فهرس الكتاب

شرح الزرقاني - بَابُ الْمُلَامَسَةِ وَالْمُنَابَذَةِ

رقم الحديث 1373 وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: مَنِ ابْتَاعَ طَعَامًا.
فَلَا يَبِعْهُ حَتَّى يَقْبِضَهُ.


( مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من ابتاع) اشترى ( طعامًا فلا يبعه) مجزوم بلا الناهية، وفي رواية فلا يبيعه بالرفع على أنها نافية وهو أبلغ في النهي من صريح النهي ( حتى يستوفيه) أي يقبضه وألحق مالك بالابتياع سائر عقود المعاوضة كأخذه مهرًا أو صلحًا فلا يجوز بيعه قبل قبضه فلو ملك بلا معاوضة كهبة وصدقة وسلف جاز قبل قبضه وألحق بالبيع دفعه عوضًا كدفعه مهرًا أو خلعًا أو هبة ثواب أو إجارة أو صلحًا عن دم فيمنع ذلك قبل قبضه وأما دفعه قرضًا أو قضاء عن قرض فيجوز وعموم قوله طعامًا يشمل الربوي وغيره وهو المشهور وفي أن المنع معلل بالعينة ويدل عليه إدخال مالك أحاديثه تحت الترجمة.
وما في مسلم عن طاوس قلت لابن عباس: لم نهي عن بيعه قبل قبضه؟ قال: ألا تراهم يبتاعون بالذهب والطعام مرجأ بالهمز وعدمه أي مؤخرًا، يعني أنهم يقصدون إلى دفع ذهب في أكثر منه والطعام معلل أو تعبدي غير معلل قولان.

وأخرجه البخاري عن عبد الله بن يوسف والقعنبي ومسلم عن القعنبي ويحيى الثلاثة عن مالك به.
وتابعه جماعة عن نافع به.

( مالك عن عبد الله بن دينار) العدوي مولى ابن عمر من الثقات الأثبات ( عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من ابتاع طعامًا فلا يبعه حتى يقبضه) للعينة أو لأن للشارع غرضًا في ظهوره للفقراء أو تقوية قلوب الناس لا سيما زمن الشدة والمسغبة وانتفاع الكيال والحمال فلو أبيح بيعه قبل قبضه لباعه أهل الأموال بعضهم من بعض من غير ظهور فلا يحصل ذلك الغرض، وقال محمد بن عبد السلام الصحيح عند أهل المذهب أن النهي عنه تعبدي، وظاهر الحديث قصر النهي على الطعام ربويًا كان أم لا، وعليه مالك وأحمد وجماعة فيجوز فيما عداه إذ لو منع في الجميع لم يكن لذكر الطعام فائدة ودليل الخطاب كالنص عند الأصوليين، ومنعه أبو حنيفة إلا فيما لا ينقل كالعقار تعلقًا بقوله: حتى يستوفيه فاستثنى ما لا ينقل لتعذر الاستيفاء فيه ومنع الشافعي بيع كل مشترى قبل قبضه لأنه صلى الله عليه وسلم نهى عن ربح ما لم يضمن فعم.
وأجيب بقصره على الطعام لحديث ابن عمر لأنه دل بالمفهوم على أن غير الطعام بخلافه ويحمله على بيع الخيار فلا يبيع المشتري قبل أن يختار وأما قول ابن عباس عند الشيخين وأحسب كل شيء مثله أي الطعام فإنما هو إخبار عن رأيه ليس بمرفوع، وشذ عثمان البتي فأجاز ذلك في كل شيء وهو مخالف للإجماع وللحديث فلا يلتفت إليه.
وتابع مالكًا عليه إسماعيل بن جعفر عن ابن دينار عند مسلم.

( مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أنه قال: كنا في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم نبتاع) نشتري ( الطعام فيبعث) صلى الله عليه وسلم ( علينا من يأمرنا) محله نصب مفعول يبعث ( بانتقاله) أي نقله ( من المكان الذي ابتعناه فيه إلى مكان سواه) أي غيره ( قبل أن نبيعه) لأن بنقله يحصل قبضه وهذا قد خرج مخرج الغالب والمراد القبض، وفرق مالك في المشهور عنه بين الجزاف فأجاز بيعه قبل قبضه لأنه مرئي فيكفي فيه التخلية وبين المكيل والموزون فلا بد من الاستيفاء.
وقد روى أحمد عن ابن عمر مرفوعًا: من اشترى بكيل أو وزن فلا يبعه حتى يقبضه ففي قوله بكيل أو وزن دليل على أن ما خالفه بخلافه.
وجعل مالك رواية حتى يستوفيه تفسيرًا لرواية حتى يقبضه لأن الاستيفاء لا يكون إلا بالكيل أو الوزن على المعروف لغة قال تعالى: { { الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ } } وقال: { { فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ } } وقال: { { وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ } }

والحديث أخرجه مسلم عن يحيى عن مالك به.

( مالك عن نافع) مولى ابن عمر ( أن حكيم بن حزام) بمهملة وزاي، ابن خويلد بن أسد بن عبد العزى القرشي الأسدي، ابن أخي خديجة أم المؤمنين أسلم يوم الفتح وصحب، وله أربع وسبعون سنة ثم عاش إلى سنة أربع وخمسين أو بعدها وكان عالمًا بالنسب.
( ابتاع طعامًا أمر به عمر بن الخطاب للناس فباع حكيم الطعام قبل أن يستوفيه) يقبضه ( فبلغ ذلك عمر بن الخطاب فرده عليه وقال لا تبع طعامًا ابتعته حتى تستوفيه) وفائدة ذكره بعد المرفوع مع قيام الحجة به اتصال العمل به فلا يتطرق إليه احتمال نسخ.

( مالك أنه بلغه) وصله مسلم بمعناه من طريق الضحاك بن عثمان عن بكير بن عبد الله الأشج عن سليمان بن يسار عن أبي هريرة ( أن صكوكًا) جمع صك ويجمع أيضًا على صكاك وهو الورقة التي يكتب فيها ولي الأمر برزق من الطعام لمستحقه ( خرجت للناس في زمان) إمارة ( مروان بن الحكم) على المدينة من جهة معاوية ( من طعام الجار) بجيم فألف فراء، موضع بساحل البحر يجمع فيه الطعام ثم يفرق على الناس بصكاك ( فتبايع الناس تلك الصكوك بينهم قبل أن يستوفوها) يقبضوها ( فدخل زيد بن ثابت ورجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم) هو أبو هريرة كما في مسلم ( فقال أتحل) تجيز ( بيع الربا) ولمسلم عن أبي هريرة أحللت بيع الربا ( يا مروان) وفيه أن الترك فعل لأنه لم يحل وإنما ترك النهي، وهذا إغلاظ في الإنكار، وقد كان زيد ممن يفتي في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وفي هذا أن أبا هريرة كان مفتيًا على الأمراء وغيرهم، وقيل لم يكن مفتيًا.
قال القرطبي وهو باطل وكيف لا يكون مفتيًا وهو من أكثر الصحابة ملازمة لخدمته صلى الله عليه وسلم وأحفظهم لحديثه وأغزرهم علمًا ( فقال مروان: أعوذ بالله) أعتصم به من أن أحل الربا ولمسلم فقال مروان: ما فعلت ( وما ذاك فقال هذه الصكوك تبايعها الناس ثم باعوها قبل أن يستوفوها) ولمسلم: فقال أبو هريرة أحللت بيع الصكاك وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الطعام حتى يستوفي ( فبعث مروان الحرس يتبعونها ينتزعونها من أيدي الناس ويردونها إلى أهلها) أصحابها واحتج به بعضهم على فسخ البيعتين معًا لأنه لو كان إنما يفسخ البيع الثاني فقط لقال: ويردونها إلى من ابتاعها من أهلها قال عياض: ولا حجة فيه لاحتمال أن يريد بأهلها من يستحق رجوعها إليه، والنهي إنما هو عن بيعه من مشتريه لا عن بيعه ممن كتب له لأنه بمنزلة من رفعه من موضعه أو من وهب له.
وفي مسلم فخطب مروان الناس فنهاهم عن بيعها قال سليمان: فنظرت إلى حرس يأخذونها من أيدي الناس.

