فهرس الكتاب

شرح الزرقاني - بَابُ جَامِعِ مَا جَاءَ فِي الرَّضَاعَةِ

رقم الحديث 1296 وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْرَدَ الْحَجَّ.


( مالك عن أبي الأسود محمد بن عبد الرحمن) بن نوفل بن خويلد بن أسد بن عبد العزى الأسدي المدني ثقة علامة بالمغازي مات سنة بضع وثلاثين ومائة ( عن عروة بن الزبير عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم) زادت عمرة عنها لخمس بقين من ذي القعدة كما يأتي في الموطأ وفي الصحيحين عن القاسم عنها في شهر الحج وفيهما من وجه آخر عن عروة عنها موافين هلال ذي الحجة ( عام حجة الوداع) سنة عشر من الهجرة سميت بذلك لأنه صلى الله عليه وسلم ودع الناس فيها ولم يحج بعد الهجرة غيرها ( فمنا من أهل بعمرة) فقط ( ومنا من أهل بحجة وعمرة) جمع بينهما فكان قارنا ( ومنا من أهل بالحج) وحده مفردًا ولا يخالف هذا رواية عمرة الآتية عنها وأبي الأسود في الصحيحين عنها خرجنا مع رسول الله لا نرى إلا الحج وللبخاري من وجه آخر عن أبي الأسود عن عروة عنها مهلين بالحج ولمسلم عن القاسم عنها لا نذكر إلا الحج وله أيضًا ملبين بالحج فظاهره أن عائشة مع غيرها من الصحابة كانوا محرمين بالحج أولاً لأنه يحمل على أنها ذكرت ما كانوا يعهدونه من ترك الاعتمار في أشهر الحج فخرجوا لا يعرفون إلا الحج ثم بين لهم النبي صلى الله عليه وسلم وجوه الإحرام وجوز لهم الاعتمار في أشهر الحج وأما عائشة نفسها ففي الصحيح من رواية هشام وابن شهاب عن عروة عنها في هذا الحديث قالت وكنت ممن أهل بعمرة فادعى إسماعيل القاضي وغيره أن هذا غلط من عروة وأن الصواب رواية الأسود والقاسم وعمرة عنها أنها أهلت بالحج مفردًا وتعقب بأن قول عروة عنها أنها أهلت بعمرة صريح وقول الأسود وغيره عنها لا نرى إلا الحج ليس صريحًا في إهلالها بحج مفرد فالجمع بينهما ما تقدم من غير تغليط عروة وهو أعلم الناس بحديثها وقد وافقه جابر الصحابي كما في مسلم وكذا رواه طاوس ومجاهد عن عائشة وجمع أيضًا باحتمال أنها أهلت بالحج مفردًا كما صنع غيرها من الصحابة وعلى هذا ينزل حديث الأسود ومن وافقه ثم أمر صلى الله عليه وسلم أن يفسخوا الحج إلى العمرة ففعلت عائشة ما صنعوا فصارت متمتعة وعلى هذا ينزل حديث عروة ثم لما دخلت مكة وهي حائض ولم تقدر على الطواف لأجل الحيض أمرها أن تحرم بالحج على ما في ذلك من الاختلاف ( وأهل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج) على الصحيح الذي تظاهرت عليه الروايات ( فأما من أهل بعمرة فحل) لما وصل مكة وأتى بأعمالها وهي الطواف والسعي والحلق أو التقصير وهذا مجمع عليه في حق من لم يسق معه هديا أما من أحرم بعمرة وساق معه الهدي فقال مالك والشافعي وجماعة هو كذلك وقال أبو حنيفة وأحمد وجماعة لا يحل من عمرته حتى ينحر هديه يوم النحر ( وأما من أهل بحج) مفردًا ( أو جمع الحج والعمرة) قارنًا ( فلم يحلوا) بفتح الياء وضمها وكسر الحاء يقال حل المحرم وأحل بمعنى واحد ( حتى كان يوم النحر) فحلوا وهذا الحديث رواه البخاري وأبو داود عن القعنبي والبخاري أيضًا عن إسماعيل وعبد الله بن يوسف ومسلم عن يحيى وأبو داود من طريق ابن وهب خمستهم عن مالك به ( مالك عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن) عمته ( عائشة أم المؤمنين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفرد الحج) وكذا رواه ابن عمر وجابر في الصحيحين وابن عباس في مسلم وروي أنه كان قارنا عمر في البخاري وأنس في الصحيحين وعمران بن حصين في مسلم والبراء في أبي داود وعلي في النسائي وسراقة وأبو طلحة عند أحمد وأبو سعيد وقتادة عند الدارقطني وابن أبي أوفى عند البزار وسعيد بن المسيب في البخاري وجمع بين الروايتين بأنه صلى الله عليه وسلم كان أولاً مفردًا ثم أحرم بالعمرة بعد ذلك وأدخلها على الحج فعمدة