فهرس الكتاب

شرح الزرقاني - بَابُ تَبْدِئَةِ أَهْلِ الدَّمِ فِي الْقَسَامَةِ

رقم الحديث 1604 حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ أَبِي لَيْلَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَهْلٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ، أَنَّهُ أَخْبَرَهُ رِجَالٌ مِنْ كُبَرَاءِ قَوْمِهِ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَهْلٍ وَمُحَيِّصَةَ خَرَجَا إِلَى خَيْبَرَ مِنْ جَهْدٍ أَصَابَهُمْ، فَأُتِيَ مُحَيِّصَةُ فَأُخْبِرَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَهْلٍ قَدْ قُتِلَ وَطُرِحَ فِي فَقِيرِ بِئْرٍ أَوْ عَيْنٍ، فَأَتَى يَهُودَ فَقَالَ: أَنْتُمْ وَاللَّهِ قَتَلْتُمُوهُ، فَقَالُوا: وَاللَّهِ مَا قَتَلْنَاهُ، فَأَقْبَلَ حَتَّى قَدِمَ عَلَى قَوْمِهِ، فَذَكَرَ لَهُمْ ذَلِكَ ثُمَّ أَقْبَلَ هُوَ وَأَخُوهُ حُوَيِّصَةُ وَهُوَ أَكْبَرُ مِنْهُ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ، فَذَهَبَ مُحَيِّصَةُ لِيَتَكَلَّمَ وَهُوَ الَّذِي كَانَ بِخَيْبَرَ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَبِّرْ كَبِّرْ،

( مالك عن أبي ليلى بن عبد الله بن عبد الرحمن بن سهل) الأنصاري المدني ويقال اسمه عبد الله تابعي صغير ثقة ( عن سهل) بفتح فسكون ( ابن أبي حثمة) بفتح المهملة وسكون المثلثة ابن ساعدة بن عامر الأنصاري الخزرجي المدني صحابي صغير ولد سنة ثلاث من الهجرة وله أحاديث مات في خلافة معاوية ( أنه أخبره رجال من كبراء) بضم ففتح أي عظماء ( قومه) قال في المقدمة هم محيصة وحويصة ابنا مسعود وعبد الله وعبد الرحمن ابنا سهل ( أن عبد الله بن سهل) بن زيد بن كعب الأنصاري الحارثي ( ومحيصة) بضم الميم وفتح الحاء المهملة وكسر التحتية الثقيلة على الأشهر وفتح الصاد المهملة ابن مسعود بن كعب الحارثي الأوسي أسلم قبل أخيه حويصة ( خرجا إلى خيبر) بعد فتحها وعند ابن إسحاق فخرج عبد الله بن سهل في أصحاب له يمتارون تمرًا ( من جهد) بفتح الجيم وسكون الهاء أي فقر شديد ( أصابهم) وفي مسلم خرجوا إلى خيبر في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي يومئذ صلح وأهلها يهود ( فأتي) بضم الهمزة وكسر التاء ( محيصة فأخبر) بضم الهمزة وكسر الموحدة ( أن عبد الله بن سهل قد قتل وطرح) بضم أولهما ( في فقير) بفتح الفاء فقاف مكسورة ( بئر أو عين) بالشك من الراوي وعند ابن إسحاق وجد في عين قد كسرت عنقه ثم طرح ( فأتى) محيصة ( يهود فقال) لهم ( أنتم والله قتلتموه) حلف لقرائن قامت عنده أو قيل له بخبر يوجب العلم ( فقالوا) مقابلة لليمين باليمين ( والله ما قتلناه) زاد في رواية ولا علمنا قاتلاً أي له ( فأقبل) محيصة ( حتى قدم على قومه) بني حارثة ( فذكر لهم ذلك ثم أقبل هو وأخوه حويصة) بضم المهملة وفتح الواو وكسر التحتية الثقيلة على الأشهر وتخفف وصاد مهملة ابن مسعود بن كعب الأوسي شهد أحدًا والخندق وسائر المشاهد ( وهو أكبر منه) أي من محيصة وعند ابن إسحاق أنه صلى الله عليه وسلم قال بعد قتل كعب بن الأشرف من ظفرتم به من اليهود فاقتلوه فوثب محيصة على تاجر يهودي فقتله فجعل حويصة يضربه وكان أسن منه وذلك قبل أن يسلم حويصة ( وعبد الرحمن بن سهل) بن زيد بن كعب الحارثي أخو المقتول ( فذهب محيصة ليتكلم وهو الذي كان بخيبر) وفي الرواية اللاحقة فذهب عبد الرحمن ليتكلم لمكانه من أخيه وجمع باحتمال أن كلا منهما أراد الكلام ( فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم كبر كبر) بالتكرير للتأكيد أي قدم الأكبر ( يريد السن) إرشادًا إلى الأدب في تقديم الأسن وفيه أن المشركين في معنى من معاني الدعوى وغيرها أولاهم ببدء الكلام أكبرهم فإذا سمع منه تكلم الأصغر فيسمع منه إن احتيج له فإن كان فيهم من له بيان ولتقديمه وجه فلا بأس بتقديمه وإن أصغر قاله ابن عبد البر وأخرج بسنده أنه قدم وفد من العراق على عمر بن عبد العزيز فنظر عمر إلى شاب منهم يريد الكلام فقال عمر كبروا كبروا فقال الفتى يا أمير المؤمنين إن الأمر ليس بالسن ولو كان كذلك لكان في المسلمين من هو أسن منك قال صدقت تكلم رحمك الله فقال إنا وفد شكر فذكر الخبر انتهى وحقيقة الدعوى إنما هي لعبد الرحمن أخي القتيل لا حق لابن عمه فيها فإنما أمر صلى الله عليه وسلم أن يتكلم الأكبر لأنه لم يكن المراد حينئذ الدعوى بل سماع صورة القصة وعند الدعوى يدعى المستحق أو المعنى أن الأكبر يكون وكيلاً له ( فتكلم حويصة) الذي هو أسن ( ثم تكلم محيصة) أخوه وفي رواية لمسلم فصمت أي عبد الرحمن وتكلم صاحباه ثم تكلم معهما فذكروا مقتل عبد الله بن سهل ( فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إما أن يدوا صاحبكم) بفتح التحتية وخفة الدال المهملة أي يعطوا أي اليهود دية صاحبكم ( وإما أن يؤذنوا) يعلموا ( بحرب) تهديد وتشديد إذ لا قدرة لهم على حربه صلى الله عليه وسلم مع ما هم فيه من غاية الذلة ( فكتب إليهم) أي أمر بالكتب إلى اليهود ( في ذلك) الخبر الذي نقل إليه ( فكتبوا) اليهود ( إنا والله ما قتلناه) زاد في رواية ولا علمنا قاتله ( فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لحويصة ومحيصة وعبد الرحمن أتحلفون) بهمزة الاستفهام ( وتستحقون دم صاحبكم) أي بدل دم صاحبكم ففيه حذف مضاف أو معنى صاحبكم غريمكم فلا حاجة إلى تقدير والجملة فيها معنى التعليل