فهرس الكتاب

شرح الزرقاني - بَابُ مَا جَاءَ فِي حُسْنِ الْخُلُقِ

رقم الحديث 1635 وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ أَنَّ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ قَالَ: آخِرُ مَا أَوْصَانِي بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ وَضَعْتُ رِجْلِي فِي الْغَرْزِ أَنْ قَالَ: أَحْسِنْ خُلُقَكَ لِلنَّاسِ يَا مُعَاذُ بْنَ جَبَلٍ.


( مالك أن معاذ بن جبل) كذا ليحيى وابن القاسم والقعنبي ورواه ابن بكير عن مالك عن يحيى بن سعيد عن معاذ وهو مع هذا منقطع جدًا ولا يوجد مسندًا من حديث معاذ ولا غيره بهذا اللفظ لكن ورد معناه قاله ابن عبد البر ( قال آخر ما أوصاني به رسول الله صلى الله عليه وسلم) لما بعثه إلى اليمن ( حين وضعت رجلي في الغرز) بفتح الغين المعجمة وسكون الراء وزاي منقوطة في موضع الركاب من رجل البعير كالركاب للسرج ( أن قال أحسن خلقك للناس يا معاذ بن جبل) فهو منادى بحذف الأداة بأن يظهر منه لمجالسه أو الوارد عليه البشر والحلم والإشفاق والصبر على التعليم والتودد إلى الصغير والكبير والناس وإن كان لفظه عامًا لكن أريد به من يستحق تحسين الخلق لهم فأما أهل الكفر والإصرار على الكبائر والتمادي على الظلم فلا يؤمر بتحسين الخلق لهم بل يؤمر بالإغلاظ عليهم قاله الباجي وهذا آخر الأحاديث الأربعة التي قالوا أنها لم توجد موصولة في غير الموطأ وذلك لا يضر مالكًا الذي قال فيه سفيان بن عيينة كان مالكًا لا يبلغ من الحديث إلا ما كان صحيحًا وإذا قال بلغني فهو إسناد صحيح فتصور المتأخرين عن وجود هذه الأربعة موصولة لا يقدح فيها فلعلها وصلت في الكتب التي لم تصل إليهم وقد قال السيوطي في حديث اختلاف أمتي رحمة لعله خرج في بعض الكتب التي لم تصل إلينا لأنه عزاه لجمع من الأجلة ذكروه في كتبهم بلا إسناد ولا نسبة لمخرج كإمام الحرمين ولا ريب أنهم دون مالك بمراحل بعيدة كيف ومن شواهد هذا الحديث ما رواه أحمد والترمذي وغيرهما بإسناد حسن عن معاذ قال قلت يا رسول الله علمني ما ينفعني قال اتق الله حيث كنت وأتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن.
وأخرج الترمذي عن أنس قال بعث النبي صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل إلى اليمن فقال يا معاذ اتق الله وخالق الناس بخلق حسن وروى قاسم بن أصبغ عن معاذ أن آخر كلمة فارقت عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت يا رسول الله أي العمل أفضل قال لا يزال لسانك رطبًا من ذكر الله فكأنه لما كان آخر ما أوصاه سأله عن هذا فأجابه فكان آخر كلمة فلا خلف ( مالك عن ابن شهاب) الزهري ( عن عروة بن الزبير) ابن العوام ( عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت ما خير) بضم الخاء المعجمة وكسر التحتية الثقيلة قال الحافظ وأيهم فاعل خير ليكون أعم من قبل الله أو من قبل المخلوقين وقال الباجي يحتمل أن المخير له هو الله فيما كلف أمته من الأعمال أو الناس فعلى الأول يكون قوله ما لم يكن إثمًا استثناء منقطعًا ولعل مراده الاستثناء اللغوي وهو الإخراج ( في أمرين) وللتنيسي والقعنبي بين أمرين ( قط) قال الحافظ أي من أمور الدنيا بدليل قوله ما لم يكن إثمًا لأن أمور الدين لا إثم فيها ( إلا أخذ أيسرهما) أي أسهلهما ( ما لم يكن) الأيسر ( إثمًا) أي مفضيًا للإثم ( فإن كان) الأيسر ( إثمًا كان أبعد الناس منه) ويختار الأشد حينئذ وللطبراني الأوسط عن أنس إلا اختار أيسرهما ما لم يكن لله فيه سخط ووقوع التخيير بين ما فيه إثم وما لا إثم فيه من قبل المخلوقين واضح وأما من قبل الله ففيه إشكال لأن التخيير إنما يكون بين جائزين لكن إذا حمل على ما يفضي إلى الإثم أمكن ذلك بأن يخيره بين أن يفتح عليه من كنوز الأرض ما يخشى من الاشتغال به إلا أن يتفرغ للعبادة مثلاً وبين أن لا يؤتيه من الدنيا إلا الكفاف فيختار الكفاف وإن كانت السعة أسهل منه والإثم على هذا أمر نسبي لا يراد منه معنى الخطيئة لثبوت العصمة له انتهى ومثله غيره بالتخيير بين المجاهدة في العبادة والاقتصاد فيها فإن المجاهدة إن كانت بحيث تجر إلى الهلاك لا تجوز ( وما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه) أي خاصة فلا يرد أمره بقتل ابن خطل وعقبة بن أبي معيط وغيرهما ممن كان يؤذيه لأنهم كانوا مع ذلك ينتهكون حرمات الله وقيل إرادة لا ينتقم لنفسه إذا أوذي في غير السبب الذي يخرج إلى الكفر كما عفا عن الأعرابي الذي جفا في رفع صوته عليه وعن الآخر الذي جبذ بردائه حتى أثر في كتفه وقال محمد أعطني من مال الله الذي عندك فالتفت إليه فضحك ثم أمر له بعطاء كما في الصحيحين من طريق مالك عن إسحاق بن عبد الله عن أنس وفي أبي داود ثم دعا رجلاً فقال احمل له على بعيريه هذين على بعير تمرًا وعلى الآخر شعيرًا ( إلا أن تنتهك) بضم الفوقية وسكون النون وفتح الفوقية والهاء أي لكن إذا انتهكت ( حرمة الله) عز وجل ( فينتقم لله) لا لنفسه ممن ارتكب تلك الحرمة ( بها) أي بسببها وللطبراني عن أنس فإذا انتهكت حرمة الله كان أشد الناس غضبًا لله قال الباجي يريد أن يؤذى أذى فيه غضاضة على الدين فإن في ذلك انتهاكًا لحرمة الله فينتقم بذلك إعظامًا لحق الله وقال بعض العلماء لا يجوز أن يؤذى النبي صلى الله عليه وسلم بفعل مباح ولا غيره وأما غيره من الناس فيجوز أن يؤذى بمباح وليس له المنع منه ولا يأثم فاعله وإن وصل بذلك إلى أذى غيره ولذا لم يأذن صلى الله عليه وسلم في نكاح ابنة أبي جهل فجعل حكم ابنته فاطمة حكمه في أنه لا يجوز أن تؤذى بمباح واحتج على ذلك بقوله تعالى { { إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله } } إلى أن قال { { والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا } } فشرط على المؤمنين أن يؤذوا بغير ما اكتسبوا وأطلق الأذى في خاصة النبي صلى الله عليه وسلم من غير شرط انتهى وحمل الداودي عدم انتقامه لنفسه على ما يختص بالمال وأما العرض فقد اقتص مما نال منه قال فاقتص ممن لده في مرضه بعد نهيه عن ذلك بأن أمر بلدهم مع أنهم تأولوا نهيه على عادة البشر من كراهة النفس للدواء قال الحافظ كذا قال وقد أخرج الحاكم هذا الحديث من طريق معمر عن الزهري بإسناد مطولاً وأوله ما لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم مسلمًا بذكر اسمه أي بصريحه ولا ضرب بيده شيئًا قط إلا أن يضرب في سبيل الله ولا سئل عن شيء قط فمنعه إلا أن يسأل مأثمًا ولا انتقم لنفسه من شيء إلا أن تنتهك حرمات الله فيكون الله ينتقم الحديث وهذا السياق سوى صدره عند مسلم من طريق هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة به وفيه الحث على ترك الأخذ بالشيء العسير والاقتناع باليسير وترك الإلحاح فيما لا يضطر إليه ويؤخذ من ذلك ندب الأخذ بالرخص ما لم يظهر الخطأ والحث على العفو إلا في حقوق الله تعالى والندب إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومحله ما لم يفض إلى ما هو أشد منه وفيه ترك الحكم للنفس وإن كان الحاكم متمكنًا من ذلك بحيث يؤمن منه الحيف على المحكوم عليه لكن لحسم المادة وفيه ما كان عليه صلى الله عليه وسلم من الصبر والحلم والقيام بالحق وهذا هو الخلق الحسن المحمود لأنه لو ترك القيام لحق الله وحق غيره كان ذلك مهانة ولو انتقم لنفسه لم يكن ثم صبر وكان هذا الخلق بطشًا فانتفى عنه الطرفان المذمومان وبقي الوسط وخير الأمور أوسطها وأخرجه البخاري في الصفة النبوية عن التنيسي وفي الأدب عن القعنبي ومسلم عن يحيى ثلاثتهم عن مالك به وتابعه منصور بن المعتمر ويونس عن ابن شهاب وتابعه هشام عن عروة كل ذلك عند مسلم ( مالك عن ابن شهاب عن علي بن حسين بن علي بن أبي طالب) مرسلاً عند جماعة رواة الموطأ فيما علمت إلا خالد بن عبد الرحمن الخراساني فقال عن مالك عن ابن شهاب عن علي بن الحسين عن أبيه وخالد ضعيف ليس بحجة فيما خولف فيه ولابن شهاب فيه إسنادان أحدهما مرسل كما قال مالك والآخر عن أبي سلمة عن أبي هريرة وهما من رواية الثقات قاله في التمهيد وقال السيوطي وصله الدارقطني من طريق خالد الخراساني وموسى بن داود الضبي كلاهما عن مالك عن الزهري عن علي بن الحسين عن أبيه قال ابن عبد البر وخالد وموسى لا بأس بهما انتهى ولم أجده في التمهيد إنما فيه ما ذكرته فلعل نسخه اختلفت والحديث حسن بل صحيح أخرجه أحمد وأبو يعلى والترمذي وابن ماجه من حديث الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة وأحمد والطبراني الكبير عن الحسن بن علي والحاكم في الكنى عن أبي ذر العسكري والحاكم في تاريخه عن علي بن أبي طالب والطبراني في الصغير عن زيد بن ثابت وابن عساكر عن الحارث بن هشام ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه) بفتح أوله من عناه كذا إذا تعلقت عنايته به وكان من قصده يعني ترك الفضول كله على اختلاف أنواعه قال ابن العربي لأن المرء لا يقدر أن يشتغل باللازم فكيف يتعداه إلى الفاضل انتهى وفي إفهامه أن من قبح إسلام المرء أخذه ما لا يعنيه لأنه ضياع للوقت النفيس الذي لا يمكن تعويض فائته فيما لم يخلق لأجله فإن الذي يعنيه الإسلام والإيمان والعمل الصالح وما تعلق بضرورة حياته في معاشه من شبع وروي وستر عورة وعفة فرج ونحو ذلك مما يدفع الضرورة دون مزيد النعم وبهذا يسلم من جميع الآفات دنيا وأخرى فمن عبد الله على استحضار قربه من ربه أو قرب ربه منه فقد حسن إسلامه قال الطيبي من تبعيضية ويجوز أنها بيانية وآثر التعبير بالإسلام على الإيمان لأنه الأعمال الظاهرة والفعل والترك إنما يتعاقبان عليها وزاد حسن إيماء إلى أنه لا يتميز بصورة الأعمال فعلاً وتركًا إلا أن اتصف بالحسن بأن توفرت شروط مكملاتها فضلاً عن المصححات وجعل ترك ما لا يعني من الحسن مبالغة قال بعضهم ومما لا يعني تعلم ما لا يهم من العلوم وترك الأهم منه كمن ترك تعلم العلم الذي فيه صلاح نفسه واشتغل بتعلم ما يصلح به غيره كعلم الجدل ويقول في اعتذاره نيتي نفع الناس ولو كان صادقًا لبدأ باشتغاله بما يصلح به نفسه وقلبه من إخراج الصفات المذمومة من نحو حسد ورياء وكبر وعجب وترؤس على الأقران وتطاول عليهم ونحوها من المهلكات قال ابن عبد البر هذا الحديث من الكلام الجامع للمعاني الكثيرة الجليلة في الألفاظ القليلة وهو مما لم يقله أحد قبله صلى الله عليه وسلم لكن روي معناه عن صحف إبراهيم مرفوعًا ثم أخرج بسنده عن أبي ذر قال قلت يا رسول الله ما كانت صحف إبراهيم قال كانت أمثالاً كلها الحديث وفيه وعلى العاقل أن يكون بصيرًا بزمانه مقبلاً على شأنه حافظًا للسانه ومن حسب كلامه من عمله قل كلامه إلا فيما يعنيه وقيل للقمان الحكيم ما الذي بلغ بك ما نرى أي الفضل قال قدر الله وصدق الحديث وأداء الأمانة وترك ما لا يعنيني وروى أبو عبيدة عن الحسن من علامة إعراض الله عن العبد أن يجعل شغله فيما لا يعنيه وقال أبو داود أصول السنن في كل فن أربعة أحاديث هذا وحديث الأعمال بالنيات والحلال بين وازهد في الدنيا وقال الباجي قال حمزة الكناني هذا الحديث ثلث الإسلام والثاني الأعمال بالنيات والثالث الحلال بين والحرام بين وقال غيره هو نصف الإسلام وقيل كله ( مالك أنه بلغه) أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي من طريق سفيان بن عيينة عن محمد بن المنكدر عن عروة ( عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت استأذن رجل) في الدخول ( على النبي صلى الله عليه وسلم) بيته وهو عيينة بن حصن الفزاري كما جزم به ابن بطال وعياض والقرطبي ونقله الباجي عن ابن حبيب عن مالك ورواه عبد الغني في المبهمات عن مالك بلاغًا وابن بشكوال عن يحيى بن أبي كثير أن عيينة استأذن فذكره مرسلاً وقيل هو مخرمة بن نوفل أخرجه عبد الغني عن عائشة قال الحافظ فيحمل على التعدد وقد حكى المنذري القولين فقال هو عيينة وقيل مخرمة وهو الراجح انتهى وتعقب بأن حديث تسميته عيينة صحيح وإن كان مرسلاً وخبر تسميته مخرمة فيه راويان ضعيفان ولذا قال الخطيب وعياض وغيرهما الصحيح أنه عيينة قالوا ويبعد أن يقول صلى الله عليه وسلم في حق مخرمة ما قال لأنه كان من خيار الصحابة ( قالت عائشة وأنا معه في البيت) قبل نزول الحجاب فقال من هذه قال عائشة قال ألا أنزل لك عن أم البنين فغضبت عائشة وقالت من هذا قال صلى الله عليه وسلم هذا الأحمق المطاع رواه سعيد بن منصور يعني في قومه لأنه كان يتبعه منهم عشرة آلاف قناة لا يسألونه أين يريد ( فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم) له ( بئس ابن العشيرة) الجماعة أو القبيلة أو الأدنى إلى الرجل من أهله وهم ولد أبيه وجده وفي رواية البخاري بئس أخو العشيرة وبئس ابن العشيرة ( ثم أذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم) وللبخاري رواية فقال ائذنوا له ( قالت عائشة فلم أنشب) بمعجمة وموحدة ( أن سمعت ضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم معه) وللبخاري فلما جلس تطلق النبي صلى الله عليه وسلم في وجهه وانبسط إليه وله أيضًا فلما دخل ألان له الكلام ( فلما خرج الرجل قلت) مستفهمة ( يا رسول الله قلت فيه ما قلت) بفتح التاء فيهما خطابًا ( ثم لم تنشب أن ضحكت معه) فما السر في ذلك وفي رواية ثم ألنت له القول ( فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم) يا عائشة ( إن من شر الناس من اتقاه الناس لشره) أي قبيح كلامه وفي رواية لهما فقال يا عائشة متى عهدتني فحاشًا إن شر الناس منزلة عند الله يوم القيامة من تركه الناس اتقاء شره فقال الباجي وصفه بذلك ليعلم حاله فيحذر وليس ذلك من باب الغيبة وقال القرطبي فيه جواز غيبة المعلن بالفسق أو الفحش ونحو ذلك مع جواز مداراتهم اتقاء لشرهم ما لم يؤد ذلك إلى المداهنة في دين الله والفرق بينها وبين المداراة أنها بذل الدنيا لصلاح الدنيا أو الدين أو هما معًا وهي مباحة وربما استحسنت والمداهنة بذل الدين لصلاح الدنيا والنبي صلى الله عليه وسلم إنما يذل له من دنياه حسن عشرته والرفق في مكالمته ومع ذلك فلم يمدحه بقول فلم يناقض قوله فيه فعله فإن قوله فيه بئس ابن العشيرة حق وفعله معه حسن عشرة فيزول بهذا التقرير الإشكال انتهى أي الذي هو أن النصيحة فرض وطلاقة الوجه وإلانة القول يستلزمان الترك وحاصل جوابه أن الفرض سقط لعارض وقال عياض لم تكن غيبة والله أعلم حين إذ أسلم فلم يكن القول فيه غيبة أو كان أسلم ولم يكن إسلامه ناصحًا فأراد صلى الله عليه وسلم بيان ذلك لئلا يغتر به من لم يعرف باطنه فيكون ما وصفه به من علامات النبوة وأما إلانة القول بعد أن دخل فعلى سبيل الاستئلاف وقال القرطبي في هذا الحديث إن عيينة ختم له بسوء لأنه صلى الله عليه وسلم ذمه وأخبر بأن من كان كذلك كان شر الناس ورده الحافظ بأن الحديث ورد بلفظ العموم وشرط من اتصف بالصفة المذكورة أن يموت على ذلك وقد ارتد عيينة في زمن الصديق وحارب ثم رجع وأسلم وحضر بعض الفتوح في عهد عمر وفي الأم للشافعي أن عمر قتل عيينة على الردة قال في الإصابة ولم أر ذلك لغيره فإن كان محفوظًا فلا يذكر في الصحابة لكن يحتمل أنه أمر بقتله فبادر إلى الإسلام فعاش إلى خلافة عثمان وقال أيضًا في ترجمة طليحة نقلاً عن الأم أن عمر قتل طليحة وعيينة على الردة فراجعت جلال الدين البلقيني فاستغربه وقال لعله قبلهما بموحدة أي قبل منهما الإسلام بعد الارتداد ( مالك عن عمه أبي سهيل) نافع ( بن مالك عن أبيه) مالك بن أبي عامر الأصبحي ( عن كعب الأحبار أنه قال) موقوفًا ويحتمل أن يكون من الكتب القديمة لأنه حبرها وقد رواه ابن عساكر بسند ضعيف عن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم ( إذا أحببتم) أي أردتم ( أن تعلموا ما للعبد عند ربه) مما قدر له من خير أو شر ( فانظروا) أي تأملوا ( ماذا يتبعه) أي الذي يجري على ألسنة الناس في حياته أو بعد موته ( من حسن الثناء) بفتح المثلثة والمد الوصف بمدح أو به وبذم قال الباجي والمراد ما يذكره أهل الدين والخير دون أهل الضلال والفسق لأنه قد يكون للإنسان العدو فيتبعه بالذكر القبيح انتهى فإن ذكره الصلحاء بشيء علم أن الله أجرى على ألسنتهم ماله عنده فإنهم ينطقون بإلهامه كما يفيده قوله صلى الله عليه وسلم إن لله ملائكة تنطق على ألسنة بني آدم بما في المرء من الخير والشر رواه الحاكم وغيره عن أنس فإن كان خيرًا فليحمد الله ولا يعجب بل يكون خائفًا من مكره الخفي وإن كان شرًا فليبادر بالتوبة ويحذر سطوته وقهره ( مالك عن يحيى بن سعيد أنه قال بلغني) أخرجه ابن عبد البر من طريق زهير عن يحيى بن سعيد عن القاسم بن محمد عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم ( إن المرء) وفي رواية إن الرجل والمراد منهما الإنسان وفي رواية إن المؤمن ( ليدرك بحسن خلقه) قال ابن العربي الخلق أي بالفتح والخلق أي بالضم عبارتان عن جملة الإنسان فالخلق عبارة عن صفته الظاهرة والخلق عبارة عن صفته الباطنة والإشارة بالخلق أي بالضم إلى الإيمان والكفر والعلم والجهل واللين والشدة والمسامحة والاستقصاء والسخاء والبخل وما أشبه ذلك ولبابها في المحمود والمذموم يدور على عشرين خصلة ( درجة) أي مثل درجة أي منزلة ( القائم بالليل) أي المتهجد ( الظامي بالهواجر) أي العطشان في شدة الحر بسبب الصوم لأنهما مجاهدان لأنفسهما في مخالفة حفظهما من الطعام والشراب والنكاح والنوم والقيام والصيام يمنعان من ذلك والنفس أمارة بالسوء تدعو إلى ذلك لأن بالطعام يتقوى وبالنوم ينمو ومن حسن خلقه يجاهد نفسه في تحمل أثقال مساوئ أخلاق الناس لأنه يحمل أثقال غيره ولا يحمل غيره أثقاله وهو جهاد كبير فأدرك ما أدركه القائم الصائم فاستويا في الدرجة قال الباجي المراد أنه يدرك درجة المتنفل بالصلاة والصوم بصبره على الأذى وكفه عن أذى غيره والمقارضة عليه مع سلامة صدره من الغل قال الغزالي ولا يتم لرجل حسن خلقه حتى يتم عقله فعند ذلك يتم إيمانه ويطيع ربه ويعصي عدوه إبليس وهذا الحديث أخرجه أبو داود من وجه آخر عن عائشة والطبراني في الكبير عن أبي أمامة والحاكم وقال صحيح على شرطهما وأقره الذهبي عن أبي هريرة ثلاثتهم مرفوعًا به ( مالك عن يحيى بن سعيد أنه قال سمعت سعيد بن المسيب يقول) موقوفًا لجميع رواة الموطأ إلا إسحاق بن بشر الكامل وهو ضعيف متروك الحديث فرواه عن مالك عن يحيى عن سعيد عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم ورواه الدارقطني من طريق حفص بن غياث عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكره مرسلاً ورواه أيضًا من طريق ابن عيينة عن يحيى عن سعيد عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم وأخرجه البزار من طريق الأعمش عن عمر بن مرة عن سالم بن أبي الجعد عن أم الدرداء عن أبي الدرداء وذكر ابن المديني أن يحيى لم يسمعه من سعيد وإنما بينهما إسماعيل بن أبي حكيم كما حدث به عبد الوهاب ويزيد بن هارون وغيرهما عن يحيى بن سعيد عن إسماعيل عن سعيد بن المسيب مرفوعًا مرسلاً قاله كله ابن عبد البر ملخصًا وتعليل ابن المديني ليس بظاهر فإن يحيى ثقة حافظ باتفاق وقد صرح بالسماع في بعض طرقه فلا مانع أنه سمعه من إسماعيل عن سعيد ثم سمعه من سعيد فحدث به على الوجهين كما أن ابن المسيب حدث به مرسلاً وموقوفًا وموصولاً وأيما كان فالحديث صحيح وقد أخرجه أحمد والبخاري في الأدب المفرد وأبو داود والترمذي وصححه عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( ألا) حرف تنبيه يذكر لتحقيق ما بعدها مركبة من همزة الاستفهام التي هي بمعنى الإنكار ولا التي للنفي والإنكار إذا دخل عليه النفي أفاد التحقيق ولذا لا يكاد يقع بعدها إلا ما كان مصدرًا بنحو ما يتلقى به القسم وشقيقتها أما التي هي من طلائع القسم ومقدماته قاله البيضاوي ( أخبركم بخير من كثير من الصلاة والصدقة) زاد في رواية حفص بن غياث والصيام وفي رواية أحمد ومن بعده ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة ( قالوا بلى) أخبرنا ( قال صلح) بضم فسكون وفي رواية الجماعة إصلاح ( ذات البين) أي صلاح الحال التي بين الناس وإنها خير من نوافل الصلاة وما ذكر معها وقال غيره أي إصلاح أحوال البين حتى تكون أحوالكم أحوال صحة وألفة أو هو إصلاح الفساد والفتنة التي بين القوم وذلك لما فيه من عموم المنافع الدينية والدنيوية من التعاون والتناصر والألفة والاجتماع على الخير حتى أبيح فيه الكذب ولكثرة ما يندفع من المضرة في الدين والدنيا وفي رواية أحمد ومن بعده فإن فساد ذات البين هي الحالقة بدل قوله ( وإياكم والبغضة) بكسر الموحدة وإسكان الغين وفتح الضاد المعجمتين وهاء تأنيث شدة البغض وفي رواية والبغضاء بالفتح والمد وهو أيضًا شدته ( فإنها هي الحالقة) أي الخصلة التي شأنها أن تحلق أي تهلك وتستأصل الدين كما يستأصل الموسى الشعر والمراد المزيلة لمن وقع فيها لما يترتب عليه من الفساد والضغائن وقد زاد الدارقطني قال أبو الدرداء أما إني لا أقول حالقة الشعر ولكنها حالقة الدين قال الباجي أي أنها لا تبقي شيئًا من الحسنات حتى تذهب بها كما يذهب الحلق بشعر الرأس ويتركه عاريًا وقال أبو عمر فيه أوضح حجة على تحريم العداوة وفضل المؤاخاة وسلامة الصدور من الغل ( مالك أنه بلغه) رواه أحمد وقاسم بن أصبغ والحاكم والخرايطي برجال الصحيح عن محمد بن عجلان عن القعقاع بن حكيم عن أبي صالح عن أبي هريرة ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال بعثت) وفي رواية إنما بعثت ( لأتمم حسن) بفتحتين وبضم فسكون وفي رواية مكارم وفي رواية صالح ( الأخلاق) قال الباجي كانت العرب أحسن الناس أخلاقًا بما بقي عندهم من شريعة إبراهيم وكانوا ضلوا بالكفر عن كثير منها فبعث صلى الله عليه وسلم ليتمم محاسن الأخلاق ببيان ما ضلوا عنه وبما خص به في شرعه قال ابن عبد البر ويدخل فيه الصلاح والخير كله والدين والفضل والمروءة والإحسان والعدل فبذلك بعث ليتممه قال وهو حديث مدني صحيح متصل من وجوه صحاح عن أبي هريرة وغيره وللطبراني عن جابر مرفوعًا إن الله بعثني بتمام مكارم الأخلاق وكمال محاسن الأفعال وعزاه الديلمي لأحمد عن معاذ قال السخاوي وما رأيته فيه والذي فيه عن أبي هريرة.