رواة الإفراد أول الإحرام وعمدة رواة القران آخره وأما من روى أنه كان متمتعًا كابن عمر وعائشة وأبي موسى وابن عباس في الصحيحين وعمران في مسلم فأراد التمتع اللغوي وهو الانتفاع وقد انتفع بالاكتفاء بفعل واحد وبهذا الجمع تنتظم الأحاديث ويأتي زيادة في ذلك ولهذا الاختلاف اختلف الأئمة بعد إجماعهم على جواز الأوجه الثلاثة في أيها أفضل فقال مالك والشافعي في الصحيح المعروف من مذهبه وأبو ثور وغيرهم الإفراد أفضل وقال أحمد وجماعة التمتع أفضل وقال أبو حنيفة والثوري القران أفضل ورجح الإفراد بأنه صح عن جابر وابن عمر وابن عباس وعائشة وهؤلاء لهم مزية في حجة الوداع على غيرهم فأما جابر فهو أحسن الصحابة سياقًا لحديث حجة الوداع فإنه ذكرها من حين خروج النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى آخرها فهو أضبط لها من غيره وأما ابن عمر فصح عنه أنه كان آخذًا بخطام ناقة النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع وأنكر على من رجح قول أنس على قوله وقال كان أنس يدخل على النساء وهن مكشفات الرؤوس وإني كنت تحت ناقة النبي صلى الله عليه وسلم يمسني لعابها أسمعه يلبي بالحج وأما عائشة فقربها من رسول الله صلى الله عليه وسلم معروف وكذلك اطلاعها على باطن أمره وظاهره وفعله في خلوته وعلانيته مع كثرة فقهها وعظيم فطنتها وأما ابن عباس فمحله من العلم والفقه في الدين والفهم الثاقب معروف مع كثرة بحثه وتحفظه أحواله صلى الله عليه وسلم التي لم يحفظها غيره وأخذه إياها من كبار الصحابة وبأن الخلفاء الراشدين واظبوا على الإفراد بعد النبي صلى الله عليه وسلم أبو بكر وعمر وعثمان واختلف عن علي فلو لم يكن أفضل وعلموا أنه صلى الله عليه وسلم حج مفردًا لم يواظبوا عليه مع أنهم الأئمة المقتدى بهم في عصرهم وبعدهم فكيف يظن بهم المواظبة على خلاف فعله صلى الله عليه وسلم وأما الخلاف عن علي وغيره فإنما فعلوه لبيان الجواز وفي الصحيحين وغيرهما ما يوضح ذلك وقد روى محمد بن الحسن عن مالك أنه قال إذا جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثان مختلفان وعمل أبو بكر وعمر بأحدهما وتركا الآخر دل ذلك أن الحق فيما عملا به وبأنه لم ينقل عن أحد منهم كراهة الإفراد وكره عمر وعثمان وغيرهما التمتع حتى فعله علي لبيان الجواز وبأن الإفراد لا يجب فيه دم بإجماع بخلاف التمتع والقران ففيهما الدم لجبران النقص بلا شك لأن الصيام يقوم مقامه ولو كان دم نسك لم يقم مقامه كالأضحية وأجابوا عن أحاديث القران والتمتع بأنها مؤولة بأنه أمر بهما فنسبا إليه لذلك نحو بنى الأمير المدينة وعن قوله تعالى { { وأتموا الحج والعمرة لله } } بأنه ليس فيها إلا الأمر بإتمامها ولا يلزم منه قرنهما بالفعل فهو كقوله { { وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة } } وبسط الجدال يطول والحديث رواه مسلم عن إسماعيل بن أبي أويس ويحيى بن يحيى وأبو داود عن القعنبي والترمذي وابن ماجه عن أبي مصعب والنسائي من طريق عبد الرحمن بن مهدي وابن ماجه أيضًا عن هشام بن عمار ستتهم عن مالك به ( مالك عن أبي الأسود محمد بن عبد الرحمن قال) مالك ( وكان يتيمًا في حجر عروة بن الزبير) ولذا اشتهر بيتيم عروة ( عن عروة بن الزبير) بن العوام ( عن) خالته ( عائشة أم المؤمنين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفرد الحج) واستمر عليه إلى أن تحلل منه بمنى ولم يعتمر تلك السنة كما قيل وهو مقتضى من رجح أنه كان مفردًا كما في الفتح وأعاد الإمام هذا الحديث مختصرًا كأنه لأنه سمعه من أبي الأسود بالوجهين وأخرجه النسائي عن قتيبة وابن ماجه عن أبي مصعب عن مالك به مختصرًا فإن قيل كيف اختلف الصحابة في صفة حجه صلى الله عليه وسلم وهي حجة واحدة وكل واحد منهم يخبر عن مشاهدة في قصة واحدة قال عياض أجاب الطحاوي وابن جرير ثم ابن