فهرس الكتاب

شرح الزرقاني - بَابُ مَا جَاءَ فِي سُكْنَى الْمَدِينَةِ وَالْخُرُوجِ مِنْهَا

رقم الحديث 1608 حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ قَطَنِ بْنِ وَهْبِ بْنِ عُمَيْرِ بْنِ الْأَجْدَعِ، أَنَّ يُحَنَّسَ، مَوْلَى الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ أَخْبَرَهُ، أَنَّهُ كَانَ جَالِسًا عِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ فِي الْفِتْنَةِ، فَأَتَتْهُ مَوْلَاةٌ لَهُ تُسَلِّمُ عَلَيْهِ، فَقَالَتْ: إِنِّي أَرَدْتُ الْخُرُوجَ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ اشْتَدَّ عَلَيْنَا الزَّمَانُ، فَقَالَ لَهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: اقْعُدِي لُكَعُ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: لَا يَصْبِرُ عَلَى لَأْوَائِهَا وَشِدَّتِهَا أَحَدٌ، إِلَّا كُنْتُ لَهُ شَفِيعًا أَوْ شَهِيدًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ.


( ما جاء في سكنى المدينة والخروج منها)

( مالك عن قطن) بفتح القاف والطاء المهملة ونون ( ابن وهب بن عمير) بضم العين مصغر وفي نسخة عويمر بواو بعد العين ( ابن الأجدع) بجيم ودال مهملة الليثي أو الخزاعي المدني الصدوق يكنى أبا الحسن وفي التمهيد قطن أحد بني سعد بن ليث مدني ثقة روى عنه مالك وغيره لمالك عنه هذا الحديث الواحد ( أن يحنس) بضم التحتية وفتح الحاء المهملة وتشديد النون مفتوحة ومكسورة كما ضبطه عياض وآخره سين مهملة ابن عبد الله المدني الثقة قال أبو عمر هكذا رواه يحيى وابن بكير وأكثر الرواة ورواه ابن القاسم عن مالك عن قطن بن وهب عن عويمر بن أجدع أن يحنس والصحيح رواية الجماعة وكذا نسبه ابن البرقي ويشهد لصحته رواية القعنبي عن مالك عن قطن بن وهب أن يحنس ( مولى الزبير بن العوام) أحد العشرة وفي رواية لمسلم مولى مصعب بن الزبير قال النووي وهو لأحدهما حقيقة وللآخر مجاز ( أخبره أنه كان جالسًا عند عبد الله بن عمر) بن الخطاب ( في الفتنة) التي وقعت زمن يزيد بن معاوية ( فأتته مولاة له) لم تسم ( تسلم عليه فقالت إني أردت الخروج) من المدينة ( يا أبا عبد الرحمن) لأنه ( اشتد) قوي وصعب ( علينا الزمان فقال لها عبد الله بن عمر اقعدي لكع) بضم اللام وفتح الكاف وعين مهملة كذا ليحيى وحده والصواب لكاع كما رواه غيره قال أبو عمر إنما يقال للمرأة لكاع مثل جذام وقطام وقال عياض يطلق لكع بضم اللام وفتح الكاف على اللئيم والعبد والغبي الذي لا يهتدي لنطق ولا غيره وعلى الصغير ومنه قوله صلى الله عليه وسلم يطلب الحسن أثم لكع وقول الحسن لإنسان يا لكع أي يا صغير العلم ويقال للمرأة لكاع على وزن فعال والجميع من اللكع وهو اللؤم وقيل من الملاكيع وهو ما يخرج مع السلى من البطن وقال النحاة لكع ولكاع لا يستعملان إلا في النداء خاصة وقد استعمل لكاع في الشعر في غير النداء قال الحطيئة

أطوف ما أطوف ثم آوي
إلى بيت قعيدته لكاع

قال ذلك ابن عمر لها إنكارًا لما أرادته من الخروج وتثبيطًا لها وإدلالاً عليها لأنها مولاته وقد يكون معناه يا قليلة العلم وصغيرة الحظ منه لما فاتها من معرفة حق المدينة ( فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لا يصبر على لأوائها) بالمد ( وشدتها) قال أبو عمر يعني المدينة والشدة الجوع واللأواء تعذر الكسب وسوء الحال وقال المازري اللأواء الجوع وشدة المكسب وضمير شدتها يحتمل أن يعود على اللأواء ويحتمل أن يعود على المدينة قال الأبي الحديث خرج مخرج الحث على سكناها فمن لزم سكناها داخل في ذلك ولو لم تلحقه لأواء لأن التعليل بالغالب والمظنة لا يضر فيه التخلف في بعض الصور كتعليل القصر بمشقة السفر فإن الملك يقصر وإن لم تلحقه مشقة لوجود السفر ( أحد إلا كنت له شفيعًا أو شهيدًا يوم القيامة) قال عياض سئلت قديمًا عن هذا الحديث ولم خص ساكن المدينة بالشفاعة هنا مع عموم شفاعته صلى الله عليه وسلم وادخاره إياها وأجيب عنه بجواب شاف مقنع في أوراق اعترف بصوابه كل واقف عليه وأذكر منه هنا لمعًا تليق بهذا الموضع قال بعض شيوخنا أو هنا للشك والأظهر عندنا أنها ليست للشك لأن هذا الحديث رواه جابر وسعد بن أبي وقاص وابن عمر وأبو سعيد وأبو هريرة وأسماء بنت عميس وصفية بنت أبي عبيد عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا اللفظ ويبعد اتفاق جميعهم أو رواتهم على الشك وتطابقهم فيه على صيغة واحدة بل الأظهر أنه صلى الله عليه وسلم قاله هكذا فإما أن يكون أعلم بهذه الجملة هكذا وإما أن تكون أو للتقسيم ويكون شهيدًا لبعض أهل المدينة وشفيعًا لباقيهم إما شفيعًا للعاصين وشهيدًا للمطيعين وإما شهيدًا لمن مات في حياته وشفيعًا لمن مات بعده أو غير ذلك وهذه خصوصية زائدة على الشفاعة للمذنبين أو للعاصين في القيامة وعلى شهادته على جميع الأمة وقد قال صلى الله عليه وسلم في شهداء أحد أنا شهيد على هؤلاء فيكون لتخصيصهم بهذا كله مزية وزيادة منزلة وحظوة قال وقد تكون أو بمعنى الواو فيكون لأهل المدينة شفيعًا وشهيدًا انتهى وبالواو رواه البزار من حديث ابن عمر قال عياض وإذا جعلنا أو للشك كما قال المشايخ فإن كانت اللفظة الصحيحة شهيدًا اندفع الاعتراض لأنها زائدة على الشفاعة المدخرة لغيرهم وإن كانت شفيعًا فاختصاص أهل المدينة بهذا أن هذه شفاعة أخرى أي العامة التي هي في إخراج أمته من النار ومعافاة بعضهم بشفاعته في القيامة وتكون هذه الشفاعة بزيادة الدرجات أو تخفيف السيئات أو بما شاء الله من ذلك أو بإكرامهم يوم القيامة بأنواع من الكرامة كإيوائهم إلى ظل العرش أو كونهم في روح أو على منابر أو الإسراع بهم إلى الجنة أو غير ذلك من خصوص الكرامات الواردة لبعضهم دون بعض انتهى ونقله عنه النووي وغيره وأقروه والحديث رواه مسلم عن يحيى عن مالك به وتابعه الضحاك عن قطن عند مسلم ( مالك عن محمد بن المنكدر) بن عبد الله التيمي المدني ( عن جابر بن عبد الله) الصحابي ابن الصحابي ( أن أعرابيًا) قال الحافظ لم أقف على اسمه إلا أن الزمخشري ذكر في ربيع الأبرار أنه قيس بن أبي حازم وهو مشكل لأنه تابعي كبير مشهور وصرحوا بأنه هاجر فوجد النبي صلى الله عليه وسلم قد مات فإن كان محفوظًا فلعله آخر وافق اسمه واسم أبيه وفي الذيل لأبي موسى المديني في الصحابة قيس بن حازم المنقري فيحتمل أن يكون هو هذا أي زيد في اسم أبيه أداة الكنية سهوًا أو غلطًا ( بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام فأصاب الأعرابي وعك) بفتح الواو وبسكون العين حمى ( بالمدينة فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم) وفي رواية سفيان الثوري فجاء الغد محمومًا ( فقال يا رسول الله أقلني بيعتي) على الإسلام قاله عياض وقال غيره إنما استقاله من الهجرة ولم يرد الارتداد عن الإسلام قال ابن بطال بدليل أنه لم يرد حل ما عقده إلا بموافقة النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك ولو أراد الردة ووقع فيها لقتله إذ ذاك وحمله بعضهم على الإقالة من المقام بالمدينة ( فأبى) امتنع ( رسول الله صلى الله عليه وسلم) أن يقيله ( ثم جاءه) ثانية ( فقال أقلني بيعتي فأبى) امتنع ( ثم جاءه) الثالثة ( فقال أقلني بيعتي فأبى) أن يقيله لأنها إن كانت بعد الفتح فهي على الإسلام فلم يقله لأنه لا يحل الرجوع إلى الكفر وإن كان قبله فهي على الهجرة والمقام معه بالمدينة ولا يحل للمهاجر أن يرجع إلى وطنه كذا قال عياض ورده الأبي فقال الأظهر أنها على الهجرة لقوله وعك ولو كانت على الإسلام كانت ردة لأن الرضا بالدوام على الكفر كفر انتهى ( فخرج الأعرابي) من المدينة إلى البدو ( فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما المدينة كالكير) بكسر الكاف المنفخ الذي ينفخ به النار أو الموضع المشتمل عليها ( تنفي) بفتح الفوقية وسكون النون وبالفاء ( خبثها) بفتح المعجمة والموحدة والمثلثة ما تبرزه النار من وسخ وقذر ويروى بضم الخاء وسكون الباء من الشيء الخبيث والأول أشبه لمناسبة الكير ( وينصع) بفتح التحتية وسكون النون وفتح الصاد وعين مهملتين من النصوع وهو الخلوص أي يخلص ( طيبها) بكسر الطاء وسكون التحتية خفيفة والرفع فاعل ينصع وفي رواية تنصع بالفوقية طيبها بالنصب على المفعولية مخففًا أيضًا وبه ضبطه القزاز لكنه استشكله بأنه لم ير النصوع في الطيب وإنما الكلام يتضوع بضاد معجمة وزيادة واو لكن قال عياض معنى ينصع يصفو ويخلص يقال طيب ناصع إذا خلصت رائحته وصفت مما ينقصها وفي رواية طيبها بشد التحتية مكسورة والرفع فاعل قال الأبي وهي الرواية الصحيحة وهو أقوم معنى لأنه ذكره في مقابلة الخبيث وأي مناسبة بين الكير والطيب شبه النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وما يصيب ساكنها من الجهد بالكير وما يدور عليه بمنزلة الخبيث من الطيب فيذهب الخبيث ويبقى الطيب وكذلك المدينة تنفي شرارها بالحمى والجوع وتطهر خيارهم وتزكيهم انتهى وقال غيره هذا تشبيه حسن لأن الكير بشدة نفخه ينفي عن النار السخام والدخان والرماد حتى لا يبقى إلا خالص الجمر هذا إن أريد بالكير المنفخ الذي ينفخ به النار وإن أريد به الموضع فالمعنى أن ذلك الموضع لشدة حرارته ينزع خبث الحديد والذهب والفضة ويخرج خلاصة ذلك والمدينة كذلك تنفي شرار الناس بالحمى والوصب وشدة العيش وضيق الحال التي تخلص النفس من الاسترسال في الشهوات وتطهر خيارهم وتزكيهم وهذا الحديث أخرجه البخاري في الأحكام عن القعنبي وعبد الله بن يوسف وفي الاعتصام عن إسماعيل ومسلم في الحج عن يحيى الأربعة عن مالك به وتابعه سفيان الثوري عن ابن المنكدر عند البخاري بنحوه ( مالك عن يحيى بن سعيد) بن قيس بن عمرو الأنصاري ( أنه قال سمعت أبا الحباب) بضم الحاء المهملة وفتح الموحدة الخفيفة فألف فموحدة ( سعيد) بكسر العين ( ابن يسار) بفتح التحتية والمهملة الخفيفة المدني الثقة المتقن مات بالمدينة سنة سبع عشرة ومائة وقيل قبلها بسنة يقال إنه مولى الحسن بن علي ويقال مولى شميسة النصرانية المسلمة بالمدينة على يد الحسن بن علي وقيل مولى شقران مولى النبي صلى الله عليه وسلم ( يقول سمعت أبا هريرة يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول أمرت بقرية) بضم الهمزة أي أمرني ربي بالهجرة إلى قرية ( تأكل القرى) أي تغلبها وتظهر عليها يعني أن أهلها تغلب أهل سائر البلاد فتفتح منها يقال أكلنا بني فلان أي غلبناهم وظهرنا عليهم فإن الغالب المستولي على الشيء كالمفني له إفناء الأكل إياه وفي موطأ ابن وهب قلت لمالك ما تأكل القرى أي ما معناه قال تفتح القرى لأن من المدينة افتتحت القرى كلها بالإسلام وقال السهيلي في التوراة يقول الله يا طابة يا مسكينة إني سأرفع أجاجيرك على أجاجير القرى وهو قريب من تأكل القرى لأنها إذا علت عليها علو الغلبة أكلتها ويكون المراد يأكل فضلها الفضائل أي يغلب فضلها الفضائل حتى إذا قيست بفضلها تلاشت بالنسبة إليها وجاء في مكة أنها أم القرى لكن المذكور للمدينة أبلغ من الأمومة إذ لا يمحى بوجودها وجود ما هي أم له لكن يكون حق الأمومة أظهر ومعنى تأكل القرى أن الفضائل تضمحل في جنب عظيم فضلها حتى يكون عدمًا وما تضمحل له الفضائل أفضل وأعظم مما تبقى معه الفضائل انتهى وفيه تفضيل المدينة على مكة قال المهلب لأن المدينة هي التي أدخلت مكة وغيرها من القرى في الإسلام فصار الجميع في صحائف أهلها وأجيب بأن أهل المدينة الذين فتحوا مكة فيهم كثير من أهل مكة فالفضل ثابت للفريقين فلا يلزم من ذلك تفضيل إحدى القريتين قلنا لا نزاع في ثبوت الفضل للفريقين وللقريتين كما أنه لا نزاع في أن مكة من جملة القرى التي أكلتها المدينة فيلزم تفضيلها عليها ( يقولون) أي بعض الناس من المنافقين وغيرهم ( يثرب) بالرفع يسمونها باسم واحد من العمالقة نزلها وقيل باسم يثرب بن قانية من ولد إرم بن سام بن نوح وقيل هو اسم كان لموضع منها سميت به كلها وكرهه صلى الله عليه وسلم لأنه من التثريب الذي هو التوبيخ والملامة أو من الثرب وهو الفساد وكلاهما قبيح وكان صلى الله عليه وسلم يحب الاسم الحسن ويكره القبيح ولذا قال يقولون يثرب ( وهي المدينة) أي الكاملة على الإطلاق كالبيت للكعبة فهو اسمها الحقيقي لها لأن التركيب يدل على التفخيم كقوله

هم القوم كل القوم يا أم خالد

أي هي المستحقة لأن تتخذ دار إقامة وأما تسميتها في القرآن يثرب فإنما هي حكاية عن المنافقين وروى أحمد عن البراء بن عازب رفعه من سمى المدينة يثرب فليستغفر الله هي طابة هي طابة وروى عمر بن شبة عن أبي أيوب أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يقال للمدينة يثرب قال عياض فهم العلماء من هذا منع أن يقال يثرب حتى قال عيسى بن دينار من سمى المدينة يثرب كتبت عليه خطيئة وقال أبو عمر فيه دليل على كراهة ذلك انتهى وأجيب عن حديث الصحيحين فإذا هي يثرب وفي رواية لا أراها إلا يثرب بأنه كان قبل النهي ( تنفي) بكسر الفاء ( الناس) أي الخبيث الرديء منهم ( كما ينفي الكير) بكسر الكاف وإسكان التحتية قال أبو عمر هو موضع نار الحداد والصائغ وليس الجلد الذي تسميه العامة كيرًا هكذا قال علماء اللغة ( خبث) بفتح المعجمة والموحدة ومثلثة والنصب على المفعولية ( الحديد) أي وسخه الذي تخرجه النار أي أنها لا تترك فيها من في قلبه دغل بل تميزه عن القلوب الصادقة وتخرجه كما تميز النار رديء الحديد من جيده ونسب التمييز للكير لأنه السبب الأكبر في اشتعال النار التي وقع التمييز بها قال أبو عمر هذا إنما كان في الحياة النبوية فحينئذ لم يكن يخرج من المدينة رغبة عن جواره فيها إلا من لا خير فيه وأما بعده فقد خرج منها الخيار الفضلاء الأبرار وتبعه عياض فقال الأظهر أن هذا يختص بزمنه صلى الله عليه وسلم لأنه لم يكن يصبر على الهجرة والمقام معه إلا من ثبت إيمانه وأما المنافقون وجهلة الأعراب فلا يصبرون على شدة المدينة ولا يحتسبون الأجر في ذلك كما قال الأعرابي الذي أصابه الوعك أقلني بيعتي انتهى ورجح النووي عمومه لما ورد أنها في زمن الدجال ترجف ثلاث رجفات يخرج الله منها كل كافر ومنافق قال فيحتمل أنهم اختصوا بزمن الدجال ويحتمل أنه في أزمان متفرقة قال الأبي فإن قيل قد استقر المنافقون فيها أجيب بأنهم انتفوا بالموت وهو أشد النفي فإن قيل قد استقر بها الروافض ونحوها قلت إن كان نفيها الخبث خاصًا بزمنه صلى الله عليه وسلم فالجواب واضح وإن كان عامًا فيحتمل أن المراد بنفي الخبث إخماد بدعة من يسكنها من المبتدعة وعدم ظهوره بحيث يدعو إلى بدعته وهذا لم يتفق فيها انتهى وهذا الحديث رواه البخاري عن عبد الله بن يوسف ومسلم عن قتيبة بن سعيد كلاهما عن مالك به وتابعه سفيان وعبد الوهاب عن يحيى بن سعيد عند مسلم وقال إنهما قالا كما ينفي الكير الخبث لم يذكر الحديد ( مالك عن هشام بن عروة عن أبيه) قال أبو عمر وصله معن بن عيسى وحده عن مالك عن هشام عن أبيه عن عائشة ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا يخرج أحد من المدينة) ممن استوطنها ( رغبة عنها) أي عن ثواب الساكن فيها وقال المازري أي كراهة لها من رغبت عن الشيء إذا كرهته ( إلا أبدلها الله خيرًا منه) بمولود يولد فيها أو قدوم خير منه من غيرها أما من كان وطنه غيرها فقدمها للقربة ورجع إلى وطنه أو كان مستوطنًا بها فسافر لحاجة أو لضرورة شدة زمان أو فتنة فليس ممن يخرج رغبة عنها قاله الباجي وقال ابن عبد البر هذا في حياته صلى الله عليه وسلم وذلك مثل الأعرابي القائل أقلني بيعتي ومعلوم أن من رغب عن جواره أبدله الله خيرًا منه وأما بعد وفاته فقد خرج منها جماعة من أصحابه ولم تعوض المدينة خيرًا منهم انتهى يعني كأبي موسى وابن مسعود ومعاذ وأبي عبيدة وعلي وطلحة والزبير وعمار وحذيفة وعبادة بن الصامت وبلال وأبي الدرداء وأبي ذر وغيرهم وقطنوا غيرها وماتوا خارجًا عنها ولم تعوض المدينة مثلهم فضلاً عن خير منهم فدل ذلك على التخصيص بزمنه صلى الله عليه وسلم قال الأبي الأظهر أن ذلك ليس خاصًا بالزمن النبوي ومن خرج من الصحابة لم يخرج رغبة عنها بل إنما خرج لمصلحة دينية من تعليم أو جهاد أو غير ذلك انتهى لا يقال ليس النزاع في أن خروجهم لما ذكر إنما هو في تعويضها بخير منهم وهذا لم يقع فالأظهر التخصيص لأنا نقول الإبدال مقيد بالخروج رغبة عنها فلا يرد أن الخارج لمصلحة دينية لم تعوض مثلهم ( مالك عن هشام بن عروة) تابعي صغير لقي بعض الصحابة ( عن أبيه) أحد الفقهاء ( عن) أخيه ( عبد الله بن الزبير) الصحابي ابن الصحابي ( عن سفيان بن أبي زهير) بضم الزاي وفتح الهاء مصغر الأزدي من أزد شنوءة بفتح المعجمة وضم النون وبعد الواو همزة صحابي نزل المدينة قال ابن المديني وخليفة اسم أبيه القرد بفتح القاف وكسر الراء فدال مهملة ولذا يقال له ابن القرد وقيل اسم أبيه نمير بن عبد الله بن مالك ويقال فيه النميري لأنه من ولد النمر بن عثمان بن زهران ( قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول تفتح) بضم الفوقية وسكون الفاء وفتح الفوقية مبني للمفعول ونائبه ( اليمن) سمي بذلك لأنه عن يمين القبلة أو عن يمين الشمس أو بيمن بن قحطان ( فيأتي قوم) من أهل المدينة ( يبسون) بفتح التحتية وكسر الموحدة من الثلاثي رواه يحيى ولا يصح عنه غيره وكذا رواه ابن بكير وقال معناه يسيرون من قوله { { وبست الجبال بسا } } أي سارت وذكر حبيب هذا التفسير عن مالك وكذا رواه ابن نافع وغيره عنه فإنكار عبد الملك بن حبيب رواية يحيى ليس بشيء لأنه لم ينفرد بها بل تابعه ابن بكير وابن نافع وابن حبيب وغيرهم عن مالك ورواه ابن القاسم بفتح التحتية وضم الموحدة ثلاثيًا أيضًا من باب نصر أي يسرعون السير وقيل يزجرون دوابهم وقيل يسألون عن البلدان وأخبارها ليتحملوا إليها وهذا لا يكاد يعرف لغة ورواه ابن وهب يبسون بضم التحتية وكسر الموحدة وضم المهملة رباعي من أبس وقال معناه يزينون لهم الخروج من المدينة أي ويزينون البلد الذي جاؤوا منه ويحببونه إليهم وصوبه ابن حبيب قاله أبو عمر ملخصًا ( فيتحملون) من المدينة ( بأهليهم ومن أطاعهم) من الناس ( والمدينة خير لهم) لأنها لا يدخلها الدجال ولا الطاعون وقيل لأن الفتن فيها دونها في غيرها وقيل لفضل مسجدها والصلاة فيه ومجاورة القبر الشريف ( لو كانوا يعلمون) بما فيها من الفضائل كالصلاة في مسجدها وثواب الإقامة فيها وغير ذلك من الفوائد الدينية الأخروية التي تستحقر دونها ما يجدونه من الحظوظ الفانية العاجلة بسبب الإقامة في غيرها وفي حديث أبي هريرة عند مسلم يأتي على الناس زمان يدعو الرجل ابن عمه أو قريبه هلم إلى الرخاء والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون وظاهره أن الذين يتحملون غير الذين يبسون فكأن الذي حضر الفتح أعجبه حسن اليمن ورخاؤه فدعا قريبه إلى المجيء إليه فيتحمل المدعو بأهله وأتباعه لكن صوب النووي أن حديث الباب إخبار عمن خرج من المدينة متحملاً بأهله وأتباعه بأسًا في سيره إلى الرخاء والأمصار المنفتحة وفي رواية ابن خزيمة من طريق أبي معاوية عن هشام في هذا الحديث ما يؤيده ولفظه تفتح الشام فيخرج الناس إليها يبسون والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون ويوضح ذلك حديث جابر عند البزار برجال الصحيح مرفوعًا ليأتين على أهل المدينة زمان ينطلق الناس منها إلى الأرياف يلتمسون الرخاء فيجدون ثم يتحملون بأهله إلى الرخاء والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون والأرياف جمع ريف بكسر الراء وهو ما قارب المياه في أرض العرب وقيل هو الأرض التي فيها الزرع والخصب وقيل غير ذلك ( وتفتح الشام) سمي بذلك لأنه عن شمال الكعبة وفي رواية ابن جريج عن هشام ثم تفتح الشام ( فيأتي قوم يبسون) بفتح أوله وكسر الموحدة وضمها وبضم أوله وكسر الموحدة أي يزينون ويدعون الناس إلى بلاد الخصب ( فيتحملون بأهليهم ومن أطاعهم) من الناس راحلين إلى الشام ( والمدينة خير لهم) منها لأنها حرم الرسول وجواره ومهبط الوحي ومنزل البركات ( لو كانوا يعلمون) فضلها ما فعلوا ذلك فالجواب محذوف كالسابق واللاحق دل عليه ما قبله وإن كانت لو بمعنى ليت فلا جواب لها وعلى التقديرين ففيه تجهيل لمن فارقها لتفويته على نفسه خيرًا عظيمًا ( وتفتح العراق) وفي رواية ابن جريج ثم تفتح العراق ( فيأتي قوم يبسون فيتحملون بأهليهم ومن أطاعهم) من الناس راحلين إلى العراق ( والمدينة خير لهم) منه ( لو كانوا يعلمون) ذلك والواو في الثلاثة للحال وهذا من إعلام نبوته صلى الله عليه وسلم حيث أخبر بفتح هذه الأقاليم وأن الناس يتحملون بأهليهم ويفارقون المدينة فكان ما قاله على ترتيب ما قال لكن في رواية لمسلم وغيره تفتح الشام ثم اليمن ثم العراق والظاهر أن اليمن قبل الشام للاتفاق على أنه لم يفتح شيء من الشام في الزمن النبوي فرواية تقديم الشام على اليمن معناها أن استيفاء فتح اليمن إنما كان بعد الشام وقول الطهري أخبر صلى الله عليه وسلم في أول الهجرة إلى المدينة بأن اليمن تفتح فيأتي منها قوم حتى يكثر أهل المدينة والمدينة خير لهم من غيرها تعقبه الطيبي بأن تنكير قوم ووصفه بيبسون ثم توكيده بقوله لو كانوا يعلمون لا يساعد ما قاله لأن تنكير قوم لتحقيرهم وتوهين أمرهم ثم وصف يبسون وهو سوق الدواب يشعر بركة عقولهم وأنهم ممن ركن إلى الحظوظ البهيمية وحطام الدنيا الفانية وأعرضوا عن الإقامة في جوار الرسول ولذا كرر قومًا ووصفه في كل قرينة بيبسون استحضارًا لتلك الهيئة القبيحة قال والذي يقتضيه المقام أن ينزل يعلمون منزلة اللازم لينفي عنهم العلم والمعرفة بالكلية ولو ذهب مع ذلك إلى معنى التمني لكان أبلغ لأن التمني طلب ما لا يمكن حصوله أي ليتهم كانوا من أهل العلم تغليظًا وتشديدًا انتهى وفي إسناده تابعيان وصحابيان وأخرجه البخاري عن عبد الله بن يوسف عن مالك به وتابعه ابن جريج ووكيع كلاهما عن هشام عند مسلم به غايته أن وكيعًا قدم الشام ( مالك عن ابن حماس) بكسر الحاء المهملة وميم خفيفة فألف فسين مهملة كذا رواه يحيى ولم يسمه وهو يوسف بن يونس بن حماس وقال معن عن مالك عن يونس بن يوسف فقلبه وقال التنيسي وأبو مصعب عن مالك عن يوسف بن سنان أبدلا يونس فسمياه سنانًا قال البخاري والأول أصح وذكره ابن حبان في الثقات وقال كان من عباد أهل المدينة لمح مرة امرأة فدعا الله فأذهب عينيه ثم دعا الله فردهما عليه وروى عنه مالك وابن جريج وروى هو عن عطاء بن يسار وسعيد بن المسيب وسليمان بن يسار ( عن عمه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لتتركن) بفتح أوله وضم الفوقية الأولى وإسكان الثانية وفتح الراء والكاف ونون التوكيد الثقيلة ونائب الفاعل ( المدينة على أحسن ما) أي حال ( كانت) من العمارة وكثرة الأثمار وحسنها وفي رواية للصحيحين على خير ما كانت وفي أخبار المدينة لعمر بن شبة أن ابن عمر أنكر على أبي هريرة قوله خير ما كانت وقال إنما قال صلى الله عليه وسلم أعمر ما كانت وأن أبا هريرة صدقه على ذلك ( حتى يدخل الكلب أو الذئب) للتنويع ويحتمل الشك ( فيغذي) بضم التحتية وفتح الغين وكسر الذال الثقيلة المعجمتين أي يبول دفعة بعد دفعة ( على بعض سواري) أعمدة ( المسجد أو المنبر) تنويع أو شك لعدم سكانه وخلوه من الناس ( فقالوا يا رسول الله فلمن تكون الثمار ذلك الزمان قال للعوافي الطير والسباع) بالجر بدل أو عطف بيان للعوافي وهي الطالبة لما تأكل مأخوذة من عفوته إذا أتيته تطلب معروفه قال النووي الظاهر المختار أن هذا يكون في آخر الزمان عند قيام الساعة ويوضحه قضية الراعيين من مزينة فإنهما يخران على وجوههما حين تدركهما الساعة وهما آخر من يحشر كما في البخاري وقال القاضي عياض هذا مما جرى في العصر الأول وانقضى فإنها صارت بعد وفاته صلى الله عليه وسلم دار الخلافة ومعقل الناس حتى تنافسوا فيها بالغرس والبناء وتوسعوا في ذلك وسكنوا منها ما لم يسكن قبل حتى بلغت المساكن ملء إهاب وجلبت إليها خيرات الأرض كلها فلما انتهت حالها كمالاً انتقلت الخلافة عنها إلى الشام والعراق وذلك الوقت أحسن ما كانت للدين والدنيا أما الدين فلكثرة العلماء بها وكمالهم وأما الدنيا فلعمارتها وغرسها واتساع حال أهلها قال وذكر الأخباريون في بعض الفتن التي جرت بالمدينة وخاف أهلها أنه رحل عنها أكثر الناس وبقيت ثمارها أو أكثرها للعوافي وخلت مدة ثم تراجع الناس إليها وحكى كثير من الناس أنهم رأوا في خلائها ذلك ما أنذر به صلى الله عليه وسلم من تغذية الكلاب على سواري المسجد وحالها اليوم قريب من ذلك فقد خربت أطرافها قال الأبي تأمل هذا الكلام فإنه يعطي أن خلاءها حتى غذت الكلاب على سواري المسجد كان قريبًا من زمن تناهي حالها وانتقال الخلافة عنها وهذا لم يقع ولو وقع لتواتر بل الظاهر أنه لم يقع بعد ودليل المعجزة يوجب القطع بوقوعه في المستقبل لصحة الحديث وأن الظاهر كونه بين يدي نفخة الصعق كما يدل عليه موت الراعيين والمراد بخير ما كانت عليه من المصالح الدينية المتقدمة الذكر وإلى هذا كان يذهب شيخنا أبو عبد الله يعني ابن عرفة انتهى وفي نفيه وقوعه نظر مع نقل عياض عن كثير أنهم رأوا ذلك ولا يشترط التواتر في مثل هذا وهذا الحديث في البخاري من طريق شعيب ومسلم من طريق يونس وعقيل عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة بنحوه وزيادة ( مالك أنه بلغه أن عمر بن عبد العزيز حين خرج من المدينة) يريد الشام وكان قد أقام بها مدة أميرًا عليها قبل الخلافة ( التفت إليها فبكى) على فراقها ( ثم قال يا مزاحم) بن أبي مزاحم المكي مولى عمر بن عبد العزيز ويقال مولى طلحة ثقة روى له مسلم والنسائي وغيرهما ( أتخشى) تخاف ( أن تكون) بفوقية ( ممن نفت المدينة) ويحتمل أن قوله نكون بالنون أي أنا وأنت.



