغة الأمر بخلاف غيره فمجرد حكاية، ولأحمد عنه أنه صلى الله عليه وسلم علمه التشهد وأمره أن يعلمه الناس فدل ذلك على مزيته اهـ.

وقد ورد حديث عمر بالأمر أيضًا كما رأيت فدل ذلك مع عدم الإنكار على المزية وهذا الاختلاف كله إنما هو في الأفضل، ولذا قال ابن عبد البر: كل حسن متقارب المعنى إنما فيه كلمة زائدة أو ناقصة، وتسليم الصحابة لعمر ذلك مع اختلاف رواياتهم دليل على الإباحة والتوسعة.

( مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ يَتَشَهَّدُ فَيَقُولُ: بِسْمِ اللَّهِ) في أوله كذا وقع موقوفًا عليه ووردت أيضًا في حديث أبيه عمر من رواية هشام بن عروة عند سعيد بن منصور وعبد الرزاق وغيرهما، وعورض برواية مالك عن الزهري حديث عمر وليست فيه، وفي حديث جابر المرفوع عند النسائي وابن ماجه والترمذي في العلل بلفظ: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا التشهد كما يعلمنا السورة من القرآن باسم الله وبالله التحيات إلى آخره وصححه الحاكم لكن ضعفه الحفاظ البخاري والترمذي والنسائي والبيهقي وغيرهم وقالوا: إن راويه أخطأ فيه ويدل على ذلك أنه ثبت في حديث أبي موسى مرفوعًا: فإذا قعد أحدكم فليكن أول قوله التحيات لله رواه عبد الرزاق وغيره، وقد أنكر ابن مسعود وابن عباس وغيرهما على من زادها أخرجه البيهقي وغيره.

وبالجملة؛ لم يصح زيادة البسملة كما قاله الحافظ، ولذا قال في المدونة: لم يعرف مالك في أوله باسم الله أي لم يعرفه في حديث صحيح مرفوع فلا ينافي أنه قد رواه هنا عن ابن عمر موقوفًا.

( التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ الصَّلَوَاتُ لِلَّهِ) لا يجوز أن يقصد بها غيره أو هو عبارة عن قصد إخلاصنا له ( الزَّاكِيَاتُ لِلَّهِ) وفي حديث ابن عباس المباركات بدل الزاكيات وهو مناسب لقوله تعالى: { { تَحِيَّةً مِّنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً } } ( السَّلَامُ عَلَى النَّبِيِّ) كذا وقع بإسقاط كاف الخطاب ولفظ أيها.

قال في فتح الباري: وورد في بعض طرق حديث ابن مسعود ما يقتضي المغايرة بين زمانه صلى الله عليه وسلم فيقال بلفظ الخطاب وبعده فبلفظ الغيبة فروى البخاري في الاستئذان من طريق أبي معمر عن ابن مسعود بعد أن ساق حديث التشهد قال: وهو بين ظهرانينا، فلما قبض قلنا السلام يعني على النبي.
ورواه أبو عوانة والسراج والجوزقي وأبو نعيم الأصبهاني والبيهقي من طرق متعددة من طريق أبي نعيم شيخ البخاري فيه بلفظ: فلما قبض قلنا السلام على النبي بحذف لفظ يعني، وكذا رواه أبو بكر بن أبي شيبة عن أبي نعيم وهذا صحيح بلا ريب وقد وجدت له متابعًا قويًا.

قال ابن عبد الرزاق: أخبرنا ابن جريج أخبرني عطاء أن الصحابة كانوا يقولون والنبي صلى الله عليه وسلم حي: السلام عليك أيها النبي فلما مات قالوا السلام على النبي وهذا إسناد صحيح، وما رواه سعيد بن منصور من طريق أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم علمهم التشهد فذكره قال فقال ابن عباس: إنما كنا نقول السلام عليك أيها النبي إذا كان حيًا فقال ابن مسعود: هكذا علمنا وهكذا نعلم فظاهره أن ابن عباس قاله بحثًا وأن ابن مسعود لم يرجع إليه لكن رواية أبي معمر أصح لأن أبا عبيدة لم يسمع من أبيه والإسناد إليه مع ذلك ضعيف اهـ.

( وَرَحْمَةُ اللَّهِ) أي إحسانه ( وَبَرَكَاتُهُ) أي زيادة من كل خير ( السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِين) استنبط منه السبكي أن في الصلاة حقًا للعباد مع حق الله وأن من تركها أخل بحق جميع المسلمين من مضى ومن يجيء إلى يوم القيامة لقوله السلام علينا إلخ.
وفي فتاوى القفال تركها يضر بجميع المسلمين لأن المصلي يقول ذلك في التشهد فيكون التارك مقصرًا في خدمة الله وفي حق نفسه وفي حق كافة الناس ولذا عظمت المعصية بتركها ( شَهِدْتُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ شَهِدْتُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ) هذا مخالف للمروي في الأحاديث الصحيحة بلفظ أشهد في الموضعين وهو الذي عليه المعول والعمل ( يَقُولُ هَذَا) ابن عمر ( فِي) التشهد الواقع بعد ( الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ وَيَدْعُو) ابن عمر ( إِذَا قَضَى تَشَهُّدَهُ) المذكور ( بِمَا بَدَا لَهُ) وأجازه مالك في رواية ابن نافع والمذهب رواية علي وغيره عنه كراهة الدعاء في التشهد الأول لأن المطلوب تقصيره.

( فَإِذَا جَلَسَ فِي آخِرِ صَلَاتِهِ تَشَهَّدَ كَذَلِكَ أَيْضًا إِلَّا أَنَّهُ يُقَدِّمُ التَّشَهُّدَ ثُمَّ يَدْعُو بِمَا بَدَا لَهُ) من أمر الدنيا والآخرة لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث ابن مسعود بعد التشهد: ثم يتخير من الدعاء أعجبه إليه فيدعو به وخالف في ذلك طاوس والنخعي وأبو حنيفة فقالوا: لا يدعو في الصلاة إلا بما في القرآن كذا أطلق ابن بطال وجماعة عن أبي حنيفة والموجود في كتب الحنفية أنه لا يدعو في الصلاة إلا بما في القرآن أو ثبت في الحديث أو كان مأثورًا أعم من أن يكون مرفوعًا أو غير مرفوع، لكن ظاهر الحديث يرد عليهم، وكذا يرد على قول ابن سيرين لا يدعو في الصلاة إلا بأمر الآخرة، واستثنى بعض الشافعية ما يقبح من أمر الدنيا فإن أراد الفاحش من اللفظ فمحتمل وإلا فلا شك أن الدعاء بالأمور المحرمة مطلقًا لا يجوز، ذكره الحافظ.

( فَإِذَا قَضَى تَشَهُّدَهُ وَأَرَادَ أَنْ يُسَلِّمَ قَالَ: السَّلَامُ عَلَى النَّبِيِّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ) وهذه زيادة تكرير في التشهد كأن ابن عمر اختاره ليختمه بالسلام على النبي والصالحين لأنه فصل بين التشهد والسلام بالدعاء، وروى علي عن مالك استحباب ذلك.
قال الباجي: ولا يثبت ( السَّلَامُ عَلَيْكُمْ عَنْ يَمِينِهِ) تسليمة التحليل ( ثُمَّ يَرُدُّ عَلَى الْإِمَامِ فَإِنْ سَلَّمَ عَلَيْهِ أَحَدٌ عَنْ يَسَارِهِ) بأن كان مصليًا مع الإمام ( رَدَّ عَلَيْهِ) ولعل مالكًا ذكر حديث ابن عمر هذا الموقوف عليه لما فيه من أن المأموم يسلم ثلاثًا إن كان على يساره أحد لأنه المشهور من قول مالك وقال الأئمة الثلاثة وغيرهم: على كل مصل تسليمتان عن يمينه وشماله ولو مأمومًا، وإلا فمالك لا يقول بما في خبر ابن عمر هذا من البسملة في أوله وإبداله أشهد بشهدت والدعاء في التشهد الأول وإعادة السلام على النبي والصالحين بعد الدعاء وقبل السلام ولا إبدال عليك أيها النبي بالسلام على النبي.

( مَالِكٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهَا كَانَتْ تَقُولُ: إِذَا تَشَهَّدَتِ التَّحِيَّاتُ الطَّيِّبَاتُ الصَّلَوَاتُ الزَّاكِيَاتُ لِلَّهِ) فتسقط لفظ لله عقب التحيات والصلوات بخلاف ما في حديث عمر وابن مسعود وابن عباس إثباتها وهي مرفوعة فتقدم على الموقوف.

( أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ) وزادت على حديث عمر ( وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ) وكذا ثبتت هذه الزيادة في حديث أبي موسى مرفوعًا عند مسلم، وكذا في حديث ابن مسعود عند ابن أبي شيبة وسنده ضعيف، وكذا في حديث ابن عمر مرفوعًا عند الدارقطني لكن سنده ضعيف، وقد روى أبو داود من وجه صحيح عن ابن عمر في التشهد أشهد أن لا إله إلا الله.
قال ابن عمر: زدت فيها وحده لا شريك له وهذا ظاهره الوقف.

( وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ) لم تختلف الطرق عنها ولا عن ابن مسعود في ذلك، وكذا في حديث أبي موسى وابن عمر وجابر والزبير عند الطحاوي وغيره.
وروى عبد الرزاق عن ابن جريج عن عطاء قال: بينا النبي صلى الله عليه وسلم يعلم الناس التشهد إذ قال رجل وأشهد أن محمدًا رسوله وعبده فقال صلى الله عليه وسلم: لقد كنت عبدًا قبل أن أكون رسولاً قل عبده ورسوله رجاله ثقات وهو مرسل.
وفي حديث ابن عباس عند مسلم وغيره: وأشهد أن محمدًا رسول الله ومنهم من حذف أشهد.

ورواه ابن ماجه بلفظ ابن مسعود ( السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ) قال التوربشتي: السلام بمعنى السلامة كالمقام والمقامة، والسلام اسم من أسماء الله تعالى وضع المصدر موضع الاسم مبالغة، والمعنى أنه سالم من كل عيب وآفة ونقص وفساد، ومعنى السلام عليك الدعاء أي سلمت من المكاره، وقيل معناه اسم السلام عليك كأنه برك عليه باسم الله.

فإن قيل: كيف شرع هذا اللفظ وهو خطاب بشر مع أنه منهي عنه في الصلاة؟ فالجواب: أن ذلك من خصائصه صلى الله عليه وسلم.

( السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِين) القائمين بحق الله وحق العباد تعميم بعد تخصيص ( السَّلَامُ عَلَيْكُمْ) للخروج من الصلاة.

( مَالِكٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيِّ عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَتْ تَقُولُ: إِذَا تَشَهَّدَتْ) في الصلاة ( التَّحِيَّاتُ الطَّيِّبَاتُ الصَّلَوَاتُ الزَّاكِيَاتُ لِلَّهِ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ) سأل الطيبي عن حكمة العدول عن الغيبة إلى الخطاب في هذا مع أن لفظ الغيبة هو مقتضى السياق كأن يقول السلام على النبي فينتقل من تحية الله إلى تحية النبي ثم إلى تحية النفس ثم إلى الصالحين.
وأجاب بما حاصله نحن نتبع لفظ الرسول بعينه الذي علمه للصحابة، ويحتمل أن يقال على طريقة أهل العرفان إن المصلين لما استفتحوا باب الملكوت بالتحيات أذن لهم بالدخول في حرم الحي الذي لا يموت فقرت أعينهم بالمناجاة فنبهوا على أن ذلك بواسطة نبي الرحمة وبركة متابعته فالتفتوا فإذا الحبيب في حرم الحبيب حاضر، فأقبلوا عليه قائلين: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، وقدح الحافظ في وجه هذا الاحتمال بما تقدم أنه صح المغايرة بين حياته صلى الله عليه وسلم فيقول بالخطاب وبعد مماته فيقول على النبي بلفظ الغيبة اهـ.

لكن المقرر في الفروع إنما يقال: السلام عليك أيها النبي ولو بعد وفاته اتباعًا لأمره وتعليمه فتمت النكتة، ثم قال الحافظ فإن قيل: لم عدل عن الوصف بالرسالة إلى الوصف بالنبوة مع أن وصف الرسالة أعم في حق البشر؟ أجاب بعضهم: بأن حكمة ذلك أن يجمع له الوصفين لأنه وصف بالرسالة في آخر التشهد وإن كان الرسول البشري يستلزم النبوة، لكن التصريح بهما أبلغ.
قيل: وحكمة تقديم وصف النبوة أنها كذلك وجدت في الخارج لنزول قوله تعالى: { { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ } } قبل قوله: { { يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ } }

( السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ) قال ابن عبد البر: روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يسلم تسليمة واحدة من طرق معلولة لا تصح، لكن روي عن الخلفاء الأربعة وابن عمر وأنس وابن أبي أوفى وجمع من التابعين أنهم كانوا يسلمون واحدة، واختلف عن أكثرهم فروي عنهم تسليمتان كما رويت الواحدة، والعمل المشهور المتواتر بالمدينة التسليمة الواحدة، ومثل هذا يصح الاحتجاج به لوقوعه في كل يوم مرارًا والحجة له قوله صلى الله عليه وسلم: تحليلها التسليم والواحدة يقع عليها اسم التسليم وعنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يسلم تسليمتين من وجوه كثيرة صحاح.