عبد الله محمد بن أبي صفرة ثم المهلب أخوه وابن المرابط وابن القصار وابن عبد البر وغيرهم بما ملخصه أن النبي صلى الله عليه وسلم أباح للناس فعل هذه الأنواع الثلاثة ليدل على جواز جميعها إذ لو أمر بواحد لظن أن غيره لا يجزي فأضيف الجميع إليه وأخبر كل واحد بما أمره به وأباحه له ونسبه إلى النبي صلى الله عليه وسلم إما لأمره به وإما لتأويله عليه وأما إحرامه صلى الله عليه وسلم بنفسه فأخذ بالأفضل فأحرم مفردًا بالحج وبه تظاهر الروايات الصحيحة وأما الروايات بأنه كان متمتعًا فمعناها أمر به وأما الروايات بأنه كان قارنًا فليس إخبارًا عن ابتداء إحرامه بل إخبار عن حاله حين أمر أصحابه بالتحلل من حجهم وقلبه إلى عمرة لمخالفة الجاهلية إلا من كان معه هدي فكان هو صلى الله عليه وسلم ومن معه هدي في آخر إحرامهم قارنين بمعنى أنهم أدخلوا العمرة على الحج وفعل ذلك مواساة لأصحابه وتأنيسًا لهم في فعلها في أشهر الحج لأنها كانت منكرة عندهم في أشهره ولم يمكنه التحلل معهم بسبب الهدي واعتذر إليهم بذلك في ترك مواساتهم فصار صلى الله عليه وسلم قارنًا في آخر أمره واتفق الجمهور على جواز إدخال الحج على العمرة وشذ بعض الناس فمنعه وقال لا يدخل إحرام على إحرام كما لا تدخل صلاة على صلاة واختلف في إدخال العمرة على الحج فجوزه أصحاب الرأي وهو قول الشافعي لهذه الأحاديث ومنعه آخرون وجعلوا هذا خاصًا بالنبي صلى الله عليه وسلم لضرورة الاعتمار حينئذ في أشهر الحج ومن قال كان متمتعًا أي تمتع بفعل العمرة في أشهر الحج وفعلها مع الحج لأن التمتع يطلق على معان فانتظمت الأحاديث واتفقت ولا يبعد رد ما ورد عن الصحابة من فعل مثل ذلك إلى مثل هذا مع الروايات الصحيحة أنهم أحرموا بالحج مفردًا فالإفراد إخبار عن فعلهم أولاً والقران إخبار عن إحرام الذين معهم هدي بالعمرة ثانيًا والتمتع لفسخهم الحج إلى العمرة ثم إهلالهم بالحج بعد التحلل منها كما فعل كل من لم يكن معه هدي وقول بعض علمائنا أنه صلى الله عليه وسلم أحرم إحرامًا مطلقًا منتظرًا ما يؤمر به من إفراد أو قران أو تمتع ثم أمر بالحج ثم أمر بالعمرة معه في وادي العقيق بقوله صل في هذا الوادي المبارك وقل عمرة في حجة لا يصح لأن رواية جابر وغيره صريحة بخلافه مع صحتها وقال الخطابي قد أنعم الشافعي في كتاب اختلاف الحديث وأجاد فقال ما ملخصه معلوم في لغة العرب جواز إضافة الفعل إلى الأمر كالفاعل لحديث رجم صلى الله عليه وسلم ماعزًا وقطع سارق رداء صفوان وإنما أمر بذلك ومثله كثير وكان الصحابة منهم المفرد والمتمتع والقارن كل منهم يأخذ عنه أمر نسكه ويصدر عن تعليمه فجاز أن تضاف كلها إليه صلى الله عليه وسلم على معنى أنه أمر بها وأذن فيها ويحتمل أن بعضهم سمعه يقول لبيك بحجة فحكى أنه أفرد وخفي عليه قوله وعمرة فلم يحك إلا ما سمع وسمع أنس وغيره الزيادة ولا ينكر قبولها وإنما يحصل التناقض لو كان الزائد نافيًا لقول صاحبه فأما إذا أثبته وزاد عليه فلا تناقض ويحتمل أن الراوي سمعه يقول لغيره على وجه التعليم فيقول له قل لبيك بحج وعمرة على سبيل التلقين فهذه الروايات المختلفة ظاهرًا ليس فيها تناقض والجمع بينها سهل كما ذكرنا انتهى وقيل أهل أولاً بالحج مفردًا ثم استمر على ذلك إلى أن أمر أصحابه بأن يفسخوا حجهم فيجعلوه عمرة وفسخ معهم ومنعه من التحلل من عمرته المذكورة سوق الهدي فاستمر معتمرًا حتى أدخل الحج عليها حتى تحلل منهما جميعًا وهذا يستلزم أنه أحرم بالحج أولاً وآخرا وهو محتمل ( مالك أنه سمع أهل العلم يقولون من أهل) أحرم ( بحج مفرد ثم بدا له أن يهل بعده بعمرة) يردفها عليه ( فليس له ذلك) لضعفها وقوته ( قال مالك وذلك الذي أدركت عليه أهل العلم ببلدنا) المدينة لأن أعمال العمرة داخلة في أعمال الحج فلا فائدة في إردافها عليه بخلاف عكسه فيستفيد به الوقوف والرمي والمبيت.


