فهرس الكتاب

شرح الزرقاني - بَابُ التَّرْغِيبِ فِي الصَّدَقَةِ

رقم الحديث 1830 حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي الْحُبَابِ سَعِيدِ بْنِ يَسَارٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: مَنْ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ، وَلَا يَقْبَلُ اللَّهُ إِلَّا طَيِّبًا، كَانَ إِنَّمَا يَضَعُهَا فِي كَفِّ الرَّحْمَنِ، يُرَبِّيهَا كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ أَوْ فَصِيلَهُ حَتَّى تَكُونَ مِثْلَ الْجَبَلِ.


(الترغيب في الصدقة)

(مالك عن يحيى بن سعيد) الأنصاري (عن أبي الحباب) بضم الحاء المهملة وموحدتين مخففًا (سعد بن يسار) بتحتية ومهملة خفيفة مرسلاً عند يحيى وأكثر الرواة وأسنده معن وابن بكير عن مالك عن يحيى عن أبي الحباب (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من تصدق بصدقة من كسب طيب) أي مكسوب والمراد ما هو أعم من تعاطي التكسب أو حصول المكسوب بغير تعاط كالميراث وكأنه ذكر الكسب لأنه الغالب في تحصيل المال والمراد بالطيب الحلال لأنه صفة كسب قال القرطبي أصل الطيب المستلذ بالطبع ثم أطلق على المطلوب بالشرع وهو الحلال قال ابن عبد البر المحض أو المتشابه به لأنه في حيز الحلال على أشبه الأقوال للأدلة (ولا يقبل الله إلا طيبًا) جملة معترضة بين الشرط والجزاء التقدير ما قبله وفي رواية للبخاري ولا يصعد إلى الله إلا الطيب أي الحلال أو المتشابه لا الحرام قال القرطبي لأنه غير مملوك للمتصدق وهو ممنوع من التصرف فيه وهو قد تصرف فيه فلو قبله لزم أن يكون الشيء مأمورًا منهيًا من وجه واحد وهو محال وقال الأبي القبول حصول الثواب على الفعل إذ المعنى لا يثيب الله من تصدق بحرام وإنما يصح الحج بالمال الحرام لأن القبول أخص من الصحة لأنها عبارة عن كون الفعل مسقطًا للفرض ولا يلزم من نفي الأخص نفي الأعم فالحج بالحرام صحيح إذ يسقط به الفرض وهو غير متقبل أي لا ثواب فيه ولا يتعقب هذا بأنه لا واجب إلا وفيه ثواب لأن رد الشيء المغصوب واجب ولا ثواب فيه ولا يشكل صحة الحج بالحرام بقول مالك في النكاح بالمال الحرام أخاف أن يضارع الزنا لأن ذلك مبالغة في التنفير عنه وإلا فالنكاح صحيح (فإنه إنما يضعها في كف الرحمن) ولمسلم عن سعيد المقبري عن سعيد بن يسار عن أبي هريرة أخذها الرحمن بيمينه وإن كانت ثميرة فتربو في كف الرحمن قال المازري هذا الحديث وشبهه إنما عبر به على ما اعتادوه في خطابهم ليفهموا عنه فكنى عن قبول الصدقة باليمين وبالكف وعن تضعيف أجرها بالتربية وقال عياض لما كان الشيء الذي يرتضي يتلقى باليمين ويؤخذ بها استعمل في مثل هذا واستعير للقبول كقول الشاعر