( مالك أنه بلغه أن رجلاً أراد أن يبتاع طعامًا من رجل إلى أجل فذهب به الرجل الذي يريد أن يبيعه الطعام إلى السوق فجعل يريه الصبر) بضم الصاد وفتح الباء، جمع صبرة ( ويقول له من أيها تحب أن أبتاع) أشتري ( لك فقال المبتاع) أي الذي يريد أن يشتري ( أتبيعني ما ليس عندك) وقد نهي عنه ( فأتيا عبد الله بن عمر فذكرا ذلك له فقال عبد الله بن عمر للمبتاع لا تبتع منه ما ليس عنده وقال للبائع لا تبع ما ليس عندك) وكأنه استنبط ذلك من حديثه في النهي عن بيع الطعام قبل قبضه بطريق الأولى أو بلغه حديث حكيم بن حزام قلت: يا رسول الله يأتيني الرجل فيسألني من البيع ما ليس عندي أبتاع له من السوق ثم أبيعه منه؟ فقال: لا تبع ما ليس عندك رواه أصحاب السنن.

( مالك عن يحيى بن سعيد أنه سمع جميل) بفتح الجيم وكسر الميم وإسكان التحتية ولام ( بن عبد الرحمن) المؤذن المدني أمه من ذرية سعد القرظ، وكان يؤذن وسمع ابن المسيب وعمر بن عبد العزيز وعنه مالك بواسطة يحيى وبلا واسطة والصواب أن اسم أبيه عبد الرحمن كما هنا، وقيل اسمه عبد الله بن سويد أو سوادة ذكره ابن الحذاء ( يقول لسعيد بن المسيب:إني رجل أبتاع من الأرزاق التي تعطى) بتحتية أو فوقية ( الناس) بالرفع نائب فاعل يعطى بتحتية،والنصب على أنه المفعول الثاني لتعطى بفوقية ونائب الفاعل ضمير هي الناس ( بالجار) بجيم،محل معلوم بالساحل ( ما شاء الله) في الذمة بدليل قوله ( ثم أريد أن أبيع الطعام المضمون عليّ إلى أجل فقال له سعيد أتريد أن توفيهم من تلك الأرزاق التي ابتعت فقال نعم فنهاه عن ذلك) زاد غير يحيى في الموطأ قال مالك: وذلك رأيي أي خوفًا من التساهل في ذلك حتى يشترط القبض من ذلك الطعام أو بيعه قبل أن يستوفيه فمنع من ذلك للذريعة التي يخاف منها التطرق إلى المحذور وإن قلت قاله البوني.

( قال مالك الأمر المجتمع عليه عندنا الذي لا اختلاف فيه) تأكيد لما قبله ( أنه من اشترى طعامًا برًا أو شعيرًا أو سلتًا أو ذرة) بذال معجمة ( أو دخنًا) بمهملة ( أو شيئًا من الحبوب القطنية) السبعة ( أو شيئًا مما يشبه القطنية مما تجب فيه الزكاة) كتمر وزبيب وزيتون ( أو شيئًا من الأدم) بضمتين جمع إدام بزنة كتاب وكتب ودليل أنه بلفظ الجمع توكيده بقوله ( كلها) دون كله ( الزيت والسمن والعسل والخل والجبن) بضم الجيم وسكون الباء، على الأجود وضمها للإتباع والتثقيل، وهي أقلها ومنهم من خصه بالشعر ( واللبن والشيرق) بتحتية وموحدة بدلها نسختان دهن السمسم قال البوني: وهو السيرج أيضًا بالجيم ( وما أشبه ذلك من الأدم فإن المبتاع لا يبيع شيئًا من ذلك حتى يقبضه ويستوفيه) عملاً بعموم الحديث فإنه شامل للطعام الربوي وغيره وجمع بينهما للإشارة إلى أن الروايتين بمعنى واحد أو لأن كل رواية أفادت معنى لأنه قد يستوفيه بالكيل بأن يكيله البائع ولا يقبضه المشتري بل يحبسه عنده لينقده الثمن مثلاً أو أن الاستيفاء أكثر معنى من القبض لأنه إذا قبض البعض وحبس البعض لأجل الثمن صدق عليه القبض في الجملة بخلاف الاستيفاء.