لأن المعنى أتحلفون لتستحقوا وقد جاءت الواو بمعنى التعليل في قوله تعالى { { أو يوبقهن بما كسبوا ويعفو عن كثير } } المعنى ليعفو وفي عرض اليمين على الثلاثة حجة قوية لقول مالك ومن وافقه أنه لا يحلف في العمد أقل من رجلين عصبة وأن لولي الدم وهو هنا الأخ الاستعانة بعاصبه ( قالوا لا) نحلف وفي الرواية اللاحقة لم نشهد ولم نحضر ( قال أفتحلف لكم يهود) خمسين يمينًا أنهم ما قتلوه ( قالوا ليسوا بمسلمين) وفي اللاحقة كيف نقبل أيمان قوم كفار وفي رواية قالوا لا نرضى بأيمان اليهود وفي أخرى ما يبالون أن يقتلون أجمعين ثم يحلفون ( فوداه) بخفة الدال المهملة بلا همز أعطى ديته ( رسول الله صلى الله عليه وسلم من عنده) وفي رواية للبخاري ومسلم فوداه مائة من إبل الصدقة وجمع باحتمال أنه اشتراها من إبل الصدقة ودفع المال الذي اشتراها به من عنده أو من بيت المال المرصد للمصالح لما في ذلك من مصلحة قطع النزاع وإصلاح ذات البين وجبرًا لخاطرهم وإلا فاستحقاقهم لم يثبت وحكى عياض عن بعضهم تجويز صرف الزكاة في المصالح العامة وتأول الحديث عليه وقال في المفهم رواية من عنده أصح من رواية من إبل الصدقة وقد قيل إنها غلط والأولى أن لا يغلط الراوي ما أمكن فيحتمل أنه صلى الله عليه وسلم تسلف ذلك من إبل الصدقة ليدفعه من مال الفيء ( فبعث إليهم بمائة ناقة حتى أدخلت) النوق ( عليهم الدار قال سهل) بن أبي حثمة ( لقد ركضتني) أي رفستني برجلها ( منها ناقة حمراء) ولابن إسحاق فوالله ما أنسى ناقة بكرة منها حمراء ضربتني وأنا أحوزها وفي رواية للبخاري فأدركت ناقة من تلك الإبل فدخلت مربدًا لهم فركضتني برجلها وقال ذلك ليبين ضبطه للحديث ضبطًا شافيًا بليغًا وفيه مشروعية القسامة وبه أخذ كافة الأئمة والسلف من الصحابة والتابعين وعلماء الأمة كمالك والشافعي في أحد قوليه وأحمد وعن طائفة التوقف فيها فلم يروا القسامة ولا أثبتوا لها في الشرع حكمًا وهذا الحديث رواه البخاري في الأحكام عن عبد الله بن يوسف وإسماعيل ومسلم من طريق بشر بن عمر والنسائي من طريق ابن وهب الأربعة عن مالك به وله طرق في الصحيحين والسنن ( قال مالك الفقير) بفاء ثم قاف بلفظ الفقير من بني آدم ( هو البئر) القريبة القعر الواسعة الفم وقيل الحفرة التي تكون حول النخل ( مالك عن يحيى بن سعيد) بن قيس بن عمرو الأنصاري ( عن بشير) بضم الموحدة وفتح الشين المعجمة ( ابن يسار) بفتح التحتية والسين المهملة الخفيفة المدني الحارثي مولى الأنصار التابعي الثقة ( أنه أخبره) قال أبو عمر لم يختلف على مالك في إرسال هذا الحديث انتهى وهو موصول في الصحيحين وغيرهما من طريق بشر بن المفضل وحماد بن زيد وسفيان بن عيينة والليث بن سعد وعبد الوهاب الثقفي كلهم عن يحيى بن سعيد عن بشير عن سهل بن أبي حثمة زاد حماد عن يحيى عن بشير ورافع بن خديج وقال الليث عن يحيى حسبت أنه قال مع سهل ورافع بن خديج ( أن عبد الله بن سهل الأنصاري ومحيصة بن مسعود خرجا إلى خيبر) في أصحاب لهما يمتارون تمرا زاد في رواية بشر بن المفضل وهي يومئذ صلح والمراد بعد فتحها ( فتفرقا في حوائجهما) وفي رواية حماد فتفرقا في النخل ( فقتل عبد الله بن سهل) وفي رواية ابن المفضل فأتى محيصة إلى عبد الله بن سهل وهو ينشط في دمه قتيلاً فدفنه ( فقدم محيصة) المدينة ( فأتى هو وأخوه حويصة) ابنا مسعود ( وعبد الرحمن بن سهل) أخو المقتول ( إلى النبي صلى الله عليه وسلم) ليخبروه بذلك ( فذهب عبد الرحمن ليتكلم لمكانه من أخيه) وفي رواية حماد فتكلموا في أمر صاحبهم فبدأ عبد الرحمن وكان أصغر القوم ( فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم كبر كبر) بالجزم أمر وكرره للمبالغة أي قدم الأسن يتكلم وفي رواية حماد فقال الكبر الكبر بهمزة وصل وضم الكاف وتسكين الموحدة جمع الأكبر والنصب على الإغراء يعني كما قال يحيى بن سعيد ليلي الكلام الأكبر وزاد ابن المفضل فسكت ( فتكلم حويصة ومحيصة) بشد الياء فيهما على أشهر اللغتين ( فذكرا شأن عبد الله بن سهل) أي أخبراه بقصة قتله وفي رواية الليث فصمت أي عبد الرحمن وتكلم صاحباه ثم تكلم معهما فذكروا لرسول الله صلى الله عليه وسلم مقتل عبد الله بن سهل ( فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أتحلفون) بهمز الاستفهام ( خمسين يمينًا وتستحقون دم صاحبكم أو) قال دم ( قاتلكم) أي قاتل قريبكم فشك الراوي قال النووي المعنى يثبت حقكم على من تحلفون عليه وذلك الحق أعم من أن يكون قصاصًا أو دية انتهى وهذا تأويل بعيد متعسف حمله عليه نصرة مشهور مذهبه أنه لا قصاص بالقسامة في عمد ولا خطأ إنما فيها الدية على الجاني في العمد وعاقلته في الخطأ والمتبادر من ذكر الدم القصاص والتبادر آية الحقيقة ويؤيده أنه صلى الله عليه وسلم قتل بالقسامة رجلاً من بني نصر بن مالك رواه أبو داود ( قالوا يا رسول الله لم نشهد) قتله ( ولم نحضره) وفي رواية ابن المفضل وكيف نحلف ولم نشهد ولم نر ووقع في الصحيح من رواية سعيد بن عبيد عن بشير بن يسار فقال تأتون بالبينة على من قتله قالوا ما لنا بينة وفي النسائي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده فقال صلى الله عليه وسلم أقم شاهدين على قاتله أدفعه إليك برمته فقال إني لم أصب شاهدين وإنما أصبح قتيلاً على أبوابهم قال أبو عمر هذه رواية أهل العراق بشير بن يسار ورواية أهل المدينة عنه أثبت وهم به أقعد ونقلهم أصح عند العلماء وقد حكى الأثرم