رقم الحديث 1636 وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهَا قَالَتْ: مَا خُيِّرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَمْرَيْنِ قَطُّ إِلَّا أَخَذَ أَيْسَرَهُمَا، مَا لَمْ يَكُنْ إِثْمًا، فَإِنْ كَانَ إِثْمًا كَانَ أَبْعَدَ النَّاسِ مِنْهُ، وَمَا انْتَقَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِنَفْسِهِ إِلَّا أَنْ تُنْتَهَكَ حُرْمَةُ اللَّهِ فَيَنْتَقِمُ لِلَّهِ بِهَا.


( مالك أن معاذ بن جبل) كذا ليحيى وابن القاسم والقعنبي ورواه ابن بكير عن مالك عن يحيى بن سعيد عن معاذ وهو مع هذا منقطع جدًا ولا يوجد مسندًا من حديث معاذ ولا غيره بهذا اللفظ لكن ورد معناه قاله ابن عبد البر ( قال آخر ما أوصاني به رسول الله صلى الله عليه وسلم) لما بعثه إلى اليمن ( حين وضعت رجلي في الغرز) بفتح الغين المعجمة وسكون الراء وزاي منقوطة في موضع الركاب من رجل البعير كالركاب للسرج ( أن قال أحسن خلقك للناس يا معاذ بن جبل) فهو منادى بحذف الأداة بأن يظهر منه لمجالسه أو الوارد عليه البشر والحلم والإشفاق والصبر على التعليم والتودد إلى الصغير والكبير والناس وإن كان لفظه عامًا لكن أريد به من يستحق تحسين الخلق لهم فأما أهل الكفر والإصرار على الكبائر والتمادي على الظلم فلا يؤمر بتحسين الخلق لهم بل يؤمر بالإغلاظ عليهم قاله الباجي وهذا آخر الأحاديث الأربعة التي قالوا أنها لم توجد موصولة في غير الموطأ وذلك لا يضر مالكًا الذي قال فيه سفيان بن عيينة كان مالكًا لا يبلغ من الحديث إلا ما كان صحيحًا وإذا قال بلغني فهو إسناد صحيح فتصور المتأخرين عن وجود هذه الأربعة موصولة لا يقدح فيها فلعلها وصلت في الكتب التي لم تصل إليهم وقد قال السيوطي في حديث اختلاف أمتي رحمة لعله خرج في بعض الكتب التي لم تصل إلينا لأنه عزاه لجمع من الأجلة ذكروه في كتبهم بلا إسناد ولا نسبة لمخرج كإمام الحرمين ولا ريب أنهم دون مالك بمراحل بعيدة كيف ومن شواهد هذا الحديث ما رواه أحمد والترمذي وغيرهما بإسناد حسن عن معاذ قال قلت يا رسول الله علمني ما ينفعني قال اتق الله حيث كنت وأتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن.
وأخرج الترمذي عن أنس قال بعث النبي صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل إلى اليمن فقال يا معاذ اتق الله وخالق الناس بخلق حسن وروى قاسم بن أصبغ عن معاذ أن آخر كلمة فارقت عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت يا رسول الله أي العمل أفضل قال لا يزال لسانك رطبًا من ذكر الله فكأنه لما كان آخر ما أوصاه سأله عن هذا فأجابه فكان آخر كلمة فلا خلف ( مالك عن ابن شهاب) الزهري ( عن عروة بن الزبير) ابن العوام ( عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت ما خير) بضم الخاء المعجمة وكسر التحتية الثقيلة قال الحافظ وأيهم فاعل خير ليكون أعم من قبل الله أو من قبل المخلوقين وقال الباجي يحتمل أن المخير له هو الله فيما كلف أمته من الأعمال أو الناس فعلى الأول يكون قوله ما لم يكن إثمًا استثناء منقطعًا ولعل مراده الاستثناء اللغوي وهو الإخراج ( في أمرين) وللتنيسي والقعنبي بين أمرين ( قط) قال الحافظ أي من أمور الدنيا بدليل قوله ما لم يكن إثمًا لأن أمور الدين لا إثم فيها ( إلا أخذ أيسرهما) أي أسهلهما ( ما لم يكن) الأيسر ( إثمًا) أي مفضيًا للإثم ( فإن كان) الأيسر ( إثمًا كان أبعد الناس منه) ويختار الأشد حينئذ وللطبراني الأوسط عن أنس إلا اختار أيسرهما ما لم يكن لله فيه سخط ووقوع التخيير بين ما فيه إثم وما لا إثم فيه من قبل المخلوقين واضح وأما من قبل الله ففيه إشكال لأن التخيير إنما يكون بين جائزين لكن إذا حمل على ما يفضي إلى الإثم أمكن ذلك بأن يخيره بين أن يفتح عليه من كنوز الأرض ما يخشى من الاشتغال به إلا أن يتفرغ للعبادة مثلاً وبين أن لا يؤتيه من الدنيا إلا الكفاف فيختار الكفاف وإن كانت السعة أسهل منه والإثم على هذا أمر نسبي لا يراد منه معنى الخطيئة لثبوت العصمة له انتهى ومثله غيره بالتخيير بين المجاهدة في العبادة والاقتصاد فيها فإن المجاهدة إن كانت بحيث تجر إلى الهلاك لا تجوز ( وما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه) أي خاصة فلا يرد أمره بقتل ابن خطل وعقبة بن أبي معيط وغيرهما ممن كان يؤذيه لأنهم كانوا مع ذلك ينتهكون حرمات الله وقيل إرادة لا ينتقم لنفسه إذا أوذي في غير السبب الذي يخرج إلى الكفر كما عفا عن الأعرابي الذي جفا في رفع صوته عليه وعن الآخر الذي جبذ بردائه حتى أثر في كتفه وقال محمد أعطني من مال الله الذي عندك فالتفت إليه فضحك ثم أمر له بعطاء كما في الصحيحين من طريق مالك عن إسحاق بن عبد الله عن أنس وفي أبي داود ثم دعا رجلاً فقال احمل له على بعيريه هذين على بعير تمرًا وعلى الآخر شعيرًا ( إلا أن تنتهك) بضم الفوقية وسكون النون وفتح الفوقية والهاء أي لكن إذا انتهكت ( حرمة الله) عز وجل ( فينتقم لله) لا لنفسه ممن ارتكب تلك الحرمة ( بها) أي بسببها وللطبراني عن أنس فإذا انتهكت حرمة الله كان أشد الناس غضبًا لله قال الباجي يريد أن يؤذى أذى فيه غضاضة على الدين فإن في ذلك انتهاكًا لحرمة الله فينتقم بذلك إعظامًا لحق الله وقال بعض العلماء لا يجوز أن يؤذى النبي صلى الله عليه وسلم بفعل مباح ولا غيره وأما غيره من الناس فيجوز أن يؤذى بمباح وليس له المنع منه ولا يأثم فاعله وإن وصل بذلك إلى أذى غيره ولذا لم يأذن صلى الله عليه وسلم في نكاح ابنة أبي جهل فجعل حكم ابنته فاطمة حكمه في أنه لا يجوز أن تؤذى بمباح واحتج على ذلك بقوله تعالى { { إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله } } إلى أن قال { { والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا } } فشرط على المؤمنين أن يؤذوا بغير ما اكتسبوا وأطلق الأذى في خاصة النبي صلى الله عليه وسلم من غير شرط انتهى وحمل الداودي عدم انتقامه لنفسه على ما يختص بالمال وأما العرض فقد اقتص مما نال منه قال فاقتص ممن لده في مرضه بعد نهيه عن ذلك بأن أمر بلدهم مع أنهم تأولوا نهيه على عادة البشر من كراهة النفس للدواء قال الحافظ كذا قال وقد أخرج الحاكم هذا الحديث من طريق معمر عن الزهري بإسناد مطولاً وأوله ما لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم مسلمًا بذكر اسمه أي بصريحه ولا ضرب بيده شيئًا قط إلا أن يضرب في سبيل الله ولا سئل عن شيء قط فمنعه إلا أن يسأل مأثمًا ولا انتقم لنفسه من شيء إلا أن تنتهك حرمات الله فيكون الله ينتقم الحديث وهذا السياق سوى صدره عند مسلم من طريق هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة به وفيه الحث على ترك الأخذ بالشيء العسير والاقتناع باليسير وترك الإلحاح فيما لا يضطر إليه ويؤخذ من ذلك ندب الأخذ بالرخص ما لم يظهر الخطأ والحث على العفو إلا في حقوق الله تعالى والندب إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومحله ما لم يفض إلى ما هو أشد منه وفيه ترك الحكم للنفس وإن كان الحاكم متمكنًا من ذلك بحيث يؤمن منه الحيف على المحكوم عليه لكن لحسم المادة وفيه ما كان عليه صلى الله عليه وسلم من الصبر والحلم والقيام بالحق وهذا هو الخلق الحسن المحمود لأنه لو ترك القيام لحق الله وحق غيره كان ذلك مهانة ولو انتقم لنفسه لم يكن ثم صبر وكان هذا الخلق بطشًا فانتفى عنه الطرفان المذمومان وبقي الوسط وخير الأمور أوسطها وأخرجه البخاري في الصفة النبوية عن التنيسي وفي الأدب عن القعنبي ومسلم عن يحيى ثلاثتهم عن مالك به وتابعه منصور بن المعتمر ويونس عن ابن شهاب وتابعه هشام عن عروة كل ذلك عند مسلم ( مالك عن ابن شهاب عن علي بن حسين بن علي بن أبي طالب) مرسلاً عند جماعة رواة الموطأ فيما علمت إلا خالد بن عبد الرحمن الخراساني فقال عن مالك عن ابن شهاب عن علي بن الحسين عن أبيه وخالد ضعيف ليس بحجة فيما خولف فيه ولابن شهاب فيه إسنادان أحدهما مرسل كما قال مالك والآخر عن أبي سلمة عن أبي هريرة وهما من رواية الثقات قاله في التمهيد وقال السيوطي وصله الدارقطني من طريق خالد الخراساني وموسى بن داود الضبي كلاهما عن مالك عن الزهري عن علي بن الحسين عن أبيه قال ابن عبد البر وخالد وموسى لا بأس بهما انتهى ولم أجده في التمهيد إنما فيه ما ذكرته فلعل نسخه اختلفت والحديث حسن بل صحيح أخرجه أحمد وأبو يعلى والترمذي وابن ماجه من حديث الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة وأحمد والطبراني الكبير عن الحسن بن علي والحاكم في الكنى عن أبي ذر العسكري والحاكم في تاريخه عن علي بن أبي طالب والطبراني في الصغير عن زيد بن ثابت وابن عساكر عن الحارث بن هشام ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه) بفتح أوله من عناه كذا إذا تعلقت عنايته به وكان من قصده يعني ترك الفضول كله على اختلاف أنواعه قال ابن العربي لأن المرء لا يقدر أن يشتغل باللازم فكيف يتعداه إلى الفاضل انتهى وفي إفهامه أن من قبح إسلام المرء أخذه ما لا يعنيه لأنه ضياع للوقت النفيس الذي لا يمكن تعويض فائته فيما لم يخلق لأجله فإن الذي يعنيه الإسلام والإيمان والعمل الصالح وما تعلق بضرورة حياته في معاشه من شبع وروي وستر عورة وعفة فرج ونحو ذلك مما يدفع الضرورة دون مزيد النعم وبهذا يسلم من جميع الآفات دنيا وأخرى فمن عبد الله على استحضار قربه من ربه أو قرب ربه منه فقد حسن إسلامه قال الطيبي من تبعيضية ويجوز أنها بيانية وآثر التعبير بالإسلام على الإيمان لأنه الأعمال الظاهرة والفعل والترك إنما يتعاقبان عليها وزاد حسن إيماء إلى أنه لا يتميز بصورة الأعمال فعلاً وتركًا إلا أن اتصف بالحسن بأن توفرت شروط مكملاتها فضلاً عن المصححات وجعل ترك ما لا يعني من الحسن مبالغة قال بعضهم ومما لا يعني تعلم ما لا يهم من العلوم وترك الأهم منه كمن ترك تعلم العلم الذي فيه صلاح نفسه واشتغل بتعلم ما يصلح به غيره كعلم الجدل ويقول في اعتذاره نيتي نفع الناس ولو كان صادقًا لبدأ باشتغاله بما يصلح به نفسه وقلبه من إخراج الصفات المذمومة من نحو حسد ورياء وكبر وعجب وترؤس على الأقران وتطاول عليهم ونحوها من المهلكات قال ابن عبد البر هذا الحديث من الكلام الجامع للمعاني الكثيرة الجليلة في الألفاظ القليلة وهو مما لم يقله أحد قبله صلى الله عليه وسلم لكن روي معناه عن صحف إبراهيم مرفوعًا ثم أخرج بسنده عن أبي ذر قال قلت يا رسول الله ما كانت صحف إبراهيم قال كانت أمثالاً كلها الحديث وفيه وعلى العاقل أن يكون بصيرًا بزمانه مقبلاً على شأنه حافظًا للسانه ومن حسب كلامه من عمله قل كلامه إلا فيما يعنيه وقيل للقمان الحكيم ما الذي بلغ بك ما نرى أي الفضل قال قدر الله وصدق الحديث وأداء الأمانة وترك ما لا يعنيني وروى أبو عبيدة عن الحسن من علامة إعراض الله عن العبد أن يجعل شغله فيما لا يعنيه وقال أبو داود أصول السنن في كل فن أربعة أحاديث هذا وحديث الأعمال بالنيات والحلال بين وازهد في الدنيا وقال الباجي قال حمزة الكناني هذا الحديث ثلث الإسلام والثاني الأعمال بالنيات والثالث الحلال بين والحرام بين وقال غيره هو نصف الإسلام وقيل كله ( مالك أنه بلغه) أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي من طريق سفيان بن عيينة عن محمد بن المنكدر عن عروة ( عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت استأذن رجل) في الدخول ( على النبي صلى الله عليه وسلم) بيته وهو عيينة بن حصن الفزاري كما جزم به ابن بطال وعياض والقرطبي ونقله الباجي عن ابن حبيب عن مالك ورواه عبد الغني في المبهمات عن مالك بلاغًا وابن بشكوال عن يحيى بن أبي كثير أن عيينة استأذن فذكره مرسلاً وقيل هو مخرمة بن نوفل أخرجه عبد الغني عن عائشة قال الحافظ فيحمل على التعدد وقد حكى المنذري القولين فقال هو عيينة وقيل مخرمة وهو الراجح انتهى وتعقب بأن حديث تسميته عيينة صحيح وإن كان مرسلاً وخبر تسميته مخرمة فيه راويان ضعيفان ولذا قال الخطيب وعياض وغيرهما الصحيح أنه عيينة قالوا ويبعد أن يقول صلى الله عليه وسلم في حق مخرمة ما قال لأنه كان من خيار الصحابة ( قالت عائشة وأنا معه في البيت) قبل نزول الحجاب فقال من هذه قال عائشة قال ألا أنزل لك عن أم البنين فغضبت عائشة وقالت من هذا قال صلى الله عليه وسلم هذا الأحمق المطاع رواه سعيد بن منصور يعني في قومه لأنه كان يتبعه منهم عشرة آلاف قناة لا يسألونه أين يريد ( فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم) له ( بئس ابن العشيرة) الجماعة أو القبيلة أو الأدنى إلى الرجل من أهله وهم ولد أبيه وجده وفي رواية البخاري بئس أخو العشيرة وبئس ابن العشيرة ( ثم أذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم) وللبخاري رواية فقال ائذنوا له ( قالت عائشة فلم أنشب) بمعجمة وموحدة ( أن سمعت ضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم معه) وللبخاري فلما جلس تطلق النبي صلى الله عليه وسلم في وجهه وانبسط إليه وله أيضًا فلما دخل ألان له الكلام ( فلما خرج الرجل قلت) مستفهمة ( يا رسول الله قلت فيه ما قلت) بفتح التاء فيهما خطابًا ( ثم لم تنشب أن ضحكت معه) فما السر في ذلك وفي رواية ثم ألنت له القول ( فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم) يا عائشة ( إن من شر الناس من اتقاه الناس لشره) أي قبيح كلامه وفي رواية لهما فقال يا عائشة متى عهدتني فحاشًا إن شر الناس منزلة عند الله يوم القيامة من تركه الناس اتقاء شره فقال الباجي وصفه بذلك ليعلم حاله فيحذر وليس ذلك من باب الغيبة وقال القرطبي فيه جواز غيبة المعلن بالفسق أو الفحش ونحو ذلك مع جواز مداراتهم اتقاء لشرهم ما لم يؤد ذلك إلى المداهنة في دين الله والفرق بينها وبين المداراة أنها بذل الدنيا لصلاح الدنيا أو الدين أو هما معًا وهي مباحة وربما استحسنت والمداهنة بذل الدين لصلاح الدنيا والنبي صلى الله عليه وسلم إنما يذل له من دنياه حسن عشرته والرفق في مكالمته ومع ذلك فلم يمدحه بقول فلم يناقض قوله فيه فعله فإن قوله فيه بئس ابن العشيرة حق وفعله معه حسن عشرة فيزول بهذا التقرير الإشكال انتهى أي الذي هو أن النصيحة فرض وطلاقة الوجه وإلانة القول يستلزمان الترك وحاصل جوابه أن الفرض سقط لعارض وقال عياض لم تكن غيبة والله أعلم حين إذ أسلم فلم يكن القول فيه غيبة أو كان أسلم ولم يكن إسلامه ناصحًا فأراد صلى الله عليه وسلم بيان ذلك لئلا يغتر به من لم يعرف باطنه فيكون ما وصفه به من علامات النبوة وأما إلانة القول بعد أن دخل فعلى سبيل الاستئلاف وقال القرطبي في هذا الحديث إن عيينة ختم له بسوء لأنه صلى الله عليه وسلم ذمه وأخبر بأن من كان كذلك كان شر الناس ورده الحافظ بأن الحديث ورد بلفظ العموم وشرط من اتصف بالصفة المذكورة أن يموت على ذلك وقد ارتد عيينة في زمن الصديق وحارب ثم رجع وأسلم وحضر بعض الفتوح في عهد عمر وفي الأم للشافعي أن عمر قتل عيينة على الردة قال في الإصابة ولم أر ذلك لغيره فإن كان محفوظًا فلا يذكر في الصحابة لكن يحتمل أنه أمر بقتله فبادر إلى الإسلام فعاش إلى خلافة عثمان وقال أيضًا في ترجمة طليحة نقلاً عن الأم أن عمر قتل طليحة وعيينة على الردة فراجعت جلال الدين البلقيني فاستغربه وقال لعله قبلهما بموحدة أي قبل منهما الإسلام بعد الارتداد ( مالك عن عمه أبي سهيل) نافع ( بن مالك عن أبيه) مالك بن أبي عامر الأصبحي ( عن كعب الأحبار أنه قال) موقوفًا ويحتمل أن يكون من الكتب القديمة لأنه حبرها وقد رواه ابن عساكر بسند ضعيف عن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم ( إذا أحببتم) أي أردتم ( أن تعلموا ما للعبد عند ربه) مما قدر له من خير أو شر ( فانظروا) أي تأملوا ( ماذا يتبعه) أي الذي يجري على ألسنة الناس في حياته أو بعد موته ( من حسن الثناء) بفتح المثلثة والمد الوصف بمدح أو به وبذم قال الباجي والمراد ما يذكره أهل الدين والخير دون أهل الضلال والفسق لأنه قد يكون للإنسان العدو فيتبعه بالذكر القبيح انتهى فإن ذكره الصلحاء بشيء علم أن الله أجرى على ألسنتهم ماله عنده فإنهم ينطقون بإلهامه كما يفيده قوله صلى الله عليه وسلم إن لله ملائكة تنطق على ألسنة بني آدم بما في المرء من الخير والشر رواه الحاكم وغيره عن أنس فإن كان خيرًا فليحمد الله ولا يعجب بل يكون خائفًا من مكره الخفي وإن كان شرًا فليبادر بالتوبة ويحذر سطوته وقهره ( مالك عن يحيى بن سعيد أنه قال بلغني) أخرجه ابن عبد البر من طريق زهير عن يحيى بن سعيد عن القاسم بن محمد عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم ( إن المرء) وفي رواية إن الرجل والمراد منهما الإنسان وفي رواية إن المؤمن ( ليدرك بحسن خلقه) قال ابن العربي الخلق أي بالفتح والخلق أي بالضم عبارتان عن جملة الإنسان فالخلق عبارة عن صفته الظاهرة والخلق عبارة عن صفته الباطنة والإشارة بالخلق أي بالضم إلى الإيمان والكفر والعلم والجهل واللين والشدة والمسامحة والاستقصاء والسخاء والبخل وما أشبه ذلك ولبابها في المحمود والمذموم يدور على عشرين خصلة ( درجة) أي مثل درجة أي منزلة ( القائم بالليل) أي المتهجد ( الظامي بالهواجر) أي العطشان في شدة الحر بسبب الصوم لأنهما مجاهدان لأنفسهما في مخالفة حفظهما من الطعام والشراب والنكاح والنوم والقيام والصيام يمنعان من ذلك والنفس أمارة بالسوء تدعو إلى ذلك لأن بالطعام يتقوى وبالنوم ينمو ومن حسن خلقه يجاهد نفسه في تحمل أثقال مساوئ أخلاق الناس لأنه يحمل أثقال غيره ولا يحمل غيره أثقاله وهو جهاد كبير فأدرك ما أدركه القائم الصائم فاستويا في الدرجة قال الباجي المراد أنه يدرك درجة المتنفل بالصلاة والصوم بصبره على الأذى وكفه عن أذى غيره والمقارضة عليه مع سلامة صدره من الغل قال الغزالي ولا يتم لرجل حسن خلقه حتى يتم عقله فعند ذلك يتم إيمانه ويطيع ربه ويعصي عدوه إبليس وهذا الحديث أخرجه أبو داود من وجه آخر عن عائشة والطبراني في الكبير عن أبي أمامة والحاكم وقال صحيح على شرطهما وأقره الذهبي عن أبي هريرة ثلاثتهم مرفوعًا به ( مالك عن يحيى بن سعيد أنه قال سمعت سعيد بن المسيب يقول) موقوفًا لجميع رواة الموطأ إلا إسحاق بن بشر الكامل وهو ضعيف متروك الحديث فرواه عن مالك عن يحيى عن سعيد عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم ورواه الدارقطني من طريق حفص بن غياث عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكره مرسلاً ورواه أيضًا من طريق ابن عيينة عن يحيى عن سعيد عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم وأخرجه البزار من طريق الأعمش عن عمر بن مرة عن سالم بن أبي الجعد عن أم الدرداء عن أبي الدرداء وذكر ابن المديني أن يحيى لم يسمعه من سعيد وإنما بينهما إسماعيل بن أبي حكيم كما حدث به عبد الوهاب ويزيد بن هارون وغيرهما عن يحيى بن سعيد عن إسماعيل عن سعيد بن المسيب مرفوعًا مرسلاً قاله كله ابن عبد البر ملخصًا وتعليل ابن المديني ليس بظاهر فإن يحيى ثقة حافظ باتفاق وقد صرح بالسماع في بعض طرقه فلا مانع أنه سمعه من إسماعيل عن سعيد ثم سمعه من سعيد فحدث به على الوجهين كما أن ابن المسيب حدث به مرسلاً وموقوفًا وموصولاً وأيما كان فالحديث صحيح وقد أخرجه أحمد والبخاري في الأدب المفرد وأبو داود والترمذي وصححه عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( ألا) حرف تنبيه يذكر لتحقيق ما بعدها مركبة من همزة الاستفهام التي هي بمعنى الإنكار ولا التي للنفي والإنكار إذا دخل عليه النفي أفاد التحقيق ولذا لا يكاد يقع بعدها إلا ما كان مصدرًا بنحو ما يتلقى به القسم وشقيقتها أما التي هي من طلائع القسم ومقدماته قاله البيضاوي ( أخبركم بخير من كثير من الصلاة والصدقة) زاد في رواية حفص بن غياث والصيام وفي رواية أحمد ومن بعده ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة ( قالوا بلى) أخبرنا ( قال صلح) بضم فسكون وفي رواية الجماعة إصلاح ( ذات البين) أي صلاح الحال التي بين الناس وإنها خير من نوافل الصلاة وما ذكر معها وقال غيره أي إصلاح أحوال البين حتى تكون أحوالكم أحوال صحة وألفة أو هو إصلاح الفساد والفتنة التي بين القوم وذلك لما فيه من عموم المنافع الدينية والدنيوية من التعاون والتناصر والألفة والاجتماع على الخير حتى أبيح فيه الكذب ولكثرة ما يندفع من المضرة في الدين والدنيا وفي رواية أحمد ومن بعده فإن فساد ذات البين هي الحالقة بدل قوله ( وإياكم والبغضة) بكسر الموحدة وإسكان الغين وفتح الضاد المعجمتين وهاء تأنيث شدة البغض وفي رواية والبغضاء بالفتح والمد وهو أيضًا شدته ( فإنها هي الحالقة) أي الخصلة التي شأنها أن تحلق أي تهلك وتستأصل الدين كما يستأصل الموسى الشعر والمراد المزيلة لمن وقع فيها لما يترتب عليه من الفساد والضغائن وقد زاد الدارقطني قال أبو الدرداء أما إني لا أقول حالقة الشعر ولكنها حالقة الدين قال الباجي أي أنها لا تبقي شيئًا من الحسنات حتى تذهب بها كما يذهب الحلق بشعر الرأس ويتركه عاريًا وقال أبو عمر فيه أوضح حجة على تحريم العداوة وفضل المؤاخاة وسلامة الصدور من الغل ( مالك أنه بلغه) رواه أحمد وقاسم بن أصبغ والحاكم والخرايطي برجال الصحيح عن محمد بن عجلان عن القعقاع بن حكيم عن أبي صالح عن أبي هريرة ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال بعثت) وفي رواية إنما بعثت ( لأتمم حسن) بفتحتين وبضم فسكون وفي رواية مكارم وفي رواية صالح ( الأخلاق) قال الباجي كانت العرب أحسن الناس أخلاقًا بما بقي عندهم من شريعة إبراهيم وكانوا ضلوا بالكفر عن كثير منها فبعث صلى الله عليه وسلم ليتمم محاسن الأخلاق ببيان ما ضلوا عنه وبما خص به في شرعه قال ابن عبد البر ويدخل فيه الصلاح والخير كله والدين والفضل والمروءة والإحسان والعدل فبذلك بعث ليتممه قال وهو حديث مدني صحيح متصل من وجوه صحاح عن أبي هريرة وغيره وللطبراني عن جابر مرفوعًا إن الله بعثني بتمام مكارم الأخلاق وكمال محاسن الأفعال وعزاه الديلمي لأحمد عن معاذ قال السخاوي وما رأيته فيه والذي فيه عن أبي هريرة.