رقم الحديث 1297 وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ، أَنَّ سَالِمَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، أَخْبَرَهُ أَنَّ عَائِشَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ أَرْسَلَتْ بِهِ، وَهُوَ يَرْضَعُ إِلَى أُخْتِهَا أُمِّ كُلْثُومٍ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، فَقَالَتْ: أَرْضِعِيهِ عَشْرَ رَضَعَاتٍ حَتَّى يَدْخُلَ عَلَيَّ، قَالَ سَالِمٌ فَأَرْضَعَتْنِي أُمُّ كُلْثُومٍ ثَلَاثَ رَضَعَاتٍ، ثُمَّ مَرِضَتْ، فَلَمْ تُرْضِعْنِي غَيْرَ ثَلَاثِ رَضَعَاتٍ، فَلَمْ أَكُنْ أَدْخُلُ عَلَى عَائِشَةَ مِنْ أَجْلِ أَنَّ أُمَّ كُلْثُومٍ لَمْ تُتِمَّ لِي عَشْرَ رَضَعَاتٍ.


( مالك عن عبد الله بن أبي بكر) بن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري ( عن عمرة بنت عبد الرحمن) بن سعد بن زرارة الأنصارية ( أن عائشة أم المؤمنين أخبرتها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عندها) في حجرتها ( وأنها سمعت صوت رجل) قال الحافظ: لم أعرف اسمه ( يستأذن في بيت حفصة) أم المؤمنين بنت عمر والجملة في محل جر صفة رجل ( قالت عائشة) مريدة علم الحكم ( فقلت: يا رسول الله هذا رجل يستأذن في بيتك) الذي فيه حفصة ( فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أراه) بضم الهمزة، أظنه ( فلانا لعم لحفصة من الرضاعة فقالت عائشة) من باب الالتفات ومقتضى السياق فقلت: ( يا رسول الله لو كان فلان حيًا لعمها) اللام بمعنى عن أي عن عمها ( من الرضاعة دخل علي) بشد الياء أي هل كان يجوز أن يدخل علي؟ قال الحافظ: لم أقف على اسم عم عائشة أيضًا ووهم من فسره بأفلح أخي أبي القعيس والد عائشة من الرضاعة.
وأما أفلح فهو أخوه وهو عمها من الرضاعة، وقد عاش حتى جاء ليستأذن على عائشة فامتنعت فأمرها صلى الله عليه وسلم أن تأذن له كما يأتي والمذكور هنا عمها أخو أبيها أبي بكر من الرضاعة أرضعتهما امرأة واحدة.
وقيل هما واحد.
وغلطه النووي بأن عمها في حديث أبي القعيس كان حيًا والآخر كان ميتًا كما يدل له قولها لو كان حيًا وإنما ذكرت ذلك في العم الثاني لأنها جوزت تبدل الحكم فسألت مرة أخرى قال الحافظ: ويحتمل أنها ظنت أنه مات لبعد عهدها به ثم قدم بعد ذلك فاستأذن ( فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم) أي كان يجوز دخوله عليك وعلله بقوله: ( إن الرضاعة تحرم) بضم أوله وشد الراء المكسورة ( ما تحرم الولادة) أي مثل ما تحرمه ففيه مضاف من سائر الأحكام وفيه أن قليل الرضاع يحرم إذ لم يسأل عن عدة الرضعات بل جعله عامًا بلا تفصيل وأطلق في التعليل.

وأخرجه البخاري عن عبد الله بن يوسف وإسماعيل ومسلم عن يحيى وأبو داود والترمذي والنسائي من طريق معن أربعتهم عن مالك به.

( مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أم المؤمنين أنها قالت جاء عمي من الرضاعة) هو أفلح كما في الرواية التالية لهذه ( يستأذن) يطلب الإذن ( علي) في الدخول ( فأبيت) امتنعت ( أن آذن) بالمد ( له علي) للتردد في أنه محرم وغلبت التحريم على الإباحة ( حتى أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم) لأنها جوزت تغير الحكم بالنسخ أو نسيت وإلا فكان يكفيها سؤالها عن عمها الأول في قصة حفصة السابقة، فهذا مما يرجح أنهما اثنان ويرد القول بأنهما واحد.
قال عياض: وهو الأشبه على أن بعضهم رجح أنهما واحد وأجاب عن هذا فقال: لعل عم حفصة بخلاف عم عائشة أفلح، إما بأن يكون أحدهما شقيقًا والآخر لأب أو لأم أو يكون أحدهما أقرب في العمومة، والآخر أبعد أو يكون أحدهما أرضعته زوجة أخيه في حياته، والآخر بعد موته فأشكل الأمر عليها في حديث حفصة حتى سألت عن حكم ذلك وحقيقته ( عن ذلك) سقطت في نسخة ( فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألته عن ذلك فقال: إنه عمك فأذني له) في الدخول عليك.