إذا ما راية رفعت لمجد
تلقاها عرابة باليمين

لما استعار للمجد الراية استعار للمبادرة إلى فعلها التلقي باليمين وليس المراد الجارحة وقيل اليمين كناية عن الرضا والقبول إذ الشمال تستعمل في ضد ذلك وقد فرق الله بين أصحاب اليمين وأصحاب الشمال وقيل المراد بكف الرحمن ويمينه كف المتصدق عليه ويمينه وإضافتها إلى الله إضافة ملك واختصاص لوضع هذه الصدقة في كف الآخذ ويمينه لوجه الله وقيل المراد سرعة القبول وقيل حسنه ولعله يصح أن المراد بالكف كفة الميزان وكف كل شيء كفه وكفته وقال الزين بن المنير الكناية عن الرضا والقبول بالتلقي باليمين والكف لتثبيت المعاني المعقولة في الأذهان وتحقيقها في النفوس تحقيق المحسوسات أي لا يتشكك في القبول كما لا يتشكك من عاين التلقي للشيء بيمينه لا إن التناول كالتناول المعهود ولا أن التناول بجارحة وقال الترمذي في جامعه قال أهل العلم من أهل السنة والجماعة نؤمن بهذا الأحاديث ولا نتوهم فيها تشبيهًا ولا نقول كيف هي هكذا روي عن مالك وابن عيينة وابن المبارك وغيرهم وأنكرت الجهمية هذه الروايات انتهى وقد رد عليهم بما هو معلوم (يربيها) أي ينميها لصاحبها بمضاعفة الأجر أو الزيادة في الكمية قاله عياض وقد يصح أن التربية على وجهها وأن ذاتها تعظم يبارك الله فيها ويزيدها من فضله لتعظم في الميزان وتثقله (كما يربي أحدكم فلوه) بفتح الفاء وضم اللام وشد الواو مهره لأنه يفلي أي يفطم وقيل هو كل فطيم من حافر والجمع أفلاء كعدو وأعداء وحكى كسر الفاء وسكون اللام وأنكره ابن دريد وقال أبو زيد إذا فتحت الفاء شددت الواو وإذا كسرتها سكنت اللام وضرب به المثل لأنه يزيد زيادة بينة ولأن الصدقة نتاج العمل وأحوج ما يكون النتاج إلى التربية إذا كان فطيمًا فإذا أحسن العناية به انتهى إلى حد الكمال وكذلك عمل ابن آدم لا سيما الصدقة فإن العبد إذا تصدق بكسب طيب لا يزال ينظر الله إليها يكسبها نعت الكمال حتى تنتهي بالتضعيف إلى نصاب تقع المناسبة بينه وبين ما تقدم نسبة ما بين التمرة إلى الجبل (أو فصيله) وهو ولد الناقة لأنه فصل عن رضاع أمه وفي رواية لمسلم أو قلوصه وهي الناقة المسنة وعند البزار مهره أو وصيفه أو فصيله ولابن خزيمة من طريق سعيد بن يسار عن أبي هريرة فلوه أو قال فصيله وهذا يشعر بأن أو للشك من الراوي (حتى تكون مثل الجبل) لتثقل في ميزانه وفي مسلم عن المقبري عن سعيد بن يسار حتى تكون أعظم من الجبل وله عن سهيل عن أبيه حتى تكون مثل الجبل أو أعظم ولابن جرير من وجه آخر حتى يوافي بها يوم القيامة وهي أعظم من أحد قال أبو هريرة وتصديق ذلك في كتاب الله { { يمحق الله الربا ويربي الصدقات } } وللترمذي حتى أن اللقمة لتصير مثل جبل أحد قال الحافظ فالظاهر أن عينها تعظم لتثقل في الميزان ويحتمل أنه عبارة عن ثوابها وفي التمهيد قيل لبعض العلماء إن الله قال يمحق الله الربا وإنا نرى أصحاب الربا تنمى أموالهم فقال إنما يمحق الله الربا حيث يربي الصدقات ويضعفها يوم القيامة فإذا نظر العبد إلى أعماله نظرها ممحوقة أو مضاعفة وهذا الحديث مجمع على صحته انتهى وهو في الصحيحين وغيرهما من طريق عبيدة (مالك عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة أنه سمع أنس بن مالك يقول كان أبو طلحة) زيد بن سهل الخزرجي (أكثر أنصاري) أي أكثر كل واحد من الأنصار ولذا لم يقل أكثر الأنصار فهو من التفضيل على التفضيل قاله الكرماني (بالمدينة مالاً) تمييز أي من حيث المال (من نخل) بيان لمال (وكان أحب أمواله) هي حوائط قال ابن عبد البر كانت دار أبي جعفر والدار التي تليها حوائط لأبي طلحة وكان قصر بني حديلة حائطًا له يقال لها بئر حاء قال الحافظ ومراده بدار أبي جعفر التي صارت إليه بعد ذلك وعرفت به وهو أبو جعفر المنصور الخليفة العباسي وقصر بني حديلة بحاء مهملة مصغر ووهم من قال بجيم بطن من الأنصار فنسب إليه بسبب المجاورة وإلا فالذي بناه معاوية لما اشترى حصة حسان بمائة ألف درهم ليكون له حصنًا وجعل له بابين أحدهما شارع على خط بني حديلة والآخر في الزاوية الشرقية والذي بناه لمعاوية الطفيل بن أبي بن كعب كما ذكره ابن شبة وغيره (بئر حاء) قال الباجي قرأناه على أبي ذر بفتح الراء في موضع الرفع والنصب والخفض والجمع واللفظان اسم لموضع وليست مضافة إلى موضع وقال الحافظ أبو عبد الله الصوري إنما هي بفتح الباء والراء واتفق هو وأبو ذر وغيرهما من الحفاظ على أن من رفع الراء حال الرفع فقد غلط وعلى ذلك كنا نقرؤه على شيوخ بلدنا وعلى الأول أدركت أهل العلم بالمشرق وهذا الموضع يعرف بقصر بني حديلة قبلي مسجد المدينة وفي فتح الباري بيرحاء بفتح الموحدة وسكون التحتية وبفتح الراء وبالمهملة والمد وجاء في ضبطها أوجه جمعها في النهاية فقال يروى بفتح الباء وكسرها وبفتح الراء وضمها وبالمد والقصر فهذه ثمانية وفي رواية حماد بن سلمة يعني في مسلم بريحا بفتح وكسر الراء مقدمة على التحتية وفي أبي داود بأريحاء مثله لكن بزيادة ألف وقال الباجي أفصحها بفتح الباء وسكون الياء وفتح الراء مقصور وكذا جزم به الصغاني وقال إنه فعيلاً من البراح قال ومن ذكره بكسر الموحدة فظن أنها بئر من آبار المدينة فقد صحف انتهى وتعقب فيما نسبه للنهاية بأن الذي فيها إنما هو خمس فقط فنصبها بفتح الباء وكسرها وبفتح الراء وضمها والمد فيها وبفتحهما والقصر وقال عياض رويناه بفتح الباء والراء وبكسر الباء مع فتح الراء وضمها يسمى به وليس اسم بئر وجزم التيمي بأن المراد البستان قال لأن بساتين المدينة تدعى بآبارها أي البستان الذي فيه بيرحاء وجزم الصغاني بأنها اسم أرض لا بئر قال في اللامع ولا تنافي بين ذلك فإن الأرض أو البستان تسمى باسم البئر التي فيه وصوب الصغاني والزمخشري والمجد الشيرازي من هذا كله فتح الموحدة والراء وقال الباجي إنها المسموعة على أبي ذر وغيره قال في الفتح واختلف في حاء هل هي اسم رجل أو امرأة أو مكان أضيفت إليه البئر أو هي كلمة زجر للإبل فكأن الإبل كانت ترعى هناك وتزجر بهذه اللفظة فأضيفت البئر إلى اللفظة المذكورة (وكانت مستقبلة المسجد) النبوي أي مقابلته قريبة منه (وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخلها) زاد في رواية للبخاري ويستظل فيها (ويشرب من ماء فيها) أي في بيرحاء (طيب) بالجر صفة ماء وفيه إباحة استعذاب الماء وتفضيل بعضه على بعض وإباحة الشرب من دار الصديق ولو لم يكن حاضرًا إذا علم طيب نفسه واتخاذ الحوائط والبساتين ودخول أهل العلم والفضل فيها والاستظلال بظلها والراحة والتنزه فيها وقد يكون ذلك مستحبًا يثاب عليه إذا قصد به إجمام النفس من تعب العبادة وتنشيطها في الطاعة (قال أنس فلما أنزلت هذه الآية { { لن تنالوا البر } } أي لن تبلغوا حقيقة البر الذي هو كمال الخير أو لن تنالوا بر الله الذي هو الرحمة والرضا والجنة { { حتى تنفقوا مما تحبون } } أي بعض ما تحبون من المال أو ما يعمه وغيره كبذل الجاه في معاونة الناس والبدن في طاعة الله والمهجة في سبيل الله (قام أبو طلحة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم) زاد في رواية عند ابن عبد البر ورسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر (فقال يا رسول الله إن الله تعالى يقول { { لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون } } وإن أحب أموالي إلي) بشد الياء (بيرحاء) خبر إن (وإنها صدقة لله أرجو برها) أي خيرها (وذخرها) بضم الذال وإسكان الخاء المعجمتين أي أقدمها فأدخرها لأجدها (عند الله) تعالى ولمسلم عن ثابت عن أنس لما نزلت الآية قال أبو طلحة أرى ربنا يسألنا عن أموالنا فاستشهدك يا رسول الله أني جعلت أرضي بيرحاء لله (فضعها يا رسول الله حيث شئت) وللتنيسي والقعنبي حيث أراك الله فوض أبو طلحة تعيين مصرفها له صلى الله عليه وسلم لكن لا تصريح فيه بأنه جعلها وقفًا ولذا قيل لا ينهض الاستدلال بهذه القصة لشيء من مسائل الوقف (قال) أنس (فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فبخ) بفتح الموحدة وسكون المعجمة وقد تنون مع التثقيل والتخفيف بالكسر وبالرفع والسكون ويجوز التنوين لغات ولو كررت فالمختار تنوين الأولى وتسكين الثانية ومعناه تفخيم الأمر والإعجاب به قاله الحافظ (ذلك مال رابح ذلك مال رابح) مرتين قال الباجي رواه يحيى وجماعة بتحتية وجيم أي يروج ثوابه في الآخرة انتهى وهو مخالف لقول ابن عبد البر رواه يحيى وجماعة رابح من الربح أي رابح صاحبه ومعطيه ورواه ابن وهب وغيره بتحتية أي يروح على صاحبه بالأجر العظيم والأول أولى عندي انتهى ونحوه قول أبي العباس الداني في أطراف الموطأ رواه يحيى الأندلسي بالموحدة والحاء المهملة وتابعه جماعة ورواه يحيى النيسابوري بالتحتية والحاء المهملة وتابعه إسماعيل وابن وهب ورواه القعنبي بالشك انتهى ومعنى رابح بموحدة ذو ربح كلابن وتامر أي يربح صاحبه في الآخرة وقيل فاعل بمعنى مفعول أي مال مربوح فيه ومعناه بتحتية اسم فاعل من الرواح نقيض الغد وأنه قريب الفائدة يصل نفعه إلى صاحبه كل رواح لا يحتاج أن يتكلف فيه إلى مشقة وسير أو يروح بالأجر ويغدو به واكتفى بالرواح عن الغدو لعلم السامع أو من شأنه الرواح وهو الذهاب والفوات فإذا ذهب في الخير فهو أولى وادعى الإسماعيلي أن رواية التحتية تصحيف (وقد سمعت) أنا (ما قلت) أنت (فيه وإني أرى أن تجعلها في الأقربين) وفي رواية للبخاري قبلناه منك ورددناه عليك فاجعله في الأقربين (فقال أبو طلحة أفعل) بضم اللام مضارع (يا رسول الله فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه) عطف خاص على عام وفي البخاري من وجه آخر عن أنس فجعلها لحسان وأبي وأنا أقرب إليه ولم يجعل لي منها فباع حسان فقيل له أتبيع صدقة أبي طلحة فقال ألا أبيع صاعًا من تمر بصاع من دراهم وفي مرسل أبي بكر بن حزم فرده على أقاربه أبي بن كعب وحسان بن ثابت وأخيه أو ابن أخيه شداد بن أوس ونبيط بن جابر فتقاوموه فباع حسان حصته من معاوية بمائة ألف درهم أي بعد ذلك في خلافة معاوية قال ابن عبد البر روى إسماعيل القاضي عن القعنبي عن مالك بلفظ فقسمها صلى الله عليه وسلم في أقاربه وبني عمه أي أقارب أبي طلحة وإضافة القسم إلى المصطفى صلى الله عليه وسلم على أنه الآمر به وإن شاع في لسان العرب لكن أكثر الرواة لم يقولوا ذلك والصواب على ابن عبد العزيز عن القعنبي فقسمها أبو طلحة كرواية الجماعة وفيه التمسك بالعموم لأن أبا طلحة فهم من الآية تناول ذلك لجميع أفراده فلم يقف حتى يرد عليه البيان عن شيء بعينه بل بادر إلى إنفاق ما يحبه وأقره صلى الله عليه وسلم وفيه فضيلة لأبي طلحة لأن الآية تضمنت الحث على الإنفاق من المحبوب فترقى هو إلى إنفاق أحب المحبوب فصوبه صلى الله عليه وسلم وشكر فعله ثم أمره أن يخص بها أهله وكنى عن رضاه بذلك بقوله بخ وزيادة صدقة التطوع على نصاب الزكاة خلافًا لمن قيدها به وصدقة الصحيح بأكثر من ثلثه لأنه صلى الله عليه وسلم لم يستفصل أبا طلحة عن قدر ما تصدق به وقال لسعد بن أبي وقاص الثلث والثلث كثير وفيه جواز حب المال للرجل الفاضل العالم وأنه لا نقص عليه من ذلك وقد أخبر الله عن الإنسان بقوله { { وإنه لحب الخير لشديد } } والخير المال اتفاقًا وفيه غير ذلك وأخرجه البخاري في الزكاة عن عبد الله بن يوسف وفي الوكالة عن يحيى النيسابوري وفي الوقف وفي الأشربة عن القعنبي وفي التفسير عن إسماعيل بن أبي أويس ومسلم في الزكاة عن يحيى النيسابوري أربعتهم عن مالك به وتابعه عبد العزيز الماجشون عن إسحاق عند البخاري (مالك عن زيد بن أسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أعطوا السائل) الذي يسأل التصدق عليه (وإن جاء على فرس) يعني لا تردوه وإن جاء على حالة تدل على غناه كركوب فرس فإنه لولا حاجته للسؤال ما بذل وجهه بل هذا وشبهه من المستورين الذين يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف وقد حكي أن عمر بن عبد العزيز بعث مالاً يفرق بالرقة فقال له الذي بعث معه يا أمير المؤمنين تبعثني إلى قوم لا أعرفهم وفيهم غني وفقير فقال كل من مد يده إليك فأعطه وزعم أن المراد وإن جاء على فرس يطلب علفه وطعامه تعسف ركيك قال الحراني ولو في مثله تجيء منبهة على أن ما قبلها جاء على سبيل الاستقصاء وما بعدها جاء نصًا على الحالة التي يظن أنها لا تندرج فيما قبلها فكونه على فرس يؤذن بغناه فلا يليق إعطاؤه دفعًا للتوهم وقال أبو حيان هذه الواو لعطف حال على حال محذوفة تضمنها السابق والمعنى أعطوه كائنًا من كان ولا تجيء هذه الحال إلا منبهة على ما يتوهم أنه لا يندرج تحت عموم الحال المحذوفة فأدرج تحته ألا ترى أنه لا يحسن أعطوا السائل ولو كان غنيًا أو فقيرًا انتهى ومقصود الحديث الحث على إعطاء السائل وإن جل ولو ما قل كما يفيده حذف المتعلق لكن إذا وجده ولم يعارضه ما هو أهم وإلا فلا ضير في رده كما يفيده أحاديث أخر قال ابن عبد البر لا أعلم في إرسال هذا الحديث خلافًا عن مالك وليس فيه مسند يحتج به فيما أعلم انتهى وقد وصله ابن عدي من طريق عبد الله بن زيد بن أسلم عن أبيه عن أبي صالح عن أبي هريرة ولكن عبد الله ضعيف نعم له شاهد أخرجه أحمد وأبو داود وقاسم بن أصبغ عن الحسين بن علي مرفوعًا للسائل حق وإن جاء على فرس وسنده جيد قاله العراقي وغيره ولكن قال ابن عبد البر سنده ليس بالقوي وجاء بلفظ الموطأ وجه آخر عن أبي هريرة عند ابن عدي وضعفه ومن وجه آخر عند الدارقطني والحاصل أن المرسل صحيح وتتقوى رواية الواصل بتعدد الطرق وباعتضادها بالمرسل (مالك عن زيد بن أسلم) العدوي (عن عمرو) بفتح العين (ابن معاذ) بن سعد بن معاذ (الأشهلي الأنصاري) الأوسي أبي محمد المدني (عن جدته) يقال اسمها حواء بنت يزيد بن السكن صحابية مدنية (أنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا نساء المؤمنات) روي بضم الهمزة منادى مفرد والمؤمنات صفة له فيرفع على اللفظ وينصب بالكسرة على المحل وروي بفتح الهمزة منادى مفرد مضاف والمؤمنات صفة لموصوف محذوف أي نساء النفوس أو الطائفة المؤمنات فخرج عن إضافة الموصوف إلى صفته ويجوز أنها منها بتأويل نساء بفاضلات أي فاضلات المؤمنات وأنكر ابن عبد البر رواية الإضافة ورده ابن السيد بأنها قد صحت نقلاً وساعدتها اللغة فلا معنى للإنكار ورواه الطبراني من حديث عائشة بلفظ يا نساء المؤمنين (لا تحقرن إحداكن أن تهدي لجارتها) شيئًا (ولو) كان (كراع شاة) بضم الكاف ما دون العقب وخص النساء لأنهن مواد المودة والبغضاء ولأنهن أسرع انتقالاً في كل منهما (محرقًا) نعت لكراع وهو مؤنث فحقه محرقة لكن وردت الرواية هكذا في الموطآت وغيرها وقل أن تعرض العرب بذكره فلعل الرواية على هذه اللغة والأظهر أنه نهي للمهدى إليها قاله الباجي ومر هذا الحديث سنده ومتنه في جامع ما جاء في الطعام والشراب إشارة إلى أن الطعام اسم لكل ما يطعم وإن قل وأعاده هنا إلى الترغيب في الصدقة وإن قلت والنهي عن احتقارها فلا تكرار قال أبو عمر في ذكر القليل تنبيه على فضل الكثير لمن فهم معنى الخطاب وقد أحسن القائل

افعل الخير ما استطعت وإن كان
قليلاً فلن تطيق لكله

ومتى تفعل الكثير من الخير
إذا كنت تاركًا لأقله

وأحسن منه قول محمد الوراق

لو قد رأيت الصغير من عمل
الخير ثوابًا عجبت من كبره

أو قد رأيت الحقير من عمل
الشر جزاء شفقت من شره

(مالك أنه بلغه عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أن مسكينًا سألها وهي صائمة وليس في بيتها إلا رغيف) واحد (فقالت لمولاة لها) لم تسم (أعطيه إياه فقالت ليس لك ما تفطرين عليه فقالت أعطيه إياه قالت) المولاة (ففعلت) أعطيته الرغيف (قالت فلما أمسينا أهدى لنا أهل بيت أو إنسان) شكت (ما كان يهدي لنا) شيئًا قبل ذلك (شاة) مفعول أهدى (وكفنها) أي مطبوخة للأكل (فدعتني عائشة فقالت كلي من هذا) أي لحم الشاة (هذا خير من قرصك) الرغيف الذي أردت منعي عن إعطائه للسائل (مالك قد بلغني أن مسكينًا استطعم عائشة أم المؤمنين وبين يديها عنب فقالت لإنسان خذ حبة فأعطه إياها فجعل) ذلك الإنسان (ينظر إليها ويتعجب) إذ لا تقع حبة عنب موقعًا من المستطعم (فقالت عائشة أتعجب كم ترى في هذه الحبة من مثقال) أي زنة (ذرة) وقد قال الله تعالى { { ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا } } أي من نقص حسنة أو زيادة سيئة { { وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها } } [الأنبياء: 47] .



