فهرس الكتاب

شرح الزرقاني - بَابُ مَا جَاءَ فِي الْأَقْرَاءِ وَعِدَّةِ الطَّلَاقِ وَطَلَاقِ الْحَائِضِ

رقم الحديث 1216 حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ، وَهِيَ حَائِضٌ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا، ثُمَّ يُمْسِكْهَا حَتَّى تَطْهُرَ، ثُمَّ تَحِيضَ، ثُمَّ تَطْهُرَ، ثُمَّ إِنْ شَاءَ أَمْسَكَ بَعْدُ، وَإِنْ شَاءَ طَلَّقَ، قَبْلَ أَنْ يَمَسَّ فَتِلْكَ الْعِدَّةُ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ أَنْ يُطَلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ.


( ما جاء في الأقراء وعدة الطلاق وطلاق الحائض)

( مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر) كذا في رواية يحيى وظاهرها الإرسال إذ نافع لم يدرك ذلك وليس بمراد فقد رواه غيره في الموطأ كيحيى النيسابوري، وإسماعيل، وغيرهما، مالك عن نافع عن ابن عمر أنه ( طلق امرأته) هي آمنة بمد الهمزة وكسر الميم، بنت غفار بكسر المعجمة وتخفيف الفاء وبالراء، كما ضبطه ابن نقطة وعزاه لابن سعد وذكر أنه وجده كذلك بخط الحافظ أبي الفضل بن ناصر أو بنت عمار بفتح العين المهملة والميم المشددة.

قال الحافظ والأول أولى وفي مسند أحمد اسمها النوّار فيمكن أن اسمها آمنة ولقبها النوار صحابية ( وهي حائض) جملة حالية زاد الليث عن نافع عن ابن عمر تطليقة واحدة أخرجه مسلم.
وقال جود الليث في قوله تطليقة واحدة، قال عياض: يعني أنه حفظ وأتقن ما لم يتقنه غيره ممن لم يفسر كم الطلاق وممن غلط ووهم وقال طلقها ثلاثًا.
( على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فسأل عمر بن الخطاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك) عن حكم طلاق ابنه على هذه الصفة زاد الشيخان من رواية سالم عن أبيه فتغيظ رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال ابن العربي يحتمل أن سؤال عمر لأن النازلة لم تكن وقعت فسأل ليعلم الحكم ويحتمل أنه علمه من قوله تعالى { { فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } } وقوله تعالى { { يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ } } والحيض ليس بقرء فيفتقر إلى بيان الحكم فيه ويحتمل أن يكون سمع النهي والأوسط أقواها ( فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم) لعمر ( مره) أصله أأمره بهمزتين الأولى للوصل مضمومة تبعًا للعين مثل افعل، والثانية فاء الكلمة ساكنة تبدل تخفيفًا من جنس حركة سابقتها فيقال: أومر فإذا وصل الفعل بما قبله زالت همزة الوصل، وسكنت الهمزة الأصلية كما في قوله تعالى { { وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاَةِ } } لكن استعملتها العرب بلا همز فقالوا: مر لكثرة الدور لأنهم حذفوا أولاً الهمزة الثانية تخفيفًا، ثم حذفوا همزة الوصل استغناء عنها لتحرك ما بعدها أي مُر ابنك عبد الله ( فليراجعها) والأمر للوجوب عند مالك وجماعة، وصححه صاحب الهداية من الحنفية وللندب عند الأئمة الثلاثة ولا حجة لهم في أنه إنما أمره بالرجعة أبوه وليس له أن يضع الشرع لأنه أمره بأمر النبي صلى الله عليه وسلم وهو مبلغ عنه، وأما استدلالهم بقوله تعالى { { فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ } } وغيرها من الآيات المقتضية للتخيير بين الإمساك بالرجعة أو الفراق بتركها فيجمع بينها وبين الحديث بحمل الأمر فيه على الندب جمعًا بينهما فليس بناهض إذ الأصل في الأمر الوجوب فيحمل عليه ويخص عموم الآيات بمن لم يطلق في الحيض ( ثم يمسكها) أي يديم إمساكها، وإلا فالرجعة إمساك وفي رواية يحيى التميمي ثم ليتركها ولإسماعيل ثم ليمسكها بإعادة اللام مكسورة ويجوز تسكينها كقراءة { { ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ } } فالكسر على الأصل في لام الأمر فرقا بينها وبين لام التأكيد والسكون للتخفيف إجراء للمنفصل مجرى المتصل.
وفي رواية ثم ليدعها ( حتى تطهر ثم تحيض) حيضة أخرى ( ثم تطهر ثم إن شاء أمسك بعد) أي بعد الطهر من الحيض الثاني ( وإن شاء طلق) وفي رواية إسماعيل طلقها ( قبل أن يمس) ولإسماعيل يمسها أي يجامعها فيكره في طهر مس فيه للتلبيس إذ لا يدري أحملت فتعتد بالوضع، أو لا فبالأقراء، وقد يظهر الحمل فيندم على الفراق.

وقد ذهب بعض الناس إلى جبره على الرجعة كالمطلق في الحيض فإن قيل لِمَ أمره أن يؤخر الطلاق إلى الطهر الثاني، أجيب: بأن حيض الطلاق والطهر التالي له بمنزلة قرء واحد فلو طلق فيه لصار كموقع طلقتين في قرء واحد وليس ذلك بطلاق السنة وبأنه عاقبه بتأخير الطلاق تغليظًا عليه جزاء بما فعله من الحرام وهو الطلاق في الحيض وهذا معترض بأن ابن عمر لم يعلم بالتحريم ولم يتحققه وحاشاه من ذلك فلا وجه لعقوبته قاله المازري، وأجيب بأن تغيظه صلى الله عليه وسلم دون أن يعذره يقتضي أن ذلك في الظهور لا يكاد يخفى على أحد وبأن ابن عمر وإن لم يتعمد فرط بترك السؤال قبل الفعل مع تمكنه منه فعوقب على تركه السؤال وليكون ذلك زجرًا لغيره بعده وقيل إنما أمره بالتأخير لئلا تصير الرجعة لمجرد غرض الطلاق لو طلق في أول الطهر الأول بخلاف الطهر الثاني وكما ينهى عن النكاح لمجرد الطلاق ينهى عن الرجعة له واعترض بأنه يلزم أن لا يطلق أحد قبل الدخول لأنه يصير كمن نكح للطلاق لا للنكاح وقيل ليطول مقامه معها والظن بابن عمر أنه لا يمنعها حقها في الوطء فلعله إذا وطئ تطيب نفسه ويمسكها فيكون ذلك حرصًا على رفع الطلاق وحضًا على بقاء الزوجية حكى ذلك المازري أيضًا، قال ابن عبد البر رواه يونس بن جبير وأنس بن سيرين وسالم عن ابن عمر بلفظ حتى تطهر من الحيضة التي طلقها فيها ثم إن شاء أمسكها فلم يقولوا ثم تحيض ثم تطهر كما قال نافع نعم رواية الزهري عن سالم موافقة لرواية نافع كما نبه عليه أبو داود وزيادة الثقة مقبولة خصوصًا إذا كان حافظًا ولفظ رواية الزهري عن سالم عن أبيه في الصحيحين مره فليراجعها حتى تحيض حيضة مستقبلة سوى حيضتها التي طلقها فيها فإن بدا له أن يطلقها فليطلقها طاهرًا من حيضتها قبل أن يمسها.
( فتلك العدة التي أمر الله) أي أذن ( أن يطلق لها النساء) في قوله تعالى: { { فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } } وفي رواية لمسلم قال ابن عمر وقرأ النبي صلى الله عليه وسلم يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن في قبل عدتهن قال عياض أي في استقبال عدتهن وهذه قراءة ابن عمر وابن عباس وفي قراءة ابن مسعود لقبل طهورهن قال القشيري وغيره وهذه القراءة على التفسير لا على التلاوة وهي تصحح أن المراد بالأقراء الأطهار إذ لا يستقبل في الحيض عدة عند الجميع ولا يجتزى بها عند أحد من الطائفتين زاد في رواية سالم في الصحيح، وكان عبد الله طلقها تطليقة واحدة فحسبت من طلاقها وراجعها عبد الله كما أمره صلى الله عليه وسلم وفيه أن الطلاق يقع في الحيض وإلا لم يكن للأمر بالمراجعة فائدة.
قال الباجي: إذ المراجعة لا تستعمل غالبًا إلا بعد طلاق يعتد به فهو حجة على من لا يعتد بخلافهم وهم هشام بن الحكم وابن علية وداود في قولهم لا يقع الطلاق على الحائض.
وفي بعض طرق الحديث فحسبت من طلاقها والذي حسب حينئذ النبي صلى الله عليه وسلم لأنه شوور في المسألة وأفتى فيها فمحال أن يعتد بها ابن عمر طلقة من غير أمره صلى الله عليه وسلم ومن جهة القياس أن إلزام الطلاق تغليظ ومنعه تخفيف لأنه لا يلزم الصبي ولا المجنون ولا النائم ويلزم السكران لأنه عاص فإذا لزم من أوقعه على الوجه المأمور به كان إلزامه لمن أوقعه على الوجه الممنوع أحرى.

وقال أبو عمر: جمهور العلماء على أن الطلاق في الحيض واقع وإن كرهه جميعهم ولا يخالف في ذلك إلا أهل البدع والجهل الذين يرون الطلاق لغير السنة لا يقع، وروي ذلك عن بعض التابعين وهو شذوذ لم يعرج عليه أحد من العلماء.
وقد سئل ابن عمر أيعتد بتلك الطلقة؟ قال: نعم روي ذلك عنه من طرق وفي بعضها قال: فمه أرأيت إن عجز واستحمق أي عجز عن فرض آخر فلم يأت به أكان يعذر وكان إذا سئل يقول إن طلقت امرأتك وهي حائض مرة أو مرتين فإن الله أمر أن تراجعها وإن طلقتها ثلاثًا فقد حرمت عليك حتى تنكح زوجًا غيرك فلو كان غير لازم لم يلزمه ثلاثًا كان أو واحدة ومن جهة النظر أن الطلاق ليس من القرب كالصلاة فلا تقع إلا على سببها وإنما هو زوال عصمة فإن أوقعه على غير سببه أثم ولزمه ومحال أن يلزم المطيع المتبع للسنة طلاقه ولا يلزم العاصي فيكون أحسن حالاً من المطيع وقد قال تعالى: { { وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ } } أي عصى ربه وفارق امرأته وكذلك المطلق في الحيض، وقال النووي: أجمعت الأمة على تحريم طلاق الحائض الحائل بغير رضاها فإن طلقها أثم ووقع وشذ بعض أهل الظاهر فقال لا يقع لأنه لم يؤذن فيه فأشبه طلاق الأجنبية والصواب الأول.
وبه قال العلماء كافة لأمره عليه السلام بالمراجعة فلو لم يقع لم تكن رجعة وزعم أن المراد الرجعة اللغوية وهي الرد إلى حالها الأول غلط لأن الحمل على الحقيقة الشرعية مقدم على اللغوية كما تقرر في الأصول ولأن ابن عمر صرح بأنه حسبها عليه طلقة اهـ.
وقد روى الدارقطني فقال عمر: يا رسول الله أفيحتسب بتلك الطلقة؟ قال نعم فهذا نص في موضع النزاع فيجب المصير إليه.

وما في مسلم عن أبي الزبير عن ابن عمر فقال صلى الله عليه وسلم ليراجعها، فردها وقال: إذا طهرت فليطلق أو يمسك وزاد النسائي وأبو داود فيه ولم يرها أعله أبو داود فقال: روى هذا الحديث عن ابن عمر جماعة وأحاديثهم كلهم على خلاف ما قال أبو الزبير.
وقال ابن عبد البر لم يقلها غير أبي الزبير وليس بحجة فيما خالفه فيه مثله فكيف بمن هو أثبت منه، وقال الخطابي: لم يرو أبو الزبير حديثًا أنكر من هذا وقال الشافعي نافع أثبت من أبي الزبير والأثبت أولى أن يؤخذ به إذا تخالفا وقد وافق نافعًا غيره من أهل التثبت وحمل قوله لم يرها شيئًا على أنه لم يعدها شيئًا صوابًا فهو كما يقال للرجل إذا أخطأ في فعله أو في جوابه لم يصنع شيئًا أي شيئًا صوابًا.
وقال الخطابي: لم يرها شيئًا تحرم معه المراجعة وقد تابع أبا الزبير عبد الله بن مالك عن ابن عمر أنه طلق امرأته وهي حائض، فقال صلى الله عليه وسلم ليس ذلك بشيء رواه سعيد بن منصور وهو قابل للتأويل وهو أولى من تغليط بعض الثقات.
قال ابن دقيق العيد: ويتعلق بالحديث مسألة أصولية وهي أن الأمر بالأمر بالشيء هل هو أمر بذلك الشيء أم لا؟ فإنه صلى الله عليه وسلم قال لعمر: مره، فأمره بأمره وأطال في فتح الباري الكلام في هذه المسألة.
والحاصل أن الخطاب إذا توجه لمكلف أن يأمر مكلفًا آخر بفعل شيء فالمكلف الأول مبلغ محض والثاني مأمور من قبل الشرع كما هنا وإن توجه من الشارع أن يأمر غير مكلف كحديث: مروا أولادكم بالصلاة لسبع.
لم يكن الأمر بالشيء أمرًا بالشيء لأن الأولاد غير مكلفين فلا يتجه عليهم الوجوب وإن توجه الخطاب من غير الشارع بأمر من له عليه الأمر أن يأمر من لا أمر للأول عليه لم يكن الآمر بالشيء آمرًا بالشيء أيضًا بل هو متعدّ بأمره للأول أن يأمر الثاني.

وفي الحديث فوائد غير ما ذكر وأخرجه البخاري عن إسماعيل ومسلم عن يحيى كلاهما عن مالك به وتابعه الليث وعبيد الله بن عمر عند مسلم كلاهما عن نافع وتابعه سالم عن ابن عمر في الصحيحين وله طرق أخرى فيهما وفي غيرهما.

( مالك عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عائشة أم المؤمنين أنها انتقلت) أي نقلت ( حفصة ابنة) شقيقها ( عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق) لما طلقها المنذر بن الزبير بن العوّام ( حين دخلت في الدم من الحيضة الثالثة) لتمام عدتها إذ الأقراء الأطهار كما دل عليه حديث ابن عمر ( قال ابن شهاب فذكر ذلك لعمرة بنت عبد الرحمن) الأنصارية أحد المكثرين عن عائشة ( فقالت صدق عروة) فيما روى عن عائشة ( وقد جادلها) خاصمها بشدة ( في ذلك ناس فقالوا إن الله تبارك وتعالى يقول في كتابه) { { وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ } }

تمضي من حين الطلاق جمع قرء بفتح القاف ( فقالت عائشة صدقتم) في أنه قاله ولكن ( تدرون) بحذف همزة الاستفهام، أي أتعلمون ( ما الأقراء) جمع قرء بالضم مثل قفل وأقفال.
( إنما الأقراء الأطهار) قال أبو عمر: لم تختلف العلماء ولا الفقهاء أن القرء لغة يقع على الطهر والحيضة إنما اختلفوا في المراد في الآية.
فقال جمهور أهل المدينة الأطهار وقال العراقيون: الحيض.
وحديث ابن عمر يدل للأول لقوله: ثم تحيض ثم تطهر ثم إن شاء طلق قبل أن يمس فتلك العدة التي أمر الله فأخبر أن الطلاق للعدة لا يكون إلا في طهر فهو بيان لقوله تعالى { { فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } } وقرئ لقبل عدتهن أي لاستقبالها، ونهى عن الطلاق في الحيض لأنها لا تستقبل العدة في تلك الحيضة عند الجميع والقول بأن القرء مأخوذ من قرأت الماء في الحوض ليس بشيء لأن القرء مهموز، وهذا ليس بمهموز.

وقال الأصمعي: أصل القرء الوقت يقال أقرأت النجوم إذا طلعت لوقتها.
وقال عياض: اختلف السلف ومن بعدهم من العلماء واللغويين في معنى الآية هل هو الحيض أو الطهر أو مشترك فتكون حقيقة فيهما أو حقيقة في الحيض مجاز في الطهر أو المراد به الانتقال من حال إلى حال دون كونه اسمًا للطهر أو الحيض فمعنى ثلاثة قروء ثلاث انتقالات وإذا علم ما هو مشتق منه اتضح فقيل من الوقت فيحتمل الأمرين وقيل من الجمع فهو ظاهر في الأطهار وقيل من الانتقال من حال إلى حال فيكون ظاهرًا في الطهر والحيض جميعًا لكن الثلاث انتقالات إنما تستقيم بالانتقال من الطهر إلى الحيض لا عكسه لأن الطلاق في الحيض لا يجوز ويعضده أن براءة الرحم إنما تعرف بالانتقال من الطهر إلى الحيض ولذا كان استبراء الإماء بالحيض لأن مجيئه غالبًا دليل على براءة الرحم ولا يدل مجيء الطهر على براءته إذ قد تحمل في آخر حيضها فكانت الثلاث في الحرائر كالواحدة في استبراء الإماء إلا ما حكاه القاضي إسماعيل عن أبي عبيدة وهذا اختيار الطبري والشافعي ومحققي أصحابنا المتأخرين وهو حسن دقيق.

( مالك عن ابن شهاب أنه قال سمعت أبا بكر بن عبد الرحمن يقول ما أدركت أحدًا من فقهائنا إلا وهو يقول هذا) وفي نسخة ذلك ( يريد قول عائشة) إنما الأقراء الأطهار ولا يرد عليه قوله صلى الله عليه وسلم فتلك العدة إذ لو أراد الأطهار لقال فذلك كما زعم المخالف لأنه أنث باعتبار الحالة أو العدة.

( مالك عن نافع) مولى ابن عمر ( وزيد بن أسلم) مولى عمر ( عن سليمان بن يسار أن الأحوص) بالحاء والصاد المهملتين، ابن عبد بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف.
ذكر ابن الكلبي والبلاذري أنه كان عاملاً لمعاوية على البحرين وسعى لمروان بن الحكم في قصة جرت له، ومقتضاه أن يكون له صحبة، وأنه عمر لأن أباه مات كافرًا ومن ولده منصور بن عبد الله بن الأحوص له ذكر بالشام في أيام بني مروان وكان ابنه عبد الله عاملاً أيضًا لمعاوية على بعض الشام.
وفي رواية ابن عيينة عن الزهري عن سليمان بن يسار أن الأحوص ابن فلان أو فلان بن الأحوص قال ابن الحذاء: الأقوى أن القصة للأحوص وهو ابن عبد ويحتمل أن يكون لولده عبد الله ولم يسم في رواية الزهري قاله في الإصابة لكن هذا الاحتمال إنما هو على رواية الزهري لا الموطأ لقوله الأحوص ( هلك) مات ( بالشام حين دخلت امرأته في الدم من الحيضة الثالثة وقد كان طلقها) زاد في رواية ابن أبي شيبة طلقة أو تطليقتين ( فكتب معاوية بن أبي سفيان) صخر بن حرب زاد ابن أبي شيبة فسأل عنها فضالة بن عبيد ومن هناك من الصحابة فلم يجد عندهم فيها علمًا فبعث راكبًا.
( إلى زيد بن ثابت يسأله عن ذلك فكتب إليه زيد إنها إذا دخلت في الدم من الحيضة الثالثة فقد برئت منه وبرئ منها) مثل سلم وزنًا ومعنى أي انقطعت العلاقة بينهما ( ولا ترثه ولا يرثها) لو كانت هي الميتة ففي هذا أيضًا أن الأقراء الأطهار.

( مالك أنه بلغه عن القاسم بن محمد وسالم بن عبد الله وأبي بكر بن عبد الرحمن وسليمان بن يسار) والأربعة من فقهاء المدينة السبعة أو العشرة ( وابن شهاب أنهم كانوا يقولون إذا دخلت المطلقة في الدم من الحيضة الثالثة فقد بانت من زوجها ولا ميراث بينهما ولا رجعة له عليها) لأن الأقراء الأطهار.

( مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أنه كان يقول إذا طلق الرجل امرأته فدخلت في الدم من الحيضة الثالثة فقد برئت منه وبرئ منها) فلا إرث ولا رجعة ( قال مالك وهو الأمر عندنا) بالمدينة وقال به جمع كثير من الصحابة والتابعين، والشافعي وذهب جمع من الصحابة والتابعين وأبو حنيفة إلى أن الأقراء الحيض وعن أحمد القولان واحتجوا بأنه يلزم القائلين بأنها الأطهار مخالفة القرآن لاعتدادها عندهم بطهر الطلاق، وإن قل فيكون عدّتها قرأين ونصفًا والله تعالى جعلها ثلاثة، وإذا كانت الحيض كانت ثلاثة قروء كاملة لحرمة الطلاق في الحيض وحمل هذا الاعتراض ابن شهاب على أن قال: الطهر الذي يقع فيه الطلاق لا يعتدّ به وهو مذهب انفرد به دون جميع من قال الأقراء الأطهار، وأجاب بعض أصحابنا بأن القرء هو الانتقال من حال إلى حال فما بقي من الطهر الذي وقع فيه الطلاق، فيه الانتقال من حال إلى حال فإنما وقعت العدّة بثلاثة أطهار كاملة وأجاب غيره بأنه لا يبعد تسمية اثنين، وبعض الثالث ثلاثة قال تعالى { { الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ } } وما الحج إلا شهران وعشرة أيام قاله المازري.

( مالك عن الفضيل) بضم الفاء مصغر ( بن أبي عبد الله) المدني الثقة ( مولى المهري) بفتح الميم وسكون الهاء ( أن القاسم بن محمد وسالم بن عبد الله كانا يقولان إذا طلقت المرأة فدخلت في الدم من الحيضة الثالثة فقد بانت منه وحلت) لمن يتزوجها لأن الأقراء الأطهار واحتج له بعضهم بقوله: ثلاثة قروء إذ لو أريد الحيض لقال: ثلاث بلا تاء لأنها تحذف من المؤنث وتدخل مع المذكر وغلطه المازري بأن العرب تراعي في العدد اللفظ مرّة كقولهم: ثلاثة منازل والمعنى أخرى كقول عمر بن أبي ربيعة:

فكان مجني دون من كنت أتقي
ثلاث شخوص كأعيان وجؤذر

فأنث على معنى الشخوص.
وأكثر الإمام من هذه الآثار تقوية لمذهبه أنها الأطهار واحتجاج القائل بأنها الحيض قال به نحو خمسة عشر من الصحابة معارض بقول عائشة وغيرها من الصحابة أنها الأقراء وعائشة مقدمة في الفقه لا سيما في أحوال النساء.

( مالك أنه بلغه عن سعيد بن المسيب وابن شهاب وسليمان بن يسار أنهم كانوا يقولون عدة المختلعة ثلاثة قروء) لأن الخلع طلاق فدخل في الآية.

( مالك أنه سمع ابن شهاب يقول عدّة المطلقة الأقراء وإن تباعدت) لإطلاق الآية.

( مالك عن يحيى بن سعيد عن رجل من الأنصار) يحتمل أنه زوج الربيع بنت معوذ وأنه غيره ( أن امرأته سألته الطلاق فقال لها إذا حضت فآذنيني) بالمدّ أعلميني ( فلما حاضت: آذنته فقال: إذا طهرت فآذنيني فلما طهرت آذنته فطلقها قال مالك وهذا أحسن ما سمعت في ذلك) أي طلاقها في طهر لم يمس فيه لموافقته لحديث ابن عمر.



رقم الحديث 1217 وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّهَا انْتَقَلَتْ حَفْصَةَ بِنْتَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ حِينَ دَخَلَتْ فِي الدَّمِ مِنَ الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ، قَالَ ابْنُ شِهَابٍ فَذُكِرَ ذَلِكَ لِعَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ فَقَالَتْ: صَدَقَ عُرْوَةُ وَقَدْ جَادَلَهَا فِي ذَلِكَ نَاسٌ، فَقَالُوا: إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَقُولُ فِي كِتَابِهِ { { ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ } } فَقَالَتْ عَائِشَةُ: صَدَقْتُمْ، تَدْرُونَ مَا الْأَقْرَاءُ؟ إِنَّمَا الْأَقْرَاءُ الْأَطْهَارُ.


( ما جاء في الأقراء وعدة الطلاق وطلاق الحائض)

( مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر) كذا في رواية يحيى وظاهرها الإرسال إذ نافع لم يدرك ذلك وليس بمراد فقد رواه غيره في الموطأ كيحيى النيسابوري، وإسماعيل، وغيرهما، مالك عن نافع عن ابن عمر أنه ( طلق امرأته) هي آمنة بمد الهمزة وكسر الميم، بنت غفار بكسر المعجمة وتخفيف الفاء وبالراء، كما ضبطه ابن نقطة وعزاه لابن سعد وذكر أنه وجده كذلك بخط الحافظ أبي الفضل بن ناصر أو بنت عمار بفتح العين المهملة والميم المشددة.

