فهرس الكتاب

شرح الزرقاني - بَابُ جَامِعِ الدَّيْنِ وَالْحِوَلِ

رقم الحديث 1379 حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: مَطْلُ الْغَنِيِّ ظُلْمٌ، وَإِذَا أُتْبِعَ أَحَدُكُمْ عَلَى مَلِيءٍ فَلْيَتْبَعْ.


( مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال مطل الغني) القادر على أداء ما عليه ولو فقيرًا.
قال عياض: المطل منع قضاء ما استحق أداؤه، زاد القرطبي مع التمكن من ذلك وطلب صاحب الحق حقه.
والجمهور أنه مضاف للفاعل وبعضهم جعله مضافًا إلى المفعول وإن الغني هو الممطول.
عياض: وهو بعيد قال الأبي: وعليه فالتقدير أن يمطل بضم الياء.
فالمصدر مبني للمفعول وفي صحة بنائه كذلك خلاف في العربية انتهى.
والمعنى أنه يجب وفاء الدين وإن كان صاحبه غنيًا ولا يكون غناه سببًا لتأخيره عنه وإذا كان ذلك في حق الغني فالفقير أولى وأصل المطل المدّ تقول مطلت الحديدة أمطلها مطلاً، إذا مددتها لتطول، قاله ابن فارس وقال الأزهري المطل المدافعة ( ظلم) يحرم عليه قال القرطبي.
والظلم وضع الشيء في غير محله والماطل وضع المنع موضع القضاء انتهى.
وخرج بالغني المعسر فليس بظلم لأنه إنما فعل ما يجب من إنظاره قال سحنون وأصبغ: تردّ شهادة الماطل لأنه ظلم، وقال ابن عبد الحكم: لا ترد وفي الإكمال اختلف في أنه جرحة أو حتى يكون ذلك عادة.
وفي الفتح: لفظ مطل يشعر بتقدم الطلب فيؤخذ منه أن الغني لو أخر الدفع مع عدم طلب صاحبه الحق له لم يكن ظالمًا، وهو المشهور وقضية كونه ظلمًا أنه كبيرة لكن قال النووي مقتضى مذهبنا اعتبار تكراره، ورده السبكي بأن مقتضاه عدمه لأن منع الحق بعد طلبه وانتفاء العذر عن أدائه كالغصب والغصب كبيرة لا يشترط فيها التكرار وفيه الزجر عن المطل.

