فهرس الكتاب

شرح الزرقاني - بَابُ مَا جَاءَ فِي الطَّاعُونِ

رقم الحديث 1625 وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، وَعَنْ سَالِمٍ أَبِي النَّضْرِ، مَوْلَى عُمَرَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ سَمِعَهُ يَسْأَلُ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ مَا سَمِعْتَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الطَّاعُونِ؟ فَقَالَ أُسَامَةُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الطَّاعُونُ رِجْزٌ أُرْسِلَ عَلَى طَائِفَةٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَوْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ فَإِذَا سَمِعْتُمْ بِهِ بِأَرْضٍ فَلَا تَدْخُلُوا عَلَيْهِ، وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ، وَأَنْتُمْ بِهَا فَلَا تَخْرُجُوا فِرَارًا مِنْهُ قَالَ مَالِكٌ: قَالَ أَبُو النَّضْرِ: لَا يُخْرِجُكُمْ إِلَّا فِرَارٌ مِنْهُ.


( مالك عن ابن شهاب) محمد بن مسلم ( عن عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب) العدوي أبي عمر المدني ثقة فاضل ناسك ولي الكوفة لعمر بن عبد العزيز ومات بحران في خلافة هشام ( عن عبد الله بن عبد الله) بفتح العين فيهما ( ابن الحارث بن نوفل) بن الحارث بن عبد المطلب الهاشمي أبي يحيى المكي ثقة مات سنة تسع وتسعين وأبوه له رؤية ولقبه ببة بموحدتين الثانية ثقيلة ( عن عبد الله بن عباس) رضي الله عنهما ( أن عمر بن الخطاب خرج إلى الشام) سنة ثمان عشرة قاله سيف بن عمر في كتاب الفتوح وقال خليفة بن خياط سنة سبع عشرة واستعمل على المدينة زيد بن ثابت واستخلفه مرات في خروجه إلى الحج وما أظنه استخلف غيره قط إلا ما حكي عن أبي المليح أن عمر استخلف مرة على المدينة خالاً له يقال له عبد الله وفيه خروج الخليفة إلى أعماله يطالعها وينظر أحوال أهلها قاله ابن عبد البر وقال غيره خرج ليتفقد أحوال الرعية وكان طاعون عمواس بفتح العين المهملة والميم فألف فسين مهملة وسمي به لأنه عم وأساء وقع بها في محرم وصفر ثم ارتفع فكتبوا إلى عمر فخرج حتى إذا كان ( بسرغ) بفتح السين المهملة وسكون الراء على المشهور وغين معجمة قرية بوادي تبوك يجوز فيها الصرف وعدمه وقيل هي مدينة افتتحها أبو عبيدة وهي واليرموك والجابية متصلات وبينها وبين المدينة ثلاثة عشر مرحلة ( لقيه أمراء الأجناد) بالفتح جمع جند ( أبو عبيدة) عامر ( بن الجراح) أحد العشرة ( وأصحابه) خالد بن الوليد ويزيد بن أبي سفيان وشرحبيل بن حسنة وعمرو بن العاصي وكان عمر قسم الشام أجنادًا الأردن جند وحمص جند ودمشق جند وفلسطين جند وقنسرين جند وجعل على كل جند أميرًا ثم لم يمت عمر حتى جمع الشام لمعاوية ( فأخبروه أن الوباء) مهموز وقصره أفصح من مده أي الطاعون ( قد وقع بالشام) وعند سيف أنه أشد ما كان ( قال ابن عباس فقال عمر بن الخطاب) لي ( ادع) لي ( المهاجرين الأولين) الذين صلوا للقبلتين ( فدعاهم فاستشارهم) في القدوم أو الرجوع ( وأخبرهم أن الوباء قد وقع بالشام فاختلفوا فقال بعضهم قد خرجت لأمر) تفقد حال الرعية ( ولا نرى أن ترجع عنه) حتى تفعله ( وقال بعضهم معك بقية الناس) أي الصحابة قالوا ذلك تعظيمًا لهم ( وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم) عطف تفسير ( ولا نرى أن تقدمهم) بضم الفوقية وسكون القاف وكسر الدال أي تجعلهم قادمين ( على هذا الوباء) أي الطاعون ( فقال عمر ارتفعوا عني) وفي رواية فأمرهم فخرجوا عنه ( ثم قال) عمر لابن عباس ( ادع لي الأنصار فدعوتهم) فحضروا عنده ( فاستشارهم) في ذلك ( فسلكوا سبيل المهاجرين) فيما قالوا ( واختلفوا كاختلافهم فقال) لهم ( ارتفعوا عني ثم قال ادع لي من كان ههنا من مشيخة قريش) بفتح الميم جمع شيخ وهو من طعن في السن ( من مهاجرة الفتح) بضم الميم وكسر الجيم قيل هم الذين أسلموا قبل الفتح وهاجروا عامه إذ لا هجرة بعده وقيل هم مسلمة الفتح الذين هاجروا بعده قال عياض وهذا أظهر لأنهم الذين يطلق عليهم مشيخة قريش وأطلق على من تحول إلى المدينة بعد الفتح لأنه مهاجر صورة وإن انقطع حكم الهجرة بالفتح احترازًا عن غيرهم ممن أقام بمكة ولم يهاجر ( فدعوتهم) فحضروا عنده ( فلم يختلف عليه منهم اثنان) وفي رواية رجلان ( فقالوا نرى أن ترجع بالناس ولا تقدمهم على هذا الوباء) الطاعون وفيه مشورة من يوثق بفهمه وعقله عند نزول المعضل وأن مسائل الاجتهاد لا يجوز لأحد القائلين فيها عيب مخالفة ولا الطعن عليه فإنهم اختلفوا وهم القدوة فلم يعب أحد منهم على صاحبه اجتهاده ولا وجد عليه في نفسه وأن الإمام إذا نزلت به نازلة ليست في الكتاب ولا السنة عليه جمع الجمع وذوي الرأي ويشاورهم فإن لم يأت واحد منهم بدليل فعليه الميل إلى الأصلح والأخذ بما يراه وأن الاختلاف لا يوجب حكمًا وإنما يوجب النظر وإن الإجماع يوجب الحكم والعمل قاله أبو عمر ( فنادى عمر بن الخطاب في الناس) حين ظهر له صواب رأي المشيخة ( إني مصبح) بضم الميم وسكون الصاد وكسر الموحدة خفيفة وبفتح الصاد المهملة وكسر الموحدة الثقيلة أي مسافر في الصباح راكبًا ( على ظهر) أي على ظهر الراحلة راجعًا إلى المدينة ( فأصبحوا عليه) قال القرطبي ظاهره أنه رجع إلى رأيهم ولا يبعد لأنه أحوط للمسلمين ولأنه وافقهم عليه كثير من المهاجرين الأولين والأنصار فحصل ترجيح الرأي بالكثرة لا سيما رأى أهل السن والتجربة والعقول الراجحة ومستند الطائفتين في اختلافهم مبني على أصلين من أصول الشريعة الأول التوكل والتسليم لقضاء الله وقدره والثاني الحذر وترك إلقاء اليد إلى التهلكة ( فقال أبو عبيدة) لعمر ( أ) ترجع ( فرارًا من قدر الله قال عمر لو غيرك قالها يا أبا عبيدة) لأدبته لاعتراضه علي في مسألة اجتهادية وافقني عليها أكثر الناس من أهل الحل والعقد أو لكان أولى منك بتلك المقالة أولم أتعجب منه ولكني أتعجب منك مع علمك وفضلك كيف تقول هذا أو هي للتمني فلا يحتاج لجواب والمعنى أن غيرك ممن لا فهم له إذا قال ذلك يعذر ( نعم نفر من قدر الله إلى قدر الله) زاد يحيى النيسابوري عن مالك به وكان يكره خلافه أي عمر يكره خلاف أبي عبيدة وأطلق عليه فرارًا لشبهه