رقم الحديث 1831 وَحَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ: كَانَ أَبُو طَلْحَةَ أَكْثَرَ أَنْصَارِيٍّ بِالْمَدِينَةِ مَالًا مِنْ نَخْلٍ، وَكَانَ أَحَبَّ أَمْوَالِهِ إِلَيْهِ بَيْرُحَاءَ، وَكَانَتْ مُسْتَقْبِلَةَ الْمَسْجِدِ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْخُلُهَا وَيَشْرَبُ مِنْ مَاءٍ فِيهَا طَيِّبٍ، قَالَ أَنَسٌ، فَلَمَّا أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: { { لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ } } قَامَ أَبُو طَلْحَةَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَقُولُ: { { لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ } } وَإِنَّ أَحَبَّ أَمْوَالِي إِلَيَّ بَيْرُحَاءَ، وَإِنَّهَا صَدَقَةٌ لِلَّهِ أَرْجُو بِرَّهَا، وَذُخْرَهَا عِنْدَ اللَّهِ، فَضَعْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ حَيْثُ شِئْتَ، قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بَخْ ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ، ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ، وَقَدْ سَمِعْتُ مَا قُلْتَ فِيهِ، وَإِنِّي أَرَى أَنْ تَجْعَلَهَا فِي الْأَقْرَبِينَ، فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ: أَفْعَلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَسَمَهَا أَبُو طَلْحَةَ فِي أَقَارِبِهِ، وَبَنِي عَمِّهِ.


(الترغيب في الصدقة)

(مالك عن يحيى بن سعيد) الأنصاري (عن أبي الحباب) بضم الحاء المهملة وموحدتين مخففًا (سعد بن يسار) بتحتية ومهملة خفيفة مرسلاً عند يحيى وأكثر الرواة وأسنده معن وابن بكير عن مالك عن يحيى عن أبي الحباب (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من تصدق بصدقة من كسب طيب) أي مكسوب والمراد ما هو أعم من تعاطي التكسب أو حصول المكسوب بغير تعاط كالميراث وكأنه ذكر الكسب لأنه الغالب في تحصيل المال والمراد بالطيب الحلال لأنه صفة كسب قال القرطبي أصل الطيب المستلذ بالطبع ثم أطلق على المطلوب بالشرع وهو الحلال قال ابن عبد البر المحض أو المتشابه به لأنه في حيز الحلال على أشبه الأقوال للأدلة (ولا يقبل الله إلا طيبًا) جملة معترضة بين الشرط والجزاء التقدير ما قبله وفي رواية للبخاري ولا يصعد إلى الله إلا الطيب أي الحلال أو المتشابه لا الحرام قال القرطبي لأنه غير مملوك للمتصدق وهو ممنوع من التصرف فيه وهو قد تصرف فيه فلو قبله لزم أن يكون الشيء مأمورًا منهيًا من وجه واحد وهو محال وقال الأبي القبول حصول الثواب على الفعل إذ المعنى لا يثيب الله من تصدق بحرام وإنما يصح الحج بالمال الحرام لأن القبول أخص من الصحة لأنها عبارة عن كون الفعل مسقطًا للفرض ولا يلزم من نفي الأخص نفي الأعم فالحج بالحرام صحيح إذ يسقط به الفرض وهو غير متقبل أي لا ثواب فيه ولا يتعقب هذا بأنه لا واجب إلا وفيه ثواب لأن رد الشيء المغصوب واجب ولا ثواب فيه ولا يشكل صحة الحج بالحرام بقول مالك في النكاح بالمال الحرام أخاف أن يضارع الزنا لأن ذلك مبالغة في التنفير عنه وإلا فالنكاح صحيح (فإنه إنما يضعها في كف الرحمن) ولمسلم عن سعيد المقبري عن سعيد بن يسار عن أبي هريرة أخذها الرحمن بيمينه وإن كانت ثميرة فتربو في كف الرحمن قال المازري هذا الحديث وشبهه إنما عبر به على ما اعتادوه في خطابهم ليفهموا عنه فكنى عن قبول الصدقة باليمين وبالكف وعن تضعيف أجرها بالتربية وقال عياض لما كان الشيء الذي يرتضي يتلقى باليمين ويؤخذ بها استعمل في مثل هذا واستعير للقبول كقول الشاعر