عن أحمد أنه ضعف رواية سعيد بن عبيد عن بشير وقال الصحيح عنه ما رواه يحيى بن سعيد وإليه أذهب وقال بعضهم ذكر البينة وهم لأنه صلى الله عليه وسلم قد علم أن خيبر حينئذ لم يكن بها أحد من المسلمين وأجيب بأنه وإن سلم أنه لم يسكن مع اليهود فيها من المسلمين أحد لكن في القصة أن جماعة من المسلمين خرجوا يمتارون تمرا فيجوز أن طائفة أخرى خرجت بمثل ذلك ويحتمل أنه صلى الله عليه وسلم طلب البينة أولاً فلم تكن لهم بينة فعرض عليهم الأيمان فامتنعوا فعرض عليهم تحليف المدعى عليهم ( فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فتبرئكم) بسكون الموحدة أي تبرأ إليكم من دعواكم ( يهود) بالرفع ممنوع من الصرف للعلمية والتأنيث على إرادة اسم القبيلة والطائفة وضبط أيضًا فتبريكم بفتح الموحدة وشد الراء مكسورة أي يخلصونكم من الأيمان ( بخمسين) يمينًا يحلفونها ( فقالوا يا رسول الله كيف نقبل أيمان قوم كفار) وفي رواية ابن إسحاق فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم تسمون قاتلكم ثم تحلفون عليه خمسين يمينًا فليسلم إليكم فقالوا يا رسول الله ما كنا لنحلف على ما لا نعلم قال فيحلفون لكم بالله خمسين يمينًا ما قتلوه ولا يعلمون له قاتلاً ثم يبرؤن من دمه قالوا ما كنا لنقبل أيمان اليهود ما فيهم من الكفر أعظم من أن يحلفوا على إثم وفي رواية في الصحيحين فكره صلى الله عليه وسلم أن يبطل دمه ( قال يحيى بن سعيد فزعم) أي قال من إطلاق الزعم على القول الثابت كخبر زعم جبريل ( بشير بن يسار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وداه) بفتح الواو والدال المهملة الخفيفة أي أعطاهم ديته ( من عنده) من خالص ماله أو من بيت المال لأنه عاقلة المسلمين وولي أمرهم وفي رواية حماد قال سهل فأدركت ناقة من تلك الإبل قد دخلت مربدا لهم فركضتني برجلها وفيه أن حكم القسامة مخالف لسائر الدعاوى من جهة أن اليمين على المدعي وأنها خمسون يمينًا وهو يخص قوله صلى الله عليه وسلم البينة على المدعي واليمين على من أنكر فكأنه قال بدليل هذا الحديث إلا في القسامة ولا فرق بين أن يجيء ذلك في حديث واحد أو حديثين لأن ذلك كله سنته صلى الله عليه وسلم على أنه جاء البينة على المدعي واليمين على من أنكر إلا في القسامة وإن كان في إسناده لين فقد عضده الآثار المتواترة في حديث الباب لكن هذا موضع اختلف فيه العلماء كما أشار له الإمام حيث ( قال مالك الأمر المجتمع عليه عندنا والذي سمعت ممن أرضى) من العلماء ( في القسامة والذي اجتمعت عليه الأئمة في القديم والحديث) وخبر المبتدأ قوله ( أن يبدأ بالأيمان المدعون في القسامة فيحلفون) فإن نكلوا ردت على المدعى عليهم فإن حلفوا برئوا وبطل الدم فإن أبوا فيأتي تفصيله ( وأن القسامة لا تجب) أي تثبت لولي الدم ( إلا بأحد أمرين إما أن يقول المقتول) قبل موته ( دمي عند فلان أو يأتي ولاة الدم بلوث) بفتح اللام آخره مثلثة ( من بينة وإن لم تكن قاطعة على الذي يدعى عليه الدم) بيان للوث والواو للحال قال الأزهري اللوث البينة الضعيفة غير الكاملة ( فهذا يوجب) يثبت ( القسامة للمدعين الدم على من ادعوه عليه ولا تجب القسامة عندنا إلا بأحد هذين الوجهين) أعاده تأكيدًا قال أبو عمر إنما جعل مالك قوله دمي عند فلان شبهة ولطخا لأن المعروف من طبع الناس عند حضور الموت الإنابة والتوبة والندم على ما سلف من العمل السيئ ألا ترى إلى قوله تعالى { { لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين } } وقوله { { حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن } } فهذه معهودة من طبع الإنسان ولا يعلم من عادته أن يدع قاتله ويعدل إلى غيره وما خرج عن هذا نادر في الناس لا حكم له ( قال مالك وتلك السنة التي لا اختلاف فيها عندنا والذي لم يزل عليه عمل الناس أن المبدئين بالقسامة أهل الدم والذين يدعونه في العمد والخطأ) عطف تفسير لأهل الدم وأعاد ذلك وإن قدمه قريبًا لزيادة قوله في العمد والخطأ وللاحتجاج له بقوله ( وقد بدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم الحارثيين) نسبة إلى حارثة بمثلثة بطن من الأوس يعني المذكورين في الحديث السابق من طريقيه ( في قتل صاحبهم الذي قتل بخيبر) وهو عبد الله بن سهل وإلى هذا ذهب الجمهور وأحمد والشافعي في أحد قوليه قال ابن عبد البر ومن حجتهم أيضًا قوله تعالى { { ولكم في القصاص حياة } } وقوله { { لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود } } فللعداوة التي بينهم وبين الأنصار بدأهم بالأيمان وجعل العداوة سببًا تقوى بها دعواهم لأنه لطخ يليق بهم غالبًا لعداوتهم ومن سنته صلى الله عليه وسلم أن من قوي سببه في دعواه وجبت تبدئته باليمين ولهذا جاء اليمين مع الشاهد مع ما في هذا من قطع التطرق إلى سفك الدماء وقبض أيدي الأعداء على إراقة دماء من عادوه على الدنيا وقال جمهور أهل العراق وأبو حنيفة وأصحابه وجماعة يبدأ المدعى عليهم بالحلف لعموم حديث البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه وعارضوا أحاديث الباب بما رواه أبو داود من طريق الزهري عن أبي سلمة وسليمان بن يسار عن رجال من الأنصار أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ليهود وبدأ بهم أيحلف منكم خمسون رجلاً فأبوا فقال للأنصار أتحلفون فقالوا نحلف على الغيب فجعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم على اليهود لأنه