رقم الحديث 1637 وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ حُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: مِنْ حُسْنِ إِسْلَامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ.


( مالك أن معاذ بن جبل) كذا ليحيى وابن القاسم والقعنبي ورواه ابن بكير عن مالك عن يحيى بن سعيد عن معاذ وهو مع هذا منقطع جدًا ولا يوجد مسندًا من حديث معاذ ولا غيره بهذا اللفظ لكن ورد معناه قاله ابن عبد البر ( قال آخر ما أوصاني به رسول الله صلى الله عليه وسلم) لما بعثه إلى اليمن ( حين وضعت رجلي في الغرز) بفتح الغين المعجمة وسكون الراء وزاي منقوطة في موضع الركاب من رجل البعير كالركاب للسرج ( أن قال أحسن خلقك للناس يا معاذ بن جبل) فهو منادى بحذف الأداة بأن يظهر منه لمجالسه أو الوارد عليه البشر والحلم والإشفاق والصبر على التعليم والتودد إلى الصغير والكبير والناس وإن كان لفظه عامًا لكن أريد به من يستحق تحسين الخلق لهم فأما أهل الكفر والإصرار على الكبائر والتمادي على الظلم فلا يؤمر بتحسين الخلق لهم بل يؤمر بالإغلاظ عليهم قاله الباجي وهذا آخر الأحاديث الأربعة التي قالوا أنها لم توجد موصولة في غير الموطأ وذلك لا يضر مالكًا الذي قال فيه سفيان بن عيينة كان مالكًا لا يبلغ من الحديث إلا ما كان صحيحًا وإذا قال بلغني فهو إسناد صحيح فتصور المتأخرين عن وجود هذه الأربعة موصولة لا يقدح فيها فلعلها وصلت في الكتب التي لم تصل إليهم وقد قال السيوطي في حديث اختلاف أمتي رحمة لعله خرج في بعض الكتب التي لم تصل إلينا لأنه عزاه لجمع من الأجلة ذكروه في كتبهم بلا إسناد ولا نسبة لمخرج كإمام الحرمين ولا ريب أنهم دون مالك بمراحل بعيدة كيف ومن شواهد هذا الحديث ما رواه أحمد والترمذي وغيرهما بإسناد حسن عن معاذ قال قلت يا رسول الله علمني ما ينفعني قال اتق الله حيث كنت وأتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن.
وأخرج الترمذي عن أنس قال بعث النبي صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل إلى اليمن فقال يا معاذ اتق الله وخالق الناس بخلق حسن وروى قاسم بن أصبغ عن معاذ أن آخر كلمة فارقت عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت يا رسول الله أي العمل أفضل قال لا يزال لسانك رطبًا من ذكر الله فكأنه لما كان آخر ما أوصاه سأله عن هذا فأجابه فكان آخر كلمة فلا خلف ( مالك عن ابن شهاب) الزهري ( عن عروة بن الزبير) ابن العوام ( عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت ما خير) بضم الخاء المعجمة وكسر التحتية الثقيلة قال الحافظ وأيهم فاعل خير ليكون أعم من قبل الله أو من قبل المخلوقين وقال الباجي يحتمل أن المخير له هو الله فيما كلف أمته من الأعمال أو الناس فعلى الأول يكون قوله ما لم يكن إثمًا استثناء منقطعًا ولعل مراده الاستثناء اللغوي وهو الإخراج ( في أمرين) وللتنيسي والقعنبي بين أمرين ( قط) قال الحافظ أي من أمور الدنيا بدليل قوله ما لم يكن إثمًا لأن أمور الدين لا إثم فيها ( إلا أخذ أيسرهما) أي أسهلهما ( ما لم يكن) الأيسر ( إثمًا) أي مفضيًا للإثم ( فإن كان) الأيسر ( إثمًا كان أبعد الناس منه) ويختار الأشد حينئذ وللطبراني الأوسط عن أنس إلا اختار أيسرهما ما لم يكن لله فيه سخط ووقوع التخيير بين ما فيه إثم وما لا إثم فيه من قبل المخلوقين واضح وأما من قبل الله ففيه إشكال لأن التخيير إنما يكون بين جائزين لكن إذا حمل على ما يفضي إلى الإثم أمكن ذلك بأن يخيره بين أن يفتح عليه من كنوز الأرض ما يخشى من الاشتغال به إلا أن يتفرغ للعبادة مثلاً وبين أن لا يؤتيه من الدنيا إلا الكفاف فيختار الكفاف وإن كانت السعة أسهل منه والإثم على هذا أمر نسبي لا يراد منه معنى الخطيئة لثبوت العصمة له انتهى ومثله غيره بالتخيير بين المجاهدة في العبادة والاقتصاد فيها فإن المجاهدة إن كانت بحيث تجر إلى الهلاك لا تجوز ( وما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه) أي خاصة فلا يرد أمره بقتل ابن خطل وعقبة بن أبي معيط وغيرهما ممن كان يؤذيه لأنهم كانوا مع ذلك ينتهكون حرمات الله وقيل إرادة لا ينتقم لنفسه إذا أوذي في غير السبب الذي يخرج إلى الكفر كما عفا عن الأعرابي الذي جفا في رفع صوته عليه وعن الآخر الذي جبذ بردائه حتى أثر في كتفه وقال محمد أعطني من مال الله الذي عندك فالتفت إليه فضحك ثم أمر له بعطاء كما في الصحيحين من طريق مالك عن إسحاق بن عبد الله عن أنس وفي أبي داود ثم دعا رجلاً فقال احمل له على بعيريه هذين على بعير تمرًا وعلى الآخر شعيرًا ( إلا أن تنتهك) بضم الفوقية وسكون النون وفتح الفوقية والهاء أي لكن إذا انتهكت ( حرمة الله) عز وجل ( فينتقم لله) لا لنفسه ممن ارتكب تلك الحرمة ( بها) أي بسببها وللطبراني عن أنس فإذا انتهكت حرمة الله كان أشد الناس غضبًا لله قال الباجي يريد أن يؤذى أذى فيه غضاضة على الدين فإن في ذلك انتهاكًا لحرمة الله فينتقم بذلك إعظامًا لحق الله وقال بعض العلماء لا يجوز أن يؤذى النبي صلى الله عليه وسلم بفعل مباح ولا غيره وأما غيره من الناس فيجوز أن يؤذى بمباح وليس له المنع منه ولا يأثم فاعله وإن وصل بذلك إلى أذى غيره ولذا لم يأذن صلى الله عليه وسلم في نكاح ابنة أبي جهل فجعل حكم ابنته فاطمة حكمه في أنه لا يجوز أن تؤذى بمباح واحتج على ذلك بقوله تعالى { { إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله } } إلى أن قال { { والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا } } فشرط على المؤمنين أن يؤذوا بغير ما اكتسبوا وأطلق الأذى في خاصة النبي صلى الله عليه وسلم من غير شرط انتهى وحمل الداودي عدم انتقامه لنفسه على ما يختص بالمال وأما العرض فقد اقتص مما نال منه قال فاقتص ممن لده في مرضه بعد نهيه عن ذلك بأن أمر بلدهم مع أنهم تأولوا نهيه على عادة البشر من كراهة النفس للدواء قال الحافظ كذا قال وقد أخرج الحاكم هذا الحديث من طريق معمر عن الزهري بإسناد مطولاً وأوله ما لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم مسلمًا بذكر اسمه أي بصريحه ولا ضرب بيده شيئًا قط إلا أن يضرب في سبيل الله ولا سئل عن شيء قط فمنعه إلا أن يسأل مأثمًا ولا انتقم لنفسه من شيء إلا أن تنتهك حرمات الله فيكون الله ينتقم الحديث وهذا السياق سوى صدره عند مسلم من طريق هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة به وفيه الحث على ترك الأخذ بالشيء العسير والاقتناع باليسير وترك الإلحاح فيما لا يضطر إليه ويؤخذ من ذلك ندب الأخذ بالرخص ما لم يظهر الخطأ والحث على العفو إلا في حقوق الله تعالى والندب إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومحله ما لم يفض إلى ما هو أشد منه وفيه ترك الحكم للنفس وإن كان الحاكم متمكنًا من ذلك بحيث يؤمن منه الحيف على المحكوم عليه لكن لحسم المادة وفيه ما كان عليه صلى الله عليه وسلم من الصبر والحلم والقيام بالحق وهذا هو الخلق الحسن المحمود لأنه لو ترك القيام لحق الله وحق غيره كان ذلك مهانة ولو انتقم لنفسه لم يكن ثم صبر وكان هذا الخلق بطشًا فانتفى عنه الطرفان المذمومان وبقي الوسط وخير الأمور أوسطها وأخرجه البخاري في الصفة النبوية عن التنيسي وفي الأدب عن القعنبي ومسلم عن يحيى ثلاثتهم عن مالك به وتابعه منصور بن المعتمر ويونس عن ابن شهاب وتابعه هشام عن عروة كل ذلك عند مسلم ( مالك عن ابن شهاب عن علي بن حسين بن علي بن أبي طالب) مرسلاً عند جماعة رواة الموطأ فيما علمت إلا خالد بن عبد الرحمن الخراساني فقال عن مالك عن ابن شهاب عن علي بن الحسين عن أبيه وخالد ضعيف ليس بحجة فيما خولف فيه ولابن شهاب فيه إسنادان أحدهما مرسل كما قال مالك والآخر عن أبي سلمة عن أبي هريرة وهما من رواية الثقات قاله في التمهيد وقال السيوطي وصله الدارقطني من طريق خالد الخراساني وموسى بن داود الضبي كلاهما عن مالك عن الزهري عن علي بن الحسين عن أبيه قال ابن عبد البر وخالد وموسى لا بأس بهما انتهى ولم أجده في التمهيد إنما فيه ما ذكرته فلعل نسخه اختلفت والحديث حسن بل صحيح أخرجه أحمد وأبو يعلى والترمذي وابن ماجه من حديث الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة وأحمد والطبراني الكبير عن الحسن بن علي والحاكم في الكنى عن أبي ذر العسكري والحاكم في تاريخه عن علي بن أبي طالب والطبراني في الصغير عن زيد بن ثابت وابن عساكر عن الحارث بن هشام ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه) بفتح أوله من عناه كذا إذا تعلقت عنايته به وكان من قصده يعني ترك الفضول كله على اختلاف أنواعه قال ابن العربي لأن المرء لا يقدر أن يشتغل باللازم فكيف يتعداه إلى الفاضل انتهى وفي إفهامه أن من قبح إسلام المرء أخذه ما لا يعنيه لأنه ضياع للوقت النفيس الذي لا يمكن تعويض فائته فيما لم يخلق لأجله فإن الذي يعنيه الإسلام والإيمان والعمل الصالح وما تعلق بضرورة حياته في معاشه من شبع وروي وستر عورة وعفة فرج ونحو ذلك مما يدفع الضرورة دون مزيد النعم وبهذا يسلم من جميع الآفات دنيا وأخرى فمن عبد الله على استحضار قربه من ربه أو قرب ربه منه فقد حسن إسلامه قال الطيبي من تبعيضية ويجوز أنها بيانية وآثر التعبير بالإسلام على الإيمان لأنه الأعمال الظاهرة والفعل والترك إنما يتعاقبان عليها وزاد حسن إيماء إلى أنه لا يتميز بصورة الأعمال فعلاً وتركًا إلا أن اتصف بالحسن بأن توفرت شروط مكملاتها فضلاً عن المصححات وجعل ترك ما لا يعني من الحسن مبالغة قال بعضهم ومما لا يعني تعلم ما لا يهم من العلوم وترك الأهم منه كمن ترك تعلم العلم الذي فيه صلاح نفسه واشتغل بتعلم ما يصلح به غيره كعلم الجدل ويقول في اعتذاره نيتي نفع الناس ولو كان صادقًا لبدأ باشتغاله بما يصلح به نفسه وقلبه من إخراج الصفات المذمومة من نحو حسد ورياء وكبر وعجب وترؤس على الأقران وتطاول عليهم ونحوها من المهلكات قال ابن عبد البر هذا الحديث من الكلام الجامع للمعاني الكثيرة الجليلة في الألفاظ القليلة وهو مما لم يقله أحد قبله صلى الله عليه وسلم لكن روي معناه عن صحف إبراهيم مرفوعًا ثم أخرج بسنده عن أبي ذر قال قلت يا رسول الله ما كانت صحف إبراهيم قال كانت أمثالاً كلها الحديث وفيه وعلى العاقل أن يكون بصيرًا بزمانه مقبلاً على شأنه حافظًا للسانه ومن حسب كلامه من عمله قل كلامه إلا فيما يعنيه وقيل للقمان الحكيم ما الذي بلغ بك ما نرى أي الفضل قال قدر الله وصدق الحديث وأداء الأمانة وترك ما لا يعنيني وروى أبو عبيدة عن الحسن من علامة إعراض الله عن العبد أن يجعل شغله فيما لا يعنيه وقال أبو داود أصول السنن في كل فن أربعة أحاديث هذا وحديث الأعمال بالنيات والحلال بين وازهد في الدنيا وقال الباجي قال حمزة الكناني هذا الحديث ثلث الإسلام والثاني الأعمال بالنيات والثالث الحلال بين والحرام بين وقال غيره هو نصف الإسلام وقيل كله ( مالك أنه بلغه) أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي من طريق سفيان بن عيينة عن محمد بن المنكدر عن عروة ( عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت استأذن رجل) في الدخول ( على النبي صلى الله عليه وسلم) بيته وهو عيينة بن حصن الفزاري كما جزم به ابن بطال وعياض والقرطبي ونقله الباجي عن ابن حبيب عن مالك ورواه عبد الغني في المبهمات عن مالك بلاغًا وابن بشكوال عن يحيى بن أبي كثير أن عيينة استأذن فذكره مرسلاً وقيل هو مخرمة بن نوفل أخرجه عبد الغني عن عائشة قال الحافظ فيحمل على التعدد وقد حكى المنذري القولين فقال هو عيينة وقيل مخرمة وهو الراجح انتهى وتعقب بأن حديث تسميته عيينة صحيح وإن كان مرسلاً وخبر تسميته مخرمة فيه راويان ضعيفان ولذا قال الخطيب وعياض وغيرهما الصحيح أنه عيينة قالوا ويبعد أن يقول صلى الله عليه وسلم في حق مخرمة ما قال لأنه كان من خيار الصحابة ( قالت عائشة وأنا معه في البيت) قبل نزول الحجاب فقال من هذه قال عائشة قال ألا أنزل لك عن أم البنين فغضبت عائشة وقالت من هذا قال صلى الله عليه وسلم هذا الأحمق المطاع رواه سعيد بن منصور يعني في قومه لأنه كان يتبعه منهم عشرة آلاف قناة لا يسألونه أين يريد ( فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم) له ( بئس ابن العشيرة) الجماعة أو القبيلة أو الأدنى إلى الرجل من أهله وهم ولد أبيه وجده وفي رواية البخاري بئس أخو العشيرة وبئس ابن العشيرة ( ثم أذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم) وللبخاري رواية فقال ائذنوا له ( قالت عائشة فلم أنشب) بمعجمة وموحدة ( أن سمعت ضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم معه) وللبخاري فلما جلس تطلق النبي صلى الله عليه وسلم في وجهه وانبسط إليه وله أيضًا فلما دخل ألان له الكلام ( فلما خرج الرجل قلت) مستفهمة ( يا رسول الله قلت فيه ما قلت) بفتح التاء فيهما خطابًا ( ثم لم تنشب أن ضحكت معه) فما السر في ذلك وفي رواية ثم ألنت له القول ( فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم) يا عائشة ( إن من شر الناس من اتقاه الناس لشره) أي قبيح كلامه وفي رواية لهما فقال يا عائشة متى عهدتني فحاشًا إن شر الناس منزلة عند الله يوم القيامة من تركه الناس اتقاء شره فقال الباجي وصفه بذلك ليعلم حاله فيحذر وليس ذلك من باب الغيبة وقال القرطبي فيه جواز غيبة المعلن بالفسق أو الفحش ونحو ذلك مع جواز مداراتهم اتقاء لشرهم ما لم يؤد ذلك إلى المداهنة في دين الله والفرق بينها وبين المداراة أنها بذل الدنيا لصلاح الدنيا أو الدين أو هما معًا وهي مباحة وربما استحسنت والمداهنة بذل الدين لصلاح الدنيا والنبي صلى الله عليه وسلم إنما يذل له من دنياه حسن عشرته والرفق في مكالمته ومع ذلك فلم يمدحه بقول فلم يناقض قوله فيه فعله فإن قوله فيه بئس ابن العشيرة حق وفعله معه حسن عشرة فيزول بهذا التقرير الإشكال انتهى أي الذي هو أن النصيحة فرض وطلاقة الوجه وإلانة القول يستلزمان الترك وحاصل جوابه أن الفرض سقط لعارض وقال عياض لم تكن غيبة والله أعلم حين إذ أسلم فلم يكن القول فيه غيبة أو كان أسلم ولم يكن إسلامه ناصحًا فأراد صلى الله عليه وسلم بيان ذلك لئلا يغتر به من لم يعرف باطنه فيكون ما وصفه به من علامات النبوة وأما إلانة القول بعد أن دخل فعلى سبيل الاستئلاف وقال القرطبي في هذا الحديث إن عيينة ختم له بسوء لأنه صلى الله عليه وسلم ذمه وأخبر بأن من كان كذلك كان شر الناس ورده الحافظ بأن الحديث ورد بلفظ العموم وشرط من اتصف بالصفة المذكورة أن يموت على ذلك وقد ارتد عيينة في زمن الصديق وحارب ثم رجع وأسلم وحضر بعض الفتوح في عهد عمر وفي الأم للشافعي أن عمر قتل عيينة على الردة قال في الإصابة ولم أر ذلك لغيره فإن كان محفوظًا فلا يذكر في الصحابة لكن يحتمل أنه أمر بقتله فبادر إلى الإسلام فعاش إلى خلافة عثمان وقال أيضًا في ترجمة طليحة نقلاً عن الأم أن عمر قتل طليحة وعيينة على الردة فراجعت جلال الدين البلقيني فاستغربه وقال لعله قبلهما بموحدة أي قبل منهما الإسلام بعد الارتداد ( مالك عن عمه أبي سهيل) نافع ( بن مالك عن أبيه) مالك بن أبي عامر الأصبحي ( عن كعب الأحبار أنه قال) موقوفًا ويحتمل أن يكون من الكتب القديمة لأنه حبرها وقد رواه ابن عساكر بسند ضعيف عن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم ( إذا أحببتم) أي أردتم ( أن تعلموا ما للعبد عند ربه) مما قدر له من خير أو شر ( فانظروا) أي تأملوا ( ماذا يتبعه) أي الذي يجري على ألسنة الناس في حياته أو بعد موته ( من حسن الثناء) بفتح المثلثة والمد الوصف بمدح أو به وبذم قال الباجي والمراد ما يذكره أهل الدين والخير دون أهل الضلال والفسق لأنه قد يكون للإنسان العدو فيتبعه بالذكر القبيح انتهى فإن ذكره الصلحاء بشيء علم أن الله أجرى على ألسنتهم ماله عنده فإنهم ينطقون بإلهامه كما يفيده قوله صلى الله عليه وسلم إن لله ملائكة تنطق على ألسنة بني آدم بما في المرء من الخير والشر رواه الحاكم وغيره عن أنس فإن كان خيرًا فليحمد الله ولا يعجب بل يكون خائفًا من مكره الخفي وإن كان شرًا فليبادر بالتوبة ويحذر سطوته وقهره ( مالك عن يحيى بن سعيد أنه قال بلغني) أخرجه ابن عبد البر من طريق زهير عن يحيى بن سعيد عن القاسم بن محمد عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم ( إن المرء) وفي رواية إن الرجل والمراد منهما الإنسان وفي رواية إن المؤمن ( ليدرك بحسن خلقه) قال ابن العربي الخلق أي بالفتح والخلق أي بالضم عبارتان عن جملة الإنسان فالخلق عبارة عن صفته الظاهرة والخلق عبارة عن صفته الباطنة والإشارة بالخلق أي بالضم إلى الإيمان والكفر والعلم والجهل واللين والشدة والمسامحة والاستقصاء والسخاء والبخل وما أشبه ذلك ولبابها في المحمود والمذموم يدور على عشرين خصلة ( درجة) أي مثل درجة أي منزلة ( القائم بالليل) أي المتهجد ( الظامي بالهواجر) أي العطشان في شدة الحر بسبب الصوم لأنهما مجاهدان لأنفسهما في مخالفة حفظهما من الطعام والشراب والنكاح والنوم والقيام والصيام يمنعان من ذلك والنفس أمارة بالسوء تدعو إلى ذلك لأن بالطعام يتقوى وبالنوم ينمو ومن حسن خلقه يجاهد نفسه في تحمل أثقال مساوئ أخلاق الناس لأنه يحمل أثقال غيره ولا يحمل غيره أثقاله وهو جهاد كبير فأدرك ما أدركه القائم الصائم فاستويا في الدرجة قال الباجي المراد أنه يدرك درجة المتنفل بالصلاة والصوم بصبره على الأذى وكفه عن أذى غيره والمقارضة عليه مع سلامة صدره من الغل قال الغزالي ولا يتم لرجل حسن خلقه حتى يتم عقله فعند ذلك يتم إيمانه ويطيع ربه ويعصي عدوه إبليس وهذا الحديث أخرجه أبو داود من وجه آخر عن عائشة والطبراني في الكبير عن أبي أمامة والحاكم وقال صحيح على شرطهما وأقره الذهبي عن أبي هريرة ثلاثتهم مرفوعًا به ( مالك عن يحيى بن سعيد أنه قال سمعت سعيد بن المسيب يقول) موقوفًا لجميع رواة الموطأ إلا إسحاق بن بشر الكامل وهو ضعيف متروك الحديث فرواه عن مالك عن يحيى عن سعيد عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم ورواه الدارقطني من طريق حفص بن غياث عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكره مرسلاً ورواه أيضًا من طريق ابن عيينة عن يحيى عن سعيد عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم وأخرجه البزار من طريق الأعمش عن عمر بن مرة عن سالم بن أبي الجعد عن أم الدرداء عن أبي الدرداء وذكر ابن المديني أن يحيى لم يسمعه من سعيد وإنما بينهما إسماعيل بن أبي حكيم كما حدث به عبد الوهاب ويزيد بن هارون وغيرهما عن يحيى بن سعيد عن إسماعيل عن سعيد بن المسيب مرفوعًا مرسلاً قاله كله ابن عبد البر ملخصًا وتعليل ابن المديني ليس بظاهر فإن يحيى ثقة حافظ باتفاق وقد صرح بالسماع في بعض طرقه فلا مانع أنه سمعه من إسماعيل عن سعيد ثم سمعه من سعيد فحدث به على الوجهين كما أن ابن المسيب حدث به مرسلاً وموقوفًا وموصولاً وأيما كان فالحديث صحيح وقد أخرجه أحمد والبخاري في الأدب المفرد وأبو داود والترمذي وصححه عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( ألا) حرف تنبيه يذكر لتحقيق ما بعدها مركبة من همزة الاستفهام التي هي بمعنى الإنكار ولا التي للنفي والإنكار إذا دخل عليه النفي أفاد التحقيق ولذا لا يكاد يقع بعدها إلا ما كان مصدرًا بنحو ما يتلقى به القسم وشقيقتها أما التي هي من طلائع القسم ومقدماته قاله البيضاوي ( أخبركم بخير من كثير من الصلاة والصدقة) زاد في رواية حفص بن غياث والصيام وفي رواية أحمد ومن بعده ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة ( قالوا بلى) أخبرنا ( قال صلح) بضم فسكون وفي رواية الجماعة إصلاح ( ذات البين) أي صلاح الحال التي بين الناس وإنها خير من نوافل الصلاة وما ذكر معها وقال غيره أي إصلاح أحوال البين حتى تكون أحوالكم أحوال صحة وألفة أو هو إصلاح الفساد والفتنة التي بين القوم وذلك لما فيه من عموم المنافع الدينية والدنيوية من التعاون والتناصر والألفة والاجتماع على الخير حتى أبيح فيه الكذب ولكثرة ما يندفع من المضرة في الدين والدنيا وفي رواية أحمد ومن بعده فإن فساد ذات البين هي الحالقة بدل قوله ( وإياكم والبغضة) بكسر الموحدة وإسكان الغين وفتح الضاد المعجمتين وهاء تأنيث شدة البغض وفي رواية والبغضاء بالفتح والمد وهو أيضًا شدته ( فإنها هي الحالقة) أي الخصلة التي شأنها أن تحلق أي تهلك وتستأصل الدين كما يستأصل الموسى الشعر والمراد المزيلة لمن وقع فيها لما يترتب عليه من الفساد والضغائن وقد زاد الدارقطني قال أبو الدرداء أما إني لا أقول حالقة الشعر ولكنها حالقة الدين قال الباجي أي أنها لا تبقي شيئًا من الحسنات حتى تذهب بها كما يذهب الحلق بشعر الرأس ويتركه عاريًا وقال أبو عمر فيه أوضح حجة على تحريم العداوة وفضل المؤاخاة وسلامة الصدور من الغل ( مالك أنه بلغه) رواه أحمد وقاسم بن أصبغ والحاكم والخرايطي برجال الصحيح عن محمد بن عجلان عن القعقاع بن حكيم عن أبي صالح عن أبي هريرة ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال بعثت) وفي رواية إنما بعثت ( لأتمم حسن) بفتحتين وبضم فسكون وفي رواية مكارم وفي رواية صالح ( الأخلاق) قال الباجي كانت العرب أحسن الناس أخلاقًا بما بقي عندهم من شريعة إبراهيم وكانوا ضلوا بالكفر عن كثير منها فبعث صلى الله عليه وسلم ليتمم محاسن الأخلاق ببيان ما ضلوا عنه وبما خص به في شرعه قال ابن عبد البر ويدخل فيه الصلاح والخير كله والدين والفضل والمروءة والإحسان والعدل فبذلك بعث ليتممه قال وهو حديث مدني صحيح متصل من وجوه صحاح عن أبي هريرة وغيره وللطبراني عن جابر مرفوعًا إن الله بعثني بتمام مكارم الأخلاق وكمال محاسن الأفعال وعزاه الديلمي لأحمد عن معاذ قال السخاوي وما رأيته فيه والذي فيه عن أبي هريرة.