( وإذا أتبع) بضم الهمزة وسكون الفوقية وكسر الموحدة، مبنيًا للمفعول على المشهور رواية ولغة قاله النووي وعياض، وقول القرطبي عند الجميع مردود بقول الخطابي أكثر المحدثين يقولونه بتشديد التاء والصواب التخفيف.
وقال عياض شددها بعض المحدثين والوجه إسكانها يقال تبعت فلانًا بحقي أتبعه تباعة بالفتح إذا طلبته وأنا له تبيع بالتخفيف والمعنى إذا أحيل ( أحدكم) فضمن معنى أحيل فعدى بعلى في قوله ( على مليء) بالهمز، مأخوذ من الإملاء يقال ملؤ الرجل بضم اللام، أي صار مليئًا.
وقال الكرماني: ملي كغني لفظًا ومعنى، قال الحافظ فاقتضى أنه بغير همز وليس كذلك فقد قال: إنه في الأصل بالهمز ومن رواه بتركها فقد سهله انتهى.
وذكر غيره أن الرواية بالوجهين ( فليتبع) بإسكان الفوقية على المشهور رواية ولغة، ورواه بعضهم بشدها والأول أجود كما قاله القرطبي.
وقد رواه أحمد عن وكيع عن سفيان الثوري عن أبي الزناد بلفظ: إذا أحيل أحدكم على مليء فليحتمل: والبيهقي من طريق يعلى بن منصور عن ابن أبي الزناد عن أبيه وأشار إلى تفرد يعلى بذلك ولم ينفرد به كما ترى لكن الظاهر أنها بالمعنى، فقد رواه البخاري عن محمد بن يوسف عن الثوري بلفظ: الجادة، وابن ماجه عن ابن عمر بلفظ: إذا أحلت على مليء فاتبعه، وهذه بشد التاء خلاف، والأمر للاستحباب عند الجمهور.
ووهم من نقل فيه الإجماع وقيل: أمر إباحة وإرشاد وهو شاذ وحمله أكثر الحنابلة وأبو ثور وابن جرير، وأهل الظاهر على الوجوب.
وإليه مال البخاري وهو ظاهر الحديث، وأجاب الجمهور بأن الصارف له عنه إلى الندب أنه راجع لمصلحة دنيوية لما فيه من الإحسان إلى المحيل بتحصيل مقصوده من تحويل الحق عنه وترك تكليفه التحصيل والإحسان مستحب وبأن الصارف كونه أمرًا بعد نهي، وهو بيع الكالئ بالكالئ فيكون للإباحة أو الندب على المرجح في الأصول وإذا أتبع بالواو لأكثر رواة الموطأ فلا تعلق للجملة الثانية بالأولى.
وللتنيسي وغيره فإذا أتبع بالفاء ففيه إشعار بأن الأمر بقبول الحوالة معلل بكون مطل الغني ظلمًا.
قال ابن دقيق العيد: ولعل السبب فيه أنه إذا تقرّر أنه ظلم فالظاهر من حال المسلم الاحتراز عنه فيكون ذلك سببًا للأمر بقبول الحوالة عليه لأن به يحصل المقصود من غير ضرر المطل، ويحتمل أن يكون ذلك لأن المليء لا يتعذر استيفاء الحق منه إذا امتنع بل يأخذه الحاكم قهرًا عليه ويوفيه ففي قبول الحوالة عليه تحصيل الغرض من غير مفسدة في الحق قال: والمعنى الأول أرجح لما فيه من بقاء معنى التعليل بأن المطل ظلم، وعلى الثاني تكون العلة عدم وفاء الحق لا الظلم وقال غيره قد يدعي أن في كل منهما بقاء التعليل بأن المطل ظلم لأنه لا بد في كل منهما من حذف به يحصل الارتباط فيقدر في الأول: مطل الغني ظلم والمسلم في الظاهر يجتنبه فمن أتبع إلخ.
وفي الثاني: مطل الغني ظلم والظلم تزيله الحكام ولا تقره فمن أتبع على مليء فليتبع ولا يخشى من المطل انتهى والظلم حرام قليله وكثيره وأعظمه الشرك بالله قال تعالى { { إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } }

كن كيف شئت فإن الله ذو كرم
لا تجزعن فما في ذاك من باس

إلا اثنتان فلا تقربهما أبدًا
الشرك بالله والإضرار للناس

وقال تعالى { { وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا } } أي خاب من رحمة الله بحسب ما ارتكب من الظلم وقال { { وَمَن يَظْلِم مِّنكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا } } وفي الحديث القدسي: يا عبادي إني حرمت الظلم عليكم فلا تظالموا.
وقال صلى الله عليه وسلم لي الواجد يحل عرضه وعقوبته أي مطل الغني يبيح التظلم منه بأن يقال ظلمني ومطلني وعقوبته بالضرب والسجن ونحوهما إذا لدّ.
وأخرجه البخاري عن عبد الله بن يوسف ومسلم عن يحيى كلاهما عن مالك به ورواه بقية الستة.