وجد بين أظهرهم والجواب أن رواية الجماعة مالك ومن تابعه عن يحيى بن سعيد وغيره أصح وقد روى الزهري نفسه هذه وهذه وقضى بما في حديث سهل فدل على أن ذلك عنده الأثبت والأولى ولا حجة لهم فيما رواه أبو داود أيضًا عن عبد الرحمن بن بجيد قال والله ما كان الشأن هكذا ولكن سهلا هم ما قال صلى الله عليه وسلم احلفوا على ما لا علم لكم به ولكنه كتب إلى يهود حين كلمته الأنصار أنه قد وجد قتيل بين أبياتكم فدوه فكتبوا إليه يحلفون ما قتلوه ولا يعلمون له قاتلا فوداه من عنده لأن قول عبد الرحمن لا يرد قول سهل المخبر عما شاهد حتى ركضته منها ناقة وعبد الرحمن تابعي لم يره صلى الله عليه وسلم ولا شهد القصة وحديثه مرسل ومن أنكر شيئًا ليس بحجة على من أثبته انتهى ملخصًا ( قال مالك فإن حلف المدعون استحقوا دم صاحبهم وقتلوا من حلفوا عليه) في العمد ( ولا يقتل في القسامة إلا واحد لا يقتل فيه اثنان) لرواية أبي داود من طريق حماد بن زيد عن يحيى بن سعيد بسنده في الحديث السابق فقال صلى الله عليه وسلم يقسم منكم خمسون على رجل فيدفع لكم برمته وكذلك في حديث الزهري عن سهل بن أبي حثمة تسمون قاتلكم ثم تحلفون عليه خمسين يمينًا فيسلم إليكم فهذا دليل واضح لقول مالك وأصحابه إنما يقتل بالقسامة واحد لأنه أمرهم بتعيين رجل يقسمون عليه فيدفع إليهم برمته ومن جهة النظر أن الواحد أولى من يتيقن أنه قتله فوجب أن يقتصر بالقسامة عليه قاله أبو عمر ( يحلف من ولاة الدم خمسون رجلاً خمسين يمينًا) كل رجل يمينًا ( فإن قتل عددهم ونكل بعضهم ردت الأيمان عليهم) أي على المدعين الأقل من خمسين أو الذين حلفوا ونكل بعضهم ( إلا أن ينكل أحد من ولاة المقتول ولاة الدم) بالخفض بدل بعض من كل ( الذين يجوز لهم العفو عنه) كابن مع أخ ( فإن نكل أحد من أولئك فلا سبيل إلى الدم إذا نكل أحد منهم) لسقوطه بنكوله كما لو عفا ( وإنما ترد الأيمان على من بقي منهم إذا نكل أحد ممن لا يجوز له عفو) لوجود من هو أقرب منه فينزل نكوله كالعدم وترد على غيره ممن حلف ( فإن نكل أحد من ولاة الدم الذين يجوز لهم العفو عن الدم وإن كان واحدًا فإن الأيمان لا ترد على من بقي من ولاة الدم إذا نكل أحد منهم عن الأيمان ولكن الأيمان إذا كان) وجد ( ذلك) أي نكول بعض ولاة الدم ( ترد على المدعى عليهم فيحلف منهم خمسون رجلاً خمسين يمينًا) كما في بعض طرق الحديث السابق عند البخاري وغيره فتبرئكم يهود بأيمان خمسين منهم ( فإن لم يبلغوا خمسين رجلاً ردت الأيمان على من حلف منهم) حتى تكمل الخمسين يمينًا ( فإن لم يوجد أحد إلا الذي ادعي عليه) الدم ( حلف هو خمسين يمينًا وبرئ من ذلك قال مالك وإنما فرق بين القسامة في الدم) في أن أيمانها خمسون من المدعين ( و) بين ( الأيمان في الحقوق) فاكتفى فيها بيمين واحدة من المدعى عليه حيث لا بينة ( أن الرجل إذا داين الرجل استثبت عليه في حقه) بالإشهاد عليه أو الرهن أو الضامن ( وإن الرجل إذا أراد قتل الرجل لم يقتله في جماعة من الناس وإنما يلتمس) يطلب ( الخلوة) حتى لا يراه أحد يشهد عليه ( فلو لم تكن القسامة إلا فيما تثبت فيه البينة ولو عمل فيها كما يعمل في الحقوق) المالية من البينة أو يمين المطلوب ( هلكت الدماء) ضاعت ( واجترأ) بالهمز أسرع وهجم ( الناس عليها إذا عرفوا القضاء فيها ولكن إنما جعلت القسامة إلى ولاة المقتول يبدؤون فيها) بالحلف فإن نكلوا ردت على المدعى عليه ( ليكف الناس عن الدم وليحذر القاتل أن يؤخذ في مثل ذلك بقول المقتول) دمي عند فلان وأقسام أوليائه ( وقال مالك في القوم يكون لهم العدد يتهمون بالدم فترد ولاة المقتول الأيمان عليهم وهم نفر لهم عدد أنه يحلف كل إنسان منهم عن نفسه خمسين يمينًا ولا تقطع الأيمان عليهم بقدر عددهم ولا يبرؤن) يخلصون ( دون أن يحلف كل إنسان منهم عن نفسه خمسين يمينًا وهذا أحسن ما سمعت في ذلك) يقتضي أنه سمع غيره ( والقسامة تصير إلى عصبة المقتول وهم ولاة الدم الذين يقسمون عليه والذين يقتل بقسامتهم) قال أبو عمر من حجة مالك والشافعي في أحد قوليه ومن وافقهما في وجوب القول بالقسامة مع الأحاديث المتقدمة ما رواه أبو داود عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل بالقسامة رجلاً من بني نصر بن مالك وروي عن عمر بن عبد العزيز وعبد الله بن الزبير أنهما قضيا بذلك وحسبك بقول مالك أنه الذي لم يزل عليه علماء المدينة قديمًا وحديثًا.


رقم الحديث 1605 قَالَ يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ بُشَيْرِ بْنِ يَسَارٍ، أَنَّهُ أَخْبَرَهُ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَهْلٍ الْأَنْصَارِيَّ، وَمُحَيِّصَةَ بْنَ مَسْعُودٍ خَرَجَا إِلَى خَيْبَرَ فَتَفَرَّقَا فِي حَوَائِجِهِمَا، فَقُتِلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَهْلٍ، فَقَدِمَ مُحَيِّصَةُ، فَأَتَى هُوَ وَأَخُوهُ حُوَيِّصَةُ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَهْلٍ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَذَهَبَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ لِيَتَكَلَّمَ لِمَكَانِهِ مِنْ أَخِيهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَبِّرْ كَبِّرْ، فَتَكَلَّمَ حُوَيِّصَةُ وَمُحَيِّصَةُ فَذَكَرَا شَأْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَهْلٍ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَتَحْلِفُونَ خَمْسِينَ يَمِينًا، وَتَسْتَحِقُّونَ دَمَ صَاحِبِكُمْ أَوْ قَاتِلِكُمْ؟ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَمْ نَشْهَدْ، وَلَمْ نَحْضُرْ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَتُبْرِئُكُمْ يَهُودُ بِخَمْسِينَ يَمِينًا، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ نَقْبَلُ أَيْمَانَ قَوْمٍ كُفَّارٍ؟ قَالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ: فَزَعَمَ بُشَيْرُ بْنُ يَسَارٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدَاهُ مِنْ عِنْدِهِ قَالَ مَالِكٌ: الْأَمْرُ الْمُجْتَمَعُ عَلَيْهِ عِنْدَنَا، وَالَّذِي سَمِعْتُ مِمَّنْ أَرْضَى فِي الْقَسَامَةِ، وَالَّذِي اجْتَمَعَتْ عَلَيْهِ الْأَئِمَّةُ فِي الْقَدِيمِ وَالْحَدِيثِ، أَنْ يَبْدَأَ بِالْأَيْمَانِ الْمُدَّعُونَ فِي الْقَسَامَةِ فَيَحْلِفُونَ، وَأَنَّ الْقَسَامَةَ لَا تَجِبُ إِلَّا بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ، إِمَّا أَنْ يَقُولَ الْمَقْتُولُ: دَمِي عِنْدَ فُلَانٍ، أَوْ يَأْتِيَ وُلَاةُ الدَّمِ بِلَوْثٍ مِنْ بَيِّنَةٍ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ قَاطِعَةً عَلَى الَّذِي يُدَّعَى عَلَيْهِ الدَّمُ، فَهَذَا يُوجِبُ الْقَسَامَةَ لِلْمُدَّعِينَ الدَّمَ عَلَى مَنِ ادَّعَوْهُ عَلَيْهِ، وَلَا تَجِبُ الْقَسَامَةُ عِنْدَنَا إِلَّا بِأَحَدِ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ قَالَ مَالِكٌ: وَتِلْكَ السُّنَّةُ الَّتِي لَا اخْتِلَافَ فِيهَا عِنْدَنَا، وَالَّذِي لَمْ يَزَلْ عَلَيْهِ عَمَلُ النَّاسِ، أَنَّ الْمُبَدَّئِينَ بِالْقَسَامَةِ أَهْلُ الدَّمِ، وَالَّذِينَ يَدَّعُونَهُ فِي الْعَمْدِ وَالْخَطَإِ قالَ مَالِكٌ: وَقَدْ بَدَّأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحَارِثِيِّينَ فِي قَتْلِ صَاحِبِهِمِ الَّذِي قُتِلَ بِخَيْبَرَ قَالَ مَالِكٌ: فَإِنْ حَلَفَ الْمُدَّعُونَ اسْتَحَقُّوا دَمَ صَاحِبِهِمْ، وَقَتَلُوا مَنْ حَلَفُوا عَلَيْهِ، وَلَا يُقْتَلُ فِي الْقَسَامَةِ إِلَّا وَاحِدٌ، لَا يُقْتَلُ فِيهَا اثْنَانِ، يَحْلِفُ مِنْ وُلَاةِ الدَّمِ خَمْسُونَ رَجُلًا خَمْسِينَ يَمِينًا، فَإِنْ قَلَّ عَدَدُهُمْ أَوْ نَكَلَ بَعْضُهُمْ، رُدَّتِ الْأَيْمَانُ عَلَيْهِمْ، إِلَّا أَنْ يَنْكُلَ أَحَدٌ مِنْ وُلَاةِ الْمَقْتُولِ، وُلَاةِ الدَّمِ الَّذِينَ يَجُوزُ لَهُمُ الْعَفْوُ عَنْهُ، فَإِنْ نَكَلَ أَحَدٌ مِنْ أُولَئِكَ، فَلَا سَبِيلَ إِلَى الدَّمِ إِذَا نَكَلَ أَحَدٌ مِنْهُمْ قَالَ يَحْيَى: قَالَ مَالِكٌ: وَإِنَّمَا تُرَدُّ الْأَيْمَانُ عَلَى مَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ إِذَا نَكَلَ أَحَدٌ مِمَّنْ لَا يَجُوزُ لَهُ عَفْوٌ، فَإِنْ نَكَلَ أَحَدٌ مِنْ وُلَاةِ الدَّمِ الَّذِينَ يَجُوزُ لَهُمُ الْعَفْوُ عَنِ الدَّمِ، وَإِنْ كَانَ وَاحِدًا، فَإِنَّ الْأَيْمَانَ لَا تُرَدُّ عَلَى مَنْ بَقِيَ مِنْ وُلَاةِ الدَّمِ، إِذَا نَكَلَ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَنِ الْأَيْمَانِ، وَلَكِنِ الْأَيْمَانُ إِذَا كَانَ ذَلِكَ تُرَدُّ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِمْ، فَيَحْلِفُ مِنْهُمْ خَمْسُونَ رَجُلًا خَمْسِينَ يَمِينًا، فَإِنْ لَمْ يَبْلُغُوا خَمْسِينَ رَجُلًا رُدَّتِ الْأَيْمَانُ عَلَى مَنْ حَلَفَ مِنْهُمْ، فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ أَحَدٌ يَحْلِفُ إِلَّا الَّذِي ادُّعِيَ عَلَيْهِ حَلَفَ هُوَ خَمْسِينَ يَمِينًا وَبَرِئَ قَالَ يَحْيَى: قَالَ مَالِكٌ: وَإِنَّمَا فُرِقَ بَيْنَ الْقَسَامَةِ فِي الدَّمِ وَالْأَيْمَانِ فِي الْحُقُوقِ، أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا دَايَنَ الرَّجُلَ اسْتَثْبَتَ عَلَيْهِ فِي حَقِّهِ، وَأَنَّ الرَّجُلَ إِذَا أَرَادَ قَتْلَ الرَّجُلِ لَمْ يَقْتُلْهُ فِي جَمَاعَةٍ مِنَ النَّاسِ، وَإِنَّمَا يَلْتَمِسُ الْخَلْوَةَ، قَالَ: فَلَوْ لَمْ تَكُنِ الْقَسَامَةُ إِلَّا فِيمَا تَثْبُتُ فِيهِ الْبَيِّنَةُ، وَلَوْ عُمِلَ فِيهَا كَمَا يُعْمَلُ فِي الْحُقُوقِ هَلَكَتِ الدِّمَاءُ، وَاجْتَرَأَ النَّاسُ عَلَيْهَا إِذَا عَرَفُوا الْقَضَاءَ فِيهَا، وَلَكِنْ إِنَّمَا جُعِلَتِ الْقَسَامَةُ إِلَى وُلَاةِ الْمَقْتُولِ، يُبَدَّءُونَ بِهَا فِيهَا، لِيَكُفَّ النَّاسُ عَنِ الدَّمِ، وَلِيَحْذَرَ الْقَاتِلُ أَنْ يُؤْخَذَ فِي مِثْلِ ذَلِكَ بِقَوْلِ الْمَقْتُولِ قَالَ يَحْيَى: وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ: فِي الْقَوْمِ يَكُونُ لَهُمُ الْعَدَدُ يُتَّهَمُونَ بِالدَّمِ فَيَرُدُّ وُلَاةُ الْمَقْتُولِ الْأَيْمَانَ عَلَيْهِمْ، وَهُمْ نَفَرٌ لَهُمْ عَدَدٌ أَنَّهُ يَحْلِفُ كُلُّ إِنْسَانٍ مِنْهُمْ عَنْ نَفْسِهِ خَمْسِينَ يَمِينًا، وَلَا تُقْطَعُ الْأَيْمَانُ عَلَيْهِمْ بِقَدْرِ عَدَدِهِمْ، وَلَا يَبْرَءُونَ دُونَ أَنْ يَحْلِفَ كُلُّ إِنْسَانٍ عَنْ نَفْسِهِ خَمْسِينَ يَمِينًا.
قَالَ مَالِكٌ: وَهَذَا أَحْسَنُ مَا سَمِعْتُ فِي ذَلِكَ، قَالَ: وَالْقَسَامَةُ تَصِيرُ إِلَى عَصَبَةِ الْمَقْتُولِ، وَهُمْ وُلَاةُ الدَّمِ الَّذِينَ يَقْسِمُونَ عَلَيْهِ وَالَّذِينَ يُقْتَلُ بِقَسَامَتِهِمْ.