رقم الحديث 1638 وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ بَلَغَهُ عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهَا قَالَتِ: اسْتَأْذَنَ رَجُلٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَتْ عَائِشَةُ وَأَنَا مَعَهُ فِي الْبَيْتِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بِئْسَ ابْنُ الْعَشِيرَةِ، ثُمَّ أَذِنَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَتْ عَائِشَةُ: فَلَمْ أَنْشَبْ أَنْ سَمِعْتُ ضَحِكَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَهُ، فَلَمَّا خَرَجَ الرَّجُلُ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قُلْتَ فِيهِ مَا قُلْتَ، ثُمَّ لَمْ تَنْشَبْ أَنْ ضَحِكْتَ مَعَهُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ مِنْ شَرِّ النَّاسِ مَنِ اتَّقَاهُ النَّاسُ لِشَرِّهِ.


( مالك أن معاذ بن جبل) كذا ليحيى وابن القاسم والقعنبي ورواه ابن بكير عن مالك عن يحيى بن سعيد عن معاذ وهو مع هذا منقطع جدًا ولا يوجد مسندًا من حديث معاذ ولا غيره بهذا اللفظ لكن ورد معناه قاله ابن عبد البر ( قال آخر ما أوصاني به رسول الله صلى الله عليه وسلم) لما بعثه إلى اليمن ( حين وضعت رجلي في الغرز) بفتح الغين المعجمة وسكون الراء وزاي منقوطة في موضع الركاب من رجل البعير كالركاب للسرج ( أن قال أحسن خلقك للناس يا معاذ بن جبل) فهو منادى بحذف الأداة بأن يظهر منه لمجالسه أو الوارد عليه البشر والحلم والإشفاق والصبر على التعليم والتودد إلى الصغير والكبير والناس وإن كان لفظه عامًا لكن أريد به من يستحق تحسين الخلق لهم فأما أهل الكفر والإصرار على الكبائر والتمادي على الظلم فلا يؤمر بتحسين الخلق لهم بل يؤمر بالإغلاظ عليهم قاله الباجي وهذا آخر الأحاديث الأربعة التي قالوا أنها لم توجد موصولة في غير الموطأ وذلك لا يضر مالكًا الذي قال فيه سفيان بن عيينة كان مالكًا لا يبلغ من الحديث إلا ما كان صحيحًا وإذا قال بلغني فهو إسناد صحيح فتصور المتأخرين عن وجود هذه الأربعة موصولة لا يقدح فيها فلعلها وصلت في الكتب التي لم تصل إليهم وقد قال السيوطي في حديث اختلاف أمتي رحمة لعله خرج في بعض الكتب التي لم تصل إلينا لأنه عزاه لجمع من الأجلة ذكروه في كتبهم بلا إسناد ولا نسبة لمخرج كإمام الحرمين ولا ريب أنهم دون مالك بمراحل بعيدة كيف ومن شواهد هذا الحديث ما رواه أحمد والترمذي وغيرهما بإسناد حسن عن معاذ قال قلت يا رسول الله علمني ما ينفعني قال اتق الله حيث كنت وأتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن.
وأخرج الترمذي عن أنس قال بعث النبي صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل إلى اليمن فقال يا معاذ اتق الله وخالق الناس بخلق حسن وروى قاسم بن أصبغ عن معاذ أن آخر كلمة فارقت عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت يا رسول الله أي العمل أفضل قال لا يزال لسانك رطبًا من ذكر الله فكأنه لما كان آخر ما أوصاه سأله عن هذا فأجابه فكان آخر كلمة فلا خلف ( مالك عن ابن شهاب) الزهري ( عن عروة بن الزبير) ابن العوام ( عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت ما خير) بضم الخاء المعجمة وكسر التحتية الثقيلة قال الحافظ وأيهم فاعل خير ليكون أعم من قبل الله أو من قبل المخلوقين وقال الباجي يحتمل أن المخير له هو الله فيما كلف أمته من الأعمال أو الناس فعلى الأول يكون قوله ما لم يكن إثمًا استثناء منقطعًا ولعل مراده الاستثناء اللغوي وهو الإخراج ( في أمرين) وللتنيسي والقعنبي بين أمرين ( قط) قال الحافظ أي من أمور الدنيا بدليل قوله ما لم يكن إثمًا لأن أمور الدين لا إثم فيها ( إلا أخذ أيسرهما) أي أسهلهما ( ما لم يكن) الأيسر ( إثمًا) أي مفضيًا للإثم ( فإن كان) الأيسر ( إثمًا كان أبعد الناس منه) ويختار الأشد حينئذ وللطبراني الأوسط عن أنس إلا اختار أيسرهما ما لم يكن لله فيه سخط ووقوع التخيير بين ما فيه إثم وما لا إثم فيه من قبل المخلوقين واضح وأما من قبل الله ففيه إشكال لأن التخيير إنما يكون بين جائزين لكن إذا حمل على ما يفضي إلى الإثم أمكن ذلك بأن يخيره بين أن يفتح عليه من كنوز الأرض ما يخشى من الاشتغال به إلا أن يتفرغ للعبادة مثلاً وبين أن لا يؤتيه من الدنيا إلا الكفاف فيختار الكفاف وإن كانت السعة أسهل منه والإثم على هذا أمر نسبي لا يراد منه معنى الخطيئة لثبوت العصمة له انتهى ومثله غيره بالتخيير بين المجاهدة في العبادة والاقتصاد فيها فإن المجاهدة إن كانت بحيث تجر إلى الهلاك لا تجوز ( وما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه) أي خاصة فلا يرد أمره بقتل ابن خطل وعقبة بن أبي معيط وغيرهما ممن كان يؤذيه لأنهم كانوا مع ذلك ينتهكون حرمات الله وقيل إرادة لا ينتقم لنفسه إذا أوذي في غير السبب الذي يخرج إلى الكفر كما عفا عن الأعرابي الذي جفا في رفع صوته عليه وعن الآخر الذي جبذ بردائه حتى أثر في كتفه وقال محمد أعطني من مال الله الذي عندك فالتفت إليه فضحك ثم أمر له بعطاء كما في الصحيحين من طريق مالك عن إسحاق بن عبد الله عن أنس وفي أبي داود ثم دعا رجلاً فقال احمل له على بعيريه هذين على بعير تمرًا وعلى الآخر شعيرًا ( إلا أن تنتهك) بضم الفوقية وسكون النون وفتح الفوقية والهاء أي لكن إذا انتهكت ( حرمة الله) عز وجل ( فينتقم لله) لا لنفسه ممن ارتكب تلك الحرمة ( بها) أي بسببها وللطبراني عن أنس فإذا انتهكت حرمة الله كان أشد الناس غضبًا لله قال الباجي يريد أن يؤذى أذى فيه غضاضة على الدين فإن في ذلك انتهاكًا لحرمة الله فينتقم بذلك إعظامًا لحق الله وقال بعض العلماء لا يجوز أن يؤذى النبي صلى الله عليه وسلم بفعل مباح ولا غيره وأما غيره من الناس فيجوز أن يؤذى بمباح وليس له المنع منه ولا يأثم فاعله وإن وصل بذلك إلى أذى غيره ولذا لم يأذن صلى الله عليه وسلم في نكاح ابنة أبي جهل فجعل حكم ابنته فاطمة حكمه في أنه لا يجوز أن تؤذى بمباح واحتج على ذلك بقوله تعالى { { إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله } } إلى أن قال { { والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا } } فشرط على المؤمنين أن يؤذوا بغير ما اكتسبوا وأطلق الأذى في خاصة النبي صلى الله عليه وسلم من غير شرط انتهى وحمل الداودي عدم انتقامه لنفسه على ما يختص بالمال وأما العرض فقد اقتص مما نال منه قال فاقتص ممن لده في مرضه بعد نهيه عن ذلك بأن أمر بلدهم مع أنهم تأولوا نهيه على عادة البشر من كراهة النفس للدواء قال الحافظ كذا قال وقد أخرج الحاكم هذا الحديث من طريق معمر عن الزهري بإسناد مطولاً وأوله ما لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم مسلمًا بذكر اسمه أي بصريحه ولا ضرب بيده شيئًا قط إلا أن يضرب في سبيل الله ولا سئل عن شيء قط فمنعه إلا أن يسأل مأثمًا ولا انتقم لنفسه من شيء إلا أن تنتهك حرمات الله فيكون الله ينتقم الحديث وهذا السياق سوى صدره عند مسلم من طريق هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة به وفيه الحث على ترك الأخذ بالشيء العسير والاقتناع باليسير وترك الإلحاح فيما لا يضطر إليه ويؤخذ من ذلك ندب الأخذ بالرخص ما لم يظهر الخطأ والحث على العفو إلا في حقوق الله تعالى والندب إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومحله ما لم يفض إلى ما هو أشد منه وفيه ترك الحكم للنفس وإن كان الحاكم متمكنًا من ذلك بحيث يؤمن منه الحيف على المحكوم عليه لكن لحسم المادة وفيه ما كان عليه صلى الله عليه وسلم من الصبر والحلم والقيام بالحق وهذا هو الخلق الحسن المحمود لأنه لو ترك القيام لحق الله وحق غيره كان ذلك مهانة ولو انتقم لنفسه لم يكن ثم صبر وكان هذا الخلق بطشًا فانتفى عنه الطرفان المذمومان وبقي الوسط وخير الأمور أوسطها وأخرجه البخاري في الصفة النبوية عن التنيسي وفي الأدب عن القعنبي ومسلم عن يحيى ثلاثتهم عن مالك به وتابعه منصور بن المعتمر ويونس عن ابن شهاب وتابعه هشام عن عروة كل ذلك عند مسلم ( مالك عن ابن شهاب عن علي بن حسين بن علي بن أبي طالب) مرسلاً عند جماعة رواة الموطأ فيما علمت إلا خالد بن عبد الرحمن الخراساني فقال عن مالك عن ابن شهاب عن علي بن الحسين عن أبيه وخالد ضعيف ليس بحجة فيما خولف فيه ولابن شهاب فيه إسنادان أحدهما مرسل كما قال مالك والآخر عن أبي سلمة عن أبي هريرة وهما من رواية الثقات قاله في التمهيد وقال السيوطي وصله الدارقطني من طريق خالد الخراساني وموسى بن داود الضبي كلاهما عن مالك عن الزهري عن علي بن الحسين عن أبيه قال ابن عبد البر وخالد وموسى لا بأس بهما انتهى ولم أجده في التمهيد إنما فيه ما ذكرته فلعل نسخه اختلفت والحديث حسن بل صحيح أخرجه أحمد وأبو يعلى والترمذي وابن ماجه من حديث الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة وأحمد والطبراني الكبير عن الحسن بن علي والحاكم في الكنى عن أبي ذر العسكري والحاكم في تاريخه عن علي بن أبي طالب والطبراني في الصغير عن زيد بن ثابت وابن عساكر عن الحارث بن هشام ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه) بفتح أوله من عناه كذا إذا تعلقت عنايته به وكان من قصده يعني ترك الفضول كله على اختلاف أنواعه قال ابن العربي لأن المرء لا يقدر أن يشتغل باللازم فكيف يتعداه إلى الفاضل انتهى وفي إفهامه أن من قبح إسلام المرء أخذه ما لا يعنيه لأنه ضياع للوقت النفيس الذي لا يمكن تعويض فائته فيما لم يخلق لأجله فإن الذي يعنيه الإسلام والإيمان والعمل الصالح وما تعلق بضرورة حياته في معاشه من شبع وروي وستر عورة وعفة فرج ونحو ذلك مما يدفع الضرورة دون مزيد النعم وبهذا يسلم من جميع الآفات دنيا وأخرى فمن عبد الله على استحضار قربه من ربه أو قرب ربه منه فقد حسن إسلامه قال الطيبي من تبعيضية ويجوز أنها بيانية وآثر التعبير بالإسلام على الإيمان لأنه الأعمال الظاهرة والفعل والترك إنما يتعاقبان عليها وزاد حسن إيماء إلى أنه لا يتميز بصورة الأعمال فعلاً وتركًا إلا أن اتصف بالحسن بأن توفرت شروط مكملاتها فضلاً عن المصححات وجعل ترك ما لا يعني من الحسن مبالغة قال بعضهم ومما لا يعني تعلم ما لا يهم من العلوم وترك الأهم منه كمن ترك تعلم العلم الذي فيه صلاح نفسه واشتغل بتعلم ما يصلح به غيره كعلم الجدل ويقول في اعتذاره نيتي نفع الناس ولو كان صادقًا لبدأ باشتغاله بما يصلح به نفسه وقلبه من إخراج الصفات المذمومة من نحو حسد ورياء وكبر وعجب وترؤس على الأقران وتطاول عليهم ونحوها من المهلكات قال ابن عبد البر هذا الحديث من الكلام الجامع للمعاني الكثيرة الجليلة في الألفاظ القليلة وهو مما لم يقله أحد قبله صلى الله عليه وسلم لكن روي معناه عن صحف إبراهيم مرفوعًا ثم أخرج بسنده عن أبي ذر قال قلت يا رسول الله ما كانت صحف إبراهيم قال كانت أمثالاً كلها الحديث وفيه وعلى العاقل أن يكون بصيرًا بزمانه مقبلاً على شأنه حافظًا للسانه ومن حسب كلامه من عمله قل كلامه إلا فيما يعنيه وقيل للقمان الحكيم ما الذي بلغ بك ما نرى أي الفضل قال قدر الله وصدق الحديث وأداء الأمانة وترك ما لا يعنيني وروى أبو عبيدة عن الحسن من علامة إعراض الله عن العبد أن يجعل شغله فيما لا يعنيه وقال أبو داود أصول السنن في كل فن أربعة أحاديث هذا وحديث الأعمال بالنيات والحلال بين وازهد في الدنيا وقال الباجي قال حمزة الكناني هذا الحديث ثلث الإسلام والثاني الأعمال بالنيات والثالث الحلال بين والحرام بين وقال غيره هو نصف الإسلام وقيل كله ( مالك أنه بلغه) أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي من طريق سفيان بن عيينة عن محمد بن المنكدر عن عروة ( عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت استأذن رجل) في الدخول ( على النبي صلى الله عليه وسلم) بيته وهو عيينة بن حصن الفزاري كما جزم به ابن بطال وعياض والقرطبي ونقله الباجي عن ابن حبيب عن مالك ورواه عبد الغني في المبهمات عن مالك بلاغًا وابن بشكوال عن يحيى بن أبي كثير أن عيينة استأذن فذكره مرسلاً وقيل هو مخرمة بن نوفل أخرجه عبد الغني عن عائشة قال الحافظ فيحمل على التعدد وقد حكى المنذري القولين فقال هو عيينة وقيل مخرمة وهو الراجح انتهى وتعقب بأن حديث تسميته عيينة صحيح وإن كان مرسلاً وخبر تسميته مخرمة فيه راويان ضعيفان ولذا قال الخطيب وعياض وغيرهما الصحيح أنه عيينة قالوا ويبعد أن يقول صلى الله عليه وسلم في حق مخرمة ما قال لأنه كان من خيار الصحابة ( قالت عائشة وأنا معه في البيت) قبل نزول الحجاب فقال من هذه قال عائشة قال ألا أنزل لك عن أم البنين فغضبت عائشة وقالت من هذا قال صلى الله عليه وسلم هذا الأحمق المطاع رواه سعيد بن منصور يعني في قومه لأنه كان يتبعه منهم عشرة آلاف قناة لا يسألونه أين يريد ( فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم) له ( بئس ابن العشيرة) الجماعة أو القبيلة أو الأدنى إلى الرجل من أهله وهم ولد أبيه وجده وفي رواية البخاري بئس أخو العشيرة وبئس ابن العشيرة ( ثم أذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم) وللبخاري رواية فقال ائذنوا له ( قالت عائشة فلم أنشب) بمعجمة وموحدة ( أن سمعت ضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم معه) وللبخاري فلما جلس تطلق النبي صلى الله عليه وسلم في وجهه وانبسط إليه وله أيضًا فلما دخل ألان له الكلام ( فلما خرج الرجل قلت) مستفهمة ( يا رسول الله قلت فيه ما قلت) بفتح التاء فيهما خطابًا ( ثم لم تنشب أن ضحكت معه) فما السر في ذلك وفي رواية ثم ألنت له القول ( فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم) يا عائشة ( إن من شر الناس من اتقاه الناس لشره) أي قبيح كلامه وفي رواية لهما فقال يا عائشة متى عهدتني فحاشًا إن شر الناس منزلة عند الله يوم القيامة من تركه الناس اتقاء شره فقال الباجي وصفه بذلك ليعلم حاله فيحذر وليس ذلك من باب الغيبة وقال القرطبي فيه جواز غيبة المعلن بالفسق أو الفحش ونحو ذلك مع جواز مداراتهم اتقاء لشرهم ما لم يؤد ذلك إلى المداهنة في دين الله والفرق بينها وبين المداراة أنها بذل الدنيا لصلاح الدنيا أو الدين أو هما معًا وهي مباحة وربما استحسنت والمداهنة بذل الدين لصلاح الدنيا والنبي صلى الله عليه وسلم إنما يذل له من دنياه حسن عشرته والرفق في مكالمته ومع ذلك فلم يمدحه بقول فلم يناقض قوله فيه فعله فإن قوله فيه بئس ابن العشيرة حق وفعله معه حسن عشرة فيزول بهذا التقرير الإشكال انتهى أي الذي هو أن النصيحة فرض وطلاقة الوجه وإلانة القول يستلزمان الترك وحاصل جوابه أن الفرض سقط لعارض وقال عياض لم تكن غيبة والله أعلم حين إذ أسلم فلم يكن القول فيه غيبة أو كان أسلم ولم يكن إسلامه ناصحًا فأراد صلى الله عليه وسلم بيان ذلك لئلا يغتر به من لم يعرف باطنه فيكون ما وصفه به من علامات النبوة وأما إلانة القول بعد أن دخل فعلى سبيل الاستئلاف وقال القرطبي في هذا الحديث إن عيينة ختم له بسوء لأنه صلى الله عليه وسلم ذمه وأخبر بأن من كان كذلك كان شر الناس ورده الحافظ بأن الحديث ورد بلفظ العموم وشرط من اتصف بالصفة المذكورة أن يموت على ذلك وقد ارتد عيينة في زمن الصديق وحارب ثم رجع وأسلم وحضر بعض الفتوح في عهد عمر وفي الأم للشافعي أن عمر قتل عيينة على الردة قال في الإصابة ولم أر ذلك لغيره فإن كان محفوظًا فلا يذكر في الصحابة لكن يحتمل أنه أمر بقتله فبادر إلى الإسلام فعاش إلى خلافة عثمان وقال أيضًا في ترجمة طليحة نقلاً عن الأم أن عمر قتل طليحة وعيينة على الردة فراجعت جلال الدين البلقيني فاستغربه وقال لعله قبلهما بموحدة أي قبل منهما الإسلام بعد الارتداد ( مالك عن عمه أبي سهيل) نافع ( بن مالك عن أبيه) مالك بن أبي عامر الأصبحي ( عن كعب الأحبار أنه قال) موقوفًا ويحتمل أن يكون من الكتب القديمة لأنه حبرها وقد رواه ابن عساكر بسند ضعيف عن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم ( إذا أحببتم) أي أردتم ( أن تعلموا ما للعبد عند ربه) مما قدر له من خير أو شر ( فانظروا) أي تأملوا ( ماذا يتبعه) أي الذي يجري على ألسنة الناس في حياته أو بعد موته ( من حسن الثناء) بفتح المثلثة والمد الوصف بمدح أو به وبذم قال الباجي والمراد ما يذكره أهل الدين والخير دون أهل الضلال والفسق لأنه قد يكون للإنسان العدو فيتبعه بالذكر القبيح انتهى فإن ذكره الصلحاء بشيء علم أن الله أجرى على ألسنتهم ماله عنده فإنهم ينطقون بإلهامه كما يفيده قوله صلى الله عليه وسلم إن لله ملائكة تنطق على ألسنة بني آدم بما في المرء من الخير والشر رواه الحاكم وغيره عن أنس فإن كان خيرًا فليحمد الله ولا يعجب بل يكون خائفًا من مكره الخفي وإن كان شرًا فليبادر بالتوبة ويحذر سطوته وقهره ( مالك عن يحيى بن سعيد أنه قال بلغني) أخرجه ابن عبد البر من طريق زهير عن يحيى بن سعيد عن القاسم بن محمد عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم ( إن المرء) وفي رواية إن الرجل والمراد منهما الإنسان وفي رواية إن المؤمن ( ليدرك بحسن خلقه) قال ابن العربي الخلق أي بالفتح والخلق أي بالضم عبارتان عن جملة الإنسان فالخلق عبارة عن صفته الظاهرة والخلق عبارة عن صفته الباطنة والإشارة بالخلق أي بالضم إلى الإيمان والكفر والعلم والجهل واللين والشدة والمسامحة والاستقصاء والسخاء والبخل وما أشبه ذلك ولبابها في المحمود والمذموم يدور على عشرين خصلة ( درجة) أي مثل درجة أي منزلة ( القائم بالليل) أي المتهجد ( الظامي بالهواجر) أي العطشان في شدة الحر بسبب الصوم لأنهما مجاهدان لأنفسهما في مخالفة حفظهما من الطعام والشراب والنكاح والنوم والقيام والصيام يمنعان من ذلك والنفس أمارة بالسوء تدعو إلى ذلك لأن بالطعام يتقوى وبالنوم ينمو ومن حسن خلقه يجاهد نفسه في تحمل أثقال مساوئ أخلاق الناس لأنه يحمل أثقال غيره ولا يحمل غيره أثقاله وهو جهاد كبير فأدرك ما أدركه القائم الصائم فاستويا في الدرجة قال الباجي المراد أنه يدرك درجة المتنفل بالصلاة والصوم بصبره على الأذى وكفه عن أذى غيره والمقارضة عليه مع سلامة صدره من الغل قال الغزالي ولا يتم لرجل حسن خلقه حتى يتم عقله فعند ذلك يتم إيمانه ويطيع ربه ويعصي عدوه إبليس وهذا الحديث أخرجه أبو داود من وجه آخر عن عائشة والطبراني في الكبير عن أبي أمامة والحاكم وقال صحيح على شرطهما وأقره الذهبي عن أبي هريرة ثلاثتهم مرفوعًا به ( مالك عن يحيى بن سعيد أنه قال سمعت سعيد بن المسيب يقول) موقوفًا لجميع رواة الموطأ إلا إسحاق بن بشر الكامل وهو ضعيف متروك الحديث فرواه عن مالك عن يحيى عن سعيد عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم ورواه الدارقطني من طريق حفص بن غياث عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكره مرسلاً ورواه أيضًا من طريق ابن عيينة عن يحيى عن سعيد عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم وأخرجه البزار من طريق الأعمش عن عمر بن مرة عن سالم بن أبي الجعد عن أم الدرداء عن أبي الدرداء وذكر ابن المديني أن يحيى لم يسمعه من سعيد وإنما بينهما إسماعيل بن أبي حكيم كما حدث به عبد الوهاب ويزيد بن هارون وغيرهما عن يحيى بن سعيد عن إسماعيل عن سعيد بن المسيب مرفوعًا مرسلاً قاله كله ابن عبد البر ملخصًا وتعليل ابن المديني ليس بظاهر فإن يحيى ثقة حافظ باتفاق وقد صرح بالسماع في بعض طرقه فلا مانع أنه سمعه من إسماعيل عن سعيد ثم سمعه من سعيد فحدث به على الوجهين كما أن ابن المسيب حدث به مرسلاً وموقوفًا وموصولاً وأيما كان فالحديث صحيح وقد أخرجه أحمد والبخاري في الأدب المفرد وأبو داود والترمذي وصححه عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( ألا) حرف تنبيه يذكر لتحقيق ما بعدها مركبة من همزة الاستفهام التي هي بمعنى الإنكار ولا التي للنفي والإنكار إذا دخل عليه النفي أفاد التحقيق ولذا لا يكاد يقع بعدها إلا ما كان مصدرًا بنحو ما يتلقى به القسم وشقيقتها أما التي هي من طلائع القسم ومقدماته قاله البيضاوي ( أخبركم بخير من كثير من الصلاة والصدقة) زاد في رواية حفص بن غياث والصيام وفي رواية أحمد ومن بعده ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة ( قالوا بلى) أخبرنا ( قال صلح) بضم فسكون وفي رواية الجماعة إصلاح ( ذات البين) أي صلاح الحال التي بين الناس وإنها خير من نوافل الصلاة وما ذكر معها وقال غيره أي إصلاح أحوال البين حتى تكون أحوالكم أحوال صحة وألفة أو هو إصلاح الفساد والفتنة التي بين القوم وذلك لما فيه من عموم المنافع الدينية والدنيوية من التعاون والتناصر والألفة والاجتماع على الخير حتى أبيح فيه الكذب ولكثرة ما يندفع من المضرة في الدين والدنيا وفي رواية أحمد ومن بعده فإن فساد ذات البين هي الحالقة بدل قوله ( وإياكم والبغضة) بكسر الموحدة وإسكان الغين وفتح الضاد المعجمتين وهاء تأنيث شدة البغض وفي رواية والبغضاء بالفتح والمد وهو أيضًا شدته ( فإنها هي الحالقة) أي الخصلة التي شأنها أن تحلق أي تهلك وتستأصل الدين كما يستأصل الموسى الشعر والمراد المزيلة لمن وقع فيها لما يترتب عليه من الفساد والضغائن وقد زاد الدارقطني قال أبو الدرداء أما إني لا أقول حالقة الشعر ولكنها حالقة الدين قال الباجي أي أنها لا تبقي شيئًا من الحسنات حتى تذهب بها كما يذهب الحلق بشعر الرأس ويتركه عاريًا وقال أبو عمر فيه أوضح حجة على تحريم العداوة وفضل المؤاخاة وسلامة الصدور من الغل ( مالك أنه بلغه) رواه أحمد وقاسم بن أصبغ والحاكم والخرايطي برجال الصحيح عن محمد بن عجلان عن القعقاع بن حكيم عن أبي صالح عن أبي هريرة ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال بعثت) وفي رواية إنما بعثت ( لأتمم حسن) بفتحتين وبضم فسكون وفي رواية مكارم وفي رواية صالح ( الأخلاق) قال الباجي كانت العرب أحسن الناس أخلاقًا بما بقي عندهم من شريعة إبراهيم وكانوا ضلوا بالكفر عن كثير منها فبعث صلى الله عليه وسلم ليتمم محاسن الأخلاق ببيان ما ضلوا عنه وبما خص به في شرعه قال ابن عبد البر ويدخل فيه الصلاح والخير كله والدين والفضل والمروءة والإحسان والعدل فبذلك بعث ليتممه قال وهو حديث مدني صحيح متصل من وجوه صحاح عن أبي هريرة وغيره وللطبراني عن جابر مرفوعًا إن الله بعثني بتمام مكارم الأخلاق وكمال محاسن الأفعال وعزاه الديلمي لأحمد عن معاذ قال السخاوي وما رأيته فيه والذي فيه عن أبي هريرة.