( مَالِكٍ أَنَّهُ سَأَلَ ابْنَ شِهَابٍ وَنَافِعًا مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ عَنْ رَجُلٍ دَخَلَ مَعَ الْإِمَامِ فِي الصَّلَاةِ وَقَدْ سَبَقَهُ الْإِمَامُ بِرَكْعَةٍ أَيَتَشَهَّدُ مَعَهُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ وَالْأَرْبَعِ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لَهُ وِتْرًا فَقَالَا لِيَتَشَهَّدْ مَعَهُ.
قَالَ مَالِكٌ: وَهُوَ الْأَمْرُ عِنْدَنَا)
بالمدينة وهذا مما لا نزاع فيه لحديث إنما جعل الإمام ليؤتم به فلا تختلفوا عليه.



رقم الحديث 207 وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ، عَنْ أَبِي سُفْيَانَ مَوْلَى ابْنِ أَبِي أَحْمَدَ أَنَّهُ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاةَ الْعَصْرِ، فَسَلَّمَ فِي رَكْعَتَيْنِ.
فَقَامَ ذُو الْيَدَيْنِ فَقَالَ: أَقَصُرَتِ الصَّلَاةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَمْ نَسِيتَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كُلُّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ، فَقَالَ: قَدْ كَانَ بَعْضُ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَأَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى النَّاسِ فَقَالَ: أَصَدَقَ ذُو الْيَدَيْنِ؟ فَقَالُوا: نَعَمْ.
فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَتَمَّ مَا بَقِيَ مِنَ الصَّلَاةِ، ثُمَّ سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ بَعْدَ التَّسْلِيمِ، وَهُوَ جَالِسٌ.


مَا يَفْعَلُ مَنْ سَلَّمَ مِنْ رَكْعَتَيْنِ سَاهِيًا

( مَالِكٍ عَنْ أَيُّوبَ بْنِ أَبِي تَمِيمَةَ) بفوقية وميمين بينهما تحتية ساكنة ثم هاء واسمه كيسان ( السَّخْتِيَانِيِّ) بفتح السين المهملة على الأصح، وحكي ضمها وكسرها وإسكان الخاء المعجمة وفوقية مفتوحة ثم تحتية خفيفة فألف فنون نسبة إلى السختيان وهو الجلد لأنه كان يبيعه بالبصرة كما جزم به أبو عمر، وقال غيره لبيع أو عمل البصري أبي بكر ثقة ثبت حجة من كبار الفقهاء العباد رأى أنس بن مالك، وروى عن سالم ونافع وسعيد بن جبير وعطاء بن أبي رباح وغيرهم وعنه السفيانان والحمادان ومالك وخلق.
قال شعبة: كان سيد الفقهاء ما رأيت مثله، مات سنة إحدى وثلاثين ومائة وله خمس وستون سنة.

( عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ) بن أبي عمرة الأنصاري مولاهم البصري، روى عن مولاه أنس وأبي قتادة وسعيد وأبي هريرة وابن عباس وعائشة وخلق، وعنه ثابت وأيوب وقتادة وخلق وثقه أحمد ويحيى وغيرهما.
وقال ابن سعد: كان ثقة مأمونًا عالمًا فقيهًا إمامًا كثير العلم ورعًا وكان به صمم.
قال ابن حبان: كان من أورع أهل البصرة فقيهًا فاضلاً حافظًا متقنًا يعبر الرؤيا رأى ثلاثين من الصحابة، مات في شوال سنة عشر ومائة بعد الحسن بمائة يوم وهو ابن سبع وسبعين سنة.

( عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انْصَرَفَ) أي سلم ( مِنَ اثْنَتَيْنِ) أي ركعتين ( فَقَالَ لَهُ ذُو الْيَدَيْنِ) اسمه الخرباق بكسر الخاء المعجمة وسكون الراء بعدها موحدة فألف فقاف ابن عمرو السلمي بضم السين، ففي مسلم من رواية أبي سلمة عن أبي هريرة فقام إليه رجل يقال له الخرباق وكان في يديه طول بناء على اتحاد حديثي أبي هريرة وعمران ورجحه الحافظ وقيل: إن ذا اليدين غير الخرباق وطول يديه محمول على الحقيقة، ويحتمل أنه كناية عن طولهما بالعمل وبالبذل.
قال القرطبي: وجزم ابن قتيبة بأنه كان يعمل بيديه جميعًا، وزعم بعض أنه كان قصير اليدين وكأنه ظن أنه حميد الطويل فهو الذي فيه الخلاف، وقال جماعة: كان ذو اليدين يكون بالبادية فيجيء فيصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم.

( أَقَصُرَتِ) بضم القاف وكسر المهملة على البناء للمفعول ( الصَّلَاةُ) أي أقصرها الله وبفتح القاف وضم الصاد على البناء للفاعل أي صارت قصيرة قال النووي: هذا أكثر وأرجح ( أَمْ نَسِيتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ) فاستفهم لأن الزمان زمان نسخ، وفيه دلالة على ورع الصحابي إذ لم يجزم بشيء بغير علم.

( فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَصَدَقَ ذُو الْيَدَيْنِ) فيما قال ( فَقَالَ النَّاسُ:) أي الصحابة الذين صلوا معه ( نَعَمْ) صدق.
وفي مسلم عن ابن عيينة عن أيوب قالوا: صدق لم تصل إلا ركعتين.
وفي الصحيحين عن أبي سلمة عن أبي هريرة فقال صلى الله عليه وسلم لأصحابه: أحق ما يقول؟ فقالوا: نعم ( فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) وفي الصحيحين من وجه آخر ثم سلم ثم قام إلى خشبة في مقدم المسجد فوضع يده عليها وفيهم أبو بكر وعمر فهابا أن يكلماه، فلذا قيل معنى قام اعتدل، وقيل القيام كناية عن الدخول في الصلاة.
وقال ابن المنير: فيه إيماء إلى أنه أحرم ثم جلس ثم قام، قال الحافظ: وهو بعيد جدًا ولا بعد فيه فضلا عن قوته إذ غاية ما قال فيه إيماء ( فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ أُخْرَيَيْنِ) بتحتيتين بعد الراء ( ثُمَّ سَلَّمَ ثُمَّ كَبَّرَ) قال القرطبي: فيه دلالة على أن التكبير للإحرام لإتيانه بثم المقتضية للتراخي فلو كان التكبير للسجود لكان معه، وقد اختلف هل يشترط لسجود السهو بعد السلام تكبيرة إحرام أو يكتفي بتكبير السجود فالجمهور على الاكتفاء، ومذهب مالك وجوب التكبير لكن لا تبطل بتركه وأما نية إتمام ما بقي فلا بد منها ( فَسَجَدَ) للسهو ( مِثْلَ سُجُودِهِ) للصلاة ( أَوْ أَطْوَلَ ثُمَّ رَفَعَ) من سجوده ( ثُمَّ كَبَّرَ فَسَجَدَ) ثانية ( مِثْلَ سُجُودِهِ) للصلاة ( أَوْ أَطْوَلَ) منه ( ثُمَّ رَفَعَ) أي ثانيًا من السجدة الثانية ولم يذكر أنه تشهد بعد سجدتي السهو.

وقد روى البخاري تلو هذا الحديث عن سلمة بن علقمة قال قلت لمحمد يعني ابن سيرين في سجدتي السهو تشهد قال ليس في حديث أبي هريرة، ومفهومه أنه ورد في حديث غيره.

وقد روى أبو داود والترمذي وابن حبان والحاكم من طريق أشعث بن عبد الملك عن ابن سيرين عن خالد الحذاء عن أبي قلابة عن أبي المهلب عن عمران بن حصين أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بهم فسها فسجد سجدتين ثم تشهد ثم سلم، صححه الحاكم على شرطهما.

وقال الترمذي: حسن غريب، وضعفه البيهقي وابن عبد البر وغيرهما ووهموا رواية أشعث لمخالفته غيره من الحفاظ عن ابن سيرين، فإن المحفوظ عنه في حديث عمران ليس فيه ذكر التشهد وكذا المحفوظ عن خالد الحذاء بهذا الإسناد لا ذكر للتشهد فيه كما أخرجه مسلم، فصارت زيادة أشعث شاذة، لكن قد جاء التشهد في سجود السهو عن ابن مسعود عند أبي داود والنسائي وعن المغيرة عند البيهقي وفي إسنادهما ضعف إلا أنه باجتماع الأحاديث الثلاثة ترتقي إلى درجة الحسن.
قال العلاء: وليس ذلك ببعيد، وقد صح ذلك عند ابن أبي شيبة عن ابن مسعود من قوله.

وهذا الحديث أخرجه البخاري عن عبد الله بن يوسف عن مالك به، وتابعه سفيان بن عيينة وحماد وغيرهما عن أيوب بنحوه في الصحيحين وغيرهما.

( مَالِكٍ عَنْ دَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ) بمهملتين مصغر الأموي مولاهم المدني وثقه ابن معين وروى له الستة.
وقال ابن حبان: من أهل الحفظ والإتقان ورمي برأي الخوارج ولكن لم يكن داعية.
قال أبو حاتم: لولا أن مالكًا روى عنه لترك حديثه، مات سنة خمس وثلاثين ومائة عن ثنتين وسبعين سنة.

( عَنْ أَبِي سُفْيَانَ) اسمه وهب قاله الدارقطني، وقال غيره اسمه قزمان بضم القاف وإسكان الزاي.
قال ابن سعد: ثقة قليل الحديث روى له الستة ( مَوْلَى) عبد الله ( ابْنِ أَبِي أَحْمَدَ) بن جحش القرشي الأسدي الصحابي وابنه عبد الله، ولد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وذكره جماعة في ثقات التابعين.

( أَنَّهُ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) كذا رواه يحيى، وزاد ابن وهب والقعنبي والشافعي وابن القاسم وقتيبة لنا، ففيه تصريح بحضور أبي هريرة القصة ( صَلَاةَ الْعَصْرِ) جزم به في هذه الرواية، ولمسلم عن أبي سلمة عن أبي هريرة: بينما أنا أصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الظهر، وفي البخاري ومسلم من وجه آخر الظهر أو العصر بالشك، ولمسلم إحدى صلاتي العشي.
قال ابن سيرين: سماها أبو هريرة ولكن نسيت أنا، وللبخاري عن ابن سيرين وأكثر ظني أنها العصر.

قال الحافظ: والظاهر أن الاختلاف من الرواة وأبعد من قال يحمل على أن القصة وقعت مرتين، بل روى النسائي من طريق ابن عون عن ابن سيرين أن الشك من أبي هريرة ولفظه: صلى النبي صلى الله عليه وسلم إحدى صلاتي العشي.
قال أبو هريرة: ولكن نسيت فالظاهر أن أبا هريرة روى الحديث كثيرًا على الشك، وكان ربما غلب على ظنه أنها الظهر فجزم بها وتارة غلب على ظنه أنها العصر فجزم به وطرأ الشك في تعيينها أيضًا على ابن سيرين، وكان السبب في ذلك الاهتمام بما في القصة من الأحكام اهـ.

وكذا قال الولي ابن العراقي: الصواب أنها قصة واحدة وأن الشك من أبي هريرة لرواية النسائي المذكورة وإسنادها صحيح وأن الشك طرأ على ابن سيرين أيضًا.

( فَسَلَّمَ فِي رَكْعَتَيْنِ فَقَامَ ذُو الْيَدَيْنِ) الخرباق السلمي بضم السين ( فَقَالَ: أَقَصُرَتِ الصَّلَاةُ) بفتح القاف وضم الصاد أي صارت قصيرة.
وفي رواية بضم القاف وكسر الصاد أي أقصرها الله والأولى أكثر وأرجح كما قال النووي ( يَا رَسُولَ اللَّهِ أَمْ نَسِيتَ؟) ولم يهب السؤال لأنه غلب عليه حرصه على تعلم الدين فاستصحب حكم الإتمام وأن الوقت قابل للنسخ وبقية الصحابة ترددوا بين الاستصحاب وتجويز النسخ فسكتوا وهاب الشيخان أن يكلماه لأنه غلب عليهما احترامه وتعظيمه مع علمهما أنه يبين بعد ذلك والسرعان بنوا على النسخ فخرجوا يقولون قصرت الصلاة.

( فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كُلُّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ) أي لم أنس ولم تقصر كما في أكثر طرق حديث أبي هريرة وهو يؤيد قول أصحاب المعاني لفظ كل إذا تقدم على النفي كان نافيًا لكل فرد لا للمجموع لأنه من باب تقوية الحكم فيفيد التأكيد في المسند والمسند إليه ولا يصح أن يقال فيه، بل كان بعضه بخلاف ما إذا تأخر كما لو قيل لم يكن كل ذلك إذ لا تأكيد فيه، فيصح أن يقال بل كان بعضه، ولذا أجابه ذو اليدين: ( فَقَالَ: قَدْ كَانَ بَعْضُ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ) وأجابه في رواية أخرى بقوله: بلى قد نسيت لأنه لما نفى الأمرين وكان مقررًا عند الصحابي أن السهو لا يجوز عليه في الأمور البلاغية جزم بوقوع النسيان لا القصر، وهو حجة لمن قال لا يجوز السهو على الأنبياء فيما طريقه التشريع، وإن كان عياض حكى الإجماع على عدم جواز دخول السهو في الأقوال التبليغية وخص الخلاف بالأفعال لكنهم تعقبوه.
نعم اتفق من جوز ذلك على أنه لا يقر عليه بل يقع له بيان ذلك إما متصلاً بالفعل كما في هذه القصة وإما غير متصل.

( فَأَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى النَّاسِ) الذين صلوا معه ( فَقَالَ: أَصَدَقَ ذُو الْيَدَيْنِ؟) فيما قال ( فَقَالُوا: نَعَمْ) صدق ( فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَتَمَّ) بشد الميم كمل ( مَا بَقِيَ مِنَ الصَّلَاةِ) وهو الركعتان ( ثُمَّ سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ) للسهو مثل سجوده للصلاة أو أطول كما في الحديث قبله ( بَعْدَ التَّسْلِيمِ وَهُوَ جَالِسٌ) ففيه أن الإمام إنما يرجع عن يقينه لكثرة المأمومين لأنه صلى الله عليه وسلم سلم من ركعتين معتقدًا الكمال فلم يرجع إلا بإخبار الجميع وجواز البناء على الصلاة لمن أتى بالمنافي سهوًا.

وقال سحنون: إنما يبني من سلم ركعتين كما في قصة ذي اليدين لأن ذلك وقع على غير القياس فيقتصر به على مورد النص وألزم بقصر ذلك على إحدى صلاتي العشي فيمنعه مثلاً في الصبح، والذين قالوا يجوز البناء مطلقًا قيدوه بما إذا لم يطل الفصل، واختلفوا في قدر الطول فقيل بالعرف أو الخروج من المسجد أو قدر ركعة.

وعن أبي هريرة قدر الصلاة التي وقع فيها السهو وفيه: أن السلام ونية الخروج من الصلاة سهوًا لا يقطع الصلاة وأن سجود السهو بعد السلام إذا كان لزيادة لأنه زاد السلام والكلام، وأن الكلام سهوًا لا يقطع الصلاة خلافًا للحنفية، وزعم بعضهم أن قصة ذي اليدين كانت قبل نسخ الكلام في الصلاة ضعيف، فقد ثبت شهود أبي هريرة للقصة كما تقدم وشهدها عمران بن حصين وكل منهما متأخر الإسلام.

وروى معاوية بن خديج بمهملة وجيم مصغر قصة أخرى في السهو ووقع فيها الكلام ثم البناء أخرجها أبو داود وابن خزيمة وغيرهما وكان إسلامه قبل موت النبي صلى الله عليه وسلم بشهرين.

وقال ابن بطال: يحتمل أن يكون قول زيد بن أرقم ونهينا عن الكلام أي إلا إذا وقع عمدًا لمصلحة الصلاة فلا يعارض قصة ذي اليدين، وفيه أن تعمد الكلام لإصلاح الصلاة لا يبطلها، وتعقب بأنه صلى الله عليه وسلم إنما تكلم ناسيًا، وأما قول ذي اليدين له قد كان بعض ذلك أو بلى قد نسيت، وقول الصحابة له صدق فإنهم تكلموا معتقدين للنسخ في وقت يمكن وقوعه فيه فتكلموا ظنًا أنهم ليسوا في صلاة كذا قيل وهو فاسد لأنهم تكلموا بعد قوله صلى الله عليه وسلم لم تقصر.

والجواب: بأنهم لم ينطقوا وإنما أومؤوا كما في رواية لأبي داود وإطلاق القول على الإشارة مجاز سائغ مدفوع بأن هذا خلاف ظاهر روايات الأكثرين وبقول ذي اليدين بلى قد نسيت أو قد كان بعض ذلك فنرجح كونهم نطقوا وانفصل عنه من قال كأن نطقهم جوابًا للنبي صلى الله عليه وسلم وجوابه لا تبطل به الصلاة، وفيه أن اليقين لا يترك إلا باليقين لأن ذا اليدين كان على يقين أنها أربع، فلما اقتصر على اثنين سأل ولم ينكر عليه سؤاله وإن الظن قد يصير يقينًا بخبر أهل الصدق بناء على أنه صلى الله عليه وسلم رجع لخبر الجماعة، وفيه أن الإمام يرجع لقول المأمومين في أفعال الصلاة ولو لم يتذكر إذا كثروا جدًا بحيث يفيد خبرهم العلم، وبه قال مالك وأحمد وغيرهما وفيه غير هذا مما يطول.

وأخرجه مسلم عن قتيبة بن سعيد عن مالك به.

( مَالِكٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَبِي بَكْرِ) قال ابن عبد البر: لا يوقف له على اسم وهو من ثقات التابعين عارف بالنسب ( بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ) بفتح الحاء المهملة وإسكان المثلثة ابن غانم العدوي وفي الإصابة أبوه سليمان له رؤية وجده أبو حثمة صحابي من مسلمة الفتح ( قَالَ: بَلَغَنِي) قال أبو عمر: حديثه هذا منقطع عند جميع رواة الموطأ ( أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَكَعَ رَكْعَتَيْنِ مِنْ إِحْدَى صَلَاتَيِ النَّهَارِ) لا تخالف رواية من روى إحدى صلاتي العشي لأن العشي بفتح العين وكسر المعجمة وشد الياء من الزوال وقد قال ( الظُّهْرِ أَوِ الْعَصْرِ) بالشك وتقدم ما فيه ( مِنَ اثْنَتَيْنِ) أي من ركعتين ( فَقَالَ لَهُ ذُو الشِّمَالَيْنِ) رجل من بني زهرة بن كلاب أي من حلفائهم وهو خزاعي واسمه عمير بن عبد عمرو استشهد يوم بدر.

قال الحافظ: اتفق أئمة الحديث كما نقله ابن عبد البر وغيره على أن الزهري وهم في ذلك لأنه قتل ببدر وهي قبل إسلام أبي هريرة بأكثر من خمس سنين، وإنما هو ذو اليدين عاش مدة بعد النبي صلى الله عليه وسلم وحدث بهذا الحديث كما أخرجه الطبراني وغيره، وجوز بعض الأئمة أن تكون القصة وقعت لكل من ذي الشمالين وذي اليدين، وأن أبا هريرة روى الحديثين فأرسل أحدهما وهو قصة ذي الشمالين، وشاهد الثاني وهو قصة ذي اليدين وهذا محتمل في طريق الجمع، وقيل يحمل على أن ذا الشمالين كان يقال له أيضًا ذو اليدين وبالعكس فكان ذلك سبب الاشتباه قال: وذهب الأكثر إلى أن اسم ذي اليدين الخرباق اعتمادًا على ما في مسلم عن عمران بن حصين فقام إليه رجل يقال له الخرباق وكان في يديه طول، وهذا منبع من يوحد حديث أبي هريرة بحديث عمران وهو الراجح في نظري، وإن كان ابن خزيمة ومن تبعه جنحوا إلى التعدد لاختلاف السياقين ففي حديث أبي هريرة أنه سلم من اثنتين وأنه صلى الله عليه وسلم قام إلى خشبة في المسجد، وفي حديث عمران أنه سلم من ثلاث ركعات وأنه دخل منزله لما فرغ من الصلاة.

فأما الأول: فقد حكى العلائي أن بعض شيوخه حمله على أن المراد به أنه سلم في ابتداء الركعة الثالثة واستبعده، ولكن طريق الجمع يكتفى فيها بأدنى مناسبة وليس بأبعد من دعوى تعدد القصة فإنه يلزم منه كون ذي اليدين في كل مرة سأل أنقصت الصلاة أم نسيت وأن النبي صلى الله عليه وسلم استفهم الصحابة عن صحة قوله.

وأما الثاني: فلعل الراوي لما رآه تقدم من مكانه إلى جهة الخشبة ظن أنه دخل منزله لأن الخشبة كانت في جهته فإن كان كذلك وإلا فرواية أبي هريرة أرجح لموافقة ابن عمر له على سياقه كما أخرجه الشافعي وأبو داود وابن ماجه وابن خزيمة ولموافقة ذي اليدين نفسه على سياقه كما أخرجه أبو بكر الأثرم وعبد الله بن أحمد في زيادات المسند وأبو بكر بن أبي حثمة وغيرهم.

وفي الصحيحين عن ابن سيرين ما يدل على أنه كان يرى التوحيد بينهما، وذلك أنه قال في آخر حديث أبي هريرة نبئت أن عمران بن حصين قال ثم سلم وفيما رجحه نظر، فإن حمله على أنه سلم في ابتداء الركعة الثالثة لا يصح لأن السلام وقع وهو جالس عقب الركعتين فأين ابتداء الثالثة، وغاية ما يمكن تصحيحه بتقدير مضاف هو في إرادة ابتداء الركعة الثالثة فسلم سهوًا قبل القيام ولا دليل عليه، وقوله ليس بأبعد من دعوى التعدد للزوم وقوع الاستفهام في المرتين من ذي اليدين والنبي صلى الله عليه وسلم مردود بأنه لا بعد فيه ولو لزم ذلك استفهام دعوى ذي اليدين أولاً لأنه لم يمنع استفهامه ثانيًا لأنه زمان نسخ، لا سيما وقد اقتصر عمران على قوله: أقصرت الصلاة يا رسول الله كما في مسلم، وكذلك استفهام المصطفى الصحابة عن صحة قول ذي اليدين في المرة الأولى لا يمنع ذلك في المرة الثانية لأن الصلاة لم تقصر وقد سلم معتقدًا الكمال والإمام لا يرجع عن يقينه لقول المأمومين إلا لكثرتهم جدًا، بل عند الشافعي ولا لكثرتهم جدًا، ولا ريب أن هذا أقرب من إخراج اللفظ عن ظاهره المحوج إلى تقدير مضاف بلا قرينة، وكونها حديث أبي هريرة لا ينهض لاختلاف المخرج أي الصحابي ثم ماذا يصنع بقول عمران في حديثه فصلى ركعة ثم سلم، وفي رواية فصلى الركعة التي كان ترك ثم سلم ثم سجد سجدتي السهو ثم سلم، وكلاهما في مسلم وتصحيحه بجنس الركعة ينبو عنه المقام نبوًا ظاهرًا فدعوى التعدد أقرب من هذا بكثير.

وموافقة ابن عمر وذي اليدين لأبي هريرة على سياقه لا يمنع الجمع بالتعدد الذي صار إليه ابن خزيمة وغيره وليس في قول ابن سيرين نبئت أن عمران قال ثم سلم دلالة قوية على أنه يرى اتحاد الحديثين إذ غاية ما أفاده أن عمران قال في حديثه ثم سلم ففيه إثبات السلام عقب سجدتي السهو الخالي منه حديث أبي هريرة، وبعد ذلك هل هو متحد مع حديث أبي هريرة أو حديث آخر مسكوت عنه؟

وأما قوله: لعله ظن أنه دخل منزله فبعيد جدًا أو ممنوع لما يلزم عليه أن عمران أخبر بالظن وهو قد شاهد القصة، كيف وقد قال إنه صلى الله عليه وسلم سلم في ثلاث ركعات من العصر ثم قام فدخل الحجرة فقام رجل بسيط اليدين فقال: أقصرت الصلاة يا رسول الله؟ فخرج مغضبًا فصلى الركعة التي كان ترك ثم سلم ثم سجد سجدتي السهو ثم سلم أخرجه مسلم عن عمران أفلا يعلم الحجرة من الخشبة التي في المسجد، ويؤول بذلك التأويل المتعسف فرارًا من دعوى التعدد مع أنه أقرب من هذا بلا ريب.

( أَقَصُرَتِ الصَّلَاةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَمْ نَسِيتَ؟ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا قَصُرَتِ الصَّلَاةُ وَمَا نَسِيتُ) فصرح بنفيهما معًا عنه وهو يفسر المراد بقوله في الرواية السابقة كل ذلك لم يكن من أنه نفي لكل واحد منهما لا لمجموعهما.
ولذا أجابه ( فَقَالَ ذُو الشِّمَالَيْنِ: قَدْ كَانَ بَعْضُ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ) وفي رواية: بلى قد نسيت لأنه لما نفى الأمرين وكان مقررًا عند الصحابي أنه لا يجوز السهو عليه في الأمور البلاغية جزم بوقوع النسيان لا القصر.
وفائدة جواز السهو في مثل هذا بيان الحكم الشرعي إذا وقع مثله لغيره وفيه حجة لمن جوز السهو على الأنبياء فيما طريقه التشريع ولكن لا يقر عليه.