( مالك عن أبي ليلى بن عبد الله بن عبد الرحمن بن سهل) الأنصاري المدني ويقال اسمه عبد الله تابعي صغير ثقة ( عن سهل) بفتح فسكون ( ابن أبي حثمة) بفتح المهملة وسكون المثلثة ابن ساعدة بن عامر الأنصاري الخزرجي المدني صحابي صغير ولد سنة ثلاث من الهجرة وله أحاديث مات في خلافة معاوية ( أنه أخبره رجال من كبراء) بضم ففتح أي عظماء ( قومه) قال في المقدمة هم محيصة وحويصة ابنا مسعود وعبد الله وعبد الرحمن ابنا سهل ( أن عبد الله بن سهل) بن زيد بن كعب الأنصاري الحارثي ( ومحيصة) بضم الميم وفتح الحاء المهملة وكسر التحتية الثقيلة على الأشهر وفتح الصاد المهملة ابن مسعود بن كعب الحارثي الأوسي أسلم قبل أخيه حويصة ( خرجا إلى خيبر) بعد فتحها وعند ابن إسحاق فخرج عبد الله بن سهل في أصحاب له يمتارون تمرًا ( من جهد) بفتح الجيم وسكون الهاء أي فقر شديد ( أصابهم) وفي مسلم خرجوا إلى خيبر في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي يومئذ صلح وأهلها يهود ( فأتي) بضم الهمزة وكسر التاء ( محيصة فأخبر) بضم الهمزة وكسر الموحدة ( أن عبد الله بن سهل قد قتل وطرح) بضم أولهما ( في فقير) بفتح الفاء فقاف مكسورة ( بئر أو عين) بالشك من الراوي وعند ابن إسحاق وجد في عين قد كسرت عنقه ثم طرح ( فأتى) محيصة ( يهود فقال) لهم ( أنتم والله قتلتموه) حلف لقرائن قامت عنده أو قيل له بخبر يوجب العلم ( فقالوا) مقابلة لليمين باليمين ( والله ما قتلناه) زاد في رواية ولا علمنا قاتلاً أي له ( فأقبل) محيصة ( حتى قدم على قومه) بني حارثة ( فذكر لهم ذلك ثم أقبل هو وأخوه حويصة) بضم المهملة وفتح الواو وكسر التحتية الثقيلة على الأشهر وتخفف وصاد مهملة ابن مسعود بن كعب الأوسي شهد أحدًا والخندق وسائر المشاهد ( وهو أكبر منه) أي من محيصة وعند ابن إسحاق أنه صلى الله عليه وسلم قال بعد قتل كعب بن الأشرف من ظفرتم به من اليهود فاقتلوه فوثب محيصة على تاجر يهودي فقتله فجعل حويصة يضربه وكان أسن منه وذلك قبل أن يسلم حويصة ( وعبد الرحمن بن سهل) بن زيد بن كعب الحارثي أخو المقتول ( فذهب محيصة ليتكلم وهو الذي كان بخيبر) وفي الرواية اللاحقة فذهب عبد الرحمن ليتكلم لمكانه من أخيه وجمع باحتمال أن كلا منهما أراد الكلام ( فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم كبر كبر) بالتكرير للتأكيد أي قدم الأكبر ( يريد السن) إرشادًا إلى الأدب في تقديم الأسن وفيه أن المشركين في معنى من معاني الدعوى وغيرها أولاهم ببدء الكلام أكبرهم فإذا سمع منه تكلم الأصغر فيسمع منه إن احتيج له فإن كان فيهم من له بيان ولتقديمه وجه فلا بأس بتقديمه وإن أصغر قاله ابن عبد البر وأخرج بسنده أنه قدم وفد من العراق على عمر بن عبد العزيز فنظر عمر إلى شاب منهم يريد الكلام فقال عمر كبروا كبروا فقال الفتى يا أمير المؤمنين إن الأمر ليس بالسن ولو كان كذلك لكان في المسلمين من هو أسن منك قال صدقت تكلم رحمك الله فقال إنا وفد شكر فذكر الخبر انتهى وحقيقة الدعوى إنما هي لعبد الرحمن أخي القتيل لا حق لابن عمه فيها فإنما أمر صلى الله عليه وسلم أن يتكلم الأكبر لأنه لم يكن المراد حينئذ الدعوى بل سماع صورة القصة وعند الدعوى يدعى المستحق أو المعنى أن الأكبر يكون وكيلاً له ( فتكلم حويصة) الذي هو أسن ( ثم تكلم محيصة) أخوه وفي رواية لمسلم فصمت أي عبد الرحمن وتكلم صاحباه ثم تكلم معهما فذكروا مقتل عبد الله بن سهل ( فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إما أن يدوا صاحبكم) بفتح التحتية وخفة الدال المهملة أي يعطوا أي اليهود دية صاحبكم ( وإما أن يؤذنوا) يعلموا ( بحرب) تهديد وتشديد إذ لا قدرة لهم على حربه صلى الله عليه وسلم مع ما هم فيه من غاية الذلة ( فكتب إليهم) أي أمر بالكتب إلى اليهود ( في ذلك) الخبر الذي نقل إليه ( فكتبوا) اليهود ( إنا والله ما قتلناه) زاد في رواية ولا علمنا قاتله ( فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لحويصة ومحيصة وعبد الرحمن أتحلفون) بهمزة الاستفهام ( وتستحقون دم صاحبكم) أي بدل دم صاحبكم ففيه حذف مضاف أو معنى صاحبكم غريمكم فلا حاجة إلى تقدير والجملة فيها معنى التعليل لأن المعنى أتحلفون لتستحقوا وقد جاءت الواو بمعنى التعليل في قوله تعالى { { أو يوبقهن بما كسبوا ويعفو عن كثير } } المعنى ليعفو وفي عرض اليمين على الثلاثة حجة قوية لقول مالك ومن وافقه أنه لا يحلف في العمد أقل من رجلين عصبة وأن لولي الدم وهو هنا الأخ الاستعانة بعاصبه ( قالوا لا) نحلف وفي الرواية اللاحقة لم نشهد ولم نحضر ( قال أفتحلف لكم يهود) خمسين يمينًا أنهم ما قتلوه ( قالوا ليسوا بمسلمين) وفي اللاحقة كيف نقبل أيمان قوم كفار وفي رواية قالوا لا نرضى بأيمان اليهود وفي أخرى ما يبالون أن يقتلون أجمعين ثم يحلفون ( فوداه) بخفة الدال المهملة بلا همز أعطى ديته ( رسول الله صلى الله عليه وسلم من عنده) وفي رواية للبخاري ومسلم فوداه مائة من إبل الصدقة وجمع باحتمال أنه اشتراها من إبل الصدقة ودفع المال الذي اشتراها به من عنده أو من بيت المال المرصد للمصالح لما في ذلك من مصلحة قطع النزاع وإصلاح ذات البين وجبرًا لخاطرهم وإلا فاستحقاقهم لم يثبت وحكى عياض عن بعضهم تجويز صرف الزكاة في المصالح العامة وتأول الحديث عليه وقال في المفهم رواية من عنده أصح من رواية من إبل الصدقة وقد قيل إنها غلط والأولى أن لا يغلط الراوي ما أمكن فيحتمل أنه صلى الله عليه وسلم تسلف ذلك من إبل الصدقة ليدفعه من مال الفيء ( فبعث إليهم بمائة ناقة حتى أدخلت) النوق ( عليهم الدار قال سهل) بن أبي حثمة ( لقد ركضتني) أي رفستني برجلها ( منها ناقة حمراء) ولابن إسحاق فوالله ما أنسى ناقة بكرة منها حمراء ضربتني وأنا أحوزها وفي رواية للبخاري فأدركت ناقة من تلك الإبل فدخلت مربدًا لهم فركضتني برجلها وقال ذلك ليبين ضبطه للحديث ضبطًا شافيًا بليغًا وفيه مشروعية القسامة وبه أخذ كافة الأئمة والسلف من الصحابة والتابعين وعلماء الأمة كمالك والشافعي في أحد قوليه وأحمد وعن طائفة التوقف فيها فلم يروا القسامة ولا أثبتوا لها في الشرع حكمًا وهذا الحديث رواه البخاري في الأحكام عن عبد الله بن يوسف وإسماعيل ومسلم من طريق بشر بن عمر والنسائي من طريق ابن وهب الأربعة عن مالك به وله طرق في الصحيحين والسنن ( قال مالك الفقير) بفاء ثم قاف بلفظ الفقير من بني آدم ( هو البئر) القريبة القعر الواسعة الفم وقيل الحفرة التي تكون حول