فهرس الكتاب

شرح الزرقاني - بَابُ مَا جَاءَ فِي اللِّعَانِ

رقم الحديث 1195 حَدَّثَنِي يَحْيَى، مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَنَّ سَهْلَ بْنَ سَعْدٍ السَّاعِدِيَّ أَخْبَرَهُ أَنَّ عُوَيْمِرًا الْعَجْلَانِيَّ، جَاءَ إِلَى عَاصِمِ بْنِ عَدِيٍّ الْأَنْصَارِيِّ، فَقَالَ لَهُ: يَا عَاصِمُ أَرَأَيْتَ رَجُلًا وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا أَيَقْتُلُهُ فَتَقْتُلُونَهُ؟ أَمْ كَيْفَ يَفْعَلُ؟ سَلْ لِي يَا عَاصِمُ عَنْ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَسَأَلَ عَاصِمٌ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ، فَكَرِهَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَسَائِلَ، وَعَابَهَا، حَتَّى كَبُرَ عَلَى عَاصِمٍ مَا سَمِعَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا رَجَعَ عَاصِمٌ إِلَى أَهْلِهِ جَاءَهُ عُوَيْمِرٌ، فَقَالَ: يَا عَاصِمُ، مَاذَا قَالَ لَكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَقَالَ عَاصِمٌ لِعُوَيْمِرٍ لَمْ تَأْتِنِي بِخَيْرٍ، قَدْ كَرِهَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَسْأَلَةَ الَّتِي سَأَلْتُهُ عَنْهَا، فَقَالَ عُوَيْمِرٌ: وَاللَّهِ لَا أَنْتَهِي حَتَّى أَسْأَلَهُ عَنْهَا، فَأَقْبَلَ عُوَيْمِرٌ حَتَّى أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَطَ النَّاسِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ رَجُلًا وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا أَيَقْتُلُهُ فَتَقْتُلُونَهُ؟ أَمْ كَيْفَ يَفْعَلُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَدْ أُنْزِلَ فِيكَ، وَفِي صَاحِبَتِكَ، فَاذْهَبْ فَأْتِ بِهَا، قَالَ سَهْلٌ، فَتَلَاعَنَا، وَأَنَا مَعَ النَّاسِ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا فَرَغَا مِنْ تَلَاعُنِهِمَا، قَالَ عُوَيْمِرٌ كَذَبْتُ عَلَيْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ أَمْسَكْتُهَا.
فَطَلَّقَهَا ثَلَاثًا.
قَبْلَ أَنْ يَأْمُرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
.

     وَقَالَ  مَالِكٌ: قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: فَكَانَتْ تِلْكَ بَعْدُ سُنَّةَ الْمُتَلَاعِنَيْنِ.


(مالك عن ابن شهاب أن سهل بن سعد) بن مالك (الساعدي) الخزرجي الصحابي ابن الصحابي (أخبره أن عويمرًا) بضم العين وفتح الواو، تصغير عامر بن الحارث بن زيد بن الجد بن عجلان (العجلاني) بفتح العين وسكون الجيم، نسبة إلى جده هذا.
وفي رواية القعنبي عويمر بن أشقر.
وفي الاستيعاب عويمر بن أبيض.
قال الحافظ: فلعل أباه كان يلقب أشقر أو أبيض.
وفي الصحابة: عويمر بن أشقر آخر مازني، روى له ابن ماجه حديثًا في الأضاحي (جاء إلى عاصم بن عدي) ابن الجد بن العجلاني (الأنصاري) شهد أحدًا مات في خلافة معاوية وقد جاز المائة وهو ابن عم والد عويمر، زاد في رواية الأوزاعي وكان أي عاصم سيد بني عجلان.
(فقال له: يا عاصم أرأيت رجلاً) أي أخبرني عن حكم رجل (وجد مع امرأته رجلاً) أجنبيًا منها (أيقتله) بهمزة الاستفهام الاستخباري أي أيقتل الرجل (فتقتلونه) قصاصًا لقوله تعالى: { { النَّفْسَ بِالنَّفْسِ } } ولمسلم عن ابن عمر فقال: أرأيت إن وجد مع امرأته رجلاً فإن تكلم تكلم بأمر عظيم، وإن سكت سكت عن مثل ذلك.
وله عن ابن مسعود إن تكلم جلدتموه، وإن قتل قتلتموه، وإن سكت سكت على غيظ.

وفي رواية عن ابن عباس لما نزلت { { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ } } الآية قال عاصم بن عدي: إن دخل رجل منا بيته فرأى رجلاً على بطن امرأته فإن جاء بأربعة رجال يشهدون بذلك فقد قضى الرجل حاجته، وذهب وإن قتله قتل به وإن قال وجدت فلانًا معها ضرب وإن سكت سكت على غيظ.
(أم كيف) مفعول به لقوله: (يفعل) أي أي شيء يفعل وأم تحتمل الاتصال يعني إذا رأى الرجل هذا المنكر الشنيع والأمر الفظيع وثارت عليه الغيرة أيقتله فتقتلونه أم يصبر على ذلك الشنآن والعار، ويحتمل الانقطاع سأل أولاً عن القتل مع القصاص ثم أضرب عنه إلى سؤال آخر لأن أم المنقطعة متضمنة لما يلي الهمزة والهمزة تستأنف كلامًا آخر المعنى أيصبر على العار أو يحدث الله له أمرًا آخر فلذا قال: (سل لي يا عاصم عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأل عاصم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك) فقال: يا رسول الله، كذا في رواية الأوزاعي بحذف المقول لدلالة السابق عليه (فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم المسائل) المذكورة (وعابها).

قال عياض: يحتمل أنه كره قذف الرجل امرأته بلا بينة لاعتقاده الحد لأن ذلك كان قبل نزول حكم اللعان بدليل قوله صلى الله عليه وسلم لهلال بن أمية: البينة أو الحد في ظهرك.
ويحتمل أنه كره السؤال لقبح النازلة وهتك ستر المسلم أو لما كان نهى عنه من كثرة السؤال، وقد نهى عن كثرته سدا لباب سؤال أهل التشغيب، أو لما في كثرته من التضييق في الأحكام التي لو سكتوا عنها لم تلزمهم وتركت لاجتهادهم فيها كما قال: اتركوني ما تركتكم، فإنما هلك من كان قبلكم لكثرة سؤالهم أنبياءهم.
ولقوله: أعظم الناس جرمًا من سأل عما لم يحرم فحرم من أجل مسألته.
قال المازري: أما إذا كانت المسائل مضطرًا إليها فلا بأس بالسؤال عنها وقد كان يسأل عن الأحكام فلا يكره وعاصم إنما سأل لغيره من غير حاجة وإن كان السؤال على وجه التعنيت فهذا الذي يكره.
(حتى كبر) بضم الموحدة عظم (على عاصم ما سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رجع عاصم إلى أهله جاءه عويمر فقال: يا عاصم ماذا قال لك رسول الله صلى الله عليه وسلم) جوابًا عن السؤال (فقال عاصم لعويمر لم تأتني بخير قد كره رسول الله صلى الله عليه وسلم المسألة التي سألته عنها) زاد في رواية وعابها (فقال عويمر: والله لا أنتهي حتى أسأل عنها) قال ابن العربي إلحاحه في السؤال يحتمل أنه عاين المقدمات فخاف الانتهاء إلى المكروه وكذلك اتفق، والبلاء موكل بالمنطق فإنه قال الذي سألتك عنه وقع.
قال عياض: ويحتمل أنه علم الحكم وسأل عن جواز أمر يصل به إلى شفاء غليله وإزالة غيرته، ويحتمل أنه سأل عن هذا إذا فعله.