وأما من منع السهو مطلقًا فأجابوا عن هذا الحديث بأنه نفي النسيان ولا يلزم منه نفي السهو وهذا قول من فرق بينهما وهو مردود ويكفي فيه قوله بلى قد نسيت وأقره على ذلك، وبأن قوله وما نسيت على ظاهره وحقيقته وكان يتعمد ما يقع منه من ذلك ليقع للتشريع بالفعل لأنه أبلغ من القول، وبأن معنى وما نسيت أي في اعتقادي لا في نفس الأمر.
ويستفاد منه أن الاعتقاد عند فقد اليقين يقوم مقامه، وتعقب بحديث ابن مسعود في الصحيحين: إنما أنا بشر أنسى كما تنسون فأثبت العلة قبل الحكم بقوله إنما أنا بشر ولم يكتف بإثبات وصف النسيان حتى دفع قول من عساه يقول ليس نسيانه كنسياننا فقال كما تنسون.

وهذا الحديث أيضًا يرد قول من قال معنى قوله ما نسيت إنكار للفظ الذي نفاه عن نفسه حيث قال: إني لا أنسى ولكن أنسى وإنكار اللفظ الذي أنكره على غيره بقوله بئسما لأحدكم أن يقول نسيت آية كذا وكذا، وتعقبوا هذا أيضًا بأن حديث إني لا أنسى من بلاغات مالك التي لم توجد موصولة، وأما الآخر فلا يلزم من ذم إضافة نسيان الآية ذم إضافة كل شيء فإن الفرق بينهما واضح جدًا، وقيل قوله وما نسيت راجع إلى السلام أي سلمت قصدًا بانيًا على اعتقادي أني صليت أربعًا وهذا جيد، فإن ذا اليدين فهم العموم فقال بلى قد نسيت فأوقع قوله شكًا احتاج معه إلى الاستثبات من الحاضرين.

( فَأَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى النَّاسِ فَقَالَ: أَصَدَقَ ذُو الْيَدَيْنِ؟ فَقَالُوا: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ) صدق لم تصل إلا ركعتين، وبهذا التقرير يندفع إيراد من استشكل كون ذي اليدين لم يقبل خبره بمفرده فسبب التوقف فيه كونه أخبر بأمر يتعلق بفعل المسئول مغاير لما في اعتقاده، وبهذا أجيب عمن قال من أخبر بأمر حسي بحضرة جمع لا يخفى عليهم ولا يجوز عليهم التواطؤ ولا حامل لهم على السكوت عنه ثم لم يكذبوه أنه يقطع بصدقه، فإن سبب عدم القطع كون خبره معارضًا باعتقاد المسئول خلاف ما أخبر به وفيه أن الثقة إذا انفرد بزيادة خبر وكان المحل متحدًا ومنعت العادة غفلتهم عن ذلك فإنه لا يقبل خبره.

( فَأَتَمَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا بَقِيَ مِنَ الصَّلَاةِ ثُمَّ سَلَّمَ) قال الباجي: لم يذكر ابن شهاب في حديثه هذا سجود السهو، وقد ذكره جماعة من الحفاظ عن أبي هريرة والأخذ بالزائد أولى إذا كان رواية ثقة.
وقال أبو عمر: كان ابن شهاب أكثر الناس بحثًا عن هذا الشأن، فكان ربما اجتمع له في الحديث جماعة فحدث به مرة عنهم ومرة عن أحدهم ومرة عن بعضهم على قدر نشاطه حين تحديثه، وربما أدخل حديث بعضهم في حديث بعض كما صنع في حديث الإفك وغيره، وربما كسل فلم يسند وربما انشرح فوصل وأسند على حسب ما تأتي به المذاكرة، فلذا اختلف عليه أصحابه اختلافًا كثيرًا ويبين ذلك روايته حديث ذي اليدين رواه عنه جماعة فمرة يذكر فيه واحدًا ومرة اثنين ومرة جماعة ومرة جماعة غيرها ومرة يصل ومرة يقطع اهـ.

( مَالِكٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَعَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ مِثْلَ ذَلِكَ) المتقدم عن ابن شهاب عن أبي بكر بن سليمان بلاغًا.
قال ابن عبد البر: اضطرب الزهري في هذا الحديث اضطرابًا أوجب عند أهل النقل تركه من روايته خاصة ثم ذكر طرقه وبين اضطرابها في المتن والإسناد وقال: إنه لم يقم له متنًا ولا إسنادًا وإن كان إمامًا عظيمًا في هذا الشأن فالغلط لا يسلم منه بشر والكمال لله؛ وكل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا النبي صلى الله عليه وسلم اهـ.

لكن رواية مالك عنه غاية ما فيها أنه في هذه الثانية أرسله وهو ثابت من طرق عن أبي سلمة عن أبي هريرة وأحال لفظها على لفظ الأولى، وقد جمع فيها بين ذي الشمالين وذي اليدين، وتقدم احتمال أن ذا اليدين يلقب بهما أو عكسه وأن القصة وقعت لهما، وأرسل أبو هريرة حديث ذي الشمالين وشاهد حديث ذي اليدين ولم يذكر فيها سجود السهو وليس بكبير علة وجعل الإسناد بلاغًا حسبما حدثه شيخه أبو بكر بن سليمان وهو متصل من وجوه صحاح.

( قَالَ مَالِكٌ: كُلُّ سَهْوٍ كَانَ نُقْصَانًا مِنَ الصَّلَاةِ) كترك الجلوس الوسط ( فَإِنَّ سُجُودَهُ قَبْلَ السَّلَامِ) كما فعل صلى الله عليه وسلم في حديث ابن بحينة الآتي ( وَكُلُّ سَهْوٍ كَانَ زِيَادَةً فِي الصَّلَاةِ فَإِنَّ سُجُودَهُ بَعْدَ السَّلَامِ) كفعله صلى الله عليه وسلم في قصة ذي اليدين لأنه زاد سلامًا وعملاً وكلامًا وسجد بعد السلام وبهذا قال المزني وأبو ثور.

قال النووي: وهو أقوى المذاهب.
وقال ابن عبد البر: إنه أقوى الأقوال للجمع بين الخبرين وهو أولى من ادعاء النسخ قال: وهو موافق للنظر لأن في النقص جبرًا فينبغي أن يكون قبل الخروج من الصلاة، وفي الزيادة ترغيم الشيطان فينبغي أن يكون بعد الفراغ منها.

قال ابن دقيق العيد: لا شك أن الجمع أولى من الترجيح وادعاء النسخ ويترجح الجمع المذكور بالمناسبة المذكورة وإذا كانت المناسبة ظاهرة وكان الحكم على وَفْقِهَا كان علة فيعم الحكم في جميع محالها فلا يتخصص إلا بنص، وتعقب بأن كون سجود الزيادة ترغيمًا للشيطان فقط ممنوع بل هو جبر أيضًا للخلل لأنه وإن كان زيادة فهو نقص في المعنى وهذا مردود فإنه لم يدع أنه ترغيم فقط كما زعم المتعقب، وكونه نقصًا في المعنى لم ينظر إليه وإنما نظر إلى الحسي حتى لا يحصل التعارض بين الأخبار فيضطر إلى دعوى النسخ بلا دليل والترجيح بلا مرجح، ومذهب المحدثين والأصوليين والفقهاء متى أمكن الجمع بين الحديثين وجب الجمع، وعند الحنفي سجود السهو كله بعد السلام، وعند الشافعي كله قبل السلام.

ونقل ابن عبد البر والماوردي وغيرهما الإجماع على صحته قدم أو أخر، وتعقب بأن الخلاف موجود عند أصحاب المذاهب الأربع.

وأجيب: بأن الإجماع قبل حدوث هذه الآراء في المذاهب بين أهلها.
وقال أحمد: يسجد كما سجد صلى الله عليه وسلم ففي سلامه من اثنين بعد السلام كقصة ذي اليدين وكذا إذا سلم من ثلاث لحديث عمران، وفي التحري بعد السلام لحديث ابن مسعود، وفي القيام من ثنتين قبل السلام لحديث ابن بحينة، وفي الشك يبني على اليقين ويسجد قبل السلام على حديث أبي سعيد وابن عون وما عدا هذه المواضع يسجد فيها قبل السلام لأنه يتم ما نقص من صلاته، ولولا الأحاديث لرأيت السجود كله قبل السلام، وزعم بعضهم أن هذا أقوى المذاهب لاستعماله كل حديث فيما ورد فيه، وتقدم عن ابن دقيق العيد ما يرده، وقال إسحاق مثله إلا أنه قال ما لم يرد فيه شيء يفرق فيه بين الزيادة فبعده والنقص فقبله فحرر مذهبه من قول مالك وأحمد، وزعم بعض أنه أعدل المذاهب فيما يظهر، وأما داود فجرى على ظاهريته فقال: لا يشرع سجود السهو إلا في المواضع الخمس التي سجد النبي صلى الله عليه وسلم فيها فقط.



رقم الحديث 208 وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، أَنَّهُ سَأَلَ ابْنَ شِهَابٍ، وَنَافِعًا مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ عَنْ رَجُلٍ دَخَلَ مَعَ الْإِمَامِ فِي الصَّلَاةِ، وَقَدْ سَبَقَهُ الْإِمَامُ بِرَكْعَةٍ، أَيَتَشَهَّدُ مَعَهُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ وَالْأَرْبَعِ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لَهُ وِتْرًا فَقَالَا لِيَتَشَهَّدْ مَعَهُ قَالَ مَالِكٌ: وَهُوَ الْأَمْرُ عِنْدَنَا.


( مَالِكٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدٍ) بغير إضافة ( الْقَارِيِّ) بتشديد الياء نسبة إلى قارة بطن من خزيمة بن مدركة المدني عامل عمر على بيت المال يقال: إنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم، وذكره العجلي في ثقات التابعين، واختلف قول الواقدي فيه قال تارة له صحبة وتارة تابعي مات سنة ثمان وثمانين.

( أَنَّهُ سَمِعَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ يُعَلِّمُ النَّاسَ التَّشَهُّدَ) قال في الاستذكار: ما أورده مالك عن عمر وابنه وعائشة حكمه الرفع، لأن من المعلوم أنه لا يقال بالرأي ولو كان رأيًا لم يكن ذلك القول من الذكر أولى من غيره من سائر الأذكار فلم يبق إلا أن يكون توقيفًا، وقد رفعه غير مالك عن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم.

( يَقُولُ: قُولُوا التَّحِيَّاتُ) جمع تحية ومعناها السلام أو البقاء أو العظمة أو السلامة من الآفات والنقص أو الملك ( لِلَّهِ) وقال أبو سعيد الضرير: ليست التحية الملك نفسه لكنها الكلام الذي يحيى به الملك.
وقال ابن قتيبة: لم يكن يحيى إلا الملك خاصة وكان لكل ملك تحية تخصه، فلهذا جمعت، وكان المعنى التحيات التي كانوا يسلمون بها على الملوك كقولهم: أنعم صباحًا وأبيت اللعن وعش كذا سنة كلها مستحقة لله.
وقال الخطابي ثم البغوي: ولم يكن في تحياتهم شيء يصلح للثناء على الله فلذا أبهمت ألفاظها واستعمل منها معنى التعظيم فقال: قولوا التحيات لله أي أنواع الثناء والتعظيم له، وقال المحب الطبري: يحتمل أن لفظ التحية مشترك بين المعاني المتقدمة وكونها بمعنى السلام أنسب هنا.

( الزَّاكِيَاتُ لِلَّهِ) قال ابن حبيب: هي صالح الأعمال التي يزكو لصاحبها الثواب في الآخرة ( الطَّيِّبَاتُ) أي ما طاب من القول وحسن أن يثنى به على الله دون ما لا يليق بصفاته مما كان الملوك يحيون به، وقيل: الطيبات ذكر الله، وقيل الأقوال الصالحة كالدعاء والثناء، وقيل الأعمال الصالحة وهو أعم ( الصَّلَوَاتُ) الخمس أو ما هو أعم من الفرائض والنوافل في كل شريعة أو العبادات كلها أو الدعوات أو الرحمة ( لِلَّهِ) على عباده، وقيل التحيات العبادات القولية، والطيبات الصدقات المالية والصلوات العبادات الفعلية ( السَّلَامُ) قال النووي: يجوز فيه وفيما بعده حذف اللام، وإثباتها والإثبات أفضل وهو الموجود في روايات الصحيحين.

وقال الحافظ: لم يقع في شيء من طرق حديث ابن مسعود بحذف اللام، وإنما اختلف في ذلك في حديث ابن عباس وهو من أفراد مسلم.
قال الطيبي: والتعريف للعهد التقديري أي ذلك السلام الذي وجه إلى الأنبياء والرسل ( عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ) أي إحسانه ( وَبَرَكَاتُهُ) وأما للجنس بمعنى أن حقيقة السلام الذي يعرفه كل أحد وعمن يصدر وعلى من ينزل عليك، ويجوز أن يكون للعهد الخارجي إشارة إلى قوله تعالى: { { وَسَلاَمٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى } } قال: ولا شك أن هذه التقديرات أولى من تقدير النكرة لأن أصل سلام عليك سلمت سلامًا عليك، ثم حذف الفعل وأقيم المصدر مقامه وعدل عن النصب إلى الرفع على الابتداء للدلالة على ثبوت المعنى واستقراره اهـ.