رقم الحديث 1639 وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ عَمِّهِ أَبِي سُهَيْلِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ، أَنَّهُ قَالَ: إِذَا أَحْبَبْتُمْ أَنْ تَعْلَمُوا مَا لِلْعَبْدِ عِنْدَ رَبِّهِ، فَانْظُرُوا مَاذَا يَتْبَعُهُ مِنْ حُسْنِ الثَّنَاءِ.


( مالك أن معاذ بن جبل) كذا ليحيى وابن القاسم والقعنبي ورواه ابن بكير عن مالك عن يحيى بن سعيد عن معاذ وهو مع هذا منقطع جدًا ولا يوجد مسندًا من حديث معاذ ولا غيره بهذا اللفظ لكن ورد معناه قاله ابن عبد البر ( قال آخر ما أوصاني به رسول الله صلى الله عليه وسلم) لما بعثه إلى اليمن ( حين وضعت رجلي في الغرز) بفتح الغين المعجمة وسكون الراء وزاي منقوطة في موضع الركاب من رجل البعير كالركاب للسرج ( أن قال أحسن خلقك للناس يا معاذ بن جبل) فهو منادى بحذف الأداة بأن يظهر منه لمجالسه أو الوارد عليه البشر والحلم والإشفاق والصبر على التعليم والتودد إلى الصغير والكبير والناس وإن كان لفظه عامًا لكن أريد به من يستحق تحسين الخلق لهم فأما أهل الكفر والإصرار على الكبائر والتمادي على الظلم فلا يؤمر بتحسين الخلق لهم بل يؤمر بالإغلاظ عليهم قاله الباجي وهذا آخر الأحاديث الأربعة التي قالوا أنها لم توجد موصولة في غير الموطأ وذلك لا يضر مالكًا الذي قال فيه سفيان بن عيينة كان مالكًا لا يبلغ من الحديث إلا ما كان صحيحًا وإذا قال بلغني فهو إسناد صحيح فتصور المتأخرين عن وجود هذه الأربعة موصولة لا يقدح فيها فلعلها وصلت في الكتب التي لم تصل إليهم وقد قال السيوطي في حديث اختلاف أمتي رحمة لعله خرج في بعض الكتب التي لم تصل إلينا لأنه عزاه لجمع من الأجلة ذكروه في كتبهم بلا إسناد ولا نسبة لمخرج كإمام الحرمين ولا ريب أنهم دون مالك بمراحل بعيدة كيف ومن شواهد هذا الحديث ما رواه أحمد والترمذي وغيرهما بإسناد حسن عن معاذ قال قلت يا رسول الله علمني ما ينفعني قال اتق الله حيث كنت وأتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن.
وأخرج الترمذي عن أنس قال بعث النبي صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل إلى اليمن فقال يا معاذ اتق الله وخالق الناس بخلق حسن وروى قاسم بن أصبغ عن معاذ أن آخر كلمة فارقت عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت يا رسول الله أي العمل أفضل قال لا يزال لسانك رطبًا من ذكر الله فكأنه لما كان آخر ما أوصاه سأله عن هذا فأجابه فكان آخر كلمة فلا خلف ( مالك عن ابن شهاب) الزهري ( عن عروة بن الزبير) ابن العوام ( عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت ما خير) بضم الخاء المعجمة وكسر التحتية الثقيلة قال الحافظ وأيهم فاعل خير ليكون أعم من قبل الله أو من قبل المخلوقين وقال الباجي يحتمل أن المخير له هو الله فيما كلف أمته من الأعمال أو الناس فعلى الأول يكون قوله ما لم يكن إثمًا استثناء منقطعًا ولعل مراده الاستثناء اللغوي وهو الإخراج ( في أمرين) وللتنيسي والقعنبي بين أمرين ( قط) قال الحافظ أي من أمور الدنيا بدليل قوله ما لم يكن إثمًا لأن أمور الدين لا إثم فيها ( إلا أخذ أيسرهما) أي أسهلهما ( ما لم يكن) الأيسر ( إثمًا) أي مفضيًا للإثم ( فإن كان) الأيسر ( إثمًا كان أبعد الناس منه) ويختار الأشد حينئذ وللطبراني الأوسط عن أنس إلا اختار أيسرهما ما لم يكن لله فيه سخط ووقوع التخيير بين ما فيه إثم وما لا إثم فيه من قبل المخلوقين واضح وأما من قبل الله ففيه إشكال لأن التخيير إنما يكون بين جائزين لكن إذا حمل على ما يفضي إلى الإثم أمكن ذلك بأن يخيره بين أن يفتح عليه من كنوز الأرض ما يخشى من الاشتغال به إلا أن يتفرغ للعبادة مثلاً وبين أن لا يؤتيه من الدنيا إلا الكفاف فيختار الكفاف وإن كانت السعة أسهل منه والإثم على هذا أمر نسبي لا يراد منه معنى الخطيئة لثبوت العصمة له انتهى ومثله غيره بالتخيير بين المجاهدة في العبادة والاقتصاد فيها فإن المجاهدة إن كانت بحيث تجر إلى الهلاك لا تجوز ( وما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه) أي خاصة فلا يرد أمره بقتل ابن خطل وعقبة بن أبي معيط وغيرهما ممن كان يؤذيه لأنهم كانوا مع ذلك ينتهكون حرمات الله وقيل إرادة لا ينتقم لنفسه إذا أوذي في غير السبب الذي يخرج إلى الكفر كما عفا عن الأعرابي الذي جفا في رفع صوته عليه وعن الآخر الذي جبذ بردائه حتى أثر في كتفه وقال محمد أعطني من مال الله الذي عندك فالتفت إليه فضحك ثم أمر له بعطاء كما في الصحيحين من طريق مالك عن إسحاق بن عبد الله عن أنس وفي أبي داود ثم دعا رجلاً فقال احمل له على بعيريه هذين على بعير تمرًا وعلى الآخر شعيرًا ( إلا أن تنتهك) بضم الفوقية وسكون النون وفتح الفوقية والهاء أي لكن إذا انتهكت ( حرمة الله) عز وجل ( فينتقم لله) لا لنفسه ممن ارتكب تلك الحرمة ( بها) أي بسببها وللطبراني عن أنس فإذا انتهكت حرمة الله كان أشد الناس غضبًا لله قال الباجي يريد أن يؤذى أذى فيه غضاضة على الدين فإن في ذلك انتهاكًا لحرمة الله فينتقم بذلك إعظامًا لحق الله وقال بعض العلماء لا يجوز أن يؤذى النبي صلى الله عليه وسلم بفعل مباح ولا غيره وأما غيره من الناس فيجوز أن يؤذى بمباح وليس له المنع منه ولا يأثم فاعله وإن وصل بذلك إلى أذى غيره ولذا لم يأذن صلى الله عليه وسلم في نكاح ابنة أبي جهل فجعل حكم ابنته فاطمة حكمه في أنه لا يجوز أن تؤذى بمباح واحتج على ذلك بقوله تعالى { { إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله } } إلى أن قال { { والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا } } فشرط على المؤمنين أن يؤذوا بغير ما اكتسبوا وأطلق الأذى في خاصة النبي صلى الله عليه وسلم من غير شرط انتهى وحمل الداودي عدم انتقامه لنفسه على ما يختص بالمال وأما العرض فقد اقتص مما نال منه قال فاقتص ممن لده في مرضه بعد نهيه عن ذلك بأن أمر بلدهم مع أنهم تأولوا نهيه على عادة البشر من كراهة النفس للدواء قال الحافظ كذا قال وقد أخرج الحاكم هذا الحديث من طريق معمر عن الزهري بإسناد مطولاً وأوله ما لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم مسلمًا بذكر اسمه أي بصريحه ولا ضرب بيده شيئًا قط إلا أن يضرب في سبيل الله ولا سئل عن شيء قط فمنعه إلا أن يسأل مأثمًا ولا انتقم لنفسه من شيء إلا أن تنتهك حرمات الله فيكون الله ينتقم الحديث وهذا السياق سوى صدره عند مسلم من طريق هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة به وفيه الحث على ترك الأخذ بالشيء العسير والاقتناع باليسير وترك الإلحاح فيما لا يضطر إليه ويؤخذ من ذلك ندب الأخذ بالرخص ما لم يظهر الخطأ والحث على العفو إلا في حقوق الله تعالى والندب إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومحله ما لم يفض إلى ما هو أشد منه وفيه ترك الحكم للنفس وإن كان الحاكم متمكنًا من ذلك بحيث يؤمن منه الحيف على المحكوم عليه لكن لحسم المادة وفيه ما كان عليه صلى الله عليه وسلم من الصبر والحلم والقيام بالحق وهذا هو الخلق الحسن المحمود لأنه لو ترك القيام لحق الله وحق غيره كان ذلك مهانة ولو انتقم لنفسه لم يكن ثم صبر وكان هذا الخلق بطشًا فانتفى عنه الطرفان المذمومان وبقي الوسط وخير الأمور أوسطها وأخرجه البخاري في الصفة النبوية عن التنيسي وفي الأدب عن القعنبي ومسلم عن يحيى ثلاثتهم عن مالك به وتابعه منصور بن المعتمر ويونس عن ابن شهاب وتابعه هشام عن عروة كل ذلك عند مسلم ( مالك عن ابن شهاب عن علي بن حسين بن علي بن أبي طالب) مرسلاً عند جماعة رواة الموطأ فيما علمت إلا خالد بن عبد الرحمن الخراساني فقال عن مالك عن ابن شهاب عن علي بن الحسين عن أبيه وخالد ضعيف ليس بحجة فيما خولف فيه ولابن شهاب فيه إسنادان أحدهما مرسل كما قال مالك والآخر عن أبي سلمة عن أبي هريرة وهما من رواية الثقات قاله في التمهيد وقال السيوطي وصله الدارقطني من طريق خالد الخراساني وموسى بن داود الضبي كلاهما عن مالك عن الزهري عن علي بن الحسين عن أبيه قال ابن عبد البر وخالد وموسى لا بأس بهما انتهى ولم أجده في التمهيد إنما فيه ما ذكرته فلعل نسخه اختلفت والحديث حسن بل صحيح أخرجه أحمد وأبو يعلى والترمذي وابن ماجه من حديث الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة وأحمد والطبراني الكبير عن الحسن بن علي والحاكم في الكنى عن أبي ذر العسكري والحاكم في تاريخه عن علي بن أبي طالب والطبراني في الصغير عن زيد بن ثابت وابن عساكر عن الحارث بن هشام ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه) بفتح أوله من عناه كذا إذا تعلقت عنايته به وكان من قصده يعني ترك الفضول كله على اختلاف أنواعه قال ابن العربي لأن المرء لا يقدر أن يشتغل باللازم فكيف يتعداه إلى الفاضل انتهى وفي إفهامه أن من قبح إسلام المرء أخذه ما لا يعنيه لأنه ضياع للوقت النفيس الذي لا يمكن تعويض فائته فيما لم يخلق لأجله فإن الذي يعنيه الإسلام والإيمان والعمل الصالح وما تعلق بضرورة حياته في معاشه من شبع وروي وستر عورة وعفة فرج ونحو ذلك مما يدفع الضرورة دون مزيد النعم وبهذا يسلم من جميع الآفات دنيا وأخرى فمن عبد الله على استحضار قربه من ربه أو قرب ربه منه فقد حسن إسلامه قال الطيبي من تبعيضية ويجوز أنها بيانية وآثر التعبير بالإسلام على الإيمان لأنه الأعمال الظاهرة والفعل والترك إنما يتعاقبان عليها وزاد حسن إيماء إلى أنه لا يتميز بصورة الأعمال فعلاً وتركًا إلا أن اتصف بالحسن بأن توفرت شروط مكملاتها فضلاً عن المصححات وجعل ترك ما لا يعني من الحسن مبالغة قال بعضهم ومما لا يعني تعلم ما لا يهم من العلوم وترك الأهم منه كمن ترك تعلم العلم الذي فيه صلاح نفسه واشتغل بتعلم ما يصلح به غيره كعلم الجدل ويقول في اعتذاره نيتي نفع الناس ولو كان صادقًا لبدأ باشتغاله بما يصلح به نفسه وقلبه من إخراج الصفات المذمومة من نحو حسد ورياء وكبر وعجب وترؤس على الأقران وتطاول عليهم ونحوها من المهلكات قال ابن عبد البر هذا الحديث من الكلام الجامع للمعاني الكثيرة الجليلة في الألفاظ القليلة وهو مما لم يقله أحد قبله صلى الله عليه وسلم لكن روي معناه عن صحف إبراهيم مرفوعًا ثم أخرج بسنده عن أبي ذر قال قلت يا رسول الله ما كانت صحف إبراهيم قال كانت أمثالاً كلها الحديث وفيه وعلى العاقل أن يكون بصيرًا بزمانه مقبلاً على شأنه حافظًا للسانه ومن حسب كلامه من عمله قل كلامه إلا فيما يعنيه وقيل للقمان الحكيم ما الذي بلغ بك ما نرى أي الفضل قال قدر الله وصدق الحديث وأداء الأمانة وترك ما لا يعنيني وروى أبو عبيدة عن الحسن من علامة إعراض الله عن العبد أن يجعل شغله فيما لا يعنيه وقال أبو داود أصول السنن في كل فن أربعة أحاديث هذا وحديث الأعمال بالنيات والحلال بين وازهد في الدنيا وقال الباجي قال حمزة الكناني هذا الحديث ثلث الإسلام والثاني الأعمال بالنيات والثالث الحلال بين والحرام بين وقال غيره هو نصف الإسلام وقيل كله ( مالك أنه بلغه) أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي من طريق سفيان بن عيينة عن محمد بن المنكدر عن عروة ( عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت استأذن رجل) في الدخول ( على النبي صلى الله عليه وسلم) بيته وهو عيينة بن حصن الفزاري كما جزم به ابن بطال وعياض والقرطبي ونقله الباجي عن ابن حبيب عن مالك ورواه عبد الغني في المبهمات عن مالك بلاغًا وابن بشكوال عن يحيى بن أبي كثير أن عيينة استأذن فذكره مرسلاً وقيل هو مخرمة بن نوفل أخرجه عبد الغني عن عائشة قال الحافظ فيحمل على التعدد وقد حكى المنذري القولين فقال هو عيينة وقيل مخرمة وهو الراجح انتهى وتعقب بأن حديث تسميته عيينة صحيح وإن كان مرسلاً وخبر تسميته مخرمة فيه راويان ضعيفان ولذا قال الخطيب وعياض وغيرهما الصحيح أنه عيينة قالوا ويبعد أن يقول صلى الله عليه وسلم في حق مخرمة ما قال لأنه كان من خيار الصحابة ( قالت عائشة وأنا معه في البيت) قبل نزول الحجاب فقال من هذه قال عائشة قال ألا أنزل لك عن أم البنين فغضبت عائشة وقالت من هذا قال صلى الله عليه وسلم هذا الأحمق المطاع رواه سعيد بن منصور يعني في قومه لأنه كان يتبعه منهم عشرة آلاف قناة لا يسألونه أين يريد ( فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم) له ( بئس ابن العشيرة) الجماعة أو القبيلة أو الأدنى إلى الرجل من أهله وهم ولد أبيه وجده وفي رواية البخاري بئس أخو العشيرة وبئس ابن العشيرة ( ثم أذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم) وللبخاري رواية فقال ائذنوا له ( قالت عائشة فلم أنشب) بمعجمة وموحدة ( أن سمعت ضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم معه) وللبخاري فلما جلس تطلق النبي صلى الله عليه وسلم في وجهه وانبسط إليه وله أيضًا فلما دخل ألان له الكلام ( فلما خرج الرجل قلت) مستفهمة ( يا رسول الله قلت فيه ما قلت) بفتح التاء فيهما خطابًا ( ثم لم تنشب أن ضحكت معه) فما السر في ذلك وفي رواية ثم ألنت له القول ( فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم) يا عائشة ( إن من شر الناس من اتقاه الناس لشره) أي قبيح كلامه وفي رواية لهما فقال يا عائشة متى عهدتني فحاشًا إن شر الناس منزلة عند الله يوم القيامة من تركه الناس اتقاء شره فقال الباجي وصفه بذلك ليعلم حاله فيحذر وليس ذلك من باب الغيبة وقال القرطبي فيه جواز غيبة المعلن بالفسق أو الفحش ونحو ذلك مع جواز مداراتهم اتقاء لشرهم ما لم يؤد ذلك إلى المداهنة في دين الله والفرق بينها وبين المداراة أنها بذل الدنيا لصلاح الدنيا أو الدين أو هما معًا وهي مباحة وربما استحسنت والمداهنة بذل الدين لصلاح الدنيا والنبي صلى الله عليه وسلم إنما يذل له من دنياه حسن عشرته والرفق في مكالمته ومع ذلك فلم يمدحه بقول فلم يناقض قوله فيه فعله فإن قوله فيه بئس ابن العشيرة حق وفعله معه حسن عشرة فيزول بهذا التقرير الإشكال انتهى أي الذي هو أن النصيحة فرض وطلاقة الوجه وإلانة القول يستلزمان الترك وحاصل جوابه أن الفرض سقط لعارض وقال عياض لم تكن غيبة والله أعلم حين إذ أسلم فلم يكن القول فيه غيبة أو كان أسلم ولم يكن إسلامه ناصحًا فأراد صلى الله عليه وسلم بيان ذلك لئلا يغتر به من لم يعرف باطنه فيكون ما وصفه به من علامات النبوة وأما إلانة القول بعد أن دخل فعلى سبيل الاستئلاف وقال القرطبي في هذا الحديث إن عيينة ختم له بسوء لأنه صلى الله عليه وسلم ذمه وأخبر بأن من كان كذلك كان شر الناس ورده الحافظ بأن الحديث ورد بلفظ العموم وشرط من اتصف بالصفة المذكورة أن يموت على ذلك وقد ارتد عيينة في زمن الصديق وحارب ثم رجع وأسلم وحضر بعض الفتوح في عهد عمر وفي الأم للشافعي أن عمر قتل عيينة على الردة قال في الإصابة ولم أر ذلك لغيره فإن كان محفوظًا فلا يذكر في الصحابة لكن يحتمل أنه أمر بقتله فبادر إلى الإسلام فعاش إلى خلافة عثمان وقال أيضًا في ترجمة طليحة نقلاً عن الأم أن عمر قتل طليحة وعيينة على الردة فراجعت جلال الدين البلقيني فاستغربه وقال لعله قبلهما بموحدة أي قبل منهما الإسلام بعد الارتداد ( مالك عن عمه أبي سهيل) نافع ( بن مالك عن أبيه) مالك بن أبي عامر الأصبحي ( عن كعب الأحبار أنه قال) موقوفًا ويحتمل أن يكون من الكتب القديمة لأنه حبرها وقد رواه ابن عساكر بسند ضعيف عن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم ( إذا أحببتم) أي أردتم ( أن تعلموا ما للعبد عند ربه) مما قدر له من خير أو شر ( فانظروا) أي تأملوا ( ماذا يتبعه) أي الذي يجري على ألسنة الناس في حياته أو بعد موته ( من حسن الثناء) بفتح المثلثة والمد الوصف بمدح أو به وبذم قال الباجي والمراد ما يذكره أهل الدين والخير دون أهل الضلال والفسق لأنه قد يكون للإنسان العدو فيتبعه بالذكر القبيح انتهى فإن ذكره الصلحاء بشيء علم أن الله أجرى على ألسنتهم ماله عنده فإنهم ينطقون بإلهامه كما يفيده قوله صلى الله عليه وسلم إن لله ملائكة تنطق على ألسنة بني آدم بما في المرء من الخير والشر رواه الحاكم وغيره عن أنس فإن كان خيرًا فليحمد الله ولا يعجب بل يكون خائفًا من مكره الخفي وإن كان شرًا فليبادر بالتوبة ويحذر سطوته وقهره ( مالك عن يحيى بن سعيد أنه قال بلغني) أخرجه ابن عبد البر من طريق زهير عن يحيى بن سعيد عن القاسم بن محمد عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم ( إن المرء) وفي رواية إن الرجل والمراد منهما الإنسان وفي رواية إن المؤمن ( ليدرك بحسن خلقه) قال ابن العربي الخلق أي بالفتح والخلق أي بالضم عبارتان عن جملة الإنسان فالخلق عبارة عن صفته الظاهرة والخلق عبارة عن صفته الباطنة والإشارة بالخلق أي بالضم إلى الإيمان والكفر والعلم والجهل واللين والشدة والمسامحة والاستقصاء والسخاء والبخل وما أشبه ذلك ولبابها في المحمود والمذموم يدور على عشرين خصلة ( درجة) أي مثل درجة أي منزلة ( القائم بالليل) أي المتهجد ( الظامي بالهواجر) أي العطشان في شدة الحر بسبب الصوم لأنهما مجاهدان لأنفسهما في مخالفة حفظهما من الطعام والشراب والنكاح والنوم والقيام والصيام يمنعان من ذلك والنفس أمارة بالسوء تدعو إلى ذلك لأن بالطعام يتقوى وبالنوم ينمو ومن حسن خلقه يجاهد نفسه في تحمل أثقال مساوئ أخلاق الناس لأنه يحمل أثقال غيره ولا يحمل غيره أثقاله وهو جهاد كبير فأدرك ما أدركه القائم الصائم فاستويا في الدرجة قال الباجي المراد أنه يدرك درجة المتنفل بالصلاة والصوم بصبره على الأذى وكفه عن أذى غيره والمقارضة عليه مع سلامة صدره من الغل قال الغزالي ولا يتم لرجل حسن خلقه حتى يتم عقله فعند ذلك يتم إيمانه ويطيع ربه ويعصي عدوه إبليس وهذا الحديث أخرجه أبو داود من وجه آخر عن عائشة والطبراني في الكبير عن أبي أمامة والحاكم وقال صحيح على شرطهما وأقره الذهبي عن أبي هريرة ثلاثتهم مرفوعًا به ( مالك عن يحيى بن سعيد أنه قال سمعت سعيد بن المسيب يقول) موقوفًا لجميع رواة الموطأ إلا إسحاق بن بشر الكامل وهو ضعيف متروك الحديث فرواه عن مالك عن يحيى عن سعيد عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم ورواه الدارقطني من طريق حفص بن غياث عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكره مرسلاً ورواه أيضًا من طريق ابن عيينة عن يحيى عن سعيد عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم وأخرجه البزار من طريق الأعمش عن عمر بن مرة عن سالم بن أبي الجعد عن أم الدرداء عن أبي الدرداء وذكر ابن المديني أن يحيى لم يسمعه من سعيد وإنما بينهما إسماعيل بن أبي حكيم كما حدث به عبد الوهاب ويزيد بن هارون وغيرهما عن يحيى بن سعيد عن إسماعيل عن سعيد بن المسيب مرفوعًا مرسلاً قاله كله ابن عبد البر ملخصًا وتعليل ابن المديني ليس بظاهر فإن يحيى ثقة حافظ باتفاق وقد صرح بالسماع في بعض طرقه فلا مانع أنه سمعه من إسماعيل عن سعيد ثم سمعه من سعيد فحدث به على الوجهين كما أن ابن المسيب حدث به مرسلاً وموقوفًا وموصولاً وأيما كان فالحديث صحيح وقد أخرجه أحمد والبخاري في الأدب المفرد وأبو داود والترمذي وصححه عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( ألا) حرف تنبيه يذكر لتحقيق ما بعدها مركبة من همزة الاستفهام التي هي بمعنى الإنكار ولا التي للنفي والإنكار إذا دخل عليه النفي أفاد التحقيق ولذا لا يكاد يقع بعدها إلا ما كان مصدرًا بنحو ما يتلقى به القسم وشقيقتها أما التي هي من طلائع القسم ومقدماته قاله البيضاوي ( أخبركم بخير من كثير من الصلاة والصدقة) زاد في رواية حفص بن غياث والصيام وفي رواية أحمد ومن بعده ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة ( قالوا بلى) أخبرنا ( قال صلح) بضم فسكون وفي رواية الجماعة إصلاح ( ذات البين) أي صلاح الحال التي بين الناس وإنها خير من نوافل الصلاة وما ذكر معها وقال غيره أي إصلاح أحوال البين حتى تكون أحوالكم أحوال صحة وألفة أو هو إصلاح الفساد والفتنة التي بين القوم وذلك لما فيه من عموم المنافع الدينية والدنيوية من التعاون والتناصر والألفة والاجتماع على الخير حتى أبيح فيه الكذب ولكثرة ما يندفع من المضرة في الدين والدنيا وفي رواية أحمد ومن بعده فإن فساد ذات البين هي الحالقة بدل قوله ( وإياكم والبغضة) بكسر الموحدة وإسكان الغين وفتح الضاد المعجمتين وهاء تأنيث شدة البغض وفي رواية والبغضاء بالفتح والمد وهو أيضًا شدته ( فإنها هي الحالقة) أي الخصلة التي شأنها أن تحلق أي تهلك وتستأصل الدين كما يستأصل الموسى الشعر والمراد المزيلة لمن وقع فيها لما يترتب عليه من الفساد والضغائن وقد زاد الدارقطني قال أبو الدرداء أما إني لا أقول حالقة الشعر ولكنها حالقة الدين قال الباجي أي أنها لا تبقي شيئًا من الحسنات حتى تذهب بها كما يذهب الحلق بشعر الرأس ويتركه عاريًا وقال أبو عمر فيه أوضح حجة على تحريم العداوة وفضل المؤاخاة وسلامة الصدور من الغل ( مالك أنه بلغه) رواه أحمد وقاسم بن أصبغ والحاكم والخرايطي برجال الصحيح عن محمد بن عجلان عن القعقاع بن حكيم عن أبي صالح عن أبي هريرة ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال بعثت) وفي رواية إنما بعثت ( لأتمم حسن) بفتحتين وبضم فسكون وفي رواية مكارم وفي رواية صالح ( الأخلاق) قال الباجي كانت العرب أحسن الناس أخلاقًا بما بقي عندهم من شريعة إبراهيم وكانوا ضلوا بالكفر عن كثير منها فبعث صلى الله عليه وسلم ليتمم محاسن الأخلاق ببيان ما ضلوا عنه وبما خص به في شرعه قال ابن عبد البر ويدخل فيه الصلاح والخير كله والدين والفضل والمروءة والإحسان والعدل فبذلك بعث ليتممه قال وهو حديث مدني صحيح متصل من وجوه صحاح عن أبي هريرة وغيره وللطبراني عن جابر مرفوعًا إن الله بعثني بتمام مكارم الأخلاق وكمال محاسن الأفعال وعزاه الديلمي لأحمد عن معاذ قال السخاوي وما رأيته فيه والذي فيه عن أبي هريرة.


رقم الحديث 1639 وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ الثِّقَةِ عِنْدَهُ، عَنْ بُكَيْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْأَشَجِّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحُبَابِ الْأَنْصَارِيِّ، عَنْ أَبِي قَتَادَةَ الْأَنْصَارِيِّ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى أَنْ يُشْرَبَ التَّمْرُ وَالزَّبِيبُ جَمِيعًا وَالزَّهْوُ وَالرُّطَبُ جَمِيعًا قَالَ مَالِكٌ: وَهُوَ الْأَمْرُ الَّذِي لَمْ يَزَلْ عَلَيْهِ أَهْلُ الْعِلْمِ بِبَلَدِنَا أَنَّهُ يُكْرَهُ ذَلِكَ لِنَهْيِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُ.


( ما يكره أن ينبذ جميعًا)

( مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار) قال ابن عبد البر مرسلاً بلا خلاف أعلمه عن مالك ووصله عبد الرزاق عن ابن جريج عن زيد عن عطاء عن أبي هريرة ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن ينبذ البسر) بضم الموحدة وإسكان المهملة التمر قبل إرطابه واحدته بسرة بالهاء ( والرطب) بضم الراء وفتح الطاء ما نضج من البسر الواحدة رطبة بالهاء ( جميعًا) في إناء واحد لأن الإسكار يسرع إليه بسبب الخلط قبل أن يشتد فيظن الشارب أنه لم يبلغ حد الإسكار وهو قد بلغه ( والتمر) بفوقية فميم ( والزبيب جميعًا) لاشتداد أحدهما بالآخر وهذا الحديث في الصحيحين من حديث ابن جريج عن زيد عن عطاء عن جابر ( مالك عن الثقة عنده) قيل هو مخرمة بن بكير أو ابن لهيعة فقد رواه الوليد بن مسلم عن عبد الله بن لهيعة ( عن بكير) بضم الموحدة مصغر ( ابن عبد الله بن الأشج) المخزومي مولاهم المدني نزيل مصر ثقة مات سنة عشرين ومائة وقيل بعدها ( عن عبد الرحمن بن الحباب) بضم المهملة وموحدتين الأولى خفيفة ( الأنصاري) السلمي بفتح السين واللام المدني تابعي ثقة ( عن أبي قتادة) الحارث ويقال عمرو أو النعمان ( الأنصاري) السلمي بفتحتين مات سنة أربع وخمسين على الأصح الأشهر ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يشرب) بضم أوله مبني للمجهول ( التمر) بفوقية وميم ساكنة ( والزبيب جميعًا) لأن أحدهما يشتد به الآخر فيسرع الإسكار ( والزهو) وهو البسر الملون ( والرطب جميعًا) نهي كراهة وقيل تحريم لإسراع الإسكار بخلطهما فقد يظن عدم بلوغه الإسكار ويكون قد بلغه وهذا الحديث رواه البخاري ومسلم من وجه آخر عن عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه قال نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يجمع بين التمر والزهو والتمر والزبيب ولينبذ كل واحد منهما على حدة وفي مسلم عن أبي سعيد مرفوعًا من شرب منكم النبيذ فليشربه زبيبًا فردًا أو تمرًا فردًا أو بسرًا فردًا وجاء أيضًا النهي عن ذلك من حديث ابن عباس وجابر وأبي سعيد قال أبو عمر أحاديث الباب صحيحة متواترة تلقاها العلماء بالقبول وقد ( قال مالك وهو الأمر الذي لم يزل عليه أهل العلم ببلدنا أنه يكره ذلك لنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه) في الأحاديث المذكورة سواء نبذ كل واحد على حدة أو نبذا جميعًا وأجازه الحنفي وحمل النهي على أنه للسرف لما كانوا فيه من ضيق العيش.



رقم الحديث 1640 وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، أَنَّهُ قَالَ: بَلَغَنِي: أَنَّ الْمَرْءَ لَيُدْرِكُ بِحُسْنِ خُلُقِهِ دَرَجَةَ الْقَائِمِ بِاللَّيْلِ الظَّامِي بِالْهَوَاجِرِ.