رقم الحديث 1609 وَحَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّ أَعْرَابِيًّا بَايَعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْإِسْلَامِ، فَأَصَابَ الْأَعْرَابِيَّ وَعْكٌ بِالْمَدِينَةِ، فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَقِلْنِي بَيْعَتِي، فَأَبَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ جَاءَهُ، فَقَالَ: أَقِلْنِي بَيْعَتِي، فَأَبَى، ثُمَّ جَاءَهُ، فَقَالَ: أَقِلْنِي بَيْعَتِي، فَأَبَى، فَخَرَجَ الْأَعْرَابِيُّ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّمَا الْمَدِينَةُ كَالْكِيرِ تَنْفِي خَبَثَهَا، وَيَنْصَعُ طِيبُهَا.


( ما جاء في سكنى المدينة والخروج منها)

( مالك عن قطن) بفتح القاف والطاء المهملة ونون ( ابن وهب بن عمير) بضم العين مصغر وفي نسخة عويمر بواو بعد العين ( ابن الأجدع) بجيم ودال مهملة الليثي أو الخزاعي المدني الصدوق يكنى أبا الحسن وفي التمهيد قطن أحد بني سعد بن ليث مدني ثقة روى عنه مالك وغيره لمالك عنه هذا الحديث الواحد ( أن يحنس) بضم التحتية وفتح الحاء المهملة وتشديد النون مفتوحة ومكسورة كما ضبطه عياض وآخره سين مهملة ابن عبد الله المدني الثقة قال أبو عمر هكذا رواه يحيى وابن بكير وأكثر الرواة ورواه ابن القاسم عن مالك عن قطن بن وهب عن عويمر بن أجدع أن يحنس والصحيح رواية الجماعة وكذا نسبه ابن البرقي ويشهد لصحته رواية القعنبي عن مالك عن قطن بن وهب أن يحنس ( مولى الزبير بن العوام) أحد العشرة وفي رواية لمسلم مولى مصعب بن الزبير قال النووي وهو لأحدهما حقيقة وللآخر مجاز ( أخبره أنه كان جالسًا عند عبد الله بن عمر) بن الخطاب ( في الفتنة) التي وقعت زمن يزيد بن معاوية ( فأتته مولاة له) لم تسم ( تسلم عليه فقالت إني أردت الخروج) من المدينة ( يا أبا عبد الرحمن) لأنه ( اشتد) قوي وصعب ( علينا الزمان فقال لها عبد الله بن عمر اقعدي لكع) بضم اللام وفتح الكاف وعين مهملة كذا ليحيى وحده والصواب لكاع كما رواه غيره قال أبو عمر إنما يقال للمرأة لكاع مثل جذام وقطام وقال عياض يطلق لكع بضم اللام وفتح الكاف على اللئيم والعبد والغبي الذي لا يهتدي لنطق ولا غيره وعلى الصغير ومنه قوله صلى الله عليه وسلم يطلب الحسن أثم لكع وقول الحسن لإنسان يا لكع أي يا صغير العلم ويقال للمرأة لكاع على وزن فعال والجميع من اللكع وهو اللؤم وقيل من الملاكيع وهو ما يخرج مع السلى من البطن وقال النحاة لكع ولكاع لا يستعملان إلا في النداء خاصة وقد استعمل لكاع في الشعر في غير النداء قال الحطيئة

أطوف ما أطوف ثم آوي
إلى بيت قعيدته لكاع

قال ذلك ابن عمر لها إنكارًا لما أرادته من الخروج وتثبيطًا لها وإدلالاً عليها لأنها مولاته وقد يكون معناه يا قليلة العلم وصغيرة الحظ منه لما فاتها من معرفة حق المدينة ( فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لا يصبر على لأوائها) بالمد ( وشدتها) قال أبو عمر يعني المدينة والشدة الجوع واللأواء تعذر الكسب وسوء الحال وقال المازري اللأواء الجوع وشدة المكسب وضمير شدتها يحتمل أن يعود على اللأواء ويحتمل أن يعود على المدينة قال الأبي الحديث خرج مخرج الحث على سكناها فمن لزم سكناها داخل في ذلك ولو لم تلحقه لأواء لأن التعليل بالغالب والمظنة لا يضر فيه التخلف في بعض الصور كتعليل القصر بمشقة السفر فإن الملك يقصر وإن لم تلحقه مشقة لوجود السفر ( أحد إلا كنت له شفيعًا أو شهيدًا يوم القيامة) قال عياض سئلت قديمًا عن هذا الحديث ولم خص ساكن المدينة بالشفاعة هنا مع عموم شفاعته صلى الله عليه وسلم وادخاره إياها وأجيب عنه بجواب شاف مقنع في أوراق اعترف بصوابه كل واقف عليه وأذكر منه هنا لمعًا تليق بهذا الموضع قال بعض شيوخنا أو هنا للشك والأظهر عندنا أنها ليست للشك لأن هذا الحديث رواه جابر وسعد بن أبي وقاص وابن عمر وأبو سعيد وأبو هريرة وأسماء بنت عميس وصفية بنت أبي عبيد عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا اللفظ ويبعد اتفاق جميعهم أو رواتهم على الشك وتطابقهم فيه على صيغة واحدة بل الأظهر أنه صلى الله عليه وسلم قاله هكذا فإما أن يكون أعلم بهذه الجملة هكذا وإما أن تكون أو للتقسيم ويكون شهيدًا لبعض أهل المدينة وشفيعًا لباقيهم إما شفيعًا للعاصين وشهيدًا للمطيعين وإما شهيدًا لمن مات في حياته وشفيعًا لمن مات بعده أو غير ذلك وهذه خصوصية زائدة على الشفاعة للمذنبين أو للعاصين في القيامة وعلى شهادته على جميع الأمة وقد قال صلى الله عليه وسلم في شهداء أحد أنا شهيد على هؤلاء فيكون لتخصيصهم بهذا كله مزية وزيادة منزلة وحظوة قال وقد تكون أو بمعنى الواو فيكون لأهل المدينة شفيعًا وشهيدًا انتهى وبالواو رواه البزار من حديث ابن عمر قال عياض وإذا جعلنا أو للشك كما قال المشايخ فإن كانت اللفظة الصحيحة شهيدًا اندفع الاعتراض لأنها زائدة على الشفاعة المدخرة لغيرهم وإن كانت شفيعًا فاختصاص أهل المدينة بهذا أن هذه شفاعة أخرى أي العامة التي هي في إخراج أمته من النار ومعافاة بعضهم بشفاعته في القيامة وتكون هذه الشفاعة بزيادة الدرجات أو تخفيف السيئات أو بما شاء الله من ذلك أو بإكرامهم يوم القيامة بأنواع من الكرامة كإيوائهم إلى ظل العرش أو كونهم في روح أو على منابر أو الإسراع بهم إلى الجنة أو غير ذلك من خصوص الكرامات الواردة لبعضهم دون بعض انتهى ونقله عنه النووي وغيره وأقروه والحديث رواه مسلم عن يحيى عن مالك به وتابعه الضحاك عن قطن عند مسلم ( مالك عن محمد بن المنكدر) بن عبد الله التيمي المدني ( عن جابر بن عبد الله) الصحابي ابن الصحابي ( أن أعرابيًا) قال الحافظ لم أقف على اسمه إلا أن الزمخشري ذكر في ربيع الأبرار أنه قيس بن أبي حازم وهو مشكل لأنه تابعي كبير مشهور وصرحوا بأنه هاجر فوجد النبي صلى الله عليه وسلم قد مات فإن كان محفوظًا فلعله آخر وافق اسمه واسم أبيه وفي الذيل لأبي موسى المديني في الصحابة قيس بن حازم المنقري فيحتمل أن يكون هو هذا أي زيد في اسم أبيه أداة الكنية سهوًا أو غلطًا ( بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام فأصاب الأعرابي وعك) بفتح الواو وبسكون العين حمى ( بالمدينة فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم) وفي رواية سفيان الثوري فجاء الغد محمومًا ( فقال يا رسول الله أقلني بيعتي) على الإسلام قاله عياض وقال غيره إنما استقاله من الهجرة ولم يرد الارتداد عن الإسلام قال ابن بطال بدليل أنه لم يرد حل ما عقده إلا بموافقة النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك ولو أراد الردة ووقع فيها لقتله إذ ذاك وحمله بعضهم على الإقالة من المقام بالمدينة ( فأبى) امتنع ( رسول الله صلى الله عليه وسلم) أن يقيله ( ثم جاءه) ثانية ( فقال أقلني بيعتي فأبى) امتنع ( ثم جاءه) الثالثة ( فقال أقلني بيعتي فأبى) أن يقيله لأنها إن كانت بعد الفتح فهي على الإسلام فلم يقله لأنه لا يحل الرجوع إلى الكفر وإن كان قبله فهي على الهجرة والمقام معه بالمدينة ولا يحل للمهاجر أن يرجع إلى وطنه كذا قال عياض ورده الأبي فقال الأظهر أنها على الهجرة لقوله وعك ولو كانت على الإسلام كانت ردة لأن الرضا بالدوام على الكفر كفر انتهى ( فخرج الأعرابي) من المدينة إلى البدو ( فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما المدينة كالكير) بكسر الكاف المنفخ الذي ينفخ به النار أو الموضع المشتمل عليها ( تنفي) بفتح الفوقية وسكون النون وبالفاء ( خبثها) بفتح المعجمة والموحدة والمثلثة ما تبرزه النار من وسخ وقذر ويروى بضم الخاء وسكون الباء من الشيء الخبيث والأول أشبه لمناسبة الكير ( وينصع) بفتح التحتية وسكون النون وفتح الصاد وعين مهملتين من النصوع وهو الخلوص أي يخلص ( طيبها) بكسر الطاء وسكون التحتية خفيفة والرفع فاعل ينصع وفي رواية تنصع بالفوقية طيبها بالنصب على المفعولية مخففًا أيضًا وبه ضبطه القزاز لكنه استشكله بأنه لم ير النصوع في الطيب وإنما الكلام يتضوع بضاد معجمة وزيادة واو لكن قال عياض معنى ينصع يصفو ويخلص يقال طيب ناصع إذا خلصت رائحته وصفت مما ينقصها وفي رواية طيبها بشد التحتية مكسورة والرفع فاعل قال الأبي وهي الرواية الصحيحة وهو أقوم معنى لأنه ذكره في مقابلة الخبيث وأي مناسبة بين الكير والطيب شبه النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وما يصيب ساكنها من الجهد بالكير وما يدور عليه بمنزلة الخبيث من الطيب فيذهب الخبيث ويبقى الطيب وكذلك المدينة تنفي شرارها بالحمى والجوع وتطهر خيارهم وتزكيهم انتهى وقال غيره هذا تشبيه حسن لأن الكير بشدة نفخه ينفي عن النار السخام والدخان والرماد حتى لا يبقى إلا خالص الجمر هذا إن أريد بالكير المنفخ الذي ينفخ به النار وإن أريد به الموضع فالمعنى أن ذلك الموضع لشدة حرارته ينزع خبث الحديد والذهب والفضة ويخرج خلاصة ذلك والمدينة كذلك تنفي شرار الناس بالحمى والوصب وشدة العيش وضيق الحال التي تخلص النفس من الاسترسال في الشهوات وتطهر خيارهم وتزكيهم وهذا الحديث أخرجه البخاري في الأحكام عن القعنبي وعبد الله بن يوسف وفي الاعتصام عن إسماعيل ومسلم في الحج عن يحيى الأربعة عن مالك به وتابعه سفيان الثوري عن ابن المنكدر عند البخاري بنحوه ( مالك عن يحيى بن سعيد) بن قيس بن عمرو الأنصاري ( أنه قال سمعت أبا الحباب) بضم الحاء المهملة وفتح الموحدة الخفيفة فألف فموحدة ( سعيد) بكسر العين ( ابن يسار) بفتح التحتية والمهملة الخفيفة المدني الثقة المتقن مات بالمدينة سنة سبع عشرة ومائة وقيل قبلها بسنة يقال إنه مولى الحسن بن علي ويقال مولى شميسة النصرانية المسلمة بالمدينة على يد الحسن بن علي وقيل مولى شقران مولى النبي صلى الله عليه وسلم ( يقول سمعت أبا هريرة يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول أمرت بقرية) بضم الهمزة أي أمرني ربي بالهجرة إلى قرية ( تأكل القرى) أي تغلبها وتظهر عليها يعني أن أهلها تغلب أهل سائر البلاد فتفتح منها يقال أكلنا بني فلان أي غلبناهم وظهرنا عليهم فإن الغالب المستولي على الشيء كالمفني له إفناء الأكل إياه وفي موطأ ابن وهب قلت لمالك ما تأكل القرى أي ما معناه قال تفتح القرى لأن من المدينة افتتحت القرى كلها بالإسلام وقال السهيلي في التوراة يقول الله يا طابة يا مسكينة إني سأرفع أجاجيرك على أجاجير القرى وهو قريب من تأكل القرى لأنها إذا علت عليها علو الغلبة أكلتها ويكون المراد يأكل فضلها الفضائل أي يغلب فضلها الفضائل حتى إذا قيست بفضلها تلاشت بالنسبة إليها وجاء في مكة أنها أم القرى لكن المذكور للمدينة أبلغ من الأمومة إذ لا يمحى بوجودها وجود ما هي أم له لكن يكون حق الأمومة أظهر ومعنى تأكل القرى أن الفضائل تضمحل في جنب عظيم فضلها حتى يكون عدمًا وما تضمحل له الفضائل أفضل وأعظم مما تبقى معه الفضائل انتهى وفيه تفضيل المدينة على مكة قال المهلب لأن المدينة هي التي أدخلت مكة وغيرها من القرى في الإسلام فصار الجميع في صحائف أهلها وأجيب بأن أهل المدينة الذين فتحوا مكة فيهم كثير من أهل مكة فالفضل ثابت للفريقين فلا يلزم من ذلك تفضيل إحدى القريتين قلنا لا نزاع في ثبوت الفضل للفريقين وللقريتين كما أنه لا نزاع في أن مكة من جملة القرى التي أكلتها المدينة فيلزم تفضيلها عليها ( يقولون) أي بعض الناس من المنافقين وغيرهم ( يثرب) بالرفع يسمونها باسم واحد من العمالقة نزلها وقيل باسم يثرب بن قانية من ولد إرم بن سام بن نوح وقيل هو اسم كان لموضع منها سميت به كلها وكرهه صلى الله عليه وسلم لأنه من التثريب الذي هو التوبيخ والملامة أو من الثرب وهو الفساد وكلاهما قبيح وكان صلى الله عليه وسلم يحب الاسم الحسن ويكره القبيح ولذا قال يقولون يثرب ( وهي المدينة) أي الكاملة على الإطلاق كالبيت للكعبة فهو اسمها الحقيقي لها لأن التركيب يدل على التفخيم كقوله

هم القوم كل القوم يا أم خالد

أي هي المستحقة لأن تتخذ دار إقامة وأما تسميتها في القرآن يثرب فإنما هي حكاية عن المنافقين وروى أحمد عن البراء بن عازب رفعه من سمى المدينة يثرب فليستغفر الله هي طابة هي طابة وروى عمر بن شبة عن أبي أيوب أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يقال للمدينة يثرب قال عياض فهم العلماء من هذا منع أن يقال يثرب حتى قال عيسى بن دينار من سمى المدينة يثرب كتبت عليه خطيئة وقال أبو عمر فيه دليل على كراهة ذلك انتهى وأجيب عن حديث الصحيحين فإذا هي يثرب وفي رواية لا أراها إلا يثرب بأنه كان قبل النهي ( تنفي) بكسر الفاء ( الناس) أي الخبيث الرديء منهم ( كما ينفي الكير) بكسر الكاف وإسكان التحتية قال أبو عمر هو موضع نار الحداد والصائغ وليس الجلد الذي تسميه العامة كيرًا هكذا قال علماء اللغة ( خبث) بفتح المعجمة والموحدة ومثلثة والنصب على المفعولية ( الحديد) أي وسخه الذي تخرجه النار أي أنها لا تترك فيها من في قلبه دغل بل تميزه عن القلوب الصادقة وتخرجه كما تميز النار رديء الحديد من جيده ونسب التمييز للكير لأنه السبب الأكبر في اشتعال النار التي وقع التمييز بها قال أبو عمر هذا إنما كان في الحياة النبوية فحينئذ لم يكن يخرج من المدينة رغبة عن جواره فيها إلا من لا خير فيه وأما بعده فقد خرج منها الخيار الفضلاء الأبرار وتبعه عياض فقال الأظهر أن هذا يختص بزمنه صلى الله عليه وسلم لأنه لم يكن يصبر على الهجرة والمقام معه إلا من ثبت إيمانه وأما المنافقون وجهلة الأعراب فلا يصبرون على شدة المدينة ولا يحتسبون الأجر في ذلك كما قال الأعرابي الذي أصابه الوعك أقلني بيعتي انتهى ورجح النووي عمومه لما ورد أنها في زمن الدجال ترجف ثلاث رجفات يخرج الله منها كل كافر ومنافق قال فيحتمل أنهم اختصوا بزمن الدجال ويحتمل أنه في أزمان متفرقة قال الأبي فإن قيل قد استقر المنافقون فيها أجيب بأنهم انتفوا بالموت وهو أشد النفي فإن قيل قد استقر بها الروافض ونحوها قلت إن كان نفيها الخبث خاصًا بزمنه صلى الله عليه وسلم فالجواب واضح وإن كان عامًا فيحتمل أن المراد بنفي الخبث إخماد بدعة من يسكنها من المبتدعة وعدم ظهوره بحيث يدعو إلى بدعته وهذا لم يتفق فيها انتهى وهذا الحديث رواه البخاري عن عبد الله بن يوسف ومسلم عن قتيبة بن سعيد كلاهما عن مالك به وتابعه سفيان وعبد الوهاب عن يحيى بن سعيد عند مسلم وقال إنهما قالا كما ينفي الكير الخبث لم يذكر الحديد ( مالك عن هشام بن عروة عن أبيه) قال أبو عمر وصله معن بن عيسى وحده عن مالك عن هشام عن أبيه عن عائشة ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا يخرج أحد من المدينة) ممن استوطنها ( رغبة عنها) أي عن ثواب الساكن فيها وقال المازري أي كراهة لها من رغبت عن الشيء إذا كرهته ( إلا أبدلها الله خيرًا منه) بمولود يولد فيها أو قدوم خير منه من غيرها أما من كان وطنه غيرها فقدمها للقربة ورجع إلى وطنه أو كان مستوطنًا بها فسافر لحاجة أو لضرورة شدة زمان أو فتنة فليس ممن يخرج رغبة عنها قاله الباجي وقال ابن عبد البر هذا في حياته صلى الله عليه وسلم وذلك مثل الأعرابي القائل أقلني بيعتي ومعلوم أن من رغب عن جواره أبدله الله خيرًا منه وأما بعد وفاته فقد خرج منها جماعة من أصحابه ولم تعوض المدينة خيرًا منهم انتهى يعني كأبي موسى وابن مسعود ومعاذ وأبي عبيدة وعلي وطلحة والزبير وعمار وحذيفة وعبادة بن الصامت وبلال وأبي الدرداء وأبي ذر وغيرهم وقطنوا غيرها وماتوا خارجًا عنها ولم تعوض المدينة مثلهم فضلاً عن خير منهم فدل ذلك على التخصيص بزمنه صلى الله عليه وسلم قال الأبي الأظهر أن ذلك ليس خاصًا بالزمن النبوي ومن خرج من الصحابة لم يخرج رغبة عنها بل إنما خرج لمصلحة دينية من تعليم أو جهاد أو غير ذلك انتهى لا يقال ليس النزاع في أن خروجهم لما ذكر إنما هو في تعويضها بخير منهم وهذا لم يقع فالأظهر التخصيص لأنا نقول الإبدال مقيد بالخروج رغبة عنها فلا يرد أن الخارج لمصلحة دينية لم تعوض مثلهم ( مالك عن هشام بن عروة) تابعي صغير لقي بعض الصحابة ( عن أبيه) أحد الفقهاء ( عن) أخيه ( عبد الله بن الزبير) الصحابي ابن الصحابي ( عن سفيان بن أبي زهير) بضم الزاي وفتح الهاء مصغر الأزدي من أزد شنوءة بفتح المعجمة وضم النون وبعد الواو همزة صحابي نزل المدينة قال ابن المديني وخليفة اسم أبيه القرد بفتح القاف وكسر الراء فدال مهملة ولذا يقال له ابن القرد وقيل اسم أبيه نمير بن عبد الله بن مالك ويقال فيه النميري لأنه من ولد النمر بن عثمان بن زهران ( قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول تفتح) بضم الفوقية وسكون الفاء وفتح الفوقية مبني للمفعول ونائبه ( اليمن) سمي بذلك لأنه عن يمين القبلة أو عن يمين الشمس أو بيمن بن قحطان ( فيأتي قوم) من أهل المدينة ( يبسون) بفتح التحتية وكسر الموحدة من الثلاثي رواه يحيى ولا يصح عنه غيره وكذا رواه ابن بكير وقال معناه يسيرون من قوله { { وبست الجبال بسا } } أي سارت وذكر حبيب هذا التفسير عن مالك وكذا رواه ابن نافع وغيره عنه فإنكار عبد الملك بن حبيب رواية يحيى ليس بشيء لأنه لم ينفرد بها بل تابعه ابن بكير وابن نافع وابن حبيب وغيرهم عن مالك ورواه ابن القاسم بفتح التحتية وضم الموحدة ثلاثيًا أيضًا من باب نصر أي يسرعون السير وقيل يزجرون دوابهم وقيل يسألون عن البلدان وأخبارها ليتحملوا إليها وهذا لا يكاد يعرف لغة ورواه ابن وهب يبسون بضم التحتية وكسر الموحدة وضم المهملة رباعي من أبس وقال معناه يزينون لهم الخروج من المدينة أي ويزينون البلد الذي جاؤوا منه ويحببونه إليهم وصوبه ابن حبيب قاله أبو عمر ملخصًا ( فيتحملون) من المدينة ( بأهليهم ومن أطاعهم) من الناس ( والمدينة خير لهم) لأنها لا يدخلها الدجال ولا الطاعون وقيل لأن الفتن فيها دونها في غيرها وقيل لفضل مسجدها والصلاة فيه ومجاورة القبر الشريف ( لو كانوا يعلمون) بما فيها من الفضائل كالصلاة في مسجدها وثواب الإقامة فيها وغير ذلك من الفوائد الدينية الأخروية التي تستحقر دونها ما يجدونه من الحظوظ الفانية العاجلة بسبب الإقامة في غيرها وفي حديث أبي هريرة عند مسلم يأتي على الناس زمان يدعو الرجل ابن عمه أو قريبه هلم إلى الرخاء والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون وظاهره أن الذين يتحملون غير الذين يبسون فكأن الذي حضر الفتح أعجبه حسن اليمن ورخاؤه فدعا قريبه إلى المجيء إليه فيتحمل المدعو بأهله وأتباعه لكن صوب النووي أن حديث الباب إخبار عمن خرج من المدينة متحملاً بأهله وأتباعه بأسًا في سيره إلى الرخاء والأمصار المنفتحة وفي رواية ابن خزيمة من طريق أبي معاوية عن هشام في هذا الحديث ما يؤيده ولفظه تفتح الشام فيخرج الناس إليها يبسون والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون ويوضح ذلك حديث جابر عند البزار برجال الصحيح مرفوعًا ليأتين على أهل المدينة زمان ينطلق الناس منها إلى الأرياف يلتمسون الرخاء فيجدون ثم يتحملون بأهله إلى الرخاء والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون والأرياف جمع ريف بكسر الراء وهو ما قارب المياه في أرض العرب وقيل هو الأرض التي فيها الزرع والخصب وقيل غير ذلك ( وتفتح الشام) سمي بذلك لأنه عن شمال الكعبة وفي رواية ابن جريج عن هشام ثم تفتح الشام ( فيأتي قوم يبسون) بفتح أوله وكسر الموحدة وضمها وبضم أوله وكسر الموحدة أي يزينون ويدعون الناس إلى بلاد الخصب ( فيتحملون بأهليهم ومن أطاعهم) من الناس راحلين إلى الشام ( والمدينة خير لهم) منها لأنها حرم الرسول وجواره ومهبط الوحي ومنزل البركات ( لو كانوا يعلمون) فضلها ما فعلوا ذلك فالجواب محذوف كالسابق واللاحق دل عليه ما قبله وإن كانت لو بمعنى ليت فلا جواب لها وعلى التقديرين ففيه تجهيل لمن فارقها لتفويته على نفسه خيرًا عظيمًا ( وتفتح العراق) وفي رواية ابن جريج ثم تفتح العراق ( فيأتي قوم يبسون فيتحملون بأهليهم ومن أطاعهم) من الناس راحلين إلى العراق ( والمدينة خير لهم) منه ( لو كانوا يعلمون) ذلك والواو في الثلاثة للحال وهذا من إعلام نبوته صلى الله عليه وسلم حيث أخبر بفتح هذه الأقاليم وأن الناس يتحملون بأهليهم ويفارقون المدينة فكان ما قاله على ترتيب ما قال لكن في رواية لمسلم وغيره تفتح الشام ثم اليمن ثم العراق والظاهر أن اليمن قبل الشام للاتفاق على أنه لم يفتح شيء من الشام في الزمن النبوي فرواية تقديم الشام على اليمن معناها أن استيفاء فتح اليمن إنما كان بعد الشام وقول الطهري أخبر صلى الله عليه وسلم في أول الهجرة إلى المدينة بأن اليمن تفتح فيأتي منها قوم حتى يكثر أهل المدينة والمدينة خير لهم من غيرها تعقبه الطيبي بأن تنكير قوم ووصفه بيبسون ثم توكيده بقوله لو كانوا يعلمون لا يساعد ما قاله لأن تنكير قوم لتحقيرهم وتوهين أمرهم ثم وصف يبسون وهو سوق الدواب يشعر بركة عقولهم وأنهم ممن ركن إلى الحظوظ البهيمية وحطام الدنيا الفانية وأعرضوا عن الإقامة في جوار الرسول ولذا كرر قومًا ووصفه في كل قرينة بيبسون استحضارًا لتلك الهيئة القبيحة قال والذي يقتضيه المقام أن ينزل يعلمون منزلة اللازم لينفي عنهم العلم والمعرفة بالكلية ولو ذهب مع ذلك إلى معنى التمني لكان أبلغ لأن التمني طلب ما لا يمكن حصوله أي ليتهم كانوا من أهل العلم تغليظًا وتشديدًا انتهى وفي إسناده تابعيان وصحابيان وأخرجه البخاري عن عبد الله بن يوسف عن مالك به وتابعه ابن جريج ووكيع كلاهما عن هشام عند مسلم به غايته أن وكيعًا قدم الشام ( مالك عن ابن حماس) بكسر الحاء المهملة وميم خفيفة فألف فسين مهملة كذا رواه يحيى ولم يسمه وهو يوسف بن يونس بن حماس وقال معن عن مالك عن يونس بن يوسف فقلبه وقال التنيسي وأبو مصعب عن مالك عن يوسف بن سنان أبدلا يونس فسمياه سنانًا قال البخاري والأول أصح وذكره ابن حبان في الثقات وقال كان من عباد أهل المدينة لمح مرة امرأة فدعا الله فأذهب عينيه ثم دعا الله فردهما عليه وروى عنه مالك وابن جريج وروى هو عن عطاء بن يسار وسعيد بن المسيب وسليمان بن يسار ( عن عمه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لتتركن) بفتح أوله وضم الفوقية الأولى وإسكان الثانية وفتح الراء والكاف ونون التوكيد الثقيلة ونائب الفاعل ( المدينة على أحسن ما) أي حال ( كانت) من العمارة وكثرة الأثمار وحسنها وفي رواية للصحيحين على خير ما كانت وفي أخبار المدينة لعمر بن شبة أن ابن عمر أنكر على أبي هريرة قوله خير ما كانت وقال إنما قال صلى الله عليه وسلم أعمر ما كانت وأن أبا هريرة صدقه على ذلك ( حتى يدخل الكلب أو الذئب) للتنويع ويحتمل الشك ( فيغذي) بضم التحتية وفتح الغين وكسر الذال الثقيلة المعجمتين أي يبول دفعة بعد دفعة ( على بعض سواري) أعمدة ( المسجد أو المنبر) تنويع أو شك لعدم سكانه وخلوه من الناس ( فقالوا يا رسول الله فلمن تكون الثمار ذلك الزمان قال للعوافي الطير والسباع) بالجر بدل أو عطف بيان للعوافي وهي الطالبة لما تأكل مأخوذة من عفوته إذا أتيته تطلب معروفه قال النووي الظاهر المختار أن هذا يكون في آخر الزمان عند قيام الساعة ويوضحه قضية الراعيين من مزينة فإنهما يخران على وجوههما حين تدركهما الساعة وهما آخر من يحشر كما في البخاري وقال القاضي عياض هذا مما جرى في العصر الأول وانقضى فإنها صارت بعد وفاته صلى الله عليه وسلم دار الخلافة ومعقل الناس حتى تنافسوا فيها بالغرس والبناء وتوسعوا في ذلك وسكنوا منها ما لم يسكن قبل حتى بلغت المساكن ملء إهاب وجلبت إليها خيرات الأرض كلها فلما انتهت حالها كمالاً انتقلت الخلافة عنها إلى الشام والعراق وذلك الوقت أحسن ما كانت للدين والدنيا أما الدين فلكثرة العلماء بها وكمالهم وأما الدنيا فلعمارتها وغرسها واتساع حال أهلها قال وذكر الأخباريون في بعض الفتن التي جرت بالمدينة وخاف أهلها أنه رحل عنها أكثر الناس وبقيت ثمارها أو أكثرها للعوافي وخلت مدة ثم تراجع الناس إليها وحكى كثير من الناس أنهم رأوا في خلائها ذلك ما أنذر به صلى الله عليه وسلم من تغذية الكلاب على سواري المسجد وحالها اليوم قريب من ذلك فقد خربت أطرافها قال الأبي تأمل هذا الكلام فإنه يعطي أن خلاءها حتى غذت الكلاب على سواري المسجد كان قريبًا من زمن تناهي حالها وانتقال الخلافة عنها وهذا لم يقع ولو وقع لتواتر بل الظاهر أنه لم يقع بعد ودليل المعجزة يوجب القطع بوقوعه في المستقبل لصحة الحديث وأن الظاهر كونه بين يدي نفخة الصعق كما يدل عليه موت الراعيين والمراد بخير ما كانت عليه من المصالح الدينية المتقدمة الذكر وإلى هذا كان يذهب شيخنا أبو عبد الله يعني ابن عرفة انتهى وفي نفيه وقوعه نظر مع نقل عياض عن كثير أنهم رأوا ذلك ولا يشترط التواتر في مثل هذا وهذا الحديث في البخاري من طريق شعيب ومسلم من طريق يونس وعقيل عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة بنحوه وزيادة ( مالك أنه بلغه أن عمر بن عبد العزيز حين خرج من المدينة) يريد الشام وكان قد أقام بها مدة أميرًا عليها قبل الخلافة ( التفت إليها فبكى) على فراقها ( ثم قال يا مزاحم) بن أبي مزاحم المكي مولى عمر بن عبد العزيز ويقال مولى طلحة ثقة روى له مسلم والنسائي وغيرهما ( أتخشى) تخاف ( أن تكون) بفوقية ( ممن نفت المدينة) ويحتمل أن قوله نكون بالنون أي أنا وأنت.