وذكر صاحب الإقليد عن أبي حامد أن التنكير فيه للتعظيم وهو وجه من وجوه الترجيح لا يقف عن الوجوه المتقدمة ( السَّلَامُ) الذي وجه إلى الأمم السالفة من الصلحاء ( عَلَيْنَا) يريد به المصلي نفسه والحاضرين من الإمام والمأمومين والملائكة وفيه استحباب البداءة بالنفس في الدعاء.
وفي الترمذي مصححًا من حديث أبي بن كعب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا ذكر أحدًا فدعا له بدأ بنفسه، وأصله في مسلم ومنه قول نوح وإبراهيم كما في التنزيل ( وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِين) جمع صالح والأشهر في تفسيره أنه القائم بما يجب عليه من حقوق الله تعالى وحقوق عباده وتتفاوت درجاته.

قال الترمذي الحكيم: من أراد أن يحظى بهذا السلام الذي يسلمه الخلق في صلاتهم فليكن عبدًا صالحًا وإلا حرم هذا الفضل العظيم.
وقال الفاكهاني: ينبغي للمصلي أن يستحضر في هذا المحل جميع الأنبياء والملائكة والمؤمنين ليتوافق لفظه مع قصده.
وقال البيضاوي: علمهم أن يفردوه صلى الله عليه وسلم بالذكر لشرفه ومزيد حقه عليهم ثم علمهم أن يخصصوا أنفسهم أولاً لأن الاهتمام بها أهم ثم أمرهم بتعميم السلام على الصالحين إعلامًا منه بأن الدعاء للمؤمنين ينبغي أن يكون شاملاً لهم.

( أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ) زاد في حديث عائشة الآتي وحده لا شريك له ( وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ) وقد اختار مالك وأصحابه تشهد عمر هذا لكونه كان يعلمه الناس على المنبر والصحابة متوافرون فلم ينكره عليه أحد، فدل ذلك على أنه أفضل من غيره، وتعقب بأنه موقوف فلا يلحق بالمرفوع، ورد بأن ابن مردويه رواه في كتاب التشهد مرفوعًا، واختار الشافعي تشهد ابن عباس وهو ما رواه مسلم وأصحاب السنن عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا التشهد كما يعلمنا السورة من القرآن وكان يقول: التحيات المباركات الصلوات الطيبات لله السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله.
وهذا قريب من حديث عمر إلا أنه أبدل الزاكيات بالمباركات.

قال الحافظ: وكأنها بالمعنى واختار أبو حنيفة وأحمد وأصحاب الحديث، وأكثر العلماء تشهد ابن مسعود وهو ما أخرجه الأئمة الستة عنه قال: كنا إذا صلينا خلف النبي صلى الله عليه وسلم قلنا السلام على الله السلام على جبريل وميكائيل السلام على فلان وفلان، فالتفت إلينا رسول الله فقال: إن الله هو السلام فإذا صلى أحدكم فليقل التحيات لله والصلوات والطيبات السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين فإنكم إذا قلتموها أصابت كل عبد لله صالح في السماء والأرض أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله قال الترمذي: هذا أصح حديث في التشهد.

وقال البزار لما سئل عن أصح حديث في التشهد: هو عندي حديث ابن مسعود روي من نيف وعشرين طريقًا ثم سرد أكثرها وقال: لا أعلم في التشهد أثبت منه ولا أصح أسانيد ولا أشهر رجالاً.

قال الحافظ: ولا خلاف بين أهل الحديث في ذلك، وممن جزم بذلك البغوي في شرح السنة، ومن مرجحاته أنه متفق عليه دون غيره، وأن الرواة عنه من الثقات لم يختلفوا في ألفاظه بخلاف غيره وأنه تلقاه تلقينًا فروى الطحاوي عنه قال: أخذت التشهد من في رسول الله صلى الله عليه وسلم ولقننيه كلمة كلمة.
وفي البخاري عن ابن مسعود: علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم التشهد وكفي بين كفيه كما يعلمني السورة من القرآن، ورجح أيضًا ثبوت الواو في الصلوات والطيبات وهو يقتضي المغايرة بين المعطوف والمعطوف عليه فيكون كل جملة ثناء مستقلاً بخلاف حذفها فيكون صفة لما قبلها وتعدد الثناء في الأول صريح فيكون أولى، ولو قيل إن الواو مقدرة في الثاني وبأنه ورد بصيغة الأمر بخلاف غيره فمجرد حكاية، ولأحمد عنه أنه صلى الله عليه وسلم علمه التشهد وأمره أن يعلمه الناس فدل ذلك على مزيته اهـ.

وقد ورد حديث عمر بالأمر أيضًا كما رأيت فدل ذلك مع عدم الإنكار على المزية وهذا الاختلاف كله إنما هو في الأفضل، ولذا قال ابن عبد البر: كل حسن متقارب المعنى إنما فيه كلمة زائدة أو ناقصة، وتسليم الصحابة لعمر ذلك مع اختلاف رواياتهم دليل على الإباحة والتوسعة.

( مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ يَتَشَهَّدُ فَيَقُولُ: بِسْمِ اللَّهِ) في أوله كذا وقع موقوفًا عليه ووردت أيضًا في حديث أبيه عمر من رواية هشام بن عروة عند سعيد بن منصور وعبد الرزاق وغيرهما، وعورض برواية مالك عن الزهري حديث عمر وليست فيه، وفي حديث جابر المرفوع عند النسائي وابن ماجه والترمذي في العلل بلفظ: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا التشهد كما يعلمنا السورة من القرآن باسم الله وبالله التحيات إلى آخره وصححه الحاكم لكن ضعفه الحفاظ البخاري والترمذي والنسائي والبيهقي وغيرهم وقالوا: إن راويه أخطأ فيه ويدل على ذلك أنه ثبت في حديث أبي موسى مرفوعًا: فإذا قعد أحدكم فليكن أول قوله التحيات لله رواه عبد الرزاق وغيره، وقد أنكر ابن مسعود وابن عباس وغيرهما على من زادها أخرجه البيهقي وغيره.

وبالجملة؛ لم يصح زيادة البسملة كما قاله الحافظ، ولذا قال في المدونة: لم يعرف مالك في أوله باسم الله أي لم يعرفه في حديث صحيح مرفوع فلا ينافي أنه قد رواه هنا عن ابن عمر موقوفًا.

( التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ الصَّلَوَاتُ لِلَّهِ) لا يجوز أن يقصد بها غيره أو هو عبارة عن قصد إخلاصنا له ( الزَّاكِيَاتُ لِلَّهِ) وفي حديث ابن عباس المباركات بدل الزاكيات وهو مناسب لقوله تعالى: { { تَحِيَّةً مِّنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً } } ( السَّلَامُ عَلَى النَّبِيِّ) كذا وقع بإسقاط كاف الخطاب ولفظ أيها.

قال في فتح الباري: وورد في بعض طرق حديث ابن مسعود ما يقتضي المغايرة بين زمانه صلى الله عليه وسلم فيقال بلفظ الخطاب وبعده فبلفظ الغيبة فروى البخاري في الاستئذان من طريق أبي معمر عن ابن مسعود بعد أن ساق حديث التشهد قال: وهو بين ظهرانينا، فلما قبض قلنا السلام يعني على النبي.
ورواه أبو عوانة والسراج والجوزقي وأبو نعيم الأصبهاني والبيهقي من طرق متعددة من طريق أبي نعيم شيخ البخاري فيه بلفظ: فلما قبض قلنا السلام على النبي بحذف لفظ يعني، وكذا رواه أبو بكر بن أبي شيبة عن أبي نعيم وهذا صحيح بلا ريب وقد وجدت له متابعًا قويًا.

قال ابن عبد الرزاق: أخبرنا ابن جريج أخبرني عطاء أن الصحابة كانوا يقولون والنبي صلى الله عليه وسلم حي: السلام عليك أيها النبي فلما مات قالوا السلام على النبي وهذا إسناد صحيح، وما رواه سعيد بن منصور من طريق أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم علمهم التشهد فذكره قال فقال ابن عباس: إنما كنا نقول السلام عليك أيها النبي إذا كان حيًا فقال ابن مسعود: هكذا علمنا وهكذا نعلم فظاهره أن ابن عباس قاله بحثًا وأن ابن مسعود لم يرجع إليه لكن رواية أبي معمر أصح لأن أبا عبيدة لم يسمع من أبيه والإسناد إليه مع ذلك ضعيف اهـ.

( وَرَحْمَةُ اللَّهِ) أي إحسانه ( وَبَرَكَاتُهُ) أي زيادة من كل خير ( السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِين) استنبط منه السبكي أن في الصلاة حقًا للعباد مع حق الله وأن من تركها أخل بحق جميع المسلمين من مضى ومن يجيء إلى يوم القيامة لقوله السلام علينا إلخ.
وفي فتاوى القفال تركها يضر بجميع المسلمين لأن المصلي يقول ذلك في التشهد فيكون التارك مقصرًا في خدمة الله وفي حق نفسه وفي حق كافة الناس ولذا عظمت المعصية بتركها ( شَهِدْتُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ شَهِدْتُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ) هذا مخالف للمروي في الأحاديث الصحيحة بلفظ أشهد في الموضعين وهو الذي عليه المعول والعمل ( يَقُولُ هَذَا) ابن عمر ( فِي) التشهد الواقع بعد ( الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ وَيَدْعُو) ابن عمر ( إِذَا قَضَى تَشَهُّدَهُ) المذكور ( بِمَا بَدَا لَهُ) وأجازه مالك في رواية ابن نافع والمذهب رواية علي وغيره عنه كراهة الدعاء في التشهد الأول لأن المطلوب تقصيره.

( فَإِذَا جَلَسَ فِي آخِرِ صَلَاتِهِ تَشَهَّدَ كَذَلِكَ أَيْضًا إِلَّا أَنَّهُ يُقَدِّمُ التَّشَهُّدَ ثُمَّ يَدْعُو بِمَا بَدَا لَهُ) من أمر الدنيا والآخرة لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث ابن مسعود بعد التشهد: ثم يتخير من الدعاء أعجبه إليه فيدعو به وخالف في ذلك طاوس والنخعي وأبو حنيفة فقالوا: لا يدعو في الصلاة إلا بما في القرآن كذا أطلق ابن بطال وجماعة عن أبي حنيفة والموجود في كتب الحنفية أنه لا يدعو في الصلاة إلا بما في القرآن أو ثبت في الحديث أو كان مأثورًا أعم من أن يكون مرفوعًا أو غير مرفوع، لكن ظاهر الحديث يرد عليهم، وكذا يرد على قول ابن سيرين لا يدعو في الصلاة إلا بأمر الآخرة، واستثنى بعض الشافعية ما يقبح من أمر الدنيا فإن أراد الفاحش من اللفظ فمحتمل وإلا فلا شك أن الدعاء بالأمور المحرمة مطلقًا لا يجوز، ذكره الحافظ.

( فَإِذَا قَضَى تَشَهُّدَهُ وَأَرَادَ أَنْ يُسَلِّمَ قَالَ: السَّلَامُ عَلَى النَّبِيِّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ) وهذه زيادة تكرير في التشهد كأن ابن عمر اختاره ليختمه بالسلام على النبي والصالحين لأنه فصل بين التشهد والسلام بالدعاء، وروى علي عن مالك استحباب ذلك.
قال الباجي: ولا يثبت ( السَّلَامُ عَلَيْكُمْ عَنْ يَمِينِهِ) تسليمة التحليل ( ثُمَّ يَرُدُّ عَلَى الْإِمَامِ فَإِنْ سَلَّمَ عَلَيْهِ أَحَدٌ عَنْ يَسَارِهِ) بأن كان مصليًا مع الإمام ( رَدَّ عَلَيْهِ) ولعل مالكًا ذكر حديث ابن عمر هذا الموقوف عليه لما فيه من أن المأموم يسلم ثلاثًا إن كان على يساره أحد لأنه المشهور من قول مالك وقال الأئمة الثلاثة وغيرهم: على كل مصل تسليمتان عن يمينه وشماله ولو مأمومًا، وإلا فمالك لا يقول بما في خبر ابن عمر هذا من البسملة في أوله وإبداله أشهد بشهدت والدعاء في التشهد الأول وإعادة السلام على النبي والصالحين بعد الدعاء وقبل السلام ولا إبدال عليك أيها النبي بالسلام على النبي.

( مَالِكٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهَا كَانَتْ تَقُولُ: إِذَا تَشَهَّدَتِ التَّحِيَّاتُ الطَّيِّبَاتُ الصَّلَوَاتُ الزَّاكِيَاتُ لِلَّهِ) فتسقط لفظ لله عقب التحيات والصلوات بخلاف ما في حديث عمر وابن مسعود وابن عباس إثباتها وهي مرفوعة فتقدم على الموقوف.

( أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ) وزادت على حديث عمر ( وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ) وكذا ثبتت هذه الزيادة في حديث أبي موسى مرفوعًا عند مسلم، وكذا في حديث ابن مسعود عند ابن أبي شيبة وسنده ضعيف، وكذا في حديث ابن عمر مرفوعًا عند الدارقطني لكن سنده ضعيف، وقد روى أبو داود من وجه صحيح عن ابن عمر في التشهد أشهد أن لا إله إلا الله.
قال ابن عمر: زدت فيها وحده لا شريك له وهذا ظاهره الوقف.

( وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ) لم تختلف الطرق عنها ولا عن ابن مسعود في ذلك، وكذا في حديث أبي موسى وابن عمر وجابر والزبير عند الطحاوي وغيره.
وروى عبد الرزاق عن ابن جريج عن عطاء قال: بينا النبي صلى الله عليه وسلم يعلم الناس التشهد إذ قال رجل وأشهد أن محمدًا رسوله وعبده فقال صلى الله عليه وسلم: لقد كنت عبدًا قبل أن أكون رسولاً قل عبده ورسوله رجاله ثقات وهو مرسل.
وفي حديث ابن عباس عند مسلم وغيره: وأشهد أن محمدًا رسول الله ومنهم من حذف أشهد.

ورواه ابن ماجه بلفظ ابن مسعود ( السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ) قال التوربشتي: السلام بمعنى السلامة كالمقام والمقامة، والسلام اسم من أسماء الله تعالى وضع المصدر موضع الاسم مبالغة، والمعنى أنه سالم من كل عيب وآفة ونقص وفساد، ومعنى السلام عليك الدعاء أي سلمت من المكاره، وقيل معناه اسم السلام عليك كأنه برك عليه باسم الله.

فإن قيل: كيف شرع هذا اللفظ وهو خطاب بشر مع أنه منهي عنه في الصلاة؟ فالجواب: أن ذلك من خصائصه صلى الله عليه وسلم.

( السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِين) القائمين بحق الله وحق العباد تعميم بعد تخصيص ( السَّلَامُ عَلَيْكُمْ) للخروج من الصلاة.

( مَالِكٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيِّ عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَتْ تَقُولُ: إِذَا تَشَهَّدَتْ) في الصلاة ( التَّحِيَّاتُ الطَّيِّبَاتُ الصَّلَوَاتُ الزَّاكِيَاتُ لِلَّهِ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ) سأل الطيبي عن حكمة العدول عن الغيبة إلى الخطاب في هذا مع أن لفظ الغيبة هو مقتضى السياق كأن يقول السلام على النبي فينتقل من تحية الله إلى تحية النبي ثم إلى تحية النفس ثم إلى الصالحين.
وأجاب بما حاصله نحن نتبع لفظ الرسول بعينه الذي علمه للصحابة، ويحتمل أن يقال على طريقة أهل العرفان إن المصلين لما استفتحوا باب الملكوت بالتحيات أذن لهم بالدخول في حرم الحي الذي لا يموت فقرت أعينهم بالمناجاة فنبهوا على أن ذلك بواسطة نبي الرحمة وبركة متابعته فالتفتوا فإذا الحبيب في حرم الحبيب حاضر، فأقبلوا عليه قائلين: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، وقدح الحافظ في وجه هذا الاحتمال بما تقدم أنه صح المغايرة بين حياته صلى الله عليه وسلم فيقول بالخطاب وبعد مماته فيقول على النبي بلفظ الغيبة اهـ.

لكن المقرر في الفروع إنما يقال: السلام عليك أيها النبي ولو بعد وفاته اتباعًا لأمره وتعليمه فتمت النكتة، ثم قال الحافظ فإن قيل: لم عدل عن الوصف بالرسالة إلى الوصف بالنبوة مع أن وصف الرسالة أعم في حق البشر؟ أجاب بعضهم: بأن حكمة ذلك أن يجمع له الوصفين لأنه وصف بالرسالة في آخر التشهد وإن كان الرسول البشري يستلزم النبوة، لكن التصريح بهما أبلغ.
قيل: وحكمة تقديم وصف النبوة أنها كذلك وجدت في الخارج لنزول قوله تعالى: { { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ } } قبل قوله: { { يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ } }

( السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ) قال ابن عبد البر: روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يسلم تسليمة واحدة من طرق معلولة لا تصح، لكن روي عن الخلفاء الأربعة وابن عمر وأنس وابن أبي أوفى وجمع من التابعين أنهم كانوا يسلمون واحدة، واختلف عن أكثرهم فروي عنهم تسليمتان كما رويت الواحدة، والعمل المشهور المتواتر بالمدينة التسليمة الواحدة، ومثل هذا يصح الاحتجاج به لوقوعه في كل يوم مرارًا والحجة له قوله صلى الله عليه وسلم: تحليلها التسليم والواحدة يقع عليها اسم التسليم وعنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يسلم تسليمتين من وجوه كثيرة صحاح.

( مَالِكٍ أَنَّهُ سَأَلَ ابْنَ شِهَابٍ وَنَافِعًا مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ عَنْ رَجُلٍ دَخَلَ مَعَ الْإِمَامِ فِي الصَّلَاةِ وَقَدْ سَبَقَهُ الْإِمَامُ بِرَكْعَةٍ أَيَتَشَهَّدُ مَعَهُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ وَالْأَرْبَعِ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لَهُ وِتْرًا فَقَالَا لِيَتَشَهَّدْ مَعَهُ.
قَالَ مَالِكٌ: وَهُوَ الْأَمْرُ عِنْدَنَا)
بالمدينة وهذا مما لا نزاع فيه لحديث إنما جعل الإمام ليؤتم به فلا تختلفوا عليه.



رقم الحديث 208 وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَكَعَ رَكْعَتَيْنِ مِنْ إِحْدَى صَلَاتَيِ النَّهَارِ: الظُّهْرِ أَوِ الْعَصْرِ.
فَسَلَّمَ مِنَ اثْنَتَيْنِ.
فَقَالَ لَهُ ذُو الشِّمَالَيْنِ: أَقَصُرَتِ الصَّلَاةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَمْ نَسِيتَ؟ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا قَصُرَتِ الصَّلَاةُ وَمَا نَسِيتُ، فَقَالَ ذُو الشِّمَالَيْنِ: قَدْ كَانَ بَعْضُ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَأَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى النَّاسِ فَقَالَ: أَصَدَقَ ذُو الْيَدَيْنِ؟ فَقَالُوا: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَأَتَمَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا بَقِيَ مِنَ الصَّلَاةِ ثُمَّ سَلَّمَ.


مَا يَفْعَلُ مَنْ سَلَّمَ مِنْ رَكْعَتَيْنِ سَاهِيًا

( مَالِكٍ عَنْ أَيُّوبَ بْنِ أَبِي تَمِيمَةَ) بفوقية وميمين بينهما تحتية ساكنة ثم هاء واسمه كيسان ( السَّخْتِيَانِيِّ) بفتح السين المهملة على الأصح، وحكي ضمها وكسرها وإسكان الخاء المعجمة وفوقية مفتوحة ثم تحتية خفيفة فألف فنون نسبة إلى السختيان وهو الجلد لأنه كان يبيعه بالبصرة كما جزم به أبو عمر، وقال غيره لبيع أو عمل البصري أبي بكر ثقة ثبت حجة من كبار الفقهاء العباد رأى أنس بن مالك، وروى عن سالم ونافع وسعيد بن جبير وعطاء بن أبي رباح وغيرهم وعنه السفيانان والحمادان ومالك وخلق.
قال شعبة: كان سيد الفقهاء ما رأيت مثله، مات سنة إحدى وثلاثين ومائة وله خمس وستون سنة.

( عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ) بن أبي عمرة الأنصاري مولاهم البصري، روى عن مولاه أنس وأبي قتادة وسعيد وأبي هريرة وابن عباس وعائشة وخلق، وعنه ثابت وأيوب وقتادة وخلق وثقه أحمد ويحيى وغيرهما.
وقال ابن سعد: كان ثقة مأمونًا عالمًا فقيهًا إمامًا كثير العلم ورعًا وكان به صمم.
قال ابن حبان: كان من أورع أهل البصرة فقيهًا فاضلاً حافظًا متقنًا يعبر الرؤيا رأى ثلاثين من الصحابة، مات في شوال سنة عشر ومائة بعد الحسن بمائة يوم وهو ابن سبع وسبعين سنة.

( عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انْصَرَفَ) أي سلم ( مِنَ اثْنَتَيْنِ) أي ركعتين ( فَقَالَ لَهُ ذُو الْيَدَيْنِ) اسمه الخرباق بكسر الخاء المعجمة وسكون الراء بعدها موحدة فألف فقاف ابن عمرو السلمي بضم السين، ففي مسلم من رواية أبي سلمة عن أبي هريرة فقام إليه رجل يقال له الخرباق وكان في يديه طول بناء على اتحاد حديثي أبي هريرة وعمران ورجحه الحافظ وقيل: إن ذا اليدين غير الخرباق وطول يديه محمول على الحقيقة، ويحتمل أنه كناية عن طولهما بالعمل وبالبذل.
قال القرطبي: وجزم ابن قتيبة بأنه كان يعمل بيديه جميعًا، وزعم بعض أنه كان قصير اليدين وكأنه ظن أنه حميد الطويل فهو الذي فيه الخلاف، وقال جماعة: كان ذو اليدين يكون بالبادية فيجيء فيصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم.

( أَقَصُرَتِ) بضم القاف وكسر المهملة على البناء للمفعول ( الصَّلَاةُ) أي أقصرها الله وبفتح القاف وضم الصاد على البناء للفاعل أي صارت قصيرة قال النووي: هذا أكثر وأرجح ( أَمْ نَسِيتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ) فاستفهم لأن الزمان زمان نسخ، وفيه دلالة على ورع الصحابي إذ لم يجزم بشيء بغير علم.

( فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَصَدَقَ ذُو الْيَدَيْنِ) فيما قال ( فَقَالَ النَّاسُ:) أي الصحابة الذين صلوا معه ( نَعَمْ) صدق.
وفي مسلم عن ابن عيينة عن أيوب قالوا: صدق لم تصل إلا ركعتين.
وفي الصحيحين عن أبي سلمة عن أبي هريرة فقال صلى الله عليه وسلم لأصحابه: أحق ما يقول؟ فقالوا: نعم ( فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) وفي الصحيحين من وجه آخر ثم سلم ثم قام إلى خشبة في مقدم المسجد فوضع يده عليها وفيهم أبو بكر وعمر فهابا أن يكلماه، فلذا قيل معنى قام اعتدل، وقيل القيام كناية عن الدخول في الصلاة.
وقال ابن المنير: فيه إيماء إلى أنه أحرم ثم جلس ثم قام، قال الحافظ: وهو بعيد جدًا ولا بعد فيه فضلا عن قوته إذ غاية ما قال فيه إيماء ( فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ أُخْرَيَيْنِ) بتحتيتين بعد الراء ( ثُمَّ سَلَّمَ ثُمَّ كَبَّرَ) قال القرطبي: فيه دلالة على أن التكبير للإحرام لإتيانه بثم المقتضية للتراخي فلو كان التكبير للسجود لكان معه، وقد اختلف هل يشترط لسجود السهو بعد السلام تكبيرة إحرام أو يكتفي بتكبير السجود فالجمهور على الاكتفاء، ومذهب مالك وجوب التكبير لكن لا تبطل بتركه وأما نية إتمام ما بقي فلا بد منها ( فَسَجَدَ) للسهو ( مِثْلَ سُجُودِهِ) للصلاة ( أَوْ أَطْوَلَ ثُمَّ رَفَعَ) من سجوده ( ثُمَّ كَبَّرَ فَسَجَدَ) ثانية ( مِثْلَ سُجُودِهِ) للصلاة ( أَوْ أَطْوَلَ) منه ( ثُمَّ رَفَعَ) أي ثانيًا من السجدة الثانية ولم يذكر أنه تشهد بعد سجدتي السهو.

وقد روى البخاري تلو هذا الحديث عن سلمة بن علقمة قال قلت لمحمد يعني ابن سيرين في سجدتي السهو تشهد قال ليس في حديث أبي هريرة، ومفهومه أنه ورد في حديث غيره.

وقد روى أبو داود والترمذي وابن حبان والحاكم من طريق أشعث بن عبد الملك عن ابن سيرين عن خالد الحذاء عن أبي قلابة عن أبي المهلب عن عمران بن حصين أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بهم فسها فسجد سجدتين ثم تشهد ثم سلم، صححه الحاكم على شرطهما.

وقال الترمذي: حسن غريب، وضعفه البيهقي وابن عبد البر وغيرهما ووهموا رواية أشعث لمخالفته غيره من الحفاظ عن ابن سيرين، فإن المحفوظ عنه في حديث عمران ليس فيه ذكر التشهد وكذا المحفوظ عن خالد الحذاء بهذا الإسناد لا ذكر للتشهد فيه كما أخرجه مسلم، فصارت زيادة أشعث شاذة، لكن قد جاء التشهد في سجود السهو عن ابن مسعود عند أبي داود والنسائي وعن المغيرة عند البيهقي وفي إسنادهما ضعف إلا أنه باجتماع الأحاديث الثلاثة ترتقي إلى درجة الحسن.
قال العلاء: وليس ذلك ببعيد، وقد صح ذلك عند ابن أبي شيبة عن ابن مسعود من قوله.