إذا ما راية رفعت لمجد
تلقاها عرابة باليمين

لما استعار للمجد الراية استعار للمبادرة إلى فعلها التلقي باليمين وليس المراد الجارحة وقيل اليمين كناية عن الرضا والقبول إذ الشمال تستعمل في ضد ذلك وقد فرق الله بين أصحاب اليمين وأصحاب الشمال وقيل المراد بكف الرحمن ويمينه كف المتصدق عليه ويمينه وإضافتها إلى الله إضافة ملك واختصاص لوضع هذه الصدقة في كف الآخذ ويمينه لوجه الله وقيل المراد سرعة القبول وقيل حسنه ولعله يصح أن المراد بالكف كفة الميزان وكف كل شيء كفه وكفته وقال الزين بن المنير الكناية عن الرضا والقبول بالتلقي باليمين والكف لتثبيت المعاني المعقولة في الأذهان وتحقيقها في النفوس تحقيق المحسوسات أي لا يتشكك في القبول كما لا يتشكك من عاين التلقي للشيء بيمينه لا إن التناول كالتناول المعهود ولا أن التناول بجارحة وقال الترمذي في جامعه قال أهل العلم من أهل السنة والجماعة نؤمن بهذا الأحاديث ولا نتوهم فيها تشبيهًا ولا نقول كيف هي هكذا روي عن مالك وابن عيينة وابن المبارك وغيرهم وأنكرت الجهمية هذه الروايات انتهى وقد رد عليهم بما هو معلوم (يربيها) أي ينميها لصاحبها بمضاعفة الأجر أو الزيادة في الكمية قاله عياض وقد يصح أن التربية على وجهها وأن ذاتها تعظم يبارك الله فيها ويزيدها من فضله لتعظم في الميزان وتثقله (كما يربي أحدكم فلوه) بفتح الفاء وضم اللام وشد الواو مهره لأنه يفلي أي يفطم وقيل هو كل فطيم من حافر والجمع أفلاء كعدو وأعداء وحكى كسر الفاء وسكون اللام وأنكره ابن دريد وقال أبو زيد إذا فتحت الفاء شددت الواو وإذا كسرتها سكنت اللام وضرب به المثل لأنه يزيد زيادة بينة ولأن الصدقة نتاج العمل وأحوج ما يكون النتاج إلى التربية إذا كان فطيمًا فإذا أحسن العناية به انتهى إلى حد الكمال وكذلك عمل ابن آدم لا سيما الصدقة فإن العبد إذا تصدق بكسب طيب لا يزال ينظر الله إليها يكسبها نعت الكمال حتى تنتهي بالتضعيف إلى نصاب تقع المناسبة بينه وبين ما تقدم نسبة ما بين التمرة إلى الجبل (أو فصيله) وهو ولد الناقة لأنه فصل عن رضاع أمه وفي رواية لمسلم أو قلوصه وهي الناقة المسنة وعند البزار مهره أو وصيفه أو فصيله ولابن خزيمة من طريق سعيد بن يسار عن أبي هريرة فلوه أو قال فصيله وهذا يشعر بأن أو للشك من الراوي (حتى تكون مثل الجبل) لتثقل في ميزانه وفي مسلم عن المقبري عن سعيد بن يسار حتى تكون أعظم من الجبل وله عن سهيل عن أبيه حتى تكون مثل الجبل أو أعظم ولابن جرير من وجه آخر حتى يوافي بها يوم القيامة وهي أعظم من أحد قال أبو هريرة وتصديق ذلك في كتاب الله { { يمحق الله الربا ويربي الصدقات } } وللترمذي حتى أن اللقمة لتصير مثل جبل أحد قال الحافظ فالظاهر أن عينها تعظم لتثقل في الميزان ويحتمل أنه عبارة عن ثوابها وفي التمهيد قيل لبعض العلماء إن الله قال يمحق الله الربا وإنا نرى أصحاب الربا تنمى أموالهم فقال إنما يمحق الله الربا حيث يربي الصدقات ويضعفها يوم القيامة فإذا نظر العبد إلى أعماله نظرها ممحوقة أو مضاعفة وهذا الحديث مجمع على صحته انتهى وهو في الصحيحين وغيرهما من طريق عبيدة (مالك عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة أنه سمع أنس بن مالك يقول كان أبو طلحة) زيد بن سهل الخزرجي (أكثر أنصاري) أي أكثر كل واحد من الأنصار ولذا لم يقل أكثر الأنصار فهو من التفضيل على التفضيل قاله الكرماني (بالمدينة مالاً) تمييز أي من حيث المال (من نخل) بيان لمال (وكان أحب أمواله) هي حوائط قال ابن عبد البر كانت دار أبي جعفر والدار التي تليها حوائط لأبي طلحة وكان قصر بني حديلة حائطًا له يقال لها بئر حاء قال الحافظ ومراده بدار أبي جعفر التي صارت إليه بعد ذلك وعرفت به وهو أبو جعفر المنصور الخليفة العباسي وقصر بني حديلة بحاء مهملة مصغر ووهم من قال بجيم بطن من الأنصار فنسب إليه بسبب المجاورة وإلا فالذي بناه معاوية لما اشترى حصة حسان بمائة ألف درهم ليكون له حصنًا وجعل له بابين أحدهما شارع على خط بني حديلة والآخر في الزاوية الشرقية والذي بناه لمعاوية الطفيل بن أبي بن كعب كما ذكره ابن شبة وغيره (بئر حاء) قال الباجي قرأناه على أبي ذر بفتح الراء في موضع الرفع والنصب والخفض والجمع واللفظان اسم لموضع وليست مضافة إلى موضع وقال الحافظ أبو عبد الله الصوري إنما هي بفتح الباء والراء واتفق هو وأبو ذر وغيرهما من الحفاظ على أن من رفع الراء حال الرفع فقد غلط وعلى ذلك كنا نقرؤه على شيوخ بلدنا وعلى الأول أدركت أهل العلم بالمشرق وهذا الموضع يعرف بقصر بني حديلة قبلي مسجد المدينة وفي فتح الباري بيرحاء بفتح الموحدة وسكون التحتية وبفتح الراء وبالمهملة والمد وجاء في ضبطها أوجه جمعها في النهاية فقال يروى بفتح الباء وكسرها وبفتح الراء وضمها وبالمد والقصر فهذه ثمانية وفي رواية حماد بن سلمة يعني في مسلم بريحا بفتح وكسر الراء مقدمة على التحتية وفي أبي داود بأريحاء مثله لكن بزيادة ألف وقال الباجي أفصحها بفتح الباء وسكون الياء وفتح الراء مقصور وكذا جزم به الصغاني وقال إنه فعيلاً من البراح قال ومن ذكره بكسر الموحدة فظن أنها بئر من آبار المدينة فقد صحف انتهى وتعقب فيما نسبه للنهاية بأن الذي فيها إنما هو خمس فقط فنصبها بفتح الباء وكسرها وبفتح الراء وضمها والمد فيها وبفتحهما والقصر وقال عياض رويناه بفتح الباء والراء وبكسر الباء مع فتح الراء وضمها يسمى به وليس اسم بئر وجزم التيمي بأن المراد البستان قال لأن بساتين المدينة تدعى بآبارها أي البستان الذي فيه بيرحاء وجزم الصغاني بأنها اسم أرض لا بئر قال في اللامع ولا تنافي بين ذلك فإن الأرض أو البستان تسمى باسم البئر التي فيه وصوب الصغاني والزمخشري والمجد الشيرازي من هذا كله فتح الموحدة والراء وقال الباجي إنها المسموعة على أبي ذر وغيره قال في الفتح واختلف في حاء هل هي اسم رجل أو امرأة أو مكان أضيفت إليه البئر أو هي كلمة زجر للإبل فكأن الإبل كانت ترعى هناك وتزجر بهذه اللفظة فأضيفت البئر إلى اللفظة المذكورة (وكانت مستقبلة المسجد) النبوي أي مقابلته قريبة منه (وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخلها) زاد في رواية للبخاري ويستظل فيها (ويشرب من ماء فيها) أي في بيرحاء (طيب) بالجر صفة ماء وفيه إباحة استعذاب الماء وتفضيل بعضه على بعض وإباحة الشرب من دار الصديق ولو لم يكن حاضرًا إذا علم طيب نفسه واتخاذ الحوائط والبساتين ودخول أهل العلم والفضل فيها والاستظلال بظلها والراحة والتنزه فيها وقد يكون ذلك مستحبًا يثاب عليه إذا قصد به إجمام النفس من تعب العبادة وتنشيطها في الطاعة (قال أنس فلما أنزلت هذه الآية { { لن تنالوا البر } } أي لن تبلغوا حقيقة البر الذي هو كمال الخير أو لن تنالوا بر الله الذي هو الرحمة والرضا والجنة { { حتى تنفقوا مما تحبون } } أي بعض ما تحبون من المال أو ما يعمه وغيره كبذل الجاه في معاونة الناس والبدن في طاعة الله والمهجة في سبيل الله (قام أبو طلحة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم) زاد في رواية عند ابن عبد البر ورسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر (فقال يا رسول الله إن الله تعالى يقول { { لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون } } وإن أحب أموالي إلي) بشد الياء (بيرحاء) خبر إن (وإنها صدقة لله أرجو برها) أي خيرها (وذخرها) بضم الذال وإسكان الخاء المعجمتين أي أقدمها فأدخرها لأجدها (عند الله) تعالى ولمسلم عن ثابت عن أنس لما نزلت الآية قال أبو طلحة أرى ربنا يسألنا عن أموالنا فاستشهدك يا رسول الله أني جعلت أرضي بيرحاء لله (فضعها يا رسول الله حيث شئت) وللتنيسي والقعنبي حيث أراك الله فوض أبو طلحة تعيين مصرفها له صلى الله عليه وسلم لكن لا تصريح فيه بأنه جعلها وقفًا ولذا قيل لا ينهض الاستدلال بهذه القصة لشيء من مسائل الوقف (قال) أنس (فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فبخ) بفتح الموحدة وسكون المعجمة وقد تنون مع التثقيل والتخفيف بالكسر وبالرفع والسكون ويجوز التنوين لغات ولو كررت فالمختار تنوين الأولى وتسكين الثانية ومعناه تفخيم الأمر والإعجاب به قاله الحافظ (ذلك مال رابح ذلك مال رابح) مرتين قال الباجي رواه يحيى وجماعة بتحتية وجيم أي يروج ثوابه في الآخرة انتهى وهو مخالف لقول ابن عبد البر رواه يحيى وجماعة رابح من الربح أي رابح صاحبه ومعطيه ورواه ابن وهب وغيره بتحتية أي يروح على صاحبه بالأجر العظيم والأول أولى عندي انتهى ونحوه قول أبي العباس الداني في أطراف الموطأ رواه يحيى الأندلسي بالموحدة والحاء المهملة وتابعه جماعة ورواه يحيى النيسابوري بالتحتية والحاء المهملة وتابعه إسماعيل وابن وهب ورواه القعنبي بالشك انتهى ومعنى رابح بموحدة ذو ربح كلابن وتامر أي يربح صاحبه في الآخرة وقيل فاعل بمعنى مفعول أي مال مربوح فيه ومعناه بتحتية اسم فاعل من الرواح نقيض الغد وأنه قريب الفائدة يصل نفعه إلى صاحبه كل رواح لا يحتاج أن يتكلف فيه إلى مشقة وسير أو يروح بالأجر ويغدو به واكتفى بالرواح عن الغدو لعلم السامع أو من شأنه الرواح وهو الذهاب والفوات فإذا ذهب في الخير فهو أولى وادعى الإسماعيلي أن رواية التحتية تصحيف (وقد سمعت) أنا (ما قلت) أنت (فيه وإني أرى أن تجعلها في الأقربين) وفي رواية للبخاري قبلناه منك ورددناه عليك فاجعله في الأقربين (فقال أبو طلحة أفعل) بضم اللام مضارع (يا رسول الله فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه) عطف خاص على عام وفي البخاري من وجه آخر عن أنس فجعلها لحسان وأبي وأنا أقرب إليه ولم يجعل لي منها فباع حسان فقيل له أتبيع صدقة أبي طلحة فقال ألا أبيع صاعًا من تمر بصاع من دراهم وفي مرسل أبي بكر بن حزم فرده على أقاربه أبي بن كعب وحسان بن ثابت وأخيه أو ابن أخيه شداد بن أوس ونبيط بن جابر فتقاوموه فباع حسان حصته من معاوية بمائة ألف درهم أي بعد ذلك في خلافة معاوية قال ابن عبد البر روى إسماعيل القاضي عن القعنبي عن مالك بلفظ فقسمها صلى الله عليه وسلم في أقاربه وبني عمه أي أقارب أبي طلحة وإضافة القسم إلى المصطفى صلى الله عليه وسلم على أنه الآمر به وإن شاع في لسان العرب لكن أكثر الرواة لم يقولوا ذلك والصواب على ابن عبد العزيز عن القعنبي فقسمها أبو طلحة كرواية الجماعة وفيه التمسك بالعموم لأن أبا طلحة فهم من الآية تناول ذلك لجميع أفراده فلم يقف حتى يرد عليه البيان عن شيء بعينه بل بادر إلى إنفاق ما يحبه وأقره صلى الله عليه وسلم وفيه فضيلة لأبي طلحة لأن الآية تضمنت الحث على الإنفاق من المحبوب فترقى هو إلى إنفاق أحب المحبوب فصوبه صلى الله عليه وسلم وشكر فعله ثم أمره أن يخص بها أهله وكنى عن رضاه بذلك بقوله بخ وزيادة صدقة التطوع على نصاب الزكاة خلافًا لمن قيدها به وصدقة الصحيح بأكثر من ثلثه لأنه صلى الله عليه وسلم لم يستفصل أبا طلحة عن قدر ما تصدق به وقال لسعد بن أبي وقاص الثلث والثلث كثير وفيه جواز حب المال للرجل الفاضل العالم وأنه لا نقص عليه من ذلك وقد أخبر الله عن الإنسان بقوله { { وإنه لحب الخير لشديد } } والخير المال اتفاقًا وفيه غير ذلك وأخرجه البخاري في الزكاة عن عبد الله بن يوسف وفي الوكالة عن يحيى النيسابوري وفي الوقف وفي الأشربة عن القعنبي وفي التفسير عن إسماعيل بن أبي أويس ومسلم في الزكاة عن يحيى النيسابوري أربعتهم عن مالك به وتابعه عبد العزيز الماجشون عن إسحاق عند البخاري (مالك عن زيد بن أسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أعطوا السائل) الذي يسأل التصدق عليه (وإن جاء على فرس) يعني لا تردوه وإن جاء على حالة تدل على غناه كركوب فرس فإنه لولا حاجته للسؤال ما بذل وجهه بل هذا وشبهه من المستورين الذين يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف وقد حكي أن عمر بن عبد العزيز بعث مالاً يفرق بالرقة فقال له الذي بعث معه يا أمير المؤمنين تبعثني إلى قوم لا أعرفهم وفيهم غني وفقير فقال كل من مد يده إليك فأعطه وزعم أن المراد وإن جاء على فرس يطلب علفه وطعامه تعسف ركيك قال الحراني ولو في مثله تجيء منبهة على أن ما قبلها جاء على سبيل الاستقصاء وما بعدها جاء نصًا على الحالة التي يظن أنها لا تندرج فيما قبلها فكونه على فرس يؤذن بغناه فلا يليق إعطاؤه دفعًا للتوهم وقال أبو حيان هذه الواو لعطف حال على حال محذوفة تضمنها السابق والمعنى أعطوه كائنًا من كان ولا تجيء هذه الحال إلا منبهة على ما يتوهم أنه لا يندرج تحت عموم الحال المحذوفة فأدرج تحته ألا ترى أنه لا يحسن أعطوا السائل ولو كان غنيًا أو فقيرًا انتهى ومقصود الحديث الحث على إعطاء السائل وإن جل ولو ما قل كما يفيده حذف المتعلق لكن إذا وجده ولم يعارضه ما هو أهم وإلا فلا ضير في رده كما يفيده أحاديث أخر قال ابن عبد البر لا أعلم في إرسال هذا الحديث خلافًا عن مالك وليس فيه مسند يحتج به فيما أعلم انتهى وقد وصله ابن عدي من طريق عبد الله بن زيد بن أسلم عن أبيه عن أبي صالح عن أبي هريرة ولكن عبد الله ضعيف نعم له شاهد أخرجه أحمد وأبو داود وقاسم بن أصبغ عن الحسين بن علي مرفوعًا للسائل حق وإن جاء على فرس وسنده جيد قاله العراقي وغيره ولكن قال ابن عبد البر سنده ليس بالقوي وجاء بلفظ الموطأ وجه آخر عن أبي هريرة عند ابن عدي وضعفه ومن وجه آخر عند الدارقطني والحاصل أن المرسل صحيح وتتقوى رواية الواصل بتعدد الطرق وباعتضادها بالمرسل (مالك عن زيد بن أسلم) العدوي (عن عمرو) بفتح العين (ابن معاذ) بن سعد بن معاذ (الأشهلي الأنصاري) الأوسي أبي محمد المدني (عن جدته) يقال اسمها حواء بنت يزيد بن السكن صحابية مدنية (أنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا نساء المؤمنات) روي بضم الهمزة منادى مفرد والمؤمنات صفة له فيرفع على اللفظ وينصب بالكسرة على المحل وروي بفتح الهمزة منادى مفرد مضاف والمؤمنات صفة لموصوف محذوف أي نساء النفوس أو الطائفة المؤمنات فخرج عن إضافة الموصوف إلى صفته ويجوز أنها منها بتأويل نساء بفاضلات أي فاضلات المؤمنات وأنكر ابن عبد البر رواية الإضافة ورده ابن السيد بأنها قد صحت نقلاً وساعدتها اللغة فلا معنى للإنكار ورواه الطبراني من حديث عائشة بلفظ يا نساء المؤمنين (لا تحقرن إحداكن أن تهدي لجارتها) شيئًا (ولو) كان (كراع شاة) بضم الكاف ما دون العقب وخص النساء لأنهن مواد المودة والبغضاء ولأنهن أسرع انتقالاً في كل منهما (محرقًا) نعت لكراع وهو مؤنث فحقه محرقة لكن وردت الرواية هكذا في الموطآت وغيرها وقل أن تعرض العرب بذكره فلعل الرواية على هذه اللغة والأظهر أنه نهي للمهدى إليها قاله الباجي ومر هذا الحديث سنده ومتنه في جامع ما جاء في الطعام والشراب إشارة إلى أن الطعام اسم لكل ما يطعم وإن قل وأعاده هنا إلى الترغيب في الصدقة وإن قلت والنهي عن احتقارها فلا تكرار قال أبو عمر في ذكر القليل تنبيه على فضل الكثير لمن فهم معنى الخطاب وقد أحسن القائل

افعل الخير ما استطعت وإن كان
قليلاً فلن تطيق لكله

ومتى تفعل الكثير من الخير
إذا كنت تاركًا لأقله

وأحسن منه قول محمد الوراق

لو قد رأيت الصغير من عمل
الخير ثوابًا عجبت من كبره

أو قد رأيت الحقير من عمل
الشر جزاء شفقت من شره

(مالك أنه بلغه عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أن مسكينًا سألها وهي صائمة وليس في بيتها إلا رغيف) واحد (فقالت لمولاة لها) لم تسم (أعطيه إياه فقالت ليس لك ما تفطرين عليه فقالت أعطيه إياه قالت) المولاة (ففعلت) أعطيته الرغيف (قالت فلما أمسينا أهدى لنا أهل بيت أو إنسان) شكت (ما كان يهدي لنا) شيئًا قبل ذلك (شاة) مفعول أهدى (وكفنها) أي مطبوخة للأكل (فدعتني عائشة فقالت كلي من هذا) أي لحم الشاة (هذا خير من قرصك) الرغيف الذي أردت منعي عن إعطائه للسائل (مالك قد بلغني أن مسكينًا استطعم عائشة أم المؤمنين وبين يديها عنب فقالت لإنسان خذ حبة فأعطه إياها فجعل) ذلك الإنسان (ينظر إليها ويتعجب) إذ لا تقع حبة عنب موقعًا من المستطعم (فقالت عائشة أتعجب كم ترى في هذه الحبة من مثقال) أي زنة (ذرة) وقد قال الله تعالى { { ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا } } أي من نقص حسنة أو زيادة سيئة { { وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها } } [الأنبياء: 47] .



رقم الحديث 1832 وَحَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: أَعْطُوا السَّائِلَ، وَإِنْ جَاءَ عَلَى فَرَسٍ.