وقال ابن دقيق العيد: فيه الاستعداد وعلم النوازل قبل وقوعها وعليه حمل الفقهاء ما يفرضونه قبل وقوعه ومن السلف من كره الحديث بالشيء قبل وقوعه ورآه من باب التكليف.
(فأقبل عويمر حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وسط الناس) بفتح السين وسكونها (فقال: يا رسول الله أرأيت رجلاً) فيه أن الاستفهام بأرأيت عن السائل كان في العصر النبوي والسؤال عما يشكل (وجد مع امرأته رجلاً أيقتله فتقتلونه) قيل فيه أنه لا حد في التعريض ولا حجة فيه لأنه لم يسمه ولا أشار إليه (أم كيف يفعل) زاد في حديث ابن عمر عند مسلم فسكت النبي صلى الله عليه وسلم فلم يجبه فلما كان بعد ذلك أتاه فقال: إن الذي سألتك عنه قد ابتليت به فأنزل الله عز وجل هؤلاء الآيات في سورة النور { { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ } } (فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد أنزل) بضم الهمزة وكسر الزاي، وفي رواية نزل بلا همزة، وفي رواية الأوزاعي قد أنزل الله القرآن.
(فيك وفي صاحبتك) زوجتك خولة بنت قيس على المشهور، أو بنت عاصم بن عدي المذكور، أو بنت أخيه.
وأخرج ابن مردويه مرسلاً أن عاصمًا لما نزلت { { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ } } قال: يا رسول الله أين لأحدنا أربعة شهداء، فابتلي به في بنت أخيه.
وفي سنده ضعف.

وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل: لما سأل عاصم عن ذلك ابتلي به في أهل بيته فأتاه ابن عمه تحته ابنة عمه رماها بابن عمه المرأة والزوج والخليل ثلاثتهم بنو عم عاصم.
وعند ابن مردويه من مرسل ابن أبي ليلى أن الرجل الذي رمى عويمر امرأته به شريك بن سحماء وهو يشهد لصحة هذه الرواية لأنه ابن عم عويمر لأن شريك بن عبدة بن مغيث ابن الجد بن العجلان وسحماء بفتح السين وإسكان الحاء المهملتين والمد، أم شريك وهي حبشية أو يمانية.
وعند ابن أبي حاتم من مرسل مقاتل فقال عويمر لعاصم: يا ابن عم أقسم بالله لقد رأيت شريك بن سحماء على بطنها وإنها لحبلى وما قربتها منذ أربعة أشهر ولا مانع أن يتهم شريك بكل من امرأتي عويمر وهلال فلا يعارض ما في الصحيح أن هلالاً قذف امرأته بشريك بن سحماء.
(فاذهب فأت بها) زاد في رواية الأوزاعي فأمرهما رسول الله صلى الله عليه وسلم بالملاعنة (قال سهل فتلاعنا) زاد ابن إسحاق في روايته عن ابن شهاب بعد العصر.
قال الدارقطني: ولم يقله أحد من أصحابه غيره، وفي رواية ابن جريج فتلاعنا في المسجد (وأنا مع الناس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم) وفي حديث ابن عمر عند مسلم فتلاهن أي الآيات عليه ووعظه وذكره وأخبره أن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة قال: لا والذي بعثك بالحق ما كذبت عليها ثم دعاها فوعظها وذكرها وأخبرها أن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة قالت: كلا والذي بعثك بالحق إنه لكاذب، فبدأ بالرجل فشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين ثم ثنى بالمرأة فشهدت أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين ثم فرق بينهما.
(فلما فرغا من تلاعنهما قال عويمر: كذبت عليها يا رسول الله إن أمسكتها) شرط قدم عليه الجواب وفي رواية الأوزاعي: إن حبستها فقد ظلمتها (فطلقها ثلاثًا) ظنًا منه أن اللعان لا يحرمها عليه فقال: هي طالق ثلاثًا (قبل أن يأمره صلى الله عليه وسلم) بطلاقها.
وبه تمسك القائل لا تقع الفرقة بين المتلاعنين إلا بإيقاع الزوج فإن لم يوقعه لم ينقص التلاعن من العصمة شيئًا وهو قول عثمان البتي محتجًا بأن الفرقة لم تذكر في القرآن، وأن ظاهر الأحاديث أن الزوج هو الذي طلق ابتداء، ورده ابن عبد البر بأنه قول لم يتقدمه إليه أحد من الصحابة على أن البتي قد استحب للملاعن أن يطلق بعد اللعان ولم يستحبه قبله، فدل على أن اللعان عنده قد أحدث حكمًا.

وقال النووي قوله كذبت عليها إن أمسكتها كلام مستقل وقوله فطلقها أي ثم عقب ذلك بطلاقها لأنه ظن أن اللعان لا يحرمها عليه فأراد تحريمها بالطلاق الثلاث.
فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: لا سبيل لك عليها أي لا ملك لك عليها فلا يقع طلاق.
وتعقبه الحافظ بأنه يوهم أن قوله: لا سبيل لك عليها وقع عقب قول الملاعن هي طالق ثلاثًا وأنه موجود كذلك في حديث سهل الذي شرحه وليس كذلك فإن قوله: لا سبيل لك عليها لم يقع في حديث سهل، وإنما وقع في حديث ابن عمر عقب قوله الله أعلم أن أحدكما كاذب لا سبيل لك عليها.
وقال الخطابي: لفظ فطلقها يدل على وقوع الفرقة باللعان ولولا ذلك لصارت في حكم المطلقات وأجمعوا على أنها ليست في حكمهن فلا يكون له مراجعتها إن كان الطلاق رجعيًا ولا أن يخطبها إن كان بائنًا وإنما اللعان فرقة فسخ.

(وقال مالك: قال ابن شهاب: فكانت تلك) أي الفرقة بينهما (بعد) بضم الدال، أي بعد ذلك (سنة المتلاعنين) فلا يجتمعان بعد الملاعنة أبدًا فتحرم عليه بمجرد اللعان تحريمًا مؤبدًا ظاهرًا وباطنًا سواء صدقت أو صدق، ووطؤها بملك اليمين لحديث البيهقي: المتلاعنان لا يجتمعان أبدًا وظاهره يقتضي توقف ذلك على تلاعنهما معًا.
وقد قال مالك: يقع التحريم بلعان المرأة.
وقال الشافعي وسحنون: بفراغ الزوج لأن التعان المرأة إنما شرع لدفع الحد عنها بخلاف الرجل فإنه يزيد على ذلك في حقه نفي النسب ولحوق الولد وزوال الفراش.
وتظهر فائدة الخلاف في التوارث لو مات أحدهما بعد فراغ الرجل وفيما إذا علق طلاق امرأة بفراق أخرى ثم لاعن الأخرى.
وقال أبو حنيفة: لا تقع الفرقة حتى يوقعها الحاكم لظاهر أحاديث اللعان ويكون فرقة طلاق وعن أحمد روايتان.
وقد زاد سويد بن سعيد عن مالك وكانت حاملاً فأنكر حملها وكان ابنها يدعى إليها ثم جرت السنة في الميراث أن يرثها وترث منه ما فرض الله لها.
قال ابن عبد البر: وهذه الألفاظ لم يروها عن مالك فيما علمت غير سويد اهـ.
لكن ولو انفرد به سويد عن مالك فله أصل فقد رواه يونس عند مسلم، وابن جريج عند البخاري عن ابن شهاب عن سهل مثل رواية سويد.
وفي رواية الأوزاعي أنها جاءت بالولد على الصفة التي تصدق عويمر أو نحوه في رواية ابن جريج.
وفي حديث سهل هذا أن الآيات نزلت بسبب قصة عويمر.