قال الحافظ والأول أولى وفي مسند أحمد اسمها النوّار فيمكن أن اسمها آمنة ولقبها النوار صحابية ( وهي حائض) جملة حالية زاد الليث عن نافع عن ابن عمر تطليقة واحدة أخرجه مسلم.
وقال جود الليث في قوله تطليقة واحدة، قال عياض: يعني أنه حفظ وأتقن ما لم يتقنه غيره ممن لم يفسر كم الطلاق وممن غلط ووهم وقال طلقها ثلاثًا.
( على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فسأل عمر بن الخطاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك) عن حكم طلاق ابنه على هذه الصفة زاد الشيخان من رواية سالم عن أبيه فتغيظ رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال ابن العربي يحتمل أن سؤال عمر لأن النازلة لم تكن وقعت فسأل ليعلم الحكم ويحتمل أنه علمه من قوله تعالى { { فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } } وقوله تعالى { { يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ } } والحيض ليس بقرء فيفتقر إلى بيان الحكم فيه ويحتمل أن يكون سمع النهي والأوسط أقواها ( فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم) لعمر ( مره) أصله أأمره بهمزتين الأولى للوصل مضمومة تبعًا للعين مثل افعل، والثانية فاء الكلمة ساكنة تبدل تخفيفًا من جنس حركة سابقتها فيقال: أومر فإذا وصل الفعل بما قبله زالت همزة الوصل، وسكنت الهمزة الأصلية كما في قوله تعالى { { وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاَةِ } } لكن استعملتها العرب بلا همز فقالوا: مر لكثرة الدور لأنهم حذفوا أولاً الهمزة الثانية تخفيفًا، ثم حذفوا همزة الوصل استغناء عنها لتحرك ما بعدها أي مُر ابنك عبد الله ( فليراجعها) والأمر للوجوب عند مالك وجماعة، وصححه صاحب الهداية من الحنفية وللندب عند الأئمة الثلاثة ولا حجة لهم في أنه إنما أمره بالرجعة أبوه وليس له أن يضع الشرع لأنه أمره بأمر النبي صلى الله عليه وسلم وهو مبلغ عنه، وأما استدلالهم بقوله تعالى { { فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ } } وغيرها من الآيات المقتضية للتخيير بين الإمساك بالرجعة أو الفراق بتركها فيجمع بينها وبين الحديث بحمل الأمر فيه على الندب جمعًا بينهما فليس بناهض إذ الأصل في الأمر الوجوب فيحمل عليه ويخص عموم الآيات بمن لم يطلق في الحيض ( ثم يمسكها) أي يديم إمساكها، وإلا فالرجعة إمساك وفي رواية يحيى التميمي ثم ليتركها ولإسماعيل ثم ليمسكها بإعادة اللام مكسورة ويجوز تسكينها كقراءة { { ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ } } فالكسر على الأصل في لام الأمر فرقا بينها وبين لام التأكيد والسكون للتخفيف إجراء للمنفصل مجرى المتصل.
وفي رواية ثم ليدعها ( حتى تطهر ثم تحيض) حيضة أخرى ( ثم تطهر ثم إن شاء أمسك بعد) أي بعد الطهر من الحيض الثاني ( وإن شاء طلق) وفي رواية إسماعيل طلقها ( قبل أن يمس) ولإسماعيل يمسها أي يجامعها فيكره في طهر مس فيه للتلبيس إذ لا يدري أحملت فتعتد بالوضع، أو لا فبالأقراء، وقد يظهر الحمل فيندم على الفراق.

وقد ذهب بعض الناس إلى جبره على الرجعة كالمطلق في الحيض فإن قيل لِمَ أمره أن يؤخر الطلاق إلى الطهر الثاني، أجيب: بأن حيض الطلاق والطهر التالي له بمنزلة قرء واحد فلو طلق فيه لصار كموقع طلقتين في قرء واحد وليس ذلك بطلاق السنة وبأنه عاقبه بتأخير الطلاق تغليظًا عليه جزاء بما فعله من الحرام وهو الطلاق في الحيض وهذا معترض بأن ابن عمر لم يعلم بالتحريم ولم يتحققه وحاشاه من ذلك فلا وجه لعقوبته قاله المازري، وأجيب بأن تغيظه صلى الله عليه وسلم دون أن يعذره يقتضي أن ذلك في الظهور لا يكاد يخفى على أحد وبأن ابن عمر وإن لم يتعمد فرط بترك السؤال قبل الفعل مع تمكنه منه فعوقب على تركه السؤال وليكون ذلك زجرًا لغيره بعده وقيل إنما أمره بالتأخير لئلا تصير الرجعة لمجرد غرض الطلاق لو طلق في أول الطهر الأول بخلاف الطهر الثاني وكما ينهى عن النكاح لمجرد الطلاق ينهى عن الرجعة له واعترض بأنه يلزم أن لا يطلق أحد قبل الدخول لأنه يصير كمن نكح للطلاق لا للنكاح وقيل ليطول مقامه معها والظن بابن عمر أنه لا يمنعها حقها في الوطء فلعله إذا وطئ تطيب نفسه ويمسكها فيكون ذلك حرصًا على رفع الطلاق وحضًا على بقاء الزوجية حكى ذلك المازري أيضًا، قال ابن عبد البر رواه يونس بن جبير وأنس بن سيرين وسالم عن ابن عمر بلفظ حتى تطهر من الحيضة التي طلقها فيها ثم إن شاء أمسكها فلم يقولوا ثم تحيض ثم تطهر كما قال نافع نعم رواية الزهري عن سالم موافقة لرواية نافع كما نبه عليه أبو داود وزيادة الثقة مقبولة خصوصًا إذا كان حافظًا ولفظ رواية الزهري عن سالم عن أبيه في الصحيحين مره فليراجعها حتى تحيض حيضة مستقبلة سوى حيضتها التي طلقها فيها فإن بدا له أن يطلقها فليطلقها طاهرًا من حيضتها قبل أن يمسها.
( فتلك العدة التي أمر الله) أي أذن ( أن يطلق لها النساء) في قوله تعالى: { { فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } } وفي رواية لمسلم قال ابن عمر وقرأ النبي صلى الله عليه وسلم يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن في قبل عدتهن قال عياض أي في استقبال عدتهن وهذه قراءة ابن عمر وابن عباس وفي قراءة ابن مسعود لقبل طهورهن قال القشيري وغيره وهذه القراءة على التفسير لا على التلاوة وهي تصحح أن المراد بالأقراء الأطهار إذ لا يستقبل في الحيض عدة عند الجميع ولا يجتزى بها عند أحد من الطائفتين زاد في رواية سالم في الصحيح، وكان عبد الله طلقها تطليقة واحدة فحسبت من طلاقها وراجعها عبد الله كما أمره صلى الله عليه وسلم وفيه أن الطلاق يقع في الحيض وإلا لم يكن للأمر بالمراجعة فائدة.
قال الباجي: إذ المراجعة لا تستعمل غالبًا إلا بعد طلاق يعتد به فهو حجة على من لا يعتد بخلافهم وهم هشام بن الحكم وابن علية وداود في قولهم لا يقع الطلاق على الحائض.
وفي بعض طرق الحديث فحسبت من طلاقها والذي حسب حينئذ النبي صلى الله عليه وسلم لأنه شوور في المسألة وأفتى فيها فمحال أن يعتد بها ابن عمر طلقة من غير أمره صلى الله عليه وسلم ومن جهة القياس أن إلزام الطلاق تغليظ ومنعه تخفيف لأنه لا يلزم الصبي ولا المجنون ولا النائم ويلزم السكران لأنه عاص فإذا لزم من أوقعه على الوجه المأمور به كان إلزامه لمن أوقعه على الوجه الممنوع أحرى.

وقال أبو عمر: جمهور العلماء على أن الطلاق في الحيض واقع وإن كرهه جميعهم ولا يخالف في ذلك إلا أهل البدع والجهل الذين يرون الطلاق لغير السنة لا يقع، وروي ذلك عن بعض التابعين وهو شذوذ لم يعرج عليه أحد من العلماء.
وقد سئل ابن عمر أيعتد بتلك الطلقة؟ قال: نعم روي ذلك عنه من طرق وفي بعضها قال: فمه أرأيت إن عجز واستحمق أي عجز عن فرض آخر فلم يأت به أكان يعذر وكان إذا سئل يقول إن طلقت امرأتك وهي حائض مرة أو مرتين فإن الله أمر أن تراجعها وإن طلقتها ثلاثًا فقد حرمت عليك حتى تنكح زوجًا غيرك فلو كان غير لازم لم يلزمه ثلاثًا كان أو واحدة ومن جهة النظر أن الطلاق ليس من القرب كالصلاة فلا تقع إلا على سببها وإنما هو زوال عصمة فإن أوقعه على غير سببه أثم ولزمه ومحال أن يلزم المطيع المتبع للسنة طلاقه ولا يلزم العاصي فيكون أحسن حالاً من المطيع وقد قال تعالى: { { وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ } } أي عصى ربه وفارق امرأته وكذلك المطلق في الحيض، وقال النووي: أجمعت الأمة على تحريم طلاق الحائض الحائل بغير رضاها فإن طلقها أثم ووقع وشذ بعض أهل الظاهر فقال لا يقع لأنه لم يؤذن فيه فأشبه طلاق الأجنبية والصواب الأول.
وبه قال العلماء كافة لأمره عليه السلام بالمراجعة فلو لم يقع لم تكن رجعة وزعم أن المراد الرجعة اللغوية وهي الرد إلى حالها الأول غلط لأن الحمل على الحقيقة الشرعية مقدم على اللغوية كما تقرر في الأصول ولأن ابن عمر صرح بأنه حسبها عليه طلقة اهـ.
وقد روى الدارقطني فقال عمر: يا رسول الله أفيحتسب بتلك الطلقة؟ قال نعم فهذا نص في موضع النزاع فيجب المصير إليه.

وما في مسلم عن أبي الزبير عن ابن عمر فقال صلى الله عليه وسلم ليراجعها، فردها وقال: إذا طهرت فليطلق أو يمسك وزاد النسائي وأبو داود فيه ولم يرها أعله أبو داود فقال: روى هذا الحديث عن ابن عمر جماعة وأحاديثهم كلهم على خلاف ما قال أبو الزبير.
وقال ابن عبد البر لم يقلها غير أبي الزبير وليس بحجة فيما خالفه فيه مثله فكيف بمن هو أثبت منه، وقال الخطابي: لم يرو أبو الزبير حديثًا أنكر من هذا وقال الشافعي نافع أثبت من أبي الزبير والأثبت أولى أن يؤخذ به إذا تخالفا وقد وافق نافعًا غيره من أهل التثبت وحمل قوله لم يرها شيئًا على أنه لم يعدها شيئًا صوابًا فهو كما يقال للرجل إذا أخطأ في فعله أو في جوابه لم يصنع شيئًا أي شيئًا صوابًا.
وقال الخطابي: لم يرها شيئًا تحرم معه المراجعة وقد تابع أبا الزبير عبد الله بن مالك عن ابن عمر أنه طلق امرأته وهي حائض، فقال صلى الله عليه وسلم ليس ذلك بشيء رواه سعيد بن منصور وهو قابل للتأويل وهو أولى من تغليط بعض الثقات.
قال ابن دقيق العيد: ويتعلق بالحديث مسألة أصولية وهي أن الأمر بالأمر بالشيء هل هو أمر بذلك الشيء أم لا؟ فإنه صلى الله عليه وسلم قال لعمر: مره، فأمره بأمره وأطال في فتح الباري الكلام في هذه المسألة.
والحاصل أن الخطاب إذا توجه لمكلف أن يأمر مكلفًا آخر بفعل شيء فالمكلف الأول مبلغ محض والثاني مأمور من قبل الشرع كما هنا وإن توجه من الشارع أن يأمر غير مكلف كحديث: مروا أولادكم بالصلاة لسبع.
لم يكن الأمر بالشيء أمرًا بالشيء لأن الأولاد غير مكلفين فلا يتجه عليهم الوجوب وإن توجه الخطاب من غير الشارع بأمر من له عليه الأمر أن يأمر من لا أمر للأول عليه لم يكن الآمر بالشيء آمرًا بالشيء أيضًا بل هو متعدّ بأمره للأول أن يأمر الثاني.

وفي الحديث فوائد غير ما ذكر وأخرجه البخاري عن إسماعيل ومسلم عن يحيى كلاهما عن مالك به وتابعه الليث وعبيد الله بن عمر عند مسلم كلاهما عن نافع وتابعه سالم عن ابن عمر في الصحيحين وله طرق أخرى فيهما وفي غيرهما.

( مالك عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عائشة أم المؤمنين أنها انتقلت) أي نقلت ( حفصة ابنة) شقيقها ( عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق) لما طلقها المنذر بن الزبير بن العوّام ( حين دخلت في الدم من الحيضة الثالثة) لتمام عدتها إذ الأقراء الأطهار كما دل عليه حديث ابن عمر ( قال ابن شهاب فذكر ذلك لعمرة بنت عبد الرحمن) الأنصارية أحد المكثرين عن عائشة ( فقالت صدق عروة) فيما روى عن عائشة ( وقد جادلها) خاصمها بشدة ( في ذلك ناس فقالوا إن الله تبارك وتعالى يقول في كتابه) { { وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ } }

تمضي من حين الطلاق جمع قرء بفتح القاف ( فقالت عائشة صدقتم) في أنه قاله ولكن ( تدرون) بحذف همزة الاستفهام، أي أتعلمون ( ما الأقراء) جمع قرء بالضم مثل قفل وأقفال.
( إنما الأقراء الأطهار) قال أبو عمر: لم تختلف العلماء ولا الفقهاء أن القرء لغة يقع على الطهر والحيضة إنما اختلفوا في المراد في الآية.
فقال جمهور أهل المدينة الأطهار وقال العراقيون: الحيض.
وحديث ابن عمر يدل للأول لقوله: ثم تحيض ثم تطهر ثم إن شاء طلق قبل أن يمس فتلك العدة التي أمر الله فأخبر أن الطلاق للعدة لا يكون إلا في طهر فهو بيان لقوله تعالى { { فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } } وقرئ لقبل عدتهن أي لاستقبالها، ونهى عن الطلاق في الحيض لأنها لا تستقبل العدة في تلك الحيضة عند الجميع والقول بأن القرء مأخوذ من قرأت الماء في الحوض ليس بشيء لأن القرء مهموز، وهذا ليس بمهموز.

وقال الأصمعي: أصل القرء الوقت يقال أقرأت النجوم إذا طلعت لوقتها.
وقال عياض: اختلف السلف ومن بعدهم من العلماء واللغويين في معنى الآية هل هو الحيض أو الطهر أو مشترك فتكون حقيقة فيهما أو حقيقة في الحيض مجاز في الطهر أو المراد به الانتقال من حال إلى حال دون كونه اسمًا للطهر أو الحيض فمعنى ثلاثة قروء ثلاث انتقالات وإذا علم ما هو مشتق منه اتضح فقيل من الوقت فيحتمل الأمرين وقيل من الجمع فهو ظاهر في الأطهار وقيل من الانتقال من حال إلى حال فيكون ظاهرًا في الطهر والحيض جميعًا لكن الثلاث انتقالات إنما تستقيم بالانتقال من الطهر إلى الحيض لا عكسه لأن الطلاق في الحيض لا يجوز ويعضده أن براءة الرحم إنما تعرف بالانتقال من الطهر إلى الحيض ولذا كان استبراء الإماء بالحيض لأن مجيئه غالبًا دليل على براءة الرحم ولا يدل مجيء الطهر على براءته إذ قد تحمل في آخر حيضها فكانت الثلاث في الحرائر كالواحدة في استبراء الإماء إلا ما حكاه القاضي إسماعيل عن أبي عبيدة وهذا اختيار الطبري والشافعي ومحققي أصحابنا المتأخرين وهو حسن دقيق.

( مالك عن ابن شهاب أنه قال سمعت أبا بكر بن عبد الرحمن يقول ما أدركت أحدًا من فقهائنا إلا وهو يقول هذا) وفي نسخة ذلك ( يريد قول عائشة) إنما الأقراء الأطهار ولا يرد عليه قوله صلى الله عليه وسلم فتلك العدة إذ لو أراد الأطهار لقال فذلك كما زعم المخالف لأنه أنث باعتبار الحالة أو العدة.

( مالك عن نافع) مولى ابن عمر ( وزيد بن أسلم) مولى عمر ( عن سليمان بن يسار أن الأحوص) بالحاء والصاد المهملتين، ابن عبد بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف.
ذكر ابن الكلبي والبلاذري أنه كان عاملاً لمعاوية على البحرين وسعى لمروان بن الحكم في قصة جرت له، ومقتضاه أن يكون له صحبة، وأنه عمر لأن أباه مات كافرًا ومن ولده منصور بن عبد الله بن الأحوص له ذكر بالشام في أيام بني مروان وكان ابنه عبد الله عاملاً أيضًا لمعاوية على بعض الشام.
وفي رواية ابن عيينة عن الزهري عن سليمان بن يسار أن الأحوص ابن فلان أو فلان بن الأحوص قال ابن الحذاء: الأقوى أن القصة للأحوص وهو ابن عبد ويحتمل أن يكون لولده عبد الله ولم يسم في رواية الزهري قاله في الإصابة لكن هذا الاحتمال إنما هو على رواية الزهري لا الموطأ لقوله الأحوص ( هلك) مات ( بالشام حين دخلت امرأته في الدم من الحيضة الثالثة وقد كان طلقها) زاد في رواية ابن أبي شيبة طلقة أو تطليقتين ( فكتب معاوية بن أبي سفيان) صخر بن حرب زاد ابن أبي شيبة فسأل عنها فضالة بن عبيد ومن هناك من الصحابة فلم يجد عندهم فيها علمًا فبعث راكبًا.
( إلى زيد بن ثابت يسأله عن ذلك فكتب إليه زيد إنها إذا دخلت في الدم من الحيضة الثالثة فقد برئت منه وبرئ منها) مثل سلم وزنًا ومعنى أي انقطعت العلاقة بينهما ( ولا ترثه ولا يرثها) لو كانت هي الميتة ففي هذا أيضًا أن الأقراء الأطهار.

( مالك أنه بلغه عن القاسم بن محمد وسالم بن عبد الله وأبي بكر بن عبد الرحمن وسليمان بن يسار) والأربعة من فقهاء المدينة السبعة أو العشرة ( وابن شهاب أنهم كانوا يقولون إذا دخلت المطلقة في الدم من الحيضة الثالثة فقد بانت من زوجها ولا ميراث بينهما ولا رجعة له عليها) لأن الأقراء الأطهار.

( مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أنه كان يقول إذا طلق الرجل امرأته فدخلت في الدم من الحيضة الثالثة فقد برئت منه وبرئ منها) فلا إرث ولا رجعة ( قال مالك وهو الأمر عندنا) بالمدينة وقال به جمع كثير من الصحابة والتابعين، والشافعي وذهب جمع من الصحابة والتابعين وأبو حنيفة إلى أن الأقراء الحيض وعن أحمد القولان واحتجوا بأنه يلزم القائلين بأنها الأطهار مخالفة القرآن لاعتدادها عندهم بطهر الطلاق، وإن قل فيكون عدّتها قرأين ونصفًا والله تعالى جعلها ثلاثة، وإذا كانت الحيض كانت ثلاثة قروء كاملة لحرمة الطلاق في الحيض وحمل هذا الاعتراض ابن شهاب على أن قال: الطهر الذي يقع فيه الطلاق لا يعتدّ به وهو مذهب انفرد به دون جميع من قال الأقراء الأطهار، وأجاب بعض أصحابنا بأن القرء هو الانتقال من حال إلى حال فما بقي من الطهر الذي وقع فيه الطلاق، فيه الانتقال من حال إلى حال فإنما وقعت العدّة بثلاثة أطهار كاملة وأجاب غيره بأنه لا يبعد تسمية اثنين، وبعض الثالث ثلاثة قال تعالى { { الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ } } وما الحج إلا شهران وعشرة أيام قاله المازري.

( مالك عن الفضيل) بضم الفاء مصغر ( بن أبي عبد الله) المدني الثقة ( مولى المهري) بفتح الميم وسكون الهاء ( أن القاسم بن محمد وسالم بن عبد الله كانا يقولان إذا طلقت المرأة فدخلت في الدم من الحيضة الثالثة فقد بانت منه وحلت) لمن يتزوجها لأن الأقراء الأطهار واحتج له بعضهم بقوله: ثلاثة قروء إذ لو أريد الحيض لقال: ثلاث بلا تاء لأنها تحذف من المؤنث وتدخل مع المذكر وغلطه المازري بأن العرب تراعي في العدد اللفظ مرّة كقولهم: ثلاثة منازل والمعنى أخرى كقول عمر بن أبي ربيعة:

فكان مجني دون من كنت أتقي
ثلاث شخوص كأعيان وجؤذر

فأنث على معنى الشخوص.
وأكثر الإمام من هذه الآثار تقوية لمذهبه أنها الأطهار واحتجاج القائل بأنها الحيض قال به نحو خمسة عشر من الصحابة معارض بقول عائشة وغيرها من الصحابة أنها الأقراء وعائشة مقدمة في الفقه لا سيما في أحوال النساء.

( مالك أنه بلغه عن سعيد بن المسيب وابن شهاب وسليمان بن يسار أنهم كانوا يقولون عدة المختلعة ثلاثة قروء) لأن الخلع طلاق فدخل في الآية.

( مالك أنه سمع ابن شهاب يقول عدّة المطلقة الأقراء وإن تباعدت) لإطلاق الآية.

( مالك عن يحيى بن سعيد عن رجل من الأنصار) يحتمل أنه زوج الربيع بنت معوذ وأنه غيره ( أن امرأته سألته الطلاق فقال لها إذا حضت فآذنيني) بالمدّ أعلميني ( فلما حاضت: آذنته فقال: إذا طهرت فآذنيني فلما طهرت آذنته فطلقها قال مالك وهذا أحسن ما سمعت في ذلك) أي طلاقها في طهر لم يمس فيه لموافقته لحديث ابن عمر.



رقم الحديث 1218 وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ، وَزَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ أَنَّ الْأَحْوَصَ هَلَكَ بِالشَّامِ، حِينَ دَخَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي الدَّمِ مِنَ الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ، وَقَدْ كَانَ طَلَّقَهَا، فَكَتَبَ مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ إِلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، يَسْأَلُهُ عَنْ ذَلِكَ فَكَتَبَ إِلَيْهِ زَيْدٌ إِنَّهَا: إِذَا دَخَلَتْ فِي الدَّمِ مِنَ الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ، فَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُ وَبَرِئَ مِنْهَا وَلَا تَرِثُهُ وَلَا يَرِثُهَا.


( ما جاء في الأقراء وعدة الطلاق وطلاق الحائض)

( مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر) كذا في رواية يحيى وظاهرها الإرسال إذ نافع لم يدرك ذلك وليس بمراد فقد رواه غيره في الموطأ كيحيى النيسابوري، وإسماعيل، وغيرهما، مالك عن نافع عن ابن عمر أنه ( طلق امرأته) هي آمنة بمد الهمزة وكسر الميم، بنت غفار بكسر المعجمة وتخفيف الفاء وبالراء، كما ضبطه ابن نقطة وعزاه لابن سعد وذكر أنه وجده كذلك بخط الحافظ أبي الفضل بن ناصر أو بنت عمار بفتح العين المهملة والميم المشددة.

قال الحافظ والأول أولى وفي مسند أحمد اسمها النوّار فيمكن أن اسمها آمنة ولقبها النوار صحابية ( وهي حائض) جملة حالية زاد الليث عن نافع عن ابن عمر تطليقة واحدة أخرجه مسلم.
وقال جود الليث في قوله تطليقة واحدة، قال عياض: يعني أنه حفظ وأتقن ما لم يتقنه غيره ممن لم يفسر كم الطلاق وممن غلط ووهم وقال طلقها ثلاثًا.
( على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فسأل عمر بن الخطاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك) عن حكم طلاق ابنه على هذه الصفة زاد الشيخان من رواية سالم عن أبيه فتغيظ رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال ابن العربي يحتمل أن سؤال عمر لأن النازلة لم تكن وقعت فسأل ليعلم الحكم ويحتمل أنه علمه من قوله تعالى { { فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } } وقوله تعالى { { يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ } } والحيض ليس بقرء فيفتقر إلى بيان الحكم فيه ويحتمل أن يكون سمع النهي والأوسط أقواها ( فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم) لعمر ( مره) أصله أأمره بهمزتين الأولى للوصل مضمومة تبعًا للعين مثل افعل، والثانية فاء الكلمة ساكنة تبدل تخفيفًا من جنس حركة سابقتها فيقال: أومر فإذا وصل الفعل بما قبله زالت همزة الوصل، وسكنت الهمزة الأصلية كما في قوله تعالى { { وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاَةِ } } لكن استعملتها العرب بلا همز فقالوا: مر لكثرة الدور لأنهم حذفوا أولاً الهمزة الثانية تخفيفًا، ثم حذفوا همزة الوصل استغناء عنها لتحرك ما بعدها أي مُر ابنك عبد الله ( فليراجعها) والأمر للوجوب عند مالك وجماعة، وصححه صاحب الهداية من الحنفية وللندب عند الأئمة الثلاثة ولا حجة لهم في أنه إنما أمره بالرجعة أبوه وليس له أن يضع الشرع لأنه أمره بأمر النبي صلى الله عليه وسلم وهو مبلغ عنه، وأما استدلالهم بقوله تعالى { { فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ } } وغيرها من الآيات المقتضية للتخيير بين الإمساك بالرجعة أو الفراق بتركها فيجمع بينها وبين الحديث بحمل الأمر فيه على الندب جمعًا بينهما فليس بناهض إذ الأصل في الأمر الوجوب فيحمل عليه ويخص عموم الآيات بمن لم يطلق في الحيض ( ثم يمسكها) أي يديم إمساكها، وإلا فالرجعة إمساك وفي رواية يحيى التميمي ثم ليتركها ولإسماعيل ثم ليمسكها بإعادة اللام مكسورة ويجوز تسكينها كقراءة { { ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ } } فالكسر على الأصل في لام الأمر فرقا بينها وبين لام التأكيد والسكون للتخفيف إجراء للمنفصل مجرى المتصل.
وفي رواية ثم ليدعها ( حتى تطهر ثم تحيض) حيضة أخرى ( ثم تطهر ثم إن شاء أمسك بعد) أي بعد الطهر من الحيض الثاني ( وإن شاء طلق) وفي رواية إسماعيل طلقها ( قبل أن يمس) ولإسماعيل يمسها أي يجامعها فيكره في طهر مس فيه للتلبيس إذ لا يدري أحملت فتعتد بالوضع، أو لا فبالأقراء، وقد يظهر الحمل فيندم على الفراق.