في الصورة وإن كان ليس فرارًا شرعيًا والمراد أن هجوم المرء على ما يهلكه منهي عنه ولو فعل لكان من قدر الله وتجنبه ما يؤذيه مشروع وقد يقدر الله وقوعه فيما فر منه فلو فعله أو تركه لكان من قدر الله وفيه المناظرة عند الاختلاف ثم قايسه وناظره بما يشبه المسألة فقال ( أرأيت) أي أخبرني ( لو كان لك إبل فهبطت واديًا له عدوتان) بضم العين وكسرها ودال مهملتين أي شاطئان وحافتان ( إحداهما مخصبة) بضم الميم وسكون المعجمة وكسر المهملة وفي رواية خصبة بفتح الخاء وكسر الصاد بلا ميم ( والأخرى جدبة) بفتح الجيم وإسكان الدال المهملة وبكسرها ( أليس إن رعيت الخصبة) بفتح المعجمة وكسر المهملة ( رعيتها بقدر الله وإن رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله) فنقلك إياها من الجدبة ورعيها في الخصبة فرار من قدر الله إلى قدر الله فكذلك رجوعنا زاد معمر في روايته عن ابن شهاب به وقال له أيضًا أرأيت لو أنه رعى الجدبة وترك الخصبة أكنت معجزه قال نعم قال فسر إذا ( فجاء عبد الرحمن بن عوف وكان غائبًا في بعض حاجته) لم يحضر معهم المشاورة المذكورة ( فقال إن عندي من) وفي رواية في ( هذا) الذي اختلفتم فيه ( علمًا سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إذا سمعتم به) بالطاعون ( بأرض فلا تقدموا عليه) ليكون أسكن لأنفسكم وأقطع لوسواس الشيطان قال في الأحوذي ولأن الله أمر أن لا يتعرض للحتف والبلاء وإن كان لا نجاة من قدر الله إلا أنه من باب الحذر الذي شرعه الله ولئلا يقول القائل لو لم أدخل لم أمرض ولو لم يدخل فلان لم يمت ( وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارًا منه) لئلا يكون معارضة للقدر فلو خرج لقصد آخر غير الفرار جاز قال ابن دقيق العيد الذي يترجح عندي في النهي عن الفرار والنهي عن القدوم أن الإقدام عليه تعرض للبلاء ولعله لا يصبر عليه وربما كان فيه ضرب من الدعوى لمقام الصبر أو التوكل فمنع ذلك لاغترار النفس ودعواها ما لا تثبت عليه عند التحقيق وأما الفرار فقد يكون داخلاً في باب التوغل في الأسباب متصورًا بصورة من يحاول النجاة مما قدر عليه فيقع التكلف في القدوم كما يقع التكلف في الفرار فأمر بترك التكلف فيهما ونظير ذلك قوله صلى الله عليه وسلم لا تتمنوا لقاء العدو وإذا لقيتموهم فاصبروا فأمرهم بترك التمني لما فيه من التعرض للبلاء وخوف الاغترار بالنفس إذ لا يؤمن غدرها عند الوقوع ثم أمر بالصبر عند الوقوع تسليمًا لأمر الله ( قال) ابن عباس ( فحمد الله) تعالى ( عمر) على موافقة اجتهاده واجتهاد معظم الصحابة للحديث النبوي ( ثم انصرف) راجعًا إلى المدينة اتباعًا للنص النبوي القاطع للنزاع وبه أمر الله عباده أن يردوا ما تنازعوا فيه إلى الكتاب والسنة فمن كان عنده علم ذلك وجب الانقياد إليه وفي أن الحديث يسمى علمًا لقول عبد الرحمن عندي من هذا علم وما كانوا عليه من الإنصاف للعلم والانقياد إليه كيف لا وهم خير الأمم ودليل قوي على وجوب العمل بخبر الواحد لأنه كان بمحضر جمع عظيم من الصحابة فلم يقولوا لعبد الرحمن أنت واحد وإنما يجب قبول خبر الكافة ما أضل من قال بهذا والله تعالى يقول { { إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا } } وقرئ فتثبتوا فلو كان العدل إذا جاء بنبأ ثبت في خبره ولم ينفذ لاستوى مع الفاسق وهذا خلاف القرآن { { أم نجعل المتقين كالفجار } } قاله ابن عبد البر وأخرجه البخاري في الطب عن عبد الله بن يوسف ومسلم عن يحيى كلاهما عن مالك به وتابعه يونس ومعمر عن ابن شهاب عند مسلم قائلاً نحو حديث مالك وزاد معمر قال وقال له أيضًا أرأيت لو أنه رعى الجدبة وترك الخصبة أكنت معجزه قال نعم قال فسر إذا فسار حتى أتى المدينة فقال هذا المحل أو هذا المنزل إن شاء الله ( مالك عن محمد بن المنكدر) بن عبد الله التيمي ( وعن سالم أبي النضر) بضاد معجمة ( مولى عمر بن عبيد الله) بضم العينين كلاهما ( عن عامر بن سعد بن أبي وقاص) مالك القرشي الزهري المدني مات سنة أربع ومائة ( عن أبيه) قال ابن عبد البر كذا لأكثر رواة الموطأ والقعنبي عن مالك عن محمد بن المنكدر أن عامر بن سعد أخبره أن أسامة بن زيد أخبره أن رسول الله الحديث والمعنى واحد لأن ذكر أبيه في رواية الأكثرين لأنه سمعه يسأل أسامة فمن أسقط عن أبيه لم يضره وذكره صحيح نعم شذ القعنبي في حذف أبي النضر ورواه قوم عن عامر بن سعد عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو وهم عندهم إنما الحديث لعامر عن أسامة لا عن أبيه سعد انتهى أي فلم يرد بقوله عن أبيه الرواية بل أراد عن سؤال أبيه لأسامة كما أفصح عن ذلك بقوله ( أنه سمعه يسأل أسامة بن زيد) الحب ابن الحب فكان عامر حاضرًا سؤال والده سعد لأسامة بقوله ( ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم في) شأن ( الطاعون) ووقع في السيوطي عن أبي عمر لا وجه لذكر عن أبيه إنما الحديث لعامر عن أسامة سمعه منه ولذا لم يقله ابن بكير ومعن وجماعة انتهى ولا يصح فالذي في التمهيد ما رأيته ( فقال أسامة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الطاعون رجز) بالزاي على المعروف أي عذاب ووقع لبعض الرواة رجس بالسين المهملة بدل الزاي قال الحافظ والمحفوظ بالزاي والمشهور أن الذي بالسين الخبث أو النجس أو القذر ووجهه عياض بأن الرجس يطلق على العقوبة أيضًا وقد قال الفارابي والجوهري الرجس العذاب ومنه قوله تعالى { { ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون } } وحكاه الراغب أيضًا ( أرسل على طائفة من بني إسرائيل) لما كثر طغيانهم ( أو على من كان قبلكم) بالشك من الراوي وفي رواية ابن خزيمة بالجزم بلفظ رجس سلط على طائفة من بني إسرائيل والتنصيص عليهم أخص فإن كان ذلك المراد فكأنه أشار بذلك إلى ما جاء في قصة بلعام فأخرج الطبري من طريق سليمان التيمي أحد صغار التابعين عن يسار أن رجلاً كان يقال له بلعام كان مجاب الدعوة وأن موسى أقبل في بني إسرائيل يريد الأرض التي فيها بلعام فأتاه قومه فقالوا ادع الله عليهم فقال حتى أؤامر ربي فمنع فأتوه بهدية فقبلها وسألوه ثانيًا فقال حتى أؤامر ربي فلم يرجع إليه بشيء فقالوا لو كره لنهاك فدعا عليهم فصار