( مالك عن موسى بن ميسرة أنه سمع رجلاً يسأل سعيد بن المسيب فقال إني رجل أبيع بالدين فقال سعيد لا تبع إلا ما آويت إلى رحلك) قال الباجي: لما علم أنه يداين الناس خاف عليه العينة للذريعة أن يبيع ما لم يملكه أو ما يشتريه بعد موافقة المبتاع منه على بيعه بثمن يتفقان عليه وربما يولي قبضه هذا المبتاع الأخير فيكون كأنه أسلفه ثمنه الذي ابتاعه به في ثمنه الذي باعه منه به وهو أكثر منه.

( قال مالك في الذي يشتري السلعة من الرجل على أن يوفيه تلك السلعة إلى أجل مسمى إما لسوق يرجو نفاقه) بفتح النون، أي رواجه ليربح في السلعة وفي نسخة نفاقها أي السلعة به ( وإما لحاجة) له بالسلعة ( في ذلك الزمان الذي اشترط عليه) أن يوفيها إياه فيه ( ثم يخلفه البائع عن ذلك الأجل فيريد المشتري رد تلك السلعة على البائع إن ذلك ليس للمشتري وإن البيع لازم له) لأنه بمنزلة الدين ( وإن البائع لو جاء بتلك السلعة قبل محل الأجل لم يكره) أي يجبر ( المشتري على أخذها) لأن له غرضًا في التأخير الذي وقع البيع عليه.

( قال مالك في الذي يشتري الطعام فيكتاله ثم يأتيه من يشتريه منه فيخبر) أي يعلم ( الذي يأتيه أنه قد اكتاله لنفسه واستوفاه) قبضه ( فيريد المبتاع أن يصدقه ويأخذه بكيله إن ما بيع على هذه الصفة بنقد) أي معجلاً ( فلا بأس به) أي يجوز ومثل الكيل الوزن ( وما بيع على هذه الصفة إلى أجل فإنه مكروه حتى يكتاله المشتري الآخر لنفسه) وفي الحديث من ابتاع طعامًا فلا يبعه حتى يكتاله ( وإنما كره الذي إلى أجل لأنه ذريعة) بذال معجمة وسيلة ( إلى الربا) يريد أنه لم يصدقه إلا من أجل الأجل فكأنه أخذ للأجل ثمنًا قاله أبو عمر ( وتخوف) بفوقية والرفع عطف على ذريعة ( أن يدار) من الإدارة ( ذلك على هذا الوجه بغير كيل ولا وزن) فيؤدي إلى تعداد البيع للطعام قبل القبض ( فإن كان إلى أجل فهو مكروه) أي ممنوع ( ولا اختلاف فيه عندنا) بالمدينة.

( قال مالك لا ينبغي أن يشترى دين على رجل غائب) إن لم يكن به بينة لأنه غرر كشراء الآبق ولعله ينكر فيبطل وإن نقد كان أشد لأنه يكون تارة بيعًا وتارة سلفًا قاله الباجي ( ولا حاضر إلا بإقرار من الذي عليه الدين ولا على ميت وإن علم الذي ترك الميت وذلك أن اشتراء ذلك غرر) لأنه ( لا يدرى أيتم أم لا يتم وتفسير ما كره من ذلك) أي بيان وإيضاح وجه الكراهة بمعنى المنع ( أنه إذا اشترى دينًا على غائب أو ميت أنه لا يدرى ما يلحق الميت من الدين الذي لم يعلم به فإن لحق الميت) أي كان عليه ( دين ذهب الثمن الذي أعطى المبتاع باطلاً) وقد نهي عن إضاعة المال ( وفي ذلك أيضًا عيب آخر أنه اشترى شيئًا ليس بمضمون له وإن لم يتم ذهب ثمنه باطلاً فهذا غرر لا يصلح) فهو بيع فاسد ( وإنما فرق بين أن لا يبيع الرجل إلا ما عنده) ويمنع بيع ما ليس عنده وبين ( وأن يسلف) أي يسلم ( الرجل في شيء ليس عنده) فيجوز ( أصله) أي بناؤه الذي بنى عليه ( أن صاحب العينة) بكسر العين وإسكان التحتية وبالنون ( إنما يحمل ذهبه التي يريد أن يبتاع بها فيقول هذه عشرة دنانير فما تريد أن أشتري لك بها فكأنه يبيع عشرة دنانير نقدًا بخمسة عشر دينارًا إلى أجل فلهذا كره هذا) سدًا للذريعة ( وإنما تلك الدخلة) مثلث الدال المهملة وسكون المعجمة، كما في القاموس أي النية إلى التوصل إلى الربا ( والدلسة) بضم الدال، التدليس قال الباجي: روى جعفر بن أبي وحشية عن يوسف بن ماهك عن حكيم بن حزام سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله يأتيني الرجل يسألني البيع ليس عندي ما أبيعه منه ثم أبتاعه من السوق فقال: لا تبع ما ليس عندك.
وهذا أحسن أسانيد هذا الحديث وأما السلم فله حكمه ولا يصح إلا مؤجلاً وإذا جوزنا السلم الحال حمل الحديث أن بيع ما ليس عنده هو أن يبيعه شيئًا معينًا ويضمن خروجه من ملك ربه.