وفي البخاري عن ابن عباس أن هلال بن أمية قذف امرأته عند النبي صلى الله عليه وسلم بشريك بن سحماء فقال صلى الله عليه وسلم: البينة أو حد في ظهرك.
فقال: يا رسول الله إذا رأى أحدنا مع امرأته رجلاً ينطلق يلتمس البينة فجعل صلى الله عليه وسلم يقول: البينة وإلا حد في ظهرك.
فقال هلال: والذي بعثك بالحق إني لصادق ولينزلن الله ما يبرئ ظهري من الحد فنزل جبريل وأنزل الله { { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ } } حتى بلغ { { إِن كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ } } الحديث وفيه أنهما تلاعنا وأن الولد جاء على صفة شريك فقال صلى الله عليه وسلم: لولا ما مضى من كتاب الله لكان لي ولها شأن.
وفي مسلم عن أنس وكان هلال أول رجل لاعن في الإسلام.
قال الحافظ: اختلف الأئمة في هذا الموضع فمنهم من رجح نزولها في شأن عويمر، ومنهم من رجح نزولها في شأن هلال.
ومنهم من جمع بأن أول من وقع له ذلك هلال وصادف مجيء عويمر أيضًا فنزلت في شأنهما معًا وإليه جنح النووي وسبقه الخطيب فقال لعلهما اتفق لهما ذلك في وقت واحد، ويؤيده أن القائل في قصة عويمر عاصم بن عدي.
وفي قصة هلال سعد بن عبادة كما في أبي داود وغيره لما نزلت { { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ } } الآية قال سعد بن عبادة: لو رأيت لكاع قد تفخذها رجل لم يكن لي أن أهيجه حتى آتي بأربعة شهداء ما كنت لآتي بهم حتى يفرغ من حاجته، فما لبثوا إلا يسيرًا حتى جاء هلال بن أمية الحديث ولا مانع أن تتعدد القصص ويتحد النزول.
وروى البزار عن حذيفة قال: قال صلى الله عليه وسلم لأبي بكر: لو رأيت مع أم رومان رجلاً ما كنت فاعلاً به قال: كنت فاعلاً به شرًا قال: فأنت يا عمر قال: كنت أقول لعن الله الأبعد قال: فنزلت ويحتمل أن النزول سبق بسبب هلال فلما جاء عويمر ولم يكن علم بما وقع لهلال أعلمه صلى الله عليه وسلم بالحكم، ولذا قال في قصة هلال فنزل جبريل، وفي قصة عويمر قد أنزل الله فيك فيؤول بأن معناه ما أنزل في قصة هلال، وبهذا أجاب ابن الصباغ في الشامل ويؤيده قول أنس أن هلالاً أول من لاعن، وجنح القرطبي إلى تجويز نزول الآية مرتين قال: وهذه الاحتمالات وإن بعدت أولى من تغليط الرواة الحفاظ وقد أنكر جماعة ذكر هلال بن أمية فيمن لاعن كأبي عبد الله بن أبي صفرة أخي المهلب فقال: هو خطأ، والصحيح أنه عويمر.
قال القرطبي: وسبقه إلى نحوه الطبري، وقال ابن العربي: هو وهم من هشام بن حسان.
وعليه دار حديث ابن عباس وأنس بذلك، وقال عياض في المشارق: لم يقله غيره وإنما القصة لعويمر العجلاني.
قال: ولكن في المدونة في حديث العجلاني ذكر شريك.
وقال النووي في مبهماته، اختلفوا في الملاعن على ثلاثة أقوال عويمر وهلال وعاصم.
قال الواحدي: أظهرها عويمر وكلام الجميع متعقب أما قول ابن أبي صفرة فدعوى مجردة وكيف نجزم بخطأ حديث ثابت في الصحيحين مع إمكان الجمع، وما نسبه للطبري لم أجده فيه وأما قول ابن العربي وعياض تفرد به هشام بن حسان فمردود فقد تابعه عباد بن منصور عند أبي داود والطبري وجرير بن حازم عن أيوب عند الطبري، وأما جنوح النووي كالواحدي للترجيح فمرجوح لأن الجمع الممكن أولى من الترجيح.
وقوله وقيل عاصم فيه نظر لأن عاصمًا لم يلاعن قط وإنما سأل لعويمر ووقع من عاصم نظير ما وقع من سعد بن عبادة أي من الاستشكال اهـ ببعض اختصار.
وقال غيره تعقبت حكاية النووي الخلاف بأن ملاعنة عويمر وهلال ثبتا فكيف يختلف فيهما وإنما المختلف فيه سبب نزول الآية في أيهما كما سبق.
وقوله في التهذيب، اتفقوا على أن الموجود زانيًا شريك ممنوع إذ لم يوجد زانيًا وإنما هم اعتقدوا ذلك ولم يثبت عليه فصواب العبارة اتفقوا على أن المرمي به شريك، وأفاد عياض عن ابن جرير الطبري أن قصة اللعان كانت في شعبان سنة تسع من الهجرة، وفي حديث سهل فوائد كثيرة غير ما مر ذكر جملة منها في التمهيد.

وأخرجه البخاري هنا عن إسماعيل وقبله في الطلاق عن عبد الله بن يوسف، ومسلم عن يحيى، ثلاثتهم عن مالك به.
وتابعه الأوزاعي وفليح عند البخاري، وابن جريج في الصحيحين، ويونس عند مسلم، الأربعة عن ابن شهاب نحوه.

(مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أن رجلاً) هو عويمر العجلاني (لاعن امرأته) زوجته خولة بنت قيس العجلانية (في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم وانتفل) بألف فنون ساكنة ففوقية ففاء فلام أي تبرأ وفي رواية وانتفى بالياء بدل اللام (من ولدها) وفي رواية ابن بكير: فانتفى بالفاء.
فقال الطيبي: الفاء سببية، أي الملاعنة كانت سببًا لانتفاء الرجل من ولد المرأة وإلحاقه بها.
وتعقبه الحافظ بأنه إن أراد أنها سبب ثبوت الانتفاء فجيد وإن أراد أنها سبب وجود الانتفاء فليس كذلك فإنه إن لم يتعرض لنفي الولد في الملاعنة لم ينتف (ففرق) بشد الراء (رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما) أي المتلاعنين تنفيذًا لما أوجب الله من المباعدة بينهما بنفس اللعان وبظاهره تمسك الحنفية أن مجرد اللعان لا يحصل به التفريق ولا بد من حكم حاكم، وحمله الجمهور على أن المراد الإفتاء والإخبار عن حكم الشرع بدليل قوله في الرواية الأخرى لا سبيل لك عليها قال: مالي؟ قال: لا مال لك إن كنت صدقت عليها فهو بما استحللت من فرجها وإن كنت كذبت عليها فذاك أبعد لك؛ كما في الصحيحين من رواية سعيد بن جبير عن ابن عمر.
ولهما أيضًا من وجه آخر عن سعيد عنه فرق النبي صلى الله عليه وسلم بين أخوي بني العجلان وقال: الله يعلم أن أحدكما كاذب فهل منكما تائب فأبيا ثلاث مرات.
قال عياض: ظاهره أنه صلى الله عليه وسلم قال ذلك بعد الفراغ من اللعان ففيه عرض التوبة على المذنب ولو بطريق الإجمال وقال الداودي قاله قبل اللعان تحذيرًا لهما.
(وألحق الولد بالمرأة) فترث منه ما فرض الله لها ونفاه عن الرجل فلا توارث بينهما.
وزعم الدارقطني أن مالكًا تفرد بهذه الزيادة وتعقب بأنها زيادة حافظ غير منافية فوجب قبولها على أنها قد جاءت من أوجه أخرى في حديث سهل وغيره.

والحديث رواه البخاري هنا عن يحيى بن بكير، وفي الفرائض عن يحيى بن قزعة ومسلم عن يحيى التميمي وسعيد بن منصور وقتيبة بن سعيد خمستهم عن مالك به.
وأخرجه أصحاب السنن الأربعة من طريق مالك، وتابعه عبيد الله بن عمر عن نافع في الصحيحين وغيرهما نحوه، وتابعه في شيخه نافع سعيد بن جبير عن ابن عمر عند الشيخين وغيرهما بنحوه.