(الترغيب في الصدقة)

(مالك عن يحيى بن سعيد) الأنصاري (عن أبي الحباب) بضم الحاء المهملة وموحدتين مخففًا (سعد بن يسار) بتحتية ومهملة خفيفة مرسلاً عند يحيى وأكثر الرواة وأسنده معن وابن بكير عن مالك عن يحيى عن أبي الحباب (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من تصدق بصدقة من كسب طيب) أي مكسوب والمراد ما هو أعم من تعاطي التكسب أو حصول المكسوب بغير تعاط كالميراث وكأنه ذكر الكسب لأنه الغالب في تحصيل المال والمراد بالطيب الحلال لأنه صفة كسب قال القرطبي أصل الطيب المستلذ بالطبع ثم أطلق على المطلوب بالشرع وهو الحلال قال ابن عبد البر المحض أو المتشابه به لأنه في حيز الحلال على أشبه الأقوال للأدلة (ولا يقبل الله إلا طيبًا) جملة معترضة بين الشرط والجزاء التقدير ما قبله وفي رواية للبخاري ولا يصعد إلى الله إلا الطيب أي الحلال أو المتشابه لا الحرام قال القرطبي لأنه غير مملوك للمتصدق وهو ممنوع من التصرف فيه وهو قد تصرف فيه فلو قبله لزم أن يكون الشيء مأمورًا منهيًا من وجه واحد وهو محال وقال الأبي القبول حصول الثواب على الفعل إذ المعنى لا يثيب الله من تصدق بحرام وإنما يصح الحج بالمال الحرام لأن القبول أخص من الصحة لأنها عبارة عن كون الفعل مسقطًا للفرض ولا يلزم من نفي الأخص نفي الأعم فالحج بالحرام صحيح إذ يسقط به الفرض وهو غير متقبل أي لا ثواب فيه ولا يتعقب هذا بأنه لا واجب إلا وفيه ثواب لأن رد الشيء المغصوب واجب ولا ثواب فيه ولا يشكل صحة الحج بالحرام بقول مالك في النكاح بالمال الحرام أخاف أن يضارع الزنا لأن ذلك مبالغة في التنفير عنه وإلا فالنكاح صحيح (فإنه إنما يضعها في كف الرحمن) ولمسلم عن سعيد المقبري عن سعيد بن يسار عن أبي هريرة أخذها الرحمن بيمينه وإن كانت ثميرة فتربو في كف الرحمن قال المازري هذا الحديث وشبهه إنما عبر به على ما اعتادوه في خطابهم ليفهموا عنه فكنى عن قبول الصدقة باليمين وبالكف وعن تضعيف أجرها بالتربية وقال عياض لما كان الشيء الذي يرتضي يتلقى باليمين ويؤخذ بها استعمل في مثل هذا واستعير للقبول كقول الشاعر

إذا ما راية رفعت لمجد
تلقاها عرابة باليمين

لما استعار للمجد الراية استعار للمبادرة إلى فعلها التلقي باليمين وليس المراد الجارحة وقيل اليمين كناية عن الرضا والقبول إذ الشمال تستعمل في ضد ذلك وقد فرق الله بين أصحاب اليمين وأصحاب الشمال وقيل المراد بكف الرحمن ويمينه كف المتصدق عليه ويمينه وإضافتها إلى الله إضافة ملك واختصاص لوضع هذه الصدقة في كف الآخذ ويمينه لوجه الله وقيل المراد سرعة القبول وقيل حسنه ولعله يصح أن المراد بالكف كفة الميزان وكف كل شيء كفه وكفته وقال الزين بن المنير الكناية عن الرضا والقبول بالتلقي باليمين والكف لتثبيت المعاني المعقولة في الأذهان وتحقيقها في النفوس تحقيق المحسوسات أي لا يتشكك في القبول كما لا يتشكك من عاين التلقي للشيء بيمينه لا إن التناول كالتناول المعهود ولا أن التناول بجارحة وقال الترمذي في جامعه قال أهل العلم من أهل السنة والجماعة نؤمن بهذا الأحاديث ولا نتوهم فيها تشبيهًا ولا نقول كيف هي هكذا روي عن مالك وابن عيينة وابن المبارك وغيرهم وأنكرت الجهمية هذه الروايات انتهى وقد رد عليهم بما هو معلوم (يربيها) أي ينميها لصاحبها بمضاعفة الأجر أو الزيادة في الكمية قاله عياض وقد يصح أن التربية على وجهها وأن ذاتها تعظم يبارك الله فيها ويزيدها من فضله لتعظم في الميزان وتثقله (كما يربي أحدكم فلوه) بفتح الفاء وضم اللام وشد الواو مهره لأنه يفلي أي يفطم وقيل هو كل فطيم من حافر والجمع أفلاء كعدو وأعداء وحكى كسر الفاء وسكون اللام وأنكره ابن دريد وقال أبو زيد إذا فتحت الفاء شددت الواو وإذا كسرتها سكنت اللام وضرب به المثل لأنه يزيد زيادة بينة ولأن الصدقة نتاج العمل وأحوج ما يكون النتاج إلى التربية إذا كان فطيمًا فإذا أحسن العناية به انتهى إلى حد الكمال وكذلك عمل ابن آدم لا سيما الصدقة فإن العبد إذا تصدق بكسب طيب لا يزال ينظر الله إليها يكسبها نعت الكمال حتى تنتهي بالتضعيف إلى نصاب تقع المناسبة بينه وبين ما تقدم نسبة ما بين التمرة إلى الجبل (أو فصيله) وهو ولد الناقة لأنه فصل عن رضاع أمه وفي رواية لمسلم أو قلوصه وهي الناقة المسنة وعند البزار مهره أو وصيفه أو فصيله ولابن خزيمة من طريق سعيد بن يسار عن أبي هريرة فلوه أو قال فصيله وهذا يشعر بأن أو للشك من الراوي (حتى تكون مثل الجبل) لتثقل في ميزانه وفي مسلم عن المقبري عن سعيد بن يسار حتى تكون أعظم من الجبل وله عن سهيل عن أبيه حتى تكون مثل الجبل أو أعظم ولابن جرير من وجه آخر حتى يوافي بها يوم القيامة وهي أعظم من أحد قال أبو هريرة وتصديق ذلك في كتاب الله { { يمحق الله الربا ويربي الصدقات } } وللترمذي حتى أن اللقمة لتصير مثل جبل أحد قال الحافظ فالظاهر أن عينها تعظم لتثقل في الميزان ويحتمل أنه عبارة عن ثوابها وفي التمهيد قيل لبعض العلماء إن الله قال يمحق الله الربا وإنا نرى أصحاب الربا تنمى أموالهم فقال إنما يمحق الله الربا حيث يربي الصدقات ويضعفها يوم القيامة فإذا نظر العبد إلى أعماله نظرها ممحوقة أو مضاعفة وهذا الحديث مجمع على صحته انتهى وهو في الصحيحين وغيرهما من طريق عبيدة (مالك عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة أنه سمع أنس بن مالك يقول كان أبو طلحة) زيد بن سهل الخزرجي (أكثر أنصاري) أي أكثر كل واحد من الأنصار ولذا لم يقل أكثر الأنصار فهو من التفضيل على التفضيل قاله الكرماني (بالمدينة مالاً) تمييز أي من حيث المال (من نخل) بيان لمال (وكان أحب أمواله) هي حوائط قال ابن عبد البر كانت دار أبي جعفر والدار التي تليها حوائط لأبي طلحة وكان قصر بني حديلة حائطًا له يقال لها بئر حاء قال الحافظ ومراده بدار أبي جعفر التي صارت إليه بعد ذلك وعرفت به وهو أبو جعفر المنصور الخليفة العباسي وقصر بني حديلة بحاء مهملة مصغر ووهم من قال بجيم بطن من الأنصار فنسب إليه بسبب المجاورة وإلا فالذي بناه معاوية لما اشترى حصة حسان بمائة ألف درهم ليكون له حصنًا وجعل له بابين أحدهما شارع على خط بني حديلة والآخر في الزاوية الشرقية والذي بناه لمعاوية الطفيل بن أبي بن كعب كما ذكره ابن شبة وغيره (بئر حاء) قال الباجي قرأناه على أبي ذر بفتح الراء في موضع الرفع والنصب والخفض والجمع واللفظان اسم لموضع وليست مضافة إلى موضع وقال الحافظ أبو عبد الله الصوري إنما هي بفتح الباء والراء واتفق هو وأبو ذر وغيرهما من الحفاظ على أن من رفع الراء حال الرفع فقد غلط وعلى ذلك كنا نقرؤه على شيوخ بلدنا وعلى الأول أدركت أهل العلم بالمشرق وهذا الموضع يعرف بقصر بني حديلة قبلي مسجد المدينة وفي فتح الباري بيرحاء بفتح الموحدة وسكون التحتية وبفتح الراء وبالمهملة والمد وجاء في ضبطها أوجه جمعها في النهاية فقال يروى بفتح الباء وكسرها وبفتح الراء وضمها وبالمد والقصر فهذه ثمانية وفي رواية حماد بن سلمة يعني في مسلم بريحا بفتح وكسر الراء مقدمة على التحتية وفي أبي داود بأريحاء مثله لكن بزيادة ألف وقال الباجي أفصحها بفتح الباء وسكون الياء وفتح الراء مقصور وكذا جزم به الصغاني وقال إنه فعيلاً من البراح قال ومن ذكره بكسر الموحدة فظن أنها بئر من آبار المدينة فقد صحف انتهى وتعقب فيما نسبه للنهاية بأن الذي فيها إنما هو خمس فقط فنصبها بفتح الباء وكسرها وبفتح الراء وضمها والمد فيها وبفتحهما والقصر وقال عياض رويناه بفتح الباء والراء وبكسر الباء مع فتح الراء وضمها يسمى به وليس اسم بئر وجزم التيمي بأن المراد البستان قال لأن بساتين المدينة تدعى بآبارها أي البستان الذي فيه بيرحاء وجزم الصغاني بأنها اسم أرض لا بئر قال في اللامع ولا تنافي بين ذلك فإن الأرض أو البستان تسمى باسم البئر التي فيه وصوب الصغاني والزمخشري والمجد الشيرازي من هذا كله فتح الموحدة والراء وقال الباجي إنها المسموعة على أبي ذر وغيره قال في الفتح واختلف في حاء هل هي اسم رجل أو امرأة أو مكان أضيفت إليه البئر أو هي كلمة زجر للإبل فكأن الإبل كانت ترعى هناك وتزجر بهذه اللفظة فأضيفت البئر إلى اللفظة المذكورة (وكانت مستقبلة المسجد) النبوي أي مقابلته قريبة منه (وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخلها) زاد في رواية للبخاري ويستظل فيها (ويشرب من ماء فيها) أي في بيرحاء (طيب) بالجر صفة ماء وفيه إباحة استعذاب الماء وتفضيل بعضه على بعض وإباحة الشرب من دار الصديق ولو لم يكن حاضرًا إذا علم طيب نفسه واتخاذ الحوائط والبساتين ودخول أهل العلم والفضل فيها والاستظلال بظلها والراحة والتنزه فيها وقد يكون ذلك مستحبًا يثاب عليه إذا قصد به إجمام النفس من تعب العبادة وتنشيطها في الطاعة (قال أنس فلما أنزلت هذه الآية { { لن تنالوا البر } } أي لن تبلغوا حقيقة البر الذي هو كمال الخير أو لن تنالوا بر الله الذي هو الرحمة والرضا والجنة { { حتى تنفقوا مما تحبون } } أي بعض ما تحبون من المال أو ما يعمه وغيره كبذل الجاه في معاونة الناس والبدن في طاعة الله والمهجة في سبيل الله (قام أبو طلحة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم) زاد في رواية عند ابن عبد البر ورسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر (فقال يا رسول الله إن الله تعالى يقول { { لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون } } وإن أحب أموالي إلي) بشد الياء (بيرحاء) خبر إن (وإنها صدقة لله أرجو برها) أي خيرها (وذخرها) بضم الذال وإسكان الخاء المعجمتين أي أقدمها فأدخرها لأجدها (عند الله) تعالى ولمسلم عن ثابت عن أنس لما نزلت الآية قال أبو طلحة أرى ربنا يسألنا عن أموالنا فاستشهدك يا رسول الله أني جعلت أرضي بيرحاء لله (فضعها يا رسول الله حيث شئت) وللتنيسي والقعنبي حيث أراك الله فوض أبو طلحة تعيين مصرفها له صلى الله عليه وسلم لكن لا تصريح فيه بأنه جعلها وقفًا ولذا قيل لا ينهض الاستدلال بهذه القصة لشيء من مسائل الوقف (قال) أنس (فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فبخ) بفتح الموحدة وسكون المعجمة وقد تنون مع التثقيل والتخفيف بالكسر وبالرفع والسكون ويجوز التنوين لغات ولو كررت فالمختار تنوين الأولى وتسكين الثانية ومعناه تفخيم الأمر والإعجاب به قاله الحافظ (ذلك مال رابح ذلك مال رابح) مرتين قال الباجي رواه يحيى وجماعة بتحتية وجيم أي يروج ثوابه في الآخرة انتهى وهو مخالف لقول ابن عبد البر رواه يحيى وجماعة رابح من الربح أي رابح صاحبه ومعطيه ورواه ابن وهب وغيره بتحتية أي يروح على صاحبه بالأجر العظيم والأول أولى عندي انتهى ونحوه قول أبي العباس الداني في أطراف الموطأ رواه يحيى الأندلسي بالموحدة والحاء المهملة وتابعه جماعة ورواه يحيى النيسابوري بالتحتية والحاء المهملة وتابعه إسماعيل وابن وهب ورواه القعنبي بالشك انتهى ومعنى رابح بموحدة ذو ربح كلابن وتامر أي يربح صاحبه في الآخرة وقيل فاعل بمعنى مفعول أي مال مربوح فيه ومعناه بتحتية اسم فاعل من الرواح نقيض الغد وأنه قريب الفائدة يصل نفعه إلى صاحبه كل رواح لا يحتاج أن يتكلف فيه إلى مشقة وسير أو يروح بالأجر ويغدو به واكتفى بالرواح عن الغدو لعلم السامع أو من شأنه الرواح وهو الذهاب والفوات فإذا ذهب في الخير فهو أولى وادعى الإسماعيلي أن رواية التحتية تصحيف (وقد سمعت) أنا (ما قلت) أنت (فيه وإني أرى أن تجعلها في الأقربين) وفي رواية للبخاري قبلناه منك ورددناه عليك فاجعله في الأقربين (فقال أبو طلحة أفعل) بضم اللام مضارع (يا رسول الله فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه) عطف خاص على عام وفي البخاري من وجه آخر عن أنس فجعلها لحسان وأبي وأنا أقرب إليه ولم يجعل لي منها فباع حسان فقيل له أتبيع صدقة أبي طلحة فقال ألا أبيع صاعًا من تمر بصاع من دراهم وفي مرسل أبي بكر بن حزم فرده على أقاربه أبي بن كعب وحسان بن ثابت وأخيه أو ابن أخيه شداد بن أوس ونبيط بن جابر فتقاوموه فباع حسان حصته من معاوية بمائة ألف درهم أي بعد ذلك في خلافة معاوية قال ابن عبد البر روى إسماعيل القاضي عن القعنبي عن مالك بلفظ فقسمها صلى الله عليه وسلم في أقاربه وبني عمه أي أقارب أبي طلحة وإضافة القسم إلى المصطفى صلى الله عليه وسلم على أنه الآمر به وإن شاع في لسان العرب لكن أكثر الرواة لم يقولوا ذلك والصواب على ابن عبد العزيز عن القعنبي فقسمها أبو طلحة كرواية الجماعة وفيه التمسك بالعموم لأن أبا طلحة فهم من الآية تناول ذلك لجميع أفراده فلم يقف حتى يرد عليه البيان عن شيء بعينه بل بادر إلى إنفاق ما يحبه وأقره صلى الله عليه وسلم وفيه فضيلة لأبي طلحة لأن الآية تضمنت الحث على الإنفاق من المحبوب فترقى هو إلى إنفاق أحب المحبوب فصوبه صلى الله عليه وسلم وشكر فعله ثم أمره أن يخص بها أهله وكنى عن رضاه بذلك بقوله بخ وزيادة صدقة التطوع على نصاب الزكاة خلافًا لمن قيدها به وصدقة الصحيح بأكثر من ثلثه لأنه صلى الله عليه وسلم لم يستفصل أبا طلحة عن قدر ما تصدق به وقال لسعد بن أبي وقاص الثلث والثلث كثير وفيه جواز حب المال للرجل الفاضل العالم وأنه لا نقص عليه من ذلك وقد أخبر الله عن الإنسان بقوله { { وإنه لحب الخير لشديد } } والخير المال اتفاقًا وفيه غير ذلك وأخرجه البخاري في الزكاة عن عبد الله بن يوسف وفي الوكالة عن يحيى النيسابوري وفي الوقف وفي الأشربة عن القعنبي وفي التفسير عن إسماعيل بن أبي أويس ومسلم في الزكاة عن يحيى النيسابوري أربعتهم عن مالك به وتابعه عبد العزيز الماجشون عن إسحاق عند البخاري (مالك عن زيد بن أسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أعطوا السائل) الذي يسأل التصدق عليه (وإن جاء على فرس) يعني لا تردوه وإن جاء على حالة تدل على غناه كركوب فرس فإنه لولا حاجته للسؤال ما بذل وجهه بل هذا وشبهه من المستورين الذين يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف وقد حكي أن عمر بن عبد العزيز بعث مالاً يفرق بالرقة فقال له الذي بعث معه يا أمير المؤمنين تبعثني إلى قوم لا أعرفهم وفيهم غني وفقير فقال كل من مد يده إليك فأعطه وزعم أن المراد وإن جاء على فرس يطلب علفه وطعامه تعسف ركيك قال الحراني ولو في مثله تجيء منبهة على أن ما قبلها جاء على سبيل الاستقصاء وما بعدها جاء نصًا على الحالة التي يظن أنها لا تندرج فيما قبلها فكونه على فرس يؤذن بغناه فلا يليق إعطاؤه دفعًا للتوهم وقال أبو حيان هذه الواو لعطف حال على حال محذوفة تضمنها السابق والمعنى أعطوه كائنًا من كان ولا تجيء هذه الحال إلا منبهة على ما يتوهم أنه لا يندرج تحت عموم الحال المحذوفة فأدرج تحته ألا ترى أنه لا يحسن أعطوا السائل ولو كان غنيًا أو فقيرًا انتهى ومقصود الحديث الحث على إعطاء السائل وإن جل ولو ما قل كما يفيده حذف المتعلق لكن إذا وجده ولم يعارضه ما هو أهم وإلا فلا ضير في رده كما يفيده أحاديث أخر قال ابن عبد البر لا أعلم في إرسال هذا الحديث خلافًا عن مالك وليس فيه مسند يحتج به فيما أعلم انتهى وقد وصله ابن عدي من طريق عبد الله بن زيد بن أسلم عن أبيه عن أبي صالح عن أبي هريرة ولكن عبد الله ضعيف نعم له شاهد أخرجه أحمد وأبو داود وقاسم بن أصبغ عن الحسين بن علي مرفوعًا للسائل حق وإن جاء على فرس وسنده جيد قاله العراقي وغيره ولكن قال ابن عبد البر سنده ليس بالقوي وجاء بلفظ الموطأ وجه آخر عن أبي هريرة عند ابن عدي وضعفه ومن وجه آخر عند الدارقطني والحاصل أن المرسل صحيح وتتقوى رواية الواصل بتعدد الطرق وباعتضادها بالمرسل (مالك عن زيد بن أسلم) العدوي (عن عمرو) بفتح العين (ابن معاذ) بن سعد بن معاذ (الأشهلي الأنصاري) الأوسي أبي محمد المدني (عن جدته) يقال اسمها حواء بنت يزيد بن السكن صحابية مدنية (أنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا نساء المؤمنات) روي بضم الهمزة منادى مفرد والمؤمنات صفة له فيرفع على اللفظ وينصب بالكسرة على المحل وروي بفتح الهمزة منادى مفرد مضاف والمؤمنات صفة لموصوف محذوف أي نساء النفوس أو الطائفة المؤمنات فخرج عن إضافة الموصوف إلى صفته ويجوز أنها منها بتأويل نساء بفاضلات أي فاضلات المؤمنات وأنكر ابن عبد البر رواية الإضافة ورده ابن السيد بأنها قد صحت نقلاً وساعدتها اللغة فلا معنى للإنكار ورواه الطبراني من حديث عائشة بلفظ يا نساء المؤمنين (لا تحقرن إحداكن أن تهدي لجارتها) شيئًا (ولو) كان (كراع شاة) بضم الكاف ما دون العقب وخص النساء لأنهن مواد المودة والبغضاء ولأنهن أسرع انتقالاً في كل منهما (محرقًا) نعت لكراع وهو مؤنث فحقه محرقة لكن وردت الرواية هكذا في الموطآت وغيرها وقل أن تعرض العرب بذكره فلعل الرواية على هذه اللغة والأظهر أنه نهي للمهدى إليها قاله الباجي ومر هذا الحديث سنده ومتنه في جامع ما جاء في الطعام والشراب إشارة إلى أن الطعام اسم لكل ما يطعم وإن قل وأعاده هنا إلى الترغيب في الصدقة وإن قلت والنهي عن احتقارها فلا تكرار قال أبو عمر في ذكر القليل تنبيه على فضل الكثير لمن فهم معنى الخطاب وقد أحسن القائل