رقم الحديث 1380 وَحَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ مُوسَى بْنِ مَيْسَرَةَ، أَنَّهُ سَمِعَ رَجُلًا يَسْأَلُ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ فَقَالَ: إِنِّي رَجُلٌ أَبِيعُ بِالدَّيْنِ، فَقَالَ سَعِيدٌ: لَا تَبِعْ إِلَّا مَا آوَيْتَ إِلَى رَحْلِكَ قَالَ مَالِكٌ: فِي الَّذِي يَشْتَرِي السِّلْعَةَ مِنَ الرَّجُلِ عَلَى أَنْ يُوَفِّيَهُ تِلْكَ السِّلْعَةَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِمَّا لِسُوقٍ يَرْجُو نَفَاقَهَا فِيهِ وَإِمَّا لِحَاجَةٍ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ الَّذِي اشْتَرَطَ عَلَيْهِ ثُمَّ يُخْلِفُهُ الْبَائِعُ عَنْ ذَلِكَ الْأَجَلِ فَيُرِيدُ الْمُشْتَرِي رَدَّ تِلْكَ السِّلْعَةِ عَلَى الْبَائِعِ إِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ لِلْمُشْتَرِي وَإِنَّ الْبَيْعَ لَازِمٌ لَهُ وَإِنَّ الْبَائِعَ لَوْ جَاءَ بِتِلْكَ السِّلْعَةِ قَبْلَ مَحِلِّ الْأَجَلِ لَمْ يُكْرَهِ الْمُشْتَرِي عَلَى أَخْذِهَا، قَالَ مَالِكٌ: فِي الَّذِي يَشْتَرِي الطَّعَامَ فَيَكْتَالُهُ، ثُمَّ يَأْتِيهِ مَنْ يَشْتَرِيهِ مِنْهُ، فَيُخْبِرُ الَّذِي يَأْتِيهِ أَنَّهُ قَدِ اكْتَالَهُ لِنَفْسِهِ وَاسْتَوْفَاهُ، فَيُرِيدُ الْمُبْتَاعُ أَنْ يُصَدِّقَهُ، وَيَأْخُذَهُ بِكَيْلِهِ، إِنَّ مَا بِيعَ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ بِنَقْدٍ فَلَا بَأْسَ بِهِ، وَمَا بِيعَ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ إِلَى أَجَلٍ، فَإِنَّهُ مَكْرُوهٌ حَتَّى يَكْتَالَهُ الْمُشْتَرِي الْآخَرُ لِنَفْسِهِ، وَإِنَّمَا كُرِهَ الَّذِي إِلَى أَجَلٍ لِأَنَّهُ ذَرِيعَةٌ إِلَى الرِّبَا، وَتَخَوُّفٌ أَنْ يُدَارَ ذَلِكَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ بِغَيْرِ كَيْلٍ، وَلَا وَزْنٍ، فَإِنْ كَانَ إِلَى أَجَلٍ فَهُوَ مَكْرُوهٌ وَلَا اخْتِلَافَ فِيهِ عِنْدَنَا قَالَ مَالِكٌ: لَا يَنْبَغِي أَنْ يُشْتَرَى دَيْنٌ عَلَى رَجُلٍ غَائِبٍ، وَلَا حَاضِرٍ إِلَّا بِإِقْرَارٍ مِنِ الَّذِي عَلَيْهِ الدَّيْنُ، وَلَا عَلَى مَيِّتٍ، وَإِنْ عَلِمَ الَّذِي تَرَكَ الْمَيِّتُ، وَذَلِكَ أَنَّ اشْتِرَاءَ ذَلِكَ غَرَرٌ، لَا يُدْرَى أَيَتِمُّ أَمْ لَا يَتِمُّ؟ قَالَ: وَتَفْسِيرُ مَا كُرِهَ مِنْ ذَلِكَ، أَنَّهُ إِذَا اشْتَرَى دَيْنًا عَلَى غَائِبٍ، أَوْ مَيِّتٍ أَنَّهُ لَا يُدْرَى مَا يَلْحَقُ الْمَيِّتَ مِنَ الدَّيْنِ الَّذِي لَمْ يُعْلَمْ بِهِ، فَإِنْ لَحِقَ الْمَيِّتَ دَيْنٌ ذَهَبَ الثَّمَنُ الَّذِي أَعْطَى الْمُبْتَاعُ بَاطِلًا قَالَ مَالِكٌ: وَفِي ذَلِكَ أَيْضًا عَيْبٌ آخَرُ، أَنَّهُ اشْتَرَى شَيْئًا لَيْسَ بِمَضْمُونٍ لَهُ، وَإِنْ لَمْ يَتِمَّ ذَهَبَ ثَمَنُهُ بَاطِلًا فَهَذَا غَرَرٌ لَا يَصْلُحُ قَالَ مَالِكٌ: وَإِنَّمَا فُرِقَ بَيْنَ أَنْ لَا يَبِيعَ الرَّجُلُ إِلَّا مَا عِنْدَهُ، وَأَنْ يُسَلِّفَ الرَّجُلُ فِي شَيْءٍ لَيْسَ عِنْدَهُ أَصْلُهُ، أَنَّ صَاحِبَ الْعِينَةِ، إِنَّمَا يَحْمِلُ ذَهَبَهُ الَّتِي يُرِيدُ أَنْ يَبْتَاعَ بِهَا، فَيَقُولُ هَذِهِ عَشَرَةُ دَنَانِيرَ، فَمَا تُرِيدُ أَنْ أَشْتَرِيَ لَكَ بِهَا؟ فَكَأَنَّهُ يَبِيعُ عَشَرَةَ دَنَانِيرَ نَقْدًا، بِخَمْسَةَ عَشَرَ دِينَارًا إِلَى أَجَلٍ، فَلِهَذَا كُرِهَ هَذَا، وَإِنَّمَا تِلْكَ الدُّخْلَةُ وَالدُّلْسَةُ.


( مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال مطل الغني) القادر على أداء ما عليه ولو فقيرًا.
قال عياض: المطل منع قضاء ما استحق أداؤه، زاد القرطبي مع التمكن من ذلك وطلب صاحب الحق حقه.
والجمهور أنه مضاف للفاعل وبعضهم جعله مضافًا إلى المفعول وإن الغني هو الممطول.
عياض: وهو بعيد قال الأبي: وعليه فالتقدير أن يمطل بضم الياء.
فالمصدر مبني للمفعول وفي صحة بنائه كذلك خلاف في العربية انتهى.
والمعنى أنه يجب وفاء الدين وإن كان صاحبه غنيًا ولا يكون غناه سببًا لتأخيره عنه وإذا كان ذلك في حق الغني فالفقير أولى وأصل المطل المدّ تقول مطلت الحديدة أمطلها مطلاً، إذا مددتها لتطول، قاله ابن فارس وقال الأزهري المطل المدافعة ( ظلم) يحرم عليه قال القرطبي.
والظلم وضع الشيء في غير محله والماطل وضع المنع موضع القضاء انتهى.
وخرج بالغني المعسر فليس بظلم لأنه إنما فعل ما يجب من إنظاره قال سحنون وأصبغ: تردّ شهادة الماطل لأنه ظلم، وقال ابن عبد الحكم: لا ترد وفي الإكمال اختلف في أنه جرحة أو حتى يكون ذلك عادة.
وفي الفتح: لفظ مطل يشعر بتقدم الطلب فيؤخذ منه أن الغني لو أخر الدفع مع عدم طلب صاحبه الحق له لم يكن ظالمًا، وهو المشهور وقضية كونه ظلمًا أنه كبيرة لكن قال النووي مقتضى مذهبنا اعتبار تكراره، ورده السبكي بأن مقتضاه عدمه لأن منع الحق بعد طلبه وانتفاء العذر عن أدائه كالغصب والغصب كبيرة لا يشترط فيها التكرار وفيه الزجر عن المطل.