النخل ( مالك عن يحيى بن سعيد) بن قيس بن عمرو الأنصاري ( عن بشير) بضم الموحدة وفتح الشين المعجمة ( ابن يسار) بفتح التحتية والسين المهملة الخفيفة المدني الحارثي مولى الأنصار التابعي الثقة ( أنه أخبره) قال أبو عمر لم يختلف على مالك في إرسال هذا الحديث انتهى وهو موصول في الصحيحين وغيرهما من طريق بشر بن المفضل وحماد بن زيد وسفيان بن عيينة والليث بن سعد وعبد الوهاب الثقفي كلهم عن يحيى بن سعيد عن بشير عن سهل بن أبي حثمة زاد حماد عن يحيى عن بشير ورافع بن خديج وقال الليث عن يحيى حسبت أنه قال مع سهل ورافع بن خديج ( أن عبد الله بن سهل الأنصاري ومحيصة بن مسعود خرجا إلى خيبر) في أصحاب لهما يمتارون تمرا زاد في رواية بشر بن المفضل وهي يومئذ صلح والمراد بعد فتحها ( فتفرقا في حوائجهما) وفي رواية حماد فتفرقا في النخل ( فقتل عبد الله بن سهل) وفي رواية ابن المفضل فأتى محيصة إلى عبد الله بن سهل وهو ينشط في دمه قتيلاً فدفنه ( فقدم محيصة) المدينة ( فأتى هو وأخوه حويصة) ابنا مسعود ( وعبد الرحمن بن سهل) أخو المقتول ( إلى النبي صلى الله عليه وسلم) ليخبروه بذلك ( فذهب عبد الرحمن ليتكلم لمكانه من أخيه) وفي رواية حماد فتكلموا في أمر صاحبهم فبدأ عبد الرحمن وكان أصغر القوم ( فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم كبر كبر) بالجزم أمر وكرره للمبالغة أي قدم الأسن يتكلم وفي رواية حماد فقال الكبر الكبر بهمزة وصل وضم الكاف وتسكين الموحدة جمع الأكبر والنصب على الإغراء يعني كما قال يحيى بن سعيد ليلي الكلام الأكبر وزاد ابن المفضل فسكت ( فتكلم حويصة ومحيصة) بشد الياء فيهما على أشهر اللغتين ( فذكرا شأن عبد الله بن سهل) أي أخبراه بقصة قتله وفي رواية الليث فصمت أي عبد الرحمن وتكلم صاحباه ثم تكلم معهما فذكروا لرسول الله صلى الله عليه وسلم مقتل عبد الله بن سهل ( فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أتحلفون) بهمز الاستفهام ( خمسين يمينًا وتستحقون دم صاحبكم أو) قال دم ( قاتلكم) أي قاتل قريبكم فشك الراوي قال النووي المعنى يثبت حقكم على من تحلفون عليه وذلك الحق أعم من أن يكون قصاصًا أو دية انتهى وهذا تأويل بعيد متعسف حمله عليه نصرة مشهور مذهبه أنه لا قصاص بالقسامة في عمد ولا خطأ إنما فيها الدية على الجاني في العمد وعاقلته في الخطأ والمتبادر من ذكر الدم القصاص والتبادر آية الحقيقة ويؤيده أنه صلى الله عليه وسلم قتل بالقسامة رجلاً من بني نصر بن مالك رواه أبو داود ( قالوا يا رسول الله لم نشهد) قتله ( ولم نحضره) وفي رواية ابن المفضل وكيف نحلف ولم نشهد ولم نر ووقع في الصحيح من رواية سعيد بن عبيد عن بشير بن يسار فقال تأتون بالبينة على من قتله قالوا ما لنا بينة وفي النسائي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده فقال صلى الله عليه وسلم أقم شاهدين على قاتله أدفعه إليك برمته فقال إني لم أصب شاهدين وإنما أصبح قتيلاً على أبوابهم قال أبو عمر هذه رواية أهل العراق بشير بن يسار ورواية أهل المدينة عنه أثبت وهم به أقعد ونقلهم أصح عند العلماء وقد حكى الأثرم عن أحمد أنه ضعف رواية سعيد بن عبيد عن بشير وقال الصحيح عنه ما رواه يحيى بن سعيد وإليه أذهب وقال بعضهم ذكر البينة وهم لأنه صلى الله عليه وسلم قد علم أن خيبر حينئذ لم يكن بها أحد من المسلمين وأجيب بأنه وإن سلم أنه لم يسكن مع اليهود فيها من المسلمين أحد لكن في القصة أن جماعة من المسلمين خرجوا يمتارون تمرا فيجوز أن طائفة أخرى خرجت بمثل ذلك ويحتمل أنه صلى الله عليه وسلم طلب البينة أولاً فلم تكن لهم بينة فعرض عليهم الأيمان فامتنعوا فعرض عليهم تحليف المدعى عليهم ( فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فتبرئكم) بسكون الموحدة أي تبرأ إليكم من دعواكم ( يهود) بالرفع ممنوع من الصرف للعلمية والتأنيث على إرادة اسم القبيلة والطائفة وضبط أيضًا فتبريكم بفتح الموحدة وشد الراء مكسورة أي يخلصونكم من الأيمان ( بخمسين) يمينًا يحلفونها ( فقالوا يا رسول الله كيف نقبل أيمان قوم كفار) وفي رواية ابن إسحاق فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم تسمون قاتلكم ثم تحلفون عليه خمسين يمينًا فليسلم إليكم فقالوا يا رسول الله ما كنا لنحلف على ما لا نعلم قال فيحلفون لكم بالله خمسين يمينًا ما قتلوه ولا يعلمون له قاتلاً ثم يبرؤن من دمه قالوا ما كنا لنقبل أيمان اليهود ما فيهم من الكفر أعظم من أن يحلفوا على إثم وفي رواية في الصحيحين فكره صلى الله عليه وسلم أن يبطل دمه ( قال يحيى بن سعيد فزعم) أي قال من إطلاق الزعم على القول الثابت كخبر زعم جبريل ( بشير بن يسار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وداه) بفتح الواو والدال المهملة الخفيفة أي أعطاهم ديته ( من عنده) من خالص ماله أو من بيت المال لأنه عاقلة المسلمين وولي أمرهم وفي رواية حماد قال سهل فأدركت ناقة من تلك الإبل قد دخلت مربدا لهم فركضتني برجلها وفيه أن حكم القسامة مخالف لسائر الدعاوى من جهة أن اليمين على المدعي وأنها خمسون يمينًا وهو يخص قوله صلى الله عليه وسلم البينة على المدعي واليمين على من أنكر فكأنه قال بدليل هذا الحديث إلا في القسامة ولا فرق بين أن يجيء ذلك في حديث واحد أو حديثين لأن ذلك كله سنته صلى الله عليه وسلم على أنه جاء البينة على المدعي واليمين على من أنكر إلا في القسامة وإن كان في إسناده لين فقد عضده الآثار المتواترة في حديث الباب لكن هذا موضع اختلف فيه العلماء كما أشار له الإمام حيث ( قال مالك الأمر المجتمع عليه عندنا والذي سمعت ممن أرضى) من العلماء ( في القسامة والذي اجتمعت عليه الأئمة في القديم والحديث) وخبر المبتدأ قوله ( أن يبدأ بالأيمان المدعون في القسامة فيحلفون) فإن نكلوا ردت على المدعى عليهم فإن حلفوا برئوا وبطل الدم فإن أبوا فيأتي تفصيله ( وأن القسامة لا تجب) أي تثبت لولي الدم ( إلا بأحد أمرين إما أن يقول المقتول) قبل موته ( دمي عند فلان أو يأتي ولاة الدم بلوث) بفتح اللام آخره مثلثة ( من بينة وإن لم تكن قاطعة على الذي يدعى عليه الدم) بيان للوث والواو للحال قال الأزهري اللوث البينة الضعيفة غير الكاملة ( فهذا يوجب) يثبت ( القسامة للمدعين الدم على من ادعوه عليه ولا تجب القسامة عندنا إلا بأحد هذين الوجهين) أعاده تأكيدًا قال أبو عمر إنما جعل مالك قوله دمي عند فلان شبهة ولطخا لأن المعروف من طبع الناس عند حضور