وهذا الحديث أخرجه البخاري عن عبد الله بن يوسف عن مالك به، وتابعه سفيان بن عيينة وحماد وغيرهما عن أيوب بنحوه في الصحيحين وغيرهما.

( مَالِكٍ عَنْ دَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ) بمهملتين مصغر الأموي مولاهم المدني وثقه ابن معين وروى له الستة.
وقال ابن حبان: من أهل الحفظ والإتقان ورمي برأي الخوارج ولكن لم يكن داعية.
قال أبو حاتم: لولا أن مالكًا روى عنه لترك حديثه، مات سنة خمس وثلاثين ومائة عن ثنتين وسبعين سنة.

( عَنْ أَبِي سُفْيَانَ) اسمه وهب قاله الدارقطني، وقال غيره اسمه قزمان بضم القاف وإسكان الزاي.
قال ابن سعد: ثقة قليل الحديث روى له الستة ( مَوْلَى) عبد الله ( ابْنِ أَبِي أَحْمَدَ) بن جحش القرشي الأسدي الصحابي وابنه عبد الله، ولد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وذكره جماعة في ثقات التابعين.

( أَنَّهُ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) كذا رواه يحيى، وزاد ابن وهب والقعنبي والشافعي وابن القاسم وقتيبة لنا، ففيه تصريح بحضور أبي هريرة القصة ( صَلَاةَ الْعَصْرِ) جزم به في هذه الرواية، ولمسلم عن أبي سلمة عن أبي هريرة: بينما أنا أصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الظهر، وفي البخاري ومسلم من وجه آخر الظهر أو العصر بالشك، ولمسلم إحدى صلاتي العشي.
قال ابن سيرين: سماها أبو هريرة ولكن نسيت أنا، وللبخاري عن ابن سيرين وأكثر ظني أنها العصر.

قال الحافظ: والظاهر أن الاختلاف من الرواة وأبعد من قال يحمل على أن القصة وقعت مرتين، بل روى النسائي من طريق ابن عون عن ابن سيرين أن الشك من أبي هريرة ولفظه: صلى النبي صلى الله عليه وسلم إحدى صلاتي العشي.
قال أبو هريرة: ولكن نسيت فالظاهر أن أبا هريرة روى الحديث كثيرًا على الشك، وكان ربما غلب على ظنه أنها الظهر فجزم بها وتارة غلب على ظنه أنها العصر فجزم به وطرأ الشك في تعيينها أيضًا على ابن سيرين، وكان السبب في ذلك الاهتمام بما في القصة من الأحكام اهـ.

وكذا قال الولي ابن العراقي: الصواب أنها قصة واحدة وأن الشك من أبي هريرة لرواية النسائي المذكورة وإسنادها صحيح وأن الشك طرأ على ابن سيرين أيضًا.

( فَسَلَّمَ فِي رَكْعَتَيْنِ فَقَامَ ذُو الْيَدَيْنِ) الخرباق السلمي بضم السين ( فَقَالَ: أَقَصُرَتِ الصَّلَاةُ) بفتح القاف وضم الصاد أي صارت قصيرة.
وفي رواية بضم القاف وكسر الصاد أي أقصرها الله والأولى أكثر وأرجح كما قال النووي ( يَا رَسُولَ اللَّهِ أَمْ نَسِيتَ؟) ولم يهب السؤال لأنه غلب عليه حرصه على تعلم الدين فاستصحب حكم الإتمام وأن الوقت قابل للنسخ وبقية الصحابة ترددوا بين الاستصحاب وتجويز النسخ فسكتوا وهاب الشيخان أن يكلماه لأنه غلب عليهما احترامه وتعظيمه مع علمهما أنه يبين بعد ذلك والسرعان بنوا على النسخ فخرجوا يقولون قصرت الصلاة.

( فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كُلُّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ) أي لم أنس ولم تقصر كما في أكثر طرق حديث أبي هريرة وهو يؤيد قول أصحاب المعاني لفظ كل إذا تقدم على النفي كان نافيًا لكل فرد لا للمجموع لأنه من باب تقوية الحكم فيفيد التأكيد في المسند والمسند إليه ولا يصح أن يقال فيه، بل كان بعضه بخلاف ما إذا تأخر كما لو قيل لم يكن كل ذلك إذ لا تأكيد فيه، فيصح أن يقال بل كان بعضه، ولذا أجابه ذو اليدين: ( فَقَالَ: قَدْ كَانَ بَعْضُ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ) وأجابه في رواية أخرى بقوله: بلى قد نسيت لأنه لما نفى الأمرين وكان مقررًا عند الصحابي أن السهو لا يجوز عليه في الأمور البلاغية جزم بوقوع النسيان لا القصر، وهو حجة لمن قال لا يجوز السهو على الأنبياء فيما طريقه التشريع، وإن كان عياض حكى الإجماع على عدم جواز دخول السهو في الأقوال التبليغية وخص الخلاف بالأفعال لكنهم تعقبوه.
نعم اتفق من جوز ذلك على أنه لا يقر عليه بل يقع له بيان ذلك إما متصلاً بالفعل كما في هذه القصة وإما غير متصل.

( فَأَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى النَّاسِ) الذين صلوا معه ( فَقَالَ: أَصَدَقَ ذُو الْيَدَيْنِ؟) فيما قال ( فَقَالُوا: نَعَمْ) صدق ( فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَتَمَّ) بشد الميم كمل ( مَا بَقِيَ مِنَ الصَّلَاةِ) وهو الركعتان ( ثُمَّ سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ) للسهو مثل سجوده للصلاة أو أطول كما في الحديث قبله ( بَعْدَ التَّسْلِيمِ وَهُوَ جَالِسٌ) ففيه أن الإمام إنما يرجع عن يقينه لكثرة المأمومين لأنه صلى الله عليه وسلم سلم من ركعتين معتقدًا الكمال فلم يرجع إلا بإخبار الجميع وجواز البناء على الصلاة لمن أتى بالمنافي سهوًا.

وقال سحنون: إنما يبني من سلم ركعتين كما في قصة ذي اليدين لأن ذلك وقع على غير القياس فيقتصر به على مورد النص وألزم بقصر ذلك على إحدى صلاتي العشي فيمنعه مثلاً في الصبح، والذين قالوا يجوز البناء مطلقًا قيدوه بما إذا لم يطل الفصل، واختلفوا في قدر الطول فقيل بالعرف أو الخروج من المسجد أو قدر ركعة.

وعن أبي هريرة قدر الصلاة التي وقع فيها السهو وفيه: أن السلام ونية الخروج من الصلاة سهوًا لا يقطع الصلاة وأن سجود السهو بعد السلام إذا كان لزيادة لأنه زاد السلام والكلام، وأن الكلام سهوًا لا يقطع الصلاة خلافًا للحنفية، وزعم بعضهم أن قصة ذي اليدين كانت قبل نسخ الكلام في الصلاة ضعيف، فقد ثبت شهود أبي هريرة للقصة كما تقدم وشهدها عمران بن حصين وكل منهما متأخر الإسلام.

وروى معاوية بن خديج بمهملة وجيم مصغر قصة أخرى في السهو ووقع فيها الكلام ثم البناء أخرجها أبو داود وابن خزيمة وغيرهما وكان إسلامه قبل موت النبي صلى الله عليه وسلم بشهرين.

وقال ابن بطال: يحتمل أن يكون قول زيد بن أرقم ونهينا عن الكلام أي إلا إذا وقع عمدًا لمصلحة الصلاة فلا يعارض قصة ذي اليدين، وفيه أن تعمد الكلام لإصلاح الصلاة لا يبطلها، وتعقب بأنه صلى الله عليه وسلم إنما تكلم ناسيًا، وأما قول ذي اليدين له قد كان بعض ذلك أو بلى قد نسيت، وقول الصحابة له صدق فإنهم تكلموا معتقدين للنسخ في وقت يمكن وقوعه فيه فتكلموا ظنًا أنهم ليسوا في صلاة كذا قيل وهو فاسد لأنهم تكلموا بعد قوله صلى الله عليه وسلم لم تقصر.

والجواب: بأنهم لم ينطقوا وإنما أومؤوا كما في رواية لأبي داود وإطلاق القول على الإشارة مجاز سائغ مدفوع بأن هذا خلاف ظاهر روايات الأكثرين وبقول ذي اليدين بلى قد نسيت أو قد كان بعض ذلك فنرجح كونهم نطقوا وانفصل عنه من قال كأن نطقهم جوابًا للنبي صلى الله عليه وسلم وجوابه لا تبطل به الصلاة، وفيه أن اليقين لا يترك إلا باليقين لأن ذا اليدين كان على يقين أنها أربع، فلما اقتصر على اثنين سأل ولم ينكر عليه سؤاله وإن الظن قد يصير يقينًا بخبر أهل الصدق بناء على أنه صلى الله عليه وسلم رجع لخبر الجماعة، وفيه أن الإمام يرجع لقول المأمومين في أفعال الصلاة ولو لم يتذكر إذا كثروا جدًا بحيث يفيد خبرهم العلم، وبه قال مالك وأحمد وغيرهما وفيه غير هذا مما يطول.

وأخرجه مسلم عن قتيبة بن سعيد عن مالك به.

( مَالِكٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَبِي بَكْرِ) قال ابن عبد البر: لا يوقف له على اسم وهو من ثقات التابعين عارف بالنسب ( بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ) بفتح الحاء المهملة وإسكان المثلثة ابن غانم العدوي وفي الإصابة أبوه سليمان له رؤية وجده أبو حثمة صحابي من مسلمة الفتح ( قَالَ: بَلَغَنِي) قال أبو عمر: حديثه هذا منقطع عند جميع رواة الموطأ ( أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَكَعَ رَكْعَتَيْنِ مِنْ إِحْدَى صَلَاتَيِ النَّهَارِ) لا تخالف رواية من روى إحدى صلاتي العشي لأن العشي بفتح العين وكسر المعجمة وشد الياء من الزوال وقد قال ( الظُّهْرِ أَوِ الْعَصْرِ) بالشك وتقدم ما فيه ( مِنَ اثْنَتَيْنِ) أي من ركعتين ( فَقَالَ لَهُ ذُو الشِّمَالَيْنِ) رجل من بني زهرة بن كلاب أي من حلفائهم وهو خزاعي واسمه عمير بن عبد عمرو استشهد يوم بدر.

قال الحافظ: اتفق أئمة الحديث كما نقله ابن عبد البر وغيره على أن الزهري وهم في ذلك لأنه قتل ببدر وهي قبل إسلام أبي هريرة بأكثر من خمس سنين، وإنما هو ذو اليدين عاش مدة بعد النبي صلى الله عليه وسلم وحدث بهذا الحديث كما أخرجه الطبراني وغيره، وجوز بعض الأئمة أن تكون القصة وقعت لكل من ذي الشمالين وذي اليدين، وأن أبا هريرة روى الحديثين فأرسل أحدهما وهو قصة ذي الشمالين، وشاهد الثاني وهو قصة ذي اليدين وهذا محتمل في طريق الجمع، وقيل يحمل على أن ذا الشمالين كان يقال له أيضًا ذو اليدين وبالعكس فكان ذلك سبب الاشتباه قال: وذهب الأكثر إلى أن اسم ذي اليدين الخرباق اعتمادًا على ما في مسلم عن عمران بن حصين فقام إليه رجل يقال له الخرباق وكان في يديه طول، وهذا منبع من يوحد حديث أبي هريرة بحديث عمران وهو الراجح في نظري، وإن كان ابن خزيمة ومن تبعه جنحوا إلى التعدد لاختلاف السياقين ففي حديث أبي هريرة أنه سلم من اثنتين وأنه صلى الله عليه وسلم قام إلى خشبة في المسجد، وفي حديث عمران أنه سلم من ثلاث ركعات وأنه دخل منزله لما فرغ من الصلاة.

فأما الأول: فقد حكى العلائي أن بعض شيوخه حمله على أن المراد به أنه سلم في ابتداء الركعة الثالثة واستبعده، ولكن طريق الجمع يكتفى فيها بأدنى مناسبة وليس بأبعد من دعوى تعدد القصة فإنه يلزم منه كون ذي اليدين في كل مرة سأل أنقصت الصلاة أم نسيت وأن النبي صلى الله عليه وسلم استفهم الصحابة عن صحة قوله.

وأما الثاني: فلعل الراوي لما رآه تقدم من مكانه إلى جهة الخشبة ظن أنه دخل منزله لأن الخشبة كانت في جهته فإن كان كذلك وإلا فرواية أبي هريرة أرجح لموافقة ابن عمر له على سياقه كما أخرجه الشافعي وأبو داود وابن ماجه وابن خزيمة ولموافقة ذي اليدين نفسه على سياقه كما أخرجه أبو بكر الأثرم وعبد الله بن أحمد في زيادات المسند وأبو بكر بن أبي حثمة وغيرهم.