(قال مالك: قال الله تبارك وتعالى: { { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ } } يقذفون { { أَزْوَاجَهُمْ } } بالزنا { { وَلَمْ يَكُن لَّهُمْ شُهَدَاءُ } } يشهدون على تصديق قولهم { { إِلاَّ أَنْفُسُهُمْ } } بالرفع بدل من شهداء أو نعت على أن إلا بمعنى غير { { فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ } } مبتدأ { { أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ } } نصب على المصدر { { بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ } } فيما رمى به زوجته من الزنا { { وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللهِ عَلَيْهِ إِن كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ } } في ذلك وخبر المبتدأ تدرأ عنه العذاب أي حد القذف وقرأ الإخوان وحفص برفع أربع على أنه خبر فشهادة كما في السمين { { وَيَدْرَأُ } } أي يدفع { { عَنْهَا الْعَذَابَ } } أي حد الزنا إن لم تحلف { { أَن تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ } } فيما رماها به من الزنا { { وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِن كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ } } في ذلك قال القرطبي في المفهم لفظ أشهد في الآية والحديث بمعنى أحلف قال الشاعر:

وأشهد عند الله أني أحبها
فهذا لها عندي فما عندها ليا

وهذا مذهب الجمهور أعني أن شهادات اللعان أيمان.
وقال أبو حنيفة: هي شهادات حقيقة من المتلاعنين على أنفسهما وينبني على الخلاف هل يتلاعن الفاسقان والعبدان فعند الجمهور يصح وعنده لا يصح وأما المقسم به فهو لفظ الله دون زيادة عليه لنص الآية والحديث، وذكر عياض الخلاف هل يزيد الذي لا إله إلا هو اهـ.
والقول بالاقتصار نص مالك في المدونة وبالزيادة قوله في الموازية.
قال اللخمي: وما في المدونة أحسن لأنه نص القرآن ولأن في البخاري أمرهما أن يتلاعنا بما في القرآن (قال مالك السنة عندنا أن المتلاعنين لا يتناكحان أبدًا) بل يتأبد التحريم.
قال ابن عبد البر أبدى له بعض أصحابنا فائدة وهي أن لا يجتمع ملعون مع غير ملعون لأن أحدهما ملعون في الجملة بخلاف ما إذا تزوجت المرأة غير الملاعن، فإنه لا يتحقق وعورض بأنه لو كان كذلك لامتنع عليهما معًا التزويج لأنه يتحقق أن أحدهما ملعون.
وأجيب بأن في هذه الصورة افتراقًا في الجملة (وإن أكذب نفسه) بعد الالتعان (جلد الحد) للقذف (وألحق به الولد) لثبوت النسب ولم ترجع إليه أبدًا إذ الحرمة المؤبدة باللعان لا ترتفع بالتكذيب (وعلى هذا السنة عندنا التي لا شك فيها ولا اختلاف) وفي بعض طرق حديث سهل إشارة إليها (وإذا فارق الرجل امرأته فراقًا باتًا ليس له عليها فيه رجعة) عطف بيان لباتًا (ثم أنكر حملها لاعنها إذا كانت حاملاً وكان حملها يشبه أن يكون منه إذا ادعته) أي ادعت أنه منه (ما لم يأت دون ذلك من الزمان الذي يشك فيه فلا يعرف أنه منه قال فهذا الأمر عندنا والذي سمعت) زاد في نسخة من أهل العلم (وإذا قذف الرجل امرأته بعد أن يطلقها ثلاثًا وهي حامل) حال كونه (يقر بحملها ثم يزعم أنه رآها تزني قبل أن يفارقها جلد الحد) لأنه قذف أجنبية (ولم يلاعنها) لأن شرطه أن يكون لزوجة (وإن أنكر حملها بعد أن يطلقها ثلاثًا لاعنها) بالشرط الذي قاله فوقه (وهذا الذي سمعت) من العلماء (والعبد بمنزلة الحر في قذفه ولعانه) لعموم قوله { { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ } } إذ هو شامل للعبد (يجري مجرى الحر في ملاعنته) بضم الميم، قال في المغرب: لعنه لعنًا ولاعنه ملاعنة ولعانًا وتلاعنوا لعن بعضهم بعضًا (غير أنه ليس على من قذف مملوكة حد) وإنما عليه الأدب كقذف الكتابية إن لم يلاعنهما (والأمة المسلمة والحرة النصرانية واليهودية تلاعن الحر المسلم إذا تزوج إحداهن فأصابها وذلك أن الله تبارك وتعالى يقول في كتابه: { { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ) } } فلم يخص حرة من أمة ولا مسلمة من كتابية (فهن من الأزواج) لشمول الآية لهن (وعلى هذا الأمر عندنا) بالمدينة (والعبد إذا تزوج المرأة الحرة المسلمة أو الأمة المسلمة أو الحرة النصرانية أو اليهودية لاعنها) لأن عموم الآية شامل له ولهن (قال مالك في الرجل يلاعن امرأته فينزع) بكسر الزاي، يرجع (ويكذب نفسه بعد يمين أو يمينين ما لم) أي مدة كونه لم (يلتعن في الخامسة إنه) بكسر الهمزة (إذا نزع) رجع (قبل أن يلتعن جلد الحد) لأنه قذفها (ولم يفرق بينهما) لأن الفرقة مختصة بلعانها (وفي الرجل يطلق امرأته فإذا مضت الثلاثة الأشهر قالت المرأة: أنا حامل) منك (قال: إن أنكر زوجها حملها لاعنها) لنفيه (وفي الأمة المملوكة يلاعنها زوجها ثم يشتريها إنه لا يطؤها وإن ملكها) الواو للحال (وذلك أن السنة مضت أن المتلاعنين لا يتراجعان أبدًا) وقد قال صلى الله عليه وسلم: المتلاعنان لا يجتمعان أبدًا.
(إذا لاعن الرجل زوجته قبل أن يدخل بها فليس لها إلا نصف الصداق) وإن كان اللعان فسخًا لكن لما لم يعلم صدق الزوج، واحتمل أنه أراد تحريمها وإسقاط حقها في نصف الصداق اتهم في ذلك وألزم نصفه أو مراعاة للقول بأنه طلاق.