افعل الخير ما استطعت وإن كان
قليلاً فلن تطيق لكله

ومتى تفعل الكثير من الخير
إذا كنت تاركًا لأقله

وأحسن منه قول محمد الوراق

لو قد رأيت الصغير من عمل
الخير ثوابًا عجبت من كبره

أو قد رأيت الحقير من عمل
الشر جزاء شفقت من شره

(مالك أنه بلغه عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أن مسكينًا سألها وهي صائمة وليس في بيتها إلا رغيف) واحد (فقالت لمولاة لها) لم تسم (أعطيه إياه فقالت ليس لك ما تفطرين عليه فقالت أعطيه إياه قالت) المولاة (ففعلت) أعطيته الرغيف (قالت فلما أمسينا أهدى لنا أهل بيت أو إنسان) شكت (ما كان يهدي لنا) شيئًا قبل ذلك (شاة) مفعول أهدى (وكفنها) أي مطبوخة للأكل (فدعتني عائشة فقالت كلي من هذا) أي لحم الشاة (هذا خير من قرصك) الرغيف الذي أردت منعي عن إعطائه للسائل (مالك قد بلغني أن مسكينًا استطعم عائشة أم المؤمنين وبين يديها عنب فقالت لإنسان خذ حبة فأعطه إياها فجعل) ذلك الإنسان (ينظر إليها ويتعجب) إذ لا تقع حبة عنب موقعًا من المستطعم (فقالت عائشة أتعجب كم ترى في هذه الحبة من مثقال) أي زنة (ذرة) وقد قال الله تعالى { { ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا } } أي من نقص حسنة أو زيادة سيئة { { وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها } } [الأنبياء: 47] .



رقم الحديث 1833 وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ، عَنْ جَدَّتِهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: يَا نِسَاءَ الْمُؤْمِنَاتِ، لَا تَحْقِرَنَّ إِحْدَاكُنَّ لِجَارَتِهَا، وَلَوْ كُرَاعَ شَاةٍ مُحْرَقًا.