يجري على لسانه ما يدعو به على بني إسرائيل فينقلب على قومه فلاموه على ذلك فقال سأدلكم على ما فيه هلاكهم أرسلوا النساء في عسكرهم ومروهن لا يمتنعن من أحد فعسى أن يزنوا فيهلكوا فكان فيمن خرج بنت الملك فأرادها بعض الأسباط وأخبرها بمكانه فمكنته من نفسها فوقع في بني إسرائيل الطاعون فمات منهم سبعون ألفًا في يوم وجاء رجل من بني هارون ومعه الرمح فطعنهما وأيده الله فانتظمهما جميعًا وهذا مرسل جيد وسيار شامي موثق وذكر الطبري أيضًا هذه القصة عن محمد بن إسحاق عن سالم عن أبي النضر بنحوه وسمى المرأة كشتا بفتح الكاف وسكون المعجمة وفوقية والرجل زمري بكسر الزاي وسكون الميم وكسر الراء رأس سبط شمعون والذي طعنهما فنحاص بكسر الفاء وسكون النون ثم مهملة فألف فمهملة ابن هارون وقال في آخره فحسب من هلك من الطاعون سبعون ألفًا والمقلل يقول عشرون ألفًا وهذه الطريق تعضد الأولى وذكر ابن إسحاق في المبتدأ أن بني إسرائيل لما كثر عصيانهم أوحى الله إلى داود فخيرهم ما بين ثلاث إما أن أبتليهم بالقحط أو العدو شهرين أو الطاعون ثلاثة أيام فأخبرهم فقالوا اختر لنا فاختار الطاعون فمات منهم إلى أن زالت الشمس سبعون ألفًا وقيل مائة ألف فتضرع داود إلى الله تعالى فرفعه وورد وقوع الطاعون في غير بني إسرائيل فيحتمل أن يكون هو المراد بقوله أو من كان قبلكم فمن ذلك ما أخرجه الطبري وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال أمر موسى بني إسرائيل أن يذبح كل رجل منهم كبشًا ثم يخضب كفه في دمه ثم يضرب به على بابه ففعلوا فسألهم القبط عن ذلك فقالوا إن الله يبعث عليكم عذابًا وإنا ننجو منه بهذه العلامة فأصبحوا وقد مات من قوم فرعون سبعون ألفًا فقال فرعون عند ذلك لموسى { { ادع لنا ربك بما عهد عندك لئن كشفت عنا الرجز } } الآية فدعا فكشفه عنهم وهذا مرسل جيد الإسناد وأخرج عبد الرزاق في تفسيره وابن جرير عن الحسن في قوله تعالى { { الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت } } قال فروا من الطاعون { { فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم } } ليكملوا بقية آجالهم فأقدم من وقفنا عليه في المنقول ممن وقع الطاعون به من بني إسرائيل في قصة بلعام ومن غيرهم في قصة فرعون وتكرر بعد ذلك لغيرهم انتهى ( فإذا سمعتم به بأرض فلا تدخلوا عليه) لأنه تهور وإقدام على خطر وليكون ذلك أسكن للنفس وأطيب للعيش قال أبو عمر لئلا يقعوا في اللوم المنهي عنه فنهوا عن ذلك تأديبًا لئلا يلوموا أنفسهم فيما لا لوم فيه لأن الباقي والناهض لا يتجاوز أحد منهم أجله ( وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارًا منه) لأنه فرار من القدر ولئلا تضيع المرضى بعدم من يتفقدهم والموتى بعدم من يجهزهم فالأول تأديب وتعليم والثاني تفويض وتسليم وقيل هو تعبدي لأن الفرار من المهالك مأمور به وقد نهي عن هذا فهو لسر فيه لا يعلم معناه ( قال مالك) هذا لفظ رواية محمد بن المنكدر ولا إشكال فيها و ( قال أبو النضر) في روايته ( لا يخرجكم إلا فرار منه) قال عياض وقع لأكثر رواة الموطأ بالرفع وهو بين أي لا يخرجكم الفرار ومجرد قصده لا غير ذلك لأن الخروج في الأسفار والحوائج مباح فهو مطابق لرواية محمد بن المنكدر لا تخرجوا فرارًا منه ورواه بعضهم إلا فرارًا بالنصب قال ابن عبد البر جاء بالوجهين ولعل ذلك من مالك وأهل العربية يقولون دخول إلا بعد النفي لا يجاب بعض ما نفي قبل من الخروج فكأنه نهى عن الخروج إلا للفرار خاصة وهو ضد المقصود فالمنهي عنه إنما هو الخروج للفرار خاصة لا لغيره وجوز ذلك بعضهم وجعل قوله إلا حالاً من الاستثناء أي لا تخرجوا إذا لم يكن خروجكم إلا فرارًا أي للفرار انتهى ووقع لبعض رواة الموطأ لا يخرجكم إلا فرار بأداة التعريف بعدها إفرار بكسر الهمزة وهو وهم ولحن هذا كلام عياض في شرح مسلم وقال في المشارق ما حاصله يجوز أن الهمزة للتعدية يقال أفره كذا من كذا ومنه قوله عليه السلام لعدي بن حاتم إن كان لا يفرك من هذا إلا ما ترى فيكون المعنى لا يخرجكم إفراره إياكم وقال في المفهم هذه الرواية غلط لأنه لا يقال أفر وإنما يقال فر وقال جماعة من العلماء إدخال إلا فيه غلط وقال بعضهم هي زائدة وتجوز زيادتها كما تزاد لا وهو الأقرب وقال الكرماني الجمع بين قول ابن المنكدر لا تخرجوا فرارًا منه وبين قول أبي النضر لا يخرجكم إلا فرار منه مشكل فإن ظاهره التناقض وأجاب بأجوبة أحدها أن غرض الراوي أن أبا النضر فسر لا تخرجوا بأن المراد منه الحصر يعني الخروج المنهي عنه هو الذي يكون لمجرد الفرار لا لغرض آخر فهو تفسير للمعلل المنهي لا للنهي قال الحافظ وهو بعيد لأنه يقتضي أن هذا اللفظ من كلام أبي النضر زاده بعد الخبر وأنه موافق لابن المنكدر على رواية اللفظ الأول والمتبادر خلاف ذلك والجواب الثاني كالأول والزيادة مرفوعة أيضًا فيكون روى اللفظين ويكون التفسير مرفوعًا أيضًا الثالث إلا زائدة بشرط أن تثبت زيادتها في كلام العرب انتهى وهذا الحديث رواه البخاري في ذكر بني إسرائيل عن عبد العزيز بن عبد الله ومسلم في الطب عن يحيى كلاهما عن مالك به وتابعه جماعة في مسلم وغيره ( مالك عن ابن شهاب عن عبد الله بن عامر بن ربيعة) بن كعب بن مالك بن ربيعة العنزي حليف بني عدي ولد سنة ست وحفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثًا واحدًا وهو قوله دعتني أمي والنبي صلى الله عليه وسلم في بيتنا فقالت تعال أعطك فقال صلى الله عليه وسلم ما أردت أن تعطيه قالت تمرًا قال لو لم تفعلي كتبت عليك كذبة مات سنة بضع وثمانين وأبوه صحابي مشهور ( أن عمر بن الخطاب خرج إلى الشام) لينظر في أحوال رعيته بها وأمرائه سنة سبع عشرة بعد فتح بيت المقدس وخرج إليها قبل ذلك لما حاصر أبو عبيدة بيت المقدس وسأله أهله أن يكون صلحهم على يد عمر فقدم فصالحهم ورجع سنة عشر قاله في المفهم وفي التمهيد خرج عمر إلى الشام مرتين في قول بعضهم وقيل لم يخرج لها إلا مرة واحدة هي هذه ( حتى إذا جاء سرغ) بمهملتين ومعجمة قال عياض رويناه بسكون الراء وفتحها وصوب ابن مكي السكون قال مالك وابن حبيب هي قرية بوادي تبوك وهي آخر عمل الحجاز وقيل مدينة بالشام قال ابن وضاح بينها