رقم الحديث 1196 وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ رَجُلًا لَاعَنَ امْرَأَتَهُ فِي زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَانْتَفَلَ مِنْ وَلَدِهَا، فَفَرَّقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهُمَا وَأَلْحَقَ الْوَلَدَ بِالْمَرْأَةِ قَالَ مَالِكٌ: قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ } } قالَ مَالِكٌ السُّنَّةُ عِنْدَنَا أَنَّ الْمُتَلَاعِنَيْنِ لَا يَتَنَاكَحَانِ أَبَدًا، وَإِنْ أَكْذَبَ نَفْسَهُ جُلِدَ الْحَدَّ، وَأُلْحِقَ بِهِ الْوَلَدُ، وَلَمْ تَرْجِعْ إِلَيْهِ أَبَدًا، وَعَلَى هَذَا السُّنَّةُ عِنْدَنَا الَّتِي لَا شَكَّ فِيهَا وَلَا اخْتِلَافَ قَالَ مَالِكٌ: وَإِذَا فَارَقَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ فِرَاقًا بَاتًّا، لَيْسَ لَهُ عَلَيْهَا فِيهِ رَجْعَةٌ، ثُمَّ أَنْكَرَ حَمْلَهَا لَاعَنَهَا إِذَا كَانَتْ حَامِلًا، وَكَانَ حَمْلُهَا يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ إِذَا ادَّعَتْهُ، مَا لَمْ يَأْتِ دُونَ ذَلِكَ مِنَ الزَّمَانِ الَّذِي يُشَكُّ فِيهِ، فَلَا يُعْرَفُ أَنَّهُ مِنْهُ، قَالَ: فَهَذَا الْأَمْرُ عِنْدَنَا وَالَّذِي سَمِعْتُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ قَالَ مَالِكٌ: وَإِذَا قَذَفَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ بَعْدَ أَنْ يُطَلِّقَهَا ثَلَاثًا، وَهِيَ حَامِلٌ يُقِرُّ بِحَمْلِهَا، ثُمَّ يَزْعُمُ أَنَّهُ رَآهَا تَزْنِي قَبْلَ أَنْ يُفَارِقَهَا، جُلِدَ الْحَدَّ وَلَمْ يُلَاعِنْهَا، وَإِنْ أَنْكَرَ حَمْلَهَا بَعْدَ أَنْ يُطَلِّقَهَا ثَلَاثًا لَاعَنَهَا قَالَ وَهَذَا الَّذِي سَمِعْتُ قَالَ مَالِكٌ: وَالْعَبْدُ بِمَنْزِلَةِ الْحُرِّ فِي قَذْفِهِ وَلِعَانِهِ، يَجْرِي مَجْرَى الْحُرِّ فِي مُلَاعَنَتِهِ غَيْرَ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى مَنْ قَذَفَ مَمْلُوكَةً حَدٌّ قَالَ مَالِكٌ: وَالْأَمَةُ الْمُسْلِمَةُ، وَالْحُرَّةُ النَّصْرَانِيَّةُ وَالْيَهُودِيَّةُ، تُلَاعِنُ الْحُرَّ الْمُسْلِمَ، إِذَا تَزَوَّجَ إِحْدَاهُنَّ فَأَصَابَهَا، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَقُولُ فِي كِتَابِهِ { { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ } } فَهُنَّ مِنَ الْأَزْوَاجِ، وَعَلَى هَذَا الْأَمْرُ عِنْدَنَا قَالَ مَالِكٌ: وَالْعَبْدُ إِذَا تَزَوَّجَ الْمَرْأَةَ الْحُرَّةَ الْمُسْلِمَةَ، أَوِ الْأَمَةَ الْمُسْلِمَةَ، أَوِ الْحُرَّةَ النَّصْرَانِيَّةَ أَوِ الْيَهُودِيَّةَ لَاعَنَهَا قَالَ مَالِكٌ: فِي الرَّجُلِ يُلَاعِنُ امْرَأَتَهُ فَيَنْزِعُ، وَيُكَذِّبُ نَفْسَهُ بَعْدَ يَمِينٍ أَوْ يَمِينَيْنِ مَا لَمْ يَلْتَعِنْ فِي الْخَامِسَةِ إِنَّهُ إِذَا نَزَعَ قَبْلَ أَنْ يَلْتَعِنَ جُلِدَ الْحَدَّ، وَلَمْ يُفَرَّقْ بَيْنَهُمَا قَالَ مَالِكٌ: فِي الرَّجُلِ يُطَلِّقُ امْرَأَتَهُ، فَإِذَا مَضَتِ الثَّلَاثَةُ الْأَشْهُرِ قَالَتِ الْمَرْأَةُ: أَنَا حَامِلٌ، قَالَ: إِنْ أَنْكَرَ زَوْجُهَا حَمْلَهَا لَاعَنَهَا قَالَ مَالِكٌ: فِي الْأَمَةِ الْمَمْلُوكَةِ يُلَاعِنُهَا زَوْجُهَا ثُمَّ يَشْتَرِيهَا، إِنَّهُ لَا يَطَؤُهَا، وَإِنْ مَلَكَهَا وَذَلِكَ أَنَّ السُّنَّةَ مَضَتْ أَنَّ الْمُتَلَاعِنَيْنِ لَا يَتَرَاجَعَانِ أَبَدًا قَالَ مَالِكٌ: إِذَا لَاعَنَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا، فَلَيْسَ لَهَا إِلَّا نِصْفُ الصَّدَاقِ.


(مالك عن ابن شهاب أن سهل بن سعد) بن مالك (الساعدي) الخزرجي الصحابي ابن الصحابي (أخبره أن عويمرًا) بضم العين وفتح الواو، تصغير عامر بن الحارث بن زيد بن الجد بن عجلان (العجلاني) بفتح العين وسكون الجيم، نسبة إلى جده هذا.
وفي رواية القعنبي عويمر بن أشقر.
وفي الاستيعاب عويمر بن أبيض.
قال الحافظ: فلعل أباه كان يلقب أشقر أو أبيض.
وفي الصحابة: عويمر بن أشقر آخر مازني، روى له ابن ماجه حديثًا في الأضاحي (جاء إلى عاصم بن عدي) ابن الجد بن العجلاني (الأنصاري) شهد أحدًا مات في خلافة معاوية وقد جاز المائة وهو ابن عم والد عويمر، زاد في رواية الأوزاعي وكان أي عاصم سيد بني عجلان.
(فقال له: يا عاصم أرأيت رجلاً) أي أخبرني عن حكم رجل (وجد مع امرأته رجلاً) أجنبيًا منها (أيقتله) بهمزة الاستفهام الاستخباري أي أيقتل الرجل (فتقتلونه) قصاصًا لقوله تعالى: { { النَّفْسَ بِالنَّفْسِ } } ولمسلم عن ابن عمر فقال: أرأيت إن وجد مع امرأته رجلاً فإن تكلم تكلم بأمر عظيم، وإن سكت سكت عن مثل ذلك.
وله عن ابن مسعود إن تكلم جلدتموه، وإن قتل قتلتموه، وإن سكت سكت على غيظ.

وفي رواية عن ابن عباس لما نزلت { { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ } } الآية قال عاصم بن عدي: إن دخل رجل منا بيته فرأى رجلاً على بطن امرأته فإن جاء بأربعة رجال يشهدون بذلك فقد قضى الرجل حاجته، وذهب وإن قتله قتل به وإن قال وجدت فلانًا معها ضرب وإن سكت سكت على غيظ.
(أم كيف) مفعول به لقوله: (يفعل) أي أي شيء يفعل وأم تحتمل الاتصال يعني إذا رأى الرجل هذا المنكر الشنيع والأمر الفظيع وثارت عليه الغيرة أيقتله فتقتلونه أم يصبر على ذلك الشنآن والعار، ويحتمل الانقطاع سأل أولاً عن القتل مع القصاص ثم أضرب عنه إلى سؤال آخر لأن أم المنقطعة متضمنة لما يلي الهمزة والهمزة تستأنف كلامًا آخر المعنى أيصبر على العار أو يحدث الله له أمرًا آخر فلذا قال: (سل لي يا عاصم عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأل عاصم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك) فقال: يا رسول الله، كذا في رواية الأوزاعي بحذف المقول لدلالة السابق عليه (فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم المسائل) المذكورة (وعابها).