وقد ذهب بعض الناس إلى جبره على الرجعة كالمطلق في الحيض فإن قيل لِمَ أمره أن يؤخر الطلاق إلى الطهر الثاني، أجيب: بأن حيض الطلاق والطهر التالي له بمنزلة قرء واحد فلو طلق فيه لصار كموقع طلقتين في قرء واحد وليس ذلك بطلاق السنة وبأنه عاقبه بتأخير الطلاق تغليظًا عليه جزاء بما فعله من الحرام وهو الطلاق في الحيض وهذا معترض بأن ابن عمر لم يعلم بالتحريم ولم يتحققه وحاشاه من ذلك فلا وجه لعقوبته قاله المازري، وأجيب بأن تغيظه صلى الله عليه وسلم دون أن يعذره يقتضي أن ذلك في الظهور لا يكاد يخفى على أحد وبأن ابن عمر وإن لم يتعمد فرط بترك السؤال قبل الفعل مع تمكنه منه فعوقب على تركه السؤال وليكون ذلك زجرًا لغيره بعده وقيل إنما أمره بالتأخير لئلا تصير الرجعة لمجرد غرض الطلاق لو طلق في أول الطهر الأول بخلاف الطهر الثاني وكما ينهى عن النكاح لمجرد الطلاق ينهى عن الرجعة له واعترض بأنه يلزم أن لا يطلق أحد قبل الدخول لأنه يصير كمن نكح للطلاق لا للنكاح وقيل ليطول مقامه معها والظن بابن عمر أنه لا يمنعها حقها في الوطء فلعله إذا وطئ تطيب نفسه ويمسكها فيكون ذلك حرصًا على رفع الطلاق وحضًا على بقاء الزوجية حكى ذلك المازري أيضًا، قال ابن عبد البر رواه يونس بن جبير وأنس بن سيرين وسالم عن ابن عمر بلفظ حتى تطهر من الحيضة التي طلقها فيها ثم إن شاء أمسكها فلم يقولوا ثم تحيض ثم تطهر كما قال نافع نعم رواية الزهري عن سالم موافقة لرواية نافع كما نبه عليه أبو داود وزيادة الثقة مقبولة خصوصًا إذا كان حافظًا ولفظ رواية الزهري عن سالم عن أبيه في الصحيحين مره فليراجعها حتى تحيض حيضة مستقبلة سوى حيضتها التي طلقها فيها فإن بدا له أن يطلقها فليطلقها طاهرًا من حيضتها قبل أن يمسها.
( فتلك العدة التي أمر الله) أي أذن ( أن يطلق لها النساء) في قوله تعالى: { { فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } } وفي رواية لمسلم قال ابن عمر وقرأ النبي صلى الله عليه وسلم يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن في قبل عدتهن قال عياض أي في استقبال عدتهن وهذه قراءة ابن عمر وابن عباس وفي قراءة ابن مسعود لقبل طهورهن قال القشيري وغيره وهذه القراءة على التفسير لا على التلاوة وهي تصحح أن المراد بالأقراء الأطهار إذ لا يستقبل في الحيض عدة عند الجميع ولا يجتزى بها عند أحد من الطائفتين زاد في رواية سالم في الصحيح، وكان عبد الله طلقها تطليقة واحدة فحسبت من طلاقها وراجعها عبد الله كما أمره صلى الله عليه وسلم وفيه أن الطلاق يقع في الحيض وإلا لم يكن للأمر بالمراجعة فائدة.
قال الباجي: إذ المراجعة لا تستعمل غالبًا إلا بعد طلاق يعتد به فهو حجة على من لا يعتد بخلافهم وهم هشام بن الحكم وابن علية وداود في قولهم لا يقع الطلاق على الحائض.
وفي بعض طرق الحديث فحسبت من طلاقها والذي حسب حينئذ النبي صلى الله عليه وسلم لأنه شوور في المسألة وأفتى فيها فمحال أن يعتد بها ابن عمر طلقة من غير أمره صلى الله عليه وسلم ومن جهة القياس أن إلزام الطلاق تغليظ ومنعه تخفيف لأنه لا يلزم الصبي ولا المجنون ولا النائم ويلزم السكران لأنه عاص فإذا لزم من أوقعه على الوجه المأمور به كان إلزامه لمن أوقعه على الوجه الممنوع أحرى.

وقال أبو عمر: جمهور العلماء على أن الطلاق في الحيض واقع وإن كرهه جميعهم ولا يخالف في ذلك إلا أهل البدع والجهل الذين يرون الطلاق لغير السنة لا يقع، وروي ذلك عن بعض التابعين وهو شذوذ لم يعرج عليه أحد من العلماء.
وقد سئل ابن عمر أيعتد بتلك الطلقة؟ قال: نعم روي ذلك عنه من طرق وفي بعضها قال: فمه أرأيت إن عجز واستحمق أي عجز عن فرض آخر فلم يأت به أكان يعذر وكان إذا سئل يقول إن طلقت امرأتك وهي حائض مرة أو مرتين فإن الله أمر أن تراجعها وإن طلقتها ثلاثًا فقد حرمت عليك حتى تنكح زوجًا غيرك فلو كان غير لازم لم يلزمه ثلاثًا كان أو واحدة ومن جهة النظر أن الطلاق ليس من القرب كالصلاة فلا تقع إلا على سببها وإنما هو زوال عصمة فإن أوقعه على غير سببه أثم ولزمه ومحال أن يلزم المطيع المتبع للسنة طلاقه ولا يلزم العاصي فيكون أحسن حالاً من المطيع وقد قال تعالى: { { وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ } } أي عصى ربه وفارق امرأته وكذلك المطلق في الحيض، وقال النووي: أجمعت الأمة على تحريم طلاق الحائض الحائل بغير رضاها فإن طلقها أثم ووقع وشذ بعض أهل الظاهر فقال لا يقع لأنه لم يؤذن فيه فأشبه طلاق الأجنبية والصواب الأول.
وبه قال العلماء كافة لأمره عليه السلام بالمراجعة فلو لم يقع لم تكن رجعة وزعم أن المراد الرجعة اللغوية وهي الرد إلى حالها الأول غلط لأن الحمل على الحقيقة الشرعية مقدم على اللغوية كما تقرر في الأصول ولأن ابن عمر صرح بأنه حسبها عليه طلقة اهـ.
وقد روى الدارقطني فقال عمر: يا رسول الله أفيحتسب بتلك الطلقة؟ قال نعم فهذا نص في موضع النزاع فيجب المصير إليه.

وما في مسلم عن أبي الزبير عن ابن عمر فقال صلى الله عليه وسلم ليراجعها، فردها وقال: إذا طهرت فليطلق أو يمسك وزاد النسائي وأبو داود فيه ولم يرها أعله أبو داود فقال: روى هذا الحديث عن ابن عمر جماعة وأحاديثهم كلهم على خلاف ما قال أبو الزبير.
وقال ابن عبد البر لم يقلها غير أبي الزبير وليس بحجة فيما خالفه فيه مثله فكيف بمن هو أثبت منه، وقال الخطابي: لم يرو أبو الزبير حديثًا أنكر من هذا وقال الشافعي نافع أثبت من أبي الزبير والأثبت أولى أن يؤخذ به إذا تخالفا وقد وافق نافعًا غيره من أهل التثبت وحمل قوله لم يرها شيئًا على أنه لم يعدها شيئًا صوابًا فهو كما يقال للرجل إذا أخطأ في فعله أو في جوابه لم يصنع شيئًا أي شيئًا صوابًا.
وقال الخطابي: لم يرها شيئًا تحرم معه المراجعة وقد تابع أبا الزبير عبد الله بن مالك عن ابن عمر أنه طلق امرأته وهي حائض، فقال صلى الله عليه وسلم ليس ذلك بشيء رواه سعيد بن منصور وهو قابل للتأويل وهو أولى من تغليط بعض الثقات.
قال ابن دقيق العيد: ويتعلق بالحديث مسألة أصولية وهي أن الأمر بالأمر بالشيء هل هو أمر بذلك الشيء أم لا؟ فإنه صلى الله عليه وسلم قال لعمر: مره، فأمره بأمره وأطال في فتح الباري الكلام في هذه المسألة.
والحاصل أن الخطاب إذا توجه لمكلف أن يأمر مكلفًا آخر بفعل شيء فالمكلف الأول مبلغ محض والثاني مأمور من قبل الشرع كما هنا وإن توجه من الشارع أن يأمر غير مكلف كحديث: مروا أولادكم بالصلاة لسبع.
لم يكن الأمر بالشيء أمرًا بالشيء لأن الأولاد غير مكلفين فلا يتجه عليهم الوجوب وإن توجه الخطاب من غير الشارع بأمر من له عليه الأمر أن يأمر من لا أمر للأول عليه لم يكن الآمر بالشيء آمرًا بالشيء أيضًا بل هو متعدّ بأمره للأول أن يأمر الثاني.

وفي الحديث فوائد غير ما ذكر وأخرجه البخاري عن إسماعيل ومسلم عن يحيى كلاهما عن مالك به وتابعه الليث وعبيد الله بن عمر عند مسلم كلاهما عن نافع وتابعه سالم عن ابن عمر في الصحيحين وله طرق أخرى فيهما وفي غيرهما.

( مالك عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عائشة أم المؤمنين أنها انتقلت) أي نقلت ( حفصة ابنة) شقيقها ( عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق) لما طلقها المنذر بن الزبير بن العوّام ( حين دخلت في الدم من الحيضة الثالثة) لتمام عدتها إذ الأقراء الأطهار كما دل عليه حديث ابن عمر ( قال ابن شهاب فذكر ذلك لعمرة بنت عبد الرحمن) الأنصارية أحد المكثرين عن عائشة ( فقالت صدق عروة) فيما روى عن عائشة ( وقد جادلها) خاصمها بشدة ( في ذلك ناس فقالوا إن الله تبارك وتعالى يقول في كتابه) { { وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ } }

تمضي من حين الطلاق جمع قرء بفتح القاف ( فقالت عائشة صدقتم) في أنه قاله ولكن ( تدرون) بحذف همزة الاستفهام، أي أتعلمون ( ما الأقراء) جمع قرء بالضم مثل قفل وأقفال.
( إنما الأقراء الأطهار) قال أبو عمر: لم تختلف العلماء ولا الفقهاء أن القرء لغة يقع على الطهر والحيضة إنما اختلفوا في المراد في الآية.
فقال جمهور أهل المدينة الأطهار وقال العراقيون: الحيض.
وحديث ابن عمر يدل للأول لقوله: ثم تحيض ثم تطهر ثم إن شاء طلق قبل أن يمس فتلك العدة التي أمر الله فأخبر أن الطلاق للعدة لا يكون إلا في طهر فهو بيان لقوله تعالى { { فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } } وقرئ لقبل عدتهن أي لاستقبالها، ونهى عن الطلاق في الحيض لأنها لا تستقبل العدة في تلك الحيضة عند الجميع والقول بأن القرء مأخوذ من قرأت الماء في الحوض ليس بشيء لأن القرء مهموز، وهذا ليس بمهموز.

وقال الأصمعي: أصل القرء الوقت يقال أقرأت النجوم إذا طلعت لوقتها.
وقال عياض: اختلف السلف ومن بعدهم من العلماء واللغويين في معنى الآية هل هو الحيض أو الطهر أو مشترك فتكون حقيقة فيهما أو حقيقة في الحيض مجاز في الطهر أو المراد به الانتقال من حال إلى حال دون كونه اسمًا للطهر أو الحيض فمعنى ثلاثة قروء ثلاث انتقالات وإذا علم ما هو مشتق منه اتضح فقيل من الوقت فيحتمل الأمرين وقيل من الجمع فهو ظاهر في الأطهار وقيل من الانتقال من حال إلى حال فيكون ظاهرًا في الطهر والحيض جميعًا لكن الثلاث انتقالات إنما تستقيم بالانتقال من الطهر إلى الحيض لا عكسه لأن الطلاق في الحيض لا يجوز ويعضده أن براءة الرحم إنما تعرف بالانتقال من الطهر إلى الحيض ولذا كان استبراء الإماء بالحيض لأن مجيئه غالبًا دليل على براءة الرحم ولا يدل مجيء الطهر على براءته إذ قد تحمل في آخر حيضها فكانت الثلاث في الحرائر كالواحدة في استبراء الإماء إلا ما حكاه القاضي إسماعيل عن أبي عبيدة وهذا اختيار الطبري والشافعي ومحققي أصحابنا المتأخرين وهو حسن دقيق.

( مالك عن ابن شهاب أنه قال سمعت أبا بكر بن عبد الرحمن يقول ما أدركت أحدًا من فقهائنا إلا وهو يقول هذا) وفي نسخة ذلك ( يريد قول عائشة) إنما الأقراء الأطهار ولا يرد عليه قوله صلى الله عليه وسلم فتلك العدة إذ لو أراد الأطهار لقال فذلك كما زعم المخالف لأنه أنث باعتبار الحالة أو العدة.

( مالك عن نافع) مولى ابن عمر ( وزيد بن أسلم) مولى عمر ( عن سليمان بن يسار أن الأحوص) بالحاء والصاد المهملتين، ابن عبد بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف.
ذكر ابن الكلبي والبلاذري أنه كان عاملاً لمعاوية على البحرين وسعى لمروان بن الحكم في قصة جرت له، ومقتضاه أن يكون له صحبة، وأنه عمر لأن أباه مات كافرًا ومن ولده منصور بن عبد الله بن الأحوص له ذكر بالشام في أيام بني مروان وكان ابنه عبد الله عاملاً أيضًا لمعاوية على بعض الشام.
وفي رواية ابن عيينة عن الزهري عن سليمان بن يسار أن الأحوص ابن فلان أو فلان بن الأحوص قال ابن الحذاء: الأقوى أن القصة للأحوص وهو ابن عبد ويحتمل أن يكون لولده عبد الله ولم يسم في رواية الزهري قاله في الإصابة لكن هذا الاحتمال إنما هو على رواية الزهري لا الموطأ لقوله الأحوص ( هلك) مات ( بالشام حين دخلت امرأته في الدم من الحيضة الثالثة وقد كان طلقها) زاد في رواية ابن أبي شيبة طلقة أو تطليقتين ( فكتب معاوية بن أبي سفيان) صخر بن حرب زاد ابن أبي شيبة فسأل عنها فضالة بن عبيد ومن هناك من الصحابة فلم يجد عندهم فيها علمًا فبعث راكبًا.
( إلى زيد بن ثابت يسأله عن ذلك فكتب إليه زيد إنها إذا دخلت في الدم من الحيضة الثالثة فقد برئت منه وبرئ منها) مثل سلم وزنًا ومعنى أي انقطعت العلاقة بينهما ( ولا ترثه ولا يرثها) لو كانت هي الميتة ففي هذا أيضًا أن الأقراء الأطهار.

( مالك أنه بلغه عن القاسم بن محمد وسالم بن عبد الله وأبي بكر بن عبد الرحمن وسليمان بن يسار) والأربعة من فقهاء المدينة السبعة أو العشرة ( وابن شهاب أنهم كانوا يقولون إذا دخلت المطلقة في الدم من الحيضة الثالثة فقد بانت من زوجها ولا ميراث بينهما ولا رجعة له عليها) لأن الأقراء الأطهار.

( مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أنه كان يقول إذا طلق الرجل امرأته فدخلت في الدم من الحيضة الثالثة فقد برئت منه وبرئ منها) فلا إرث ولا رجعة ( قال مالك وهو الأمر عندنا) بالمدينة وقال به جمع كثير من الصحابة والتابعين، والشافعي وذهب جمع من الصحابة والتابعين وأبو حنيفة إلى أن الأقراء الحيض وعن أحمد القولان واحتجوا بأنه يلزم القائلين بأنها الأطهار مخالفة القرآن لاعتدادها عندهم بطهر الطلاق، وإن قل فيكون عدّتها قرأين ونصفًا والله تعالى جعلها ثلاثة، وإذا كانت الحيض كانت ثلاثة قروء كاملة لحرمة الطلاق في الحيض وحمل هذا الاعتراض ابن شهاب على أن قال: الطهر الذي يقع فيه الطلاق لا يعتدّ به وهو مذهب انفرد به دون جميع من قال الأقراء الأطهار، وأجاب بعض أصحابنا بأن القرء هو الانتقال من حال إلى حال فما بقي من الطهر الذي وقع فيه الطلاق، فيه الانتقال من حال إلى حال فإنما وقعت العدّة بثلاثة أطهار كاملة وأجاب غيره بأنه لا يبعد تسمية اثنين، وبعض الثالث ثلاثة قال تعالى { { الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ } } وما الحج إلا شهران وعشرة أيام قاله المازري.

( مالك عن الفضيل) بضم الفاء مصغر ( بن أبي عبد الله) المدني الثقة ( مولى المهري) بفتح الميم وسكون الهاء ( أن القاسم بن محمد وسالم بن عبد الله كانا يقولان إذا طلقت المرأة فدخلت في الدم من الحيضة الثالثة فقد بانت منه وحلت) لمن يتزوجها لأن الأقراء الأطهار واحتج له بعضهم بقوله: ثلاثة قروء إذ لو أريد الحيض لقال: ثلاث بلا تاء لأنها تحذف من المؤنث وتدخل مع المذكر وغلطه المازري بأن العرب تراعي في العدد اللفظ مرّة كقولهم: ثلاثة منازل والمعنى أخرى كقول عمر بن أبي ربيعة:

فكان مجني دون من كنت أتقي
ثلاث شخوص كأعيان وجؤذر

فأنث على معنى الشخوص.
وأكثر الإمام من هذه الآثار تقوية لمذهبه أنها الأطهار واحتجاج القائل بأنها الحيض قال به نحو خمسة عشر من الصحابة معارض بقول عائشة وغيرها من الصحابة أنها الأقراء وعائشة مقدمة في الفقه لا سيما في أحوال النساء.

( مالك أنه بلغه عن سعيد بن المسيب وابن شهاب وسليمان بن يسار أنهم كانوا يقولون عدة المختلعة ثلاثة قروء) لأن الخلع طلاق فدخل في الآية.

( مالك أنه سمع ابن شهاب يقول عدّة المطلقة الأقراء وإن تباعدت) لإطلاق الآية.

( مالك عن يحيى بن سعيد عن رجل من الأنصار) يحتمل أنه زوج الربيع بنت معوذ وأنه غيره ( أن امرأته سألته الطلاق فقال لها إذا حضت فآذنيني) بالمدّ أعلميني ( فلما حاضت: آذنته فقال: إذا طهرت فآذنيني فلما طهرت آذنته فطلقها قال مالك وهذا أحسن ما سمعت في ذلك) أي طلاقها في طهر لم يمس فيه لموافقته لحديث ابن عمر.



رقم الحديث 1219 وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ بَلَغَهُ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، وَسَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَأَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، وَابْنِ شِهَابٍ، أَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ: إِذَا دَخَلَتِ الْمُطَلَّقَةُ فِي الدَّمِ مِنَ الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ، فَقَدْ بَانَتْ مِنْ زَوْجِهَا، وَلَا مِيرَاثَ بَيْنَهُمَا وَلَا رَجْعَةَ لَهُ عَلَيْهَا.


( ما جاء في الأقراء وعدة الطلاق وطلاق الحائض)

( مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر) كذا في رواية يحيى وظاهرها الإرسال إذ نافع لم يدرك ذلك وليس بمراد فقد رواه غيره في الموطأ كيحيى النيسابوري، وإسماعيل، وغيرهما، مالك عن نافع عن ابن عمر أنه ( طلق امرأته) هي آمنة بمد الهمزة وكسر الميم، بنت غفار بكسر المعجمة وتخفيف الفاء وبالراء، كما ضبطه ابن نقطة وعزاه لابن سعد وذكر أنه وجده كذلك بخط الحافظ أبي الفضل بن ناصر أو بنت عمار بفتح العين المهملة والميم المشددة.

قال الحافظ والأول أولى وفي مسند أحمد اسمها النوّار فيمكن أن اسمها آمنة ولقبها النوار صحابية ( وهي حائض) جملة حالية زاد الليث عن نافع عن ابن عمر تطليقة واحدة أخرجه مسلم.
وقال جود الليث في قوله تطليقة واحدة، قال عياض: يعني أنه حفظ وأتقن ما لم يتقنه غيره ممن لم يفسر كم الطلاق وممن غلط ووهم وقال طلقها ثلاثًا.
( على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فسأل عمر بن الخطاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك) عن حكم طلاق ابنه على هذه الصفة زاد الشيخان من رواية سالم عن أبيه فتغيظ رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال ابن العربي يحتمل أن سؤال عمر لأن النازلة لم تكن وقعت فسأل ليعلم الحكم ويحتمل أنه علمه من قوله تعالى { { فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } } وقوله تعالى { { يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ } } والحيض ليس بقرء فيفتقر إلى بيان الحكم فيه ويحتمل أن يكون سمع النهي والأوسط أقواها ( فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم) لعمر ( مره) أصله أأمره بهمزتين الأولى للوصل مضمومة تبعًا للعين مثل افعل، والثانية فاء الكلمة ساكنة تبدل تخفيفًا من جنس حركة سابقتها فيقال: أومر فإذا وصل الفعل بما قبله زالت همزة الوصل، وسكنت الهمزة الأصلية كما في قوله تعالى { { وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاَةِ } } لكن استعملتها العرب بلا همز فقالوا: مر لكثرة الدور لأنهم حذفوا أولاً الهمزة الثانية تخفيفًا، ثم حذفوا همزة الوصل استغناء عنها لتحرك ما بعدها أي مُر ابنك عبد الله ( فليراجعها) والأمر للوجوب عند مالك وجماعة، وصححه صاحب الهداية من الحنفية وللندب عند الأئمة الثلاثة ولا حجة لهم في أنه إنما أمره بالرجعة أبوه وليس له أن يضع الشرع لأنه أمره بأمر النبي صلى الله عليه وسلم وهو مبلغ عنه، وأما استدلالهم بقوله تعالى { { فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ } } وغيرها من الآيات المقتضية للتخيير بين الإمساك بالرجعة أو الفراق بتركها فيجمع بينها وبين الحديث بحمل الأمر فيه على الندب جمعًا بينهما فليس بناهض إذ الأصل في الأمر الوجوب فيحمل عليه ويخص عموم الآيات بمن لم يطلق في الحيض ( ثم يمسكها) أي يديم إمساكها، وإلا فالرجعة إمساك وفي رواية يحيى التميمي ثم ليتركها ولإسماعيل ثم ليمسكها بإعادة اللام مكسورة ويجوز تسكينها كقراءة { { ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ } } فالكسر على الأصل في لام الأمر فرقا بينها وبين لام التأكيد والسكون للتخفيف إجراء للمنفصل مجرى المتصل.
وفي رواية ثم ليدعها ( حتى تطهر ثم تحيض) حيضة أخرى ( ثم تطهر ثم إن شاء أمسك بعد) أي بعد الطهر من الحيض الثاني ( وإن شاء طلق) وفي رواية إسماعيل طلقها ( قبل أن يمس) ولإسماعيل يمسها أي يجامعها فيكره في طهر مس فيه للتلبيس إذ لا يدري أحملت فتعتد بالوضع، أو لا فبالأقراء، وقد يظهر الحمل فيندم على الفراق.