رقم الحديث 1609 قَالَ مَالِكٌ: الْأَمْرُ عِنْدَنَا فِي الْمَرْأَةِ تُوجَدُ حَامِلًا وَلَا زَوْجَ لَهَا.
فَتَقُولُ: قَدِ اسْتُكْرِهْتُ.
أَوْ تَقُولُ: تَزَوَّجْتُ.
إِنَّ ذَلِكَ لَا يُقْبَلُ مِنْهَا وَإِنَّهَا يُقَامُ عَلَيْهَا الْحَدُّ.
إِلَّا أَنْ يَكُونَ لَهَا عَلَى مَا ادَّعَتْ مِنَ النِّكَاحِ بَيِّنَةٌ.
أَوْ عَلَى أَنَّهَا اسْتُكْرِهَتْ أَوْ جَاءَتْ تَدْمَى إِنْ كَانَتْ بِكْرًا.
أَوِ اسْتَغَاثَتْ حَتَّى أُتِيَتْ.
وَهِيَ عَلَى ذَلِكَ الْحَالِ.
أَوْ مَا أَشْبَهَ هَذَا.
مِنَ الْأَمْرِ الَّذِي تَبْلُغُ فِيهِ فَضِيحَةَ نَفْسِهَا.
قَالَ: فَإِنْ لَمْ تَأْتِ بِشَيْءٍ مِنْ هَذَا، أُقِيمَ عَلَيْهَا الْحَدُّ.
وَلَمْ يُقْبَلْ مِنْهَا مَا ادَّعَتْ مِنْ ذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ: وَالْمُغْتَصَبَةُ لَا تَنْكِحُ حَتَّى تَسْتَبْرِئَ نَفْسَهَا.
بِثَلَاثِ حِيَضٍ قَالَ: فَإِنِ ارْتَابَتْ مِنْ حَيْضَتِهَا.
فَلَا تَنْكِحُ حَتَّى تَسْتَبْرِئَ نَفْسَهَا مِنْ تِلْكَ الرِّيبَةِ.



( ما جاء في المغتصبة)

( مالك الأمر عندنا في المرأة توجد حاملاً ولا زوج لها فتقول قد استكرهت) أي أكرهت على الزنا ( أو تقول تزوجت) ولا يعلم ذلك ( إن ذلك) المذكور من دعوى الإكراه والتزوج ( لا يقبل منها وإنها يقام عليها الحد إلا أن يكون لها على ما ادعت من النكاح بينة أو على أنها استكرهت) بينة ( أو) قرينة كما إذا ( جاءت تدمى) بفتح الميم أي يخرج منها الدم ( إن كانت بكرًا أو استغاثت حتى أتيت) أي أتاها من يغيثها ( وهي على ذلك الحال أو ما أشبه هذا من الأمر الذي تبلغ فيه فضيحة نفسها) وفي نسخة لا تبلغ وهي صحيحة أيضًا بتقدير لا تبلغ ذلك إلا من عظم ما دهاها ( فإن لم تأتِ بشيء من هذا أقيم عليها الحد ولم يقبل منها ما ادعت من ذلك) بلا بينة ولا قرينة ( والمغتصبة لا تنكح حتى تستبرئ نفسها بثلاث حيض) إن كانت حرة لأن استبراءها كعدتها ( فإن ارتابت من حيضتها) بارتفاعها ( فلا تنكح حتى تستبرئ نفسها من تلك الريبة) بزوالها.



رقم الحديث 1610 وَحَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ أَنَّهُ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا الْحُبَابِ سَعِيدَ بْنَ يَسَارٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: أُمِرْتُ بِقَرْيَةٍ تَأْكُلُ الْقُرَى، يَقُولُونَ يَثْرِبُ وَهِيَ الْمَدِينَةُ، تَنْفِي النَّاسَ كَمَا يَنْفِي الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ.


( ما جاء في سكنى المدينة والخروج منها)

( مالك عن قطن) بفتح القاف والطاء المهملة ونون ( ابن وهب بن عمير) بضم العين مصغر وفي نسخة عويمر بواو بعد العين ( ابن الأجدع) بجيم ودال مهملة الليثي أو الخزاعي المدني الصدوق يكنى أبا الحسن وفي التمهيد قطن أحد بني سعد بن ليث مدني ثقة روى عنه مالك وغيره لمالك عنه هذا الحديث الواحد ( أن يحنس) بضم التحتية وفتح الحاء المهملة وتشديد النون مفتوحة ومكسورة كما ضبطه عياض وآخره سين مهملة ابن عبد الله المدني الثقة قال أبو عمر هكذا رواه يحيى وابن بكير وأكثر الرواة ورواه ابن القاسم عن مالك عن قطن بن وهب عن عويمر بن أجدع أن يحنس والصحيح رواية الجماعة وكذا نسبه ابن البرقي ويشهد لصحته رواية القعنبي عن مالك عن قطن بن وهب أن يحنس ( مولى الزبير بن العوام) أحد العشرة وفي رواية لمسلم مولى مصعب بن الزبير قال النووي وهو لأحدهما حقيقة وللآخر مجاز ( أخبره أنه كان جالسًا عند عبد الله بن عمر) بن الخطاب ( في الفتنة) التي وقعت زمن يزيد بن معاوية ( فأتته مولاة له) لم تسم ( تسلم عليه فقالت إني أردت الخروج) من المدينة ( يا أبا عبد الرحمن) لأنه ( اشتد) قوي وصعب ( علينا الزمان فقال لها عبد الله بن عمر اقعدي لكع) بضم اللام وفتح الكاف وعين مهملة كذا ليحيى وحده والصواب لكاع كما رواه غيره قال أبو عمر إنما يقال للمرأة لكاع مثل جذام وقطام وقال عياض يطلق لكع بضم اللام وفتح الكاف على اللئيم والعبد والغبي الذي لا يهتدي لنطق ولا غيره وعلى الصغير ومنه قوله صلى الله عليه وسلم يطلب الحسن أثم لكع وقول الحسن لإنسان يا لكع أي يا صغير العلم ويقال للمرأة لكاع على وزن فعال والجميع من اللكع وهو اللؤم وقيل من الملاكيع وهو ما يخرج مع السلى من البطن وقال النحاة لكع ولكاع لا يستعملان إلا في النداء خاصة وقد استعمل لكاع في الشعر في غير النداء قال الحطيئة

أطوف ما أطوف ثم آوي
إلى بيت قعيدته لكاع

قال ذلك ابن عمر لها إنكارًا لما أرادته من الخروج وتثبيطًا لها وإدلالاً عليها لأنها مولاته وقد يكون معناه يا قليلة العلم وصغيرة الحظ منه لما فاتها من معرفة حق المدينة ( فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لا يصبر على لأوائها) بالمد ( وشدتها) قال أبو عمر يعني المدينة والشدة الجوع واللأواء تعذر الكسب وسوء الحال وقال المازري اللأواء الجوع وشدة المكسب وضمير شدتها يحتمل أن يعود على اللأواء ويحتمل أن يعود على المدينة قال الأبي الحديث خرج مخرج الحث على سكناها فمن لزم سكناها داخل في ذلك ولو لم تلحقه لأواء لأن التعليل بالغالب والمظنة لا يضر فيه التخلف في بعض الصور كتعليل القصر بمشقة السفر فإن الملك يقصر وإن لم تلحقه مشقة لوجود السفر ( أحد إلا كنت له شفيعًا أو شهيدًا يوم القيامة) قال عياض سئلت قديمًا عن هذا الحديث ولم خص ساكن المدينة بالشفاعة هنا مع عموم شفاعته صلى الله عليه وسلم وادخاره إياها وأجيب عنه بجواب شاف مقنع في أوراق اعترف بصوابه كل واقف عليه وأذكر منه هنا لمعًا تليق بهذا الموضع قال بعض شيوخنا أو هنا للشك والأظهر عندنا أنها ليست للشك لأن هذا الحديث رواه جابر وسعد بن أبي وقاص وابن عمر وأبو سعيد وأبو هريرة وأسماء بنت عميس وصفية بنت أبي عبيد عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا اللفظ ويبعد اتفاق جميعهم أو رواتهم على الشك وتطابقهم فيه على صيغة واحدة بل الأظهر أنه صلى الله عليه وسلم قاله هكذا فإما أن يكون أعلم بهذه الجملة هكذا وإما أن تكون أو للتقسيم ويكون شهيدًا لبعض أهل المدينة وشفيعًا لباقيهم إما شفيعًا للعاصين وشهيدًا للمطيعين وإما شهيدًا لمن مات في حياته وشفيعًا لمن مات بعده أو غير ذلك وهذه خصوصية زائدة على الشفاعة للمذنبين أو للعاصين في القيامة وعلى شهادته على جميع الأمة وقد قال صلى الله عليه وسلم في شهداء أحد أنا شهيد على هؤلاء فيكون لتخصيصهم بهذا كله مزية وزيادة منزلة وحظوة قال وقد تكون أو بمعنى الواو فيكون لأهل المدينة شفيعًا وشهيدًا انتهى وبالواو رواه البزار من حديث ابن عمر قال عياض وإذا جعلنا أو للشك كما قال المشايخ فإن كانت اللفظة الصحيحة شهيدًا اندفع الاعتراض لأنها زائدة على الشفاعة المدخرة لغيرهم وإن كانت شفيعًا فاختصاص أهل المدينة بهذا أن هذه شفاعة أخرى أي العامة التي هي في إخراج أمته من النار ومعافاة بعضهم بشفاعته في القيامة وتكون هذه الشفاعة بزيادة الدرجات أو تخفيف السيئات أو بما شاء الله من ذلك أو بإكرامهم يوم القيامة بأنواع من الكرامة كإيوائهم إلى ظل العرش أو كونهم في روح أو على منابر أو الإسراع بهم إلى الجنة أو غير ذلك من خصوص الكرامات الواردة لبعضهم دون بعض انتهى ونقله عنه النووي وغيره وأقروه والحديث رواه مسلم عن يحيى عن مالك به وتابعه الضحاك عن قطن عند مسلم ( مالك عن محمد بن المنكدر) بن عبد الله التيمي المدني ( عن جابر بن عبد الله) الصحابي ابن الصحابي ( أن أعرابيًا) قال الحافظ لم أقف على اسمه إلا أن الزمخشري ذكر في ربيع الأبرار أنه قيس بن أبي حازم وهو مشكل لأنه تابعي كبير مشهور وصرحوا بأنه هاجر فوجد النبي صلى الله عليه وسلم قد مات فإن كان محفوظًا فلعله آخر وافق اسمه واسم أبيه وفي الذيل لأبي موسى المديني في الصحابة قيس بن حازم المنقري فيحتمل أن يكون هو هذا أي زيد في اسم أبيه أداة الكنية سهوًا أو غلطًا ( بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام فأصاب الأعرابي وعك) بفتح الواو وبسكون العين حمى ( بالمدينة فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم) وفي رواية سفيان الثوري فجاء الغد محمومًا ( فقال يا رسول الله أقلني بيعتي) على الإسلام قاله عياض وقال غيره إنما استقاله من الهجرة ولم يرد الارتداد عن الإسلام قال ابن بطال بدليل أنه لم يرد حل ما عقده إلا بموافقة النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك ولو أراد الردة ووقع فيها لقتله إذ ذاك وحمله بعضهم على الإقالة من المقام بالمدينة ( فأبى) امتنع ( رسول الله صلى الله عليه وسلم) أن يقيله ( ثم جاءه) ثانية ( فقال أقلني بيعتي فأبى) امتنع ( ثم جاءه) الثالثة ( فقال أقلني بيعتي فأبى) أن يقيله لأنها إن كانت بعد الفتح فهي على الإسلام فلم يقله لأنه لا يحل الرجوع إلى الكفر وإن كان قبله فهي على الهجرة والمقام معه بالمدينة ولا يحل للمهاجر أن يرجع إلى وطنه كذا قال عياض ورده الأبي فقال الأظهر أنها على الهجرة لقوله وعك ولو كانت على الإسلام كانت ردة لأن الرضا بالدوام على الكفر كفر انتهى ( فخرج الأعرابي) من المدينة إلى البدو ( فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما المدينة كالكير) بكسر الكاف المنفخ الذي ينفخ به النار أو الموضع المشتمل عليها ( تنفي) بفتح الفوقية وسكون النون وبالفاء ( خبثها) بفتح المعجمة والموحدة والمثلثة ما تبرزه النار من وسخ وقذر ويروى بضم الخاء وسكون الباء من الشيء الخبيث والأول أشبه لمناسبة الكير ( وينصع) بفتح التحتية وسكون النون وفتح الصاد وعين مهملتين من النصوع وهو الخلوص أي يخلص ( طيبها) بكسر الطاء وسكون التحتية خفيفة والرفع فاعل ينصع وفي رواية تنصع بالفوقية طيبها بالنصب على المفعولية مخففًا أيضًا وبه ضبطه القزاز لكنه استشكله بأنه لم ير النصوع في الطيب وإنما الكلام يتضوع بضاد معجمة وزيادة واو لكن قال عياض معنى ينصع يصفو ويخلص يقال طيب ناصع إذا خلصت رائحته وصفت مما ينقصها وفي رواية طيبها بشد التحتية مكسورة والرفع فاعل قال الأبي وهي الرواية الصحيحة وهو أقوم معنى لأنه ذكره في مقابلة الخبيث وأي مناسبة بين الكير والطيب شبه النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وما يصيب ساكنها من الجهد بالكير وما يدور عليه بمنزلة الخبيث من الطيب فيذهب الخبيث ويبقى الطيب وكذلك المدينة تنفي شرارها بالحمى والجوع وتطهر خيارهم وتزكيهم انتهى وقال غيره هذا تشبيه حسن لأن الكير بشدة نفخه ينفي عن النار السخام والدخان والرماد حتى لا يبقى إلا خالص الجمر هذا إن أريد بالكير المنفخ الذي ينفخ به النار وإن أريد به الموضع فالمعنى أن ذلك الموضع لشدة حرارته ينزع خبث الحديد والذهب والفضة ويخرج خلاصة ذلك والمدينة كذلك تنفي شرار الناس بالحمى والوصب وشدة العيش وضيق الحال التي تخلص النفس من الاسترسال في الشهوات وتطهر خيارهم وتزكيهم وهذا الحديث أخرجه البخاري في الأحكام عن القعنبي وعبد الله بن يوسف وفي الاعتصام عن إسماعيل ومسلم في الحج عن يحيى الأربعة عن مالك به وتابعه سفيان الثوري عن ابن المنكدر عند البخاري بنحوه ( مالك عن يحيى بن سعيد) بن قيس بن عمرو الأنصاري ( أنه قال سمعت أبا الحباب) بضم الحاء المهملة وفتح الموحدة الخفيفة فألف فموحدة ( سعيد) بكسر العين ( ابن يسار) بفتح التحتية والمهملة الخفيفة المدني الثقة المتقن مات بالمدينة سنة سبع عشرة ومائة وقيل قبلها بسنة يقال إنه مولى الحسن بن علي ويقال مولى شميسة النصرانية المسلمة بالمدينة على يد الحسن بن علي وقيل مولى شقران مولى النبي صلى الله عليه وسلم ( يقول سمعت أبا هريرة يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول أمرت بقرية) بضم الهمزة أي أمرني ربي بالهجرة إلى قرية ( تأكل القرى) أي تغلبها وتظهر عليها يعني أن أهلها تغلب أهل سائر البلاد فتفتح منها يقال أكلنا بني فلان أي غلبناهم وظهرنا عليهم فإن الغالب المستولي على الشيء كالمفني له إفناء الأكل إياه وفي موطأ ابن وهب قلت لمالك ما تأكل القرى أي ما معناه قال تفتح القرى لأن من المدينة افتتحت القرى كلها بالإسلام وقال السهيلي في التوراة يقول الله يا طابة يا مسكينة إني سأرفع أجاجيرك على أجاجير القرى وهو قريب من تأكل القرى لأنها إذا علت عليها علو الغلبة أكلتها ويكون المراد يأكل فضلها الفضائل أي يغلب فضلها الفضائل حتى إذا قيست بفضلها تلاشت بالنسبة إليها وجاء في مكة أنها أم القرى لكن المذكور للمدينة أبلغ من الأمومة إذ لا يمحى بوجودها وجود ما هي أم له لكن يكون حق الأمومة أظهر ومعنى تأكل القرى أن الفضائل تضمحل في جنب عظيم فضلها حتى يكون عدمًا وما تضمحل له الفضائل أفضل وأعظم مما تبقى معه الفضائل انتهى وفيه تفضيل المدينة على مكة قال المهلب لأن المدينة هي التي أدخلت مكة وغيرها من القرى في الإسلام فصار الجميع في صحائف أهلها وأجيب بأن أهل المدينة الذين فتحوا مكة فيهم كثير من أهل مكة فالفضل ثابت للفريقين فلا يلزم من ذلك تفضيل إحدى القريتين قلنا لا نزاع في ثبوت الفضل للفريقين وللقريتين كما أنه لا نزاع في أن مكة من جملة القرى التي أكلتها المدينة فيلزم تفضيلها عليها ( يقولون) أي بعض الناس من المنافقين وغيرهم ( يثرب) بالرفع يسمونها باسم واحد من العمالقة نزلها وقيل باسم يثرب بن قانية من ولد إرم بن سام بن نوح وقيل هو اسم كان لموضع منها سميت به كلها وكرهه صلى الله عليه وسلم لأنه من التثريب الذي هو التوبيخ والملامة أو من الثرب وهو الفساد وكلاهما قبيح وكان صلى الله عليه وسلم يحب الاسم الحسن ويكره القبيح ولذا قال يقولون يثرب ( وهي المدينة) أي الكاملة على الإطلاق كالبيت للكعبة فهو اسمها الحقيقي لها لأن التركيب يدل على التفخيم كقوله