قال عياض: يحتمل أنه كره قذف الرجل امرأته بلا بينة لاعتقاده الحد لأن ذلك كان قبل نزول حكم اللعان بدليل قوله صلى الله عليه وسلم لهلال بن أمية: البينة أو الحد في ظهرك.
ويحتمل أنه كره السؤال لقبح النازلة وهتك ستر المسلم أو لما كان نهى عنه من كثرة السؤال، وقد نهى عن كثرته سدا لباب سؤال أهل التشغيب، أو لما في كثرته من التضييق في الأحكام التي لو سكتوا عنها لم تلزمهم وتركت لاجتهادهم فيها كما قال: اتركوني ما تركتكم، فإنما هلك من كان قبلكم لكثرة سؤالهم أنبياءهم.
ولقوله: أعظم الناس جرمًا من سأل عما لم يحرم فحرم من أجل مسألته.
قال المازري: أما إذا كانت المسائل مضطرًا إليها فلا بأس بالسؤال عنها وقد كان يسأل عن الأحكام فلا يكره وعاصم إنما سأل لغيره من غير حاجة وإن كان السؤال على وجه التعنيت فهذا الذي يكره.
(حتى كبر) بضم الموحدة عظم (على عاصم ما سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رجع عاصم إلى أهله جاءه عويمر فقال: يا عاصم ماذا قال لك رسول الله صلى الله عليه وسلم) جوابًا عن السؤال (فقال عاصم لعويمر لم تأتني بخير قد كره رسول الله صلى الله عليه وسلم المسألة التي سألته عنها) زاد في رواية وعابها (فقال عويمر: والله لا أنتهي حتى أسأل عنها) قال ابن العربي إلحاحه في السؤال يحتمل أنه عاين المقدمات فخاف الانتهاء إلى المكروه وكذلك اتفق، والبلاء موكل بالمنطق فإنه قال الذي سألتك عنه وقع.
قال عياض: ويحتمل أنه علم الحكم وسأل عن جواز أمر يصل به إلى شفاء غليله وإزالة غيرته، ويحتمل أنه سأل عن هذا إذا فعله.

وقال ابن دقيق العيد: فيه الاستعداد وعلم النوازل قبل وقوعها وعليه حمل الفقهاء ما يفرضونه قبل وقوعه ومن السلف من كره الحديث بالشيء قبل وقوعه ورآه من باب التكليف.
(فأقبل عويمر حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وسط الناس) بفتح السين وسكونها (فقال: يا رسول الله أرأيت رجلاً) فيه أن الاستفهام بأرأيت عن السائل كان في العصر النبوي والسؤال عما يشكل (وجد مع امرأته رجلاً أيقتله فتقتلونه) قيل فيه أنه لا حد في التعريض ولا حجة فيه لأنه لم يسمه ولا أشار إليه (أم كيف يفعل) زاد في حديث ابن عمر عند مسلم فسكت النبي صلى الله عليه وسلم فلم يجبه فلما كان بعد ذلك أتاه فقال: إن الذي سألتك عنه قد ابتليت به فأنزل الله عز وجل هؤلاء الآيات في سورة النور { { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ } } (فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد أنزل) بضم الهمزة وكسر الزاي، وفي رواية نزل بلا همزة، وفي رواية الأوزاعي قد أنزل الله القرآن.
(فيك وفي صاحبتك) زوجتك خولة بنت قيس على المشهور، أو بنت عاصم بن عدي المذكور، أو بنت أخيه.
وأخرج ابن مردويه مرسلاً أن عاصمًا لما نزلت { { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ } } قال: يا رسول الله أين لأحدنا أربعة شهداء، فابتلي به في بنت أخيه.
وفي سنده ضعف.

وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل: لما سأل عاصم عن ذلك ابتلي به في أهل بيته فأتاه ابن عمه تحته ابنة عمه رماها بابن عمه المرأة والزوج والخليل ثلاثتهم بنو عم عاصم.
وعند ابن مردويه من مرسل ابن أبي ليلى أن الرجل الذي رمى عويمر امرأته به شريك بن سحماء وهو يشهد لصحة هذه الرواية لأنه ابن عم عويمر لأن شريك بن عبدة بن مغيث ابن الجد بن العجلان وسحماء بفتح السين وإسكان الحاء المهملتين والمد، أم شريك وهي حبشية أو يمانية.
وعند ابن أبي حاتم من مرسل مقاتل فقال عويمر لعاصم: يا ابن عم أقسم بالله لقد رأيت شريك بن سحماء على بطنها وإنها لحبلى وما قربتها منذ أربعة أشهر ولا مانع أن يتهم شريك بكل من امرأتي عويمر وهلال فلا يعارض ما في الصحيح أن هلالاً قذف امرأته بشريك بن سحماء.
(فاذهب فأت بها) زاد في رواية الأوزاعي فأمرهما رسول الله صلى الله عليه وسلم بالملاعنة (قال سهل فتلاعنا) زاد ابن إسحاق في روايته عن ابن شهاب بعد العصر.
قال الدارقطني: ولم يقله أحد من أصحابه غيره، وفي رواية ابن جريج فتلاعنا في المسجد (وأنا مع الناس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم) وفي حديث ابن عمر عند مسلم فتلاهن أي الآيات عليه ووعظه وذكره وأخبره أن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة قال: لا والذي بعثك بالحق ما كذبت عليها ثم دعاها فوعظها وذكرها وأخبرها أن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة قالت: كلا والذي بعثك بالحق إنه لكاذب، فبدأ بالرجل فشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين ثم ثنى بالمرأة فشهدت أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين ثم فرق بينهما.
(فلما فرغا من تلاعنهما قال عويمر: كذبت عليها يا رسول الله إن أمسكتها) شرط قدم عليه الجواب وفي رواية الأوزاعي: إن حبستها فقد ظلمتها (فطلقها ثلاثًا) ظنًا منه أن اللعان لا يحرمها عليه فقال: هي طالق ثلاثًا (قبل أن يأمره صلى الله عليه وسلم) بطلاقها.
وبه تمسك القائل لا تقع الفرقة بين المتلاعنين إلا بإيقاع الزوج فإن لم يوقعه لم ينقص التلاعن من العصمة شيئًا وهو قول عثمان البتي محتجًا بأن الفرقة لم تذكر في القرآن، وأن ظاهر الأحاديث أن الزوج هو الذي طلق ابتداء، ورده ابن عبد البر بأنه قول لم يتقدمه إليه أحد من الصحابة على أن البتي قد استحب للملاعن أن يطلق بعد اللعان ولم يستحبه قبله، فدل على أن اللعان عنده قد أحدث حكمًا.

وقال النووي قوله كذبت عليها إن أمسكتها كلام مستقل وقوله فطلقها أي ثم عقب ذلك بطلاقها لأنه ظن أن اللعان لا يحرمها عليه فأراد تحريمها بالطلاق الثلاث.
فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: لا سبيل لك عليها أي لا ملك لك عليها فلا يقع طلاق.
وتعقبه الحافظ بأنه يوهم أن قوله: لا سبيل لك عليها وقع عقب قول الملاعن هي طالق ثلاثًا وأنه موجود كذلك في حديث سهل الذي شرحه وليس كذلك فإن قوله: لا سبيل لك عليها لم يقع في حديث سهل، وإنما وقع في حديث ابن عمر عقب قوله الله أعلم أن أحدكما كاذب لا سبيل لك عليها.
وقال الخطابي: لفظ فطلقها يدل على وقوع الفرقة باللعان ولولا ذلك لصارت في حكم المطلقات وأجمعوا على أنها ليست في حكمهن فلا يكون له مراجعتها إن كان الطلاق رجعيًا ولا أن يخطبها إن كان بائنًا وإنما اللعان فرقة فسخ.