وقد ذهب بعض الناس إلى جبره على الرجعة كالمطلق في الحيض فإن قيل لِمَ أمره أن يؤخر الطلاق إلى الطهر الثاني، أجيب: بأن حيض الطلاق والطهر التالي له بمنزلة قرء واحد فلو طلق فيه لصار كموقع طلقتين في قرء واحد وليس ذلك بطلاق السنة وبأنه عاقبه بتأخير الطلاق تغليظًا عليه جزاء بما فعله من الحرام وهو الطلاق في الحيض وهذا معترض بأن ابن عمر لم يعلم بالتحريم ولم يتحققه وحاشاه من ذلك فلا وجه لعقوبته قاله المازري، وأجيب بأن تغيظه صلى الله عليه وسلم دون أن يعذره يقتضي أن ذلك في الظهور لا يكاد يخفى على أحد وبأن ابن عمر وإن لم يتعمد فرط بترك السؤال قبل الفعل مع تمكنه منه فعوقب على تركه السؤال وليكون ذلك زجرًا لغيره بعده وقيل إنما أمره بالتأخير لئلا تصير الرجعة لمجرد غرض الطلاق لو طلق في أول الطهر الأول بخلاف الطهر الثاني وكما ينهى عن النكاح لمجرد الطلاق ينهى عن الرجعة له واعترض بأنه يلزم أن لا يطلق أحد قبل الدخول لأنه يصير كمن نكح للطلاق لا للنكاح وقيل ليطول مقامه معها والظن بابن عمر أنه لا يمنعها حقها في الوطء فلعله إذا وطئ تطيب نفسه ويمسكها فيكون ذلك حرصًا على رفع الطلاق وحضًا على بقاء الزوجية حكى ذلك المازري أيضًا، قال ابن عبد البر رواه يونس بن جبير وأنس بن سيرين وسالم عن ابن عمر بلفظ حتى تطهر من الحيضة التي طلقها فيها ثم إن شاء أمسكها فلم يقولوا ثم تحيض ثم تطهر كما قال نافع نعم رواية الزهري عن سالم موافقة لرواية نافع كما نبه عليه أبو داود وزيادة الثقة مقبولة خصوصًا إذا كان حافظًا ولفظ رواية الزهري عن سالم عن أبيه في الصحيحين مره فليراجعها حتى تحيض حيضة مستقبلة سوى حيضتها التي طلقها فيها فإن بدا له أن يطلقها فليطلقها طاهرًا من حيضتها قبل أن يمسها.
( فتلك العدة التي أمر الله) أي أذن ( أن يطلق لها النساء) في قوله تعالى: { { فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } } وفي رواية لمسلم قال ابن عمر وقرأ النبي صلى الله عليه وسلم يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن في قبل عدتهن قال عياض أي في استقبال عدتهن وهذه قراءة ابن عمر وابن عباس وفي قراءة ابن مسعود لقبل طهورهن قال القشيري وغيره وهذه القراءة على التفسير لا على التلاوة وهي تصحح أن المراد بالأقراء الأطهار إذ لا يستقبل في الحيض عدة عند الجميع ولا يجتزى بها عند أحد من الطائفتين زاد في رواية سالم في الصحيح، وكان عبد الله طلقها تطليقة واحدة فحسبت من طلاقها وراجعها عبد الله كما أمره صلى الله عليه وسلم وفيه أن الطلاق يقع في الحيض وإلا لم يكن للأمر بالمراجعة فائدة.
قال الباجي: إذ المراجعة لا تستعمل غالبًا إلا بعد طلاق يعتد به فهو حجة على من لا يعتد بخلافهم وهم هشام بن الحكم وابن علية وداود في قولهم لا يقع الطلاق على الحائض.
وفي بعض طرق الحديث فحسبت من طلاقها والذي حسب حينئذ النبي صلى الله عليه وسلم لأنه شوور في المسألة وأفتى فيها فمحال أن يعتد بها ابن عمر طلقة من غير أمره صلى الله عليه وسلم ومن جهة القياس أن إلزام الطلاق تغليظ ومنعه تخفيف لأنه لا يلزم الصبي ولا المجنون ولا النائم ويلزم السكران لأنه عاص فإذا لزم من أوقعه على الوجه المأمور به كان إلزامه لمن أوقعه على الوجه الممنوع أحرى.

وقال أبو عمر: جمهور العلماء على أن الطلاق في الحيض واقع وإن كرهه جميعهم ولا يخالف في ذلك إلا أهل البدع والجهل الذين يرون الطلاق لغير السنة لا يقع، وروي ذلك عن بعض التابعين وهو شذوذ لم يعرج عليه أحد من العلماء.
وقد سئل ابن عمر أيعتد بتلك الطلقة؟ قال: نعم روي ذلك عنه من طرق وفي بعضها قال: فمه أرأيت إن عجز واستحمق أي عجز عن فرض آخر فلم يأت به أكان يعذر وكان إذا سئل يقول إن طلقت امرأتك وهي حائض مرة أو مرتين فإن الله أمر أن تراجعها وإن طلقتها ثلاثًا فقد حرمت عليك حتى تنكح زوجًا غيرك فلو كان غير لازم لم يلزمه ثلاثًا كان أو واحدة ومن جهة النظر أن الطلاق ليس من القرب كالصلاة فلا تقع إلا على سببها وإنما هو زوال عصمة فإن أوقعه على غير سببه أثم ولزمه ومحال أن يلزم المطيع المتبع للسنة طلاقه ولا يلزم العاصي فيكون أحسن حالاً من المطيع وقد قال تعالى: { { وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ } } أي عصى ربه وفارق امرأته وكذلك المطلق في الحيض، وقال النووي: أجمعت الأمة على تحريم طلاق الحائض الحائل بغير رضاها فإن طلقها أثم ووقع وشذ بعض أهل الظاهر فقال لا يقع لأنه لم يؤذن فيه فأشبه طلاق الأجنبية والصواب الأول.
وبه قال العلماء كافة لأمره عليه السلام بالمراجعة فلو لم يقع لم تكن رجعة وزعم أن المراد الرجعة اللغوية وهي الرد إلى حالها الأول غلط لأن الحمل على الحقيقة الشرعية مقدم على اللغوية كما تقرر في الأصول ولأن ابن عمر صرح بأنه حسبها عليه طلقة اهـ.
وقد روى الدارقطني فقال عمر: يا رسول الله أفيحتسب بتلك الطلقة؟ قال نعم فهذا نص في موضع النزاع فيجب المصير إليه.

وما في مسلم عن أبي الزبير عن ابن عمر فقال صلى الله عليه وسلم ليراجعها، فردها وقال: إذا طهرت فليطلق أو يمسك وزاد النسائي وأبو داود فيه ولم يرها أعله أبو داود فقال: روى هذا الحديث عن ابن عمر جماعة وأحاديثهم كلهم على خلاف ما قال أبو الزبير.
وقال ابن عبد البر لم يقلها غير أبي الزبير وليس بحجة فيما خالفه فيه مثله فكيف بمن هو أثبت منه، وقال الخطابي: لم يرو أبو الزبير حديثًا أنكر من هذا وقال الشافعي نافع أثبت من أبي الزبير والأثبت أولى أن يؤخذ به إذا تخالفا وقد وافق نافعًا غيره من أهل التثبت وحمل قوله لم يرها شيئًا على أنه لم يعدها شيئًا صوابًا فهو كما يقال للرجل إذا أخطأ في فعله أو في جوابه لم يصنع شيئًا أي شيئًا صوابًا.
وقال الخطابي: لم يرها شيئًا تحرم معه المراجعة وقد تابع أبا الزبير عبد الله بن مالك عن ابن عمر أنه طلق امرأته وهي حائض، فقال صلى الله عليه وسلم ليس ذلك بشيء رواه سعيد بن منصور وهو قابل للتأويل وهو أولى من تغليط بعض الثقات.
قال ابن دقيق العيد: ويتعلق بالحديث مسألة أصولية وهي أن الأمر بالأمر بالشيء هل هو أمر بذلك الشيء أم لا؟ فإنه صلى الله عليه وسلم قال لعمر: مره، فأمره بأمره وأطال في فتح الباري الكلام في هذه المسألة.
والحاصل أن الخطاب إذا توجه لمكلف أن يأمر مكلفًا آخر بفعل شيء فالمكلف الأول مبلغ محض والثاني مأمور من قبل الشرع كما هنا وإن توجه من الشارع أن يأمر غير مكلف كحديث: مروا أولادكم بالصلاة لسبع.
لم يكن الأمر بالشيء أمرًا بالشيء لأن الأولاد غير مكلفين فلا يتجه عليهم الوجوب وإن توجه الخطاب من غير الشارع بأمر من له عليه الأمر أن يأمر من لا أمر للأول عليه لم يكن الآمر بالشيء آمرًا بالشيء أيضًا بل هو متعدّ بأمره للأول أن يأمر الثاني.

وفي الحديث فوائد غير ما ذكر وأخرجه البخاري عن إسماعيل ومسلم عن يحيى كلاهما عن مالك به وتابعه الليث وعبيد الله بن عمر عند مسلم كلاهما عن نافع وتابعه سالم عن ابن عمر في الصحيحين وله طرق أخرى فيهما وفي غيرهما.

( مالك عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عائشة أم المؤمنين أنها انتقلت) أي نقلت ( حفصة ابنة) شقيقها ( عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق) لما طلقها المنذر بن الزبير بن العوّام ( حين دخلت في الدم من الحيضة الثالثة) لتمام عدتها إذ الأقراء الأطهار كما دل عليه حديث ابن عمر ( قال ابن شهاب فذكر ذلك لعمرة بنت عبد الرحمن) الأنصارية أحد المكثرين عن عائشة ( فقالت صدق عروة) فيما روى عن عائشة ( وقد جادلها) خاصمها بشدة ( في ذلك ناس فقالوا إن الله تبارك وتعالى يقول في كتابه) { { وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ } }

تمضي من حين الطلاق جمع قرء بفتح القاف ( فقالت عائشة صدقتم) في أنه قاله ولكن ( تدرون) بحذف همزة الاستفهام، أي أتعلمون ( ما الأقراء) جمع قرء بالضم مثل قفل وأقفال.
( إنما الأقراء الأطهار) قال أبو عمر: لم تختلف العلماء ولا الفقهاء أن القرء لغة يقع على الطهر والحيضة إنما اختلفوا في المراد في الآية.
فقال جمهور أهل المدينة الأطهار وقال العراقيون: الحيض.
وحديث ابن عمر يدل للأول لقوله: ثم تحيض ثم تطهر ثم إن شاء طلق قبل أن يمس فتلك العدة التي أمر الله فأخبر أن الطلاق للعدة لا يكون إلا في طهر فهو بيان لقوله تعالى { { فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } } وقرئ لقبل عدتهن أي لاستقبالها، ونهى عن الطلاق في الحيض لأنها لا تستقبل العدة في تلك الحيضة عند الجميع والقول بأن القرء مأخوذ من قرأت الماء في الحوض ليس بشيء لأن القرء مهموز، وهذا ليس بمهموز.

وقال الأصمعي: أصل القرء الوقت يقال أقرأت النجوم إذا طلعت لوقتها.
وقال عياض: اختلف السلف ومن بعدهم من العلماء واللغويين في معنى الآية هل هو الحيض أو الطهر أو مشترك فتكون حقيقة فيهما أو حقيقة في الحيض مجاز في الطهر أو المراد به الانتقال من حال إلى حال دون كونه اسمًا للطهر أو الحيض فمعنى ثلاثة قروء ثلاث انتقالات وإذا علم ما هو مشتق منه اتضح فقيل من الوقت فيحتمل الأمرين وقيل من الجمع فهو ظاهر في الأطهار وقيل من الانتقال من حال إلى حال فيكون ظاهرًا في الطهر والحيض جميعًا لكن الثلاث انتقالات إنما تستقيم بالانتقال من الطهر إلى الحيض لا عكسه لأن الطلاق في الحيض لا يجوز ويعضده أن براءة الرحم إنما تعرف بالانتقال من الطهر إلى الحيض ولذا كان استبراء الإماء بالحيض لأن مجيئه غالبًا دليل على براءة الرحم ولا يدل مجيء الطهر على براءته إذ قد تحمل في آخر حيضها فكانت الثلاث في الحرائر كالواحدة في استبراء الإماء إلا ما حكاه القاضي إسماعيل عن أبي عبيدة وهذا اختيار الطبري والشافعي ومحققي أصحابنا المتأخرين وهو حسن دقيق.

( مالك عن ابن شهاب أنه قال سمعت أبا بكر بن عبد الرحمن يقول ما أدركت أحدًا من فقهائنا إلا وهو يقول هذا) وفي نسخة ذلك ( يريد قول عائشة) إنما الأقراء الأطهار ولا يرد عليه قوله صلى الله عليه وسلم فتلك العدة إذ لو أراد الأطهار لقال فذلك كما زعم المخالف لأنه أنث باعتبار الحالة أو العدة.

( مالك عن نافع) مولى ابن عمر ( وزيد بن أسلم) مولى عمر ( عن سليمان بن يسار أن الأحوص) بالحاء والصاد المهملتين، ابن عبد بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف.
ذكر ابن الكلبي والبلاذري أنه كان عاملاً لمعاوية على البحرين وسعى لمروان بن الحكم في قصة جرت له، ومقتضاه أن يكون له صحبة، وأنه عمر لأن أباه مات كافرًا ومن ولده منصور بن عبد الله بن الأحوص له ذكر بالشام في أيام بني مروان وكان ابنه عبد الله عاملاً أيضًا لمعاوية على بعض الشام.
وفي رواية ابن عيينة عن الزهري عن سليمان بن يسار أن الأحوص ابن فلان أو فلان بن الأحوص قال ابن الحذاء: الأقوى أن القصة للأحوص وهو ابن عبد ويحتمل أن يكون لولده عبد الله ولم يسم في رواية الزهري قاله في الإصابة لكن هذا الاحتمال إنما هو على رواية الزهري لا الموطأ لقوله الأحوص ( هلك) مات ( بالشام حين دخلت امرأته في الدم من الحيضة الثالثة وقد كان طلقها) زاد في رواية ابن أبي شيبة طلقة أو تطليقتين ( فكتب معاوية بن أبي سفيان) صخر بن حرب زاد ابن أبي شيبة فسأل عنها فضالة بن عبيد ومن هناك من الصحابة فلم يجد عندهم فيها علمًا فبعث راكبًا.
( إلى زيد بن ثابت يسأله عن ذلك فكتب إليه زيد إنها إذا دخلت في الدم من الحيضة الثالثة فقد برئت منه وبرئ منها) مثل سلم وزنًا ومعنى أي انقطعت العلاقة بينهما ( ولا ترثه ولا يرثها) لو كانت هي الميتة ففي هذا أيضًا أن الأقراء الأطهار.

( مالك أنه بلغه عن القاسم بن محمد وسالم بن عبد الله وأبي بكر بن عبد الرحمن وسليمان بن يسار) والأربعة من فقهاء المدينة السبعة أو العشرة ( وابن شهاب أنهم كانوا يقولون إذا دخلت المطلقة في الدم من الحيضة الثالثة فقد بانت من زوجها ولا ميراث بينهما ولا رجعة له عليها) لأن الأقراء الأطهار.

( مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أنه كان يقول إذا طلق الرجل امرأته فدخلت في الدم من الحيضة الثالثة فقد برئت منه وبرئ منها) فلا إرث ولا رجعة ( قال مالك وهو الأمر عندنا) بالمدينة وقال به جمع كثير من الصحابة والتابعين، والشافعي وذهب جمع من الصحابة والتابعين وأبو حنيفة إلى أن الأقراء الحيض وعن أحمد القولان واحتجوا بأنه يلزم القائلين بأنها الأطهار مخالفة القرآن لاعتدادها عندهم بطهر الطلاق، وإن قل فيكون عدّتها قرأين ونصفًا والله تعالى جعلها ثلاثة، وإذا كانت الحيض كانت ثلاثة قروء كاملة لحرمة الطلاق في الحيض وحمل هذا الاعتراض ابن شهاب على أن قال: الطهر الذي يقع فيه الطلاق لا يعتدّ به وهو مذهب انفرد به دون جميع من قال الأقراء الأطهار، وأجاب بعض أصحابنا بأن القرء هو الانتقال من حال إلى حال فما بقي من الطهر الذي وقع فيه الطلاق، فيه الانتقال من حال إلى حال فإنما وقعت العدّة بثلاثة أطهار كاملة وأجاب غيره بأنه لا يبعد تسمية اثنين، وبعض الثالث ثلاثة قال تعالى { { الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ } } وما الحج إلا شهران وعشرة أيام قاله المازري.

( مالك عن الفضيل) بضم الفاء مصغر ( بن أبي عبد الله) المدني الثقة ( مولى المهري) بفتح الميم وسكون الهاء ( أن القاسم بن محمد وسالم بن عبد الله كانا يقولان إذا طلقت المرأة فدخلت في الدم من الحيضة الثالثة فقد بانت منه وحلت) لمن يتزوجها لأن الأقراء الأطهار واحتج له بعضهم بقوله: ثلاثة قروء إذ لو أريد الحيض لقال: ثلاث بلا تاء لأنها تحذف من المؤنث وتدخل مع المذكر وغلطه المازري بأن العرب تراعي في العدد اللفظ مرّة كقولهم: ثلاثة منازل والمعنى أخرى كقول عمر بن أبي ربيعة:

فكان مجني دون من كنت أتقي
ثلاث شخوص كأعيان وجؤذر

فأنث على معنى الشخوص.
وأكثر الإمام من هذه الآثار تقوية لمذهبه أنها الأطهار واحتجاج القائل بأنها الحيض قال به نحو خمسة عشر من الصحابة معارض بقول عائشة وغيرها من الصحابة أنها الأقراء وعائشة مقدمة في الفقه لا سيما في أحوال النساء.

( مالك أنه بلغه عن سعيد بن المسيب وابن شهاب وسليمان بن يسار أنهم كانوا يقولون عدة المختلعة ثلاثة قروء) لأن الخلع طلاق فدخل في الآية.

( مالك أنه سمع ابن شهاب يقول عدّة المطلقة الأقراء وإن تباعدت) لإطلاق الآية.

( مالك عن يحيى بن سعيد عن رجل من الأنصار) يحتمل أنه زوج الربيع بنت معوذ وأنه غيره ( أن امرأته سألته الطلاق فقال لها إذا حضت فآذنيني) بالمدّ أعلميني ( فلما حاضت: آذنته فقال: إذا طهرت فآذنيني فلما طهرت آذنته فطلقها قال مالك وهذا أحسن ما سمعت في ذلك) أي طلاقها في طهر لم يمس فيه لموافقته لحديث ابن عمر.



رقم الحديث 1220 وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ مِثْلَ ذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ: وَعَلَى ذَلِكَ الْأَمْرُ عِنْدَنَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كَفَّارَةِ الْمُتَظَاهِرِ { { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا } }{ { فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا } } قالَ مَالِكٌ: فِي الرَّجُلِ يَتَظَاهَرُ مِنِ امْرَأَتِهِ فِي مَجَالِسَ مُتَفَرِّقَةٍ، قَالَ: لَيْسَ عَلَيْهِ إِلَّا كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ، فَإِنْ تَظَاهَرَ ثُمَّ كَفَّرَ، ثُمَّ تَظَاهَرَ بَعْدَ أَنْ يُكَفِّرَ فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ أَيْضًا قَالَ مَالِكٌ: وَمَنْ تَظَاهَرَ مِنِ امْرَأَتِهِ، ثُمَّ مَسَّهَا قَبْلَ أَنْ يُكَفِّرَ لَيْسَ عَلَيْهِ إِلَّا كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ، وَيَكُفُّ عَنْهَا، حَتَّى يُكَفِّرَ، وَلْيَسْتَغْفِرِ اللَّهَ وَذَلِكَ أَحْسَنُ مَا سَمِعْتُ قَالَ مَالِكٌ: وَالظِّهَارُ مِنْ ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَالنَّسَبِ سَوَاءٌ قَالَ مَالِكٌ: وَلَيْسَ عَلَى النِّسَاءِ ظِهَارٌ قَالَ مَالِكٌ: فِي قَوْلِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { { وَالَّذِينَ يَظَّاهَرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا } } قَالَ: سَمِعْتُ أَنَّ تَفْسِيرَ ذَلِكَ أَنْ يَتَظَاهَرَ الرَّجُلُ مِنِ امْرَأَتِهِ، ثُمَّ يُجْمِعَ عَلَى إِمْسَاكِهَا وَإِصَابَتِهَا، فَإِنْ أَجْمَعَ عَلَى ذَلِكَ فَقَدْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ، وَإِنْ طَلَّقَهَا، وَلَمْ يُجْمِعْ بَعْدَ تَظَاهُرِهِ مِنْهَا عَلَى إِمْسَاكِهَا، وَإِصَابَتِهَا فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ قَالَ مَالِكٌ: فَإِنْ تَزَوَّجَهَا بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يَمَسَّهَا، حَتَّى يُكَفِّرَ كَفَّارَةَ الْمُتَظَاهِرِ قَالَ مَالِكٌ: فِي الرَّجُلِ يَتَظَاهَرُ مِنْ أَمَتِهِ، إِنَّهُ إِنْ أَرَادَ أَنْ يُصِيبَهَا فَعَلَيْهِ كَفَّارَةُ الظِّهَارِ قَبْلَ أَنْ يَطَأَهَا قَالَ مَالِكٌ: لَا يَدْخُلُ عَلَى الرَّجُلِ إِيلَاءٌ فِي تَظَاهُرِهِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ مُضَارًّا لَا يُرِيدُ أَنْ يَفِيءَ مِنْ تَظَاهُرِهِ.


( مالك عن سعيد) بكسر العين، وقيل بسكونها بلا ياء ( بن عمرو) بفتح العين ( بن سليم) بضم السين ( الزرقي) بضم الزاي وفتح الراء وبالقاف، الأنصاري، وثقه ابن معين وابن حبان.
وقال: مات سنة أربع وثلاثين ومائة ( أنه سأل القاسم بن محمد عن رجل طلق امرأته إن هو تزوجها) أي علق طلاقها على تزوجه إياها ( فقال القاسم بن محمد: إن رجلاً جعل امرأة عليه كظهر أمه إن هو تزوجها فأمره عمر بن الخطاب إن هو تزوجها أن لا يقربها حتى يكفر كفارة المتظاهر) فقاس القاسم تعليق الطلاق على تعليق الظهار في اللزوم يجامع ما بينهما من المنع من المرأة.

( مالك أنه بلغه أن رجلاً سأل القاسم بن محمد وسليمان بن يسار عن رجل تظاهر من امرأته قبل أن ينكحها فقالا: إن نكحها فلا يمسها حتى يكفر كفارة المتظاهر) فوافق سليمان بن يسار على وقوع الظهار المعلق.

( مالك عن هشام بن عروة عن أبيه أنه قال في رجل تظاهر من أربعة نسوة له بكلمة واحدة) بأن قال: أنتن عليّ كظهر أمي ( إنه ليس عليه إلا كفارة واحدة) لا أربع كفارات.

( مالك عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن مثل ذلك) الذي قاله عروة.
( قال مالك وعلى ذلك الأمر عندنا) وهو المشهور في المذهب وفيه قول ضعيف بالتعدد ( قال الله تبارك وتعالى في كفارة المتظاهر) وفي نسخة في كتابه { { وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ } } أي إعتاقها ويشترط أنها مؤمنة لأنه تعالى قيد بذلك في كفارة القتل فيحمل المطلق هنا على ذلك المقيد عند الأئمة الثلاثة.
وخالف أبو حنيفة لأن اختلاف الأسباب يقتضي اختلاف الأحكام لأجل إصلاح الحكمة والقتل مباين للظهار.
وهذا ظاهر ببادئ الرأي لكن يرده ما في الصحيح في حديث السوداء أن سيدها قال للنبي صلى الله عليه وسلم عليَّ رقبة ولم يذكر إيمانًا أفأعتقها؟ فلم يأذن له حتى قال: أين الله تعالى فقالت: في السماء: قال: ومن أنا؟ قالت رسول الله.
فقال أعتقها فإنها مؤمنة.
{ { مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ

} }{ { فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا } } بالوطء والاستمتاع بقبلة أو مباشرة حملاً له على عمومه عند أكثر العلماء، وبعضهم حمله على الوطء فله أن يقبل ويباشر ويطأ في غير الفرج { { فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ } } الصيام { { فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا } } عليه من قبل أن يتماسا حملاً للمطلق على المقيد لكل مسكين مد وثلثان بمده صلى الله عليه وسلم، ولا خلاف عند المالكية أن هذا العدد معتبر فلا يجزئ ما دونه ولو دفع إليهم مقدار طعام الستين.
وقاله الشافعي: وقال أبو حنيفة: إن أطعم مسكينًا واحدًا ستين يومًا أجزأه لأنه سدّ ستين خلة، وهو مقصود الشرع ورد بأن الله تعالى نص على عدد المساكين فلا يترك النص الصريح لاستنباط معنى منه لأنه فرع يكر على أصله بالبطلان فهو أولى بالبطلان.