وفي الصحيحين عن ابن سيرين ما يدل على أنه كان يرى التوحيد بينهما، وذلك أنه قال في آخر حديث أبي هريرة نبئت أن عمران بن حصين قال ثم سلم وفيما رجحه نظر، فإن حمله على أنه سلم في ابتداء الركعة الثالثة لا يصح لأن السلام وقع وهو جالس عقب الركعتين فأين ابتداء الثالثة، وغاية ما يمكن تصحيحه بتقدير مضاف هو في إرادة ابتداء الركعة الثالثة فسلم سهوًا قبل القيام ولا دليل عليه، وقوله ليس بأبعد من دعوى التعدد للزوم وقوع الاستفهام في المرتين من ذي اليدين والنبي صلى الله عليه وسلم مردود بأنه لا بعد فيه ولو لزم ذلك استفهام دعوى ذي اليدين أولاً لأنه لم يمنع استفهامه ثانيًا لأنه زمان نسخ، لا سيما وقد اقتصر عمران على قوله: أقصرت الصلاة يا رسول الله كما في مسلم، وكذلك استفهام المصطفى الصحابة عن صحة قول ذي اليدين في المرة الأولى لا يمنع ذلك في المرة الثانية لأن الصلاة لم تقصر وقد سلم معتقدًا الكمال والإمام لا يرجع عن يقينه لقول المأمومين إلا لكثرتهم جدًا، بل عند الشافعي ولا لكثرتهم جدًا، ولا ريب أن هذا أقرب من إخراج اللفظ عن ظاهره المحوج إلى تقدير مضاف بلا قرينة، وكونها حديث أبي هريرة لا ينهض لاختلاف المخرج أي الصحابي ثم ماذا يصنع بقول عمران في حديثه فصلى ركعة ثم سلم، وفي رواية فصلى الركعة التي كان ترك ثم سلم ثم سجد سجدتي السهو ثم سلم، وكلاهما في مسلم وتصحيحه بجنس الركعة ينبو عنه المقام نبوًا ظاهرًا فدعوى التعدد أقرب من هذا بكثير.

وموافقة ابن عمر وذي اليدين لأبي هريرة على سياقه لا يمنع الجمع بالتعدد الذي صار إليه ابن خزيمة وغيره وليس في قول ابن سيرين نبئت أن عمران قال ثم سلم دلالة قوية على أنه يرى اتحاد الحديثين إذ غاية ما أفاده أن عمران قال في حديثه ثم سلم ففيه إثبات السلام عقب سجدتي السهو الخالي منه حديث أبي هريرة، وبعد ذلك هل هو متحد مع حديث أبي هريرة أو حديث آخر مسكوت عنه؟

وأما قوله: لعله ظن أنه دخل منزله فبعيد جدًا أو ممنوع لما يلزم عليه أن عمران أخبر بالظن وهو قد شاهد القصة، كيف وقد قال إنه صلى الله عليه وسلم سلم في ثلاث ركعات من العصر ثم قام فدخل الحجرة فقام رجل بسيط اليدين فقال: أقصرت الصلاة يا رسول الله؟ فخرج مغضبًا فصلى الركعة التي كان ترك ثم سلم ثم سجد سجدتي السهو ثم سلم أخرجه مسلم عن عمران أفلا يعلم الحجرة من الخشبة التي في المسجد، ويؤول بذلك التأويل المتعسف فرارًا من دعوى التعدد مع أنه أقرب من هذا بلا ريب.

( أَقَصُرَتِ الصَّلَاةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَمْ نَسِيتَ؟ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا قَصُرَتِ الصَّلَاةُ وَمَا نَسِيتُ) فصرح بنفيهما معًا عنه وهو يفسر المراد بقوله في الرواية السابقة كل ذلك لم يكن من أنه نفي لكل واحد منهما لا لمجموعهما.
ولذا أجابه ( فَقَالَ ذُو الشِّمَالَيْنِ: قَدْ كَانَ بَعْضُ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ) وفي رواية: بلى قد نسيت لأنه لما نفى الأمرين وكان مقررًا عند الصحابي أنه لا يجوز السهو عليه في الأمور البلاغية جزم بوقوع النسيان لا القصر.
وفائدة جواز السهو في مثل هذا بيان الحكم الشرعي إذا وقع مثله لغيره وفيه حجة لمن جوز السهو على الأنبياء فيما طريقه التشريع ولكن لا يقر عليه.

وأما من منع السهو مطلقًا فأجابوا عن هذا الحديث بأنه نفي النسيان ولا يلزم منه نفي السهو وهذا قول من فرق بينهما وهو مردود ويكفي فيه قوله بلى قد نسيت وأقره على ذلك، وبأن قوله وما نسيت على ظاهره وحقيقته وكان يتعمد ما يقع منه من ذلك ليقع للتشريع بالفعل لأنه أبلغ من القول، وبأن معنى وما نسيت أي في اعتقادي لا في نفس الأمر.
ويستفاد منه أن الاعتقاد عند فقد اليقين يقوم مقامه، وتعقب بحديث ابن مسعود في الصحيحين: إنما أنا بشر أنسى كما تنسون فأثبت العلة قبل الحكم بقوله إنما أنا بشر ولم يكتف بإثبات وصف النسيان حتى دفع قول من عساه يقول ليس نسيانه كنسياننا فقال كما تنسون.

وهذا الحديث أيضًا يرد قول من قال معنى قوله ما نسيت إنكار للفظ الذي نفاه عن نفسه حيث قال: إني لا أنسى ولكن أنسى وإنكار اللفظ الذي أنكره على غيره بقوله بئسما لأحدكم أن يقول نسيت آية كذا وكذا، وتعقبوا هذا أيضًا بأن حديث إني لا أنسى من بلاغات مالك التي لم توجد موصولة، وأما الآخر فلا يلزم من ذم إضافة نسيان الآية ذم إضافة كل شيء فإن الفرق بينهما واضح جدًا، وقيل قوله وما نسيت راجع إلى السلام أي سلمت قصدًا بانيًا على اعتقادي أني صليت أربعًا وهذا جيد، فإن ذا اليدين فهم العموم فقال بلى قد نسيت فأوقع قوله شكًا احتاج معه إلى الاستثبات من الحاضرين.

( فَأَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى النَّاسِ فَقَالَ: أَصَدَقَ ذُو الْيَدَيْنِ؟ فَقَالُوا: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ) صدق لم تصل إلا ركعتين، وبهذا التقرير يندفع إيراد من استشكل كون ذي اليدين لم يقبل خبره بمفرده فسبب التوقف فيه كونه أخبر بأمر يتعلق بفعل المسئول مغاير لما في اعتقاده، وبهذا أجيب عمن قال من أخبر بأمر حسي بحضرة جمع لا يخفى عليهم ولا يجوز عليهم التواطؤ ولا حامل لهم على السكوت عنه ثم لم يكذبوه أنه يقطع بصدقه، فإن سبب عدم القطع كون خبره معارضًا باعتقاد المسئول خلاف ما أخبر به وفيه أن الثقة إذا انفرد بزيادة خبر وكان المحل متحدًا ومنعت العادة غفلتهم عن ذلك فإنه لا يقبل خبره.

( فَأَتَمَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا بَقِيَ مِنَ الصَّلَاةِ ثُمَّ سَلَّمَ) قال الباجي: لم يذكر ابن شهاب في حديثه هذا سجود السهو، وقد ذكره جماعة من الحفاظ عن أبي هريرة والأخذ بالزائد أولى إذا كان رواية ثقة.
وقال أبو عمر: كان ابن شهاب أكثر الناس بحثًا عن هذا الشأن، فكان ربما اجتمع له في الحديث جماعة فحدث به مرة عنهم ومرة عن أحدهم ومرة عن بعضهم على قدر نشاطه حين تحديثه، وربما أدخل حديث بعضهم في حديث بعض كما صنع في حديث الإفك وغيره، وربما كسل فلم يسند وربما انشرح فوصل وأسند على حسب ما تأتي به المذاكرة، فلذا اختلف عليه أصحابه اختلافًا كثيرًا ويبين ذلك روايته حديث ذي اليدين رواه عنه جماعة فمرة يذكر فيه واحدًا ومرة اثنين ومرة جماعة ومرة جماعة غيرها ومرة يصل ومرة يقطع اهـ.

( مَالِكٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَعَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ مِثْلَ ذَلِكَ) المتقدم عن ابن شهاب عن أبي بكر بن سليمان بلاغًا.
قال ابن عبد البر: اضطرب الزهري في هذا الحديث اضطرابًا أوجب عند أهل النقل تركه من روايته خاصة ثم ذكر طرقه وبين اضطرابها في المتن والإسناد وقال: إنه لم يقم له متنًا ولا إسنادًا وإن كان إمامًا عظيمًا في هذا الشأن فالغلط لا يسلم منه بشر والكمال لله؛ وكل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا النبي صلى الله عليه وسلم اهـ.

لكن رواية مالك عنه غاية ما فيها أنه في هذه الثانية أرسله وهو ثابت من طرق عن أبي سلمة عن أبي هريرة وأحال لفظها على لفظ الأولى، وقد جمع فيها بين ذي الشمالين وذي اليدين، وتقدم احتمال أن ذا اليدين يلقب بهما أو عكسه وأن القصة وقعت لهما، وأرسل أبو هريرة حديث ذي الشمالين وشاهد حديث ذي اليدين ولم يذكر فيها سجود السهو وليس بكبير علة وجعل الإسناد بلاغًا حسبما حدثه شيخه أبو بكر بن سليمان وهو متصل من وجوه صحاح.

( قَالَ مَالِكٌ: كُلُّ سَهْوٍ كَانَ نُقْصَانًا مِنَ الصَّلَاةِ) كترك الجلوس الوسط ( فَإِنَّ سُجُودَهُ قَبْلَ السَّلَامِ) كما فعل صلى الله عليه وسلم في حديث ابن بحينة الآتي ( وَكُلُّ سَهْوٍ كَانَ زِيَادَةً فِي الصَّلَاةِ فَإِنَّ سُجُودَهُ بَعْدَ السَّلَامِ) كفعله صلى الله عليه وسلم في قصة ذي اليدين لأنه زاد سلامًا وعملاً وكلامًا وسجد بعد السلام وبهذا قال المزني وأبو ثور.

قال النووي: وهو أقوى المذاهب.
وقال ابن عبد البر: إنه أقوى الأقوال للجمع بين الخبرين وهو أولى من ادعاء النسخ قال: وهو موافق للنظر لأن في النقص جبرًا فينبغي أن يكون قبل الخروج من الصلاة، وفي الزيادة ترغيم الشيطان فينبغي أن يكون بعد الفراغ منها.

قال ابن دقيق العيد: لا شك أن الجمع أولى من الترجيح وادعاء النسخ ويترجح الجمع المذكور بالمناسبة المذكورة وإذا كانت المناسبة ظاهرة وكان الحكم على وَفْقِهَا كان علة فيعم الحكم في جميع محالها فلا يتخصص إلا بنص، وتعقب بأن كون سجود الزيادة ترغيمًا للشيطان فقط ممنوع بل هو جبر أيضًا للخلل لأنه وإن كان زيادة فهو نقص في المعنى وهذا مردود فإنه لم يدع أنه ترغيم فقط كما زعم المتعقب، وكونه نقصًا في المعنى لم ينظر إليه وإنما نظر إلى الحسي حتى لا يحصل التعارض بين الأخبار فيضطر إلى دعوى النسخ بلا دليل والترجيح بلا مرجح، ومذهب المحدثين والأصوليين والفقهاء متى أمكن الجمع بين الحديثين وجب الجمع، وعند الحنفي سجود السهو كله بعد السلام، وعند الشافعي كله قبل السلام.

ونقل ابن عبد البر والماوردي وغيرهما الإجماع على صحته قدم أو أخر، وتعقب بأن الخلاف موجود عند أصحاب المذاهب الأربع.

وأجيب: بأن الإجماع قبل حدوث هذه الآراء في المذاهب بين أهلها.
وقال أحمد: يسجد كما سجد صلى الله عليه وسلم ففي سلامه من اثنين بعد السلام كقصة ذي اليدين وكذا إذا سلم من ثلاث لحديث عمران، وفي التحري بعد السلام لحديث ابن مسعود، وفي القيام من ثنتين قبل السلام لحديث ابن بحينة، وفي الشك يبني على اليقين ويسجد قبل السلام على حديث أبي سعيد وابن عون وما عدا هذه المواضع يسجد فيها قبل السلام لأنه يتم ما نقص من صلاته، ولولا الأحاديث لرأيت السجود كله قبل السلام، وزعم بعضهم أن هذا أقوى المذاهب لاستعماله كل حديث فيما ورد فيه، وتقدم عن ابن دقيق العيد ما يرده، وقال إسحاق مثله إلا أنه قال ما لم يرد فيه شيء يفرق فيه بين الزيادة فبعده والنقص فقبله فحرر مذهبه من قول مالك وأحمد، وزعم بعض أنه أعدل المذاهب فيما يظهر، وأما داود فجرى على ظاهريته فقال: لا يشرع سجود السهو إلا في المواضع الخمس التي سجد النبي صلى الله عليه وسلم فيها فقط.