( وإذا أتبع) بضم الهمزة وسكون الفوقية وكسر الموحدة، مبنيًا للمفعول على المشهور رواية ولغة قاله النووي وعياض، وقول القرطبي عند الجميع مردود بقول الخطابي أكثر المحدثين يقولونه بتشديد التاء والصواب التخفيف.
وقال عياض شددها بعض المحدثين والوجه إسكانها يقال تبعت فلانًا بحقي أتبعه تباعة بالفتح إذا طلبته وأنا له تبيع بالتخفيف والمعنى إذا أحيل ( أحدكم) فضمن معنى أحيل فعدى بعلى في قوله ( على مليء) بالهمز، مأخوذ من الإملاء يقال ملؤ الرجل بضم اللام، أي صار مليئًا.
وقال الكرماني: ملي كغني لفظًا ومعنى، قال الحافظ فاقتضى أنه بغير همز وليس كذلك فقد قال: إنه في الأصل بالهمز ومن رواه بتركها فقد سهله انتهى.
وذكر غيره أن الرواية بالوجهين ( فليتبع) بإسكان الفوقية على المشهور رواية ولغة، ورواه بعضهم بشدها والأول أجود كما قاله القرطبي.
وقد رواه أحمد عن وكيع عن سفيان الثوري عن أبي الزناد بلفظ: إذا أحيل أحدكم على مليء فليحتمل: والبيهقي من طريق يعلى بن منصور عن ابن أبي الزناد عن أبيه وأشار إلى تفرد يعلى بذلك ولم ينفرد به كما ترى لكن الظاهر أنها بالمعنى، فقد رواه البخاري عن محمد بن يوسف عن الثوري بلفظ: الجادة، وابن ماجه عن ابن عمر بلفظ: إذا أحلت على مليء فاتبعه، وهذه بشد التاء خلاف، والأمر للاستحباب عند الجمهور.
ووهم من نقل فيه الإجماع وقيل: أمر إباحة وإرشاد وهو شاذ وحمله أكثر الحنابلة وأبو ثور وابن جرير، وأهل الظاهر على الوجوب.
وإليه مال البخاري وهو ظاهر الحديث، وأجاب الجمهور بأن الصارف له عنه إلى الندب أنه راجع لمصلحة دنيوية لما فيه من الإحسان إلى المحيل بتحصيل مقصوده من تحويل الحق عنه وترك تكليفه التحصيل والإحسان مستحب وبأن الصارف كونه أمرًا بعد نهي، وهو بيع الكالئ بالكالئ فيكون للإباحة أو الندب على المرجح في الأصول وإذا أتبع بالواو لأكثر رواة الموطأ فلا تعلق للجملة الثانية بالأولى.
وللتنيسي وغيره فإذا أتبع بالفاء ففيه إشعار بأن الأمر بقبول الحوالة معلل بكون مطل الغني ظلمًا.
قال ابن دقيق العيد: ولعل السبب فيه أنه إذا تقرّر أنه ظلم فالظاهر من حال المسلم الاحتراز عنه فيكون ذلك سببًا للأمر بقبول الحوالة عليه لأن به يحصل المقصود من غير ضرر المطل، ويحتمل أن يكون ذلك لأن المليء لا يتعذر استيفاء الحق منه إذا امتنع بل يأخذه الحاكم قهرًا عليه ويوفيه ففي قبول الحوالة عليه تحصيل الغرض من غير مفسدة في الحق قال: والمعنى الأول أرجح لما فيه من بقاء معنى التعليل بأن المطل ظلم، وعلى الثاني تكون العلة عدم وفاء الحق لا الظلم وقال غيره قد يدعي أن في كل منهما بقاء التعليل بأن المطل ظلم لأنه لا بد في كل منهما من حذف به يحصل الارتباط فيقدر في الأول: مطل الغني ظلم والمسلم في الظاهر يجتنبه فمن أتبع إلخ.
وفي الثاني: مطل الغني ظلم والظلم تزيله الحكام ولا تقره فمن أتبع على مليء فليتبع ولا يخشى من المطل انتهى والظلم حرام قليله وكثيره وأعظمه الشرك بالله قال تعالى { { إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } }

كن كيف شئت فإن الله ذو كرم
لا تجزعن فما في ذاك من باس

إلا اثنتان فلا تقربهما أبدًا
الشرك بالله والإضرار للناس

وقال تعالى { { وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا } } أي خاب من رحمة الله بحسب ما ارتكب من الظلم وقال { { وَمَن يَظْلِم مِّنكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا } } وفي الحديث القدسي: يا عبادي إني حرمت الظلم عليكم فلا تظالموا.
وقال صلى الله عليه وسلم لي الواجد يحل عرضه وعقوبته أي مطل الغني يبيح التظلم منه بأن يقال ظلمني ومطلني وعقوبته بالضرب والسجن ونحوهما إذا لدّ.
وأخرجه البخاري عن عبد الله بن يوسف ومسلم عن يحيى كلاهما عن مالك به ورواه بقية الستة.

( مالك عن موسى بن ميسرة أنه سمع رجلاً يسأل سعيد بن المسيب فقال إني رجل أبيع بالدين فقال سعيد لا تبع إلا ما آويت إلى رحلك) قال الباجي: لما علم أنه يداين الناس خاف عليه العينة للذريعة أن يبيع ما لم يملكه أو ما يشتريه بعد موافقة المبتاع منه على بيعه بثمن يتفقان عليه وربما يولي قبضه هذا المبتاع الأخير فيكون كأنه أسلفه ثمنه الذي ابتاعه به في ثمنه الذي باعه منه به وهو أكثر منه.

( قال مالك في الذي يشتري السلعة من الرجل على أن يوفيه تلك السلعة إلى أجل مسمى إما لسوق يرجو نفاقه) بفتح النون، أي رواجه ليربح في السلعة وفي نسخة نفاقها أي السلعة به ( وإما لحاجة) له بالسلعة ( في ذلك الزمان الذي اشترط عليه) أن يوفيها إياه فيه ( ثم يخلفه البائع عن ذلك الأجل فيريد المشتري رد تلك السلعة على البائع إن ذلك ليس للمشتري وإن البيع لازم له) لأنه بمنزلة الدين ( وإن البائع لو جاء بتلك السلعة قبل محل الأجل لم يكره) أي يجبر ( المشتري على أخذها) لأن له غرضًا في التأخير الذي وقع البيع عليه.