هم القوم كل القوم يا أم خالد

أي هي المستحقة لأن تتخذ دار إقامة وأما تسميتها في القرآن يثرب فإنما هي حكاية عن المنافقين وروى أحمد عن البراء بن عازب رفعه من سمى المدينة يثرب فليستغفر الله هي طابة هي طابة وروى عمر بن شبة عن أبي أيوب أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يقال للمدينة يثرب قال عياض فهم العلماء من هذا منع أن يقال يثرب حتى قال عيسى بن دينار من سمى المدينة يثرب كتبت عليه خطيئة وقال أبو عمر فيه دليل على كراهة ذلك انتهى وأجيب عن حديث الصحيحين فإذا هي يثرب وفي رواية لا أراها إلا يثرب بأنه كان قبل النهي ( تنفي) بكسر الفاء ( الناس) أي الخبيث الرديء منهم ( كما ينفي الكير) بكسر الكاف وإسكان التحتية قال أبو عمر هو موضع نار الحداد والصائغ وليس الجلد الذي تسميه العامة كيرًا هكذا قال علماء اللغة ( خبث) بفتح المعجمة والموحدة ومثلثة والنصب على المفعولية ( الحديد) أي وسخه الذي تخرجه النار أي أنها لا تترك فيها من في قلبه دغل بل تميزه عن القلوب الصادقة وتخرجه كما تميز النار رديء الحديد من جيده ونسب التمييز للكير لأنه السبب الأكبر في اشتعال النار التي وقع التمييز بها قال أبو عمر هذا إنما كان في الحياة النبوية فحينئذ لم يكن يخرج من المدينة رغبة عن جواره فيها إلا من لا خير فيه وأما بعده فقد خرج منها الخيار الفضلاء الأبرار وتبعه عياض فقال الأظهر أن هذا يختص بزمنه صلى الله عليه وسلم لأنه لم يكن يصبر على الهجرة والمقام معه إلا من ثبت إيمانه وأما المنافقون وجهلة الأعراب فلا يصبرون على شدة المدينة ولا يحتسبون الأجر في ذلك كما قال الأعرابي الذي أصابه الوعك أقلني بيعتي انتهى ورجح النووي عمومه لما ورد أنها في زمن الدجال ترجف ثلاث رجفات يخرج الله منها كل كافر ومنافق قال فيحتمل أنهم اختصوا بزمن الدجال ويحتمل أنه في أزمان متفرقة قال الأبي فإن قيل قد استقر المنافقون فيها أجيب بأنهم انتفوا بالموت وهو أشد النفي فإن قيل قد استقر بها الروافض ونحوها قلت إن كان نفيها الخبث خاصًا بزمنه صلى الله عليه وسلم فالجواب واضح وإن كان عامًا فيحتمل أن المراد بنفي الخبث إخماد بدعة من يسكنها من المبتدعة وعدم ظهوره بحيث يدعو إلى بدعته وهذا لم يتفق فيها انتهى وهذا الحديث رواه البخاري عن عبد الله بن يوسف ومسلم عن قتيبة بن سعيد كلاهما عن مالك به وتابعه سفيان وعبد الوهاب عن يحيى بن سعيد عند مسلم وقال إنهما قالا كما ينفي الكير الخبث لم يذكر الحديد ( مالك عن هشام بن عروة عن أبيه) قال أبو عمر وصله معن بن عيسى وحده عن مالك عن هشام عن أبيه عن عائشة ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا يخرج أحد من المدينة) ممن استوطنها ( رغبة عنها) أي عن ثواب الساكن فيها وقال المازري أي كراهة لها من رغبت عن الشيء إذا كرهته ( إلا أبدلها الله خيرًا منه) بمولود يولد فيها أو قدوم خير منه من غيرها أما من كان وطنه غيرها فقدمها للقربة ورجع إلى وطنه أو كان مستوطنًا بها فسافر لحاجة أو لضرورة شدة زمان أو فتنة فليس ممن يخرج رغبة عنها قاله الباجي وقال ابن عبد البر هذا في حياته صلى الله عليه وسلم وذلك مثل الأعرابي القائل أقلني بيعتي ومعلوم أن من رغب عن جواره أبدله الله خيرًا منه وأما بعد وفاته فقد خرج منها جماعة من أصحابه ولم تعوض المدينة خيرًا منهم انتهى يعني كأبي موسى وابن مسعود ومعاذ وأبي عبيدة وعلي وطلحة والزبير وعمار وحذيفة وعبادة بن الصامت وبلال وأبي الدرداء وأبي ذر وغيرهم وقطنوا غيرها وماتوا خارجًا عنها ولم تعوض المدينة مثلهم فضلاً عن خير منهم فدل ذلك على التخصيص بزمنه صلى الله عليه وسلم قال الأبي الأظهر أن ذلك ليس خاصًا بالزمن النبوي ومن خرج من الصحابة لم يخرج رغبة عنها بل إنما خرج لمصلحة دينية من تعليم أو جهاد أو غير ذلك انتهى لا يقال ليس النزاع في أن خروجهم لما ذكر إنما هو في تعويضها بخير منهم وهذا لم يقع فالأظهر التخصيص لأنا نقول الإبدال مقيد بالخروج رغبة عنها فلا يرد أن الخارج لمصلحة دينية لم تعوض مثلهم ( مالك عن هشام بن عروة) تابعي صغير لقي بعض الصحابة ( عن أبيه) أحد الفقهاء ( عن) أخيه ( عبد الله بن الزبير) الصحابي ابن الصحابي ( عن سفيان بن أبي زهير) بضم الزاي وفتح الهاء مصغر الأزدي من أزد شنوءة بفتح المعجمة وضم النون وبعد الواو همزة صحابي نزل المدينة قال ابن المديني وخليفة اسم أبيه القرد بفتح القاف وكسر الراء فدال مهملة ولذا يقال له ابن القرد وقيل اسم أبيه نمير بن عبد الله بن مالك ويقال فيه النميري لأنه من ولد النمر بن عثمان بن زهران ( قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول تفتح) بضم الفوقية وسكون الفاء وفتح الفوقية مبني للمفعول ونائبه ( اليمن) سمي بذلك لأنه عن يمين القبلة أو عن يمين الشمس أو بيمن بن قحطان ( فيأتي قوم) من أهل المدينة ( يبسون) بفتح التحتية وكسر الموحدة من الثلاثي رواه يحيى ولا يصح عنه غيره وكذا رواه ابن بكير وقال معناه يسيرون من قوله { { وبست الجبال بسا } } أي سارت وذكر حبيب هذا التفسير عن مالك وكذا رواه ابن نافع وغيره عنه فإنكار عبد الملك بن حبيب رواية يحيى ليس بشيء لأنه لم ينفرد بها بل تابعه ابن بكير وابن نافع وابن حبيب وغيرهم عن مالك ورواه ابن القاسم بفتح التحتية وضم الموحدة ثلاثيًا أيضًا من باب نصر أي يسرعون السير وقيل يزجرون دوابهم وقيل يسألون عن البلدان وأخبارها ليتحملوا إليها وهذا لا يكاد يعرف لغة ورواه ابن وهب يبسون بضم التحتية وكسر الموحدة وضم المهملة رباعي من أبس وقال معناه يزينون لهم الخروج من المدينة أي ويزينون البلد الذي جاؤوا منه ويحببونه إليهم وصوبه ابن حبيب قاله أبو عمر ملخصًا ( فيتحملون) من المدينة ( بأهليهم ومن أطاعهم) من الناس ( والمدينة خير لهم) لأنها لا يدخلها الدجال ولا الطاعون وقيل لأن الفتن فيها دونها في غيرها وقيل لفضل مسجدها والصلاة فيه ومجاورة القبر الشريف ( لو كانوا يعلمون) بما فيها من الفضائل كالصلاة في مسجدها وثواب الإقامة فيها وغير ذلك من الفوائد الدينية الأخروية التي تستحقر دونها ما يجدونه من الحظوظ الفانية العاجلة بسبب الإقامة في غيرها وفي حديث أبي هريرة عند مسلم يأتي على الناس زمان يدعو الرجل ابن عمه أو قريبه هلم إلى الرخاء والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون وظاهره أن الذين يتحملون غير الذين يبسون فكأن الذي حضر الفتح أعجبه حسن اليمن ورخاؤه فدعا قريبه إلى المجيء إليه فيتحمل المدعو بأهله وأتباعه لكن صوب النووي أن حديث الباب إخبار عمن خرج من المدينة متحملاً بأهله وأتباعه بأسًا في سيره إلى الرخاء والأمصار المنفتحة وفي رواية ابن خزيمة من طريق أبي معاوية عن هشام في هذا الحديث ما يؤيده ولفظه تفتح الشام فيخرج الناس إليها يبسون والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون ويوضح ذلك حديث جابر عند البزار برجال الصحيح مرفوعًا ليأتين على أهل المدينة زمان ينطلق الناس منها إلى الأرياف يلتمسون الرخاء فيجدون ثم يتحملون بأهله إلى الرخاء والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون والأرياف جمع ريف بكسر الراء وهو ما قارب المياه في أرض العرب وقيل هو الأرض التي فيها الزرع والخصب وقيل غير ذلك ( وتفتح الشام) سمي بذلك لأنه عن شمال الكعبة وفي رواية ابن جريج عن هشام ثم تفتح الشام ( فيأتي قوم يبسون) بفتح أوله وكسر الموحدة وضمها وبضم أوله وكسر الموحدة أي يزينون ويدعون الناس إلى بلاد الخصب ( فيتحملون بأهليهم ومن أطاعهم) من الناس راحلين إلى الشام ( والمدينة خير لهم) منها لأنها حرم الرسول وجواره ومهبط الوحي ومنزل البركات ( لو كانوا يعلمون) فضلها ما فعلوا ذلك فالجواب محذوف كالسابق واللاحق دل عليه ما قبله وإن كانت لو بمعنى ليت فلا جواب لها وعلى التقديرين ففيه تجهيل لمن فارقها لتفويته على نفسه خيرًا عظيمًا ( وتفتح العراق) وفي رواية ابن جريج ثم تفتح العراق ( فيأتي قوم يبسون فيتحملون بأهليهم ومن أطاعهم) من الناس راحلين إلى العراق ( والمدينة خير لهم) منه ( لو كانوا يعلمون) ذلك والواو في الثلاثة للحال وهذا من إعلام نبوته صلى الله عليه وسلم حيث أخبر بفتح هذه الأقاليم وأن الناس يتحملون بأهليهم ويفارقون المدينة فكان ما قاله على ترتيب ما قال لكن في رواية لمسلم وغيره تفتح الشام ثم اليمن ثم العراق والظاهر أن اليمن قبل الشام للاتفاق على أنه لم يفتح شيء من الشام في الزمن النبوي فرواية تقديم الشام على اليمن معناها أن استيفاء فتح اليمن إنما كان بعد الشام وقول الطهري أخبر صلى الله عليه وسلم في أول الهجرة إلى المدينة بأن اليمن تفتح فيأتي منها قوم حتى يكثر أهل المدينة والمدينة خير لهم من غيرها تعقبه الطيبي بأن تنكير قوم ووصفه بيبسون ثم توكيده بقوله لو كانوا يعلمون لا يساعد ما قاله لأن تنكير قوم لتحقيرهم وتوهين أمرهم ثم وصف يبسون وهو سوق الدواب يشعر بركة عقولهم وأنهم ممن ركن إلى الحظوظ البهيمية وحطام الدنيا الفانية وأعرضوا عن الإقامة في جوار الرسول ولذا كرر قومًا ووصفه في كل قرينة بيبسون استحضارًا لتلك الهيئة القبيحة قال والذي يقتضيه المقام أن ينزل يعلمون منزلة اللازم لينفي عنهم العلم والمعرفة بالكلية ولو ذهب مع ذلك إلى معنى التمني لكان أبلغ لأن التمني طلب ما لا يمكن حصوله أي ليتهم كانوا من أهل العلم تغليظًا وتشديدًا انتهى وفي إسناده تابعيان وصحابيان وأخرجه البخاري عن عبد الله بن يوسف عن مالك به وتابعه ابن جريج ووكيع كلاهما عن هشام عند مسلم به غايته أن وكيعًا قدم الشام ( مالك عن ابن حماس) بكسر الحاء المهملة وميم خفيفة فألف فسين مهملة كذا رواه يحيى ولم يسمه وهو يوسف بن يونس بن حماس وقال معن عن مالك عن يونس بن يوسف فقلبه وقال التنيسي وأبو مصعب عن مالك عن يوسف بن سنان أبدلا يونس فسمياه سنانًا قال البخاري والأول أصح وذكره ابن حبان في الثقات وقال كان من عباد أهل المدينة لمح مرة امرأة فدعا الله فأذهب عينيه ثم دعا الله فردهما عليه وروى عنه مالك وابن جريج وروى هو عن عطاء بن يسار وسعيد بن المسيب وسليمان بن يسار ( عن عمه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لتتركن) بفتح أوله وضم الفوقية الأولى وإسكان الثانية وفتح الراء والكاف ونون التوكيد الثقيلة ونائب الفاعل ( المدينة على أحسن ما) أي حال ( كانت) من العمارة وكثرة الأثمار وحسنها وفي رواية للصحيحين على خير ما كانت وفي أخبار المدينة لعمر بن شبة أن ابن عمر أنكر على أبي هريرة قوله خير ما كانت وقال إنما قال صلى الله عليه وسلم أعمر ما كانت وأن أبا هريرة صدقه على ذلك ( حتى يدخل الكلب أو الذئب) للتنويع ويحتمل الشك ( فيغذي) بضم التحتية وفتح الغين وكسر الذال الثقيلة المعجمتين أي يبول دفعة بعد دفعة ( على بعض سواري) أعمدة ( المسجد أو المنبر) تنويع أو شك لعدم سكانه وخلوه من الناس ( فقالوا يا رسول الله فلمن تكون الثمار ذلك الزمان قال للعوافي الطير والسباع) بالجر بدل أو عطف بيان للعوافي وهي الطالبة لما تأكل مأخوذة من عفوته إذا أتيته تطلب معروفه قال النووي الظاهر المختار أن هذا يكون في آخر الزمان عند قيام الساعة ويوضحه قضية الراعيين من مزينة فإنهما يخران على وجوههما حين تدركهما الساعة وهما آخر من يحشر كما في البخاري وقال القاضي عياض هذا مما جرى في العصر الأول وانقضى فإنها صارت بعد وفاته صلى الله عليه وسلم دار الخلافة ومعقل الناس حتى تنافسوا فيها بالغرس والبناء وتوسعوا في ذلك وسكنوا منها ما لم يسكن قبل حتى بلغت المساكن ملء إهاب وجلبت إليها خيرات الأرض كلها فلما انتهت حالها كمالاً انتقلت الخلافة عنها إلى الشام والعراق وذلك الوقت أحسن ما كانت للدين والدنيا أما الدين فلكثرة العلماء بها وكمالهم وأما الدنيا فلعمارتها وغرسها واتساع حال أهلها قال وذكر الأخباريون في بعض الفتن التي جرت بالمدينة وخاف أهلها أنه رحل عنها أكثر الناس وبقيت ثمارها أو أكثرها للعوافي وخلت مدة ثم تراجع الناس إليها وحكى كثير من الناس أنهم رأوا في خلائها ذلك ما أنذر به صلى الله عليه وسلم من تغذية الكلاب على سواري المسجد وحالها اليوم قريب من ذلك فقد خربت أطرافها قال الأبي تأمل هذا الكلام فإنه يعطي أن خلاءها حتى غذت الكلاب على سواري المسجد كان قريبًا من زمن تناهي حالها وانتقال الخلافة عنها وهذا لم يقع ولو وقع لتواتر بل الظاهر أنه لم يقع بعد ودليل المعجزة يوجب القطع بوقوعه في المستقبل لصحة الحديث وأن الظاهر كونه بين يدي نفخة الصعق كما يدل عليه موت الراعيين والمراد بخير ما كانت عليه من المصالح الدينية المتقدمة الذكر وإلى هذا كان يذهب شيخنا أبو عبد الله يعني ابن عرفة انتهى وفي نفيه وقوعه نظر مع نقل عياض عن كثير أنهم رأوا ذلك ولا يشترط التواتر في مثل هذا وهذا الحديث في البخاري من طريق شعيب ومسلم من طريق يونس وعقيل عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة بنحوه وزيادة ( مالك أنه بلغه أن عمر بن عبد العزيز حين خرج من المدينة) يريد الشام وكان قد أقام بها مدة أميرًا عليها قبل الخلافة ( التفت إليها فبكى) على فراقها ( ثم قال يا مزاحم) بن أبي مزاحم المكي مولى عمر بن عبد العزيز ويقال مولى طلحة ثقة روى له مسلم والنسائي وغيرهما ( أتخشى) تخاف ( أن تكون) بفوقية ( ممن نفت المدينة) ويحتمل أن قوله نكون بالنون أي أنا وأنت.



رقم الحديث 1611 وَحَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لَا يَخْرُجُ أَحَدٌ مِنَ الْمَدِينَةِ رَغْبَةً عَنْهَا، إِلَّا أَبْدَلَهَا اللَّهُ خَيْرًا مِنْهُ.


( ما جاء في سكنى المدينة والخروج منها)

( مالك عن قطن) بفتح القاف والطاء المهملة ونون ( ابن وهب بن عمير) بضم العين مصغر وفي نسخة عويمر بواو بعد العين ( ابن الأجدع) بجيم ودال مهملة الليثي أو الخزاعي المدني الصدوق يكنى أبا الحسن وفي التمهيد قطن أحد بني سعد بن ليث مدني ثقة روى عنه مالك وغيره لمالك عنه هذا الحديث الواحد ( أن يحنس) بضم التحتية وفتح الحاء المهملة وتشديد النون مفتوحة ومكسورة كما ضبطه عياض وآخره سين مهملة ابن عبد الله المدني الثقة قال أبو عمر هكذا رواه يحيى وابن بكير وأكثر الرواة ورواه ابن القاسم عن مالك عن قطن بن وهب عن عويمر بن أجدع أن يحنس والصحيح رواية الجماعة وكذا نسبه ابن البرقي ويشهد لصحته رواية القعنبي عن مالك عن قطن بن وهب أن يحنس ( مولى الزبير بن العوام) أحد العشرة وفي رواية لمسلم مولى مصعب بن الزبير قال النووي وهو لأحدهما حقيقة وللآخر مجاز ( أخبره أنه كان جالسًا عند عبد الله بن عمر) بن الخطاب ( في الفتنة) التي وقعت زمن يزيد بن معاوية ( فأتته مولاة له) لم تسم ( تسلم عليه فقالت إني أردت الخروج) من المدينة ( يا أبا عبد الرحمن) لأنه ( اشتد) قوي وصعب ( علينا الزمان فقال لها عبد الله بن عمر اقعدي لكع) بضم اللام وفتح الكاف وعين مهملة كذا ليحيى وحده والصواب لكاع كما رواه غيره قال أبو عمر إنما يقال للمرأة لكاع مثل جذام وقطام وقال عياض يطلق لكع بضم اللام وفتح الكاف على اللئيم والعبد والغبي الذي لا يهتدي لنطق ولا غيره وعلى الصغير ومنه قوله صلى الله عليه وسلم يطلب الحسن أثم لكع وقول الحسن لإنسان يا لكع أي يا صغير العلم ويقال للمرأة لكاع على وزن فعال والجميع من اللكع وهو اللؤم وقيل من الملاكيع وهو ما يخرج مع السلى من البطن وقال النحاة لكع ولكاع لا يستعملان إلا في النداء خاصة وقد استعمل لكاع في الشعر في غير النداء قال الحطيئة

أطوف ما أطوف ثم آوي
إلى بيت قعيدته لكاع

قال ذلك ابن عمر لها إنكارًا لما أرادته من الخروج وتثبيطًا لها وإدلالاً عليها لأنها مولاته وقد يكون معناه يا قليلة العلم وصغيرة الحظ منه لما فاتها من معرفة حق المدينة ( فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لا يصبر على لأوائها) بالمد ( وشدتها) قال أبو عمر يعني المدينة والشدة الجوع واللأواء تعذر الكسب وسوء الحال وقال المازري اللأواء الجوع وشدة المكسب وضمير شدتها يحتمل أن يعود على اللأواء ويحتمل أن يعود على المدينة قال الأبي الحديث خرج مخرج الحث على سكناها فمن لزم سكناها داخل في ذلك ولو لم تلحقه لأواء لأن التعليل بالغالب والمظنة لا يضر فيه التخلف في بعض الصور كتعليل القصر بمشقة السفر فإن الملك يقصر وإن لم تلحقه مشقة لوجود السفر ( أحد إلا كنت له شفيعًا أو شهيدًا يوم القيامة) قال عياض سئلت قديمًا عن هذا الحديث ولم خص ساكن المدينة بالشفاعة هنا مع عموم شفاعته صلى الله عليه وسلم وادخاره إياها وأجيب عنه بجواب شاف مقنع في أوراق اعترف بصوابه كل واقف عليه وأذكر منه هنا لمعًا تليق بهذا الموضع قال بعض شيوخنا أو هنا للشك والأظهر عندنا أنها ليست للشك لأن هذا الحديث رواه جابر وسعد بن أبي وقاص وابن عمر وأبو سعيد وأبو هريرة وأسماء بنت عميس وصفية بنت أبي عبيد عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا اللفظ ويبعد اتفاق جميعهم أو رواتهم على الشك وتطابقهم فيه على صيغة واحدة بل الأظهر أنه صلى الله عليه وسلم قاله هكذا فإما أن يكون أعلم بهذه الجملة هكذا وإما أن تكون أو للتقسيم ويكون شهيدًا لبعض أهل المدينة وشفيعًا لباقيهم إما شفيعًا للعاصين وشهيدًا للمطيعين وإما شهيدًا لمن مات في حياته وشفيعًا لمن مات بعده أو غير ذلك وهذه خصوصية زائدة على الشفاعة للمذنبين أو للعاصين في القيامة وعلى شهادته على جميع الأمة وقد قال صلى الله عليه وسلم في شهداء أحد أنا شهيد على هؤلاء فيكون لتخصيصهم بهذا كله مزية وزيادة منزلة وحظوة قال وقد تكون أو بمعنى الواو فيكون لأهل المدينة شفيعًا وشهيدًا انتهى وبالواو رواه البزار من حديث ابن عمر قال عياض وإذا جعلنا أو للشك كما قال المشايخ فإن كانت اللفظة الصحيحة شهيدًا اندفع الاعتراض لأنها زائدة على الشفاعة المدخرة لغيرهم وإن كانت شفيعًا فاختصاص أهل المدينة بهذا أن هذه شفاعة أخرى أي العامة التي هي في إخراج أمته من النار ومعافاة بعضهم بشفاعته في القيامة وتكون هذه الشفاعة بزيادة الدرجات أو تخفيف السيئات أو بما شاء الله من ذلك أو بإكرامهم يوم القيامة بأنواع من الكرامة كإيوائهم إلى ظل العرش أو كونهم في روح أو على منابر أو الإسراع بهم إلى الجنة أو غير ذلك من خصوص الكرامات الواردة لبعضهم دون بعض انتهى ونقله عنه النووي وغيره وأقروه والحديث رواه مسلم عن يحيى عن مالك به وتابعه الضحاك عن قطن عند مسلم ( مالك عن محمد بن المنكدر) بن عبد الله التيمي المدني ( عن جابر بن عبد الله) الصحابي ابن الصحابي ( أن أعرابيًا) قال الحافظ لم أقف على اسمه إلا أن الزمخشري ذكر في ربيع الأبرار أنه قيس بن أبي حازم وهو مشكل لأنه تابعي كبير مشهور وصرحوا بأنه هاجر فوجد النبي صلى الله عليه وسلم قد مات فإن كان محفوظًا فلعله آخر وافق اسمه واسم أبيه وفي الذيل لأبي موسى المديني في الصحابة قيس بن حازم المنقري فيحتمل أن يكون هو هذا أي زيد في اسم أبيه أداة الكنية سهوًا أو غلطًا ( بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام فأصاب الأعرابي وعك) بفتح الواو وبسكون العين حمى ( بالمدينة فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم) وفي رواية سفيان الثوري فجاء الغد محمومًا ( فقال يا رسول الله أقلني بيعتي) على الإسلام قاله عياض وقال غيره إنما استقاله من الهجرة ولم يرد الارتداد عن الإسلام قال ابن بطال بدليل أنه لم يرد حل ما عقده إلا بموافقة النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك ولو أراد الردة ووقع فيها لقتله إذ ذاك وحمله بعضهم على الإقالة من المقام بالمدينة ( فأبى) امتنع ( رسول الله صلى الله عليه وسلم) أن يقيله ( ثم جاءه) ثانية ( فقال أقلني بيعتي فأبى) امتنع ( ثم جاءه) الثالثة ( فقال أقلني بيعتي فأبى) أن يقيله لأنها إن كانت بعد الفتح فهي على الإسلام فلم يقله لأنه لا يحل الرجوع إلى الكفر وإن كان قبله فهي على الهجرة والمقام معه بالمدينة ولا يحل للمهاجر أن يرجع إلى وطنه كذا قال عياض ورده الأبي فقال الأظهر أنها على الهجرة لقوله وعك ولو كانت على الإسلام كانت ردة لأن الرضا بالدوام على الكفر كفر انتهى ( فخرج الأعرابي) من المدينة إلى البدو ( فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما المدينة كالكير) بكسر الكاف المنفخ الذي ينفخ به النار أو الموضع المشتمل عليها ( تنفي) بفتح الفوقية وسكون النون وبالفاء ( خبثها) بفتح المعجمة والموحدة والمثلثة ما تبرزه النار من وسخ وقذر ويروى بضم الخاء وسكون الباء من الشيء الخبيث والأول أشبه لمناسبة الكير ( وينصع) بفتح التحتية وسكون النون وفتح الصاد وعين مهملتين من النصوع وهو الخلوص أي يخلص ( طيبها) بكسر الطاء وسكون التحتية خفيفة والرفع فاعل ينصع وفي رواية تنصع بالفوقية طيبها بالنصب على المفعولية مخففًا أيضًا وبه ضبطه القزاز لكنه استشكله بأنه لم ير النصوع في الطيب وإنما الكلام يتضوع بضاد معجمة وزيادة واو لكن قال عياض معنى ينصع يصفو ويخلص يقال طيب ناصع إذا خلصت رائحته وصفت مما ينقصها وفي رواية طيبها بشد التحتية مكسورة والرفع فاعل قال الأبي وهي الرواية الصحيحة وهو أقوم معنى لأنه ذكره في مقابلة الخبيث وأي مناسبة بين الكير والطيب شبه النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وما يصيب ساكنها من الجهد بالكير وما يدور عليه بمنزلة الخبيث من الطيب فيذهب الخبيث ويبقى الطيب وكذلك المدينة تنفي شرارها بالحمى والجوع وتطهر خيارهم وتزكيهم انتهى وقال غيره هذا تشبيه حسن لأن الكير بشدة نفخه ينفي عن النار السخام والدخان والرماد حتى لا يبقى إلا خالص الجمر هذا إن أريد بالكير المنفخ الذي ينفخ به النار وإن أريد به الموضع فالمعنى أن ذلك الموضع لشدة حرارته ينزع خبث الحديد والذهب والفضة ويخرج خلاصة ذلك والمدينة كذلك تنفي شرار الناس بالحمى والوصب وشدة العيش وضيق الحال التي تخلص النفس من الاسترسال في الشهوات وتطهر خيارهم وتزكيهم وهذا الحديث أخرجه البخاري في الأحكام عن القعنبي وعبد الله بن يوسف وفي الاعتصام عن إسماعيل ومسلم في الحج عن يحيى الأربعة عن مالك به وتابعه سفيان الثوري عن ابن المنكدر عند البخاري بنحوه ( مالك عن يحيى بن سعيد) بن قيس بن عمرو الأنصاري ( أنه قال سمعت أبا الحباب) بضم الحاء المهملة وفتح الموحدة الخفيفة فألف فموحدة ( سعيد) بكسر العين ( ابن يسار) بفتح التحتية والمهملة الخفيفة المدني الثقة المتقن مات بالمدينة سنة سبع عشرة ومائة وقيل قبلها بسنة يقال إنه مولى الحسن بن علي ويقال مولى شميسة النصرانية المسلمة بالمدينة على يد الحسن بن علي وقيل مولى شقران مولى النبي صلى الله عليه وسلم ( يقول سمعت أبا هريرة يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول أمرت بقرية) بضم الهمزة أي أمرني ربي بالهجرة إلى قرية ( تأكل القرى) أي تغلبها وتظهر عليها يعني أن أهلها تغلب أهل سائر البلاد فتفتح منها يقال أكلنا بني فلان أي غلبناهم وظهرنا عليهم فإن الغالب المستولي على الشيء كالمفني له إفناء الأكل إياه وفي موطأ ابن وهب قلت لمالك ما تأكل القرى أي ما معناه قال تفتح القرى لأن من المدينة افتتحت القرى كلها بالإسلام وقال السهيلي في التوراة يقول الله يا طابة يا مسكينة إني سأرفع أجاجيرك على أجاجير القرى وهو قريب من تأكل القرى لأنها إذا علت عليها علو الغلبة أكلتها ويكون المراد يأكل فضلها الفضائل أي يغلب فضلها الفضائل حتى إذا قيست بفضلها تلاشت بالنسبة إليها وجاء في مكة أنها أم القرى لكن المذكور للمدينة أبلغ من الأمومة إذ لا يمحى بوجودها وجود ما هي أم له لكن يكون حق الأمومة أظهر ومعنى تأكل القرى أن الفضائل تضمحل في جنب عظيم فضلها حتى يكون عدمًا وما تضمحل له الفضائل أفضل وأعظم مما تبقى معه الفضائل انتهى وفيه تفضيل المدينة على مكة قال المهلب لأن المدينة هي التي أدخلت مكة وغيرها من القرى في الإسلام فصار الجميع في صحائف أهلها وأجيب بأن أهل المدينة الذين فتحوا مكة فيهم كثير من أهل مكة فالفضل ثابت للفريقين فلا يلزم من ذلك تفضيل إحدى القريتين قلنا لا نزاع في ثبوت الفضل للفريقين وللقريتين كما أنه لا نزاع في أن مكة من جملة القرى التي أكلتها المدينة فيلزم تفضيلها عليها ( يقولون) أي بعض الناس من المنافقين وغيرهم ( يثرب) بالرفع يسمونها باسم واحد من العمالقة نزلها وقيل باسم يثرب بن قانية من ولد إرم بن سام بن نوح وقيل هو اسم كان لموضع منها سميت به كلها وكرهه صلى الله عليه وسلم لأنه من التثريب الذي هو التوبيخ والملامة أو من الثرب وهو الفساد وكلاهما قبيح وكان صلى الله عليه وسلم يحب الاسم الحسن ويكره القبيح ولذا قال يقولون يثرب ( وهي المدينة) أي الكاملة على الإطلاق كالبيت للكعبة فهو اسمها الحقيقي لها لأن التركيب يدل على التفخيم كقوله