( قال مالك في الرجل يتظاهر من امرأته في مجالس متفرقة قال: ليس عليه إلا كفارة واحدة فإن تظاهر ثم كفر ثم تظاهر بعد أن يكفر فعليه الكفارة أيضًا) لأنه ظهار مستأنف ( ومن تظاهر من امرأته ثم مسها قبل أن يكفر ليس عليه إلا كفارة واحدة) وإن فعل حرامًا إذ لا يلزم منه تعددها ( ويكف عنها حتى يكفر) لأنه صلى الله عليه وسلم قال لرجل ظاهر من امرأته وواقعها: لا تقربها حتى تكفر رواه أبو داود وغيره.
( وليستغفر الله) يتب إليه ويندم ( وذلك أحسن ما سمعت) وتتحتم عليه الكفارة حينئذٍ مطلقًا بقيت المرأة في عصمته أم لا، قامت بحقها في الوطء أم لا لأنه حق لله تعالى بخلاف ما إذا لم يطأ وطلقها أو مات ولم تقم بحقها في الوطء عند بعضهم فلا تجب الكفارة لأنه حق آدمي وحق الله أوكد ( والظهار من ذوات المحارم من الرضاعة والنسب سواء) لأنه تشبيه من تحل بمن تحرم فهو شامل لمن حرمت بالرضاعة ( وليس على النساء ظهار) فإذا تظاهرت المرأة من زوجها لم يلزمها شيء لأن الله تعالى إنما جعله للرجال فلا مدخل فيه للنساء.

( قال مالك في قول الله تبارك وتعالى:{ { وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا } } قال: سمعت أن تفسير ذلك أن يتظاهر الرجل من امرأته ثم يجمع) بضم فسكون فكسر، يعزم ويصمم ( على إمساكها وإصابتها) الذي هو خلاف قصد الظهار من وصف المرأة بالتحريم ( فإن أجمع) عزم وصمم ( على ذلك فقد وجبت عليه الكفارة) لأن دخول الفاء في خبر المبتدأ الموصول دليل على الشرطية كقولك: الذي يأتيني فله درهم فبانتفاء العود ينتفي الوجوب وهو ظاهر ولذا قال: ( وإن طلقها ولم يجمع بعد تظاهره منها على إمساكها وإصابتها فلا كفارة عليه) لا وجوبًا ولا غيره وإن كان لا يلزم من انتفاء الوجوب انتفاء الجواز لأن الوجوب إما أخص أو حقيقة أخرى لكن أكثر أهل المذهب على أن الجواز ينتفي بانتفاء العود ( قال مالك: فإن تزوجها بعد ذلك) الطلاق ( لم يمسها حتى يكفر كفارة المتظاهر) لعموم الآية.

( قال مالك في الرجل يتظاهر من أمته إنه إن أراد أن يصيبها فعليه كفارة الظهار قبل أن يطأها) لأنه فرج حلال فيحرم بالتحريم فدخلت في قوله تعالى: { { مِن نِّسَائِهِمْ } } إذ لا شك أنها من النساء لغة وإنما خصها بالزوجات العرف، وقد أخرج ابن الأعرابي في معجمه من طريق همام سئل قتادة عن رجل ظاهر من سريته فقال: قال الحسن وابن المسيب وعطاء وسليمان بن يسار مثل ظهار الحرة.
وقال الحنفي والشافعي: إنما الظهار من الزوجة لا الأمة لأنها ليست من النساء أي عرفًا ولقول ابن عباس الظهار كان طلاقًا ثم أحل بالكفارة فكما لا حظ للأمة في الطلاق لا حظ لها في الظهار.
( لا يدخل على الرجل إيلاء في تظاهره إلا أن يكون مضارًا لا يريد أن يفيء من تظاهره) فيدخل عليه الإيلاء.

( مالك عن هشام بن عروة أنه سمع رجلاً يسأل عروة بن الزبير عن رجل قال لامرأته: كل امرأة أنكحها عليك ما عشت) بكسر التاء ( فهي علي كظهر أمي فقال عروة بن الزبير يجزيه عن ذلك عتق رقبة) إن وجدها وإلا فالصوم ثم الإطعام فالمعنى تجزيه كفارة واحدة.



رقم الحديث 1220 وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: إِذَا طَلَّقَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ، فَدَخَلَتْ فِي الدَّمِ مِنَ الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ، فَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُ، وَبَرِئَ مِنْهَا قَالَ مَالِكٌ: وَهُوَ الْأَمْرُ عِنْدَنَا.


( ما جاء في الأقراء وعدة الطلاق وطلاق الحائض)

( مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر) كذا في رواية يحيى وظاهرها الإرسال إذ نافع لم يدرك ذلك وليس بمراد فقد رواه غيره في الموطأ كيحيى النيسابوري، وإسماعيل، وغيرهما، مالك عن نافع عن ابن عمر أنه ( طلق امرأته) هي آمنة بمد الهمزة وكسر الميم، بنت غفار بكسر المعجمة وتخفيف الفاء وبالراء، كما ضبطه ابن نقطة وعزاه لابن سعد وذكر أنه وجده كذلك بخط الحافظ أبي الفضل بن ناصر أو بنت عمار بفتح العين المهملة والميم المشددة.

قال الحافظ والأول أولى وفي مسند أحمد اسمها النوّار فيمكن أن اسمها آمنة ولقبها النوار صحابية ( وهي حائض) جملة حالية زاد الليث عن نافع عن ابن عمر تطليقة واحدة أخرجه مسلم.
وقال جود الليث في قوله تطليقة واحدة، قال عياض: يعني أنه حفظ وأتقن ما لم يتقنه غيره ممن لم يفسر كم الطلاق وممن غلط ووهم وقال طلقها ثلاثًا.
( على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فسأل عمر بن الخطاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك) عن حكم طلاق ابنه على هذه الصفة زاد الشيخان من رواية سالم عن أبيه فتغيظ رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال ابن العربي يحتمل أن سؤال عمر لأن النازلة لم تكن وقعت فسأل ليعلم الحكم ويحتمل أنه علمه من قوله تعالى { { فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } } وقوله تعالى { { يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ } } والحيض ليس بقرء فيفتقر إلى بيان الحكم فيه ويحتمل أن يكون سمع النهي والأوسط أقواها ( فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم) لعمر ( مره) أصله أأمره بهمزتين الأولى للوصل مضمومة تبعًا للعين مثل افعل، والثانية فاء الكلمة ساكنة تبدل تخفيفًا من جنس حركة سابقتها فيقال: أومر فإذا وصل الفعل بما قبله زالت همزة الوصل، وسكنت الهمزة الأصلية كما في قوله تعالى { { وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاَةِ } } لكن استعملتها العرب بلا همز فقالوا: مر لكثرة الدور لأنهم حذفوا أولاً الهمزة الثانية تخفيفًا، ثم حذفوا همزة الوصل استغناء عنها لتحرك ما بعدها أي مُر ابنك عبد الله ( فليراجعها) والأمر للوجوب عند مالك وجماعة، وصححه صاحب الهداية من الحنفية وللندب عند الأئمة الثلاثة ولا حجة لهم في أنه إنما أمره بالرجعة أبوه وليس له أن يضع الشرع لأنه أمره بأمر النبي صلى الله عليه وسلم وهو مبلغ عنه، وأما استدلالهم بقوله تعالى { { فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ } } وغيرها من الآيات المقتضية للتخيير بين الإمساك بالرجعة أو الفراق بتركها فيجمع بينها وبين الحديث بحمل الأمر فيه على الندب جمعًا بينهما فليس بناهض إذ الأصل في الأمر الوجوب فيحمل عليه ويخص عموم الآيات بمن لم يطلق في الحيض ( ثم يمسكها) أي يديم إمساكها، وإلا فالرجعة إمساك وفي رواية يحيى التميمي ثم ليتركها ولإسماعيل ثم ليمسكها بإعادة اللام مكسورة ويجوز تسكينها كقراءة { { ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ } } فالكسر على الأصل في لام الأمر فرقا بينها وبين لام التأكيد والسكون للتخفيف إجراء للمنفصل مجرى المتصل.
وفي رواية ثم ليدعها ( حتى تطهر ثم تحيض) حيضة أخرى ( ثم تطهر ثم إن شاء أمسك بعد) أي بعد الطهر من الحيض الثاني ( وإن شاء طلق) وفي رواية إسماعيل طلقها ( قبل أن يمس) ولإسماعيل يمسها أي يجامعها فيكره في طهر مس فيه للتلبيس إذ لا يدري أحملت فتعتد بالوضع، أو لا فبالأقراء، وقد يظهر الحمل فيندم على الفراق.

وقد ذهب بعض الناس إلى جبره على الرجعة كالمطلق في الحيض فإن قيل لِمَ أمره أن يؤخر الطلاق إلى الطهر الثاني، أجيب: بأن حيض الطلاق والطهر التالي له بمنزلة قرء واحد فلو طلق فيه لصار كموقع طلقتين في قرء واحد وليس ذلك بطلاق السنة وبأنه عاقبه بتأخير الطلاق تغليظًا عليه جزاء بما فعله من الحرام وهو الطلاق في الحيض وهذا معترض بأن ابن عمر لم يعلم بالتحريم ولم يتحققه وحاشاه من ذلك فلا وجه لعقوبته قاله المازري، وأجيب بأن تغيظه صلى الله عليه وسلم دون أن يعذره يقتضي أن ذلك في الظهور لا يكاد يخفى على أحد وبأن ابن عمر وإن لم يتعمد فرط بترك السؤال قبل الفعل مع تمكنه منه فعوقب على تركه السؤال وليكون ذلك زجرًا لغيره بعده وقيل إنما أمره بالتأخير لئلا تصير الرجعة لمجرد غرض الطلاق لو طلق في أول الطهر الأول بخلاف الطهر الثاني وكما ينهى عن النكاح لمجرد الطلاق ينهى عن الرجعة له واعترض بأنه يلزم أن لا يطلق أحد قبل الدخول لأنه يصير كمن نكح للطلاق لا للنكاح وقيل ليطول مقامه معها والظن بابن عمر أنه لا يمنعها حقها في الوطء فلعله إذا وطئ تطيب نفسه ويمسكها فيكون ذلك حرصًا على رفع الطلاق وحضًا على بقاء الزوجية حكى ذلك المازري أيضًا، قال ابن عبد البر رواه يونس بن جبير وأنس بن سيرين وسالم عن ابن عمر بلفظ حتى تطهر من الحيضة التي طلقها فيها ثم إن شاء أمسكها فلم يقولوا ثم تحيض ثم تطهر كما قال نافع نعم رواية الزهري عن سالم موافقة لرواية نافع كما نبه عليه أبو داود وزيادة الثقة مقبولة خصوصًا إذا كان حافظًا ولفظ رواية الزهري عن سالم عن أبيه في الصحيحين مره فليراجعها حتى تحيض حيضة مستقبلة سوى حيضتها التي طلقها فيها فإن بدا له أن يطلقها فليطلقها طاهرًا من حيضتها قبل أن يمسها.
( فتلك العدة التي أمر الله) أي أذن ( أن يطلق لها النساء) في قوله تعالى: { { فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } } وفي رواية لمسلم قال ابن عمر وقرأ النبي صلى الله عليه وسلم يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن في قبل عدتهن قال عياض أي في استقبال عدتهن وهذه قراءة ابن عمر وابن عباس وفي قراءة ابن مسعود لقبل طهورهن قال القشيري وغيره وهذه القراءة على التفسير لا على التلاوة وهي تصحح أن المراد بالأقراء الأطهار إذ لا يستقبل في الحيض عدة عند الجميع ولا يجتزى بها عند أحد من الطائفتين زاد في رواية سالم في الصحيح، وكان عبد الله طلقها تطليقة واحدة فحسبت من طلاقها وراجعها عبد الله كما أمره صلى الله عليه وسلم وفيه أن الطلاق يقع في الحيض وإلا لم يكن للأمر بالمراجعة فائدة.
قال الباجي: إذ المراجعة لا تستعمل غالبًا إلا بعد طلاق يعتد به فهو حجة على من لا يعتد بخلافهم وهم هشام بن الحكم وابن علية وداود في قولهم لا يقع الطلاق على الحائض.
وفي بعض طرق الحديث فحسبت من طلاقها والذي حسب حينئذ النبي صلى الله عليه وسلم لأنه شوور في المسألة وأفتى فيها فمحال أن يعتد بها ابن عمر طلقة من غير أمره صلى الله عليه وسلم ومن جهة القياس أن إلزام الطلاق تغليظ ومنعه تخفيف لأنه لا يلزم الصبي ولا المجنون ولا النائم ويلزم السكران لأنه عاص فإذا لزم من أوقعه على الوجه المأمور به كان إلزامه لمن أوقعه على الوجه الممنوع أحرى.

وقال أبو عمر: جمهور العلماء على أن الطلاق في الحيض واقع وإن كرهه جميعهم ولا يخالف في ذلك إلا أهل البدع والجهل الذين يرون الطلاق لغير السنة لا يقع، وروي ذلك عن بعض التابعين وهو شذوذ لم يعرج عليه أحد من العلماء.
وقد سئل ابن عمر أيعتد بتلك الطلقة؟ قال: نعم روي ذلك عنه من طرق وفي بعضها قال: فمه أرأيت إن عجز واستحمق أي عجز عن فرض آخر فلم يأت به أكان يعذر وكان إذا سئل يقول إن طلقت امرأتك وهي حائض مرة أو مرتين فإن الله أمر أن تراجعها وإن طلقتها ثلاثًا فقد حرمت عليك حتى تنكح زوجًا غيرك فلو كان غير لازم لم يلزمه ثلاثًا كان أو واحدة ومن جهة النظر أن الطلاق ليس من القرب كالصلاة فلا تقع إلا على سببها وإنما هو زوال عصمة فإن أوقعه على غير سببه أثم ولزمه ومحال أن يلزم المطيع المتبع للسنة طلاقه ولا يلزم العاصي فيكون أحسن حالاً من المطيع وقد قال تعالى: { { وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ } } أي عصى ربه وفارق امرأته وكذلك المطلق في الحيض، وقال النووي: أجمعت الأمة على تحريم طلاق الحائض الحائل بغير رضاها فإن طلقها أثم ووقع وشذ بعض أهل الظاهر فقال لا يقع لأنه لم يؤذن فيه فأشبه طلاق الأجنبية والصواب الأول.
وبه قال العلماء كافة لأمره عليه السلام بالمراجعة فلو لم يقع لم تكن رجعة وزعم أن المراد الرجعة اللغوية وهي الرد إلى حالها الأول غلط لأن الحمل على الحقيقة الشرعية مقدم على اللغوية كما تقرر في الأصول ولأن ابن عمر صرح بأنه حسبها عليه طلقة اهـ.
وقد روى الدارقطني فقال عمر: يا رسول الله أفيحتسب بتلك الطلقة؟ قال نعم فهذا نص في موضع النزاع فيجب المصير إليه.

وما في مسلم عن أبي الزبير عن ابن عمر فقال صلى الله عليه وسلم ليراجعها، فردها وقال: إذا طهرت فليطلق أو يمسك وزاد النسائي وأبو داود فيه ولم يرها أعله أبو داود فقال: روى هذا الحديث عن ابن عمر جماعة وأحاديثهم كلهم على خلاف ما قال أبو الزبير.
وقال ابن عبد البر لم يقلها غير أبي الزبير وليس بحجة فيما خالفه فيه مثله فكيف بمن هو أثبت منه، وقال الخطابي: لم يرو أبو الزبير حديثًا أنكر من هذا وقال الشافعي نافع أثبت من أبي الزبير والأثبت أولى أن يؤخذ به إذا تخالفا وقد وافق نافعًا غيره من أهل التثبت وحمل قوله لم يرها شيئًا على أنه لم يعدها شيئًا صوابًا فهو كما يقال للرجل إذا أخطأ في فعله أو في جوابه لم يصنع شيئًا أي شيئًا صوابًا.
وقال الخطابي: لم يرها شيئًا تحرم معه المراجعة وقد تابع أبا الزبير عبد الله بن مالك عن ابن عمر أنه طلق امرأته وهي حائض، فقال صلى الله عليه وسلم ليس ذلك بشيء رواه سعيد بن منصور وهو قابل للتأويل وهو أولى من تغليط بعض الثقات.
قال ابن دقيق العيد: ويتعلق بالحديث مسألة أصولية وهي أن الأمر بالأمر بالشيء هل هو أمر بذلك الشيء أم لا؟ فإنه صلى الله عليه وسلم قال لعمر: مره، فأمره بأمره وأطال في فتح الباري الكلام في هذه المسألة.
والحاصل أن الخطاب إذا توجه لمكلف أن يأمر مكلفًا آخر بفعل شيء فالمكلف الأول مبلغ محض والثاني مأمور من قبل الشرع كما هنا وإن توجه من الشارع أن يأمر غير مكلف كحديث: مروا أولادكم بالصلاة لسبع.
لم يكن الأمر بالشيء أمرًا بالشيء لأن الأولاد غير مكلفين فلا يتجه عليهم الوجوب وإن توجه الخطاب من غير الشارع بأمر من له عليه الأمر أن يأمر من لا أمر للأول عليه لم يكن الآمر بالشيء آمرًا بالشيء أيضًا بل هو متعدّ بأمره للأول أن يأمر الثاني.

وفي الحديث فوائد غير ما ذكر وأخرجه البخاري عن إسماعيل ومسلم عن يحيى كلاهما عن مالك به وتابعه الليث وعبيد الله بن عمر عند مسلم كلاهما عن نافع وتابعه سالم عن ابن عمر في الصحيحين وله طرق أخرى فيهما وفي غيرهما.

( مالك عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عائشة أم المؤمنين أنها انتقلت) أي نقلت ( حفصة ابنة) شقيقها ( عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق) لما طلقها المنذر بن الزبير بن العوّام ( حين دخلت في الدم من الحيضة الثالثة) لتمام عدتها إذ الأقراء الأطهار كما دل عليه حديث ابن عمر ( قال ابن شهاب فذكر ذلك لعمرة بنت عبد الرحمن) الأنصارية أحد المكثرين عن عائشة ( فقالت صدق عروة) فيما روى عن عائشة ( وقد جادلها) خاصمها بشدة ( في ذلك ناس فقالوا إن الله تبارك وتعالى يقول في كتابه) { { وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ } }

تمضي من حين الطلاق جمع قرء بفتح القاف ( فقالت عائشة صدقتم) في أنه قاله ولكن ( تدرون) بحذف همزة الاستفهام، أي أتعلمون ( ما الأقراء) جمع قرء بالضم مثل قفل وأقفال.
( إنما الأقراء الأطهار) قال أبو عمر: لم تختلف العلماء ولا الفقهاء أن القرء لغة يقع على الطهر والحيضة إنما اختلفوا في المراد في الآية.
فقال جمهور أهل المدينة الأطهار وقال العراقيون: الحيض.
وحديث ابن عمر يدل للأول لقوله: ثم تحيض ثم تطهر ثم إن شاء طلق قبل أن يمس فتلك العدة التي أمر الله فأخبر أن الطلاق للعدة لا يكون إلا في طهر فهو بيان لقوله تعالى { { فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } } وقرئ لقبل عدتهن أي لاستقبالها، ونهى عن الطلاق في الحيض لأنها لا تستقبل العدة في تلك الحيضة عند الجميع والقول بأن القرء مأخوذ من قرأت الماء في الحوض ليس بشيء لأن القرء مهموز، وهذا ليس بمهموز.

وقال الأصمعي: أصل القرء الوقت يقال أقرأت النجوم إذا طلعت لوقتها.
وقال عياض: اختلف السلف ومن بعدهم من العلماء واللغويين في معنى الآية هل هو الحيض أو الطهر أو مشترك فتكون حقيقة فيهما أو حقيقة في الحيض مجاز في الطهر أو المراد به الانتقال من حال إلى حال دون كونه اسمًا للطهر أو الحيض فمعنى ثلاثة قروء ثلاث انتقالات وإذا علم ما هو مشتق منه اتضح فقيل من الوقت فيحتمل الأمرين وقيل من الجمع فهو ظاهر في الأطهار وقيل من الانتقال من حال إلى حال فيكون ظاهرًا في الطهر والحيض جميعًا لكن الثلاث انتقالات إنما تستقيم بالانتقال من الطهر إلى الحيض لا عكسه لأن الطلاق في الحيض لا يجوز ويعضده أن براءة الرحم إنما تعرف بالانتقال من الطهر إلى الحيض ولذا كان استبراء الإماء بالحيض لأن مجيئه غالبًا دليل على براءة الرحم ولا يدل مجيء الطهر على براءته إذ قد تحمل في آخر حيضها فكانت الثلاث في الحرائر كالواحدة في استبراء الإماء إلا ما حكاه القاضي إسماعيل عن أبي عبيدة وهذا اختيار الطبري والشافعي ومحققي أصحابنا المتأخرين وهو حسن دقيق.

( مالك عن ابن شهاب أنه قال سمعت أبا بكر بن عبد الرحمن يقول ما أدركت أحدًا من فقهائنا إلا وهو يقول هذا) وفي نسخة ذلك ( يريد قول عائشة) إنما الأقراء الأطهار ولا يرد عليه قوله صلى الله عليه وسلم فتلك العدة إذ لو أراد الأطهار لقال فذلك كما زعم المخالف لأنه أنث باعتبار الحالة أو العدة.

( مالك عن نافع) مولى ابن عمر ( وزيد بن أسلم) مولى عمر ( عن سليمان بن يسار أن الأحوص) بالحاء والصاد المهملتين، ابن عبد بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف.
ذكر ابن الكلبي والبلاذري أنه كان عاملاً لمعاوية على البحرين وسعى لمروان بن الحكم في قصة جرت له، ومقتضاه أن يكون له صحبة، وأنه عمر لأن أباه مات كافرًا ومن ولده منصور بن عبد الله بن الأحوص له ذكر بالشام في أيام بني مروان وكان ابنه عبد الله عاملاً أيضًا لمعاوية على بعض الشام.
وفي رواية ابن عيينة عن الزهري عن سليمان بن يسار أن الأحوص ابن فلان أو فلان بن الأحوص قال ابن الحذاء: الأقوى أن القصة للأحوص وهو ابن عبد ويحتمل أن يكون لولده عبد الله ولم يسم في رواية الزهري قاله في الإصابة لكن هذا الاحتمال إنما هو على رواية الزهري لا الموطأ لقوله الأحوص ( هلك) مات ( بالشام حين دخلت امرأته في الدم من الحيضة الثالثة وقد كان طلقها) زاد في رواية ابن أبي شيبة طلقة أو تطليقتين ( فكتب معاوية بن أبي سفيان) صخر بن حرب زاد ابن أبي شيبة فسأل عنها فضالة بن عبيد ومن هناك من الصحابة فلم يجد عندهم فيها علمًا فبعث راكبًا.
( إلى زيد بن ثابت يسأله عن ذلك فكتب إليه زيد إنها إذا دخلت في الدم من الحيضة الثالثة فقد برئت منه وبرئ منها) مثل سلم وزنًا ومعنى أي انقطعت العلاقة بينهما ( ولا ترثه ولا يرثها) لو كانت هي الميتة ففي هذا أيضًا أن الأقراء الأطهار.

( مالك أنه بلغه عن القاسم بن محمد وسالم بن عبد الله وأبي بكر بن عبد الرحمن وسليمان بن يسار) والأربعة من فقهاء المدينة السبعة أو العشرة ( وابن شهاب أنهم كانوا يقولون إذا دخلت المطلقة في الدم من الحيضة الثالثة فقد بانت من زوجها ولا ميراث بينهما ولا رجعة له عليها) لأن الأقراء الأطهار.

( مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أنه كان يقول إذا طلق الرجل امرأته فدخلت في الدم من الحيضة الثالثة فقد برئت منه وبرئ منها) فلا إرث ولا رجعة ( قال مالك وهو الأمر عندنا) بالمدينة وقال به جمع كثير من الصحابة والتابعين، والشافعي وذهب جمع من الصحابة والتابعين وأبو حنيفة إلى أن الأقراء الحيض وعن أحمد القولان واحتجوا بأنه يلزم القائلين بأنها الأطهار مخالفة القرآن لاعتدادها عندهم بطهر الطلاق، وإن قل فيكون عدّتها قرأين ونصفًا والله تعالى جعلها ثلاثة، وإذا كانت الحيض كانت ثلاثة قروء كاملة لحرمة الطلاق في الحيض وحمل هذا الاعتراض ابن شهاب على أن قال: الطهر الذي يقع فيه الطلاق لا يعتدّ به وهو مذهب انفرد به دون جميع من قال الأقراء الأطهار، وأجاب بعض أصحابنا بأن القرء هو الانتقال من حال إلى حال فما بقي من الطهر الذي وقع فيه الطلاق، فيه الانتقال من حال إلى حال فإنما وقعت العدّة بثلاثة أطهار كاملة وأجاب غيره بأنه لا يبعد تسمية اثنين، وبعض الثالث ثلاثة قال تعالى { { الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ } } وما الحج إلا شهران وعشرة أيام قاله المازري.

( مالك عن الفضيل) بضم الفاء مصغر ( بن أبي عبد الله) المدني الثقة ( مولى المهري) بفتح الميم وسكون الهاء ( أن القاسم بن محمد وسالم بن عبد الله كانا يقولان إذا طلقت المرأة فدخلت في الدم من الحيضة الثالثة فقد بانت منه وحلت) لمن يتزوجها لأن الأقراء الأطهار واحتج له بعضهم بقوله: ثلاثة قروء إذ لو أريد الحيض لقال: ثلاث بلا تاء لأنها تحذف من المؤنث وتدخل مع المذكر وغلطه المازري بأن العرب تراعي في العدد اللفظ مرّة كقولهم: ثلاثة منازل والمعنى أخرى كقول عمر بن أبي ربيعة:

فكان مجني دون من كنت أتقي
ثلاث شخوص كأعيان وجؤذر

فأنث على معنى الشخوص.
وأكثر الإمام من هذه الآثار تقوية لمذهبه أنها الأطهار واحتجاج القائل بأنها الحيض قال به نحو خمسة عشر من الصحابة معارض بقول عائشة وغيرها من الصحابة أنها الأقراء وعائشة مقدمة في الفقه لا سيما في أحوال النساء.