وبين المدينة ثلاثة عشر مرحلة ( بلغه) من أمراء الأجناد ( أن الوباء) بفتح الواو والموحدة والهمزة والمد والقصر وهو المرض العام والمراد هنا الطاعون المعروف بطاعون عمواس ( قد وقع بالشام) أي بدمشق وهي أم الشام وإليها كان مقصده كذا قال أبو عمر فعزم على الرجوع بعد أن اجتهد ووافقه أكثر الصحابة الذين معه على ذلك ( فأخبره عبد الرحمن بن عوف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إذا سمعتم به) أي الطاعون ( بأرض فلا تقدموا) بفتح أوله وثالثه وروي بضم الأول وكسر الثالث ( عليه) لأنه إقدام على خطر ( وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارًا منه) لأنه فرار من القدر فالأول تأديب وتعليم والثاني تفويض وتسليم قال ابن عبد البر النهي عن القدوم لدفع ملامة النفس وعن الخروج للإيمان بالقدر انتهى والأكثر أن النهي عن الفرار منه للتحريم وقيل للتنزيه ويجوز لشغل عرض غير الفرار اتفاقًا قاله التاج السبكي قال الحافظ ولا شك أن الصور ثلاث من خرج لقصد الفرار محضًا فهذا يتناوله النهي لا محالة ومن خرج لحاجة متمحضة لا لقصد الفرار أصلاً ويصور ذلك فيمن تهيأ للرحيل من بلد إلى بلد كان بها إقامته مثلاً ولم يكن الطاعون وقع فاتفق وقوعه في أثناء تجهيزه فهذا لم يقصد الفرار أصلاً فلا يدخل في النهي الثالث من عرضت له حاجة فأراد الخروج إليها وانضم إلى ذلك أنه قصد الراحة من الإقامة بالبلد التي وقع بها الطاعون فهذا محل النزاع كأن تكون الأرض التي وقع بها وخمة والأرض التي يتوجه إليها صحيحة فيتوجه بهذا القصد إليها فمن منع نظرًا إلى صورة الفرار في الجملة ومن أجاز نظر إلى أنه لم يتمخض القصد للفرار وإنما هو لقصد التأوي انتهى قال ابن عبد البر يقال ما فر أحد من الطاعون فسلم من الموت ولم يبلغني عن أحد من حملة العلم أنه فر منه إلا ما ذكر المدايني أن علي بن زيد بن جدعان هرب منه إلى السبالة فكان يجمع كل جمعة ويرجع فإذا رجع صاحوا به فر من الطاعون فطعن فمات بالسبالة انتهى لكن نقل القاضي عياض وغيره جواز الخروج من الأرض التي وقع بها الطاعون عن جماعة من الصحابة منهم علي والمغيرة بن شعبة ومن التابعين الأسود بن هلال ومسروق وأنهما كانا يفران منه ونقل ابن جرير أن أبا موسى الأشعري كان يبعث بنيه إلى الأعراب من الطاعون وعن عمرو بن العاصي أنه قال تفرقوا من هذا الرجز في الشعاب والأودية ورؤوس الجبال حملاً للنهي على التنزيه والجمهور أنه للتحريم حتى قال ابن خزيمة أنه من الكبائر التي يعاقب الله عليها إن لم يعف ( فرجع عمر بن الخطاب من سرغ) بمنع الصرف والصرف وفيه جواز ذلك وليس من الطيرة وإنما هو من منع الإلقاء إلى التهلكة أو سدًا للذريعة لئلا يعتقد من يدخل إليها ظن العدوى المنهي عنها وفيه كما قال أبو عمر أنه قد يذهب على العالم الحبر ما يوجد عند غيره من العلماء ممن ليس مثله وكان عمر من العلم بموضع لا يوازيه أحد قال ابن مسعود لو وضع علم عمر في كفة وعلم أهل الأرض في كفة رجح علم عمر ودليل ذلك أنه صلى الله عليه وسلم رأى أنه دخل الجنة فسقي بها لبنا فناول فضله عمر فقيل ما أولت ذلك قال العلم وأخرجه البخاري في الطب عن التنيسي وفي ترك الحيل عن القعنبي ومسلم عن يحيى الثلاثة عن مالك به ( مالك عن ابن شهاب عن سالم بن عبد الله أن) جده ( عمر بن الخطاب إنما رجع بالناس) من سرغ ( عن) وللقعنبي من أي لأجل ( حديث عبد الرحمن بن عوف) المذكور تقديمًا لخبر الواحد على القياس لأنهم أجمعوا على الرجوع اعتمادًا على خبره وحده بعد أن ركبوا مشقة السفر من المدينة إلى سرغ فرجعوا ولم يدخلوا الشام وقيل رجع قبل إخبار عبد الرحمن لأنه قال أنه مصبح على ظهر قبل أن يخبروه بالحديث فلما أخبروه قوي عزمه على ذلك وتأول من قال بهذا بأن سالمًا لعله لم يبلغه قول عمر قبل إخبار ابن عوف قال القرطبي ورجح بعضهم الأول بأن ولده أي حفيده ما عرف بحاله من غيره وبأن عمر لم يكن ليرجع إلى رأي دون رأي لغير حجة حتى وجد علمًا وتأول قوله إني مصبح على ظهر الذي قاله قبل بحديث عبد الرحمن له بالحديث بأن معناه إني على سفر لوجهه الذي كان توجه له لا أنه رجع عن رأيه وهذا بعيد انتهى ولا حاجة إلى هذا كله لأن عمر رجع عن رأيه إلى رأي من أشار بالرجوع لكثرتهم ثم قوى ذلك له حديث عبد الرحمن فرجع بهم من سرغ وعلى هذا يحمل قول سالم فلا داعية لدعوى أنه لم يبلغه قول عمر قبل إخبار ابن عوف ( مالك أنه قال بلغني أن عمر بن الخطاب قال لبيت بركبة) بضم الراء وسكون الكاف وفتح الموحدة قال الباجي هي أرض بني عامر وهي بين مكة والعراق وقال ابن عبد البر ركبة واد من أودية الطائف ( أحب إلي من عشرة أبيات بالشام قال مالك يريد) عمر ( لطول الأعمار والبقاء) لأهل ركبة ( ولشدة الوباء) قوته وكثرته ( بالشام) وفي التمهيد عن مالك إنما قال ذلك عمر حين وقع الوباء بالشام وقد روى أحمد برجال ثقات مرفوعًا أتاني جبريل بالحمى والطاعون فأمسكت الحمى بالمدينة وأرسلت الطاعون إلى الشام فالطاعون شهادة لأمتي ورحمة لهم ورجز على الكافرين قال الحافظ هذا يدل على أنه اختارها على الطاعون وأقرها بالمدينة ثم دعا الله فنقلها إلى الجحفة كما مر وبقيت منها بقايا ولا يعارضه الدعاء برفع الوباء عنها لندرة وقوعه فيها بخلاف الطاعون لم ينقل قط أنه وقع بها.


رقم الحديث 1626 وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ الْخَطَّابِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ نَوْفَلٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، خَرَجَ إِلَى الشَّامِ حَتَّى إِذَا كَانَ بِسَرْغَ لَقِيَهُ أُمَرَاءُ الْأَجْنَادِ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ وَأَصْحَابُهُ، فَأَخْبَرُوهُ أَنَّ الْوَبَأَ قَدْ وَقَعَ بِأَرْضِ الشَّامِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: ادْعُ لِي الْمُهَاجِرِينَ الْأَوَّلِينَ فَدَعَاهُمْ فَاسْتَشَارَهُمْ، وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّ الْوَبَأَ قَدْ وَقَعَ بِالشَّامِ فَاخْتَلَفُوا، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: قَدْ خَرَجْتَ لِأَمْرٍ وَلَا نَرَى أَنْ تَرْجِعَ عَنْهُ،.