( قالت فقلت: يا رسول الله إنما أرضعتني المرأة) أي امرأة أخيه ( ولم يرضعني الرجل) الذي هو أخوه حتى يكون عمي وفي رواية للشيخين فإن أخاه أبا القعيس ليس هو أرضعني ولكن أرضعتني امرأة أبي القعيس ( فقال: إنه عمك فليلج) بالجيم، يدخل عليك لأن سبب اللبن هو ماء الرجل والمرأة معًا فوجب أن يكون الرضاع منهما، ولذا قال ابن عباس اللقاح واحد كما يأتي ( قالت عائشة وذلك بعدما ضرب علينا الحجاب) آخر سنة خمس أي حكمه أو آيته ( وقالت عائشة: يحرم من الرضاعة ما يحرم) بفتح أوله وضم ثالثه فيهما ( من الولادة) كذا رواه هشام عن أبيه موقوفًا، وتقدم مرفوعًا عن عمرة عنها، ويأتي عن سليمان وعروة عن عائشة مرفوعًا أيضًا.
وللبخاري عن شعيب عن الزهري عن عروة فلذلك كانت تقول عائشة فذكره فكأنه كان يحدث به بالوجهين.
وفي مسلم عن عراك بن مالك عن عروة عن عائشة أن عمها من الرضاعة أفلح استأذن عليها فحجبته فقال صلى الله عليه وسلم: لا تحتجبي عنه فإنه يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب.
قال القرطبي فيه دليل على جواز الرواية بالمعنى أو قال صلى الله عليه وسلم اللفظين في وقتين.
قد تابع مالكًا في رواية هذا الحديث عن هشام عبد الله بن نمير ولم يسم العم، وكذا تابعه حماد بن زيد عن هشام بهذا الإسناد أن أخا أبي قعيس استأذن عليها فذكر نحوه وأبو معاوية عن هشام بهذا الإسناد نحوه غير أنه قال: استأذن عليها أبو القعيس كما في مسلم.
قال عياض: المعروف أخو أبي القعيس كما في الأحاديث الأخر وهو أشبه عند أهل الصنعة يعني المحدثين وقال غيره هو وهم من أبي معاوية فقد خالفه حماد بن زيد وهو أحفظ منه لحديث هشام.

( مالك عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عائشة أم المؤمنين أنها أخبرته أن أفلح) بفتح الهمزة وإسكان الفاء وفتح اللام وحاء مهملة، صحابي.
قال ابن منده عداده في بني سليم، وقال أبو عمر يقال إنه من الأشعريين، وفي رواية لمسلم أفلح بن قعيس وفي أخرى له استأذن علي عمي أبو الجعد قال في الإصابة: وكأنها كنية أفلح ( أخا أبي القعيس) بضم القاف وفتح العين المهملة وسكون التحتية وسين مهملة، واسمه وائل بن أفلح الأشعري كما عند الدارقطني، وقيل اسمه الجعد كما في المقدمة.
وأخًا بالنصب بدل من أفلح.
وهذا هو الصواب المشهور ولا يخالفه رواية عراك بن مالك عن عروة عن عائشة أفلح بن أبي القعيس لجواز أن يكون أبو القعيس ابن أبي القعيس.
وقول محمد بن عمرو عن عروة استأذن أبو القعيس أظنه وهمًا فابن شهاب لا يقاس به حفظًا وإتقانًا فلا حجة فيما خالفه قاله أبو عمر.
( جاء) حال كونه ( يستأذن عليها وهو) أي أفلح ( عمها) أي عائشة ( من الرضاعة) وهو التفات وإلا فمقتضى السياق: عليّ وهو عمي.
وفي رواية معمر عن الزهري عند مسلم: وكان أبو القعيس زوج المرأة التي أرضعت عائشة وكان استئذانه ( بعد أن أنزل الحجاب) أي آيته أو حكمه ( قالت) عائشة: ( فأبيت) امتنعت ( أن آذن) بالمد ( له) في الدخول ( علي) للتردد في أنه محرم وغلبت التحريم على الإباحة زاد في رواية عراك بن مالك عن عروة عند البخاري فقال: أتحتجبين مني وأنا عمك؟ فقلت: وكيف ذلك؟ قال: أرضعتك امرأة أخي بلبن أخي ( فلما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرته بالذي صنعت) من منع أفلح وقوله أتحتجبين إلخ ( فأمرني أن آذن) بالمد ( له) في الدخول ( علي) بشد الياء، وزاد في رواية لهما قلت: إنما أرضعتني المرأة، ولم يرضعني الرجل.
قال تربت يداك أو يمينك.
وفي رواية عراك: صدق أفلح ائذني له.
ولمسلم: لا تحتجبي منه فإنه يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب.
واستشكل عمله صلى الله عليه وسلم بمجرد دعوى أفلح دون بينة.