(وقال مالك: قال ابن شهاب: فكانت تلك) أي الفرقة بينهما (بعد) بضم الدال، أي بعد ذلك (سنة المتلاعنين) فلا يجتمعان بعد الملاعنة أبدًا فتحرم عليه بمجرد اللعان تحريمًا مؤبدًا ظاهرًا وباطنًا سواء صدقت أو صدق، ووطؤها بملك اليمين لحديث البيهقي: المتلاعنان لا يجتمعان أبدًا وظاهره يقتضي توقف ذلك على تلاعنهما معًا.
وقد قال مالك: يقع التحريم بلعان المرأة.
وقال الشافعي وسحنون: بفراغ الزوج لأن التعان المرأة إنما شرع لدفع الحد عنها بخلاف الرجل فإنه يزيد على ذلك في حقه نفي النسب ولحوق الولد وزوال الفراش.
وتظهر فائدة الخلاف في التوارث لو مات أحدهما بعد فراغ الرجل وفيما إذا علق طلاق امرأة بفراق أخرى ثم لاعن الأخرى.
وقال أبو حنيفة: لا تقع الفرقة حتى يوقعها الحاكم لظاهر أحاديث اللعان ويكون فرقة طلاق وعن أحمد روايتان.
وقد زاد سويد بن سعيد عن مالك وكانت حاملاً فأنكر حملها وكان ابنها يدعى إليها ثم جرت السنة في الميراث أن يرثها وترث منه ما فرض الله لها.
قال ابن عبد البر: وهذه الألفاظ لم يروها عن مالك فيما علمت غير سويد اهـ.
لكن ولو انفرد به سويد عن مالك فله أصل فقد رواه يونس عند مسلم، وابن جريج عند البخاري عن ابن شهاب عن سهل مثل رواية سويد.
وفي رواية الأوزاعي أنها جاءت بالولد على الصفة التي تصدق عويمر أو نحوه في رواية ابن جريج.
وفي حديث سهل هذا أن الآيات نزلت بسبب قصة عويمر.

وفي البخاري عن ابن عباس أن هلال بن أمية قذف امرأته عند النبي صلى الله عليه وسلم بشريك بن سحماء فقال صلى الله عليه وسلم: البينة أو حد في ظهرك.
فقال: يا رسول الله إذا رأى أحدنا مع امرأته رجلاً ينطلق يلتمس البينة فجعل صلى الله عليه وسلم يقول: البينة وإلا حد في ظهرك.
فقال هلال: والذي بعثك بالحق إني لصادق ولينزلن الله ما يبرئ ظهري من الحد فنزل جبريل وأنزل الله { { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ } } حتى بلغ { { إِن كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ } } الحديث وفيه أنهما تلاعنا وأن الولد جاء على صفة شريك فقال صلى الله عليه وسلم: لولا ما مضى من كتاب الله لكان لي ولها شأن.
وفي مسلم عن أنس وكان هلال أول رجل لاعن في الإسلام.
قال الحافظ: اختلف الأئمة في هذا الموضع فمنهم من رجح نزولها في شأن عويمر، ومنهم من رجح نزولها في شأن هلال.
ومنهم من جمع بأن أول من وقع له ذلك هلال وصادف مجيء عويمر أيضًا فنزلت في شأنهما معًا وإليه جنح النووي وسبقه الخطيب فقال لعلهما اتفق لهما ذلك في وقت واحد، ويؤيده أن القائل في قصة عويمر عاصم بن عدي.
وفي قصة هلال سعد بن عبادة كما في أبي داود وغيره لما نزلت { { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ } } الآية قال سعد بن عبادة: لو رأيت لكاع قد تفخذها رجل لم يكن لي أن أهيجه حتى آتي بأربعة شهداء ما كنت لآتي بهم حتى يفرغ من حاجته، فما لبثوا إلا يسيرًا حتى جاء هلال بن أمية الحديث ولا مانع أن تتعدد القصص ويتحد النزول.
وروى البزار عن حذيفة قال: قال صلى الله عليه وسلم لأبي بكر: لو رأيت مع أم رومان رجلاً ما كنت فاعلاً به قال: كنت فاعلاً به شرًا قال: فأنت يا عمر قال: كنت أقول لعن الله الأبعد قال: فنزلت ويحتمل أن النزول سبق بسبب هلال فلما جاء عويمر ولم يكن علم بما وقع لهلال أعلمه صلى الله عليه وسلم بالحكم، ولذا قال في قصة هلال فنزل جبريل، وفي قصة عويمر قد أنزل الله فيك فيؤول بأن معناه ما أنزل في قصة هلال، وبهذا أجاب ابن الصباغ في الشامل ويؤيده قول أنس أن هلالاً أول من لاعن، وجنح القرطبي إلى تجويز نزول الآية مرتين قال: وهذه الاحتمالات وإن بعدت أولى من تغليط الرواة الحفاظ وقد أنكر جماعة ذكر هلال بن أمية فيمن لاعن كأبي عبد الله بن أبي صفرة أخي المهلب فقال: هو خطأ، والصحيح أنه عويمر.
قال القرطبي: وسبقه إلى نحوه الطبري، وقال ابن العربي: هو وهم من هشام بن حسان.
وعليه دار حديث ابن عباس وأنس بذلك، وقال عياض في المشارق: لم يقله غيره وإنما القصة لعويمر العجلاني.
قال: ولكن في المدونة في حديث العجلاني ذكر شريك.
وقال النووي في مبهماته، اختلفوا في الملاعن على ثلاثة أقوال عويمر وهلال وعاصم.
قال الواحدي: أظهرها عويمر وكلام الجميع متعقب أما قول ابن أبي صفرة فدعوى مجردة وكيف نجزم بخطأ حديث ثابت في الصحيحين مع إمكان الجمع، وما نسبه للطبري لم أجده فيه وأما قول ابن العربي وعياض تفرد به هشام بن حسان فمردود فقد تابعه عباد بن منصور عند أبي داود والطبري وجرير بن حازم عن أيوب عند الطبري، وأما جنوح النووي كالواحدي للترجيح فمرجوح لأن الجمع الممكن أولى من الترجيح.
وقوله وقيل عاصم فيه نظر لأن عاصمًا لم يلاعن قط وإنما سأل لعويمر ووقع من عاصم نظير ما وقع من سعد بن عبادة أي من الاستشكال اهـ ببعض اختصار.
وقال غيره تعقبت حكاية النووي الخلاف بأن ملاعنة عويمر وهلال ثبتا فكيف يختلف فيهما وإنما المختلف فيه سبب نزول الآية في أيهما كما سبق.
وقوله في التهذيب، اتفقوا على أن الموجود زانيًا شريك ممنوع إذ لم يوجد زانيًا وإنما هم اعتقدوا ذلك ولم يثبت عليه فصواب العبارة اتفقوا على أن المرمي به شريك، وأفاد عياض عن ابن جرير الطبري أن قصة اللعان كانت في شعبان سنة تسع من الهجرة، وفي حديث سهل فوائد كثيرة غير ما مر ذكر جملة منها في التمهيد.

وأخرجه البخاري هنا عن إسماعيل وقبله في الطلاق عن عبد الله بن يوسف، ومسلم عن يحيى، ثلاثتهم عن مالك به.
وتابعه الأوزاعي وفليح عند البخاري، وابن جريج في الصحيحين، ويونس عند مسلم، الأربعة عن ابن شهاب نحوه.

(مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أن رجلاً) هو عويمر العجلاني (لاعن امرأته) زوجته خولة بنت قيس العجلانية (في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم وانتفل) بألف فنون ساكنة ففوقية ففاء فلام أي تبرأ وفي رواية وانتفى بالياء بدل اللام (من ولدها) وفي رواية ابن بكير: فانتفى بالفاء.
فقال الطيبي: الفاء سببية، أي الملاعنة كانت سببًا لانتفاء الرجل من ولد المرأة وإلحاقه بها.
وتعقبه الحافظ بأنه إن أراد أنها سبب ثبوت الانتفاء فجيد وإن أراد أنها سبب وجود الانتفاء فليس كذلك فإنه إن لم يتعرض لنفي الولد في الملاعنة لم ينتف (ففرق) بشد الراء (رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما) أي المتلاعنين تنفيذًا لما أوجب الله من المباعدة بينهما بنفس اللعان وبظاهره تمسك الحنفية أن مجرد اللعان لا يحصل به التفريق ولا بد من حكم حاكم، وحمله الجمهور على أن المراد الإفتاء والإخبار عن حكم الشرع بدليل قوله في الرواية الأخرى لا سبيل لك عليها قال: مالي؟ قال: لا مال لك إن كنت صدقت عليها فهو بما استحللت من فرجها وإن كنت كذبت عليها فذاك أبعد لك؛ كما في الصحيحين من رواية سعيد بن جبير عن ابن عمر.
ولهما أيضًا من وجه آخر عن سعيد عنه فرق النبي صلى الله عليه وسلم بين أخوي بني العجلان وقال: الله يعلم أن أحدكما كاذب فهل منكما تائب فأبيا ثلاث مرات.
قال عياض: ظاهره أنه صلى الله عليه وسلم قال ذلك بعد الفراغ من اللعان ففيه عرض التوبة على المذنب ولو بطريق الإجمال وقال الداودي قاله قبل اللعان تحذيرًا لهما.
(وألحق الولد بالمرأة) فترث منه ما فرض الله لها ونفاه عن الرجل فلا توارث بينهما.
وزعم الدارقطني أن مالكًا تفرد بهذه الزيادة وتعقب بأنها زيادة حافظ غير منافية فوجب قبولها على أنها قد جاءت من أوجه أخرى في حديث سهل وغيره.