( مالك أنه بلغه عن سعيد بن المسيب وابن شهاب وسليمان بن يسار أنهم كانوا يقولون عدة المختلعة ثلاثة قروء) لأن الخلع طلاق فدخل في الآية.

( مالك أنه سمع ابن شهاب يقول عدّة المطلقة الأقراء وإن تباعدت) لإطلاق الآية.

( مالك عن يحيى بن سعيد عن رجل من الأنصار) يحتمل أنه زوج الربيع بنت معوذ وأنه غيره ( أن امرأته سألته الطلاق فقال لها إذا حضت فآذنيني) بالمدّ أعلميني ( فلما حاضت: آذنته فقال: إذا طهرت فآذنيني فلما طهرت آذنته فطلقها قال مالك وهذا أحسن ما سمعت في ذلك) أي طلاقها في طهر لم يمس فيه لموافقته لحديث ابن عمر.



رقم الحديث 1221 وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنِ الْفُضَيْلِ بْنِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ مَوْلَى الْمَهْرِيِّ، أَنَّ الْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدٍ، وَسَالِمَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ، كَانَا يَقُولَانِ: إِذَا طُلِّقَتِ الْمَرْأَةُ فَدَخَلَتْ فِي الدَّمِ مِنَ الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ، فَقَدْ بَانَتْ مِنْهُ وَحَلَّتْ.


( ما جاء في الأقراء وعدة الطلاق وطلاق الحائض)

( مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر) كذا في رواية يحيى وظاهرها الإرسال إذ نافع لم يدرك ذلك وليس بمراد فقد رواه غيره في الموطأ كيحيى النيسابوري، وإسماعيل، وغيرهما، مالك عن نافع عن ابن عمر أنه ( طلق امرأته) هي آمنة بمد الهمزة وكسر الميم، بنت غفار بكسر المعجمة وتخفيف الفاء وبالراء، كما ضبطه ابن نقطة وعزاه لابن سعد وذكر أنه وجده كذلك بخط الحافظ أبي الفضل بن ناصر أو بنت عمار بفتح العين المهملة والميم المشددة.

قال الحافظ والأول أولى وفي مسند أحمد اسمها النوّار فيمكن أن اسمها آمنة ولقبها النوار صحابية ( وهي حائض) جملة حالية زاد الليث عن نافع عن ابن عمر تطليقة واحدة أخرجه مسلم.
وقال جود الليث في قوله تطليقة واحدة، قال عياض: يعني أنه حفظ وأتقن ما لم يتقنه غيره ممن لم يفسر كم الطلاق وممن غلط ووهم وقال طلقها ثلاثًا.
( على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فسأل عمر بن الخطاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك) عن حكم طلاق ابنه على هذه الصفة زاد الشيخان من رواية سالم عن أبيه فتغيظ رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال ابن العربي يحتمل أن سؤال عمر لأن النازلة لم تكن وقعت فسأل ليعلم الحكم ويحتمل أنه علمه من قوله تعالى { { فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } } وقوله تعالى { { يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ } } والحيض ليس بقرء فيفتقر إلى بيان الحكم فيه ويحتمل أن يكون سمع النهي والأوسط أقواها ( فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم) لعمر ( مره) أصله أأمره بهمزتين الأولى للوصل مضمومة تبعًا للعين مثل افعل، والثانية فاء الكلمة ساكنة تبدل تخفيفًا من جنس حركة سابقتها فيقال: أومر فإذا وصل الفعل بما قبله زالت همزة الوصل، وسكنت الهمزة الأصلية كما في قوله تعالى { { وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاَةِ } } لكن استعملتها العرب بلا همز فقالوا: مر لكثرة الدور لأنهم حذفوا أولاً الهمزة الثانية تخفيفًا، ثم حذفوا همزة الوصل استغناء عنها لتحرك ما بعدها أي مُر ابنك عبد الله ( فليراجعها) والأمر للوجوب عند مالك وجماعة، وصححه صاحب الهداية من الحنفية وللندب عند الأئمة الثلاثة ولا حجة لهم في أنه إنما أمره بالرجعة أبوه وليس له أن يضع الشرع لأنه أمره بأمر النبي صلى الله عليه وسلم وهو مبلغ عنه، وأما استدلالهم بقوله تعالى { { فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ } } وغيرها من الآيات المقتضية للتخيير بين الإمساك بالرجعة أو الفراق بتركها فيجمع بينها وبين الحديث بحمل الأمر فيه على الندب جمعًا بينهما فليس بناهض إذ الأصل في الأمر الوجوب فيحمل عليه ويخص عموم الآيات بمن لم يطلق في الحيض ( ثم يمسكها) أي يديم إمساكها، وإلا فالرجعة إمساك وفي رواية يحيى التميمي ثم ليتركها ولإسماعيل ثم ليمسكها بإعادة اللام مكسورة ويجوز تسكينها كقراءة { { ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ } } فالكسر على الأصل في لام الأمر فرقا بينها وبين لام التأكيد والسكون للتخفيف إجراء للمنفصل مجرى المتصل.
وفي رواية ثم ليدعها ( حتى تطهر ثم تحيض) حيضة أخرى ( ثم تطهر ثم إن شاء أمسك بعد) أي بعد الطهر من الحيض الثاني ( وإن شاء طلق) وفي رواية إسماعيل طلقها ( قبل أن يمس) ولإسماعيل يمسها أي يجامعها فيكره في طهر مس فيه للتلبيس إذ لا يدري أحملت فتعتد بالوضع، أو لا فبالأقراء، وقد يظهر الحمل فيندم على الفراق.

وقد ذهب بعض الناس إلى جبره على الرجعة كالمطلق في الحيض فإن قيل لِمَ أمره أن يؤخر الطلاق إلى الطهر الثاني، أجيب: بأن حيض الطلاق والطهر التالي له بمنزلة قرء واحد فلو طلق فيه لصار كموقع طلقتين في قرء واحد وليس ذلك بطلاق السنة وبأنه عاقبه بتأخير الطلاق تغليظًا عليه جزاء بما فعله من الحرام وهو الطلاق في الحيض وهذا معترض بأن ابن عمر لم يعلم بالتحريم ولم يتحققه وحاشاه من ذلك فلا وجه لعقوبته قاله المازري، وأجيب بأن تغيظه صلى الله عليه وسلم دون أن يعذره يقتضي أن ذلك في الظهور لا يكاد يخفى على أحد وبأن ابن عمر وإن لم يتعمد فرط بترك السؤال قبل الفعل مع تمكنه منه فعوقب على تركه السؤال وليكون ذلك زجرًا لغيره بعده وقيل إنما أمره بالتأخير لئلا تصير الرجعة لمجرد غرض الطلاق لو طلق في أول الطهر الأول بخلاف الطهر الثاني وكما ينهى عن النكاح لمجرد الطلاق ينهى عن الرجعة له واعترض بأنه يلزم أن لا يطلق أحد قبل الدخول لأنه يصير كمن نكح للطلاق لا للنكاح وقيل ليطول مقامه معها والظن بابن عمر أنه لا يمنعها حقها في الوطء فلعله إذا وطئ تطيب نفسه ويمسكها فيكون ذلك حرصًا على رفع الطلاق وحضًا على بقاء الزوجية حكى ذلك المازري أيضًا، قال ابن عبد البر رواه يونس بن جبير وأنس بن سيرين وسالم عن ابن عمر بلفظ حتى تطهر من الحيضة التي طلقها فيها ثم إن شاء أمسكها فلم يقولوا ثم تحيض ثم تطهر كما قال نافع نعم رواية الزهري عن سالم موافقة لرواية نافع كما نبه عليه أبو داود وزيادة الثقة مقبولة خصوصًا إذا كان حافظًا ولفظ رواية الزهري عن سالم عن أبيه في الصحيحين مره فليراجعها حتى تحيض حيضة مستقبلة سوى حيضتها التي طلقها فيها فإن بدا له أن يطلقها فليطلقها طاهرًا من حيضتها قبل أن يمسها.
( فتلك العدة التي أمر الله) أي أذن ( أن يطلق لها النساء) في قوله تعالى: { { فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } } وفي رواية لمسلم قال ابن عمر وقرأ النبي صلى الله عليه وسلم يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن في قبل عدتهن قال عياض أي في استقبال عدتهن وهذه قراءة ابن عمر وابن عباس وفي قراءة ابن مسعود لقبل طهورهن قال القشيري وغيره وهذه القراءة على التفسير لا على التلاوة وهي تصحح أن المراد بالأقراء الأطهار إذ لا يستقبل في الحيض عدة عند الجميع ولا يجتزى بها عند أحد من الطائفتين زاد في رواية سالم في الصحيح، وكان عبد الله طلقها تطليقة واحدة فحسبت من طلاقها وراجعها عبد الله كما أمره صلى الله عليه وسلم وفيه أن الطلاق يقع في الحيض وإلا لم يكن للأمر بالمراجعة فائدة.
قال الباجي: إذ المراجعة لا تستعمل غالبًا إلا بعد طلاق يعتد به فهو حجة على من لا يعتد بخلافهم وهم هشام بن الحكم وابن علية وداود في قولهم لا يقع الطلاق على الحائض.
وفي بعض طرق الحديث فحسبت من طلاقها والذي حسب حينئذ النبي صلى الله عليه وسلم لأنه شوور في المسألة وأفتى فيها فمحال أن يعتد بها ابن عمر طلقة من غير أمره صلى الله عليه وسلم ومن جهة القياس أن إلزام الطلاق تغليظ ومنعه تخفيف لأنه لا يلزم الصبي ولا المجنون ولا النائم ويلزم السكران لأنه عاص فإذا لزم من أوقعه على الوجه المأمور به كان إلزامه لمن أوقعه على الوجه الممنوع أحرى.

وقال أبو عمر: جمهور العلماء على أن الطلاق في الحيض واقع وإن كرهه جميعهم ولا يخالف في ذلك إلا أهل البدع والجهل الذين يرون الطلاق لغير السنة لا يقع، وروي ذلك عن بعض التابعين وهو شذوذ لم يعرج عليه أحد من العلماء.
وقد سئل ابن عمر أيعتد بتلك الطلقة؟ قال: نعم روي ذلك عنه من طرق وفي بعضها قال: فمه أرأيت إن عجز واستحمق أي عجز عن فرض آخر فلم يأت به أكان يعذر وكان إذا سئل يقول إن طلقت امرأتك وهي حائض مرة أو مرتين فإن الله أمر أن تراجعها وإن طلقتها ثلاثًا فقد حرمت عليك حتى تنكح زوجًا غيرك فلو كان غير لازم لم يلزمه ثلاثًا كان أو واحدة ومن جهة النظر أن الطلاق ليس من القرب كالصلاة فلا تقع إلا على سببها وإنما هو زوال عصمة فإن أوقعه على غير سببه أثم ولزمه ومحال أن يلزم المطيع المتبع للسنة طلاقه ولا يلزم العاصي فيكون أحسن حالاً من المطيع وقد قال تعالى: { { وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ } } أي عصى ربه وفارق امرأته وكذلك المطلق في الحيض، وقال النووي: أجمعت الأمة على تحريم طلاق الحائض الحائل بغير رضاها فإن طلقها أثم ووقع وشذ بعض أهل الظاهر فقال لا يقع لأنه لم يؤذن فيه فأشبه طلاق الأجنبية والصواب الأول.
وبه قال العلماء كافة لأمره عليه السلام بالمراجعة فلو لم يقع لم تكن رجعة وزعم أن المراد الرجعة اللغوية وهي الرد إلى حالها الأول غلط لأن الحمل على الحقيقة الشرعية مقدم على اللغوية كما تقرر في الأصول ولأن ابن عمر صرح بأنه حسبها عليه طلقة اهـ.
وقد روى الدارقطني فقال عمر: يا رسول الله أفيحتسب بتلك الطلقة؟ قال نعم فهذا نص في موضع النزاع فيجب المصير إليه.

وما في مسلم عن أبي الزبير عن ابن عمر فقال صلى الله عليه وسلم ليراجعها، فردها وقال: إذا طهرت فليطلق أو يمسك وزاد النسائي وأبو داود فيه ولم يرها أعله أبو داود فقال: روى هذا الحديث عن ابن عمر جماعة وأحاديثهم كلهم على خلاف ما قال أبو الزبير.
وقال ابن عبد البر لم يقلها غير أبي الزبير وليس بحجة فيما خالفه فيه مثله فكيف بمن هو أثبت منه، وقال الخطابي: لم يرو أبو الزبير حديثًا أنكر من هذا وقال الشافعي نافع أثبت من أبي الزبير والأثبت أولى أن يؤخذ به إذا تخالفا وقد وافق نافعًا غيره من أهل التثبت وحمل قوله لم يرها شيئًا على أنه لم يعدها شيئًا صوابًا فهو كما يقال للرجل إذا أخطأ في فعله أو في جوابه لم يصنع شيئًا أي شيئًا صوابًا.
وقال الخطابي: لم يرها شيئًا تحرم معه المراجعة وقد تابع أبا الزبير عبد الله بن مالك عن ابن عمر أنه طلق امرأته وهي حائض، فقال صلى الله عليه وسلم ليس ذلك بشيء رواه سعيد بن منصور وهو قابل للتأويل وهو أولى من تغليط بعض الثقات.
قال ابن دقيق العيد: ويتعلق بالحديث مسألة أصولية وهي أن الأمر بالأمر بالشيء هل هو أمر بذلك الشيء أم لا؟ فإنه صلى الله عليه وسلم قال لعمر: مره، فأمره بأمره وأطال في فتح الباري الكلام في هذه المسألة.
والحاصل أن الخطاب إذا توجه لمكلف أن يأمر مكلفًا آخر بفعل شيء فالمكلف الأول مبلغ محض والثاني مأمور من قبل الشرع كما هنا وإن توجه من الشارع أن يأمر غير مكلف كحديث: مروا أولادكم بالصلاة لسبع.
لم يكن الأمر بالشيء أمرًا بالشيء لأن الأولاد غير مكلفين فلا يتجه عليهم الوجوب وإن توجه الخطاب من غير الشارع بأمر من له عليه الأمر أن يأمر من لا أمر للأول عليه لم يكن الآمر بالشيء آمرًا بالشيء أيضًا بل هو متعدّ بأمره للأول أن يأمر الثاني.

وفي الحديث فوائد غير ما ذكر وأخرجه البخاري عن إسماعيل ومسلم عن يحيى كلاهما عن مالك به وتابعه الليث وعبيد الله بن عمر عند مسلم كلاهما عن نافع وتابعه سالم عن ابن عمر في الصحيحين وله طرق أخرى فيهما وفي غيرهما.

( مالك عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عائشة أم المؤمنين أنها انتقلت) أي نقلت ( حفصة ابنة) شقيقها ( عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق) لما طلقها المنذر بن الزبير بن العوّام ( حين دخلت في الدم من الحيضة الثالثة) لتمام عدتها إذ الأقراء الأطهار كما دل عليه حديث ابن عمر ( قال ابن شهاب فذكر ذلك لعمرة بنت عبد الرحمن) الأنصارية أحد المكثرين عن عائشة ( فقالت صدق عروة) فيما روى عن عائشة ( وقد جادلها) خاصمها بشدة ( في ذلك ناس فقالوا إن الله تبارك وتعالى يقول في كتابه) { { وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ } }

تمضي من حين الطلاق جمع قرء بفتح القاف ( فقالت عائشة صدقتم) في أنه قاله ولكن ( تدرون) بحذف همزة الاستفهام، أي أتعلمون ( ما الأقراء) جمع قرء بالضم مثل قفل وأقفال.
( إنما الأقراء الأطهار) قال أبو عمر: لم تختلف العلماء ولا الفقهاء أن القرء لغة يقع على الطهر والحيضة إنما اختلفوا في المراد في الآية.
فقال جمهور أهل المدينة الأطهار وقال العراقيون: الحيض.
وحديث ابن عمر يدل للأول لقوله: ثم تحيض ثم تطهر ثم إن شاء طلق قبل أن يمس فتلك العدة التي أمر الله فأخبر أن الطلاق للعدة لا يكون إلا في طهر فهو بيان لقوله تعالى { { فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } } وقرئ لقبل عدتهن أي لاستقبالها، ونهى عن الطلاق في الحيض لأنها لا تستقبل العدة في تلك الحيضة عند الجميع والقول بأن القرء مأخوذ من قرأت الماء في الحوض ليس بشيء لأن القرء مهموز، وهذا ليس بمهموز.

وقال الأصمعي: أصل القرء الوقت يقال أقرأت النجوم إذا طلعت لوقتها.
وقال عياض: اختلف السلف ومن بعدهم من العلماء واللغويين في معنى الآية هل هو الحيض أو الطهر أو مشترك فتكون حقيقة فيهما أو حقيقة في الحيض مجاز في الطهر أو المراد به الانتقال من حال إلى حال دون كونه اسمًا للطهر أو الحيض فمعنى ثلاثة قروء ثلاث انتقالات وإذا علم ما هو مشتق منه اتضح فقيل من الوقت فيحتمل الأمرين وقيل من الجمع فهو ظاهر في الأطهار وقيل من الانتقال من حال إلى حال فيكون ظاهرًا في الطهر والحيض جميعًا لكن الثلاث انتقالات إنما تستقيم بالانتقال من الطهر إلى الحيض لا عكسه لأن الطلاق في الحيض لا يجوز ويعضده أن براءة الرحم إنما تعرف بالانتقال من الطهر إلى الحيض ولذا كان استبراء الإماء بالحيض لأن مجيئه غالبًا دليل على براءة الرحم ولا يدل مجيء الطهر على براءته إذ قد تحمل في آخر حيضها فكانت الثلاث في الحرائر كالواحدة في استبراء الإماء إلا ما حكاه القاضي إسماعيل عن أبي عبيدة وهذا اختيار الطبري والشافعي ومحققي أصحابنا المتأخرين وهو حسن دقيق.

( مالك عن ابن شهاب أنه قال سمعت أبا بكر بن عبد الرحمن يقول ما أدركت أحدًا من فقهائنا إلا وهو يقول هذا) وفي نسخة ذلك ( يريد قول عائشة) إنما الأقراء الأطهار ولا يرد عليه قوله صلى الله عليه وسلم فتلك العدة إذ لو أراد الأطهار لقال فذلك كما زعم المخالف لأنه أنث باعتبار الحالة أو العدة.

( مالك عن نافع) مولى ابن عمر ( وزيد بن أسلم) مولى عمر ( عن سليمان بن يسار أن الأحوص) بالحاء والصاد المهملتين، ابن عبد بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف.
ذكر ابن الكلبي والبلاذري أنه كان عاملاً لمعاوية على البحرين وسعى لمروان بن الحكم في قصة جرت له، ومقتضاه أن يكون له صحبة، وأنه عمر لأن أباه مات كافرًا ومن ولده منصور بن عبد الله بن الأحوص له ذكر بالشام في أيام بني مروان وكان ابنه عبد الله عاملاً أيضًا لمعاوية على بعض الشام.
وفي رواية ابن عيينة عن الزهري عن سليمان بن يسار أن الأحوص ابن فلان أو فلان بن الأحوص قال ابن الحذاء: الأقوى أن القصة للأحوص وهو ابن عبد ويحتمل أن يكون لولده عبد الله ولم يسم في رواية الزهري قاله في الإصابة لكن هذا الاحتمال إنما هو على رواية الزهري لا الموطأ لقوله الأحوص ( هلك) مات ( بالشام حين دخلت امرأته في الدم من الحيضة الثالثة وقد كان طلقها) زاد في رواية ابن أبي شيبة طلقة أو تطليقتين ( فكتب معاوية بن أبي سفيان) صخر بن حرب زاد ابن أبي شيبة فسأل عنها فضالة بن عبيد ومن هناك من الصحابة فلم يجد عندهم فيها علمًا فبعث راكبًا.
( إلى زيد بن ثابت يسأله عن ذلك فكتب إليه زيد إنها إذا دخلت في الدم من الحيضة الثالثة فقد برئت منه وبرئ منها) مثل سلم وزنًا ومعنى أي انقطعت العلاقة بينهما ( ولا ترثه ولا يرثها) لو كانت هي الميتة ففي هذا أيضًا أن الأقراء الأطهار.

( مالك أنه بلغه عن القاسم بن محمد وسالم بن عبد الله وأبي بكر بن عبد الرحمن وسليمان بن يسار) والأربعة من فقهاء المدينة السبعة أو العشرة ( وابن شهاب أنهم كانوا يقولون إذا دخلت المطلقة في الدم من الحيضة الثالثة فقد بانت من زوجها ولا ميراث بينهما ولا رجعة له عليها) لأن الأقراء الأطهار.

( مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أنه كان يقول إذا طلق الرجل امرأته فدخلت في الدم من الحيضة الثالثة فقد برئت منه وبرئ منها) فلا إرث ولا رجعة ( قال مالك وهو الأمر عندنا) بالمدينة وقال به جمع كثير من الصحابة والتابعين، والشافعي وذهب جمع من الصحابة والتابعين وأبو حنيفة إلى أن الأقراء الحيض وعن أحمد القولان واحتجوا بأنه يلزم القائلين بأنها الأطهار مخالفة القرآن لاعتدادها عندهم بطهر الطلاق، وإن قل فيكون عدّتها قرأين ونصفًا والله تعالى جعلها ثلاثة، وإذا كانت الحيض كانت ثلاثة قروء كاملة لحرمة الطلاق في الحيض وحمل هذا الاعتراض ابن شهاب على أن قال: الطهر الذي يقع فيه الطلاق لا يعتدّ به وهو مذهب انفرد به دون جميع من قال الأقراء الأطهار، وأجاب بعض أصحابنا بأن القرء هو الانتقال من حال إلى حال فما بقي من الطهر الذي وقع فيه الطلاق، فيه الانتقال من حال إلى حال فإنما وقعت العدّة بثلاثة أطهار كاملة وأجاب غيره بأنه لا يبعد تسمية اثنين، وبعض الثالث ثلاثة قال تعالى { { الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ } } وما الحج إلا شهران وعشرة أيام قاله المازري.

( مالك عن الفضيل) بضم الفاء مصغر ( بن أبي عبد الله) المدني الثقة ( مولى المهري) بفتح الميم وسكون الهاء ( أن القاسم بن محمد وسالم بن عبد الله كانا يقولان إذا طلقت المرأة فدخلت في الدم من الحيضة الثالثة فقد بانت منه وحلت) لمن يتزوجها لأن الأقراء الأطهار واحتج له بعضهم بقوله: ثلاثة قروء إذ لو أريد الحيض لقال: ثلاث بلا تاء لأنها تحذف من المؤنث وتدخل مع المذكر وغلطه المازري بأن العرب تراعي في العدد اللفظ مرّة كقولهم: ثلاثة منازل والمعنى أخرى كقول عمر بن أبي ربيعة:

فكان مجني دون من كنت أتقي
ثلاث شخوص كأعيان وجؤذر

فأنث على معنى الشخوص.
وأكثر الإمام من هذه الآثار تقوية لمذهبه أنها الأطهار واحتجاج القائل بأنها الحيض قال به نحو خمسة عشر من الصحابة معارض بقول عائشة وغيرها من الصحابة أنها الأقراء وعائشة مقدمة في الفقه لا سيما في أحوال النساء.

( مالك أنه بلغه عن سعيد بن المسيب وابن شهاب وسليمان بن يسار أنهم كانوا يقولون عدة المختلعة ثلاثة قروء) لأن الخلع طلاق فدخل في الآية.

( مالك أنه سمع ابن شهاب يقول عدّة المطلقة الأقراء وإن تباعدت) لإطلاق الآية.

( مالك عن يحيى بن سعيد عن رجل من الأنصار) يحتمل أنه زوج الربيع بنت معوذ وأنه غيره ( أن امرأته سألته الطلاق فقال لها إذا حضت فآذنيني) بالمدّ أعلميني ( فلما حاضت: آذنته فقال: إذا طهرت فآذنيني فلما طهرت آذنته فطلقها قال مالك وهذا أحسن ما سمعت في ذلك) أي طلاقها في طهر لم يمس فيه لموافقته لحديث ابن عمر.