هم القوم كل القوم يا أم خالد

أي هي المستحقة لأن تتخذ دار إقامة وأما تسميتها في القرآن يثرب فإنما هي حكاية عن المنافقين وروى أحمد عن البراء بن عازب رفعه من سمى المدينة يثرب فليستغفر الله هي طابة هي طابة وروى عمر بن شبة عن أبي أيوب أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يقال للمدينة يثرب قال عياض فهم العلماء من هذا منع أن يقال يثرب حتى قال عيسى بن دينار من سمى المدينة يثرب كتبت عليه خطيئة وقال أبو عمر فيه دليل على كراهة ذلك انتهى وأجيب عن حديث الصحيحين فإذا هي يثرب وفي رواية لا أراها إلا يثرب بأنه كان قبل النهي ( تنفي) بكسر الفاء ( الناس) أي الخبيث الرديء منهم ( كما ينفي الكير) بكسر الكاف وإسكان التحتية قال أبو عمر هو موضع نار الحداد والصائغ وليس الجلد الذي تسميه العامة كيرًا هكذا قال علماء اللغة ( خبث) بفتح المعجمة والموحدة ومثلثة والنصب على المفعولية ( الحديد) أي وسخه الذي تخرجه النار أي أنها لا تترك فيها من في قلبه دغل بل تميزه عن القلوب الصادقة وتخرجه كما تميز النار رديء الحديد من جيده ونسب التمييز للكير لأنه السبب الأكبر في اشتعال النار التي وقع التمييز بها قال أبو عمر هذا إنما كان في الحياة النبوية فحينئذ لم يكن يخرج من المدينة رغبة عن جواره فيها إلا من لا خير فيه وأما بعده فقد خرج منها الخيار الفضلاء الأبرار وتبعه عياض فقال الأظهر أن هذا يختص بزمنه صلى الله عليه وسلم لأنه لم يكن يصبر على الهجرة والمقام معه إلا من ثبت إيمانه وأما المنافقون وجهلة الأعراب فلا يصبرون على شدة المدينة ولا يحتسبون الأجر في ذلك كما قال الأعرابي الذي أصابه الوعك أقلني بيعتي انتهى ورجح النووي عمومه لما ورد أنها في زمن الدجال ترجف ثلاث رجفات يخرج الله منها كل كافر ومنافق قال فيحتمل أنهم اختصوا بزمن الدجال ويحتمل أنه في أزمان متفرقة قال الأبي فإن قيل قد استقر المنافقون فيها أجيب بأنهم انتفوا بالموت وهو أشد النفي فإن قيل قد استقر بها الروافض ونحوها قلت إن كان نفيها الخبث خاصًا بزمنه صلى الله عليه وسلم فالجواب واضح وإن كان عامًا فيحتمل أن المراد بنفي الخبث إخماد بدعة من يسكنها من المبتدعة وعدم ظهوره بحيث يدعو إلى بدعته وهذا لم يتفق فيها انتهى وهذا الحديث رواه البخاري عن عبد الله بن يوسف ومسلم عن قتيبة بن سعيد كلاهما عن مالك به وتابعه سفيان وعبد الوهاب عن يحيى بن سعيد عند مسلم وقال إنهما قالا كما ينفي الكير الخبث لم يذكر الحديد ( مالك عن هشام بن عروة عن أبيه) قال أبو عمر وصله معن بن عيسى وحده عن مالك عن هشام عن أبيه عن عائشة ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا يخرج أحد من المدينة) ممن استوطنها ( رغبة عنها) أي عن ثواب الساكن فيها وقال المازري أي كراهة لها من رغبت عن الشيء إذا كرهته ( إلا أبدلها الله خيرًا منه) بمولود يولد فيها أو قدوم خير منه من غيرها أما من كان وطنه غيرها فقدمها للقربة ورجع إلى وطنه أو كان مستوطنًا بها فسافر لحاجة أو لضرورة شدة زمان أو فتنة فليس ممن يخرج رغبة عنها قاله الباجي وقال ابن عبد البر هذا في حياته صلى الله عليه وسلم وذلك مثل الأعرابي القائل أقلني بيعتي ومعلوم أن من رغب عن جواره أبدله الله خيرًا منه وأما بعد وفاته فقد خرج منها جماعة من أصحابه ولم تعوض المدينة خيرًا منهم انتهى يعني كأبي موسى وابن مسعود ومعاذ وأبي عبيدة وعلي وطلحة والزبير وعمار وحذيفة وعبادة بن الصامت وبلال وأبي الدرداء وأبي ذر وغيرهم وقطنوا غيرها وماتوا خارجًا عنها ولم تعوض المدينة مثلهم فضلاً عن خير منهم فدل ذلك على التخصيص بزمنه صلى الله عليه وسلم قال الأبي الأظهر أن ذلك ليس خاصًا بالزمن النبوي ومن خرج من الصحابة لم يخرج رغبة عنها بل إنما خرج لمصلحة دينية من تعليم أو جهاد أو غير ذلك انتهى لا يقال ليس النزاع في أن خروجهم لما ذكر إنما هو في تعويضها بخير منهم وهذا لم يقع فالأظهر التخصيص لأنا نقول الإبدال مقيد بالخروج رغبة عنها فلا يرد أن الخارج لمصلحة دينية لم تعوض مثلهم ( مالك عن هشام بن عروة) تابعي صغير لقي بعض الصحابة ( عن أبيه) أحد الفقهاء ( عن) أخيه ( عبد الله بن الزبير) الصحابي ابن الصحابي ( عن سفيان بن أبي زهير) بضم الزاي وفتح الهاء مصغر الأزدي من أزد شنوءة بفتح المعجمة وضم النون وبعد الواو همزة صحابي نزل المدينة قال ابن المديني وخليفة اسم أبيه القرد بفتح القاف وكسر الراء فدال مهملة ولذا يقال له ابن القرد وقيل اسم أبيه نمير بن عبد الله بن مالك ويقال فيه النميري لأنه من ولد النمر بن عثمان بن زهران ( قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول تفتح) بضم الفوقية وسكون الفاء وفتح الفوقية مبني للمفعول ونائبه ( اليمن) سمي بذلك لأنه عن يمين القبلة أو عن يمين الشمس أو بيمن بن قحطان ( فيأتي قوم) من أهل المدينة ( يبسون) بفتح التحتية وكسر الموحدة من الثلاثي رواه يحيى ولا يصح عنه غيره وكذا رواه ابن بكير وقال معناه يسيرون من قوله { { وبست الجبال بسا } } أي سارت وذكر حبيب هذا التفسير عن مالك وكذا رواه ابن نافع وغيره عنه فإنكار عبد الملك بن حبيب رواية يحيى ليس بشيء لأنه لم ينفرد بها بل تابعه ابن بكير وابن نافع وابن حبيب وغيرهم عن مالك ورواه ابن القاسم بفتح التحتية وضم الموحدة ثلاثيًا أيضًا من باب نصر أي يسرعون السير وقيل يزجرون دوابهم وقيل يسألون عن البلدان وأخبارها ليتحملوا إليها وهذا لا يكاد يعرف لغة ورواه ابن وهب يبسون بضم التحتية وكسر الموحدة وضم المهملة رباعي من أبس وقال معناه يزينون لهم الخروج من المدينة أي ويزينون البلد الذي جاؤوا منه ويحببونه إليهم وصوبه ابن حبيب قاله أبو عمر ملخصًا ( فيتحملون) من المدينة ( بأهليهم ومن أطاعهم) من الناس ( والمدينة خير لهم) لأنها لا يدخلها الدجال ولا الطاعون وقيل لأن الفتن فيها دونها في غيرها وقيل لفضل مسجدها والصلاة فيه ومجاورة القبر الشريف ( لو كانوا يعلمون) بما فيها من الفضائل كالصلاة في مسجدها وثواب الإقامة فيها وغير ذلك من الفوائد الدينية الأخروية التي تستحقر دونها ما يجدونه من الحظوظ الفانية العاجلة بسبب الإقامة في غيرها وفي حديث أبي هريرة عند مسلم يأتي على الناس زمان يدعو الرجل ابن عمه أو قريبه هلم إلى الرخاء والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون وظاهره أن الذين يتحملون غير الذين يبسون فكأن الذي حضر الفتح أعجبه حسن اليمن ورخاؤه فدعا قريبه إلى المجيء إليه فيتحمل المدعو بأهله وأتباعه لكن صوب النووي أن حديث الباب إخبار عمن خرج من المدينة متحملاً بأهله وأتباعه بأسًا في سيره إلى الرخاء والأمصار المنفتحة وفي رواية ابن خزيمة من طريق أبي معاوية عن هشام في هذا الحديث ما يؤيده ولفظه تفتح الشام فيخرج الناس إليها يبسون والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون ويوضح ذلك حديث جابر عند البزار برجال الصحيح مرفوعًا ليأتين على أهل المدينة زمان ينطلق الناس منها إلى الأرياف يلتمسون الرخاء فيجدون ثم يتحملون بأهله إلى الرخاء والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون والأرياف جمع ريف بكسر الراء وهو ما قارب المياه في أرض العرب وقيل هو الأرض التي فيها الزرع والخصب وقيل غير ذلك ( وتفتح الشام) سمي بذلك لأنه عن شمال الكعبة وفي رواية ابن جريج عن هشام ثم تفتح الشام ( فيأتي قوم يبسون) بفتح أوله وكسر الموحدة وضمها وبضم أوله وكسر الموحدة أي يزينون ويدعون الناس إلى بلاد الخصب ( فيتحملون بأهليهم ومن أطاعهم) من الناس راحلين إلى الشام ( والمدينة خير لهم) منها لأنها حرم الرسول وجواره ومهبط الوحي ومنزل البركات ( لو كانوا يعلمون) فضلها ما فعلوا ذلك فالجواب محذوف كالسابق واللاحق دل عليه ما قبله وإن كانت لو بمعنى ليت فلا جواب لها وعلى التقديرين ففيه تجهيل لمن فارقها لتفويته على نفسه خيرًا عظيمًا ( وتفتح العراق) وفي رواية ابن جريج ثم تفتح العراق ( فيأتي قوم يبسون فيتحملون بأهليهم ومن أطاعهم) من الناس راحلين إلى العراق ( والمدينة خير لهم) منه ( لو كانوا يعلمون) ذلك والواو في الثلاثة للحال وهذا من إعلام نبوته صلى الله عليه وسلم حيث أخبر بفتح هذه الأقاليم وأن الناس يتحملون بأهليهم ويفارقون المدينة فكان ما قاله على ترتيب ما قال لكن في رواية لمسلم وغيره تفتح الشام ثم اليمن ثم العراق والظاهر أن اليمن قبل الشام للاتفاق على أنه لم يفتح شيء من الشام في الزمن النبوي فرواية تقديم الشام على اليمن معناها أن استيفاء فتح اليمن إنما كان بعد الشام وقول الطهري أخبر صلى الله عليه وسلم في أول الهجرة إلى المدينة بأن اليمن تفتح فيأتي منها قوم حتى يكثر أهل المدينة والمدينة خير لهم من غيرها تعقبه الطيبي بأن تنكير قوم ووصفه بيبسون ثم توكيده بقوله لو كانوا يعلمون لا يساعد ما قاله لأن تنكير قوم لتحقيرهم وتوهين أمرهم ثم وصف يبسون وهو سوق الدواب يشعر بركة عقولهم وأنهم ممن ركن إلى الحظوظ البهيمية وحطام الدنيا الفانية وأعرضوا عن الإقامة في جوار الرسول ولذا كرر قومًا ووصفه في كل قرينة بيبسون استحضارًا لتلك الهيئة القبيحة قال والذي يقتضيه المقام أن ينزل يعلمون منزلة اللازم لينفي عنهم العلم والمعرفة بالكلية ولو ذهب مع ذلك إلى معنى التمني لكان أبلغ لأن التمني طلب ما لا يمكن حصوله أي ليتهم كانوا من أهل العلم تغليظًا وتشديدًا انتهى وفي إسناده تابعيان وصحابيان وأخرجه البخاري عن عبد الله بن يوسف عن مالك به وتابعه ابن جريج ووكيع كلاهما عن هشام عند مسلم به غايته أن وكيعًا قدم الشام ( مالك عن ابن حماس) بكسر الحاء المهملة وميم خفيفة فألف فسين مهملة كذا رواه يحيى ولم يسمه وهو يوسف بن يونس بن حماس وقال معن عن مالك عن يونس بن يوسف فقلبه وقال التنيسي وأبو مصعب عن مالك عن يوسف بن سنان أبدلا يونس فسمياه سنانًا قال البخاري والأول أصح وذكره ابن حبان في الثقات وقال كان من عباد أهل المدينة لمح مرة امرأة فدعا الله فأذهب عينيه ثم دعا الله فردهما عليه وروى عنه مالك وابن جريج وروى هو عن عطاء بن يسار وسعيد بن المسيب وسليمان بن يسار ( عن عمه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لتتركن) بفتح أوله وضم الفوقية الأولى وإسكان الثانية وفتح الراء والكاف ونون التوكيد الثقيلة ونائب الفاعل ( المدينة على أحسن ما) أي حال ( كانت) من العمارة وكثرة الأثمار وحسنها وفي رواية للصحيحين على خير ما كانت وفي أخبار المدينة لعمر بن شبة أن ابن عمر أنكر على أبي هريرة قوله خير ما كانت وقال إنما قال صلى الله عليه وسلم أعمر ما كانت وأن أبا هريرة صدقه على ذلك ( حتى يدخل الكلب أو الذئب) للتنويع ويحتمل الشك ( فيغذي) بضم التحتية وفتح الغين وكسر الذال الثقيلة المعجمتين أي يبول دفعة بعد دفعة ( على بعض سواري) أعمدة ( المسجد أو المنبر) تنويع أو شك لعدم سكانه وخلوه من الناس ( فقالوا يا رسول الله فلمن تكون الثمار ذلك الزمان قال للعوافي الطير والسباع) بالجر بدل أو عطف بيان للعوافي وهي الطالبة لما تأكل مأخوذة من عفوته إذا أتيته تطلب معروفه قال النووي الظاهر المختار أن هذا يكون في آخر الزمان عند قيام الساعة ويوضحه قضية الراعيين من مزينة فإنهما يخران على وجوههما حين تدركهما الساعة وهما آخر من يحشر كما في البخاري وقال القاضي عياض هذا مما جرى في العصر الأول وانقضى فإنها صارت بعد وفاته صلى الله عليه وسلم دار الخلافة ومعقل الناس حتى تنافسوا فيها بالغرس والبناء وتوسعوا في ذلك وسكنوا منها ما لم يسكن قبل حتى بلغت المساكن ملء إهاب وجلبت إليها خيرات الأرض كلها فلما انتهت حالها كمالاً انتقلت الخلافة عنها إلى الشام والعراق وذلك الوقت أحسن ما كانت للدين والدنيا أما الدين فلكثرة العلماء بها وكمالهم وأما الدنيا فلعمارتها وغرسها واتساع حال أهلها قال وذكر الأخباريون في بعض الفتن التي جرت بالمدينة وخاف أهلها أنه رحل عنها أكثر الناس وبقيت ثمارها أو أكثرها للعوافي وخلت مدة ثم تراجع الناس إليها وحكى كثير من الناس أنهم رأوا في خلائها ذلك ما أنذر به صلى الله عليه وسلم من تغذية الكلاب على سواري المسجد وحالها اليوم قريب من ذلك فقد خربت أطرافها قال الأبي تأمل هذا الكلام فإنه يعطي أن خلاءها حتى غذت الكلاب على سواري المسجد كان قريبًا من زمن تناهي حالها وانتقال الخلافة عنها وهذا لم يقع ولو وقع لتواتر بل الظاهر أنه لم يقع بعد ودليل المعجزة يوجب القطع بوقوعه في المستقبل لصحة الحديث وأن الظاهر كونه بين يدي نفخة الصعق كما يدل عليه موت الراعيين والمراد بخير ما كانت عليه من المصالح الدينية المتقدمة الذكر وإلى هذا كان يذهب شيخنا أبو عبد الله يعني ابن عرفة انتهى وفي نفيه وقوعه نظر مع نقل عياض عن كثير أنهم رأوا ذلك ولا يشترط التواتر في مثل هذا وهذا الحديث في البخاري من طريق شعيب ومسلم من طريق يونس وعقيل عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة بنحوه وزيادة ( مالك أنه بلغه أن عمر بن عبد العزيز حين خرج من المدينة) يريد الشام وكان قد أقام بها مدة أميرًا عليها قبل الخلافة ( التفت إليها فبكى) على فراقها ( ثم قال يا مزاحم) بن أبي مزاحم المكي مولى عمر بن عبد العزيز ويقال مولى طلحة ثقة روى له مسلم والنسائي وغيرهما ( أتخشى) تخاف ( أن تكون) بفوقية ( ممن نفت المدينة) ويحتمل أن قوله نكون بالنون أي أنا وأنت.



رقم الحديث 1612 وَحَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ أَبِي زُهَيْرٍ، أَنَّهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: تُفْتَحُ الْيَمَنُ فَيَأْتِي قَوْمٌ يَبُسُّونَ فَيَتَحَمَّلُونَ بِأَهْلِيهِمْ وَمَنْ أَطَاعَهُمْ، وَالْمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ، وَتُفْتَحُ الشَّامُ فَيَأْتِي قَوْمٌ يُبِسُّونَ فَيَتَحَمَّلُونَ بِأَهْلِيهِمْ وَمَنْ أَطَاعَهُمْ، وَالْمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ، وَتُفْتَحُ الْعِرَاقُ فَيَأْتِي قَوْمٌ يُبِسُّونَ فَيَتَحَمَّلُونَ بِأَهْلِيهِمْ، وَمَنْ أَطَاعَهُمْ وَالْمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ.


( ما جاء في سكنى المدينة والخروج منها)

( مالك عن قطن) بفتح القاف والطاء المهملة ونون ( ابن وهب بن عمير) بضم العين مصغر وفي نسخة عويمر بواو بعد العين ( ابن الأجدع) بجيم ودال مهملة الليثي أو الخزاعي المدني الصدوق يكنى أبا الحسن وفي التمهيد قطن أحد بني سعد بن ليث مدني ثقة روى عنه مالك وغيره لمالك عنه هذا الحديث الواحد ( أن يحنس) بضم التحتية وفتح الحاء المهملة وتشديد النون مفتوحة ومكسورة كما ضبطه عياض وآخره سين مهملة ابن عبد الله المدني الثقة قال أبو عمر هكذا رواه يحيى وابن بكير وأكثر الرواة ورواه ابن القاسم عن مالك عن قطن بن وهب عن عويمر بن أجدع أن يحنس والصحيح رواية الجماعة وكذا نسبه ابن البرقي ويشهد لصحته رواية القعنبي عن مالك عن قطن بن وهب أن يحنس ( مولى الزبير بن العوام) أحد العشرة وفي رواية لمسلم مولى مصعب بن الزبير قال النووي وهو لأحدهما حقيقة وللآخر مجاز ( أخبره أنه كان جالسًا عند عبد الله بن عمر) بن الخطاب ( في الفتنة) التي وقعت زمن يزيد بن معاوية ( فأتته مولاة له) لم تسم ( تسلم عليه فقالت إني أردت الخروج) من المدينة ( يا أبا عبد الرحمن) لأنه ( اشتد) قوي وصعب ( علينا الزمان فقال لها عبد الله بن عمر اقعدي لكع) بضم اللام وفتح الكاف وعين مهملة كذا ليحيى وحده والصواب لكاع كما رواه غيره قال أبو عمر إنما يقال للمرأة لكاع مثل جذام وقطام وقال عياض يطلق لكع بضم اللام وفتح الكاف على اللئيم والعبد والغبي الذي لا يهتدي لنطق ولا غيره وعلى الصغير ومنه قوله صلى الله عليه وسلم يطلب الحسن أثم لكع وقول الحسن لإنسان يا لكع أي يا صغير العلم ويقال للمرأة لكاع على وزن فعال والجميع من اللكع وهو اللؤم وقيل من الملاكيع وهو ما يخرج مع السلى من البطن وقال النحاة لكع ولكاع لا يستعملان إلا في النداء خاصة وقد استعمل لكاع في الشعر في غير النداء قال الحطيئة

أطوف ما أطوف ثم آوي
إلى بيت قعيدته لكاع

قال ذلك ابن عمر لها إنكارًا لما أرادته من الخروج وتثبيطًا لها وإدلالاً عليها لأنها مولاته وقد يكون معناه يا قليلة العلم وصغيرة الحظ منه لما فاتها من معرفة حق المدينة ( فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لا يصبر على لأوائها) بالمد ( وشدتها) قال أبو عمر يعني المدينة والشدة الجوع واللأواء تعذر الكسب وسوء الحال وقال المازري اللأواء الجوع وشدة المكسب وضمير شدتها يحتمل أن يعود على اللأواء ويحتمل أن يعود على المدينة قال الأبي الحديث خرج مخرج الحث على سكناها فمن لزم سكناها داخل في ذلك ولو لم تلحقه لأواء لأن التعليل بالغالب والمظنة لا يضر فيه التخلف في بعض الصور كتعليل القصر بمشقة السفر فإن الملك يقصر وإن لم تلحقه مشقة لوجود السفر ( أحد إلا كنت له شفيعًا أو شهيدًا يوم القيامة) قال عياض سئلت قديمًا عن هذا الحديث ولم خص ساكن المدينة بالشفاعة هنا مع عموم شفاعته صلى الله عليه وسلم وادخاره إياها وأجيب عنه بجواب شاف مقنع في أوراق اعترف بصوابه كل واقف عليه وأذكر منه هنا لمعًا تليق بهذا الموضع قال بعض شيوخنا أو هنا للشك والأظهر عندنا أنها ليست للشك لأن هذا الحديث رواه جابر وسعد بن أبي وقاص وابن عمر وأبو سعيد وأبو هريرة وأسماء بنت عميس وصفية بنت أبي عبيد عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا اللفظ ويبعد اتفاق جميعهم أو رواتهم على الشك وتطابقهم فيه على صيغة واحدة بل الأظهر أنه صلى الله عليه وسلم قاله هكذا فإما أن يكون أعلم بهذه الجملة هكذا وإما أن تكون أو للتقسيم ويكون شهيدًا لبعض أهل المدينة وشفيعًا لباقيهم إما شفيعًا للعاصين وشهيدًا للمطيعين وإما شهيدًا لمن مات في حياته وشفيعًا لمن مات بعده أو غير ذلك وهذه خصوصية زائدة على الشفاعة للمذنبين أو للعاصين في القيامة وعلى شهادته على جميع الأمة وقد قال صلى الله عليه وسلم في شهداء أحد أنا شهيد على هؤلاء فيكون لتخصيصهم بهذا كله مزية وزيادة منزلة وحظوة قال وقد تكون أو بمعنى الواو فيكون لأهل المدينة شفيعًا وشهيدًا انتهى وبالواو رواه البزار من حديث ابن عمر قال عياض وإذا جعلنا أو للشك كما قال المشايخ فإن كانت اللفظة الصحيحة شهيدًا اندفع الاعتراض لأنها زائدة على الشفاعة المدخرة لغيرهم وإن كانت شفيعًا فاختصاص أهل المدينة بهذا أن هذه شفاعة أخرى أي العامة التي هي في إخراج أمته من النار ومعافاة بعضهم بشفاعته في القيامة وتكون هذه الشفاعة بزيادة الدرجات أو تخفيف السيئات أو بما شاء الله من ذلك أو بإكرامهم يوم القيامة بأنواع من الكرامة كإيوائهم إلى ظل العرش أو كونهم في روح أو على منابر أو الإسراع بهم إلى الجنة أو غير ذلك من خصوص الكرامات الواردة لبعضهم دون بعض انتهى ونقله عنه النووي وغيره وأقروه والحديث رواه مسلم عن يحيى عن مالك به وتابعه الضحاك عن قطن عند مسلم ( مالك عن محمد بن المنكدر) بن عبد الله التيمي المدني ( عن جابر بن عبد الله) الصحابي ابن الصحابي ( أن أعرابيًا) قال الحافظ لم أقف على اسمه إلا أن الزمخشري ذكر في ربيع الأبرار أنه قيس بن أبي حازم وهو مشكل لأنه تابعي كبير مشهور وصرحوا بأنه هاجر فوجد النبي صلى الله عليه وسلم قد مات فإن كان محفوظًا فلعله آخر وافق اسمه واسم أبيه وفي الذيل لأبي موسى المديني في الصحابة قيس بن حازم المنقري فيحتمل أن يكون هو هذا أي زيد في اسم أبيه أداة الكنية سهوًا أو غلطًا ( بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام فأصاب الأعرابي وعك) بفتح الواو وبسكون العين حمى ( بالمدينة فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم) وفي رواية سفيان الثوري فجاء الغد محمومًا ( فقال يا رسول الله أقلني بيعتي) على الإسلام قاله عياض وقال غيره إنما استقاله من الهجرة ولم يرد الارتداد عن الإسلام قال ابن بطال بدليل أنه لم يرد حل ما عقده إلا بموافقة النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك ولو أراد الردة ووقع فيها لقتله إذ ذاك وحمله بعضهم على الإقالة من المقام بالمدينة ( فأبى) امتنع ( رسول الله صلى الله عليه وسلم) أن يقيله ( ثم جاءه) ثانية ( فقال أقلني بيعتي فأبى) امتنع ( ثم جاءه) الثالثة ( فقال أقلني بيعتي فأبى) أن يقيله لأنها إن كانت بعد الفتح فهي على الإسلام فلم يقله لأنه لا يحل الرجوع إلى الكفر وإن كان قبله فهي على الهجرة والمقام معه بالمدينة ولا يحل للمهاجر أن يرجع إلى وطنه كذا قال عياض ورده الأبي فقال الأظهر أنها على الهجرة لقوله وعك ولو كانت على الإسلام كانت ردة لأن الرضا بالدوام على الكفر كفر انتهى ( فخرج الأعرابي) من المدينة إلى البدو ( فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما المدينة كالكير) بكسر الكاف المنفخ الذي ينفخ به النار أو الموضع المشتمل عليها ( تنفي) بفتح الفوقية وسكون النون وبالفاء ( خبثها) بفتح المعجمة والموحدة والمثلثة ما تبرزه النار من وسخ وقذر ويروى بضم الخاء وسكون الباء من الشيء الخبيث والأول أشبه لمناسبة الكير ( وينصع) بفتح التحتية وسكون النون وفتح الصاد وعين مهملتين من النصوع وهو الخلوص أي يخلص ( طيبها) بكسر الطاء وسكون التحتية خفيفة والرفع فاعل ينصع وفي رواية تنصع بالفوقية طيبها بالنصب على المفعولية مخففًا أيضًا وبه ضبطه القزاز لكنه استشكله بأنه لم ير النصوع في الطيب وإنما الكلام يتضوع بضاد معجمة وزيادة واو لكن قال عياض معنى ينصع يصفو ويخلص يقال طيب ناصع إذا خلصت رائحته وصفت مما ينقصها وفي رواية طيبها بشد التحتية مكسورة والرفع فاعل قال الأبي وهي الرواية الصحيحة وهو أقوم معنى لأنه ذكره في مقابلة الخبيث وأي مناسبة بين الكير والطيب شبه النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وما يصيب ساكنها من الجهد بالكير وما يدور عليه بمنزلة الخبيث من الطيب فيذهب الخبيث ويبقى الطيب وكذلك المدينة تنفي شرارها بالحمى والجوع وتطهر خيارهم وتزكيهم انتهى وقال غيره هذا تشبيه حسن لأن الكير بشدة نفخه ينفي عن النار السخام والدخان والرماد حتى لا يبقى إلا خالص الجمر هذا إن أريد بالكير المنفخ الذي ينفخ به النار وإن أريد به الموضع فالمعنى أن ذلك الموضع لشدة حرارته ينزع خبث الحديد والذهب والفضة ويخرج خلاصة ذلك والمدينة كذلك تنفي شرار الناس بالحمى والوصب وشدة العيش وضيق الحال التي تخلص النفس من الاسترسال في الشهوات وتطهر خيارهم وتزكيهم وهذا الحديث أخرجه البخاري في الأحكام عن القعنبي وعبد الله بن يوسف وفي الاعتصام عن إسماعيل ومسلم في الحج عن يحيى الأربعة عن مالك به وتابعه سفيان الثوري عن ابن المنكدر عند البخاري بنحوه ( مالك عن يحيى بن سعيد) بن قيس بن عمرو الأنصاري ( أنه قال سمعت أبا الحباب) بضم الحاء المهملة وفتح الموحدة الخفيفة فألف فموحدة ( سعيد) بكسر العين ( ابن يسار) بفتح التحتية والمهملة الخفيفة المدني الثقة المتقن مات بالمدينة سنة سبع عشرة ومائة وقيل قبلها بسنة يقال إنه مولى الحسن بن علي ويقال مولى شميسة النصرانية المسلمة بالمدينة على يد الحسن بن علي وقيل مولى شقران مولى النبي صلى الله عليه وسلم ( يقول سمعت أبا هريرة يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول أمرت بقرية) بضم الهمزة أي أمرني ربي بالهجرة إلى قرية ( تأكل القرى) أي تغلبها وتظهر عليها يعني أن أهلها تغلب أهل سائر البلاد فتفتح منها يقال أكلنا بني فلان أي غلبناهم وظهرنا عليهم فإن الغالب المستولي على الشيء كالمفني له إفناء الأكل إياه وفي موطأ ابن وهب قلت لمالك ما تأكل القرى أي ما معناه قال تفتح القرى لأن من المدينة افتتحت القرى كلها بالإسلام وقال السهيلي في التوراة يقول الله يا طابة يا مسكينة إني سأرفع أجاجيرك على أجاجير القرى وهو قريب من تأكل القرى لأنها إذا علت عليها علو الغلبة أكلتها ويكون المراد يأكل فضلها الفضائل أي يغلب فضلها الفضائل حتى إذا قيست بفضلها تلاشت بالنسبة إليها وجاء في مكة أنها أم القرى لكن المذكور للمدينة أبلغ من الأمومة إذ لا يمحى بوجودها وجود ما هي أم له لكن يكون حق الأمومة أظهر ومعنى تأكل القرى أن الفضائل تضمحل في جنب عظيم فضلها حتى يكون عدمًا وما تضمحل له الفضائل أفضل وأعظم مما تبقى معه الفضائل انتهى وفيه تفضيل المدينة على مكة قال المهلب لأن المدينة هي التي أدخلت مكة وغيرها من القرى في الإسلام فصار الجميع في صحائف أهلها وأجيب بأن أهل المدينة الذين فتحوا مكة فيهم كثير من أهل مكة فالفضل ثابت للفريقين فلا يلزم من ذلك تفضيل إحدى القريتين قلنا لا نزاع في ثبوت الفضل للفريقين وللقريتين كما أنه لا نزاع في أن مكة من جملة القرى التي أكلتها المدينة فيلزم تفضيلها عليها ( يقولون) أي بعض الناس من المنافقين وغيرهم ( يثرب) بالرفع يسمونها باسم واحد من العمالقة نزلها وقيل باسم يثرب بن قانية من ولد إرم بن سام بن نوح وقيل هو اسم كان لموضع منها سميت به كلها وكرهه صلى الله عليه وسلم لأنه من التثريب الذي هو التوبيخ والملامة أو من الثرب وهو الفساد وكلاهما قبيح وكان صلى الله عليه وسلم يحب الاسم الحسن ويكره القبيح ولذا قال يقولون يثرب ( وهي المدينة) أي الكاملة على الإطلاق كالبيت للكعبة فهو اسمها الحقيقي لها لأن التركيب يدل على التفخيم كقوله