     وَقَالَ  بَعْضُهُمْ مَعَكَ بَقِيَّةُ النَّاسِ وَأَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا نَرَى أَنْ تُقْدِمَهُمْ عَلَى هَذَا الْوَبَإِ، فَقَالَ عُمَرُ: ارْتَفِعُوا عَنِّي، ثُمَّ قَالَ: ادْعُ لِي الْأَنْصَارَ، فَدَعَوْتُهُمْ فَاسْتَشَارَهُمْ فَسَلَكُوا سَبِيلَ الْمُهَاجِرِينَ، وَاخْتَلَفُوا كَاخْتِلَافِهِمْ، فَقَالَ: ارْتَفِعُوا عَنِّي، ثُمَّ قَالَ: ادْعُ لِي مَنْ كَانَ هَاهُنَا مِنْ مَشْيَخَةِ قُرَيْشٍ مِنْ مُهَاجِرَةِ الْفَتْحِ، فَدَعَوْتُهُمْ فَلَمْ يَخْتَلِفْ عَلَيْهِ مِنْهُمُ رَجُلَانِ، فَقَالُوا: نَرَى أَنْ تَرْجِعَ بِالنَّاسِ، وَلَا تُقْدِمَهُمْ عَلَى هَذَا الْوَبَإِ، فَنَادَى عُمَرُ فِي النَّاسِ: إِنِّي مُصْبِحٌ عَلَى ظَهْرٍ فَأَصْبِحُوا عَلَيْهِ، فَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: أَفِرَارًا مِنْ قَدَرِ اللَّهِ؟ فَقَالَ عُمَرُ: لَوْ غَيْرُكَ قَالَهَا يَا أَبَا عُبَيْدَةَ؟ نَعَمْ نَفِرُّ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ إِلَى قَدَرِ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ لَكَ إِبِلٌ فَهَبَطَتْ وَادِيًا لَهُ عُدْوَتَانِ إِحْدَاهُمَا خَصِبَةٌ، وَالْأُخْرَى جَدْبَةٌ، أَلَيْسَ إِنْ رَعَيْتَ الْخَصِبَةَ رَعَيْتَهَا بِقَدَرِ اللَّهِ، وَإِنْ رَعَيْتَ الْجَدْبَةَ رَعَيْتَهَا بِقَدَرِ اللَّهِ، فَجَاءَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، وَكَانَ غَائِبًا فِي بَعْضِ حَاجَتِهِ، فَقَالَ: إِنَّ عِنْدِي مِنْ هَذَا عِلْمًا سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: إِذَا سَمِعْتُمْ بِهِ بِأَرْضٍ فَلَا تَقْدَمُوا عَلَيْهِ، وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا فَلَا تَخْرُجُوا فِرَارًا مِنْهُ، قَالَ: فَحَمِدَ اللَّهَ عُمَرُ، ثُمَّ انْصَرَفَ.


( مالك عن ابن شهاب) محمد بن مسلم ( عن عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب) العدوي أبي عمر المدني ثقة فاضل ناسك ولي الكوفة لعمر بن عبد العزيز ومات بحران في خلافة هشام ( عن عبد الله بن عبد الله) بفتح العين فيهما ( ابن الحارث بن نوفل) بن الحارث بن عبد المطلب الهاشمي أبي يحيى المكي ثقة مات سنة تسع وتسعين وأبوه له رؤية ولقبه ببة بموحدتين الثانية ثقيلة ( عن عبد الله بن عباس) رضي الله عنهما ( أن عمر بن الخطاب خرج إلى الشام) سنة ثمان عشرة قاله سيف بن عمر في كتاب الفتوح وقال خليفة بن خياط سنة سبع عشرة واستعمل على المدينة زيد بن ثابت واستخلفه مرات في خروجه إلى الحج وما أظنه استخلف غيره قط إلا ما حكي عن أبي المليح أن عمر استخلف مرة على المدينة خالاً له يقال له عبد الله وفيه خروج الخليفة إلى أعماله يطالعها وينظر أحوال أهلها قاله ابن عبد البر وقال غيره خرج ليتفقد أحوال الرعية وكان طاعون عمواس بفتح العين المهملة والميم فألف فسين مهملة وسمي به لأنه عم وأساء وقع بها في محرم وصفر ثم ارتفع فكتبوا إلى عمر فخرج حتى إذا كان ( بسرغ) بفتح السين المهملة وسكون الراء على المشهور وغين معجمة قرية بوادي تبوك يجوز فيها الصرف وعدمه وقيل هي مدينة افتتحها أبو عبيدة وهي واليرموك والجابية متصلات وبينها وبين المدينة ثلاثة عشر مرحلة ( لقيه أمراء الأجناد) بالفتح جمع جند ( أبو عبيدة) عامر ( بن الجراح) أحد العشرة ( وأصحابه) خالد بن الوليد ويزيد بن أبي سفيان وشرحبيل بن حسنة وعمرو بن العاصي وكان عمر قسم الشام أجنادًا الأردن جند وحمص جند ودمشق جند وفلسطين جند وقنسرين جند وجعل على كل جند أميرًا ثم لم يمت عمر حتى جمع الشام لمعاوية ( فأخبروه أن الوباء) مهموز وقصره أفصح من مده أي الطاعون ( قد وقع بالشام) وعند سيف أنه أشد ما كان ( قال ابن عباس فقال عمر بن الخطاب) لي ( ادع) لي ( المهاجرين الأولين) الذين صلوا للقبلتين ( فدعاهم فاستشارهم) في القدوم أو الرجوع ( وأخبرهم أن الوباء قد وقع بالشام فاختلفوا فقال بعضهم قد خرجت لأمر) تفقد حال الرعية ( ولا نرى أن ترجع عنه) حتى تفعله ( وقال بعضهم معك بقية الناس) أي الصحابة قالوا ذلك تعظيمًا لهم ( وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم) عطف تفسير ( ولا نرى أن تقدمهم) بضم الفوقية وسكون القاف وكسر الدال أي تجعلهم قادمين ( على هذا الوباء) أي الطاعون ( فقال عمر ارتفعوا عني) وفي رواية فأمرهم فخرجوا عنه ( ثم قال) عمر لابن عباس ( ادع لي الأنصار فدعوتهم) فحضروا عنده ( فاستشارهم) في ذلك ( فسلكوا سبيل المهاجرين) فيما قالوا ( واختلفوا كاختلافهم فقال) لهم ( ارتفعوا عني ثم قال ادع لي من كان ههنا من مشيخة قريش) بفتح الميم جمع شيخ وهو من طعن في السن ( من مهاجرة الفتح) بضم الميم وكسر الجيم قيل هم الذين أسلموا قبل الفتح وهاجروا عامه إذ لا هجرة بعده وقيل هم مسلمة الفتح الذين هاجروا بعده قال عياض وهذا أظهر لأنهم الذين يطلق عليهم مشيخة قريش وأطلق على من تحول إلى المدينة بعد الفتح لأنه مهاجر صورة وإن انقطع حكم الهجرة بالفتح احترازًا عن غيرهم ممن أقام بمكة ولم يهاجر ( فدعوتهم) فحضروا عنده ( فلم يختلف عليه منهم اثنان) وفي رواية رجلان ( فقالوا نرى أن ترجع بالناس ولا تقدمهم على هذا الوباء) الطاعون وفيه مشورة من يوثق بفهمه وعقله عند نزول المعضل وأن مسائل الاجتهاد لا يجوز لأحد القائلين فيها عيب مخالفة ولا الطعن عليه فإنهم اختلفوا وهم القدوة فلم يعب أحد منهم على صاحبه اجتهاده ولا وجد عليه في نفسه وأن الإمام إذا نزلت به نازلة ليست في الكتاب ولا السنة عليه جمع الجمع وذوي الرأي ويشاورهم فإن لم يأت واحد منهم بدليل فعليه الميل إلى الأصلح والأخذ بما يراه وأن الاختلاف لا يوجب حكمًا وإنما يوجب النظر وإن الإجماع يوجب الحكم والعمل قاله أبو عمر ( فنادى عمر بن الخطاب في الناس) حين ظهر له صواب رأي المشيخة ( إني مصبح) بضم الميم وسكون الصاد وكسر الموحدة خفيفة وبفتح الصاد المهملة وكسر الموحدة الثقيلة أي مسافر في الصباح راكبًا ( على ظهر) أي على ظهر الراحلة راجعًا إلى المدينة ( فأصبحوا عليه) قال القرطبي ظاهره أنه رجع إلى رأيهم ولا يبعد لأنه أحوط