( جامع ما جاء في الطعام والشراب)

( مالك عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة) الأنصاري ( أنه سمع أنس بن مالك يقول قال أبو طلحة) زيد بن سهل الأنصاري زوج أم سليم والدة أنس ( لأم سليم) بضم السين بنت ملحان الأنصارية من الصحابيات الفاضلات اسمها سهلة أو رميلة أو رميثة أو مليكة أو أنيفة اشتهرت بكنيتها ماتت في خلافة عثمان قال الحافظ اتفقت الطرق على أن هذا الحديث من مسند أنس ووافقه عليه أخوه لأمه عبد الله بن أبي طلحة عن أبيه قال دخلت المسجد فعرفت في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم الجوع والمراد بالمسجد الموضع الذي أعده صلى الله عليه وسلم للصلاة فيه حين محاصرة الأحزاب للمدينة في غزوة الخندق ( لقد سمعت صوت رسول الله صلى الله عليه وسلم ضعيفًا أعرف فيه الجوع) وكأنه لم يسمع من صوته حين تكلم الفخامة المألوفة فحمله على الجوع للقرينة التي كانوا فيها وفيه رد على دعوى ابن حبان أنه لم يكن يجوع وأن أحاديث ربط الحجر من الجوع تصحيف محتجًا بحديث أبيت يطعمني ربي ويسقيني وتعقب بأن الأحاديث صحيحة فيحمل ذلك على تعدد الحال فكان أحيانًا يجوع إذا لم يواصل ليتأسى به أصحابه ولا سيما من لم يجد شيئًا ولمسلم عن يعقوب بن عبد الله بن أبي طلحة عن أنس جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجدته جالسًا مع أصحابه يحدثهم وقد عصب بطنه بعصابة فسألت بعض أصحابه فقال من الجوع فذهبت إلى أبي طلحة فأخبرته فدخل على أم سليم فقال هل من شيء فكأنه لما أخبره جاء فسمع صوته ورآه ولأحمد عن أنس أن أبا طلحة رآه صلى الله عليه وسلم طاويًا ولمسلم عن عمر بن عبد الله بن أبي طلحة عن أنس قال رأى أبو طلحة رسول الله صلى الله عليه وسلم مضطجعًا يتقلب ظهرًا لبطن ولأبي نعيم عن أنس جاء أبو طلحة إلى أم سليم فقال أعندك شيء فإني مررت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقرئ أصحاب الصفة سورة النساء وقد ربط على بطنه حجرًا من الجوع ( فهل عندك من شيء) يأكله صلى الله عليه وسلم ( فقالت نعم فأخرجت أقراصًا من شعير) جمع قوص بالضم قطعة عجين مقطوع منه ولأحمد عمدت أم سليم إلى نصف مد من شعير فطحنته وللبخاري عمدت إلى مد من شعير جشته ثم عملته عصيدة وفي لفظ خطيفة بمعجمة ومهملة العصيدة وزنًا ومعنى ولمسلم وأحمد أتى أبو طلحة بمدين من شعير فأمر فصنع طعامًا قال الحافظ ولا منافاة لاحتمال تعدد القصة أو أن بعض الرواة حفظ ما لم يحفظ الآخر ويجمع أيضًا بأن الشعير في الأصل صاع فأفردت نصفه لعيالهم ونصفه للنبي صلى الله عليه وسلم ويدل على التعدد ما بين العصيدة والخبز لمفتوت الملتوت بالسمن من المغايرة ( ثم أخذت خمارًا) بكسر الخاء المعجمة لها ( فلفت الخبز بعضه) أي الخمار ( ثم دسته) أي أدخلته بقوة ( تحت يدي) بكسر الدال أي إبطي ( وردتني) بشد الدال ( ببعضه) أي جعلته رداءً لي وللتنيسي ولاثتني ببعضه بمثلثة ففوقية ساكنة فنون مكسورة أي لفتني ( ثم أرسلتني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال) أنس ( فذهبت به) بالذي أرسلتني ( فوجدت رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسًا في المسجد) الموضع الذي أعده للصلاة عند الخندق ( ومعه ناس فقمت عليهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم آرسلك) بهمزة ممدودة للاستفهام ( أبو طلحة قال) أنس ( فقلت نعم قال للطعام) أي لأجله ( قال قلت نعم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم قوموا) ظاهره أنه فهم أن أبا طلحة استدعاه إلى منزله فلذا قال لمن عنده قوموا وأول الكلام يقتضي أن أم سليم وأبا طلحة أرسلا الخبز مع أنس فيجمع بأنهما أرادا بإرسال الخبز مع أنس أن يأخذه صلى الله عليه وسلم فيأكله فلما وصل أنس ورأى كثرة الناس حوله استحى وأظهر أنه يدعوه ليقوم معه وحده إلى المنزل ليحصل قصده من إطعامه ويحتمل أن يكون ذلك عن رأي من أرسله عهد إليه إذا رأى كثرة الناس أن يستدعي النبي صلى الله عليه وسلم وحده خشية أن لا يكفيهم ذلك الشيء هو ومن معه وقد عرفوا إيثاره وأنه لا يأكل وحده وأكثر الروايات تقتضي أن أبا طلحة استدعاه ففي رواية سعد بن سعيد عن أنس بعثني أبو طلحة إلى النبي صلى الله عليه وسلم أدعوه وقد جعل طعامًا وفي رواية عبد الرحمن بن أبي ليلى عن أنس أمر أبو طلحة أم سليم أن تصنع للنبي صلى الله عليه وسلم لنفسه خاصة ثم أرسلتني إليه وفي رواية يعقوب عن أنس فدخل أبو طلحة على أمي فقال هل من شيء فقالت نعم عندي كسر من خبز فإن جاءنا رسول الله وحده أشبعناه وإن جاء أحد معه قل عنهم وجميع ذلك في مسلم وفي رواية مبارك بن فضالة عند أحمد أن أبا طلحة قال اعجنيه وأصلحيه عسى أن تدعو رسول الله صلى الله عليه وسلم فيأكل عندنا ففعلت فقالت ادع رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي رواية يعقوب بن عبد الله عن أنس عند أبي نعيم وأصله عند مسلم فقال لي أبو طلحة يا أنس اذهب فقم قريبًا من رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا قام فدعه حتى يتفرق أصحابه ثم اتبعه حتى إذا قام عند عتبة بابه فقل له إن أبي يدعوك ولأبي يعلى عن عمر بن عبد الله عن أنس قال لي أبو طلحة اذهب فادع رسول الله صلى الله عليه وسلم وللبخاري عن ابن سيرين عن أنس ثم بعثني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتيته وهو في أصحابه فدعوته ولأحمد من رواية النضر بن أنس عن أبيه قالت لي أم سليم اذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقل له إن رأيت أن تغذى عندنا فافعل وللبغوي عن يحيى المازني عن أنس فقال أبو طلحة اذهب يا بني إلى النبي صلى الله عليه وسلم فادعه فجئته فقلت أن أبي يدعوك ولأبي نعيم عن محمد بن كعب عن أنس فقال يا بني اذهب إلى رسول الله فادعه ولا تدع معه غيره ولا تفضحني قاله الحافظ ولم يتنزل للجمع بين هذه الروايات العشر وبين مقتضى أول حديث الباب لسهولته وهو أنه أرسله يدعوه وحده وأرسل معه الخبز فإن جاء قدموه له وإن شق عليه المجيء لمحاصرة الأحزاب أعطاه الخبز سرًا وأما اختلاف الروايات في أنه أقراص أو كسر من خبز فيجمع بأنها كانت أقراصًا مكسرة وقوله اعجنيه وأصلحيه يحمل على تليينه بنحو ماء أو سمن ليسهل تناوله كأنه كان يابسًا كما هو شأن الكسر غالبًا ( قال فانطلق) هو ومن معه ( وانطلقت بين أيديهم) وفي رواية يعقوب عن أنس فلما قلت له أن أبي يدعوك قال لأصحابه تعالوا ثم أخذ بيدي فشدها ثم أقبل بأصحابه حتى إذا دنوا أرسل يدي فدخلت وأنا حزين لكثرة من جاء معه ( حتى جئت أبا طلحة فأخبرته) بمجيئهم وفي رواية النضر بن أنس عن أبيه فدخلت على أم سليم وأنا مندهش وفي رواية عبد الرحمن بن أبي ليلى أن أبا طلحة قال يا أنس فضحتنا وللطبراني الأوسط فجعل يرميني بالحجارة ( فقال أبو طلحة يا أم سليم قد جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس وليس عندنا من الطعام ما نطعمهم) أي قدر ما يكفيهم ( فقالت الله ورسوله أعلم) أي أنه لم يأت بهم إلا وسيطعمهم كأنها عرفت أنه فعل ذلك عمدًا ليظهر الكرامة في تكثير الطعام ودل ذلك على فضل أم سليم ورجحان عقلها ( قال فانطلق أبو طلحة حتى لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم) زاد في رواية فقال يا رسول الله ما عندنا إلا قرص عملته أم سليم وفي أخرى إنما أرسلت أنسًا يدعوك وحدك ولم يكن عندنا ما يشبع من أرى فقال ادخل فإن الله سيبارك فيما عندك ( فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو طلحة معه حتى دخلا) وقعد من معه على الباب ( فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هلمي) بالياء على لغة تميم وفي رواية هلم بلا ياء على لغة الحجاز لا يثنى ولا يجمع ولا يؤنث ومنه هلم إلينا والمراد الطلب أي هات يا أم سليم ما عندك وفيه أن الصديق يأمر في دار صديقه بما يحب ويظهر الأمر والنهي والتحكم لآمره بفت الخبز وقول هلمي ما عندك وهذا خلق كريم رفيع ولقد أحسن العلوي حين افتخر فقال