هم القوم كل القوم يا أم خالد

أي هي المستحقة لأن تتخذ دار إقامة وأما تسميتها في القرآن يثرب فإنما هي حكاية عن المنافقين وروى أحمد عن البراء بن عازب رفعه من سمى المدينة يثرب فليستغفر الله هي طابة هي طابة وروى عمر بن شبة عن أبي أيوب أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يقال للمدينة يثرب قال عياض فهم العلماء من هذا منع أن يقال يثرب حتى قال عيسى بن دينار من سمى المدينة يثرب كتبت عليه خطيئة وقال أبو عمر فيه دليل على كراهة ذلك انتهى وأجيب عن حديث الصحيحين فإذا هي يثرب وفي رواية لا أراها إلا يثرب بأنه كان قبل النهي ( تنفي) بكسر الفاء ( الناس) أي الخبيث الرديء منهم ( كما ينفي الكير) بكسر الكاف وإسكان التحتية قال أبو عمر هو موضع نار الحداد والصائغ وليس الجلد الذي تسميه العامة كيرًا هكذا قال علماء اللغة ( خبث) بفتح المعجمة والموحدة ومثلثة والنصب على المفعولية ( الحديد) أي وسخه الذي تخرجه النار أي أنها لا تترك فيها من في قلبه دغل بل تميزه عن القلوب الصادقة وتخرجه كما تميز النار رديء الحديد من جيده ونسب التمييز للكير لأنه السبب الأكبر في اشتعال النار التي وقع التمييز بها قال أبو عمر هذا إنما كان في الحياة النبوية فحينئذ لم يكن يخرج من المدينة رغبة عن جواره فيها إلا من لا خير فيه وأما بعده فقد خرج منها الخيار الفضلاء الأبرار وتبعه عياض فقال الأظهر أن هذا يختص بزمنه صلى الله عليه وسلم لأنه لم يكن يصبر على الهجرة والمقام معه إلا من ثبت إيمانه وأما المنافقون وجهلة الأعراب فلا يصبرون على شدة المدينة ولا يحتسبون الأجر في ذلك كما قال الأعرابي الذي أصابه الوعك أقلني بيعتي انتهى ورجح النووي عمومه لما ورد أنها في زمن الدجال ترجف ثلاث رجفات يخرج الله منها كل كافر ومنافق قال فيحتمل أنهم اختصوا بزمن الدجال ويحتمل أنه في أزمان متفرقة قال الأبي فإن قيل قد استقر المنافقون فيها أجيب بأنهم انتفوا بالموت وهو أشد النفي فإن قيل قد استقر بها الروافض ونحوها قلت إن كان نفيها الخبث خاصًا بزمنه صلى الله عليه وسلم فالجواب واضح وإن كان عامًا فيحتمل أن المراد بنفي الخبث إخماد بدعة من يسكنها من المبتدعة وعدم ظهوره بحيث يدعو إلى بدعته وهذا لم يتفق فيها انتهى وهذا الحديث رواه البخاري عن عبد الله بن يوسف ومسلم عن قتيبة بن سعيد كلاهما عن مالك به وتابعه سفيان وعبد الوهاب عن يحيى بن سعيد عند مسلم وقال إنهما قالا كما ينفي الكير الخبث لم يذكر الحديد ( مالك عن هشام بن عروة عن أبيه) قال أبو عمر وصله معن بن عيسى وحده عن مالك عن هشام عن أبيه عن عائشة ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا يخرج أحد من المدينة) ممن استوطنها ( رغبة عنها) أي عن ثواب الساكن فيها وقال المازري أي كراهة لها من رغبت عن الشيء إذا كرهته ( إلا أبدلها الله خيرًا منه) بمولود يولد فيها أو قدوم خير منه من غيرها أما من كان وطنه غيرها فقدمها للقربة ورجع إلى وطنه أو كان مستوطنًا بها فسافر لحاجة أو لضرورة شدة زمان أو فتنة فليس ممن يخرج رغبة عنها قاله الباجي وقال ابن عبد البر هذا في حياته صلى الله عليه وسلم وذلك مثل الأعرابي القائل أقلني بيعتي ومعلوم أن من رغب عن جواره أبدله الله خيرًا منه وأما بعد وفاته فقد خرج منها جماعة من أصحابه ولم تعوض المدينة خيرًا منهم انتهى يعني كأبي موسى وابن مسعود ومعاذ وأبي عبيدة وعلي وطلحة والزبير وعمار وحذيفة وعبادة بن الصامت وبلال وأبي الدرداء وأبي ذر وغيرهم وقطنوا غيرها وماتوا خارجًا عنها ولم تعوض المدينة مثلهم فضلاً عن خير منهم فدل ذلك على التخصيص بزمنه صلى الله عليه وسلم قال الأبي الأظهر أن ذلك ليس خاصًا بالزمن النبوي ومن خرج من الصحابة لم يخرج رغبة عنها بل إنما خرج لمصلحة دينية من تعليم أو جهاد أو غير ذلك انتهى لا يقال ليس النزاع في أن خروجهم لما ذكر إنما هو في تعويضها بخير منهم وهذا لم يقع فالأظهر التخصيص لأنا نقول الإبدال مقيد بالخروج رغبة عنها فلا يرد أن الخارج لمصلحة دينية لم تعوض مثلهم ( مالك عن هشام بن عروة) تابعي صغير لقي بعض الصحابة ( عن أبيه) أحد الفقهاء ( عن) أخيه ( عبد الله بن الزبير) الصحابي ابن الصحابي ( عن سفيان بن أبي زهير) بضم الزاي وفتح الهاء مصغر الأزدي من أزد شنوءة بفتح المعجمة وضم النون وبعد الواو همزة صحابي نزل المدينة قال ابن المديني وخليفة اسم أبيه القرد بفتح القاف وكسر الراء فدال مهملة ولذا يقال له ابن القرد وقيل اسم أبيه نمير بن عبد الله بن مالك ويقال فيه النميري لأنه من ولد النمر بن عثمان بن زهران ( قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول تفتح) بضم الفوقية وسكون الفاء وفتح الفوقية مبني للمفعول ونائبه ( اليمن) سمي بذلك لأنه عن يمين القبلة أو عن يمين الشمس أو بيمن بن قحطان ( فيأتي قوم) من أهل المدينة ( يبسون) بفتح التحتية وكسر الموحدة من الثلاثي رواه يحيى ولا يصح عنه غيره وكذا رواه ابن بكير وقال معناه يسيرون من قوله { { وبست الجبال بسا } } أي سارت وذكر حبيب هذا التفسير عن مالك وكذا رواه ابن نافع وغيره عنه فإنكار عبد الملك بن حبيب رواية يحيى ليس بشيء لأنه لم ينفرد بها بل تابعه ابن بكير وابن نافع وابن حبيب وغيرهم عن مالك ورواه ابن القاسم بفتح التحتية وضم الموحدة ثلاثيًا أيضًا من باب نصر أي يسرعون السير وقيل يزجرون دوابهم وقيل يسألون عن البلدان وأخبارها ليتحملوا إليها وهذا لا يكاد يعرف لغة ورواه ابن وهب يبسون بضم التحتية وكسر الموحدة وضم المهملة رباعي من أبس وقال معناه يزينون لهم الخروج من المدينة أي ويزينون البلد الذي جاؤوا منه ويحببونه إليهم وصوبه ابن حبيب قاله أبو عمر ملخصًا ( فيتحملون) من المدينة ( بأهليهم ومن أطاعهم) من الناس ( والمدينة خير لهم) لأنها لا يدخلها الدجال ولا الطاعون وقيل لأن الفتن فيها دونها في غيرها وقيل لفضل مسجدها والصلاة فيه ومجاورة القبر الشريف ( لو كانوا يعلمون) بما فيها من الفضائل كالصلاة في مسجدها وثواب الإقامة فيها وغير ذلك من الفوائد الدينية الأخروية التي تستحقر دونها ما يجدونه من الحظوظ الفانية العاجلة بسبب الإقامة في غيرها وفي حديث أبي هريرة عند مسلم يأتي على الناس زمان يدعو الرجل ابن عمه أو قريبه هلم إلى الرخاء والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون وظاهره أن الذين يتحملون غير الذين يبسون فكأن الذي حضر الفتح أعجبه حسن اليمن ورخاؤه فدعا قريبه إلى المجيء إليه فيتحمل المدعو بأهله وأتباعه لكن صوب النووي أن حديث الباب إخبار عمن خرج من المدينة متحملاً بأهله وأتباعه بأسًا في سيره إلى الرخاء والأمصار المنفتحة وفي رواية ابن خزيمة من طريق أبي معاوية عن هشام في هذا الحديث ما يؤيده ولفظه تفتح الشام فيخرج الناس إليها يبسون والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون ويوضح ذلك حديث جابر عند البزار برجال الصحيح مرفوعًا ليأتين على أهل المدينة زمان ينطلق الناس منها إلى الأرياف يلتمسون الرخاء فيجدون ثم يتحملون بأهله إلى الرخاء والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون والأرياف جمع ريف بكسر الراء وهو ما قارب المياه في أرض العرب وقيل هو الأرض التي فيها الزرع والخصب وقيل غير ذلك ( وتفتح الشام) سمي بذلك لأنه عن شمال الكعبة وفي رواية ابن جريج عن هشام ثم تفتح الشام ( فيأتي قوم يبسون) بفتح أوله وكسر الموحدة وضمها وبضم أوله وكسر الموحدة أي يزينون ويدعون الناس إلى بلاد الخصب ( فيتحملون بأهليهم ومن أطاعهم) من الناس راحلين إلى الشام ( والمدينة خير لهم) منها لأنها حرم الرسول وجواره ومهبط الوحي ومنزل البركات ( لو كانوا يعلمون) فضلها ما فعلوا ذلك فالجواب محذوف كالسابق واللاحق دل عليه ما قبله وإن كانت لو بمعنى ليت فلا جواب لها وعلى التقديرين ففيه تجهيل لمن فارقها لتفويته على نفسه خيرًا عظيمًا ( وتفتح العراق) وفي رواية ابن جريج ثم تفتح العراق ( فيأتي قوم يبسون فيتحملون بأهليهم ومن أطاعهم) من الناس راحلين إلى العراق ( والمدينة خير لهم) منه ( لو كانوا يعلمون) ذلك والواو في الثلاثة للحال وهذا من إعلام نبوته صلى الله عليه وسلم حيث أخبر بفتح هذه الأقاليم وأن الناس يتحملون بأهليهم ويفارقون المدينة فكان ما قاله على ترتيب ما قال لكن في رواية لمسلم وغيره تفتح الشام ثم اليمن ثم العراق والظاهر أن اليمن قبل الشام للاتفاق على أنه لم يفتح شيء من الشام في الزمن النبوي فرواية تقديم الشام على اليمن معناها أن استيفاء فتح اليمن إنما كان بعد الشام وقول الطهري أخبر صلى الله عليه وسلم في أول الهجرة إلى المدينة بأن اليمن تفتح فيأتي منها قوم حتى يكثر أهل المدينة والمدينة خير لهم من غيرها تعقبه الطيبي بأن تنكير قوم ووصفه بيبسون ثم توكيده بقوله لو كانوا يعلمون لا يساعد ما قاله لأن تنكير قوم لتحقيرهم وتوهين أمرهم ثم وصف يبسون وهو سوق الدواب يشعر بركة عقولهم وأنهم ممن ركن إلى الحظوظ البهيمية وحطام الدنيا الفانية وأعرضوا عن الإقامة في جوار الرسول ولذا كرر قومًا ووصفه في كل قرينة بيبسون استحضارًا لتلك الهيئة القبيحة قال والذي يقتضيه المقام أن ينزل يعلمون منزلة اللازم لينفي عنهم العلم والمعرفة بالكلية ولو ذهب مع ذلك إلى معنى التمني لكان أبلغ لأن التمني طلب ما لا يمكن حصوله أي ليتهم كانوا من أهل العلم تغليظًا وتشديدًا انتهى وفي إسناده تابعيان وصحابيان وأخرجه البخاري عن عبد الله بن يوسف عن مالك به وتابعه ابن جريج ووكيع كلاهما عن هشام عند مسلم به غايته أن وكيعًا قدم الشام ( مالك عن ابن حماس) بكسر الحاء المهملة وميم خفيفة فألف فسين مهملة كذا رواه يحيى ولم يسمه وهو يوسف بن يونس بن حماس وقال معن عن مالك عن يونس بن يوسف فقلبه وقال التنيسي وأبو مصعب عن مالك عن يوسف بن سنان أبدلا يونس فسمياه سنانًا قال البخاري والأول أصح وذكره ابن حبان في الثقات وقال كان من عباد أهل المدينة لمح مرة امرأة فدعا الله فأذهب عينيه ثم دعا الله فردهما عليه وروى عنه مالك وابن جريج وروى هو عن عطاء بن يسار وسعيد بن المسيب وسليمان بن يسار ( عن عمه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لتتركن) بفتح أوله وضم الفوقية الأولى وإسكان الثانية وفتح الراء والكاف ونون التوكيد الثقيلة ونائب الفاعل ( المدينة على أحسن ما) أي حال ( كانت) من العمارة وكثرة الأثمار وحسنها وفي رواية للصحيحين على خير ما كانت وفي أخبار المدينة لعمر بن شبة أن ابن عمر أنكر على أبي هريرة قوله خير ما كانت وقال إنما قال صلى الله عليه وسلم أعمر ما كانت وأن أبا هريرة صدقه على ذلك ( حتى يدخل الكلب أو الذئب) للتنويع ويحتمل الشك ( فيغذي) بضم التحتية وفتح الغين وكسر الذال الثقيلة المعجمتين أي يبول دفعة بعد دفعة ( على بعض سواري) أعمدة ( المسجد أو المنبر) تنويع أو شك لعدم سكانه وخلوه من الناس ( فقالوا يا رسول الله فلمن تكون الثمار ذلك الزمان قال للعوافي الطير والسباع) بالجر بدل أو عطف بيان للعوافي وهي الطالبة لما تأكل مأخوذة من عفوته إذا أتيته تطلب معروفه قال النووي الظاهر المختار أن هذا يكون في آخر الزمان عند قيام الساعة ويوضحه قضية الراعيين من مزينة فإنهما يخران على وجوههما حين تدركهما الساعة وهما آخر من يحشر كما في البخاري وقال القاضي عياض هذا مما جرى في العصر الأول وانقضى فإنها صارت بعد وفاته صلى الله عليه وسلم دار الخلافة ومعقل الناس حتى تنافسوا فيها بالغرس والبناء وتوسعوا في ذلك وسكنوا منها ما لم يسكن قبل حتى بلغت المساكن ملء إهاب وجلبت إليها خيرات الأرض كلها فلما انتهت حالها كمالاً انتقلت الخلافة عنها إلى الشام والعراق وذلك الوقت أحسن ما كانت للدين والدنيا أما الدين فلكثرة العلماء بها وكمالهم وأما الدنيا فلعمارتها وغرسها واتساع حال أهلها قال وذكر الأخباريون في بعض الفتن التي جرت بالمدينة وخاف أهلها أنه رحل عنها أكثر الناس وبقيت ثمارها أو أكثرها للعوافي وخلت مدة ثم تراجع الناس إليها وحكى كثير من الناس أنهم رأوا في خلائها ذلك ما أنذر به صلى الله عليه وسلم من تغذية الكلاب على سواري المسجد وحالها اليوم قريب من ذلك فقد خربت أطرافها قال الأبي تأمل هذا الكلام فإنه يعطي أن خلاءها حتى غذت الكلاب على سواري المسجد كان قريبًا من زمن تناهي حالها وانتقال الخلافة عنها وهذا لم يقع ولو وقع لتواتر بل الظاهر أنه لم يقع بعد ودليل المعجزة يوجب القطع بوقوعه في المستقبل لصحة الحديث وأن الظاهر كونه بين يدي نفخة الصعق كما يدل عليه موت الراعيين والمراد بخير ما كانت عليه من المصالح الدينية المتقدمة الذكر وإلى هذا كان يذهب شيخنا أبو عبد الله يعني ابن عرفة انتهى وفي نفيه وقوعه نظر مع نقل عياض عن كثير أنهم رأوا ذلك ولا يشترط التواتر في مثل هذا وهذا الحديث في البخاري من طريق شعيب ومسلم من طريق يونس وعقيل عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة بنحوه وزيادة ( مالك أنه بلغه أن عمر بن عبد العزيز حين خرج من المدينة) يريد الشام وكان قد أقام بها مدة أميرًا عليها قبل الخلافة ( التفت إليها فبكى) على فراقها ( ثم قال يا مزاحم) بن أبي مزاحم المكي مولى عمر بن عبد العزيز ويقال مولى طلحة ثقة روى له مسلم والنسائي وغيرهما ( أتخشى) تخاف ( أن تكون) بفوقية ( ممن نفت المدينة) ويحتمل أن قوله نكون بالنون أي أنا وأنت.



رقم الحديث 1613 وَحَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ ابْنِ حِمَاسٍ، عَنْ عَمِّهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لَتُتْرَكَنَّ الْمَدِينَةُ عَلَى أَحْسَنِ مَا كَانَتْ، حَتَّى يَدْخُلَ الْكَلْبُ أَوِ الذِّئْبُ فَيُغَذِّي عَلَى بَعْضِ سَوَارِي الْمَسْجِدِ أَوْ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَلِمَنْ تَكُونُ الثِّمَارُ ذَلِكَ الزَّمَانَ، قَالَ: لِلْعَوَافِي الطَّيْرِ وَالسِّبَاعِ.


( ما جاء في سكنى المدينة والخروج منها)

( مالك عن قطن) بفتح القاف والطاء المهملة ونون ( ابن وهب بن عمير) بضم العين مصغر وفي نسخة عويمر بواو بعد العين ( ابن الأجدع) بجيم ودال مهملة الليثي أو الخزاعي المدني الصدوق يكنى أبا الحسن وفي التمهيد قطن أحد بني سعد بن ليث مدني ثقة روى عنه مالك وغيره لمالك عنه هذا الحديث الواحد ( أن يحنس) بضم التحتية وفتح الحاء المهملة وتشديد النون مفتوحة ومكسورة كما ضبطه عياض وآخره سين مهملة ابن عبد الله المدني الثقة قال أبو عمر هكذا رواه يحيى وابن بكير وأكثر الرواة ورواه ابن القاسم عن مالك عن قطن بن وهب عن عويمر بن أجدع أن يحنس والصحيح رواية الجماعة وكذا نسبه ابن البرقي ويشهد لصحته رواية القعنبي عن مالك عن قطن بن وهب أن يحنس ( مولى الزبير بن العوام) أحد العشرة وفي رواية لمسلم مولى مصعب بن الزبير قال النووي وهو لأحدهما حقيقة وللآخر مجاز ( أخبره أنه كان جالسًا عند عبد الله بن عمر) بن الخطاب ( في الفتنة) التي وقعت زمن يزيد بن معاوية ( فأتته مولاة له) لم تسم ( تسلم عليه فقالت إني أردت الخروج) من المدينة ( يا أبا عبد الرحمن) لأنه ( اشتد) قوي وصعب ( علينا الزمان فقال لها عبد الله بن عمر اقعدي لكع) بضم اللام وفتح الكاف وعين مهملة كذا ليحيى وحده والصواب لكاع كما رواه غيره قال أبو عمر إنما يقال للمرأة لكاع مثل جذام وقطام وقال عياض يطلق لكع بضم اللام وفتح الكاف على اللئيم والعبد والغبي الذي لا يهتدي لنطق ولا غيره وعلى الصغير ومنه قوله صلى الله عليه وسلم يطلب الحسن أثم لكع وقول الحسن لإنسان يا لكع أي يا صغير العلم ويقال للمرأة لكاع على وزن فعال والجميع من اللكع وهو اللؤم وقيل من الملاكيع وهو ما يخرج مع السلى من البطن وقال النحاة لكع ولكاع لا يستعملان إلا في النداء خاصة وقد استعمل لكاع في الشعر في غير النداء قال الحطيئة

أطوف ما أطوف ثم آوي
إلى بيت قعيدته لكاع

قال ذلك ابن عمر لها إنكارًا لما أرادته من الخروج وتثبيطًا لها وإدلالاً عليها لأنها مولاته وقد يكون معناه يا قليلة العلم وصغيرة الحظ منه لما فاتها من معرفة حق المدينة ( فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لا يصبر على لأوائها) بالمد ( وشدتها) قال أبو عمر يعني المدينة والشدة الجوع واللأواء تعذر الكسب وسوء الحال وقال المازري اللأواء الجوع وشدة المكسب وضمير شدتها يحتمل أن يعود على اللأواء ويحتمل أن يعود على المدينة قال الأبي الحديث خرج مخرج الحث على سكناها فمن لزم سكناها داخل في ذلك ولو لم تلحقه لأواء لأن التعليل بالغالب والمظنة لا يضر فيه التخلف في بعض الصور كتعليل القصر بمشقة السفر فإن الملك يقصر وإن لم تلحقه مشقة لوجود السفر ( أحد إلا كنت له شفيعًا أو شهيدًا يوم القيامة) قال عياض سئلت قديمًا عن هذا الحديث ولم خص ساكن المدينة بالشفاعة هنا مع عموم شفاعته صلى الله عليه وسلم وادخاره إياها وأجيب عنه بجواب شاف مقنع في أوراق اعترف بصوابه كل واقف عليه وأذكر منه هنا لمعًا تليق بهذا الموضع قال بعض شيوخنا أو هنا للشك والأظهر عندنا أنها ليست للشك لأن هذا الحديث رواه جابر وسعد بن أبي وقاص وابن عمر وأبو سعيد وأبو هريرة وأسماء بنت عميس وصفية بنت أبي عبيد عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا اللفظ ويبعد اتفاق جميعهم أو رواتهم على الشك وتطابقهم فيه على صيغة واحدة بل الأظهر أنه صلى الله عليه وسلم قاله هكذا فإما أن يكون أعلم بهذه الجملة هكذا وإما أن تكون أو للتقسيم ويكون شهيدًا لبعض أهل المدينة وشفيعًا لباقيهم إما شفيعًا للعاصين وشهيدًا للمطيعين وإما شهيدًا لمن مات في حياته وشفيعًا لمن مات بعده أو غير ذلك وهذه خصوصية زائدة على الشفاعة للمذنبين أو للعاصين في القيامة وعلى شهادته على جميع الأمة وقد قال صلى الله عليه وسلم في شهداء أحد أنا شهيد على هؤلاء فيكون لتخصيصهم بهذا كله مزية وزيادة منزلة وحظوة قال وقد تكون أو بمعنى الواو فيكون لأهل المدينة شفيعًا وشهيدًا انتهى وبالواو رواه البزار من حديث ابن عمر قال عياض وإذا جعلنا أو للشك كما قال المشايخ فإن كانت اللفظة الصحيحة شهيدًا اندفع الاعتراض لأنها زائدة على الشفاعة المدخرة لغيرهم وإن كانت شفيعًا فاختصاص أهل المدينة بهذا أن هذه شفاعة أخرى أي العامة التي هي في إخراج أمته من النار ومعافاة بعضهم بشفاعته في القيامة وتكون هذه الشفاعة بزيادة الدرجات أو تخفيف السيئات أو بما شاء الله من ذلك أو بإكرامهم يوم القيامة بأنواع من الكرامة كإيوائهم إلى ظل العرش أو كونهم في روح أو على منابر أو الإسراع بهم إلى الجنة أو غير ذلك من خصوص الكرامات الواردة لبعضهم دون بعض انتهى ونقله عنه النووي وغيره وأقروه والحديث رواه مسلم عن يحيى عن مالك به وتابعه الضحاك عن قطن عند مسلم ( مالك عن محمد بن المنكدر) بن عبد الله التيمي المدني ( عن جابر بن عبد الله) الصحابي ابن الصحابي ( أن أعرابيًا) قال الحافظ لم أقف على اسمه إلا أن الزمخشري ذكر في ربيع الأبرار أنه قيس بن أبي حازم وهو مشكل لأنه تابعي كبير مشهور وصرحوا بأنه هاجر فوجد النبي صلى الله عليه وسلم قد مات فإن كان محفوظًا فلعله آخر وافق اسمه واسم أبيه وفي الذيل لأبي موسى المديني في الصحابة قيس بن حازم المنقري فيحتمل أن يكون هو هذا أي زيد في اسم أبيه أداة الكنية سهوًا أو غلطًا ( بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام فأصاب الأعرابي وعك) بفتح الواو وبسكون العين حمى ( بالمدينة فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم) وفي رواية سفيان الثوري فجاء الغد محمومًا ( فقال يا رسول الله أقلني بيعتي) على الإسلام قاله عياض وقال غيره إنما استقاله من الهجرة ولم يرد الارتداد عن الإسلام قال ابن بطال بدليل أنه لم يرد حل ما عقده إلا بموافقة النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك ولو أراد الردة ووقع فيها لقتله إذ ذاك وحمله بعضهم على الإقالة من المقام بالمدينة ( فأبى) امتنع ( رسول الله صلى الله عليه وسلم) أن يقيله ( ثم جاءه) ثانية ( فقال أقلني بيعتي فأبى) امتنع ( ثم جاءه) الثالثة ( فقال أقلني بيعتي فأبى) أن يقيله لأنها إن كانت بعد الفتح فهي على الإسلام فلم يقله لأنه لا يحل الرجوع إلى الكفر وإن كان قبله فهي على الهجرة والمقام معه بالمدينة ولا يحل للمهاجر أن يرجع إلى وطنه كذا قال عياض ورده الأبي فقال الأظهر أنها على الهجرة لقوله وعك ولو كانت على الإسلام كانت ردة لأن الرضا بالدوام على الكفر كفر انتهى ( فخرج الأعرابي) من المدينة إلى البدو ( فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما المدينة كالكير) بكسر الكاف المنفخ الذي ينفخ به النار أو الموضع المشتمل عليها ( تنفي) بفتح الفوقية وسكون النون وبالفاء ( خبثها) بفتح المعجمة والموحدة والمثلثة ما تبرزه النار من وسخ وقذر ويروى بضم الخاء وسكون الباء من الشيء الخبيث والأول أشبه لمناسبة الكير ( وينصع) بفتح التحتية وسكون النون وفتح الصاد وعين مهملتين من النصوع وهو الخلوص أي يخلص ( طيبها) بكسر الطاء وسكون التحتية خفيفة والرفع فاعل ينصع وفي رواية تنصع بالفوقية طيبها بالنصب على المفعولية مخففًا أيضًا وبه ضبطه القزاز لكنه استشكله بأنه لم ير النصوع في الطيب وإنما الكلام يتضوع بضاد معجمة وزيادة واو لكن قال عياض معنى ينصع يصفو ويخلص يقال طيب ناصع إذا خلصت رائحته وصفت مما ينقصها وفي رواية طيبها بشد التحتية مكسورة والرفع فاعل قال الأبي وهي الرواية الصحيحة وهو أقوم معنى لأنه ذكره في مقابلة الخبيث وأي مناسبة بين الكير والطيب شبه النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وما يصيب ساكنها من الجهد بالكير وما يدور عليه بمنزلة الخبيث من الطيب فيذهب الخبيث ويبقى الطيب وكذلك المدينة تنفي شرارها بالحمى والجوع وتطهر خيارهم وتزكيهم انتهى وقال غيره هذا تشبيه حسن لأن الكير بشدة نفخه ينفي عن النار السخام والدخان والرماد حتى لا يبقى إلا خالص الجمر هذا إن أريد بالكير المنفخ الذي ينفخ به النار وإن أريد به الموضع فالمعنى أن ذلك الموضع لشدة حرارته ينزع خبث الحديد والذهب والفضة ويخرج خلاصة ذلك والمدينة كذلك تنفي شرار الناس بالحمى والوصب وشدة العيش وضيق الحال التي تخلص النفس من الاسترسال في الشهوات وتطهر خيارهم وتزكيهم وهذا الحديث أخرجه البخاري في الأحكام عن القعنبي وعبد الله بن يوسف وفي الاعتصام عن إسماعيل ومسلم في الحج عن يحيى الأربعة عن مالك به وتابعه سفيان الثوري عن ابن المنكدر عند البخاري بنحوه ( مالك عن يحيى بن سعيد) بن قيس بن عمرو الأنصاري ( أنه قال سمعت أبا الحباب) بضم الحاء المهملة وفتح الموحدة الخفيفة فألف فموحدة ( سعيد) بكسر العين ( ابن يسار) بفتح التحتية والمهملة الخفيفة المدني الثقة المتقن مات بالمدينة سنة سبع عشرة ومائة وقيل قبلها بسنة يقال إنه مولى الحسن بن علي ويقال مولى شميسة النصرانية المسلمة بالمدينة على يد الحسن بن علي وقيل مولى شقران مولى النبي صلى الله عليه وسلم ( يقول سمعت أبا هريرة يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول أمرت بقرية) بضم الهمزة أي أمرني ربي بالهجرة إلى قرية ( تأكل القرى) أي تغلبها وتظهر عليها يعني أن أهلها تغلب أهل سائر البلاد فتفتح منها يقال أكلنا بني فلان أي غلبناهم وظهرنا عليهم فإن الغالب المستولي على الشيء كالمفني له إفناء الأكل إياه وفي موطأ ابن وهب قلت لمالك ما تأكل القرى أي ما معناه قال تفتح القرى لأن من المدينة افتتحت القرى كلها بالإسلام وقال السهيلي في التوراة يقول الله يا طابة يا مسكينة إني سأرفع أجاجيرك على أجاجير القرى وهو قريب من تأكل القرى لأنها إذا علت عليها علو الغلبة أكلتها ويكون المراد يأكل فضلها الفضائل أي يغلب فضلها الفضائل حتى إذا قيست بفضلها تلاشت بالنسبة إليها وجاء في مكة أنها أم القرى لكن المذكور للمدينة أبلغ من الأمومة إذ لا يمحى بوجودها وجود ما هي أم له لكن يكون حق الأمومة أظهر ومعنى تأكل القرى أن الفضائل تضمحل في جنب عظيم فضلها حتى يكون عدمًا وما تضمحل له الفضائل أفضل وأعظم مما تبقى معه الفضائل انتهى وفيه تفضيل المدينة على مكة قال المهلب لأن المدينة هي التي أدخلت مكة وغيرها من القرى في الإسلام فصار الجميع في صحائف أهلها وأجيب بأن أهل المدينة الذين فتحوا مكة فيهم كثير من أهل مكة فالفضل ثابت للفريقين فلا يلزم من ذلك تفضيل إحدى القريتين قلنا لا نزاع في ثبوت الفضل للفريقين وللقريتين كما أنه لا نزاع في أن مكة من جملة القرى التي أكلتها المدينة فيلزم تفضيلها عليها ( يقولون) أي بعض الناس من المنافقين وغيرهم ( يثرب) بالرفع يسمونها باسم واحد من العمالقة نزلها وقيل باسم يثرب بن قانية من ولد إرم بن سام بن نوح وقيل هو اسم كان لموضع منها سميت به كلها وكرهه صلى الله عليه وسلم لأنه من التثريب الذي هو التوبيخ والملامة أو من الثرب وهو الفساد وكلاهما قبيح وكان صلى الله عليه وسلم يحب الاسم الحسن ويكره القبيح ولذا قال يقولون يثرب ( وهي المدينة) أي الكاملة على الإطلاق كالبيت للكعبة فهو اسمها الحقيقي لها لأن التركيب يدل على التفخيم كقوله