وأجيب باحتمال اطلاعه على ذلك وفيه أن لبن الفحل يحرم حتى تثبت الحرمة من جهة صاحب اللبن كما ثبت في جانب المرضعة، وأن زوج المرضعة بمنزلة الوالد للرضيع وأخاه بمنزلة العم فإنه صلى الله عليه وسلم أثبت عمومة الرضاع وألحقها بالنسب لأن سبب اللبن هو ماء الرجل والمرأة معًا فوجب أن يكون الرضاع منهما، وهذا مذهب الأئمة الأربعة كجمهور الصحابة والتابعين وفقهاء الأمصار.
وقال قوم منهم ربيعة وداود وأتباعه الرضاعة من قبل الرجل لا تحرم شيئًا لقوله تعالى: { { وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مِّنَ الرَّضَاعَةِ } } ولم يذكر البنات كما ذكرها في تحريم النسب ولا ذكر من يكون من جهة الأب كالعمة كما ذكرها في النسب.
قال المازري: ولا حجة في ذلك لأنه ليس بنص وذكر الشيء لا يدل على سقوط الحكم عما سواه وهذا الحديث نص في الحرمة فهو أولى أي أحق أن يقدم اهـ.
واحتج بعضهم لذلك بأن اللبن لا ينفصل عن الرجل وإنما ينفصل عن المرأة فكيف ينشر الحرمة إلى الرجل وأجيب بأنه قياس في مقابلة النص فلا يلتفت إليه لا سيما وقد قالت له عائشة هذا القياس: إنما أرضعتني المرأة ولم يرضعني الرجل فقال: إنه عمك فليلج عليك.
كما مر.

وأخرجه البخاري عن عبد الله بن يوسف ومسلم عن يحيى كلاهما عن مالك به وتابعه شعيب عند البخاري ويونس ومعمر عند مسلم كلهم عن ابن شهاب نحوه وتابعه في شيخه عراك بن مالك عند الشيخين نحوه.

( مالك عن ثور بن زيد الديلي) بكسر الدال المهملة وسكون الياء، قال أبو عمر: لم يسمع ثور من ابن عباس بينهما عكرمة والحديث محفوظ لعكرمة وغيره ( عن عبد الله بن عباس أنه كان يقول ما كان في الحولين وإن كان مصة واحدة فهو يحرم) تمسكًا بعموم الأحاديث، وعليه جمهور العلماء من الصحابة والتابعين والأئمة كعلي وابن مسعود وابن عمر ومالك وأبي حنيفة، والأوزاعي والثوري، وهو مشهور مذهب أحمد وتمسكوا أيضًا بقوله تعالى { { وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ } } والمصة توجب تسمية المرأة أمًا من الرضاعة وتعقب بأنه إنما يكون دليلاً لو كان اللفظ: واللاتي أرضعنكم أمهاتكم فيثبت كونها أمًا بما قل من الرضاعة، وأجيب بأن مفهوم التلاوة وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم محرمات لأجل أنهن أرضعنكم فتعود إلى معنى ما قالوه وتوجب تعليق الحكم بما يسمى رضاعًا.
وذهب داود إلى اعتبار ثلاث رضعات لحديث عائشة مرفوعًا: لا تحرم المصة والمصتان.
وحديث أم الفضل مرفوعًا، لا تحرم الرضعة والرضعتان والمصة والمصتان.
رواهما مسلم.
فنص الحديث على عدم الحرمة بالرضعة والرضعتين فلو سلم أن ظاهر القرآن الإطلاق فالحديث مبين له، وبيانه أحق أن يتبع، ولحديث: إنما الرضاع ما فتق الأمعاء وحديث إنما الرضاع ما أنشر اللحم، يروى بالراء أي شده وأبقاه، من نشر الله الميت إذا أحياه.
وبالزاي: زاد فيه وعظمه من النشز، وهو الارتفاع والمصة والمصتان لا يفتقان الأمعاء ولا ينشران العظم.
وتعقب بأن للمصة الواحدة نصيبًا فيهما.
وأما الحديث فلعله كان حين يعتبر في التحريم العشر والعدد قبل نسخه وأما دعوى وقفه فغير مسلمة لأنه جاء مرفوعًا من طرق صحاح كما قال عياض، وأعل أيضًا بالاضطراب ورد فلما احتمل رجعنا إلى ظاهر القرآن ومفهوم الأخبار وتنزيل النبي صلى الله عليه وسلم: إياه منزلة النسب وليس لذلك عدد إلا مجرد الوطء فكذلك الرضاع وقياسًا على تحريم الوطء بالصهر وغير ذلك.
وقال الشافعي: لا يحرم بأقل من خمس رضعات لحديث عائشة الآتي ويجيء الكلام فيه.