للمسلمين ولأنه وافقهم عليه كثير من المهاجرين الأولين والأنصار فحصل ترجيح الرأي بالكثرة لا سيما رأى أهل السن والتجربة والعقول الراجحة ومستند الطائفتين في اختلافهم مبني على أصلين من أصول الشريعة الأول التوكل والتسليم لقضاء الله وقدره والثاني الحذر وترك إلقاء اليد إلى التهلكة ( فقال أبو عبيدة) لعمر ( أ) ترجع ( فرارًا من قدر الله قال عمر لو غيرك قالها يا أبا عبيدة) لأدبته لاعتراضه علي في مسألة اجتهادية وافقني عليها أكثر الناس من أهل الحل والعقد أو لكان أولى منك بتلك المقالة أولم أتعجب منه ولكني أتعجب منك مع علمك وفضلك كيف تقول هذا أو هي للتمني فلا يحتاج لجواب والمعنى أن غيرك ممن لا فهم له إذا قال ذلك يعذر ( نعم نفر من قدر الله إلى قدر الله) زاد يحيى النيسابوري عن مالك به وكان يكره خلافه أي عمر يكره خلاف أبي عبيدة وأطلق عليه فرارًا لشبهه في الصورة وإن كان ليس فرارًا شرعيًا والمراد أن هجوم المرء على ما يهلكه منهي عنه ولو فعل لكان من قدر الله وتجنبه ما يؤذيه مشروع وقد يقدر الله وقوعه فيما فر منه فلو فعله أو تركه لكان من قدر الله وفيه المناظرة عند الاختلاف ثم قايسه وناظره بما يشبه المسألة فقال ( أرأيت) أي أخبرني ( لو كان لك إبل فهبطت واديًا له عدوتان) بضم العين وكسرها ودال مهملتين أي شاطئان وحافتان ( إحداهما مخصبة) بضم الميم وسكون المعجمة وكسر المهملة وفي رواية خصبة بفتح الخاء وكسر الصاد بلا ميم ( والأخرى جدبة) بفتح الجيم وإسكان الدال المهملة وبكسرها ( أليس إن رعيت الخصبة) بفتح المعجمة وكسر المهملة ( رعيتها بقدر الله وإن رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله) فنقلك إياها من الجدبة ورعيها في الخصبة فرار من قدر الله إلى قدر الله فكذلك رجوعنا زاد معمر في روايته عن ابن شهاب به وقال له أيضًا أرأيت لو أنه رعى الجدبة وترك الخصبة أكنت معجزه قال نعم قال فسر إذا ( فجاء عبد الرحمن بن عوف وكان غائبًا في بعض حاجته) لم يحضر معهم المشاورة المذكورة ( فقال إن عندي من) وفي رواية في ( هذا) الذي اختلفتم فيه ( علمًا سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إذا سمعتم به) بالطاعون ( بأرض فلا تقدموا عليه) ليكون أسكن لأنفسكم وأقطع لوسواس الشيطان قال في الأحوذي ولأن الله أمر أن لا يتعرض للحتف والبلاء وإن كان لا نجاة من قدر الله إلا أنه من باب الحذر الذي شرعه الله ولئلا يقول القائل لو لم أدخل لم أمرض ولو لم يدخل فلان لم يمت ( وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارًا منه) لئلا يكون معارضة للقدر فلو خرج لقصد آخر غير الفرار جاز قال ابن دقيق العيد الذي يترجح عندي في النهي عن الفرار والنهي عن القدوم أن الإقدام عليه تعرض للبلاء ولعله لا يصبر عليه وربما كان فيه ضرب من الدعوى لمقام الصبر أو التوكل فمنع ذلك لاغترار النفس ودعواها ما لا تثبت عليه عند التحقيق وأما الفرار فقد يكون داخلاً في باب التوغل في الأسباب متصورًا بصورة من يحاول النجاة مما قدر عليه فيقع التكلف في القدوم كما يقع التكلف في الفرار فأمر بترك التكلف فيهما ونظير ذلك قوله صلى الله عليه وسلم لا تتمنوا لقاء العدو وإذا لقيتموهم فاصبروا فأمرهم بترك التمني لما فيه من التعرض للبلاء وخوف الاغترار بالنفس إذ لا يؤمن غدرها عند الوقوع ثم أمر بالصبر عند الوقوع تسليمًا لأمر الله ( قال) ابن عباس ( فحمد الله) تعالى ( عمر) على موافقة اجتهاده واجتهاد معظم الصحابة للحديث النبوي ( ثم انصرف) راجعًا إلى المدينة اتباعًا للنص النبوي القاطع للنزاع وبه أمر الله عباده أن يردوا ما تنازعوا فيه إلى الكتاب والسنة فمن كان عنده علم ذلك وجب الانقياد إليه وفي أن الحديث يسمى علمًا لقول عبد الرحمن عندي من هذا علم وما كانوا عليه من الإنصاف للعلم والانقياد إليه كيف لا وهم خير الأمم ودليل قوي على وجوب العمل بخبر الواحد لأنه كان بمحضر جمع عظيم من الصحابة فلم يقولوا لعبد الرحمن أنت واحد وإنما يجب قبول خبر الكافة ما أضل من قال بهذا والله تعالى يقول { { إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا } } وقرئ فتثبتوا فلو كان العدل إذا جاء بنبأ ثبت في خبره ولم ينفذ لاستوى مع الفاسق وهذا خلاف القرآن { { أم نجعل المتقين كالفجار } } قاله ابن عبد البر وأخرجه البخاري في الطب عن عبد الله بن يوسف ومسلم عن يحيى كلاهما عن مالك به وتابعه يونس ومعمر عن ابن شهاب عند مسلم قائلاً نحو حديث مالك وزاد معمر قال وقال له أيضًا أرأيت لو أنه رعى الجدبة وترك الخصبة أكنت معجزه قال نعم قال فسر إذا فسار حتى أتى المدينة فقال هذا المحل أو هذا المنزل إن شاء الله ( مالك عن محمد بن المنكدر) بن عبد الله التيمي ( وعن سالم أبي النضر) بضاد معجمة ( مولى عمر بن عبيد الله) بضم العينين كلاهما ( عن عامر بن سعد بن أبي وقاص) مالك القرشي الزهري المدني مات سنة أربع ومائة ( عن أبيه) قال ابن عبد البر كذا لأكثر رواة الموطأ والقعنبي عن مالك عن محمد بن المنكدر أن عامر بن سعد أخبره أن أسامة بن زيد أخبره أن رسول الله الحديث والمعنى واحد لأن ذكر أبيه في رواية الأكثرين لأنه سمعه يسأل أسامة فمن أسقط عن أبيه لم يضره وذكره صحيح نعم شذ القعنبي في حذف أبي النضر ورواه قوم عن عامر بن سعد عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو وهم عندهم إنما الحديث لعامر عن أسامة لا عن أبيه سعد انتهى أي فلم يرد بقوله عن أبيه الرواية بل أراد عن سؤال أبيه لأسامة كما أفصح عن ذلك بقوله ( أنه سمعه يسأل أسامة بن زيد) الحب ابن الحب فكان عامر حاضرًا سؤال والده سعد لأسامة بقوله ( ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم في) شأن ( الطاعون) ووقع في السيوطي عن أبي عمر لا وجه لذكر عن أبيه إنما الحديث لعامر عن أسامة سمعه منه ولذا لم يقله ابن بكير ومعن وجماعة انتهى ولا يصح فالذي في التمهيد ما رأيته ( فقال أسامة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الطاعون رجز) بالزاي على المعروف أي عذاب ووقع لبعض الرواة رجس بالسين المهملة بدل الزاي قال الحافظ والمحفوظ بالزاي والمشهور أن الذي بالسين الخبث أو النجس