هم القوم كل القوم يا أم خالد

أي هي المستحقة لأن تتخذ دار إقامة وأما تسميتها في القرآن يثرب فإنما هي حكاية عن المنافقين وروى أحمد عن البراء بن عازب رفعه من سمى المدينة يثرب فليستغفر الله هي طابة هي طابة وروى عمر بن شبة عن أبي أيوب أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يقال للمدينة يثرب قال عياض فهم العلماء من هذا منع أن يقال يثرب حتى قال عيسى بن دينار من سمى المدينة يثرب كتبت عليه خطيئة وقال أبو عمر فيه دليل على كراهة ذلك انتهى وأجيب عن حديث الصحيحين فإذا هي يثرب وفي رواية لا أراها إلا يثرب بأنه كان قبل النهي ( تنفي) بكسر الفاء ( الناس) أي الخبيث الرديء منهم ( كما ينفي الكير) بكسر الكاف وإسكان التحتية قال أبو عمر هو موضع نار الحداد والصائغ وليس الجلد الذي تسميه العامة كيرًا هكذا قال علماء اللغة ( خبث) بفتح المعجمة والموحدة ومثلثة والنصب على المفعولية ( الحديد) أي وسخه الذي تخرجه النار أي أنها لا تترك فيها من في قلبه دغل بل تميزه عن القلوب الصادقة وتخرجه كما تميز النار رديء الحديد من جيده ونسب التمييز للكير لأنه السبب الأكبر في اشتعال النار التي وقع التمييز بها قال أبو عمر هذا إنما كان في الحياة النبوية فحينئذ لم يكن يخرج من المدينة رغبة عن جواره فيها إلا من لا خير فيه وأما بعده فقد خرج منها الخيار الفضلاء الأبرار وتبعه عياض فقال الأظهر أن هذا يختص بزمنه صلى الله عليه وسلم لأنه لم يكن يصبر على الهجرة والمقام معه إلا من ثبت إيمانه وأما المنافقون وجهلة الأعراب فلا يصبرون على شدة المدينة ولا يحتسبون الأجر في ذلك كما قال الأعرابي الذي أصابه الوعك أقلني بيعتي انتهى ورجح النووي عمومه لما ورد أنها في زمن الدجال ترجف ثلاث رجفات يخرج الله منها كل كافر ومنافق قال فيحتمل أنهم اختصوا بزمن الدجال ويحتمل أنه في أزمان متفرقة قال الأبي فإن قيل قد استقر المنافقون فيها أجيب بأنهم انتفوا بالموت وهو أشد النفي فإن قيل قد استقر بها الروافض ونحوها قلت إن كان نفيها الخبث خاصًا بزمنه صلى الله عليه وسلم فالجواب واضح وإن كان عامًا فيحتمل أن المراد بنفي الخبث إخماد بدعة من يسكنها من المبتدعة وعدم ظهوره بحيث يدعو إلى بدعته وهذا لم يتفق فيها انتهى وهذا الحديث رواه البخاري عن عبد الله بن يوسف ومسلم عن قتيبة بن سعيد كلاهما عن مالك به وتابعه سفيان وعبد الوهاب عن يحيى بن سعيد عند مسلم وقال إنهما قالا كما ينفي الكير الخبث لم يذكر الحديد ( مالك عن هشام بن عروة عن أبيه) قال أبو عمر وصله معن بن عيسى وحده عن مالك عن هشام عن أبيه عن عائشة ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا يخرج أحد من المدينة) ممن استوطنها ( رغبة عنها) أي عن ثواب الساكن فيها وقال المازري أي كراهة لها من رغبت عن الشيء إذا كرهته ( إلا أبدلها الله خيرًا منه) بمولود يولد فيها أو قدوم خير منه من غيرها أما من كان وطنه غيرها فقدمها للقربة ورجع إلى وطنه أو كان مستوطنًا بها فسافر لحاجة أو لضرورة شدة زمان أو فتنة فليس ممن يخرج رغبة عنها قاله الباجي وقال ابن عبد البر هذا في حياته صلى الله عليه وسلم وذلك مثل الأعرابي القائل أقلني بيعتي ومعلوم أن من رغب عن جواره أبدله الله خيرًا منه وأما بعد وفاته فقد خرج منها جماعة من أصحابه ولم تعوض المدينة خيرًا منهم انتهى يعني كأبي موسى وابن مسعود ومعاذ وأبي عبيدة وعلي وطلحة والزبير وعمار وحذيفة وعبادة بن الصامت وبلال وأبي الدرداء وأبي ذر وغيرهم وقطنوا غيرها وماتوا خارجًا عنها ولم تعوض المدينة مثلهم فضلاً عن خير منهم فدل ذلك على التخصيص بزمنه صلى الله عليه وسلم قال الأبي الأظهر أن ذلك ليس خاصًا بالزمن النبوي ومن خرج من الصحابة لم يخرج رغبة عنها بل إنما خرج لمصلحة دينية من تعليم أو جهاد أو غير ذلك انتهى لا يقال ليس النزاع في أن خروجهم لما ذكر إنما هو في تعويضها بخير منهم وهذا لم يقع فالأظهر التخصيص لأنا نقول الإبدال مقيد بالخروج رغبة عنها فلا يرد أن الخارج لمصلحة دينية لم تعوض مثلهم ( مالك عن هشام بن عروة) تابعي صغير لقي بعض الصحابة ( عن أبيه) أحد الفقهاء ( عن) أخيه ( عبد الله بن الزبير) الصحابي ابن الصحابي ( عن سفيان بن أبي زهير) بضم الزاي وفتح الهاء مصغر الأزدي من أزد شنوءة بفتح المعجمة وضم النون وبعد الواو همزة صحابي نزل المدينة قال ابن المديني وخليفة اسم أبيه القرد بفتح القاف وكسر الراء فدال مهملة ولذا يقال له ابن القرد وقيل اسم أبيه نمير بن عبد الله بن مالك ويقال فيه النميري لأنه من ولد النمر بن عثمان بن زهران ( قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول تفتح) بضم الفوقية وسكون الفاء وفتح الفوقية مبني للمفعول ونائبه ( اليمن) سمي بذلك لأنه عن يمين القبلة أو عن يمين الشمس أو بيمن بن قحطان ( فيأتي قوم) من أهل المدينة ( يبسون) بفتح التحتية وكسر الموحدة من الثلاثي رواه يحيى ولا يصح عنه غيره وكذا رواه ابن بكير وقال معناه يسيرون من قوله { { وبست الجبال بسا } } أي سارت وذكر حبيب هذا التفسير عن مالك وكذا رواه ابن نافع وغيره عنه فإنكار عبد الملك بن حبيب رواية يحيى ليس بشيء لأنه لم ينفرد بها بل تابعه ابن بكير وابن نافع وابن حبيب وغيرهم عن مالك ورواه ابن القاسم بفتح التحتية وضم الموحدة ثلاثيًا أيضًا من باب نصر أي يسرعون السير وقيل يزجرون دوابهم وقيل يسألون عن البلدان وأخبارها ليتحملوا إليها وهذا لا يكاد يعرف لغة ورواه ابن وهب يبسون بضم التحتية وكسر الموحدة وضم المهملة رباعي من أبس وقال معناه يزينون لهم الخروج من المدينة أي ويزينون البلد الذي جاؤوا منه ويحببونه إليهم وصوبه ابن حبيب قاله أبو عمر ملخصًا ( فيتحملون) من المدينة ( بأهليهم ومن أطاعهم) من الناس ( والمدينة خير لهم) لأنها لا يدخلها الدجال ولا الطاعون وقيل لأن الفتن فيها دونها في غيرها وقيل لفضل مسجدها والصلاة فيه ومجاورة القبر الشريف ( لو كانوا يعلمون) بما فيها من الفضائل كالصلاة في مسجدها وثواب الإقامة فيها وغير ذلك من الفوائد الدينية الأخروية التي تستحقر دونها ما يجدونه من الحظوظ الفانية العاجلة بسبب الإقامة في غيرها وفي حديث أبي هريرة عند مسلم يأتي على الناس زمان يدعو الرجل ابن عمه أو قريبه هلم إلى الرخاء والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون وظاهره أن الذين يتحملون غير الذين يبسون فكأن الذي حضر الفتح أعجبه حسن اليمن ورخاؤه فدعا قريبه إلى المجيء إليه فيتحمل المدعو بأهله وأتباعه لكن صوب النووي أن حديث الباب إخبار عمن خرج من المدينة متحملاً بأهله وأتباعه بأسًا في سيره إلى الرخاء والأمصار المنفتحة وفي رواية ابن خزيمة من طريق أبي معاوية عن هشام في هذا الحديث ما يؤيده ولفظه تفتح الشام فيخرج الناس إليها يبسون والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون ويوضح ذلك حديث جابر عند البزار برجال الصحيح مرفوعًا ليأتين على أهل المدينة زمان ينطلق الناس منها إلى الأرياف يلتمسون الرخاء فيجدون ثم يتحملون بأهله إلى الرخاء والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون والأرياف جمع ريف بكسر الراء وهو ما قارب المياه في أرض العرب وقيل هو الأرض التي فيها الزرع والخصب وقيل غير ذلك ( وتفتح الشام) سمي بذلك لأنه عن شمال الكعبة وفي رواية ابن جريج عن هشام ثم تفتح الشام ( فيأتي قوم يبسون) بفتح أوله وكسر الموحدة وضمها وبضم أوله وكسر الموحدة أي يزينون ويدعون الناس إلى بلاد الخصب ( فيتحملون بأهليهم ومن أطاعهم) من الناس راحلين إلى الشام ( والمدينة خير لهم) منها لأنها حرم الرسول وجواره ومهبط الوحي ومنزل البركات ( لو كانوا يعلمون) فضلها ما فعلوا ذلك فالجواب محذوف كالسابق واللاحق دل عليه ما قبله وإن كانت لو بمعنى ليت فلا جواب لها وعلى التقديرين ففيه تجهيل لمن فارقها لتفويته على نفسه خيرًا عظيمًا ( وتفتح العراق) وفي رواية ابن جريج ثم تفتح العراق ( فيأتي قوم يبسون فيتحملون بأهليهم ومن أطاعهم) من الناس راحلين إلى العراق ( والمدينة خير لهم) منه ( لو كانوا يعلمون) ذلك والواو في الثلاثة للحال وهذا من إعلام نبوته صلى الله عليه وسلم حيث أخبر بفتح هذه الأقاليم وأن الناس يتحملون بأهليهم ويفارقون المدينة فكان ما قاله على ترتيب ما قال لكن في رواية لمسلم وغيره تفتح الشام ثم اليمن ثم العراق والظاهر أن اليمن قبل الشام للاتفاق على أنه لم يفتح شيء من الشام في الزمن النبوي فرواية تقديم الشام على اليمن معناها أن استيفاء فتح اليمن إنما كان بعد الشام وقول الطهري أخبر صلى الله عليه وسلم في أول الهجرة إلى المدينة بأن اليمن تفتح فيأتي منها قوم حتى يكثر أهل المدينة والمدينة خير لهم من غيرها تعقبه الطيبي بأن تنكير قوم ووصفه بيبسون ثم توكيده بقوله لو كانوا يعلمون لا يساعد ما قاله لأن تنكير قوم لتحقيرهم وتوهين أمرهم ثم وصف يبسون وهو سوق الدواب يشعر بركة عقولهم وأنهم ممن ركن إلى الحظوظ البهيمية وحطام الدنيا الفانية وأعرضوا عن الإقامة في جوار الرسول ولذا كرر قومًا ووصفه في كل قرينة بيبسون استحضارًا لتلك الهيئة القبيحة قال والذي يقتضيه المقام أن ينزل يعلمون منزلة اللازم لينفي عنهم العلم والمعرفة بالكلية ولو ذهب مع ذلك إلى معنى التمني لكان أبلغ لأن التمني طلب ما لا يمكن حصوله أي ليتهم كانوا من أهل العلم تغليظًا وتشديدًا انتهى وفي إسناده تابعيان وصحابيان وأخرجه البخاري عن عبد الله بن يوسف عن مالك به وتابعه ابن جريج ووكيع كلاهما عن هشام عند مسلم به غايته أن وكيعًا قدم الشام ( مالك عن ابن حماس) بكسر الحاء المهملة وميم خفيفة فألف فسين مهملة كذا رواه يحيى ولم يسمه وهو يوسف بن يونس بن حماس وقال معن عن مالك عن يونس بن يوسف فقلبه وقال التنيسي وأبو مصعب عن مالك عن يوسف بن سنان أبدلا يونس فسمياه سنانًا قال البخاري والأول أصح وذكره ابن حبان في الثقات وقال كان من عباد أهل المدينة لمح مرة امرأة فدعا الله فأذهب عينيه ثم دعا الله فردهما عليه وروى عنه مالك وابن جريج وروى هو عن عطاء بن يسار وسعيد بن المسيب وسليمان بن يسار ( عن عمه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لتتركن) بفتح أوله وضم الفوقية الأولى وإسكان الثانية وفتح الراء والكاف ونون التوكيد الثقيلة ونائب الفاعل ( المدينة على أحسن ما) أي حال ( كانت) من العمارة وكثرة الأثمار وحسنها وفي رواية للصحيحين على خير ما كانت وفي أخبار المدينة لعمر بن شبة أن ابن عمر أنكر على أبي هريرة قوله خير ما كانت وقال إنما قال صلى الله عليه وسلم أعمر ما كانت وأن أبا هريرة صدقه على ذلك ( حتى يدخل الكلب أو الذئب) للتنويع ويحتمل الشك ( فيغذي) بضم التحتية وفتح الغين وكسر الذال الثقيلة المعجمتين أي يبول دفعة بعد دفعة ( على بعض سواري) أعمدة ( المسجد أو المنبر) تنويع أو شك لعدم سكانه وخلوه من الناس ( فقالوا يا رسول الله فلمن تكون الثمار ذلك الزمان قال للعوافي الطير والسباع) بالجر بدل أو عطف بيان للعوافي وهي الطالبة لما تأكل مأخوذة من عفوته إذا أتيته تطلب معروفه قال النووي الظاهر المختار أن هذا يكون في آخر الزمان عند قيام الساعة ويوضحه قضية الراعيين من مزينة فإنهما يخران على وجوههما حين تدركهما الساعة وهما آخر من يحشر كما في البخاري وقال القاضي عياض هذا مما جرى في العصر الأول وانقضى فإنها صارت بعد وفاته صلى الله عليه وسلم دار الخلافة ومعقل الناس حتى تنافسوا فيها بالغرس والبناء وتوسعوا في ذلك وسكنوا منها ما لم يسكن قبل حتى بلغت المساكن ملء إهاب وجلبت إليها خيرات الأرض كلها فلما انتهت حالها كمالاً انتقلت الخلافة عنها إلى الشام والعراق وذلك الوقت أحسن ما كانت للدين والدنيا أما الدين فلكثرة العلماء بها وكمالهم وأما الدنيا فلعمارتها وغرسها واتساع حال أهلها قال وذكر الأخباريون في بعض الفتن التي جرت بالمدينة وخاف أهلها أنه رحل عنها أكثر الناس وبقيت ثمارها أو أكثرها للعوافي وخلت مدة ثم تراجع الناس إليها وحكى كثير من الناس أنهم رأوا في خلائها ذلك ما أنذر به صلى الله عليه وسلم من تغذية الكلاب على سواري المسجد وحالها اليوم قريب من ذلك فقد خربت أطرافها قال الأبي تأمل هذا الكلام فإنه يعطي أن خلاءها حتى غذت الكلاب على سواري المسجد كان قريبًا من زمن تناهي حالها وانتقال الخلافة عنها وهذا لم يقع ولو وقع لتواتر بل الظاهر أنه لم يقع بعد ودليل المعجزة يوجب القطع بوقوعه في المستقبل لصحة الحديث وأن الظاهر كونه بين يدي نفخة الصعق كما يدل عليه موت الراعيين والمراد بخير ما كانت عليه من المصالح الدينية المتقدمة الذكر وإلى هذا كان يذهب شيخنا أبو عبد الله يعني ابن عرفة انتهى وفي نفيه وقوعه نظر مع نقل عياض عن كثير أنهم رأوا ذلك ولا يشترط التواتر في مثل هذا وهذا الحديث في البخاري من طريق شعيب ومسلم من طريق يونس وعقيل عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة بنحوه وزيادة ( مالك أنه بلغه أن عمر بن عبد العزيز حين خرج من المدينة) يريد الشام وكان قد أقام بها مدة أميرًا عليها قبل الخلافة ( التفت إليها فبكى) على فراقها ( ثم قال يا مزاحم) بن أبي مزاحم المكي مولى عمر بن عبد العزيز ويقال مولى طلحة ثقة روى له مسلم والنسائي وغيرهما ( أتخشى) تخاف ( أن تكون) بفوقية ( ممن نفت المدينة) ويحتمل أن قوله نكون بالنون أي أنا وأنت.



رقم الحديث 1614 وَحَدَّثَنِي مَالِكٌ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ حِينَ خَرَجَ مِنَ الْمَدِينَةِ الْتَفَتَ إِلَيْهَا فَبَكَى، ثُمَّ قَالَ: يَا مُزَاحِمُ، أَتَخْشَى أَنْ نَكُونَ مِمَّنْ نَفَتِ الْمَدِينَةُ؟.


( ما جاء في سكنى المدينة والخروج منها)

( مالك عن قطن) بفتح القاف والطاء المهملة ونون ( ابن وهب بن عمير) بضم العين مصغر وفي نسخة عويمر بواو بعد العين ( ابن الأجدع) بجيم ودال مهملة الليثي أو الخزاعي المدني الصدوق يكنى أبا الحسن وفي التمهيد قطن أحد بني سعد بن ليث مدني ثقة روى عنه مالك وغيره لمالك عنه هذا الحديث الواحد ( أن يحنس) بضم التحتية وفتح الحاء المهملة وتشديد النون مفتوحة ومكسورة كما ضبطه عياض وآخره سين مهملة ابن عبد الله المدني الثقة قال أبو عمر هكذا رواه يحيى وابن بكير وأكثر الرواة ورواه ابن القاسم عن مالك عن قطن بن وهب عن عويمر بن أجدع أن يحنس والصحيح رواية الجماعة وكذا نسبه ابن البرقي ويشهد لصحته رواية القعنبي عن مالك عن قطن بن وهب أن يحنس ( مولى الزبير بن العوام) أحد العشرة وفي رواية لمسلم مولى مصعب بن الزبير قال النووي وهو لأحدهما حقيقة وللآخر مجاز ( أخبره أنه كان جالسًا عند عبد الله بن عمر) بن الخطاب ( في الفتنة) التي وقعت زمن يزيد بن معاوية ( فأتته مولاة له) لم تسم ( تسلم عليه فقالت إني أردت الخروج) من المدينة ( يا أبا عبد الرحمن) لأنه ( اشتد) قوي وصعب ( علينا الزمان فقال لها عبد الله بن عمر اقعدي لكع) بضم اللام وفتح الكاف وعين مهملة كذا ليحيى وحده والصواب لكاع كما رواه غيره قال أبو عمر إنما يقال للمرأة لكاع مثل جذام وقطام وقال عياض يطلق لكع بضم اللام وفتح الكاف على اللئيم والعبد والغبي الذي لا يهتدي لنطق ولا غيره وعلى الصغير ومنه قوله صلى الله عليه وسلم يطلب الحسن أثم لكع وقول الحسن لإنسان يا لكع أي يا صغير العلم ويقال للمرأة لكاع على وزن فعال والجميع من اللكع وهو اللؤم وقيل من الملاكيع وهو ما يخرج مع السلى من البطن وقال النحاة لكع ولكاع لا يستعملان إلا في النداء خاصة وقد استعمل لكاع في الشعر في غير النداء قال الحطيئة