رقم الحديث 1222 وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ، وَسُلَيْمَانَ بْنَ يَسَارٍ وَابْنَ شِهَابٍ كَانُوا يَقُولُونَ: عِدَّةُ الْمُخْتَلِعَةِ مِثْلُ عِدَّةِ الْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثَةُ قُرُوءٍ قَالَ مَالِكٌ: فِي الْمُفْتَدِيَةِ إِنَّهَا: لَا تَرْجِعُ إِلَى زَوْجِهَا إِلَّا بِنِكَاحٍ جَدِيدٍ، فَإِنْ هُوَ نَكَحَهَا، فَفَارَقَهَا.
قَبْلَ أَنْ يَمَسَّهَا لَمْ يَكُنْ لَهُ عَلَيْهَا عِدَّةٌ مِنَ الطَّلَاقِ الْآخَرِ، وَتَبْنِي عَلَى عِدَّتِهَا الْأُولَى قَالَ مَالِكٌ: وَهَذَا أَحْسَنُ مَا سَمِعْتُ فِي ذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ: إِذَا افْتَدَتِ الْمَرْأَةُ مِنْ زَوْجِهَا بِشَيْءٍ عَلَى أَنْ يُطَلِّقَهَا، فَطَلَّقَهَا طَلَاقًا مُتَتَابِعًا نَسَقًا فَذَلِكَ ثَابِتٌ عَلَيْهِ، فَإِنْ كَانَ بَيْنَ ذَلِكَ صُمَاتٌ فَمَا أَتْبَعَهُ بَعْدَ الصُّمَاتِ فَلَيْسَ بِشَيْءٍ.


( طلاق المختلعة)

( مالك عن نافع أن ربيع) بضم الراء وفتح الموحدة وتثقيل التحتية وعين مهملة، صحابية لها أحاديث وربما غزت مع النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح ( بنت معوذ) بشد الواو مفتوحة على الأشهر، وجزم بعضهم بالكسر، وهو ابن الحارث الأنصاري النجاري، شهد بدرًا وكان ممن قتل أبا جهل ثم قاتل حتى استشهد ببدر.
( ابن عفراء) بنت عبيد النجارية الصحابية، وهي أم معوذ ومعاذ وعوف أولاد الحارث، وإليها ينسبون ولها خصوصية لم توجد لغيرها هي أنها صحابية لها سبعة بنين هؤلاء الثلاثة وإخوتهم لأمهم إياس وخالد وعاقل وعامر أولاد البكير بن ياليل الليثي، شهد السبعة بدرًا مع النبي صلى الله عليه وسلم ( جاءت هي وعمها إلى عبد الله بن عمر فأخبرته أنها) أي الربيع ( اختلعت من زوجها في زمان عثمان بن عفان) أي خلافته ( فبلغ ذلك عثمان بن عفان فلم ينكره) بل قضى عليها.
فأخرج ابن سعد من طريق عبد الله بن محمد بن عقيل عن الربيع بنت معوذ قالت: قلت لزوجي: أختلع منك بجميع ما أملك.
قال: نعم فدفعت إليه كل شيء غير درعي فخاصمني إلى عثمان فقال له شرطه فدفعته إليه.
وأخرجه من وجه آخر أتم منه.
وقال فيه الشرط أملك خذ كل شيء حتى عقاص رأسها قال: وكان ذلك في حصار عثمان يعني سنة خمس وثلاثين.

( وقال عبد الله بن عمر عدتها عدة المطلقة) إذ الخلع طلاق بعوض.

( مالك أنه بلغه أن سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار وابن شهاب كانوا يقولون عدة المختلعة مثل عدة المطلقة ثلاثة قروء) إن لم تكن حاملاً أو آيسة ( قال مالك في المفتدية: إنها لا ترجع إلى زوجها إلا بنكاح جديد) لأن طلاق الخلع بائن ( فإن هو نكحها) عقد عليها بعد الخلع ( ففارقها قبل أن يمسها لم يكن له عليها عدة من الطلاق الآخر) الواقع بعد طلاق الخلع ( وتبني على عدتها الأولى) لعدم المسيس ( وهذا أحسن ما سمعت في ذلك) لقوله تعالى: { { ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا } } فإنه شامل لهذه السورة ( قال مالك: إذا افتدت المرأة من زوجها بشيء على أن يطلقها فطلقها طلاقًا متتابعًا نسقًا) بلا فاصل وهو بمعنى متتابعًا ( فذلك ثابت عليه) لازم له ( فإن كان بين ذلك صمات) بضم الصاد مصدر ( فما أتبعه بعد الصمات فليس بشيء) لأنها بانت بما قبله فلا يلحقها طلاقه.



رقم الحديث 1223 وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ شِهَابٍ يَقُولُ: عِدَّةُ الْمُطَلَّقَةِ الْأَقْرَاءُ وَإِنْ تَبَاعَدَتْ.


( ما جاء في الأقراء وعدة الطلاق وطلاق الحائض)

( مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر) كذا في رواية يحيى وظاهرها الإرسال إذ نافع لم يدرك ذلك وليس بمراد فقد رواه غيره في الموطأ كيحيى النيسابوري، وإسماعيل، وغيرهما، مالك عن نافع عن ابن عمر أنه ( طلق امرأته) هي آمنة بمد الهمزة وكسر الميم، بنت غفار بكسر المعجمة وتخفيف الفاء وبالراء، كما ضبطه ابن نقطة وعزاه لابن سعد وذكر أنه وجده كذلك بخط الحافظ أبي الفضل بن ناصر أو بنت عمار بفتح العين المهملة والميم المشددة.

قال الحافظ والأول أولى وفي مسند أحمد اسمها النوّار فيمكن أن اسمها آمنة ولقبها النوار صحابية ( وهي حائض) جملة حالية زاد الليث عن نافع عن ابن عمر تطليقة واحدة أخرجه مسلم.
وقال جود الليث في قوله تطليقة واحدة، قال عياض: يعني أنه حفظ وأتقن ما لم يتقنه غيره ممن لم يفسر كم الطلاق وممن غلط ووهم وقال طلقها ثلاثًا.
( على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فسأل عمر بن الخطاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك) عن حكم طلاق ابنه على هذه الصفة زاد الشيخان من رواية سالم عن أبيه فتغيظ رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال ابن العربي يحتمل أن سؤال عمر لأن النازلة لم تكن وقعت فسأل ليعلم الحكم ويحتمل أنه علمه من قوله تعالى { { فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } } وقوله تعالى { { يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ } } والحيض ليس بقرء فيفتقر إلى بيان الحكم فيه ويحتمل أن يكون سمع النهي والأوسط أقواها ( فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم) لعمر ( مره) أصله أأمره بهمزتين الأولى للوصل مضمومة تبعًا للعين مثل افعل، والثانية فاء الكلمة ساكنة تبدل تخفيفًا من جنس حركة سابقتها فيقال: أومر فإذا وصل الفعل بما قبله زالت همزة الوصل، وسكنت الهمزة الأصلية كما في قوله تعالى { { وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاَةِ } } لكن استعملتها العرب بلا همز فقالوا: مر لكثرة الدور لأنهم حذفوا أولاً الهمزة الثانية تخفيفًا، ثم حذفوا همزة الوصل استغناء عنها لتحرك ما بعدها أي مُر ابنك عبد الله ( فليراجعها) والأمر للوجوب عند مالك وجماعة، وصححه صاحب الهداية من الحنفية وللندب عند الأئمة الثلاثة ولا حجة لهم في أنه إنما أمره بالرجعة أبوه وليس له أن يضع الشرع لأنه أمره بأمر النبي صلى الله عليه وسلم وهو مبلغ عنه، وأما استدلالهم بقوله تعالى { { فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ } } وغيرها من الآيات المقتضية للتخيير بين الإمساك بالرجعة أو الفراق بتركها فيجمع بينها وبين الحديث بحمل الأمر فيه على الندب جمعًا بينهما فليس بناهض إذ الأصل في الأمر الوجوب فيحمل عليه ويخص عموم الآيات بمن لم يطلق في الحيض ( ثم يمسكها) أي يديم إمساكها، وإلا فالرجعة إمساك وفي رواية يحيى التميمي ثم ليتركها ولإسماعيل ثم ليمسكها بإعادة اللام مكسورة ويجوز تسكينها كقراءة { { ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ } } فالكسر على الأصل في لام الأمر فرقا بينها وبين لام التأكيد والسكون للتخفيف إجراء للمنفصل مجرى المتصل.
وفي رواية ثم ليدعها ( حتى تطهر ثم تحيض) حيضة أخرى ( ثم تطهر ثم إن شاء أمسك بعد) أي بعد الطهر من الحيض الثاني ( وإن شاء طلق) وفي رواية إسماعيل طلقها ( قبل أن يمس) ولإسماعيل يمسها أي يجامعها فيكره في طهر مس فيه للتلبيس إذ لا يدري أحملت فتعتد بالوضع، أو لا فبالأقراء، وقد يظهر الحمل فيندم على الفراق.

وقد ذهب بعض الناس إلى جبره على الرجعة كالمطلق في الحيض فإن قيل لِمَ أمره أن يؤخر الطلاق إلى الطهر الثاني، أجيب: بأن حيض الطلاق والطهر التالي له بمنزلة قرء واحد فلو طلق فيه لصار كموقع طلقتين في قرء واحد وليس ذلك بطلاق السنة وبأنه عاقبه بتأخير الطلاق تغليظًا عليه جزاء بما فعله من الحرام وهو الطلاق في الحيض وهذا معترض بأن ابن عمر لم يعلم بالتحريم ولم يتحققه وحاشاه من ذلك فلا وجه لعقوبته قاله المازري، وأجيب بأن تغيظه صلى الله عليه وسلم دون أن يعذره يقتضي أن ذلك في الظهور لا يكاد يخفى على أحد وبأن ابن عمر وإن لم يتعمد فرط بترك السؤال قبل الفعل مع تمكنه منه فعوقب على تركه السؤال وليكون ذلك زجرًا لغيره بعده وقيل إنما أمره بالتأخير لئلا تصير الرجعة لمجرد غرض الطلاق لو طلق في أول الطهر الأول بخلاف الطهر الثاني وكما ينهى عن النكاح لمجرد الطلاق ينهى عن الرجعة له واعترض بأنه يلزم أن لا يطلق أحد قبل الدخول لأنه يصير كمن نكح للطلاق لا للنكاح وقيل ليطول مقامه معها والظن بابن عمر أنه لا يمنعها حقها في الوطء فلعله إذا وطئ تطيب نفسه ويمسكها فيكون ذلك حرصًا على رفع الطلاق وحضًا على بقاء الزوجية حكى ذلك المازري أيضًا، قال ابن عبد البر رواه يونس بن جبير وأنس بن سيرين وسالم عن ابن عمر بلفظ حتى تطهر من الحيضة التي طلقها فيها ثم إن شاء أمسكها فلم يقولوا ثم تحيض ثم تطهر كما قال نافع نعم رواية الزهري عن سالم موافقة لرواية نافع كما نبه عليه أبو داود وزيادة الثقة مقبولة خصوصًا إذا كان حافظًا ولفظ رواية الزهري عن سالم عن أبيه في الصحيحين مره فليراجعها حتى تحيض حيضة مستقبلة سوى حيضتها التي طلقها فيها فإن بدا له أن يطلقها فليطلقها طاهرًا من حيضتها قبل أن يمسها.
( فتلك العدة التي أمر الله) أي أذن ( أن يطلق لها النساء) في قوله تعالى: { { فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } } وفي رواية لمسلم قال ابن عمر وقرأ النبي صلى الله عليه وسلم يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن في قبل عدتهن قال عياض أي في استقبال عدتهن وهذه قراءة ابن عمر وابن عباس وفي قراءة ابن مسعود لقبل طهورهن قال القشيري وغيره وهذه القراءة على التفسير لا على التلاوة وهي تصحح أن المراد بالأقراء الأطهار إذ لا يستقبل في الحيض عدة عند الجميع ولا يجتزى بها عند أحد من الطائفتين زاد في رواية سالم في الصحيح، وكان عبد الله طلقها تطليقة واحدة فحسبت من طلاقها وراجعها عبد الله كما أمره صلى الله عليه وسلم وفيه أن الطلاق يقع في الحيض وإلا لم يكن للأمر بالمراجعة فائدة.
قال الباجي: إذ المراجعة لا تستعمل غالبًا إلا بعد طلاق يعتد به فهو حجة على من لا يعتد بخلافهم وهم هشام بن الحكم وابن علية وداود في قولهم لا يقع الطلاق على الحائض.
وفي بعض طرق الحديث فحسبت من طلاقها والذي حسب حينئذ النبي صلى الله عليه وسلم لأنه شوور في المسألة وأفتى فيها فمحال أن يعتد بها ابن عمر طلقة من غير أمره صلى الله عليه وسلم ومن جهة القياس أن إلزام الطلاق تغليظ ومنعه تخفيف لأنه لا يلزم الصبي ولا المجنون ولا النائم ويلزم السكران لأنه عاص فإذا لزم من أوقعه على الوجه المأمور به كان إلزامه لمن أوقعه على الوجه الممنوع أحرى.

وقال أبو عمر: جمهور العلماء على أن الطلاق في الحيض واقع وإن كرهه جميعهم ولا يخالف في ذلك إلا أهل البدع والجهل الذين يرون الطلاق لغير السنة لا يقع، وروي ذلك عن بعض التابعين وهو شذوذ لم يعرج عليه أحد من العلماء.
وقد سئل ابن عمر أيعتد بتلك الطلقة؟ قال: نعم روي ذلك عنه من طرق وفي بعضها قال: فمه أرأيت إن عجز واستحمق أي عجز عن فرض آخر فلم يأت به أكان يعذر وكان إذا سئل يقول إن طلقت امرأتك وهي حائض مرة أو مرتين فإن الله أمر أن تراجعها وإن طلقتها ثلاثًا فقد حرمت عليك حتى تنكح زوجًا غيرك فلو كان غير لازم لم يلزمه ثلاثًا كان أو واحدة ومن جهة النظر أن الطلاق ليس من القرب كالصلاة فلا تقع إلا على سببها وإنما هو زوال عصمة فإن أوقعه على غير سببه أثم ولزمه ومحال أن يلزم المطيع المتبع للسنة طلاقه ولا يلزم العاصي فيكون أحسن حالاً من المطيع وقد قال تعالى: { { وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ } } أي عصى ربه وفارق امرأته وكذلك المطلق في الحيض، وقال النووي: أجمعت الأمة على تحريم طلاق الحائض الحائل بغير رضاها فإن طلقها أثم ووقع وشذ بعض أهل الظاهر فقال لا يقع لأنه لم يؤذن فيه فأشبه طلاق الأجنبية والصواب الأول.
وبه قال العلماء كافة لأمره عليه السلام بالمراجعة فلو لم يقع لم تكن رجعة وزعم أن المراد الرجعة اللغوية وهي الرد إلى حالها الأول غلط لأن الحمل على الحقيقة الشرعية مقدم على اللغوية كما تقرر في الأصول ولأن ابن عمر صرح بأنه حسبها عليه طلقة اهـ.
وقد روى الدارقطني فقال عمر: يا رسول الله أفيحتسب بتلك الطلقة؟ قال نعم فهذا نص في موضع النزاع فيجب المصير إليه.

وما في مسلم عن أبي الزبير عن ابن عمر فقال صلى الله عليه وسلم ليراجعها، فردها وقال: إذا طهرت فليطلق أو يمسك وزاد النسائي وأبو داود فيه ولم يرها أعله أبو داود فقال: روى هذا الحديث عن ابن عمر جماعة وأحاديثهم كلهم على خلاف ما قال أبو الزبير.
وقال ابن عبد البر لم يقلها غير أبي الزبير وليس بحجة فيما خالفه فيه مثله فكيف بمن هو أثبت منه، وقال الخطابي: لم يرو أبو الزبير حديثًا أنكر من هذا وقال الشافعي نافع أثبت من أبي الزبير والأثبت أولى أن يؤخذ به إذا تخالفا وقد وافق نافعًا غيره من أهل التثبت وحمل قوله لم يرها شيئًا على أنه لم يعدها شيئًا صوابًا فهو كما يقال للرجل إذا أخطأ في فعله أو في جوابه لم يصنع شيئًا أي شيئًا صوابًا.
وقال الخطابي: لم يرها شيئًا تحرم معه المراجعة وقد تابع أبا الزبير عبد الله بن مالك عن ابن عمر أنه طلق امرأته وهي حائض، فقال صلى الله عليه وسلم ليس ذلك بشيء رواه سعيد بن منصور وهو قابل للتأويل وهو أولى من تغليط بعض الثقات.
قال ابن دقيق العيد: ويتعلق بالحديث مسألة أصولية وهي أن الأمر بالأمر بالشيء هل هو أمر بذلك الشيء أم لا؟ فإنه صلى الله عليه وسلم قال لعمر: مره، فأمره بأمره وأطال في فتح الباري الكلام في هذه المسألة.
والحاصل أن الخطاب إذا توجه لمكلف أن يأمر مكلفًا آخر بفعل شيء فالمكلف الأول مبلغ محض والثاني مأمور من قبل الشرع كما هنا وإن توجه من الشارع أن يأمر غير مكلف كحديث: مروا أولادكم بالصلاة لسبع.
لم يكن الأمر بالشيء أمرًا بالشيء لأن الأولاد غير مكلفين فلا يتجه عليهم الوجوب وإن توجه الخطاب من غير الشارع بأمر من له عليه الأمر أن يأمر من لا أمر للأول عليه لم يكن الآمر بالشيء آمرًا بالشيء أيضًا بل هو متعدّ بأمره للأول أن يأمر الثاني.

وفي الحديث فوائد غير ما ذكر وأخرجه البخاري عن إسماعيل ومسلم عن يحيى كلاهما عن مالك به وتابعه الليث وعبيد الله بن عمر عند مسلم كلاهما عن نافع وتابعه سالم عن ابن عمر في الصحيحين وله طرق أخرى فيهما وفي غيرهما.

( مالك عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عائشة أم المؤمنين أنها انتقلت) أي نقلت ( حفصة ابنة) شقيقها ( عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق) لما طلقها المنذر بن الزبير بن العوّام ( حين دخلت في الدم من الحيضة الثالثة) لتمام عدتها إذ الأقراء الأطهار كما دل عليه حديث ابن عمر ( قال ابن شهاب فذكر ذلك لعمرة بنت عبد الرحمن) الأنصارية أحد المكثرين عن عائشة ( فقالت صدق عروة) فيما روى عن عائشة ( وقد جادلها) خاصمها بشدة ( في ذلك ناس فقالوا إن الله تبارك وتعالى يقول في كتابه) { { وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ } }

تمضي من حين الطلاق جمع قرء بفتح القاف ( فقالت عائشة صدقتم) في أنه قاله ولكن ( تدرون) بحذف همزة الاستفهام، أي أتعلمون ( ما الأقراء) جمع قرء بالضم مثل قفل وأقفال.
( إنما الأقراء الأطهار) قال أبو عمر: لم تختلف العلماء ولا الفقهاء أن القرء لغة يقع على الطهر والحيضة إنما اختلفوا في المراد في الآية.
فقال جمهور أهل المدينة الأطهار وقال العراقيون: الحيض.
وحديث ابن عمر يدل للأول لقوله: ثم تحيض ثم تطهر ثم إن شاء طلق قبل أن يمس فتلك العدة التي أمر الله فأخبر أن الطلاق للعدة لا يكون إلا في طهر فهو بيان لقوله تعالى { { فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } } وقرئ لقبل عدتهن أي لاستقبالها، ونهى عن الطلاق في الحيض لأنها لا تستقبل العدة في تلك الحيضة عند الجميع والقول بأن القرء مأخوذ من قرأت الماء في الحوض ليس بشيء لأن القرء مهموز، وهذا ليس بمهموز.

وقال الأصمعي: أصل القرء الوقت يقال أقرأت النجوم إذا طلعت لوقتها.
وقال عياض: اختلف السلف ومن بعدهم من العلماء واللغويين في معنى الآية هل هو الحيض أو الطهر أو مشترك فتكون حقيقة فيهما أو حقيقة في الحيض مجاز في الطهر أو المراد به الانتقال من حال إلى حال دون كونه اسمًا للطهر أو الحيض فمعنى ثلاثة قروء ثلاث انتقالات وإذا علم ما هو مشتق منه اتضح فقيل من الوقت فيحتمل الأمرين وقيل من الجمع فهو ظاهر في الأطهار وقيل من الانتقال من حال إلى حال فيكون ظاهرًا في الطهر والحيض جميعًا لكن الثلاث انتقالات إنما تستقيم بالانتقال من الطهر إلى الحيض لا عكسه لأن الطلاق في الحيض لا يجوز ويعضده أن براءة الرحم إنما تعرف بالانتقال من الطهر إلى الحيض ولذا كان استبراء الإماء بالحيض لأن مجيئه غالبًا دليل على براءة الرحم ولا يدل مجيء الطهر على براءته إذ قد تحمل في آخر حيضها فكانت الثلاث في الحرائر كالواحدة في استبراء الإماء إلا ما حكاه القاضي إسماعيل عن أبي عبيدة وهذا اختيار الطبري والشافعي ومحققي أصحابنا المتأخرين وهو حسن دقيق.

( مالك عن ابن شهاب أنه قال سمعت أبا بكر بن عبد الرحمن يقول ما أدركت أحدًا من فقهائنا إلا وهو يقول هذا) وفي نسخة ذلك ( يريد قول عائشة) إنما الأقراء الأطهار ولا يرد عليه قوله صلى الله عليه وسلم فتلك العدة إذ لو أراد الأطهار لقال فذلك كما زعم المخالف لأنه أنث باعتبار الحالة أو العدة.

( مالك عن نافع) مولى ابن عمر ( وزيد بن أسلم) مولى عمر ( عن سليمان بن يسار أن الأحوص) بالحاء والصاد المهملتين، ابن عبد بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف.
ذكر ابن الكلبي والبلاذري أنه كان عاملاً لمعاوية على البحرين وسعى لمروان بن الحكم في قصة جرت له، ومقتضاه أن يكون له صحبة، وأنه عمر لأن أباه مات كافرًا ومن ولده منصور بن عبد الله بن الأحوص له ذكر بالشام في أيام بني مروان وكان ابنه عبد الله عاملاً أيضًا لمعاوية على بعض الشام.
وفي رواية ابن عيينة عن الزهري عن سليمان بن يسار أن الأحوص ابن فلان أو فلان بن الأحوص قال ابن الحذاء: الأقوى أن القصة للأحوص وهو ابن عبد ويحتمل أن يكون لولده عبد الله ولم يسم في رواية الزهري قاله في الإصابة لكن هذا الاحتمال إنما هو على رواية الزهري لا الموطأ لقوله الأحوص ( هلك) مات ( بالشام حين دخلت امرأته في الدم من الحيضة الثالثة وقد كان طلقها) زاد في رواية ابن أبي شيبة طلقة أو تطليقتين ( فكتب معاوية بن أبي سفيان) صخر بن حرب زاد ابن أبي شيبة فسأل عنها فضالة بن عبيد ومن هناك من الصحابة فلم يجد عندهم فيها علمًا فبعث راكبًا.
( إلى زيد بن ثابت يسأله عن ذلك فكتب إليه زيد إنها إذا دخلت في الدم من الحيضة الثالثة فقد برئت منه وبرئ منها) مثل سلم وزنًا ومعنى أي انقطعت العلاقة بينهما ( ولا ترثه ولا يرثها) لو كانت هي الميتة ففي هذا أيضًا أن الأقراء الأطهار.

( مالك أنه بلغه عن القاسم بن محمد وسالم بن عبد الله وأبي بكر بن عبد الرحمن وسليمان بن يسار) والأربعة من فقهاء المدينة السبعة أو العشرة ( وابن شهاب أنهم كانوا يقولون إذا دخلت المطلقة في الدم من الحيضة الثالثة فقد بانت من زوجها ولا ميراث بينهما ولا رجعة له عليها) لأن الأقراء الأطهار.

( مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أنه كان يقول إذا طلق الرجل امرأته فدخلت في الدم من الحيضة الثالثة فقد برئت منه وبرئ منها) فلا إرث ولا رجعة ( قال مالك وهو الأمر عندنا) بالمدينة وقال به جمع كثير من الصحابة والتابعين، والشافعي وذهب جمع من الصحابة والتابعين وأبو حنيفة إلى أن الأقراء الحيض وعن أحمد القولان واحتجوا بأنه يلزم القائلين بأنها الأطهار مخالفة القرآن لاعتدادها عندهم بطهر الطلاق، وإن قل فيكون عدّتها قرأين ونصفًا والله تعالى جعلها ثلاثة، وإذا كانت الحيض كانت ثلاثة قروء كاملة لحرمة الطلاق في الحيض وحمل هذا الاعتراض ابن شهاب على أن قال: الطهر الذي يقع فيه الطلاق لا يعتدّ به وهو مذهب انفرد به دون جميع من قال الأقراء الأطهار، وأجاب بعض أصحابنا بأن القرء هو الانتقال من حال إلى حال فما بقي من الطهر الذي وقع فيه الطلاق، فيه الانتقال من حال إلى حال فإنما وقعت العدّة بثلاثة أطهار كاملة وأجاب غيره بأنه لا يبعد تسمية اثنين، وبعض الثالث ثلاثة قال تعالى { { الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ } } وما الحج إلا شهران وعشرة أيام قاله المازري.