والحديث رواه البخاري هنا عن يحيى بن بكير، وفي الفرائض عن يحيى بن قزعة ومسلم عن يحيى التميمي وسعيد بن منصور وقتيبة بن سعيد خمستهم عن مالك به.
وأخرجه أصحاب السنن الأربعة من طريق مالك، وتابعه عبيد الله بن عمر عن نافع في الصحيحين وغيرهما نحوه، وتابعه في شيخه نافع سعيد بن جبير عن ابن عمر عند الشيخين وغيرهما بنحوه.

(قال مالك: قال الله تبارك وتعالى: { { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ } } يقذفون { { أَزْوَاجَهُمْ } } بالزنا { { وَلَمْ يَكُن لَّهُمْ شُهَدَاءُ } } يشهدون على تصديق قولهم { { إِلاَّ أَنْفُسُهُمْ } } بالرفع بدل من شهداء أو نعت على أن إلا بمعنى غير { { فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ } } مبتدأ { { أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ } } نصب على المصدر { { بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ } } فيما رمى به زوجته من الزنا { { وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللهِ عَلَيْهِ إِن كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ } } في ذلك وخبر المبتدأ تدرأ عنه العذاب أي حد القذف وقرأ الإخوان وحفص برفع أربع على أنه خبر فشهادة كما في السمين { { وَيَدْرَأُ } } أي يدفع { { عَنْهَا الْعَذَابَ } } أي حد الزنا إن لم تحلف { { أَن تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ } } فيما رماها به من الزنا { { وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِن كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ } } في ذلك قال القرطبي في المفهم لفظ أشهد في الآية والحديث بمعنى أحلف قال الشاعر:

وأشهد عند الله أني أحبها
فهذا لها عندي فما عندها ليا

وهذا مذهب الجمهور أعني أن شهادات اللعان أيمان.
وقال أبو حنيفة: هي شهادات حقيقة من المتلاعنين على أنفسهما وينبني على الخلاف هل يتلاعن الفاسقان والعبدان فعند الجمهور يصح وعنده لا يصح وأما المقسم به فهو لفظ الله دون زيادة عليه لنص الآية والحديث، وذكر عياض الخلاف هل يزيد الذي لا إله إلا هو اهـ.
والقول بالاقتصار نص مالك في المدونة وبالزيادة قوله في الموازية.
قال اللخمي: وما في المدونة أحسن لأنه نص القرآن ولأن في البخاري أمرهما أن يتلاعنا بما في القرآن (قال مالك السنة عندنا أن المتلاعنين لا يتناكحان أبدًا) بل يتأبد التحريم.
قال ابن عبد البر أبدى له بعض أصحابنا فائدة وهي أن لا يجتمع ملعون مع غير ملعون لأن أحدهما ملعون في الجملة بخلاف ما إذا تزوجت المرأة غير الملاعن، فإنه لا يتحقق وعورض بأنه لو كان كذلك لامتنع عليهما معًا التزويج لأنه يتحقق أن أحدهما ملعون.
وأجيب بأن في هذه الصورة افتراقًا في الجملة (وإن أكذب نفسه) بعد الالتعان (جلد الحد) للقذف (وألحق به الولد) لثبوت النسب ولم ترجع إليه أبدًا إذ الحرمة المؤبدة باللعان لا ترتفع بالتكذيب (وعلى هذا السنة عندنا التي لا شك فيها ولا اختلاف) وفي بعض طرق حديث سهل إشارة إليها (وإذا فارق الرجل امرأته فراقًا باتًا ليس له عليها فيه رجعة) عطف بيان لباتًا (ثم أنكر حملها لاعنها إذا كانت حاملاً وكان حملها يشبه أن يكون منه إذا ادعته) أي ادعت أنه منه (ما لم يأت دون ذلك من الزمان الذي يشك فيه فلا يعرف أنه منه قال فهذا الأمر عندنا والذي سمعت) زاد في نسخة من أهل العلم (وإذا قذف الرجل امرأته بعد أن يطلقها ثلاثًا وهي حامل) حال كونه (يقر بحملها ثم يزعم أنه رآها تزني قبل أن يفارقها جلد الحد) لأنه قذف أجنبية (ولم يلاعنها) لأن شرطه أن يكون لزوجة (وإن أنكر حملها بعد أن يطلقها ثلاثًا لاعنها) بالشرط الذي قاله فوقه (وهذا الذي سمعت) من العلماء (والعبد بمنزلة الحر في قذفه ولعانه) لعموم قوله { { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ } } إذ هو شامل للعبد (يجري مجرى الحر في ملاعنته) بضم الميم، قال في المغرب: لعنه لعنًا ولاعنه ملاعنة ولعانًا وتلاعنوا لعن بعضهم بعضًا (غير أنه ليس على من قذف مملوكة حد) وإنما عليه الأدب كقذف الكتابية إن لم يلاعنهما (والأمة المسلمة والحرة النصرانية واليهودية تلاعن الحر المسلم إذا تزوج إحداهن فأصابها وذلك أن الله تبارك وتعالى يقول في كتابه: { { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ) } } فلم يخص حرة من أمة ولا مسلمة من كتابية (فهن من الأزواج) لشمول الآية لهن (وعلى هذا الأمر عندنا) بالمدينة (والعبد إذا تزوج المرأة الحرة المسلمة أو الأمة المسلمة أو الحرة النصرانية أو اليهودية لاعنها) لأن عموم الآية شامل له ولهن (قال مالك في الرجل يلاعن امرأته فينزع) بكسر الزاي، يرجع (ويكذب نفسه بعد يمين أو يمينين ما لم) أي مدة كونه لم (يلتعن في الخامسة إنه) بكسر الهمزة (إذا نزع) رجع (قبل أن يلتعن جلد الحد) لأنه قذفها (ولم يفرق بينهما) لأن الفرقة مختصة بلعانها (وفي الرجل يطلق امرأته فإذا مضت الثلاثة الأشهر قالت المرأة: أنا حامل) منك (قال: إن أنكر زوجها حملها لاعنها) لنفيه (وفي الأمة المملوكة يلاعنها زوجها ثم يشتريها إنه لا يطؤها وإن ملكها) الواو للحال (وذلك أن السنة مضت أن المتلاعنين لا يتراجعان أبدًا) وقد قال صلى الله عليه وسلم: المتلاعنان لا يجتمعان أبدًا.
(إذا لاعن الرجل زوجته قبل أن يدخل بها فليس لها إلا نصف الصداق) وإن كان اللعان فسخًا لكن لما لم يعلم صدق الزوج، واحتمل أنه أراد تحريمها وإسقاط حقها في نصف الصداق اتهم في ذلك وألزم نصفه أو مراعاة للقول بأنه طلاق.