أطوف ما أطوف ثم آوي
إلى بيت قعيدته لكاع

قال ذلك ابن عمر لها إنكارًا لما أرادته من الخروج وتثبيطًا لها وإدلالاً عليها لأنها مولاته وقد يكون معناه يا قليلة العلم وصغيرة الحظ منه لما فاتها من معرفة حق المدينة ( فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لا يصبر على لأوائها) بالمد ( وشدتها) قال أبو عمر يعني المدينة والشدة الجوع واللأواء تعذر الكسب وسوء الحال وقال المازري اللأواء الجوع وشدة المكسب وضمير شدتها يحتمل أن يعود على اللأواء ويحتمل أن يعود على المدينة قال الأبي الحديث خرج مخرج الحث على سكناها فمن لزم سكناها داخل في ذلك ولو لم تلحقه لأواء لأن التعليل بالغالب والمظنة لا يضر فيه التخلف في بعض الصور كتعليل القصر بمشقة السفر فإن الملك يقصر وإن لم تلحقه مشقة لوجود السفر ( أحد إلا كنت له شفيعًا أو شهيدًا يوم القيامة) قال عياض سئلت قديمًا عن هذا الحديث ولم خص ساكن المدينة بالشفاعة هنا مع عموم شفاعته صلى الله عليه وسلم وادخاره إياها وأجيب عنه بجواب شاف مقنع في أوراق اعترف بصوابه كل واقف عليه وأذكر منه هنا لمعًا تليق بهذا الموضع قال بعض شيوخنا أو هنا للشك والأظهر عندنا أنها ليست للشك لأن هذا الحديث رواه جابر وسعد بن أبي وقاص وابن عمر وأبو سعيد وأبو هريرة وأسماء بنت عميس وصفية بنت أبي عبيد عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا اللفظ ويبعد اتفاق جميعهم أو رواتهم على الشك وتطابقهم فيه على صيغة واحدة بل الأظهر أنه صلى الله عليه وسلم قاله هكذا فإما أن يكون أعلم بهذه الجملة هكذا وإما أن تكون أو للتقسيم ويكون شهيدًا لبعض أهل المدينة وشفيعًا لباقيهم إما شفيعًا للعاصين وشهيدًا للمطيعين وإما شهيدًا لمن مات في حياته وشفيعًا لمن مات بعده أو غير ذلك وهذه خصوصية زائدة على الشفاعة للمذنبين أو للعاصين في القيامة وعلى شهادته على جميع الأمة وقد قال صلى الله عليه وسلم في شهداء أحد أنا شهيد على هؤلاء فيكون لتخصيصهم بهذا كله مزية وزيادة منزلة وحظوة قال وقد تكون أو بمعنى الواو فيكون لأهل المدينة شفيعًا وشهيدًا انتهى وبالواو رواه البزار من حديث ابن عمر قال عياض وإذا جعلنا أو للشك كما قال المشايخ فإن كانت اللفظة الصحيحة شهيدًا اندفع الاعتراض لأنها زائدة على الشفاعة المدخرة لغيرهم وإن كانت شفيعًا فاختصاص أهل المدينة بهذا أن هذه شفاعة أخرى أي العامة التي هي في إخراج أمته من النار ومعافاة بعضهم بشفاعته في القيامة وتكون هذه الشفاعة بزيادة الدرجات أو تخفيف السيئات أو بما شاء الله من ذلك أو بإكرامهم يوم القيامة بأنواع من الكرامة كإيوائهم إلى ظل العرش أو كونهم في روح أو على منابر أو الإسراع بهم إلى الجنة أو غير ذلك من خصوص الكرامات الواردة لبعضهم دون بعض انتهى ونقله عنه النووي وغيره وأقروه والحديث رواه مسلم عن يحيى عن مالك به وتابعه الضحاك عن قطن عند مسلم ( مالك عن محمد بن المنكدر) بن عبد الله التيمي المدني ( عن جابر بن عبد الله) الصحابي ابن الصحابي ( أن أعرابيًا) قال الحافظ لم أقف على اسمه إلا أن الزمخشري ذكر في ربيع الأبرار أنه قيس بن أبي حازم وهو مشكل لأنه تابعي كبير مشهور وصرحوا بأنه هاجر فوجد النبي صلى الله عليه وسلم قد مات فإن كان محفوظًا فلعله آخر وافق اسمه واسم أبيه وفي الذيل لأبي موسى المديني في الصحابة قيس بن حازم المنقري فيحتمل أن يكون هو هذا أي زيد في اسم أبيه أداة الكنية سهوًا أو غلطًا ( بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام فأصاب الأعرابي وعك) بفتح الواو وبسكون العين حمى ( بالمدينة فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم) وفي رواية سفيان الثوري فجاء الغد محمومًا ( فقال يا رسول الله أقلني بيعتي) على الإسلام قاله عياض وقال غيره إنما استقاله من الهجرة ولم يرد الارتداد عن الإسلام قال ابن بطال بدليل أنه لم يرد حل ما عقده إلا بموافقة النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك ولو أراد الردة ووقع فيها لقتله إذ ذاك وحمله بعضهم على الإقالة من المقام بالمدينة ( فأبى) امتنع ( رسول الله صلى الله عليه وسلم) أن يقيله ( ثم جاءه) ثانية ( فقال أقلني بيعتي فأبى) امتنع ( ثم جاءه) الثالثة ( فقال أقلني بيعتي فأبى) أن يقيله لأنها إن كانت بعد الفتح فهي على الإسلام فلم يقله لأنه لا يحل الرجوع إلى الكفر وإن كان قبله فهي على الهجرة والمقام معه بالمدينة ولا يحل للمهاجر أن يرجع إلى وطنه كذا قال عياض ورده الأبي فقال الأظهر أنها على الهجرة لقوله وعك ولو كانت على الإسلام كانت ردة لأن الرضا بالدوام على الكفر كفر انتهى ( فخرج الأعرابي) من المدينة إلى البدو ( فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما المدينة كالكير) بكسر الكاف المنفخ الذي ينفخ به النار أو الموضع المشتمل عليها ( تنفي) بفتح الفوقية وسكون النون وبالفاء ( خبثها) بفتح المعجمة والموحدة والمثلثة ما تبرزه النار من وسخ وقذر ويروى بضم الخاء وسكون الباء من الشيء الخبيث والأول أشبه لمناسبة الكير ( وينصع) بفتح التحتية وسكون النون وفتح الصاد وعين مهملتين من النصوع وهو الخلوص أي يخلص ( طيبها) بكسر الطاء وسكون التحتية خفيفة والرفع فاعل ينصع وفي رواية تنصع بالفوقية طيبها بالنصب على المفعولية مخففًا أيضًا وبه ضبطه القزاز لكنه استشكله بأنه لم ير النصوع في الطيب وإنما الكلام يتضوع بضاد معجمة وزيادة واو لكن قال عياض معنى ينصع يصفو ويخلص يقال طيب ناصع إذا خلصت رائحته وصفت مما ينقصها وفي رواية طيبها بشد التحتية مكسورة والرفع فاعل قال الأبي وهي الرواية الصحيحة وهو أقوم معنى لأنه ذكره في مقابلة الخبيث وأي مناسبة بين الكير والطيب شبه النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وما يصيب ساكنها من الجهد بالكير وما يدور عليه بمنزلة الخبيث من الطيب فيذهب الخبيث ويبقى الطيب وكذلك المدينة تنفي شرارها بالحمى والجوع وتطهر خيارهم وتزكيهم انتهى وقال غيره هذا تشبيه حسن لأن الكير بشدة نفخه ينفي عن النار السخام والدخان والرماد حتى لا يبقى إلا خالص الجمر هذا إن أريد بالكير المنفخ الذي ينفخ به النار وإن أريد به الموضع فالمعنى أن ذلك الموضع لشدة حرارته ينزع خبث الحديد والذهب والفضة ويخرج خلاصة ذلك والمدينة كذلك تنفي شرار الناس بالحمى والوصب وشدة العيش وضيق الحال التي تخلص النفس من الاسترسال في الشهوات وتطهر خيارهم وتزكيهم وهذا الحديث أخرجه البخاري في الأحكام عن القعنبي وعبد الله بن يوسف وفي الاعتصام عن إسماعيل ومسلم في الحج عن يحيى الأربعة عن مالك به وتابعه سفيان الثوري عن ابن المنكدر عند البخاري بنحوه ( مالك عن يحيى بن سعيد) بن قيس بن عمرو الأنصاري ( أنه قال سمعت أبا الحباب) بضم الحاء المهملة وفتح الموحدة الخفيفة فألف فموحدة ( سعيد) بكسر العين ( ابن يسار) بفتح التحتية والمهملة الخفيفة المدني الثقة المتقن مات بالمدينة سنة سبع عشرة ومائة وقيل قبلها بسنة يقال إنه مولى الحسن بن علي ويقال مولى شميسة النصرانية المسلمة بالمدينة على يد الحسن بن علي وقيل مولى شقران مولى النبي صلى الله عليه وسلم ( يقول سمعت أبا هريرة يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول أمرت بقرية) بضم الهمزة أي أمرني ربي بالهجرة إلى قرية ( تأكل القرى) أي تغلبها وتظهر عليها يعني أن أهلها تغلب أهل سائر البلاد فتفتح منها يقال أكلنا بني فلان أي غلبناهم وظهرنا عليهم فإن الغالب المستولي على الشيء كالمفني له إفناء الأكل إياه وفي موطأ ابن وهب قلت لمالك ما تأكل القرى أي ما معناه قال تفتح القرى لأن من المدينة افتتحت القرى كلها بالإسلام وقال السهيلي في التوراة يقول الله يا طابة يا مسكينة إني سأرفع أجاجيرك على أجاجير القرى وهو قريب من تأكل القرى لأنها إذا علت عليها علو الغلبة أكلتها ويكون المراد يأكل فضلها الفضائل أي يغلب فضلها الفضائل حتى إذا قيست بفضلها تلاشت بالنسبة إليها وجاء في مكة أنها أم القرى لكن المذكور للمدينة أبلغ من الأمومة إذ لا يمحى بوجودها وجود ما هي أم له لكن يكون حق الأمومة أظهر ومعنى تأكل القرى أن الفضائل تضمحل في جنب عظيم فضلها حتى يكون عدمًا وما تضمحل له الفضائل أفضل وأعظم مما تبقى معه الفضائل انتهى وفيه تفضيل المدينة على مكة قال المهلب لأن المدينة هي التي أدخلت مكة وغيرها من القرى في الإسلام فصار الجميع في صحائف أهلها وأجيب بأن أهل المدينة الذين فتحوا مكة فيهم كثير من أهل مكة فالفضل ثابت للفريقين فلا يلزم من ذلك تفضيل إحدى القريتين قلنا لا نزاع في ثبوت الفضل للفريقين وللقريتين كما أنه لا نزاع في أن مكة من جملة القرى التي أكلتها المدينة فيلزم تفضيلها عليها ( يقولون) أي بعض الناس من المنافقين وغيرهم ( يثرب) بالرفع يسمونها باسم واحد من العمالقة نزلها وقيل باسم يثرب بن قانية من ولد إرم بن سام بن نوح وقيل هو اسم كان لموضع منها سميت به كلها وكرهه صلى الله عليه وسلم لأنه من التثريب الذي هو التوبيخ والملامة أو من الثرب وهو الفساد وكلاهما قبيح وكان صلى الله عليه وسلم يحب الاسم الحسن ويكره القبيح ولذا قال يقولون يثرب ( وهي المدينة) أي الكاملة على الإطلاق كالبيت للكعبة فهو اسمها الحقيقي لها لأن التركيب يدل على التفخيم كقوله

هم القوم كل القوم يا أم خالد

أي هي المستحقة لأن تتخذ دار إقامة وأما تسميتها في القرآن يثرب فإنما هي حكاية عن المنافقين وروى أحمد عن البراء بن عازب رفعه من سمى المدينة يثرب فليستغفر الله هي طابة هي طابة وروى عمر بن شبة عن أبي أيوب أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يقال للمدينة يثرب قال عياض فهم العلماء من هذا منع أن يقال يثرب حتى قال عيسى بن دينار من سمى المدينة يثرب كتبت عليه خطيئة وقال أبو عمر فيه دليل على كراهة ذلك انتهى وأجيب عن حديث الصحيحين فإذا هي يثرب وفي رواية لا أراها إلا يثرب بأنه كان قبل النهي ( تنفي) بكسر الفاء ( الناس) أي الخبيث الرديء منهم ( كما ينفي الكير) بكسر الكاف وإسكان التحتية قال أبو عمر هو موضع نار الحداد والصائغ وليس الجلد الذي تسميه العامة كيرًا هكذا قال علماء اللغة ( خبث) بفتح المعجمة والموحدة ومثلثة والنصب على المفعولية ( الحديد) أي وسخه الذي تخرجه النار أي أنها لا تترك فيها من في قلبه دغل بل تميزه عن القلوب الصادقة وتخرجه كما تميز النار رديء الحديد من جيده ونسب التمييز للكير لأنه السبب الأكبر في اشتعال النار التي وقع التمييز بها قال أبو عمر هذا إنما كان في الحياة النبوية فحينئذ لم يكن يخرج من المدينة رغبة عن جواره فيها إلا من لا خير فيه وأما بعده فقد خرج منها الخيار الفضلاء الأبرار وتبعه عياض فقال الأظهر أن هذا يختص بزمنه صلى الله عليه وسلم لأنه لم يكن يصبر على الهجرة والمقام معه إلا من ثبت إيمانه وأما المنافقون وجهلة الأعراب فلا يصبرون على شدة المدينة ولا يحتسبون الأجر في ذلك كما قال الأعرابي الذي أصابه الوعك أقلني بيعتي انتهى ورجح النووي عمومه لما ورد أنها في زمن الدجال ترجف ثلاث رجفات يخرج الله منها كل كافر ومنافق قال فيحتمل أنهم اختصوا بزمن الدجال ويحتمل أنه في أزمان متفرقة قال الأبي فإن قيل قد استقر المنافقون فيها أجيب بأنهم انتفوا بالموت وهو أشد النفي فإن قيل قد استقر بها الروافض ونحوها قلت إن كان نفيها الخبث خاصًا بزمنه صلى الله عليه وسلم فالجواب واضح وإن كان عامًا فيحتمل أن المراد بنفي الخبث إخماد بدعة من يسكنها من المبتدعة وعدم ظهوره بحيث يدعو إلى بدعته وهذا لم يتفق فيها انتهى وهذا الحديث رواه البخاري عن عبد الله بن يوسف ومسلم عن قتيبة بن سعيد كلاهما عن مالك به وتابعه سفيان وعبد الوهاب عن يحيى بن سعيد عند مسلم وقال إنهما قالا كما ينفي الكير الخبث لم يذكر الحديد ( مالك عن هشام بن عروة عن أبيه) قال أبو عمر وصله معن بن عيسى وحده عن مالك عن هشام عن أبيه عن عائشة ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا يخرج أحد من المدينة) ممن استوطنها ( رغبة عنها) أي عن ثواب الساكن فيها وقال المازري أي كراهة لها من رغبت عن الشيء إذا كرهته ( إلا أبدلها الله خيرًا منه) بمولود يولد فيها أو قدوم خير منه من غيرها أما من كان وطنه غيرها فقدمها للقربة ورجع إلى وطنه أو كان مستوطنًا بها فسافر لحاجة أو لضرورة شدة زمان أو فتنة فليس ممن يخرج رغبة عنها قاله الباجي وقال ابن عبد البر هذا في حياته صلى الله عليه وسلم وذلك مثل الأعرابي القائل أقلني بيعتي ومعلوم أن من رغب عن جواره أبدله الله خيرًا منه وأما بعد وفاته فقد خرج منها جماعة من أصحابه ولم تعوض المدينة خيرًا منهم انتهى يعني كأبي موسى وابن مسعود ومعاذ وأبي عبيدة وعلي وطلحة والزبير وعمار وحذيفة وعبادة بن الصامت وبلال وأبي الدرداء وأبي ذر وغيرهم وقطنوا غيرها وماتوا خارجًا عنها ولم تعوض المدينة مثلهم فضلاً عن خير منهم فدل ذلك على التخصيص بزمنه صلى الله عليه وسلم قال الأبي الأظهر أن ذلك ليس خاصًا بالزمن النبوي ومن خرج من الصحابة لم يخرج رغبة عنها بل إنما خرج لمصلحة دينية من تعليم أو جهاد أو غير ذلك انتهى لا يقال ليس النزاع في أن خروجهم لما ذكر إنما هو في تعويضها بخير منهم وهذا لم يقع فالأظهر التخصيص لأنا نقول الإبدال مقيد بالخروج رغبة عنها فلا يرد أن الخارج لمصلحة دينية لم تعوض مثلهم ( مالك عن هشام بن عروة) تابعي صغير لقي بعض الصحابة ( عن أبيه) أحد الفقهاء ( عن) أخيه ( عبد الله بن الزبير) الصحابي ابن الصحابي ( عن سفيان بن أبي زهير) بضم الزاي وفتح الهاء مصغر الأزدي من أزد شنوءة بفتح المعجمة وضم النون وبعد الواو همزة صحابي نزل المدينة قال ابن المديني وخليفة اسم أبيه القرد بفتح القاف وكسر الراء فدال مهملة ولذا يقال له ابن القرد وقيل اسم أبيه نمير بن عبد الله بن مالك ويقال فيه النميري لأنه من ولد النمر بن عثمان بن زهران ( قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول تفتح) بضم الفوقية وسكون الفاء وفتح الفوقية مبني للمفعول ونائبه ( اليمن) سمي بذلك لأنه عن يمين القبلة أو عن يمين الشمس أو بيمن بن قحطان ( فيأتي قوم) من أهل المدينة ( يبسون) بفتح التحتية وكسر الموحدة من الثلاثي رواه يحيى ولا يصح عنه غيره وكذا رواه ابن بكير وقال معناه يسيرون من قوله { { وبست الجبال بسا } } أي سارت وذكر حبيب هذا التفسير عن مالك وكذا رواه ابن نافع وغيره عنه فإنكار عبد الملك بن حبيب رواية يحيى ليس بشيء لأنه لم ينفرد بها بل تابعه ابن بكير وابن نافع وابن حبيب وغيرهم عن مالك ورواه ابن القاسم بفتح التحتية وضم الموحدة ثلاثيًا أيضًا من باب نصر أي يسرعون السير وقيل يزجرون دوابهم وقيل يسألون عن البلدان وأخبارها ليتحملوا إليها وهذا لا يكاد يعرف لغة ورواه ابن وهب يبسون بضم التحتية وكسر الموحدة وضم المهملة رباعي من أبس وقال معناه يزينون لهم الخروج من المدينة أي ويزينون البلد الذي جاؤوا منه ويحببونه إليهم وصوبه ابن حبيب قاله أبو عمر ملخصًا ( فيتحملون) من المدينة ( بأهليهم ومن أطاعهم) من الناس ( والمدينة خير لهم) لأنها لا يدخلها الدجال ولا الطاعون وقيل لأن الفتن فيها دونها في غيرها وقيل لفضل مسجدها والصلاة فيه ومجاورة القبر الشريف ( لو كانوا يعلمون) بما فيها من الفضائل كالصلاة في مسجدها وثواب الإقامة فيها وغير ذلك من الفوائد الدينية الأخروية التي تستحقر دونها ما يجدونه من الحظوظ الفانية العاجلة بسبب الإقامة في غيرها وفي حديث أبي هريرة عند مسلم يأتي على الناس زمان يدعو الرجل ابن عمه أو قريبه هلم إلى الرخاء والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون وظاهره أن الذين يتحملون غير الذين يبسون فكأن الذي حضر الفتح أعجبه حسن اليمن ورخاؤه فدعا قريبه إلى المجيء إليه فيتحمل المدعو بأهله وأتباعه لكن صوب النووي أن حديث الباب إخبار عمن خرج من المدينة متحملاً بأهله وأتباعه بأسًا في سيره إلى الرخاء والأمصار المنفتحة وفي رواية ابن خزيمة من طريق أبي معاوية عن هشام في هذا الحديث ما يؤيده ولفظه تفتح الشام فيخرج الناس إليها يبسون والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون ويوضح ذلك حديث جابر عند البزار برجال الصحيح مرفوعًا ليأتين على أهل المدينة زمان ينطلق الناس منها إلى الأرياف يلتمسون الرخاء فيجدون ثم يتحملون بأهله إلى الرخاء والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون والأرياف جمع ريف بكسر الراء وهو ما قارب المياه في أرض العرب وقيل هو الأرض التي فيها الزرع والخصب وقيل غير ذلك ( وتفتح الشام) سمي بذلك لأنه عن شمال الكعبة وفي رواية ابن جريج عن هشام ثم تفتح الشام ( فيأتي قوم يبسون) بفتح أوله وكسر الموحدة وضمها وبضم أوله وكسر الموحدة أي يزينون ويدعون الناس إلى بلاد الخصب ( فيتحملون بأهليهم ومن أطاعهم) من الناس راحلين إلى الشام ( والمدينة خير لهم) منها لأنها حرم الرسول وجواره ومهبط الوحي ومنزل البركات ( لو كانوا يعلمون) فضلها ما فعلوا ذلك فالجواب محذوف كالسابق واللاحق دل عليه ما قبله وإن كانت لو بمعنى ليت فلا جواب لها وعلى التقديرين ففيه تجهيل لمن فارقها لتفويته على نفسه خيرًا عظيمًا ( وتفتح العراق) وفي رواية ابن جريج ثم تفتح العراق ( فيأتي قوم يبسون فيتحملون بأهليهم ومن أطاعهم) من الناس راحلين إلى العراق ( والمدينة خير لهم) منه ( لو كانوا يعلمون) ذلك والواو في الثلاثة للحال وهذا من إعلام نبوته صلى الله عليه وسلم حيث أخبر بفتح هذه الأقاليم وأن الناس يتحملون بأهليهم ويفارقون المدينة فكان ما قاله على ترتيب ما قال لكن في رواية لمسلم وغيره تفتح الشام ثم اليمن ثم العراق والظاهر أن اليمن قبل الشام للاتفاق على أنه لم يفتح شيء من الشام في الزمن النبوي فرواية تقديم الشام على اليمن معناها أن استيفاء فتح اليمن إنما كان بعد الشام وقول الطهري أخبر صلى الله عليه وسلم في أول الهجرة إلى المدينة بأن اليمن تفتح فيأتي منها قوم حتى يكثر أهل المدينة والمدينة خير لهم من غيرها تعقبه الطيبي بأن تنكير قوم ووصفه بيبسون ثم توكيده بقوله لو كانوا يعلمون لا يساعد ما قاله لأن تنكير قوم لتحقيرهم وتوهين أمرهم ثم وصف يبسون وهو سوق الدواب يشعر بركة عقولهم وأنهم ممن ركن إلى الحظوظ البهيمية وحطام الدنيا الفانية وأعرضوا عن الإقامة في جوار الرسول ولذا كرر قومًا ووصفه في كل قرينة بيبسون استحضارًا لتلك الهيئة القبيحة قال والذي يقتضيه المقام أن ينزل يعلمون منزلة اللازم لينفي عنهم العلم والمعرفة بالكلية ولو ذهب مع ذلك إلى معنى التمني لكان أبلغ لأن التمني طلب ما لا يمكن حصوله أي ليتهم كانوا من أهل العلم تغليظًا وتشديدًا انتهى وفي إسناده تابعيان وصحابيان وأخرجه البخاري عن عبد الله بن يوسف عن مالك به وتابعه ابن جريج ووكيع كلاهما عن هشام عند مسلم به غايته أن وكيعًا قدم الشام ( مالك عن ابن حماس) بكسر الحاء المهملة وميم خفيفة فألف فسين مهملة كذا رواه يحيى ولم يسمه وهو يوسف بن يونس بن حماس وقال معن عن مالك عن يونس بن يوسف فقلبه وقال التنيسي وأبو مصعب عن مالك عن يوسف بن سنان أبدلا يونس فسمياه سنانًا قال البخاري والأول أصح وذكره ابن حبان في الثقات وقال كان من عباد أهل المدينة لمح مرة امرأة فدعا الله فأذهب عينيه ثم دعا الله فردهما عليه وروى عنه مالك وابن جريج وروى هو عن عطاء بن يسار وسعيد بن المسيب وسليمان بن يسار ( عن عمه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لتتركن) بفتح أوله وضم الفوقية الأولى وإسكان الثانية وفتح الراء والكاف ونون التوكيد الثقيلة ونائب الفاعل ( المدينة على أحسن ما) أي حال ( كانت) من العمارة وكثرة الأثمار وحسنها وفي رواية للصحيحين على خير ما كانت وفي أخبار المدينة لعمر بن شبة أن ابن عمر أنكر على أبي هريرة قوله خير ما كانت وقال إنما قال صلى الله عليه وسلم أعمر ما كانت وأن أبا هريرة صدقه على ذلك ( حتى يدخل الكلب أو الذئب) للتنويع ويحتمل الشك ( فيغذي) بضم التحتية وفتح الغين وكسر الذال الثقيلة المعجمتين أي يبول دفعة بعد دفعة ( على بعض سواري) أعمدة ( المسجد أو المنبر) تنويع أو شك لعدم سكانه وخلوه من الناس ( فقالوا يا رسول الله فلمن تكون الثمار ذلك الزمان قال للعوافي الطير والسباع) بالجر بدل أو عطف بيان للعوافي وهي الطالبة لما تأكل مأخوذة من عفوته إذا أتيته تطلب معروفه قال النووي الظاهر المختار أن هذا يكون في آخر الزمان عند قيام الساعة ويوضحه قضية الراعيين من مزينة فإنهما يخران على وجوههما حين تدركهما الساعة وهما آخر من يحشر كما في البخاري وقال القاضي عياض هذا مما جرى في العصر الأول وانقضى فإنها صارت بعد وفاته صلى الله عليه وسلم دار الخلافة ومعقل الناس حتى تنافسوا فيها بالغرس والبناء وتوسعوا في ذلك وسكنوا منها ما لم يسكن قبل حتى بلغت المساكن ملء إهاب وجلبت إليها خيرات الأرض كلها فلما انتهت حالها كمالاً انتقلت الخلافة عنها إلى الشام والعراق وذلك الوقت أحسن ما كانت للدين والدنيا أما الدين فلكثرة العلماء بها وكمالهم وأما الدنيا فلعمارتها وغرسها واتساع حال أهلها قال وذكر الأخباريون في بعض الفتن التي جرت بالمدينة وخاف أهلها أنه رحل عنها أكثر الناس وبقيت ثمارها أو أكثرها للعوافي وخلت مدة ثم تراجع الناس إليها وحكى كثير من الناس أنهم رأوا في خلائها ذلك ما أنذر به صلى الله عليه وسلم من تغذية الكلاب على سواري المسجد وحالها اليوم قريب من ذلك فقد خربت أطرافها قال الأبي تأمل هذا الكلام فإنه يعطي أن خلاءها حتى غذت الكلاب على سواري المسجد كان قريبًا من زمن تناهي حالها وانتقال الخلافة عنها وهذا لم يقع ولو وقع لتواتر بل الظاهر أنه لم يقع بعد ودليل المعجزة يوجب القطع بوقوعه في المستقبل لصحة الحديث وأن الظاهر كونه بين يدي نفخة الصعق كما يدل عليه موت الراعيين والمراد بخير ما كانت عليه من المصالح الدينية المتقدمة الذكر وإلى هذا كان يذهب شيخنا أبو عبد الله يعني ابن عرفة انتهى وفي نفيه وقوعه نظر مع نقل عياض عن كثير أنهم رأوا ذلك ولا يشترط التواتر في مثل هذا وهذا الحديث في البخاري من طريق شعيب ومسلم من طريق يونس وعقيل عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة بنحوه وزيادة ( مالك أنه بلغه أن عمر بن عبد العزيز حين خرج من المدينة) يريد الشام وكان قد أقام بها مدة أميرًا عليها قبل الخلافة ( التفت إليها فبكى) على فراقها ( ثم قال يا مزاحم) بن أبي مزاحم المكي مولى عمر بن عبد العزيز ويقال مولى طلحة ثقة روى له مسلم والنسائي وغيرهما ( أتخشى) تخاف ( أن تكون) بفوقية ( ممن نفت المدينة) ويحتمل أن قوله نكون بالنون أي أنا وأنت.



رقم الحديث 1614 قَالَ مَالِكٌ: إِنَّ أَحْسَنَ مَا سُمِعَ فِي الْأَمَةِ يَقَعُ بِهَا الرَّجُلُ وَلَهُ فِيهَا شِرْكٌ: أَنَّهُ لَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ.
وَأَنَّهُ يُلْحَقُ بِهِ الْوَلَدُ.
وَتُقَوَّمُ عَلَيْهِ الْجَارِيَةُ حِينَ حَمَلَتْ.
فَيُعْطَى شُرَكَاؤُهُ حِصَصَهُمْ مِنَ الثَّمَنِ.
وَتَكُونُ الْجَارِيَةُ لَهُ وَعَلَى هَذَا الْأَمْرُ عِنْدَنَا.
قَالَ مَالِكٌ فِي الرَّجُلِ يُحِلُّ لِلرَّجُلِ جَارِيَتَهُ: إِنَّهُ إِنْ أَصَابَهَا الَّذِي أُحِلَّتْ لَهُ قُوِّمَتْ عَلَيْهِ.
يَوْمَ أَصَابَهَا حَمَلَتْ أَوْ لَمْ تَحْمِلْ وَدُرِئَ عَنْهُ الْحَدُّ بِذَلِكَ.
فَإِنْ حَمَلَتْ أُلْحِقَ بِهِ الْوَلَدُ قَالَ مَالِكٌ فِي الرَّجُلِ يَقَعُ عَلَى جَارِيَةِ ابْنِهِ أَوِ ابْنَتِهِ: أَنَّهُ يُدْرَأُ عَنْهُ الْحَدُّ.
وَتُقَامُ عَلَيْهِ الْجَارِيَةُ حَمَلَتْ أَوْ لَمْ تَحْمِلْ.



( ما لا حد فيه)

( مالك إن أحسن ما سمع في الأمة يقع بها الرجل) أي يطؤها ( وله فيها شرك أنه لا يقام عليه الحد) لما له فيها من الملك ( وأنه يلحق به الولد وتقام) وفي نسخة وتقوم ( عليه الجارية حين حملت فيعطي شركاءه حصصهم من الثمن وتكون الجارية له) كلها ( وعلى هذا الأمر عندنا) بالمدينة ( قال مالك في الرجل يحل) بضم فكسر ( للرجل جاريته إنه) بالكسر ( إن أصابها) جامعها ( الذي أحلت له قومت عليه يوم أصابها حملت أو لم تحمل) حتى لا يتم ما أراده من التحليل ( ودرئ) دفع ( عنه الحد بذلك) للشبهة ( فإن حملت ألحق به الولد) للقاعدة إن وطء الشبهة يدرأ الحد ويلحق الولد ( قال مالك في الرجل يقع على جارية ابنه أو ابنته أنه يدرأ عنه الحد) لما له في ماله من الشبهة لخبر أنت ومالك لأبيك ( وتقام) أي تقوم ( عليه الجارية حملت أو لم تحمل) ويؤدب ( مالك عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن أن عمر بن الخطاب قال لرجل خرج بجارية لامرأته معه في سفر فأصابها) جامعها ( فغارت امرأته فذكرت ذلك لعمر بن الخطاب فسأله) أي الرجل ( عمر عن ذلك) الذي قالته امرأته ( فقال وهبتها لي فقال عمر بن الخطاب لتأتيني بالبينة) أنها وهبتها لك ( أو لأرمينك بالحجارة) إذ لا شبهة لك في مال امرأتك ( قال) ربيعة ( فاعترفت امرأته أنها وهبتها له) فلم يرجمه.