( مالك عن الفضيل) بضم الفاء مصغر ( بن أبي عبد الله) المدني الثقة ( مولى المهري) بفتح الميم وسكون الهاء ( أن القاسم بن محمد وسالم بن عبد الله كانا يقولان إذا طلقت المرأة فدخلت في الدم من الحيضة الثالثة فقد بانت منه وحلت) لمن يتزوجها لأن الأقراء الأطهار واحتج له بعضهم بقوله: ثلاثة قروء إذ لو أريد الحيض لقال: ثلاث بلا تاء لأنها تحذف من المؤنث وتدخل مع المذكر وغلطه المازري بأن العرب تراعي في العدد اللفظ مرّة كقولهم: ثلاثة منازل والمعنى أخرى كقول عمر بن أبي ربيعة:

فكان مجني دون من كنت أتقي
ثلاث شخوص كأعيان وجؤذر

فأنث على معنى الشخوص.
وأكثر الإمام من هذه الآثار تقوية لمذهبه أنها الأطهار واحتجاج القائل بأنها الحيض قال به نحو خمسة عشر من الصحابة معارض بقول عائشة وغيرها من الصحابة أنها الأقراء وعائشة مقدمة في الفقه لا سيما في أحوال النساء.

( مالك أنه بلغه عن سعيد بن المسيب وابن شهاب وسليمان بن يسار أنهم كانوا يقولون عدة المختلعة ثلاثة قروء) لأن الخلع طلاق فدخل في الآية.

( مالك أنه سمع ابن شهاب يقول عدّة المطلقة الأقراء وإن تباعدت) لإطلاق الآية.

( مالك عن يحيى بن سعيد عن رجل من الأنصار) يحتمل أنه زوج الربيع بنت معوذ وأنه غيره ( أن امرأته سألته الطلاق فقال لها إذا حضت فآذنيني) بالمدّ أعلميني ( فلما حاضت: آذنته فقال: إذا طهرت فآذنيني فلما طهرت آذنته فطلقها قال مالك وهذا أحسن ما سمعت في ذلك) أي طلاقها في طهر لم يمس فيه لموافقته لحديث ابن عمر.



رقم الحديث 1224 وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ أَنَّ امْرَأَتَهُ سَأَلَتْهُ الطَّلَاقَ، فَقَالَ لَهَا: إِذَا حِضْتِ فَآذِنِينِي، فَلَمَّا حَاضَتْ آذَنَتْهُ، فَقَالَ: إِذَا طَهُرْتِ فَآذِنِينِي، فَلَمَّا طَهُرَتْ آذَنَتْهُ فَطَلَّقَهَا قَالَ مَالِكٌ: وَهَذَا أَحْسَنُ مَا سَمِعْتُ فِي ذَلِكَ.


( ما جاء في الأقراء وعدة الطلاق وطلاق الحائض)

( مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر) كذا في رواية يحيى وظاهرها الإرسال إذ نافع لم يدرك ذلك وليس بمراد فقد رواه غيره في الموطأ كيحيى النيسابوري، وإسماعيل، وغيرهما، مالك عن نافع عن ابن عمر أنه ( طلق امرأته) هي آمنة بمد الهمزة وكسر الميم، بنت غفار بكسر المعجمة وتخفيف الفاء وبالراء، كما ضبطه ابن نقطة وعزاه لابن سعد وذكر أنه وجده كذلك بخط الحافظ أبي الفضل بن ناصر أو بنت عمار بفتح العين المهملة والميم المشددة.

قال الحافظ والأول أولى وفي مسند أحمد اسمها النوّار فيمكن أن اسمها آمنة ولقبها النوار صحابية ( وهي حائض) جملة حالية زاد الليث عن نافع عن ابن عمر تطليقة واحدة أخرجه مسلم.
وقال جود الليث في قوله تطليقة واحدة، قال عياض: يعني أنه حفظ وأتقن ما لم يتقنه غيره ممن لم يفسر كم الطلاق وممن غلط ووهم وقال طلقها ثلاثًا.
( على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فسأل عمر بن الخطاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك) عن حكم طلاق ابنه على هذه الصفة زاد الشيخان من رواية سالم عن أبيه فتغيظ رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال ابن العربي يحتمل أن سؤال عمر لأن النازلة لم تكن وقعت فسأل ليعلم الحكم ويحتمل أنه علمه من قوله تعالى { { فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } } وقوله تعالى { { يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ } } والحيض ليس بقرء فيفتقر إلى بيان الحكم فيه ويحتمل أن يكون سمع النهي والأوسط أقواها ( فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم) لعمر ( مره) أصله أأمره بهمزتين الأولى للوصل مضمومة تبعًا للعين مثل افعل، والثانية فاء الكلمة ساكنة تبدل تخفيفًا من جنس حركة سابقتها فيقال: أومر فإذا وصل الفعل بما قبله زالت همزة الوصل، وسكنت الهمزة الأصلية كما في قوله تعالى { { وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاَةِ } } لكن استعملتها العرب بلا همز فقالوا: مر لكثرة الدور لأنهم حذفوا أولاً الهمزة الثانية تخفيفًا، ثم حذفوا همزة الوصل استغناء عنها لتحرك ما بعدها أي مُر ابنك عبد الله ( فليراجعها) والأمر للوجوب عند مالك وجماعة، وصححه صاحب الهداية من الحنفية وللندب عند الأئمة الثلاثة ولا حجة لهم في أنه إنما أمره بالرجعة أبوه وليس له أن يضع الشرع لأنه أمره بأمر النبي صلى الله عليه وسلم وهو مبلغ عنه، وأما استدلالهم بقوله تعالى { { فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ } } وغيرها من الآيات المقتضية للتخيير بين الإمساك بالرجعة أو الفراق بتركها فيجمع بينها وبين الحديث بحمل الأمر فيه على الندب جمعًا بينهما فليس بناهض إذ الأصل في الأمر الوجوب فيحمل عليه ويخص عموم الآيات بمن لم يطلق في الحيض ( ثم يمسكها) أي يديم إمساكها، وإلا فالرجعة إمساك وفي رواية يحيى التميمي ثم ليتركها ولإسماعيل ثم ليمسكها بإعادة اللام مكسورة ويجوز تسكينها كقراءة { { ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ } } فالكسر على الأصل في لام الأمر فرقا بينها وبين لام التأكيد والسكون للتخفيف إجراء للمنفصل مجرى المتصل.
وفي رواية ثم ليدعها ( حتى تطهر ثم تحيض) حيضة أخرى ( ثم تطهر ثم إن شاء أمسك بعد) أي بعد الطهر من الحيض الثاني ( وإن شاء طلق) وفي رواية إسماعيل طلقها ( قبل أن يمس) ولإسماعيل يمسها أي يجامعها فيكره في طهر مس فيه للتلبيس إذ لا يدري أحملت فتعتد بالوضع، أو لا فبالأقراء، وقد يظهر الحمل فيندم على الفراق.

وقد ذهب بعض الناس إلى جبره على الرجعة كالمطلق في الحيض فإن قيل لِمَ أمره أن يؤخر الطلاق إلى الطهر الثاني، أجيب: بأن حيض الطلاق والطهر التالي له بمنزلة قرء واحد فلو طلق فيه لصار كموقع طلقتين في قرء واحد وليس ذلك بطلاق السنة وبأنه عاقبه بتأخير الطلاق تغليظًا عليه جزاء بما فعله من الحرام وهو الطلاق في الحيض وهذا معترض بأن ابن عمر لم يعلم بالتحريم ولم يتحققه وحاشاه من ذلك فلا وجه لعقوبته قاله المازري، وأجيب بأن تغيظه صلى الله عليه وسلم دون أن يعذره يقتضي أن ذلك في الظهور لا يكاد يخفى على أحد وبأن ابن عمر وإن لم يتعمد فرط بترك السؤال قبل الفعل مع تمكنه منه فعوقب على تركه السؤال وليكون ذلك زجرًا لغيره بعده وقيل إنما أمره بالتأخير لئلا تصير الرجعة لمجرد غرض الطلاق لو طلق في أول الطهر الأول بخلاف الطهر الثاني وكما ينهى عن النكاح لمجرد الطلاق ينهى عن الرجعة له واعترض بأنه يلزم أن لا يطلق أحد قبل الدخول لأنه يصير كمن نكح للطلاق لا للنكاح وقيل ليطول مقامه معها والظن بابن عمر أنه لا يمنعها حقها في الوطء فلعله إذا وطئ تطيب نفسه ويمسكها فيكون ذلك حرصًا على رفع الطلاق وحضًا على بقاء الزوجية حكى ذلك المازري أيضًا، قال ابن عبد البر رواه يونس بن جبير وأنس بن سيرين وسالم عن ابن عمر بلفظ حتى تطهر من الحيضة التي طلقها فيها ثم إن شاء أمسكها فلم يقولوا ثم تحيض ثم تطهر كما قال نافع نعم رواية الزهري عن سالم موافقة لرواية نافع كما نبه عليه أبو داود وزيادة الثقة مقبولة خصوصًا إذا كان حافظًا ولفظ رواية الزهري عن سالم عن أبيه في الصحيحين مره فليراجعها حتى تحيض حيضة مستقبلة سوى حيضتها التي طلقها فيها فإن بدا له أن يطلقها فليطلقها طاهرًا من حيضتها قبل أن يمسها.
( فتلك العدة التي أمر الله) أي أذن ( أن يطلق لها النساء) في قوله تعالى: { { فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } } وفي رواية لمسلم قال ابن عمر وقرأ النبي صلى الله عليه وسلم يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن في قبل عدتهن قال عياض أي في استقبال عدتهن وهذه قراءة ابن عمر وابن عباس وفي قراءة ابن مسعود لقبل طهورهن قال القشيري وغيره وهذه القراءة على التفسير لا على التلاوة وهي تصحح أن المراد بالأقراء الأطهار إذ لا يستقبل في الحيض عدة عند الجميع ولا يجتزى بها عند أحد من الطائفتين زاد في رواية سالم في الصحيح، وكان عبد الله طلقها تطليقة واحدة فحسبت من طلاقها وراجعها عبد الله كما أمره صلى الله عليه وسلم وفيه أن الطلاق يقع في الحيض وإلا لم يكن للأمر بالمراجعة فائدة.
قال الباجي: إذ المراجعة لا تستعمل غالبًا إلا بعد طلاق يعتد به فهو حجة على من لا يعتد بخلافهم وهم هشام بن الحكم وابن علية وداود في قولهم لا يقع الطلاق على الحائض.
وفي بعض طرق الحديث فحسبت من طلاقها والذي حسب حينئذ النبي صلى الله عليه وسلم لأنه شوور في المسألة وأفتى فيها فمحال أن يعتد بها ابن عمر طلقة من غير أمره صلى الله عليه وسلم ومن جهة القياس أن إلزام الطلاق تغليظ ومنعه تخفيف لأنه لا يلزم الصبي ولا المجنون ولا النائم ويلزم السكران لأنه عاص فإذا لزم من أوقعه على الوجه المأمور به كان إلزامه لمن أوقعه على الوجه الممنوع أحرى.

وقال أبو عمر: جمهور العلماء على أن الطلاق في الحيض واقع وإن كرهه جميعهم ولا يخالف في ذلك إلا أهل البدع والجهل الذين يرون الطلاق لغير السنة لا يقع، وروي ذلك عن بعض التابعين وهو شذوذ لم يعرج عليه أحد من العلماء.
وقد سئل ابن عمر أيعتد بتلك الطلقة؟ قال: نعم روي ذلك عنه من طرق وفي بعضها قال: فمه أرأيت إن عجز واستحمق أي عجز عن فرض آخر فلم يأت به أكان يعذر وكان إذا سئل يقول إن طلقت امرأتك وهي حائض مرة أو مرتين فإن الله أمر أن تراجعها وإن طلقتها ثلاثًا فقد حرمت عليك حتى تنكح زوجًا غيرك فلو كان غير لازم لم يلزمه ثلاثًا كان أو واحدة ومن جهة النظر أن الطلاق ليس من القرب كالصلاة فلا تقع إلا على سببها وإنما هو زوال عصمة فإن أوقعه على غير سببه أثم ولزمه ومحال أن يلزم المطيع المتبع للسنة طلاقه ولا يلزم العاصي فيكون أحسن حالاً من المطيع وقد قال تعالى: { { وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ } } أي عصى ربه وفارق امرأته وكذلك المطلق في الحيض، وقال النووي: أجمعت الأمة على تحريم طلاق الحائض الحائل بغير رضاها فإن طلقها أثم ووقع وشذ بعض أهل الظاهر فقال لا يقع لأنه لم يؤذن فيه فأشبه طلاق الأجنبية والصواب الأول.
وبه قال العلماء كافة لأمره عليه السلام بالمراجعة فلو لم يقع لم تكن رجعة وزعم أن المراد الرجعة اللغوية وهي الرد إلى حالها الأول غلط لأن الحمل على الحقيقة الشرعية مقدم على اللغوية كما تقرر في الأصول ولأن ابن عمر صرح بأنه حسبها عليه طلقة اهـ.
وقد روى الدارقطني فقال عمر: يا رسول الله أفيحتسب بتلك الطلقة؟ قال نعم فهذا نص في موضع النزاع فيجب المصير إليه.

وما في مسلم عن أبي الزبير عن ابن عمر فقال صلى الله عليه وسلم ليراجعها، فردها وقال: إذا طهرت فليطلق أو يمسك وزاد النسائي وأبو داود فيه ولم يرها أعله أبو داود فقال: روى هذا الحديث عن ابن عمر جماعة وأحاديثهم كلهم على خلاف ما قال أبو الزبير.
وقال ابن عبد البر لم يقلها غير أبي الزبير وليس بحجة فيما خالفه فيه مثله فكيف بمن هو أثبت منه، وقال الخطابي: لم يرو أبو الزبير حديثًا أنكر من هذا وقال الشافعي نافع أثبت من أبي الزبير والأثبت أولى أن يؤخذ به إذا تخالفا وقد وافق نافعًا غيره من أهل التثبت وحمل قوله لم يرها شيئًا على أنه لم يعدها شيئًا صوابًا فهو كما يقال للرجل إذا أخطأ في فعله أو في جوابه لم يصنع شيئًا أي شيئًا صوابًا.
وقال الخطابي: لم يرها شيئًا تحرم معه المراجعة وقد تابع أبا الزبير عبد الله بن مالك عن ابن عمر أنه طلق امرأته وهي حائض، فقال صلى الله عليه وسلم ليس ذلك بشيء رواه سعيد بن منصور وهو قابل للتأويل وهو أولى من تغليط بعض الثقات.
قال ابن دقيق العيد: ويتعلق بالحديث مسألة أصولية وهي أن الأمر بالأمر بالشيء هل هو أمر بذلك الشيء أم لا؟ فإنه صلى الله عليه وسلم قال لعمر: مره، فأمره بأمره وأطال في فتح الباري الكلام في هذه المسألة.
والحاصل أن الخطاب إذا توجه لمكلف أن يأمر مكلفًا آخر بفعل شيء فالمكلف الأول مبلغ محض والثاني مأمور من قبل الشرع كما هنا وإن توجه من الشارع أن يأمر غير مكلف كحديث: مروا أولادكم بالصلاة لسبع.
لم يكن الأمر بالشيء أمرًا بالشيء لأن الأولاد غير مكلفين فلا يتجه عليهم الوجوب وإن توجه الخطاب من غير الشارع بأمر من له عليه الأمر أن يأمر من لا أمر للأول عليه لم يكن الآمر بالشيء آمرًا بالشيء أيضًا بل هو متعدّ بأمره للأول أن يأمر الثاني.

وفي الحديث فوائد غير ما ذكر وأخرجه البخاري عن إسماعيل ومسلم عن يحيى كلاهما عن مالك به وتابعه الليث وعبيد الله بن عمر عند مسلم كلاهما عن نافع وتابعه سالم عن ابن عمر في الصحيحين وله طرق أخرى فيهما وفي غيرهما.

( مالك عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عائشة أم المؤمنين أنها انتقلت) أي نقلت ( حفصة ابنة) شقيقها ( عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق) لما طلقها المنذر بن الزبير بن العوّام ( حين دخلت في الدم من الحيضة الثالثة) لتمام عدتها إذ الأقراء الأطهار كما دل عليه حديث ابن عمر ( قال ابن شهاب فذكر ذلك لعمرة بنت عبد الرحمن) الأنصارية أحد المكثرين عن عائشة ( فقالت صدق عروة) فيما روى عن عائشة ( وقد جادلها) خاصمها بشدة ( في ذلك ناس فقالوا إن الله تبارك وتعالى يقول في كتابه) { { وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ } }

تمضي من حين الطلاق جمع قرء بفتح القاف ( فقالت عائشة صدقتم) في أنه قاله ولكن ( تدرون) بحذف همزة الاستفهام، أي أتعلمون ( ما الأقراء) جمع قرء بالضم مثل قفل وأقفال.
( إنما الأقراء الأطهار) قال أبو عمر: لم تختلف العلماء ولا الفقهاء أن القرء لغة يقع على الطهر والحيضة إنما اختلفوا في المراد في الآية.
فقال جمهور أهل المدينة الأطهار وقال العراقيون: الحيض.
وحديث ابن عمر يدل للأول لقوله: ثم تحيض ثم تطهر ثم إن شاء طلق قبل أن يمس فتلك العدة التي أمر الله فأخبر أن الطلاق للعدة لا يكون إلا في طهر فهو بيان لقوله تعالى { { فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } } وقرئ لقبل عدتهن أي لاستقبالها، ونهى عن الطلاق في الحيض لأنها لا تستقبل العدة في تلك الحيضة عند الجميع والقول بأن القرء مأخوذ من قرأت الماء في الحوض ليس بشيء لأن القرء مهموز، وهذا ليس بمهموز.

وقال الأصمعي: أصل القرء الوقت يقال أقرأت النجوم إذا طلعت لوقتها.
وقال عياض: اختلف السلف ومن بعدهم من العلماء واللغويين في معنى الآية هل هو الحيض أو الطهر أو مشترك فتكون حقيقة فيهما أو حقيقة في الحيض مجاز في الطهر أو المراد به الانتقال من حال إلى حال دون كونه اسمًا للطهر أو الحيض فمعنى ثلاثة قروء ثلاث انتقالات وإذا علم ما هو مشتق منه اتضح فقيل من الوقت فيحتمل الأمرين وقيل من الجمع فهو ظاهر في الأطهار وقيل من الانتقال من حال إلى حال فيكون ظاهرًا في الطهر والحيض جميعًا لكن الثلاث انتقالات إنما تستقيم بالانتقال من الطهر إلى الحيض لا عكسه لأن الطلاق في الحيض لا يجوز ويعضده أن براءة الرحم إنما تعرف بالانتقال من الطهر إلى الحيض ولذا كان استبراء الإماء بالحيض لأن مجيئه غالبًا دليل على براءة الرحم ولا يدل مجيء الطهر على براءته إذ قد تحمل في آخر حيضها فكانت الثلاث في الحرائر كالواحدة في استبراء الإماء إلا ما حكاه القاضي إسماعيل عن أبي عبيدة وهذا اختيار الطبري والشافعي ومحققي أصحابنا المتأخرين وهو حسن دقيق.

( مالك عن ابن شهاب أنه قال سمعت أبا بكر بن عبد الرحمن يقول ما أدركت أحدًا من فقهائنا إلا وهو يقول هذا) وفي نسخة ذلك ( يريد قول عائشة) إنما الأقراء الأطهار ولا يرد عليه قوله صلى الله عليه وسلم فتلك العدة إذ لو أراد الأطهار لقال فذلك كما زعم المخالف لأنه أنث باعتبار الحالة أو العدة.

( مالك عن نافع) مولى ابن عمر ( وزيد بن أسلم) مولى عمر ( عن سليمان بن يسار أن الأحوص) بالحاء والصاد المهملتين، ابن عبد بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف.
ذكر ابن الكلبي والبلاذري أنه كان عاملاً لمعاوية على البحرين وسعى لمروان بن الحكم في قصة جرت له، ومقتضاه أن يكون له صحبة، وأنه عمر لأن أباه مات كافرًا ومن ولده منصور بن عبد الله بن الأحوص له ذكر بالشام في أيام بني مروان وكان ابنه عبد الله عاملاً أيضًا لمعاوية على بعض الشام.
وفي رواية ابن عيينة عن الزهري عن سليمان بن يسار أن الأحوص ابن فلان أو فلان بن الأحوص قال ابن الحذاء: الأقوى أن القصة للأحوص وهو ابن عبد ويحتمل أن يكون لولده عبد الله ولم يسم في رواية الزهري قاله في الإصابة لكن هذا الاحتمال إنما هو على رواية الزهري لا الموطأ لقوله الأحوص ( هلك) مات ( بالشام حين دخلت امرأته في الدم من الحيضة الثالثة وقد كان طلقها) زاد في رواية ابن أبي شيبة طلقة أو تطليقتين ( فكتب معاوية بن أبي سفيان) صخر بن حرب زاد ابن أبي شيبة فسأل عنها فضالة بن عبيد ومن هناك من الصحابة فلم يجد عندهم فيها علمًا فبعث راكبًا.
( إلى زيد بن ثابت يسأله عن ذلك فكتب إليه زيد إنها إذا دخلت في الدم من الحيضة الثالثة فقد برئت منه وبرئ منها) مثل سلم وزنًا ومعنى أي انقطعت العلاقة بينهما ( ولا ترثه ولا يرثها) لو كانت هي الميتة ففي هذا أيضًا أن الأقراء الأطهار.

( مالك أنه بلغه عن القاسم بن محمد وسالم بن عبد الله وأبي بكر بن عبد الرحمن وسليمان بن يسار) والأربعة من فقهاء المدينة السبعة أو العشرة ( وابن شهاب أنهم كانوا يقولون إذا دخلت المطلقة في الدم من الحيضة الثالثة فقد بانت من زوجها ولا ميراث بينهما ولا رجعة له عليها) لأن الأقراء الأطهار.

( مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أنه كان يقول إذا طلق الرجل امرأته فدخلت في الدم من الحيضة الثالثة فقد برئت منه وبرئ منها) فلا إرث ولا رجعة ( قال مالك وهو الأمر عندنا) بالمدينة وقال به جمع كثير من الصحابة والتابعين، والشافعي وذهب جمع من الصحابة والتابعين وأبو حنيفة إلى أن الأقراء الحيض وعن أحمد القولان واحتجوا بأنه يلزم القائلين بأنها الأطهار مخالفة القرآن لاعتدادها عندهم بطهر الطلاق، وإن قل فيكون عدّتها قرأين ونصفًا والله تعالى جعلها ثلاثة، وإذا كانت الحيض كانت ثلاثة قروء كاملة لحرمة الطلاق في الحيض وحمل هذا الاعتراض ابن شهاب على أن قال: الطهر الذي يقع فيه الطلاق لا يعتدّ به وهو مذهب انفرد به دون جميع من قال الأقراء الأطهار، وأجاب بعض أصحابنا بأن القرء هو الانتقال من حال إلى حال فما بقي من الطهر الذي وقع فيه الطلاق، فيه الانتقال من حال إلى حال فإنما وقعت العدّة بثلاثة أطهار كاملة وأجاب غيره بأنه لا يبعد تسمية اثنين، وبعض الثالث ثلاثة قال تعالى { { الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ } } وما الحج إلا شهران وعشرة أيام قاله المازري.

( مالك عن الفضيل) بضم الفاء مصغر ( بن أبي عبد الله) المدني الثقة ( مولى المهري) بفتح الميم وسكون الهاء ( أن القاسم بن محمد وسالم بن عبد الله كانا يقولان إذا طلقت المرأة فدخلت في الدم من الحيضة الثالثة فقد بانت منه وحلت) لمن يتزوجها لأن الأقراء الأطهار واحتج له بعضهم بقوله: ثلاثة قروء إذ لو أريد الحيض لقال: ثلاث بلا تاء لأنها تحذف من المؤنث وتدخل مع المذكر وغلطه المازري بأن العرب تراعي في العدد اللفظ مرّة كقولهم: ثلاثة منازل والمعنى أخرى كقول عمر بن أبي ربيعة:

فكان مجني دون من كنت أتقي
ثلاث شخوص كأعيان وجؤذر

فأنث على معنى الشخوص.
وأكثر الإمام من هذه الآثار تقوية لمذهبه أنها الأطهار واحتجاج القائل بأنها الحيض قال به نحو خمسة عشر من الصحابة معارض بقول عائشة وغيرها من الصحابة أنها الأقراء وعائشة مقدمة في الفقه لا سيما في أحوال النساء.

( مالك أنه بلغه عن سعيد بن المسيب وابن شهاب وسليمان بن يسار أنهم كانوا يقولون عدة المختلعة ثلاثة قروء) لأن الخلع طلاق فدخل في الآية.

( مالك أنه سمع ابن شهاب يقول عدّة المطلقة الأقراء وإن تباعدت) لإطلاق الآية.

( مالك عن يحيى بن سعيد عن رجل من الأنصار) يحتمل أنه زوج الربيع بنت معوذ وأنه غيره ( أن امرأته سألته الطلاق فقال لها إذا حضت فآذنيني) بالمدّ أعلميني ( فلما حاضت: آذنته فقال: إذا طهرت فآذنيني فلما طهرت آذنته فطلقها قال مالك وهذا أحسن ما سمعت في ذلك) أي طلاقها في طهر لم يمس فيه لموافقته لحديث ابن عمر.