( مالك أن معاذ بن جبل) كذا ليحيى وابن القاسم والقعنبي ورواه ابن بكير عن مالك عن يحيى بن سعيد عن معاذ وهو مع هذا منقطع جدًا ولا يوجد مسندًا من حديث معاذ ولا غيره بهذا اللفظ لكن ورد معناه قاله ابن عبد البر ( قال آخر ما أوصاني به رسول الله صلى الله عليه وسلم) لما بعثه إلى اليمن ( حين وضعت رجلي في الغرز) بفتح الغين المعجمة وسكون الراء وزاي منقوطة في موضع الركاب من رجل البعير كالركاب للسرج ( أن قال أحسن خلقك للناس يا معاذ بن جبل) فهو منادى بحذف الأداة بأن يظهر منه لمجالسه أو الوارد عليه البشر والحلم والإشفاق والصبر على التعليم والتودد إلى الصغير والكبير والناس وإن كان لفظه عامًا لكن أريد به من يستحق تحسين الخلق لهم فأما أهل الكفر والإصرار على الكبائر والتمادي على الظلم فلا يؤمر بتحسين الخلق لهم بل يؤمر بالإغلاظ عليهم قاله الباجي وهذا آخر الأحاديث الأربعة التي قالوا أنها لم توجد موصولة في غير الموطأ وذلك لا يضر مالكًا الذي قال فيه سفيان بن عيينة كان مالكًا لا يبلغ من الحديث إلا ما كان صحيحًا وإذا قال بلغني فهو إسناد صحيح فتصور المتأخرين عن وجود هذه الأربعة موصولة لا يقدح فيها فلعلها وصلت في الكتب التي لم تصل إليهم وقد قال السيوطي في حديث اختلاف أمتي رحمة لعله خرج في بعض الكتب التي لم تصل إلينا لأنه عزاه لجمع من الأجلة ذكروه في كتبهم بلا إسناد ولا نسبة لمخرج كإمام الحرمين ولا ريب أنهم دون مالك بمراحل بعيدة كيف ومن شواهد هذا الحديث ما رواه أحمد والترمذي وغيرهما بإسناد حسن عن معاذ قال قلت يا رسول الله علمني ما ينفعني قال اتق الله حيث كنت وأتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن.
وأخرج الترمذي عن أنس قال بعث النبي صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل إلى اليمن فقال يا معاذ اتق الله وخالق الناس بخلق حسن وروى قاسم بن أصبغ عن معاذ أن آخر كلمة فارقت عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت يا رسول الله أي العمل أفضل قال لا يزال لسانك رطبًا من ذكر الله فكأنه لما كان آخر ما أوصاه سأله عن هذا فأجابه فكان آخر كلمة فلا خلف ( مالك عن ابن شهاب) الزهري ( عن عروة بن الزبير) ابن العوام ( عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت ما خير) بضم الخاء المعجمة وكسر التحتية الثقيلة قال الحافظ وأيهم فاعل خير ليكون أعم من قبل الله أو من قبل المخلوقين وقال الباجي يحتمل أن المخير له هو الله فيما كلف أمته من الأعمال أو الناس فعلى الأول يكون قوله ما لم يكن إثمًا استثناء منقطعًا ولعل مراده الاستثناء اللغوي وهو الإخراج ( في أمرين) وللتنيسي والقعنبي بين أمرين ( قط) قال الحافظ أي من أمور الدنيا بدليل قوله ما لم يكن إثمًا لأن أمور الدين لا إثم فيها ( إلا أخذ أيسرهما) أي أسهلهما ( ما لم يكن) الأيسر ( إثمًا) أي مفضيًا للإثم ( فإن كان) الأيسر ( إثمًا كان أبعد الناس منه) ويختار الأشد حينئذ وللطبراني الأوسط عن أنس إلا اختار أيسرهما ما لم يكن لله فيه سخط ووقوع التخيير بين ما فيه إثم وما لا إثم فيه من قبل المخلوقين واضح وأما من قبل الله ففيه إشكال لأن التخيير إنما يكون بين جائزين لكن إذا حمل على ما يفضي إلى الإثم أمكن ذلك بأن يخيره بين أن يفتح عليه من كنوز الأرض ما يخشى من الاشتغال به إلا أن يتفرغ للعبادة مثلاً وبين أن لا يؤتيه من الدنيا إلا الكفاف فيختار الكفاف وإن كانت السعة أسهل منه والإثم على هذا أمر نسبي لا يراد منه معنى الخطيئة لثبوت العصمة له انتهى ومثله غيره بالتخيير بين المجاهدة في العبادة والاقتصاد فيها فإن المجاهدة إن كانت بحيث تجر إلى الهلاك لا تجوز ( وما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه) أي خاصة فلا يرد أمره بقتل ابن خطل وعقبة بن أبي معيط وغيرهما ممن كان يؤذيه لأنهم كانوا مع ذلك ينتهكون حرمات الله وقيل إرادة لا ينتقم لنفسه إذا أوذي في غير السبب الذي يخرج إلى الكفر كما عفا عن الأعرابي الذي جفا في رفع صوته عليه وعن الآخر الذي جبذ بردائه حتى أثر في كتفه وقال محمد أعطني من مال الله الذي عندك فالتفت إليه فضحك ثم أمر له بعطاء كما في الصحيحين من طريق مالك عن إسحاق بن عبد الله عن أنس وفي أبي داود ثم دعا رجلاً فقال احمل له على بعيريه هذين على بعير تمرًا وعلى الآخر شعيرًا ( إلا أن تنتهك) بضم الفوقية وسكون النون وفتح الفوقية والهاء أي لكن إذا انتهكت ( حرمة الله) عز وجل ( فينتقم لله) لا لنفسه ممن ارتكب تلك الحرمة ( بها) أي بسببها وللطبراني عن أنس فإذا انتهكت حرمة الله كان أشد الناس غضبًا لله قال الباجي يريد أن يؤذى أذى فيه غضاضة على الدين فإن في ذلك انتهاكًا لحرمة الله فينتقم بذلك إعظامًا لحق الله وقال بعض العلماء لا يجوز أن يؤذى النبي صلى الله عليه وسلم بفعل مباح ولا غيره وأما غيره من الناس فيجوز أن يؤذى بمباح وليس له المنع منه ولا يأثم فاعله وإن وصل بذلك إلى أذى غيره ولذا لم يأذن صلى الله عليه وسلم في نكاح ابنة أبي جهل فجعل حكم ابنته فاطمة حكمه في أنه لا يجوز أن تؤذى بمباح واحتج على ذلك بقوله تعالى { { إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله } } إلى أن قال { { والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا } } فشرط على المؤمنين أن يؤذوا بغير ما اكتسبوا وأطلق الأذى في خاصة النبي صلى الله عليه وسلم من غير شرط انتهى وحمل الداودي عدم انتقامه لنفسه على ما يختص بالمال وأما العرض فقد اقتص مما نال منه قال فاقتص ممن لده في مرضه بعد نهيه عن ذلك بأن أمر بلدهم مع أنهم تأولوا نهيه على عادة البشر من كراهة النفس للدواء قال الحافظ كذا قال وقد أخرج الحاكم هذا الحديث من طريق معمر عن الزهري بإسناد مطولاً وأوله ما لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم مسلمًا بذكر اسمه أي بصريحه ولا ضرب بيده شيئًا قط إلا أن يضرب في سبيل الله ولا سئل عن شيء قط فمنعه إلا أن يسأل مأثمًا ولا انتقم لنفسه من شيء إلا أن تنتهك حرمات الله فيكون الله ينتقم الحديث وهذا السياق سوى صدره عند مسلم من طريق هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة به وفيه الحث على ترك الأخذ بالشيء العسير والاقتناع باليسير وترك الإلحاح فيما لا يضطر إليه ويؤخذ من ذلك ندب الأخذ بالرخص ما لم يظهر الخطأ والحث على العفو إلا في حقوق الله تعالى والندب إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومحله ما لم يفض إلى ما هو أشد منه وفيه ترك الحكم للنفس وإن كان الحاكم متمكنًا من ذلك بحيث يؤمن منه الحيف على المحكوم عليه لكن لحسم المادة وفيه ما كان عليه صلى الله عليه وسلم من الصبر والحلم والقيام بالحق وهذا هو الخلق الحسن المحمود لأنه لو ترك القيام لحق الله وحق غيره كان ذلك مهانة ولو انتقم لنفسه لم يكن ثم صبر وكان هذا الخلق بطشًا فانتفى عنه الطرفان المذمومان وبقي الوسط وخير الأمور أوسطها وأخرجه البخاري في الصفة النبوية عن التنيسي وفي الأدب عن القعنبي ومسلم عن يحيى ثلاثتهم عن مالك به وتابعه منصور بن المعتمر ويونس عن ابن شهاب وتابعه هشام عن عروة كل ذلك عند مسلم ( مالك عن ابن شهاب عن علي بن حسين بن علي بن أبي طالب) مرسلاً عند جماعة رواة الموطأ فيما علمت إلا خالد بن عبد الرحمن الخراساني فقال عن مالك عن ابن شهاب عن علي بن الحسين عن أبيه وخالد ضعيف ليس بحجة فيما خولف فيه ولابن شهاب فيه إسنادان أحدهما مرسل كما قال مالك والآخر عن أبي سلمة عن أبي هريرة وهما من رواية الثقات قاله في التمهيد وقال السيوطي وصله الدارقطني من طريق خالد الخراساني وموسى بن داود الضبي كلاهما عن مالك عن الزهري عن علي بن الحسين عن أبيه قال ابن عبد البر وخالد وموسى لا بأس بهما انتهى ولم أجده في التمهيد إنما فيه ما ذكرته فلعل نسخه اختلفت والحديث حسن بل صحيح أخرجه أحمد وأبو يعلى والترمذي وابن ماجه من حديث الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة وأحمد والطبراني الكبير عن الحسن بن علي والحاكم في الكنى عن أبي ذر العسكري والحاكم في تاريخه عن علي بن أبي طالب والطبراني في الصغير عن زيد بن ثابت وابن عساكر عن الحارث بن هشام ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه) بفتح أوله من عناه كذا إذا تعلقت عنايته به وكان من قصده يعني ترك الفضول كله على اختلاف أنواعه قال ابن العربي لأن المرء لا يقدر أن يشتغل باللازم فكيف يتعداه إلى الفاضل انتهى وفي إفهامه أن من قبح إسلام المرء أخذه ما لا يعنيه لأنه ضياع للوقت النفيس الذي لا يمكن تعويض فائته فيما لم يخلق لأجله فإن الذي يعنيه الإسلام والإيمان والعمل الصالح وما تعلق بضرورة حياته في معاشه من شبع وروي وستر عورة وعفة فرج ونحو ذلك مما يدفع الضرورة دون مزيد النعم وبهذا يسلم من جميع الآفات دنيا وأخرى فمن عبد الله على استحضار قربه من ربه أو قرب ربه منه فقد حسن إسلامه قال الطيبي من تبعيضية ويجوز أنها بيانية وآثر التعبير بالإسلام على الإيمان لأنه الأعمال الظاهرة والفعل والترك إنما يتعاقبان عليها وزاد حسن إيماء إلى أنه لا يتميز بصورة الأعمال فعلاً وتركًا إلا أن اتصف بالحسن بأن توفرت شروط مكملاتها فضلاً عن المصححات وجعل ترك ما لا يعني من الحسن مبالغة قال بعضهم ومما لا يعني تعلم ما لا يهم من العلوم وترك الأهم منه كمن ترك تعلم العلم الذي فيه صلاح نفسه واشتغل بتعلم ما يصلح به غيره كعلم الجدل ويقول في اعتذاره نيتي نفع الناس ولو كان صادقًا لبدأ باشتغاله بما يصلح به نفسه وقلبه من إخراج الصفات المذمومة من نحو حسد ورياء وكبر وعجب وترؤس على الأقران وتطاول عليهم ونحوها من المهلكات قال ابن عبد البر هذا الحديث من الكلام الجامع للمعاني الكثيرة الجليلة في الألفاظ القليلة وهو مما لم يقله أحد قبله صلى الله عليه وسلم لكن روي معناه عن صحف إبراهيم مرفوعًا ثم أخرج بسنده عن أبي ذر قال قلت يا رسول الله ما كانت صحف إبراهيم قال كانت أمثالاً كلها الحديث وفيه وعلى العاقل أن يكون بصيرًا بزمانه مقبلاً على شأنه حافظًا للسانه ومن حسب كلامه من عمله قل كلامه إلا فيما يعنيه وقيل للقمان الحكيم ما الذي بلغ بك ما نرى أي الفضل قال قدر الله وصدق الحديث وأداء الأمانة وترك ما لا يعنيني وروى أبو عبيدة عن الحسن من علامة إعراض الله عن العبد أن يجعل شغله فيما لا يعنيه وقال أبو داود أصول السنن في كل فن أربعة أحاديث هذا وحديث الأعمال بالنيات والحلال بين وازهد في الدنيا وقال الباجي قال حمزة الكناني هذا الحديث ثلث الإسلام والثاني الأعمال بالنيات والثالث الحلال بين والحرام بين وقال غيره هو نصف الإسلام وقيل كله ( مالك أنه بلغه) أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي من طريق سفيان بن عيينة عن محمد بن المنكدر عن عروة ( عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت استأذن رجل) في الدخول ( على النبي صلى الله عليه وسلم) بيته وهو عيينة بن حصن الفزاري كما جزم به ابن بطال وعياض والقرطبي ونقله الباجي عن ابن حبيب عن مالك ورواه عبد الغني في المبهمات عن مالك بلاغًا وابن بشكوال عن يحيى بن أبي كثير أن عيينة استأذن فذكره مرسلاً وقيل هو مخرمة بن نوفل أخرجه عبد الغني عن عائشة قال الحافظ فيحمل على التعدد وقد حكى المنذري القولين فقال هو عيينة وقيل مخرمة وهو الراجح انتهى وتعقب بأن حديث تسميته عيينة صحيح وإن كان مرسلاً وخبر تسميته مخرمة فيه راويان ضعيفان ولذا قال الخطيب وعياض وغيرهما الصحيح أنه عيينة قالوا ويبعد أن يقول صلى الله عليه وسلم في حق مخرمة ما قال لأنه كان من خيار الصحابة ( قالت عائشة وأنا معه في البيت) قبل نزول الحجاب فقال من هذه قال عائشة قال ألا أنزل لك عن أم البنين فغضبت عائشة وقالت من هذا قال صلى الله عليه وسلم هذا الأحمق المطاع رواه سعيد بن منصور يعني في قومه لأنه كان يتبعه منهم عشرة آلاف قناة لا يسألونه أين يريد ( فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم) له ( بئس ابن العشيرة) الجماعة أو القبيلة أو الأدنى إلى الرجل من أهله وهم ولد أبيه وجده وفي رواية البخاري بئس أخو العشيرة وبئس ابن العشيرة ( ثم أذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم) وللبخاري رواية فقال ائذنوا له ( قالت عائشة فلم أنشب) بمعجمة وموحدة ( أن سمعت ضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم معه) وللبخاري فلما جلس تطلق النبي صلى الله عليه وسلم في وجهه وانبسط إليه وله أيضًا فلما دخل ألان له الكلام ( فلما خرج الرجل قلت) مستفهمة ( يا رسول الله قلت فيه ما قلت) بفتح التاء فيهما خطابًا ( ثم لم تنشب أن ضحكت معه) فما السر في ذلك وفي رواية ثم ألنت له القول ( فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم) يا عائشة ( إن من شر الناس من اتقاه الناس لشره) أي قبيح كلامه وفي رواية لهما فقال يا عائشة متى عهدتني فحاشًا إن شر الناس منزلة عند الله يوم القيامة من تركه الناس اتقاء شره فقال الباجي وصفه بذلك ليعلم حاله فيحذر وليس ذلك من باب الغيبة وقال القرطبي فيه جواز غيبة المعلن بالفسق أو الفحش ونحو ذلك مع جواز مداراتهم اتقاء لشرهم ما لم يؤد ذلك إلى المداهنة في دين الله والفرق بينها وبين المداراة أنها بذل الدنيا لصلاح الدنيا أو الدين أو هما معًا وهي مباحة وربما استحسنت والمداهنة بذل الدين لصلاح الدنيا والنبي صلى الله عليه وسلم إنما يذل له من دنياه حسن عشرته والرفق في مكالمته ومع ذلك فلم يمدحه بقول فلم يناقض قوله فيه فعله فإن قوله فيه بئس ابن العشيرة حق وفعله معه حسن عشرة فيزول بهذا التقرير الإشكال انتهى أي الذي هو أن النصيحة فرض وطلاقة الوجه وإلانة القول يستلزمان الترك وحاصل جوابه أن الفرض سقط لعارض وقال عياض لم تكن غيبة والله أعلم حين إذ أسلم فلم يكن القول فيه غيبة أو كان أسلم ولم يكن إسلامه ناصحًا فأراد صلى الله عليه وسلم بيان ذلك لئلا يغتر به من لم يعرف باطنه فيكون ما وصفه به من علامات النبوة وأما إلانة القول بعد أن دخل فعلى سبيل الاستئلاف وقال القرطبي في هذا الحديث إن عيينة ختم له بسوء لأنه صلى الله عليه وسلم ذمه وأخبر بأن من كان كذلك كان شر الناس ورده الحافظ بأن الحديث ورد بلفظ العموم وشرط من اتصف بالصفة المذكورة أن يموت على ذلك وقد ارتد عيينة في زمن الصديق وحارب ثم رجع وأسلم وحضر بعض الفتوح في عهد عمر وفي الأم للشافعي أن عمر قتل عيينة على الردة قال في الإصابة ولم أر ذلك لغيره فإن كان محفوظًا فلا يذكر في الصحابة لكن يحتمل أنه أمر بقتله فبادر إلى الإسلام فعاش إلى خلافة عثمان وقال أيضًا في ترجمة طليحة نقلاً عن الأم أن عمر قتل طليحة وعيينة على الردة فراجعت جلال الدين البلقيني فاستغربه وقال لعله قبلهما بموحدة أي قبل منهما الإسلام بعد الارتداد ( مالك عن عمه أبي سهيل) نافع ( بن مالك عن أبيه) مالك بن أبي عامر الأصبحي ( عن كعب الأحبار أنه قال) موقوفًا ويحتمل أن يكون من الكتب القديمة لأنه حبرها وقد رواه ابن عساكر بسند ضعيف عن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم ( إذا أحببتم) أي أردتم ( أن تعلموا ما للعبد عند ربه) مما قدر له من خير أو شر ( فانظروا) أي تأملوا ( ماذا يتبعه) أي الذي يجري على ألسنة الناس في حياته أو بعد موته ( من حسن الثناء) بفتح المثلثة والمد الوصف بمدح أو به وبذم قال الباجي والمراد ما يذكره أهل الدين والخير دون أهل الضلال والفسق لأنه قد يكون للإنسان العدو فيتبعه بالذكر القبيح انتهى فإن ذكره الصلحاء بشيء علم أن الله أجرى على ألسنتهم ماله عنده فإنهم ينطقون بإلهامه كما يفيده قوله صلى الله عليه وسلم إن لله ملائكة تنطق على ألسنة بني آدم بما في المرء من الخير والشر رواه الحاكم وغيره عن أنس فإن كان خيرًا فليحمد الله ولا يعجب بل يكون خائفًا من مكره الخفي وإن كان شرًا فليبادر بالتوبة ويحذر سطوته وقهره ( مالك عن يحيى بن سعيد أنه قال بلغني) أخرجه ابن عبد البر من طريق زهير عن يحيى بن سعيد عن القاسم بن محمد عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم ( إن المرء) وفي رواية إن الرجل والمراد منهما الإنسان وفي رواية إن المؤمن ( ليدرك بحسن خلقه) قال ابن العربي الخلق أي بالفتح والخلق أي بالضم عبارتان عن جملة الإنسان فالخلق عبارة عن صفته الظاهرة والخلق عبارة عن صفته الباطنة والإشارة بالخلق أي بالضم إلى الإيمان والكفر والعلم والجهل واللين والشدة والمسامحة والاستقصاء والسخاء والبخل وما أشبه ذلك ولبابها في المحمود والمذموم يدور على عشرين خصلة ( درجة) أي مثل درجة أي منزلة ( القائم بالليل) أي المتهجد ( الظامي بالهواجر) أي العطشان في شدة الحر بسبب الصوم لأنهما مجاهدان لأنفسهما في مخالفة حفظهما من الطعام والشراب والنكاح والنوم والقيام والصيام يمنعان من ذلك والنفس أمارة بالسوء تدعو إلى ذلك لأن بالطعام يتقوى وبالنوم ينمو ومن حسن خلقه يجاهد نفسه في تحمل أثقال مساوئ أخلاق الناس لأنه يحمل أثقال غيره ولا يحمل غيره أثقاله وهو جهاد كبير فأدرك ما أدركه القائم الصائم فاستويا في الدرجة قال الباجي المراد أنه يدرك درجة المتنفل بالصلاة والصوم بصبره على الأذى وكفه عن أذى غيره والمقارضة عليه مع سلامة صدره من الغل قال الغزالي ولا يتم لرجل حسن خلقه حتى يتم عقله فعند ذلك يتم إيمانه ويطيع ربه ويعصي عدوه إبليس وهذا الحديث أخرجه أبو داود من وجه آخر عن عائشة والطبراني في الكبير عن أبي أمامة والحاكم وقال صحيح على شرطهما وأقره الذهبي عن أبي هريرة ثلاثتهم مرفوعًا به ( مالك عن يحيى بن سعيد أنه قال سمعت سعيد بن المسيب يقول) موقوفًا لجميع رواة الموطأ إلا إسحاق بن بشر الكامل وهو ضعيف متروك الحديث فرواه عن مالك عن يحيى عن سعيد عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم ورواه الدارقطني من طريق حفص بن غياث عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكره مرسلاً ورواه أيضًا من طريق ابن عيينة عن يحيى عن سعيد عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم وأخرجه البزار من طريق الأعمش عن عمر بن مرة عن سالم بن أبي الجعد عن أم الدرداء عن أبي الدرداء وذكر ابن المديني أن يحيى لم يسمعه من سعيد وإنما بينهما إسماعيل بن أبي حكيم كما حدث به عبد الوهاب ويزيد بن هارون وغيرهما عن يحيى بن سعيد عن إسماعيل عن سعيد بن المسيب مرفوعًا مرسلاً قاله كله ابن عبد البر ملخصًا وتعليل ابن المديني ليس بظاهر فإن يحيى ثقة حافظ باتفاق وقد صرح بالسماع في بعض طرقه فلا مانع أنه سمعه من إسماعيل عن سعيد ثم سمعه من سعيد فحدث به على الوجهين كما أن ابن المسيب حدث به مرسلاً وموقوفًا وموصولاً وأيما كان فالحديث صحيح وقد أخرجه أحمد والبخاري في الأدب المفرد وأبو داود والترمذي وصححه عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( ألا) حرف تنبيه يذكر لتحقيق ما بعدها مركبة من همزة الاستفهام التي هي بمعنى الإنكار ولا التي للنفي والإنكار إذا دخل عليه النفي أفاد التحقيق ولذا لا يكاد يقع بعدها إلا ما كان مصدرًا بنحو ما يتلقى به القسم وشقيقتها أما التي هي من طلائع القسم ومقدماته قاله البيضاوي ( أخبركم بخير من كثير من الصلاة والصدقة) زاد في رواية حفص بن غياث والصيام وفي رواية أحمد ومن بعده ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة ( قالوا بلى) أخبرنا ( قال صلح) بضم فسكون وفي رواية الجماعة إصلاح ( ذات البين) أي صلاح الحال التي بين الناس وإنها خير من نوافل الصلاة وما ذكر معها وقال غيره أي إصلاح أحوال البين حتى تكون أحوالكم أحوال صحة وألفة أو هو إصلاح الفساد والفتنة التي بين القوم وذلك لما فيه من عموم المنافع الدينية والدنيوية من التعاون والتناصر والألفة والاجتماع على الخير حتى أبيح فيه الكذب ولكثرة ما يندفع من المضرة في الدين والدنيا وفي رواية أحمد ومن بعده فإن فساد ذات البين هي الحالقة بدل قوله ( وإياكم والبغضة) بكسر الموحدة وإسكان الغين وفتح الضاد المعجمتين وهاء تأنيث شدة البغض وفي رواية والبغضاء بالفتح والمد وهو أيضًا شدته ( فإنها هي الحالقة) أي الخصلة التي شأنها أن تحلق أي تهلك وتستأصل الدين كما يستأصل الموسى الشعر والمراد المزيلة لمن وقع فيها لما يترتب عليه من الفساد والضغائن وقد زاد الدارقطني قال أبو الدرداء أما إني لا أقول حالقة الشعر ولكنها حالقة الدين قال الباجي أي أنها لا تبقي شيئًا من الحسنات حتى تذهب بها كما يذهب الحلق بشعر الرأس ويتركه عاريًا وقال أبو عمر فيه أوضح حجة على تحريم العداوة وفضل المؤاخاة وسلامة الصدور من الغل ( مالك أنه بلغه) رواه أحمد وقاسم بن أصبغ والحاكم والخرايطي برجال الصحيح عن محمد بن عجلان عن القعقاع بن حكيم عن أبي صالح عن أبي هريرة ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال بعثت) وفي رواية إنما بعثت ( لأتمم حسن) بفتحتين وبضم فسكون وفي رواية مكارم وفي رواية صالح ( الأخلاق) قال الباجي كانت العرب أحسن الناس أخلاقًا بما بقي عندهم من شريعة إبراهيم وكانوا ضلوا بالكفر عن كثير منها فبعث صلى الله عليه وسلم ليتمم محاسن الأخلاق ببيان ما ضلوا عنه وبما خص به في شرعه قال ابن عبد البر ويدخل فيه الصلاح والخير كله والدين والفضل والمروءة والإحسان والعدل فبذلك بعث ليتممه قال وهو حديث مدني صحيح متصل من وجوه صحاح عن أبي هريرة وغيره وللطبراني عن جابر مرفوعًا إن الله بعثني بتمام مكارم الأخلاق وكمال محاسن الأفعال وعزاه الديلمي لأحمد عن معاذ قال السخاوي وما رأيته فيه والذي فيه عن أبي هريرة.


رقم الحديث 1641 وَحَدَّثَنِي عَنْ مالِكٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ أَنَّهُ قَالَ: سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ يَقُولُ: أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ كَثِيرٍ مِنَ الصَّلَاةِ وَالصَّدَقَةِ؟ قَالُوا: بَلَى، قَالَ: إِصْلَاحُ ذَاتِ الْبَيْنِ وَإِيَّاكُمْ وَالْبِغْضَةَ، فَإِنَّهَا هِيَ الْحَالِقَةُ.