أو القذر ووجهه عياض بأن الرجس يطلق على العقوبة أيضًا وقد قال الفارابي والجوهري الرجس العذاب ومنه قوله تعالى { { ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون } } وحكاه الراغب أيضًا ( أرسل على طائفة من بني إسرائيل) لما كثر طغيانهم ( أو على من كان قبلكم) بالشك من الراوي وفي رواية ابن خزيمة بالجزم بلفظ رجس سلط على طائفة من بني إسرائيل والتنصيص عليهم أخص فإن كان ذلك المراد فكأنه أشار بذلك إلى ما جاء في قصة بلعام فأخرج الطبري من طريق سليمان التيمي أحد صغار التابعين عن يسار أن رجلاً كان يقال له بلعام كان مجاب الدعوة وأن موسى أقبل في بني إسرائيل يريد الأرض التي فيها بلعام فأتاه قومه فقالوا ادع الله عليهم فقال حتى أؤامر ربي فمنع فأتوه بهدية فقبلها وسألوه ثانيًا فقال حتى أؤامر ربي فلم يرجع إليه بشيء فقالوا لو كره لنهاك فدعا عليهم فصار يجري على لسانه ما يدعو به على بني إسرائيل فينقلب على قومه فلاموه على ذلك فقال سأدلكم على ما فيه هلاكهم أرسلوا النساء في عسكرهم ومروهن لا يمتنعن من أحد فعسى أن يزنوا فيهلكوا فكان فيمن خرج بنت الملك فأرادها بعض الأسباط وأخبرها بمكانه فمكنته من نفسها فوقع في بني إسرائيل الطاعون فمات منهم سبعون ألفًا في يوم وجاء رجل من بني هارون ومعه الرمح فطعنهما وأيده الله فانتظمهما جميعًا وهذا مرسل جيد وسيار شامي موثق وذكر الطبري أيضًا هذه القصة عن محمد بن إسحاق عن سالم عن أبي النضر بنحوه وسمى المرأة كشتا بفتح الكاف وسكون المعجمة وفوقية والرجل زمري بكسر الزاي وسكون الميم وكسر الراء رأس سبط شمعون والذي طعنهما فنحاص بكسر الفاء وسكون النون ثم مهملة فألف فمهملة ابن هارون وقال في آخره فحسب من هلك من الطاعون سبعون ألفًا والمقلل يقول عشرون ألفًا وهذه الطريق تعضد الأولى وذكر ابن إسحاق في المبتدأ أن بني إسرائيل لما كثر عصيانهم أوحى الله إلى داود فخيرهم ما بين ثلاث إما أن أبتليهم بالقحط أو العدو شهرين أو الطاعون ثلاثة أيام فأخبرهم فقالوا اختر لنا فاختار الطاعون فمات منهم إلى أن زالت الشمس سبعون ألفًا وقيل مائة ألف فتضرع داود إلى الله تعالى فرفعه وورد وقوع الطاعون في غير بني إسرائيل فيحتمل أن يكون هو المراد بقوله أو من كان قبلكم فمن ذلك ما أخرجه الطبري وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال أمر موسى بني إسرائيل أن يذبح كل رجل منهم كبشًا ثم يخضب كفه في دمه ثم يضرب به على بابه ففعلوا فسألهم القبط عن ذلك فقالوا إن الله يبعث عليكم عذابًا وإنا ننجو منه بهذه العلامة فأصبحوا وقد مات من قوم فرعون سبعون ألفًا فقال فرعون عند ذلك لموسى { { ادع لنا ربك بما عهد عندك لئن كشفت عنا الرجز } } الآية فدعا فكشفه عنهم وهذا مرسل جيد الإسناد وأخرج عبد الرزاق في تفسيره وابن جرير عن الحسن في قوله تعالى { { الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت } } قال فروا من الطاعون { { فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم } } ليكملوا بقية آجالهم فأقدم من وقفنا عليه في المنقول ممن وقع الطاعون به من بني إسرائيل في قصة بلعام ومن غيرهم في قصة فرعون وتكرر بعد ذلك لغيرهم انتهى ( فإذا سمعتم به بأرض فلا تدخلوا عليه) لأنه تهور وإقدام على خطر وليكون ذلك أسكن للنفس وأطيب للعيش قال أبو عمر لئلا يقعوا في اللوم المنهي عنه فنهوا عن ذلك تأديبًا لئلا يلوموا أنفسهم فيما لا لوم فيه لأن الباقي والناهض لا يتجاوز أحد منهم أجله ( وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارًا منه) لأنه فرار من القدر ولئلا تضيع المرضى بعدم من يتفقدهم والموتى بعدم من يجهزهم فالأول تأديب وتعليم والثاني تفويض وتسليم وقيل هو تعبدي لأن الفرار من المهالك مأمور به وقد نهي عن هذا فهو لسر فيه لا يعلم معناه ( قال مالك) هذا لفظ رواية محمد بن المنكدر ولا إشكال فيها و ( قال أبو النضر) في روايته ( لا يخرجكم إلا فرار منه) قال عياض وقع لأكثر رواة الموطأ بالرفع وهو بين أي لا يخرجكم الفرار ومجرد قصده لا غير ذلك لأن الخروج في الأسفار والحوائج مباح فهو مطابق لرواية محمد بن المنكدر لا تخرجوا فرارًا منه ورواه بعضهم إلا فرارًا بالنصب قال ابن عبد البر جاء بالوجهين ولعل ذلك من مالك وأهل العربية يقولون دخول إلا بعد النفي لا يجاب بعض ما نفي قبل من الخروج فكأنه نهى عن الخروج إلا للفرار خاصة وهو ضد المقصود فالمنهي عنه إنما هو الخروج للفرار خاصة لا لغيره وجوز ذلك بعضهم وجعل قوله إلا حالاً من الاستثناء أي لا تخرجوا إذا لم يكن خروجكم إلا فرارًا أي للفرار انتهى ووقع لبعض رواة الموطأ لا يخرجكم إلا فرار بأداة التعريف بعدها إفرار بكسر الهمزة وهو وهم ولحن هذا كلام عياض في شرح مسلم وقال في المشارق ما حاصله يجوز أن الهمزة للتعدية يقال أفره كذا من كذا ومنه قوله عليه السلام لعدي بن حاتم إن كان لا يفرك من هذا إلا ما ترى فيكون المعنى لا يخرجكم إفراره إياكم وقال في المفهم هذه الرواية غلط لأنه لا يقال أفر وإنما يقال فر وقال جماعة من العلماء إدخال إلا فيه غلط وقال بعضهم هي زائدة وتجوز زيادتها كما تزاد لا وهو الأقرب وقال الكرماني الجمع بين قول ابن المنكدر لا تخرجوا فرارًا منه وبين قول أبي النضر لا يخرجكم إلا فرار منه مشكل فإن ظاهره التناقض وأجاب بأجوبة أحدها أن غرض الراوي أن أبا النضر فسر لا تخرجوا بأن المراد منه الحصر يعني الخروج المنهي عنه هو الذي يكون لمجرد الفرار لا لغرض آخر فهو تفسير للمعلل المنهي لا للنهي قال الحافظ وهو بعيد لأنه يقتضي أن هذا اللفظ من كلام أبي النضر زاده بعد الخبر وأنه موافق لابن المنكدر على رواية اللفظ الأول والمتبادر خلاف ذلك والجواب الثاني كالأول والزيادة مرفوعة أيضًا فيكون روى اللفظين ويكون التفسير مرفوعًا أيضًا الثالث إلا زائدة بشرط أن تثبت زيادتها في كلام العرب انتهى وهذا الحديث رواه البخاري في ذكر بني إسرائيل عن عبد العزيز بن عبد الله ومسلم في الطب عن يحيى كلاهما عن مالك به وتابعه جماعة في مسلم وغيره ( مالك عن ابن شهاب عن عبد الله بن عامر بن ربيعة) بن كعب بن مالك بن ربيعة العنزي حليف بني عدي ولد سنة ست وحفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثًا واحدًا وهو قوله دعتني أمي والنبي صلى الله عليه وسلم في بيتنا فقالت تعال أعطك فقال صلى الله عليه وسلم ما أردت أن تعطيه قالت تمرًا قال لو لم تفعلي كتبت عليك كذبة مات سنة بضع وثمانين وأبوه صحابي مشهور ( أن عمر بن الخطاب خرج إلى الشام) لينظر في أحوال رعيته بها وأمرائه سنة سبع عشرة بعد فتح بيت المقدس وخرج إليها قبل ذلك لما حاصر أبو عبيدة بيت المقدس وسأله أهله أن يكون صلحهم على يد عمر فقدم فصالحهم ورجع سنة عشر قاله في المفهم وفي التمهيد خرج عمر إلى الشام مرتين في قول بعضهم وقيل لم يخرج لها إلا مرة واحدة هي هذه ( حتى إذا جاء سرغ) بمهملتين ومعجمة قال عياض رويناه بسكون الراء وفتحها وصوب ابن مكي السكون قال مالك وابن حبيب هي قرية بوادي تبوك وهي آخر عمل الحجاز وقيل مدينة بالشام قال ابن وضاح بينها وبين المدينة ثلاثة عشر مرحلة ( بلغه) من أمراء الأجناد ( أن الوباء) بفتح الواو والموحدة والهمزة والمد والقصر وهو المرض العام والمراد هنا الطاعون المعروف بطاعون عمواس ( قد وقع بالشام) أي بدمشق وهي أم الشام وإليها كان مقصده كذا قال أبو عمر فعزم على الرجوع بعد أن اجتهد ووافقه أكثر الصحابة الذين معه على ذلك ( فأخبره عبد الرحمن بن عوف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إذا سمعتم به) أي الطاعون ( بأرض فلا تقدموا) بفتح أوله وثالثه وروي بضم الأول وكسر الثالث ( عليه) لأنه إقدام على خطر ( وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارًا منه) لأنه فرار من القدر فالأول تأديب وتعليم والثاني تفويض وتسليم قال ابن عبد البر النهي عن القدوم لدفع ملامة النفس وعن الخروج للإيمان بالقدر انتهى والأكثر أن النهي عن الفرار منه للتحريم وقيل للتنزيه ويجوز لشغل عرض غير الفرار اتفاقًا قاله التاج السبكي قال الحافظ ولا شك أن الصور ثلاث من خرج لقصد الفرار محضًا فهذا يتناوله النهي لا محالة ومن خرج لحاجة متمحضة لا لقصد الفرار أصلاً ويصور ذلك فيمن تهيأ للرحيل من بلد إلى بلد كان بها إقامته مثلاً ولم يكن الطاعون وقع فاتفق وقوعه في أثناء تجهيزه فهذا لم يقصد الفرار أصلاً فلا يدخل في النهي الثالث من عرضت له حاجة فأراد الخروج إليها وانضم إلى ذلك أنه قصد الراحة من الإقامة بالبلد التي وقع بها الطاعون فهذا محل النزاع كأن تكون الأرض التي وقع بها وخمة والأرض التي يتوجه إليها صحيحة فيتوجه بهذا القصد إليها فمن منع نظرًا إلى صورة الفرار في الجملة ومن أجاز نظر إلى أنه لم يتمخض القصد للفرار وإنما هو لقصد التأوي انتهى قال ابن عبد البر يقال ما فر أحد من الطاعون فسلم من الموت ولم يبلغني عن أحد من حملة العلم أنه فر منه إلا ما ذكر المدايني أن علي بن زيد بن جدعان هرب منه إلى السبالة فكان يجمع كل جمعة ويرجع فإذا رجع صاحوا به فر من الطاعون فطعن فمات بالسبالة انتهى لكن نقل القاضي عياض وغيره جواز الخروج من الأرض التي وقع بها الطاعون عن جماعة من الصحابة منهم علي والمغيرة بن شعبة ومن التابعين الأسود بن هلال ومسروق وأنهما كانا يفران منه ونقل ابن جرير أن أبا موسى الأشعري كان يبعث بنيه إلى الأعراب من الطاعون وعن عمرو بن العاصي أنه قال تفرقوا من هذا الرجز في الشعاب والأودية ورؤوس الجبال حملاً للنهي على التنزيه والجمهور أنه للتحريم حتى قال ابن خزيمة أنه من الكبائر التي يعاقب الله عليها إن لم يعف ( فرجع عمر بن الخطاب من سرغ) بمنع الصرف والصرف وفيه جواز ذلك وليس من الطيرة وإنما هو من منع الإلقاء إلى التهلكة أو سدًا للذريعة لئلا يعتقد من يدخل إليها ظن العدوى المنهي عنها وفيه كما قال أبو عمر أنه قد يذهب على العالم الحبر ما يوجد عند غيره من العلماء ممن ليس مثله وكان عمر من العلم بموضع لا يوازيه أحد قال ابن مسعود لو وضع علم عمر في كفة وعلم أهل الأرض في كفة رجح علم عمر ودليل ذلك أنه صلى الله عليه وسلم رأى أنه دخل الجنة فسقي بها لبنا فناول فضله عمر فقيل ما أولت ذلك قال العلم وأخرجه البخاري في الطب عن التنيسي وفي ترك الحيل عن القعنبي ومسلم عن يحيى الثلاثة عن مالك به ( مالك عن ابن شهاب عن سالم بن عبد الله أن) جده ( عمر بن الخطاب إنما رجع بالناس) من سرغ ( عن) وللقعنبي من أي لأجل ( حديث عبد الرحمن بن عوف) المذكور تقديمًا لخبر الواحد على القياس لأنهم أجمعوا على الرجوع اعتمادًا على خبره وحده بعد أن ركبوا مشقة السفر من المدينة إلى سرغ فرجعوا ولم يدخلوا الشام وقيل رجع قبل إخبار عبد الرحمن لأنه قال أنه مصبح على ظهر قبل أن يخبروه بالحديث فلما أخبروه قوي عزمه على ذلك وتأول من قال بهذا بأن سالمًا لعله لم يبلغه قول عمر قبل إخبار ابن عوف قال القرطبي ورجح بعضهم الأول بأن ولده أي حفيده ما عرف بحاله من غيره وبأن عمر لم يكن ليرجع إلى رأي دون رأي لغير حجة حتى وجد علمًا وتأول قوله إني مصبح على ظهر الذي قاله قبل بحديث عبد الرحمن له بالحديث بأن معناه إني على سفر لوجهه الذي كان توجه له لا أنه رجع عن رأيه وهذا بعيد انتهى ولا حاجة إلى هذا كله لأن عمر رجع عن رأيه إلى رأي من أشار بالرجوع لكثرتهم ثم قوى ذلك له حديث عبد الرحمن فرجع بهم من سرغ وعلى هذا يحمل قول سالم فلا داعية لدعوى أنه لم يبلغه قول عمر قبل إخبار ابن عوف ( مالك أنه قال بلغني أن عمر بن الخطاب قال لبيت بركبة) بضم الراء وسكون الكاف وفتح الموحدة قال الباجي هي أرض بني عامر وهي بين مكة والعراق وقال ابن عبد البر ركبة واد من أودية الطائف ( أحب إلي من عشرة أبيات بالشام قال مالك يريد) عمر ( لطول الأعمار والبقاء) لأهل ركبة ( ولشدة الوباء) قوته وكثرته ( بالشام) وفي التمهيد عن مالك إنما قال ذلك عمر حين وقع الوباء بالشام وقد روى أحمد برجال ثقات مرفوعًا أتاني جبريل بالحمى والطاعون فأمسكت الحمى بالمدينة وأرسلت الطاعون إلى الشام فالطاعون شهادة لأمتي ورحمة لهم ورجز على الكافرين قال الحافظ هذا يدل على أنه اختارها على الطاعون وأقرها بالمدينة ثم دعا الله فنقلها إلى الجحفة كما مر وبقيت منها بقايا ولا يعارضه الدعاء برفع الوباء عنها لندرة وقوعه فيها بخلاف الطاعون لم ينقل قط أنه وقع بها.