( مالك عن ابن شهاب عن عمرو) بفتح العين ( بن الشريد) بفتح المعجمة الثقفي أبي الوليد الطائفي من ثقات التابعين ( أن عبد الله بن عباس سئل عن رجل كانت له امرأتان) وفي رواية قتيبة ومعن عن مالك بسنده جاريتان ( فأرضعت إحداهمًا غلامًا وأرضعت الأخرى جارية) أي بنتًا صغيرة ( فقيل له: هل يتزوج الغلام الجارية؟ فقال: لا) يتزوجها ( اللقاح واحد) بفتح اللام.
قال الهروي: قال الليث: اللقاح اسم ماء الفحل، كأنه أراد أن ماء الفحل الذي حملتا منه واحد واللبن التي أرضعت كل واحدة منهما أصله ماء الفحل ويحتمل أن يكون اللقاح بمعنى الإلقاح يقال: ألقح الناقة إلقاحًا ولقاحًا كما يقول: أعطى إعطاء وعطاء والأصل فيه للإبل ثم يستعار للنساء اهـ.

وهذا الحديث رواه الترمذي عن قتيبة ومن طريق معن كليهما عن مالك به.

( مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر كان يقول لا رضاعة إلا لمن أرضع في الصغر ولا رضاعة لكبير) أي لا تحرم شيئًا لقوله تعالى { { يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ } } فأشعر جعل تمامها إلى الحولين أن الحكم بعدهما بخلافه لأن الولد يستغني غالبًا عن اللبن ولا يشبعه بعدهما إلا اللحم والخبز ونحوهما، وإلى هذا ذهب الجمهور ومنهم مالك في رواية ابن وهب، لكن روى غيره عنه زيادة أيام يسيرة بعدهما وزيادة شهر وشهرين وثلاثة لافتقار الطفل بعد الحولين إلى مدة يحال فيها فطامه لأن العادة أنه لا يفطم دفعة واحدة بل على التدريج فحكم رضاعه في تلك المدة حكم الحولين، ولذا قال المازري إن الخلاف عن مالك في تحديد الزيادة خلاف في حال القدر الذي جرت العادة فيه باستغنائه بالطعام وقال أبو حنيفة أقصى الرضاع ثلاثون شهرًا ورده المازري بأن قوله تعالى { { وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْرًا } } يتضمن أقل الحمل وأكثر الرضاع فلا معنى لاعتباره في الرضاع وحده وقال زفر ثلاث سنين.

( مالك عن نافع أن سالم بن عبد الله بن عمر أخبره أن عائشة أم المؤمنين أرسلت به وهو يرضع) بفتح الضاد، وماضيه رضع بكسرها، وأهل نجد يفتحون الماضي ويكسرون المضارع قاله الجوهري.
( إلى أختها أم كلثوم) بضم الكاف ( بنت أبي بكر الصديق) التيمية تابعية، مات أبوها وهي حمل فوضعت بعد وفاته وقصتها بذلك صحيحة في الموطأ وغيره أرسلت حديثًا فذكرها بسببه ابن منده وابن السكن في الصحابة فوهما ( فقالت أرضعيه عشر رضعات حتى يدخل علي) قال السيوطي: هذه خصوصية لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم خاصة دون سائر النساء، قال عبد الرزاق في مصنفه عن معمر: أخبرني ابن طاوس عن أبيه قال: كان لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم رضعات معلومات وليس لسائر النساء رضعات معلومات ثم ذكر حديث عائشة هذا وحديث حفصة الذي بعده وحينئذ فلا يحتاج إلى تأويل الباجي.
وقوله: لعله لم يظهر لعائشة النسخ بخمس إلا بعد هذه القصة اهـ.
وبه يرد إشارة ابن عبد البر إلى شذوذ رواية نافع هذه بأن أصحاب عائشة الذين هم أعلم بها من نافع وهم عروة والقاسم وعمرة رووا عنها خمس رضعات فوهم من روى عنها عشر رضعات لأنه صح عنها أن الخمس نسخن العشر ومحال أن تعمل بالمنسوخ، كذا قال، وهو سهو، لأن نافعًا قال إن سالمًا أخبره عن عائشة وكل منهما ثقة حجة حافظ وقد أمكن الجمع بأنها خصوصية للزوجات الشريفات كما قاله طاوس فلا وهم ولا شذوذ.

( قال سالم فأرضعتني أم كلثوم ثلاث رضعات ثم مرضت فلم ترضعني غير ثلاث مرات فلم أكن أدخل على عائشة من أجل أن أم كلثوم لم تتم لي عشر رضعات) التي تجعلني محرمًا لعائشة وللزوجات الشريفات في شدة الحجاب ما ليس لغيرهن.