( مالك أن معاذ بن جبل) كذا ليحيى وابن القاسم والقعنبي ورواه ابن بكير عن مالك عن يحيى بن سعيد عن معاذ وهو مع هذا منقطع جدًا ولا يوجد مسندًا من حديث معاذ ولا غيره بهذا اللفظ لكن ورد معناه قاله ابن عبد البر ( قال آخر ما أوصاني به رسول الله صلى الله عليه وسلم) لما بعثه إلى اليمن ( حين وضعت رجلي في الغرز) بفتح الغين المعجمة وسكون الراء وزاي منقوطة في موضع الركاب من رجل البعير كالركاب للسرج ( أن قال أحسن خلقك للناس يا معاذ بن جبل) فهو منادى بحذف الأداة بأن يظهر منه لمجالسه أو الوارد عليه البشر والحلم والإشفاق والصبر على التعليم والتودد إلى الصغير والكبير والناس وإن كان لفظه عامًا لكن أريد به من يستحق تحسين الخلق لهم فأما أهل الكفر والإصرار على الكبائر والتمادي على الظلم فلا يؤمر بتحسين الخلق لهم بل يؤمر بالإغلاظ عليهم قاله الباجي وهذا آخر الأحاديث الأربعة التي قالوا أنها لم توجد موصولة في غير الموطأ وذلك لا يضر مالكًا الذي قال فيه سفيان بن عيينة كان مالكًا لا يبلغ من الحديث إلا ما كان صحيحًا وإذا قال بلغني فهو إسناد صحيح فتصور المتأخرين عن وجود هذه الأربعة موصولة لا يقدح فيها فلعلها وصلت في الكتب التي لم تصل إليهم وقد قال السيوطي في حديث اختلاف أمتي رحمة لعله خرج في بعض الكتب التي لم تصل إلينا لأنه عزاه لجمع من الأجلة ذكروه في كتبهم بلا إسناد ولا نسبة لمخرج كإمام الحرمين ولا ريب أنهم دون مالك بمراحل بعيدة كيف ومن شواهد هذا الحديث ما رواه أحمد والترمذي وغيرهما بإسناد حسن عن معاذ قال قلت يا رسول الله علمني ما ينفعني قال اتق الله حيث كنت وأتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن.
وأخرج الترمذي عن أنس قال بعث النبي صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل إلى اليمن فقال يا معاذ اتق الله وخالق الناس بخلق حسن وروى قاسم بن أصبغ عن معاذ أن آخر كلمة فارقت عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت يا رسول الله أي العمل أفضل قال لا يزال لسانك رطبًا من ذكر الله فكأنه لما كان آخر ما أوصاه سأله عن هذا فأجابه فكان آخر كلمة فلا خلف ( مالك عن ابن شهاب) الزهري ( عن عروة بن الزبير) ابن العوام ( عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت ما خير) بضم الخاء المعجمة وكسر التحتية الثقيلة قال الحافظ وأيهم فاعل خير ليكون أعم من قبل الله أو من قبل المخلوقين وقال الباجي يحتمل أن المخير له هو الله فيما كلف أمته من الأعمال أو الناس فعلى الأول يكون قوله ما لم يكن إثمًا استثناء منقطعًا ولعل مراده الاستثناء اللغوي وهو الإخراج ( في أمرين) وللتنيسي والقعنبي بين أمرين ( قط) قال الحافظ أي من أمور الدنيا بدليل قوله ما لم يكن إثمًا لأن أمور الدين لا إثم فيها ( إلا أخذ أيسرهما) أي أسهلهما ( ما لم يكن) الأيسر ( إثمًا) أي مفضيًا للإثم ( فإن كان) الأيسر ( إثمًا كان أبعد الناس منه) ويختار الأشد حينئذ وللطبراني الأوسط عن أنس إلا اختار أيسرهما ما لم يكن لله فيه سخط ووقوع التخيير بين ما فيه إثم وما لا إثم فيه من قبل المخلوقين واضح وأما من قبل الله ففيه إشكال لأن التخيير إنما يكون بين جائزين لكن إذا حمل على ما يفضي إلى الإثم أمكن ذلك بأن يخيره بين أن يفتح عليه من كنوز الأرض ما يخشى من الاشتغال به إلا أن يتفرغ للعبادة مثلاً وبين أن لا يؤتيه من الدنيا إلا الكفاف فيختار الكفاف وإن كانت السعة أسهل منه والإثم على هذا أمر نسبي لا يراد منه معنى الخطيئة لثبوت العصمة له انتهى ومثله غيره بالتخيير بين المجاهدة في العبادة والاقتصاد فيها فإن المجاهدة إن كانت بحيث تجر إلى الهلاك لا تجوز ( وما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه) أي خاصة فلا يرد أمره بقتل ابن خطل وعقبة بن أبي معيط وغيرهما ممن كان يؤذيه لأنهم كانوا مع ذلك ينتهكون حرمات الله وقيل إرادة لا ينتقم لنفسه إذا أوذي في غير السبب الذي يخرج إلى الكفر كما عفا عن الأعرابي الذي جفا في رفع صوته عليه وعن الآخر الذي جبذ بردائه حتى أثر في كتفه وقال محمد أعطني من مال الله الذي عندك فالتفت إليه فضحك ثم أمر له بعطاء كما في الصحيحين من طريق مالك عن إسحاق بن عبد الله عن أنس وفي أبي داود ثم دعا رجلاً فقال احمل له على بعيريه هذين على بعير تمرًا وعلى الآخر شعيرًا ( إلا أن تنتهك) بضم الفوقية وسكون النون وفتح الفوقية والهاء أي لكن إذا انتهكت ( حرمة الله) عز وجل ( فينتقم لله) لا لنفسه ممن ارتكب تلك الحرمة ( بها) أي بسببها وللطبراني عن أنس فإذا انتهكت حرمة الله كان أشد الناس غضبًا لله قال الباجي يريد أن يؤذى أذى فيه غضاضة على الدين فإن في ذلك انتهاكًا لحرمة الله فينتقم بذلك إعظامًا لحق الله وقال بعض العلماء لا يجوز أن يؤذى النبي صلى الله عليه وسلم بفعل مباح ولا غيره وأما غيره من الناس فيجوز أن يؤذى بمباح وليس له المنع منه ولا يأثم فاعله وإن وصل بذلك إلى أذى غيره ولذا لم يأذن صلى الله عليه وسلم في نكاح ابنة أبي جهل فجعل حكم ابنته فاطمة حكمه في أنه لا يجوز أن تؤذى بمباح واحتج على ذلك بقوله تعالى { { إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله } } إلى أن قال { { والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا } } فشرط على المؤمنين أن يؤذوا بغير ما اكتسبوا وأطلق الأذى في خاصة النبي صلى الله عليه وسلم من غير شرط انتهى وحمل الداودي عدم انتقامه لنفسه على ما يختص بالمال وأما العرض فقد اقتص مما نال منه قال فاقتص ممن لده في مرضه بعد نهيه عن ذلك بأن أمر بلدهم مع أنهم تأولوا نهيه على عادة البشر من كراهة النفس للدواء قال الحافظ كذا قال وقد أخرج الحاكم هذا الحديث من طريق معمر عن الزهري بإسناد مطولاً وأوله ما لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم مسلمًا بذكر اسمه أي بصريحه ولا ضرب بيده شيئًا قط إلا أن يضرب في سبيل الله ولا سئل عن شيء قط فمنعه إلا أن يسأل مأثمًا ولا انتقم لنفسه من شيء إلا أن تنتهك حرمات الله فيكون الله ينتقم الحديث وهذا السياق سوى صدره عند مسلم من طريق هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة به وفيه الحث على ترك الأخذ بالشيء العسير والاقتناع باليسير وترك الإلحاح فيما لا يضطر إليه ويؤخذ من ذلك ندب الأخذ بالرخص ما لم يظهر الخطأ والحث على العفو إلا في حقوق الله تعالى والندب إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومحله ما لم يفض إلى ما هو أشد منه وفيه ترك الحكم للنفس وإن كان الحاكم متمكنًا من ذلك بحيث يؤمن منه الحيف على المحكوم عليه لكن لحسم المادة وفيه ما كان عليه صلى الله عليه وسلم من الصبر والحلم والقيام بالحق وهذا هو الخلق الحسن المحمود لأنه لو ترك القيام لحق الله وحق غيره كان ذلك مهانة ولو انتقم لنفسه لم يكن ثم صبر وكان هذا الخلق بطشًا فانتفى عنه الطرفان المذمومان وبقي الوسط وخير الأمور أوسطها وأخرجه البخاري في الصفة النبوية عن التنيسي وفي الأدب عن القعنبي ومسلم عن يحيى ثلاثتهم عن مالك به وتابعه منصور بن المعتمر ويونس عن ابن شهاب وتابعه هشام عن عروة كل ذلك عند مسلم ( مالك عن ابن شهاب عن علي بن حسين بن علي بن أبي طالب) مرسلاً عند جماعة رواة الموطأ فيما علمت إلا خالد بن عبد الرحمن الخراساني فقال عن مالك عن ابن شهاب عن علي بن الحسين عن أبيه وخالد ضعيف ليس بحجة فيما خولف فيه ولابن شهاب فيه إسنادان أحدهما مرسل كما قال مالك والآخر عن أبي سلمة عن أبي هريرة وهما من رواية الثقات قاله في التمهيد وقال السيوطي وصله الدارقطني من طريق خالد الخراساني وموسى بن داود الضبي كلاهما عن مالك عن الزهري عن علي بن الحسين عن أبيه قال ابن عبد البر وخالد وموسى لا بأس بهما انتهى ولم أجده في التمهيد إنما فيه ما ذكرته فلعل نسخه اختلفت والحديث حسن بل صحيح أخرجه أحمد وأبو يعلى والترمذي وابن ماجه من حديث الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة وأحمد والطبراني الكبير عن الحسن بن علي والحاكم في الكنى عن أبي ذر العسكري والحاكم في تاريخه عن علي بن أبي طالب والطبراني في الصغير عن زيد بن ثابت وابن عساكر عن الحارث بن هشام ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه) بفتح أوله من عناه كذا إذا تعلقت عنايته به وكان من قصده يعني ترك الفضول كله على اختلاف أنواعه قال ابن العربي لأن المرء لا يقدر أن يشتغل باللازم فكيف يتعداه إلى الفاضل انتهى وفي إفهامه أن من قبح إسلام المرء أخذه ما لا يعنيه لأنه ضياع للوقت النفيس الذي لا يمكن تعويض فائته فيما لم يخلق لأجله فإن الذي يعنيه الإسلام والإيمان والعمل الصالح وما تعلق بضرورة حياته في معاشه من شبع وروي وستر عورة وعفة فرج ونحو ذلك مما يدفع الضرورة دون مزيد النعم وبهذا يسلم من جميع الآفات دنيا وأخرى فمن عبد الله على استحضار قربه من ربه أو قرب ربه منه فقد حسن إسلامه قال الطيبي من تبعيضية ويجوز أنها بيانية وآثر التعبير بالإسلام على الإيمان لأنه الأعمال الظاهرة والفعل والترك إنما يتعاقبان عليها وزاد حسن إيماء إلى أنه لا يتميز بصورة الأعمال فعلاً وتركًا إلا أن اتصف بالحسن بأن توفرت شروط مكملاتها فضلاً عن المصححات وجعل ترك ما لا يعني من الحسن مبالغة قال بعضهم ومما لا يعني تعلم ما لا يهم من العلوم وترك الأهم منه كمن ترك تعلم العلم الذي فيه صلاح نفسه واشتغل بتعلم ما يصلح به غيره كعلم الجدل ويقول في اعتذاره نيتي نفع الناس ولو كان صادقًا لبدأ باشتغاله بما يصلح به نفسه وقلبه من إخراج الصفات المذمومة من نحو حسد ورياء وكبر وعجب وترؤس على الأقران وتطاول عليهم ونحوها من المهلكات قال ابن عبد البر هذا الحديث من الكلام الجامع للمعاني الكثيرة الجليلة في الألفاظ القليلة وهو مما لم يقله أحد قبله صلى الله عليه وسلم لكن روي معناه عن صحف إبراهيم مرفوعًا ثم أخرج بسنده عن أبي ذر قال قلت يا رسول الله ما كانت صحف إبراهيم قال كانت أمثالاً كلها الحديث وفيه وعلى العاقل أن يكون بصيرًا بزمانه مقبلاً على شأنه حافظًا للسانه ومن حسب كلامه من عمله قل كلامه إلا فيما يعنيه وقيل للقمان الحكيم ما الذي بلغ بك ما نرى أي الفضل قال قدر الله وصدق الحديث وأداء الأمانة وترك ما لا يعنيني وروى أبو عبيدة عن الحسن من علامة إعراض الله عن العبد أن يجعل شغله فيما لا يعنيه وقال أبو داود أصول السنن في كل فن أربعة أحاديث هذا وحديث الأعمال بالنيات والحلال بين وازهد في الدنيا وقال الباجي قال حمزة الكناني هذا الحديث ثلث الإسلام والثاني الأعمال بالنيات والثالث الحلال بين والحرام بين وقال غيره هو نصف الإسلام وقيل كله ( مالك أنه بلغه) أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي من طريق سفيان بن عيينة عن محمد بن المنكدر عن عروة ( عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت استأذن رجل) في الدخول ( على النبي صلى الله عليه وسلم) بيته وهو عيينة بن حصن الفزاري كما جزم به ابن بطال وعياض والقرطبي ونقله الباجي عن ابن حبيب عن مالك ورواه عبد الغني في المبهمات عن مالك بلاغًا وابن بشكوال عن يحيى بن أبي كثير أن عيينة استأذن فذكره مرسلاً وقيل هو مخرمة بن نوفل أخرجه عبد الغني عن عائشة قال الحافظ فيحمل على التعدد وقد حكى المنذري القولين فقال هو عيينة وقيل مخرمة وهو الراجح انتهى وتعقب بأن حديث تسميته عيينة صحيح وإن كان مرسلاً وخبر تسميته مخرمة فيه راويان ضعيفان ولذا قال الخطيب وعياض وغيرهما الصحيح أنه عيينة قالوا ويبعد أن يقول صلى الله عليه وسلم في حق مخرمة ما قال لأنه كان من خيار الصحابة ( قالت عائشة وأنا معه في البيت) قبل نزول الحجاب فقال من هذه قال عائشة قال ألا أنزل لك عن أم البنين فغضبت عائشة وقالت من هذا قال صلى الله عليه وسلم هذا الأحمق المطاع رواه سعيد بن منصور يعني في قومه لأنه كان يتبعه منهم عشرة آلاف قناة لا يسألونه أين يريد ( فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم) له ( بئس ابن العشيرة) الجماعة أو القبيلة أو الأدنى إلى الرجل من أهله وهم ولد أبيه وجده وفي رواية البخاري بئس أخو العشيرة وبئس ابن العشيرة ( ثم أذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم) وللبخاري رواية فقال ائذنوا له ( قالت عائشة فلم أنشب) بمعجمة وموحدة ( أن سمعت ضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم معه) وللبخاري فلما جلس تطلق النبي صلى الله عليه وسلم في وجهه وانبسط إليه وله أيضًا فلما دخل ألان له الكلام ( فلما خرج الرجل قلت) مستفهمة ( يا رسول الله قلت فيه ما قلت) بفتح التاء فيهما خطابًا ( ثم لم تنشب أن ضحكت معه) فما السر في ذلك وفي رواية ثم ألنت له القول ( فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم) يا عائشة ( إن من شر الناس من اتقاه الناس لشره) أي قبيح كلامه وفي رواية لهما فقال يا عائشة متى عهدتني فحاشًا إن شر الناس منزلة عند الله يوم القيامة من تركه الناس اتقاء شره فقال الباجي وصفه بذلك ليعلم حاله فيحذر وليس ذلك من باب الغيبة وقال القرطبي فيه جواز غيبة المعلن بالفسق أو الفحش ونحو ذلك مع جواز مداراتهم اتقاء لشرهم ما لم يؤد ذلك إلى المداهنة في دين الله والفرق بينها وبين المداراة أنها بذل الدنيا لصلاح الدنيا أو الدين أو هما معًا وهي مباحة وربما استحسنت والمداهنة بذل الدين لصلاح الدنيا والنبي صلى الله عليه وسلم إنما يذل له من دنياه حسن عشرته والرفق في مكالمته ومع ذلك فلم يمدحه بقول فلم يناقض قوله فيه فعله فإن قوله فيه بئس ابن العشيرة حق وفعله معه حسن عشرة فيزول بهذا التقرير الإشكال انتهى أي الذي هو أن النصيحة فرض وطلاقة الوجه وإلانة القول يستلزمان الترك وحاصل جوابه أن الفرض سقط لعارض وقال عياض لم تكن غيبة والله أعلم حين إذ أسلم فلم يكن القول فيه غيبة أو كان أسلم ولم يكن إسلامه ناصحًا فأراد صلى الله عليه وسلم بيان ذلك لئلا يغتر به من لم يعرف باطنه فيكون ما وصفه به من علامات النبوة وأما إلانة القول بعد أن دخل فعلى سبيل الاستئلاف وقال القرطبي في هذا الحديث إن عيينة ختم له بسوء لأنه صلى الله عليه وسلم ذمه وأخبر بأن من كان كذلك كان شر الناس ورده الحافظ بأن الحديث ورد بلفظ العموم وشرط من اتصف بالصفة المذكورة أن يموت على ذلك وقد ارتد عيينة في زمن الصديق وحارب ثم رجع وأسلم وحضر بعض الفتوح في عهد عمر وفي الأم للشافعي أن عمر قتل عيينة على الردة قال في الإصابة ولم أر ذلك لغيره فإن كان محفوظًا فلا يذكر في الصحابة لكن يحتمل أنه أمر بقتله فبادر إلى الإسلام فعاش إلى خلافة عثمان وقال أيضًا في ترجمة طليحة نقلاً عن الأم أن عمر قتل طليحة وعيينة على الردة فراجعت جلال الدين البلقيني فاستغربه وقال لعله قبلهما بموحدة أي قبل منهما الإسلام بعد الارتداد ( مالك عن عمه أبي سهيل) نافع ( بن مالك عن أبيه) مالك بن أبي عامر الأصبحي ( عن كعب الأحبار أنه قال) موقوفًا ويحتمل أن يكون من الكتب القديمة لأنه حبرها وقد رواه ابن عساكر بسند ضعيف عن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم ( إذا أحببتم) أي أردتم ( أن تعلموا ما للعبد عند ربه) مما قدر له من خير أو شر ( فانظروا) أي تأملوا ( ماذا يتبعه) أي الذي يجري على ألسنة الناس في حياته أو بعد موته ( من حسن الثناء) بفتح المثلثة والمد الوصف بمدح أو به وبذم قال الباجي والمراد ما يذكره أهل الدين والخير دون أهل الضلال والفسق لأنه قد يكون للإنسان العدو فيتبعه بالذكر القبيح انتهى فإن ذكره الصلحاء بشيء علم أن الله أجرى على ألسنتهم ماله عنده فإنهم ينطقون بإلهامه كما يفيده قوله صلى الله عليه وسلم إن لله ملائكة تنطق على ألسنة بني آدم بما في المرء من الخير والشر رواه الحاكم وغيره عن أنس فإن كان خيرًا فليحمد الله ولا يعجب بل يكون خائفًا من مكره الخفي وإن كان شرًا فليبادر بالتوبة ويحذر سطوته وقهره ( مالك عن يحيى بن سعيد أنه قال بلغني) أخرجه ابن عبد البر من طريق زهير عن يحيى بن سعيد عن القاسم بن محمد عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم ( إن المرء) وفي رواية إن الرجل والمراد منهما الإنسان وفي رواية إن المؤمن ( ليدرك بحسن خلقه) قال ابن العربي الخلق أي بالفتح والخلق أي بالضم عبارتان عن جملة الإنسان فالخلق عبارة عن صفته الظاهرة والخلق عبارة عن صفته الباطنة والإشارة بالخلق أي بالضم إلى الإيمان والكفر والعلم والجهل واللين والشدة والمسامحة والاستقصاء والسخاء والبخل وما أشبه ذلك ولبابها في المحمود والمذموم يدور على عشرين خصلة ( درجة) أي مثل درجة أي منزلة ( القائم بالليل) أي المتهجد ( الظامي بالهواجر) أي العطشان في شدة الحر بسبب الصوم لأنهما مجاهدان لأنفسهما في مخالفة حفظهما من الطعام والشراب والنكاح والنوم والقيام والصيام يمنعان من ذلك والنفس أمارة بالسوء تدعو إلى ذلك لأن بالطعام يتقوى وبالنوم ينمو ومن حسن خلقه يجاهد نفسه في تحمل أثقال مساوئ أخلاق الناس لأنه يحمل أثقال غيره ولا يحمل غيره أثقاله وهو جهاد كبير فأدرك ما أدركه القائم الصائم فاستويا في الدرجة قال الباجي المراد أنه يدرك درجة المتنفل بالصلاة والصوم بصبره على الأذى وكفه عن أذى غيره والمقارضة عليه مع سلامة صدره من الغل قال الغزالي ولا يتم لرجل حسن خلقه حتى يتم عقله فعند ذلك يتم إيمانه ويطيع ربه ويعصي عدوه إبليس وهذا الحديث أخرجه أبو داود من وجه آخر عن عائشة والطبراني في الكبير عن أبي أمامة والحاكم وقال صحيح على شرطهما وأقره الذهبي عن أبي هريرة ثلاثتهم مرفوعًا به ( مالك عن يحيى بن سعيد أنه قال سمعت سعيد بن المسيب يقول) موقوفًا لجميع رواة الموطأ إلا إسحاق بن بشر الكامل وهو ضعيف متروك الحديث فرواه عن مالك عن يحيى عن سعيد عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم ورواه الدارقطني من طريق حفص بن غياث عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكره مرسلاً ورواه أيضًا من طريق ابن عيينة عن يحيى عن سعيد عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم وأخرجه البزار من طريق الأعمش عن عمر بن مرة عن سالم بن أبي الجعد عن أم الدرداء عن أبي الدرداء وذكر ابن المديني أن يحيى لم يسمعه من سعيد وإنما بينهما إسماعيل بن أبي حكيم كما حدث به عبد الوهاب ويزيد بن هارون وغيرهما عن يحيى بن سعيد عن إسماعيل عن سعيد بن المسيب مرفوعًا مرسلاً قاله كله ابن عبد البر ملخصًا وتعليل ابن المديني ليس بظاهر فإن يحيى ثقة حافظ باتفاق وقد صرح بالسماع في بعض طرقه فلا مانع أنه سمعه من إسماعيل عن سعيد ثم سمعه من سعيد فحدث به على الوجهين كما أن ابن المسيب حدث به مرسلاً وموقوفًا وموصولاً وأيما كان فالحديث صحيح وقد أخرجه أحمد والبخاري في الأدب المفرد وأبو داود والترمذي وصححه عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( ألا) حرف تنبيه يذكر لتحقيق ما بعدها مركبة من همزة الاستفهام التي هي بمعنى الإنكار ولا التي للنفي والإنكار إذا دخل عليه النفي أفاد التحقيق ولذا لا يكاد يقع بعدها إلا ما كان مصدرًا بنحو ما يتلقى به القسم وشقيقتها أما التي هي من طلائع القسم ومقدماته قاله البيضاوي ( أخبركم بخير من كثير من الصلاة والصدقة) زاد في رواية حفص بن غياث والصيام وفي رواية أحمد ومن بعده ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة ( قالوا بلى) أخبرنا ( قال صلح) بضم فسكون وفي رواية الجماعة إصلاح ( ذات البين) أي صلاح الحال التي بين الناس وإنها خير من نوافل الصلاة وما ذكر معها وقال غيره أي إصلاح أحوال البين حتى تكون أحوالكم أحوال صحة وألفة أو هو إصلاح الفساد والفتنة التي بين القوم وذلك لما فيه من عموم المنافع الدينية والدنيوية من التعاون والتناصر والألفة والاجتماع على الخير حتى أبيح فيه الكذب ولكثرة ما يندفع من المضرة في الدين والدنيا وفي رواية أحمد ومن بعده فإن فساد ذات البين هي الحالقة بدل قوله ( وإياكم والبغضة) بكسر الموحدة وإسكان الغين وفتح الضاد المعجمتين وهاء تأنيث شدة البغض وفي رواية والبغضاء بالفتح والمد وهو أيضًا شدته ( فإنها هي الحالقة) أي الخصلة التي شأنها أن تحلق أي تهلك وتستأصل الدين كما يستأصل الموسى الشعر والمراد المزيلة لمن وقع فيها لما يترتب عليه من الفساد والضغائن وقد زاد الدارقطني قال أبو الدرداء أما إني لا أقول حالقة الشعر ولكنها حالقة الدين قال الباجي أي أنها لا تبقي شيئًا من الحسنات حتى تذهب بها كما يذهب الحلق بشعر الرأس ويتركه عاريًا وقال أبو عمر فيه أوضح حجة على تحريم العداوة وفضل المؤاخاة وسلامة الصدور من الغل ( مالك أنه بلغه) رواه أحمد وقاسم بن أصبغ والحاكم والخرايطي برجال الصحيح عن محمد بن عجلان عن القعقاع بن حكيم عن أبي صالح عن أبي هريرة ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال بعثت) وفي رواية إنما بعثت ( لأتمم حسن) بفتحتين وبضم فسكون وفي رواية مكارم وفي رواية صالح ( الأخلاق) قال الباجي كانت العرب أحسن الناس أخلاقًا بما بقي عندهم من شريعة إبراهيم وكانوا ضلوا بالكفر عن كثير منها فبعث صلى الله عليه وسلم ليتمم محاسن الأخلاق ببيان ما ضلوا عنه وبما خص به في شرعه قال ابن عبد البر ويدخل فيه الصلاح والخير كله والدين والفضل والمروءة والإحسان والعدل فبذلك بعث ليتممه قال وهو حديث مدني صحيح متصل من وجوه صحاح عن أبي هريرة وغيره وللطبراني عن جابر مرفوعًا إن الله بعثني بتمام مكارم الأخلاق وكمال محاسن الأفعال وعزاه الديلمي لأحمد عن معاذ قال السخاوي وما رأيته فيه والذي فيه عن أبي هريرة.