( قال مالك في الذي يشتري الطعام فيكتاله ثم يأتيه من يشتريه منه فيخبر) أي يعلم ( الذي يأتيه أنه قد اكتاله لنفسه واستوفاه) قبضه ( فيريد المبتاع أن يصدقه ويأخذه بكيله إن ما بيع على هذه الصفة بنقد) أي معجلاً ( فلا بأس به) أي يجوز ومثل الكيل الوزن ( وما بيع على هذه الصفة إلى أجل فإنه مكروه حتى يكتاله المشتري الآخر لنفسه) وفي الحديث من ابتاع طعامًا فلا يبعه حتى يكتاله ( وإنما كره الذي إلى أجل لأنه ذريعة) بذال معجمة وسيلة ( إلى الربا) يريد أنه لم يصدقه إلا من أجل الأجل فكأنه أخذ للأجل ثمنًا قاله أبو عمر ( وتخوف) بفوقية والرفع عطف على ذريعة ( أن يدار) من الإدارة ( ذلك على هذا الوجه بغير كيل ولا وزن) فيؤدي إلى تعداد البيع للطعام قبل القبض ( فإن كان إلى أجل فهو مكروه) أي ممنوع ( ولا اختلاف فيه عندنا) بالمدينة.

( قال مالك لا ينبغي أن يشترى دين على رجل غائب) إن لم يكن به بينة لأنه غرر كشراء الآبق ولعله ينكر فيبطل وإن نقد كان أشد لأنه يكون تارة بيعًا وتارة سلفًا قاله الباجي ( ولا حاضر إلا بإقرار من الذي عليه الدين ولا على ميت وإن علم الذي ترك الميت وذلك أن اشتراء ذلك غرر) لأنه ( لا يدرى أيتم أم لا يتم وتفسير ما كره من ذلك) أي بيان وإيضاح وجه الكراهة بمعنى المنع ( أنه إذا اشترى دينًا على غائب أو ميت أنه لا يدرى ما يلحق الميت من الدين الذي لم يعلم به فإن لحق الميت) أي كان عليه ( دين ذهب الثمن الذي أعطى المبتاع باطلاً) وقد نهي عن إضاعة المال ( وفي ذلك أيضًا عيب آخر أنه اشترى شيئًا ليس بمضمون له وإن لم يتم ذهب ثمنه باطلاً فهذا غرر لا يصلح) فهو بيع فاسد ( وإنما فرق بين أن لا يبيع الرجل إلا ما عنده) ويمنع بيع ما ليس عنده وبين ( وأن يسلف) أي يسلم ( الرجل في شيء ليس عنده) فيجوز ( أصله) أي بناؤه الذي بنى عليه ( أن صاحب العينة) بكسر العين وإسكان التحتية وبالنون ( إنما يحمل ذهبه التي يريد أن يبتاع بها فيقول هذه عشرة دنانير فما تريد أن أشتري لك بها فكأنه يبيع عشرة دنانير نقدًا بخمسة عشر دينارًا إلى أجل فلهذا كره هذا) سدًا للذريعة ( وإنما تلك الدخلة) مثلث الدال المهملة وسكون المعجمة، كما في القاموس أي النية إلى التوصل إلى الربا ( والدلسة) بضم الدال، التدليس قال الباجي: روى جعفر بن أبي وحشية عن يوسف بن ماهك عن حكيم بن حزام سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله يأتيني الرجل يسألني البيع ليس عندي ما أبيعه منه ثم أبتاعه من السوق فقال: لا تبع ما ليس عندك.
وهذا أحسن أسانيد هذا الحديث وأما السلم فله حكمه ولا يصح إلا مؤجلاً وإذا جوزنا السلم الحال حمل الحديث أن بيع ما ليس عنده هو أن يبيعه شيئًا معينًا ويضمن خروجه من ملك ربه.