الموت الإنابة والتوبة والندم على ما سلف من العمل السيئ ألا ترى إلى قوله تعالى { { لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين } } وقوله { { حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن } } فهذه معهودة من طبع الإنسان ولا يعلم من عادته أن يدع قاتله ويعدل إلى غيره وما خرج عن هذا نادر في الناس لا حكم له ( قال مالك وتلك السنة التي لا اختلاف فيها عندنا والذي لم يزل عليه عمل الناس أن المبدئين بالقسامة أهل الدم والذين يدعونه في العمد والخطأ) عطف تفسير لأهل الدم وأعاد ذلك وإن قدمه قريبًا لزيادة قوله في العمد والخطأ وللاحتجاج له بقوله ( وقد بدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم الحارثيين) نسبة إلى حارثة بمثلثة بطن من الأوس يعني المذكورين في الحديث السابق من طريقيه ( في قتل صاحبهم الذي قتل بخيبر) وهو عبد الله بن سهل وإلى هذا ذهب الجمهور وأحمد والشافعي في أحد قوليه قال ابن عبد البر ومن حجتهم أيضًا قوله تعالى { { ولكم في القصاص حياة } } وقوله { { لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود } } فللعداوة التي بينهم وبين الأنصار بدأهم بالأيمان وجعل العداوة سببًا تقوى بها دعواهم لأنه لطخ يليق بهم غالبًا لعداوتهم ومن سنته صلى الله عليه وسلم أن من قوي سببه في دعواه وجبت تبدئته باليمين ولهذا جاء اليمين مع الشاهد مع ما في هذا من قطع التطرق إلى سفك الدماء وقبض أيدي الأعداء على إراقة دماء من عادوه على الدنيا وقال جمهور أهل العراق وأبو حنيفة وأصحابه وجماعة يبدأ المدعى عليهم بالحلف لعموم حديث البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه وعارضوا أحاديث الباب بما رواه أبو داود من طريق الزهري عن أبي سلمة وسليمان بن يسار عن رجال من الأنصار أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ليهود وبدأ بهم أيحلف منكم خمسون رجلاً فأبوا فقال للأنصار أتحلفون فقالوا نحلف على الغيب فجعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم على اليهود لأنه وجد بين أظهرهم والجواب أن رواية الجماعة مالك ومن تابعه عن يحيى بن سعيد وغيره أصح وقد روى الزهري نفسه هذه وهذه وقضى بما في حديث سهل فدل على أن ذلك عنده الأثبت والأولى ولا حجة لهم فيما رواه أبو داود أيضًا عن عبد الرحمن بن بجيد قال والله ما كان الشأن هكذا ولكن سهلا هم ما قال صلى الله عليه وسلم احلفوا على ما لا علم لكم به ولكنه كتب إلى يهود حين كلمته الأنصار أنه قد وجد قتيل بين أبياتكم فدوه فكتبوا إليه يحلفون ما قتلوه ولا يعلمون له قاتلا فوداه من عنده لأن قول عبد الرحمن لا يرد قول سهل المخبر عما شاهد حتى ركضته منها ناقة وعبد الرحمن تابعي لم يره صلى الله عليه وسلم ولا شهد القصة وحديثه مرسل ومن أنكر شيئًا ليس بحجة على من أثبته انتهى ملخصًا ( قال مالك فإن حلف المدعون استحقوا دم صاحبهم وقتلوا من حلفوا عليه) في العمد ( ولا يقتل في القسامة إلا واحد لا يقتل فيه اثنان) لرواية أبي داود من طريق حماد بن زيد عن يحيى بن سعيد بسنده في الحديث السابق فقال صلى الله عليه وسلم يقسم منكم خمسون على رجل فيدفع لكم برمته وكذلك في حديث الزهري عن سهل بن أبي حثمة تسمون قاتلكم ثم تحلفون عليه خمسين يمينًا فيسلم إليكم فهذا دليل واضح لقول مالك وأصحابه إنما يقتل بالقسامة واحد لأنه أمرهم بتعيين رجل يقسمون عليه فيدفع إليهم برمته ومن جهة النظر أن الواحد أولى من يتيقن أنه قتله فوجب أن يقتصر بالقسامة عليه قاله أبو عمر ( يحلف من ولاة الدم خمسون رجلاً خمسين يمينًا) كل رجل يمينًا ( فإن قتل عددهم ونكل بعضهم ردت الأيمان عليهم) أي على المدعين الأقل من خمسين أو الذين حلفوا ونكل بعضهم ( إلا أن ينكل أحد من ولاة المقتول ولاة الدم) بالخفض بدل بعض من كل ( الذين يجوز لهم العفو عنه) كابن مع أخ ( فإن نكل أحد من أولئك فلا سبيل إلى الدم إذا نكل أحد منهم) لسقوطه بنكوله كما لو عفا ( وإنما ترد الأيمان على من بقي منهم إذا نكل أحد ممن لا يجوز له عفو) لوجود من هو أقرب منه فينزل نكوله كالعدم وترد على غيره ممن حلف ( فإن نكل أحد من ولاة الدم الذين يجوز لهم العفو عن الدم وإن كان واحدًا فإن الأيمان لا ترد على من بقي من ولاة الدم إذا نكل أحد منهم عن الأيمان ولكن الأيمان إذا كان) وجد ( ذلك) أي نكول بعض ولاة الدم ( ترد على المدعى عليهم فيحلف منهم خمسون رجلاً خمسين يمينًا) كما في بعض طرق الحديث السابق عند البخاري وغيره فتبرئكم يهود بأيمان خمسين منهم ( فإن لم يبلغوا خمسين رجلاً ردت الأيمان على من حلف منهم) حتى تكمل الخمسين يمينًا ( فإن لم يوجد أحد إلا الذي ادعي عليه) الدم ( حلف هو خمسين يمينًا وبرئ من ذلك قال مالك وإنما فرق بين القسامة في الدم) في أن أيمانها خمسون من المدعين ( و) بين ( الأيمان في الحقوق) فاكتفى فيها بيمين واحدة من المدعى عليه حيث لا بينة ( أن الرجل إذا داين الرجل استثبت عليه في حقه) بالإشهاد عليه أو الرهن أو الضامن ( وإن الرجل إذا أراد قتل الرجل لم يقتله في جماعة من الناس وإنما يلتمس) يطلب ( الخلوة) حتى لا يراه أحد يشهد عليه ( فلو لم تكن القسامة إلا فيما تثبت فيه البينة ولو عمل فيها كما يعمل في الحقوق) المالية من البينة أو يمين المطلوب ( هلكت الدماء) ضاعت ( واجترأ) بالهمز أسرع وهجم ( الناس عليها إذا عرفوا القضاء فيها ولكن إنما جعلت القسامة إلى ولاة المقتول يبدؤون فيها) بالحلف فإن نكلوا ردت على المدعى عليه ( ليكف الناس عن الدم وليحذر القاتل أن يؤخذ في مثل ذلك بقول المقتول) دمي عند فلان وأقسام أوليائه ( وقال مالك في القوم يكون لهم العدد يتهمون بالدم فترد ولاة المقتول الأيمان عليهم وهم نفر لهم عدد أنه يحلف كل إنسان منهم عن نفسه خمسين يمينًا ولا تقطع الأيمان عليهم بقدر عددهم ولا يبرؤن) يخلصون ( دون أن يحلف كل إنسان منهم عن نفسه خمسين يمينًا وهذا أحسن ما سمعت في ذلك) يقتضي أنه سمع غيره ( والقسامة تصير إلى عصبة المقتول وهم ولاة الدم الذين يقسمون عليه والذين يقتل بقسامتهم) قال أبو عمر من حجة مالك والشافعي في أحد قوليه ومن وافقهما في وجوب القول بالقسامة مع الأحاديث المتقدمة ما رواه أبو داود عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل بالقسامة رجلاً من بني نصر بن مالك وروي عن عمر بن عبد العزيز وعبد الله بن الزبير أنهما قضيا بذلك وحسبك بقول مالك أنه الذي لم يزل عليه علماء المدينة قديمًا وحديثًا.