( مالك عن نافع أن صفية بنت أبي عبيد) الثقفية زوجة مولاه ( أخبرته أن حفصة أم المؤمنين أرسلت بعاصم بن عبد الله بن سعد) بسكون العين ( إلى أختها فاطمة بنت عمر بن الخطاب ترضعه عشر رضعات ليدخل عليها) إذا بلغ ( وهو صغير يرضع) متعلق بقوله أرسلت أو بقوله ترضعه لا بيدخل عليها كما هو ظاهر جدًا ( ففعلت) أي أرضعته عشرًا ( فكان يدخل عليها) لأنها خالته من الرضاعة.

( مالك عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه أنه أخبره أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم كان يدخل عليها من أرضعته أخواتها وبنات أخيها ولا يدخل عليها من أرضعه نساء إخوتها) لأن المرضع إنما هو المرأة والرجل لم يرضع فلا يحرم عند جماعة كابن عمر وجابر وجماعة من التابعين وداود وابن علية كما حكاه أبو عمر قائلاً: وحجتهم أن عائشة كانت تفتي بخلاف حديث أبي القعيس، يعني: والعبرة عند قوم برأي الصحابي إذا خالف مرويه.
قال: ولا حجة في ذلك لأن لها أن تأذن لمن شاءت من محارمها وتحجب من شاءت ولكن لم يعلم أنها حجبت من ذكر إلا بخبر واحد كما علمنا المرفوع بخبر واحد فوجب علينا العمل بالسنة إذ لا يضرها من خالفها اهـ.
وقد نسب المازري لعائشة القول بأن لبن الفحل لا يحرم، واستبعده الزواوي مع مشافهة النبي صلى الله عليه وسلم إياها بأنه يحرم في حديث أفلح السابق ومحال أن لا يصدر منها مخالفته لأن التأويل في حقها لا يصح مع مشافهته فأما غيرها فقد يتأول لمعارضة أو غيرها كذا قال: والإسناد إليها صحيح بلا شك وكثيرًا ما يخالف الصحابي مرويه لدليل قام عنده فيحتمل أنها فهمت أن ترخيصه لها في أفلح لا يقتضي تعميم الحكم في كل فحل لأن له أن يخص ما شاء بما شاء أو فهمت غير ذلك، وقد كانت عائشة تتم في السفر مع أنها روت القصر.

( مالك عن إبراهيم بن عقبة) بالقاف المدني ( أنه سأل سعيد بن المسيب عن الرضاعة فقال سعيد كل ما كان في الحولين وإن كان قطرة واحدة) وصلت لجوف الطفل ( فهو يحرم) بشد الراء المكسورة ( وما كان بعد الحولين فإنما هو طعام يأكله) فلا يحرم ( قال إبراهيم بن عقبة ثم سألت عروة بن الزبير فقال مثل ما قال سعيد بن المسيب) لموافقة اجتهاده لاجتهاده.

( مالك عن يحيى بن سعيد أنه قال سمعت سعيد بن المسيب يقول لا رضاعة) محرمة ( إلا ما كان في المهد) وهو ما يمهد للصبي لينام فيه ( وإلا ما أنبت اللحم والدم) فرضاع الكبير لا يحرم لأنه لا ينبت شيئًا منهما، وللدارقطني عن ابن عباس مرفوعًا لا رضاع إلا ما كان في الحولين، وللترمذي وحسنه لا رضاع إلا ما فتق الأمعاء وكان قبل الحولين ولأبي داود عن ابن مسعود موقوفًا لا رضاع إلا ما شد العظم وأنبت اللحم ورواه مرفوعًا إنما الرضاع ما أنشز العظم وفتق الأمعاء.

( مالك عن ابن شهاب أنه كان يقول الرضاعة قليلها وكثيرها تحرم) تنشر الحرمة على ظاهر القرآن والأحاديث كما قال به جمهور العلماء من الصحابة والتابعين والأئمة مع علمهم حديث المصتين، وإذا تركوا ذلك لم يسترب أنه لعلة من نسخ أو معارض يوجب تركه وإن صح إسناده ويرجع إلى ظاهر القرآن والأحاديث المطلقة وللقاعدة التي هي أصل في الشريعة أنه متى حصل إشكال في قصة أو تعارض مبيح ومانع فالأخذ به أحق لأنه أحوط ( والرضاعة من قبل الرجال) بكسر القاف وفتح الباء، أي جهتهم ( تحرم) تنشر الحرمة لنصه صلى الله عليه وسلم على ذلك وتعليله بأن الرضاعة تحرم ما تحرم الولادة ولا عطر بعد عروس فلا عبرة بمخالفة الظاهرية وابن علية ( قال يحيى وسمعت مالكًا يقول الرضاعة قليلها) ولو مصة ( وكثيرها إذا كان في الحولين تحرم فأما ما كان بعد الحولين) ولو بيوم على ظاهره أو ما قاربهما وفيه روايات عن مالك تقدمت ( فإن قليله وكثيره لا يحرم شيئًا وإنما هو بمنزلة الطعام) وهو لا يحرم.