يستأنس الضيف في أبياتنا أبدًا
فليس يعرف خلق أينا الضيف

( فأتت بذلك الخبز) الذي كانت أرسلته مع أنس ويحتمل أنه لما أخبرها أخذته منه وأنه كان باقيًا معه وخاطبها لأنها هي المتصرفة ( فأمر به صلى الله عليه وسلم ففت) بضم الفاء وشد الفوقية أي كسر ( وعصرت عليه أم سليم عكة لها) بضم المهملة وشد الكاف إناء من جلد مستدير يجعل فيه السمن غالبًا والعسل ولأحمد عن أنس فقال صلى الله عليه وسلم هل من سمن فقال أبو طلحة قد كان في العكة شيء فجاء بها فجعلا يعصرانها حتى خرج فيحتمل أنها عصرتها لما أتت بها ثم أخذها منها وعصراها استفراغًا لما بقي فيها أو أنهما ابتدآ عصرها ثم حاولت بعد عصرهما إخراج شيء منها فلا مخالفة بينه وبين قوله وعصرت أم سليم أو ضمير التثنية في عصراها لها ولأبي طلحة واقتصر هنا على أنها التي عصرت لابتدائها بالعصر وساعدها زوجها ( فأدمته) أي صيرت ما خرج من العكة أدما له ( ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شاء الله أن يقول) ولمسلم من رواية سعد بن سعيد عن أنس فمسحها ودعا فيها بالبركة ولأحمد عن النضر بن أنس عن أبيه أحمد فجئت بها أي العكة ففتح رباطها ثم قال بسم الله اللهم أعظم فيها البركة ولأحمد عن بكر بن عبد الله وثابت عن أنس ثم مسح صلى الله عليه وسلم القرص فانتفخ وقال بسم الله فلم يزل يصنع ذلك والقرص ينتفخ حتى رأيت القرص في الجفنة يتسع ولا ينافيه أن الخبز فت وجعل عليه السمن لأنه لما وضع على الفت اجتمع فصار كالقرص الواحد ومر أن أبا طلحة عبر عنها بقرص قبل فتها لقلتها وهذا غير ذاك ( ثم قال ائذن لعشرة بالدخول) لأنه أرفق ولضيق البيت أولهما معًا ( فأذن لهم) ظاهره أنه صلى الله عليه وسلم دخل وحده وبه صرح في رواية عبد الرحمن بن أبي ليلى عند أحمد ومسلم عن أنس بلفظ فلما انتهى صلى الله عليه وسلم إلى الباب قال لهم اقعدوا ودخل ( فأكلوا حتى شبعوا) وفي رواية لأحمد فوضع يده وبسط القرص وقال كلوا باسم الله فأكلوا من حوالي القصعة حتى شبعوا وفي رواية فقال لهم كلوا من بين أصابعي ( ثم خرجوا) وفي رواية أحمد ثم قال لهم قوموا وليدخل عشرة مكانكم ( ثم قال ائذن لعشرة) ثانية ( فأذن لهم فأكلوا حتى شبعوا ثم خرجوا ثم قال ائذن لعشرة) ثالثة ( فأذن لهم) فدخلوا ( فأكلوا حتى شبعوا ثم خرجوا ثم قال ائذن لعشرة) رابعة فما زال يدخلهم عشرة عشرة ( حتى أكل القوم كلهم وشبعوا) ولمسلم عن سعد بن سعيد عن أنس حتى لم يبق منهم أحد إلا دخل فأكل حتى شبع وفي رواية له من هذا الوجه ثم أخذ ما بقي فجمعه ثم دعا بالبركة فعاد كما كان ( والقوم سبعون رجلاً أو ثمانون رجلاً) بالشك من الراوي وفي مسلم وأحمد عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن أنس حتى فعل ذلك بثمانين رجلاً بالجزم وزاد ثم أكل صلى الله عليه وسلم وأهل البيت وتركوا سؤرًا أي فضلاً وفي رواية لأحمد كانوا نيفًا وثمانين قال وأفضل لأهل البيت ما يشبعهم ولا منافاة لاحتمال أنه ألغى الكسر ولمسلم عن عبد الله بن عبد الله بن أبي طلحة عن أنس وأفضلوا ما بلغوا جيرانهم وفي رواية عمرو بن عبد الله عن أنس في مسلم وفضلت فضلة فأهدينا لجيراننا ولأبي نعيم عن ربيعة عن أنس حتى أهدت أم سليم لجيرانها قال العلماء وإنما أدخلهم عشرة عشرة لأنها كانت قصعة واحدة لا يمكن الجماعة الكثيرة أن يقدروا على التناول منها مع قلة الطعام فجعلوا كذلك لينالوا من الأكل ولا يزدحموا أو لضيق البيت أو لهما وقال الحافظ سئلت في مجلس الإملاء عن حكمة تبعيضهم فقلت يحتمل أنه عرف قلة الطعام وأنه في صحفة واحدة فلا يتصور أن يتحلقها ذلك العدد الكثير فقيل لم لا أدخل الكل وينظر من لم يسعه التحلق وكان أبلغ في اشتراك الجميع في الاطلاع على المعجزة بخلاف التبعيض بطرقه احتمال تكرر وضع في الطعام لصغر الصحفة فقلت يحتمل أن ذلك لضيق البيت وفي رواية للبخاري عن ابن سيرين عن أنس أن أمه عمدت إلى مد شعير جشته وجعلت منه خطيفة وعصرت عكة عندها ثم بعثتني إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأتيته وهو في أصحابه فدعوته قال ومن معي فجئت فقلت إنه يقول ومن معي فخرج إليه أبو طلحة فقال يا رسول الله إنما هو شيء صنعته أم سليم فدخل وجيء به وقال أدخل علي عشرة حتى عد أربعين ثم أكل ثم قام فجعلت أنظر هل نقص منها شيء ولأحمد حتى أكل منها أربعون رجلاً وبقيت كما هي وهذا يدل على تعدد القصة وفي مسلم عن يعقوب عن أنس أدخل علي ثمانية ثمانية فما زال حتى دخل عليه ثمانون ثم دعاني ودعا أمي وأبا طلحة فأكلنا حتى شبعنا وهذا أيضًا يدل على تعدد القصة فإن أكثر الروايات أنه أدخلهم عشرة عشرة سوى هذه ولأبي يعلى عن محمد بن سيرين عن أنس أن أبا طلحة بلغه أنه ليس عنده صلى الله عليه وسلم طعام فآجر نفسه بصاع غير شعير فعمل بقية يومه ذلك ثم جاء به الحديث وهذا أيضًا يدل على التعدد وأن القصة التي رواها ابن سيرين غير القصة التي رواها غيره وكذا ما بين الخبز المفتوت الملتوت بالسمن والعصيدة من المغايرة انتهى ملخصًا وحاصله أنه تعدد مرتين مرة سألها فوجد الخبز ففعل ما ذكر في حديث الباب وكانوا ثمانين وأدخلهم عشرة عشرة ومرة لم يسألها بل آجر نفسه بصاع وأتى به إليها وقال اعجنيه وأصلحيه فجعلته عصيدة ودعاه فجاء ومعه أربعون وأدخلهم ثمانية ثمانية وبهذا تتضح الروايات لكن يعكر عليه أن رواية يعقوب التي قال فيها أدخلهم ثمانية ثمانية ففيها أنهم ثمانون إلا أن تكون شاذة والمحفوظ رواية ابن سيرين أنهم أربعون لكن فيها أدخل علي عشرة وفي الحديث معجزة باهرة وأخرجه البخاري في علامات النبوة عن عبد الله بن يوسف وفي الأطعمة عن إسماعيل ومسلم عن يحيى ثلاثتهم عن مالك به وأخرجه الترمذي في المناقب والنسائي في الوليمة ( مالك عن أبي الزناد) عبد الله بن ذكوان ( عن الأعرج) عبد الرحمن بن هرمز ( عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال طعام الاثنين) المشبع لهما ( كافي الثلاثة) لقوتهم ( وطعام الثلاثة) المشبع لهم ( كافي الأربعة) قوتًا وفي مسلم عن عائشة مرفوعًا طعام الواحد يكفي الاثنين وطعام الاثنين يكفي الأربعة وطعام الأربعة يكفي الثمانية وفي ابن ماجه من حديث عمر طعام الواحد يكفي الاثنين وإن طعام الاثنين يكفي الثلاثة والأربعة وإن طعام الأربعة يكفي الخمسة والستة وقال المهلب المراد بهذه الأحاديث الحض على المكارمة والتقنع بالكفاية يعني وليس المراد الحصر في مقدار الكفاية وإنما المراد المواساة وأنه ينبغي للاثنين إدخال ثالث لطعامهما ورابع أيضًا بحسب من يحضر وعند الطبراني ما يرشد إلى العلة في ذلك وأوله كلوا جميعًا ولا تفرقوا فإن طعام الواحد يكفي الاثنين الحديث فيؤخذ منه أن الكفاية تنشأ عن بركة الاجتماع وأن الجمع كلما كثر زادت البركة وقيل معناه أن الله يضع من بركته فيه ما وضع لنبيه فيزيد حتى يكفيهم قال ابن العربي وهذا إذا صحت نيتهم وانطلقت ألسنتهم به فإن قالوا لا يكفينا قيل لهم البلاء موكل بالمنطق وقال العز بن عبد السلام في الأمالي إن أريد الإخبار عن الواقع فمشكل لأن طعام الاثنين لا يكفي إلا اثنين وإن كان له معنى آخر فما هو والجواب من وجهين أحدهما أنه خبر بمعنى الأمر أي أطعموا طعام الاثنين الثلاث والثاني أنه للتنبيه على أن ذلك يقوت الثلاث وأخبرنا بذلك لئلا نجزع والأول أرجح لأن الثاني معلوم انتهى وروى العسكري في المواعظ عن عمر مرفوعًا كلوا ولا تفرقوا فإن طعام الواحد يكفي الاثنين وطعام الاثنين يكفي الثلاثة والأربعة كلوا جميعًا ولا تفرقوا فإن البركة في الجماعة فيؤخذ من هذا أن الشرط الاجتماع على الأكل وأن معنى الحديث طعام الاثنين إذا كانا مفترقين كافي الثلاثة إذا أكلوا مجتمعين قال ابن المنذر يؤخذ من حديث أبي هريرة استحباب الاجتماع على الطعام وأن لا يأكل المرء وحده انتهى وفيه أيضًا إشارة إلى أن المواساة إذا حصلت حصل معها البركة فتعم الحاضرين وأنه لا ينبغي للمرء أن يستحقر ما عنده فيمتنع من تقديمه فإن القليل قد يحصل به الاكتفاء بمعنى حصول قيام البنية لا حقيقة الشبع ومنه قول عمر عام الرمادة لقد هممت أن أنزل على أهل كل بيت مثل عددهم فإن الرجل لا يهلك على ملء بطنه وأخذ منه أن السلطان في المسغبة يفرق الفقراء على أهل السعة بقدر لا يضر بهم وأخرجه الشيخان في الأطعمة البخاري عن عبد الله بن يوسف وإسماعيل ومسلم عن يحيى الثلاثة عن مالك به ورواه الترمذي في الأطعمة والنسائي في الوليمة ( مالك عن أبي الزبير) محمد بن مسلم بن تدرس ( المكي عن جابر بن عبد الله) رضي الله عنهما ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أغلقوا) بفتح الهمزة وسكون المعجمة ( الباب) حراسة للنفس والمال من أهل الفساد ولا سيما الشيطان وفي الصحيح عن عطاء عن جابر أطفئوا المصابيح إذا رقدتم وأغلقوا الأبواب واذكروا اسم الله ( وأوكوا) بفتح الهمزة وسكون الواو وضم الكاف بلا همز شدوا واربطوا ( السقاء) بكسر السين القربة أي شدوا رأسها بالوكاء وهو الخيط زاد في رواية عطاء واذكروا اسم الله أي لمنع الشيطان واحترازًا من الوباء الذي ينزل في ليلة من السنة كما روي ويقال إنها في كانون الأول ( وأكفئوا الإناء) قال عياض بقطع الألف وكسر الفاء رباعي وبوصلها وضم الفاء ثلاثي وهما صحيحان أي اقلبوه ولا تتركوه للعق الشيطان ولحسن الهوم وذوات الأقذار ( أو خمروا) بفتح المعجمة وكسر الميم الثقيلة غطوا ( الإناء) يحتمل أنه شك من الراوي والأظهر أنه لفظ النبي صلى الله عليه وسلم أي اكفوه إن كان فارغًا أو خمروه إن كان فيه شيء قاله الباجي ويؤيده أن في بعض طرقه عند البخاري عن جابر وخمروا الطعام والشراب وفي الصحيح أيضًا عن جابر وخمروا آنيتكم واذكروا اسم الله ولو أن تعرضوا عليها بعود ( وأطفئوا) بهمزة قطع وسكون المهملة وكسر الفاء ثم همزة مضمومة ( المصباح) السراج زاد في رواية عطاء إذا رقدتم ( فإن الشيطان) وفي رواية من طريق عطاء فإن الجن ولا تضاد بينهما إذ لا محذور في انتشار الصنفين إذ هما حقيقة واحدة يختلفان بالصفات قاله الكرماني ( لا يفتح غلقًا) بفتح الغين واللام إذا ذكر اسم الله عليه وفي رواية عطاء فإن الشيطان لا يفتح بابًا مغلقًا ( ولا يحل) بفتح الياء وضم الحاء ( وكاء) خيطًا ربط به وذكر اسم الله عليه ( ولا يكشف إناء) غطي أو كفئ وذكر اسم الله عليه ففي رواية الليث عن أبي الزبير عند مسلم ولا يكشف إناء فإن لم يجد أحدكم إلا أن يعرض على إنائه عودًا ويذكر اسم الله فليفعل وفي أبي داود واذكروا اسم الله فإن الشيطان لا يفتح بابًا مغلقًا أي لا يقدر على ذلك لأن اسم الله تعالى هو الغلق الحقيقي ولأحمد من حديث أبي أمامة فإنهم أي الشياطين لم يؤذن لهم في التسور ومقتضاه أنه يتمكن من كل ذلك إذا لم يذكر اسم الله قال الحافظ ويؤيده ما في مسلم والأربعة مرفوعًا إذا دخل الرجل بيته فذكر اسم الله عند دخوله وعند طعامه قال الشيطان لا مبيت لكم ولا عشاء وإذا دخل فلم يذكر اسم الله عند دخوله قال الشيطان أدركتم قال ابن دقيق العيد يحتمل أن يوجه قوله فإن الشيطان لا يفتح على عمومه ويحتمل أن يخص بما ذكر اسم الله عليه ويحتمل أن المنع لأمر متعلق بجسمه ويحتمل أنه لمانع من الله بأمر خارج عن جسمه قال والحديث يدل على منع دخول الشيطان الخارج فأما الشيطان الذي كان داخلاً فلا يدل الخبر على خروجه فيكون ذلك لتخفيف المفسدة لا دفعها ويحتمل أن التسمية عند الإغلاق تقتضي طرد من في البيت من الشياطين وعلى هذا فينبغي أن تكون التسمية من ابتداء الإغلاق إلى تمامه واستنبط منه بعضهم مشروعية غلق الفم عند التثاؤب لدخوله في عموم الأبواب انتهى ( وإن الفويسقة) بتصغير التحقير ( تضرم) بضم التاء وسكون المعجمة وكسر الراء أي توقد ( على الناس) وفي رواية الليث على أهل البيت ( بيتهم) وفي رواية زهير عن أبي الزبير ثيابهم وفي رواية سفيان والفويسقة تضرم البيت على أهله والضرمة بالتحريك النار والضرام لهب النار وفي الصحيح عن عطاء عن جابر فإن الفويسقة ربما جرت الفتيلة فأحرقت أهل البيت وفي أبي داود عن ابن عباس جاءت فأرة فأخذت تجر الفتيلة فجاءت بها فألقتها بين يديه صلى الله عليه وسلم على الخمرة التي كان قاعدًا عليها فاحترق فيها موضع درهم فقال صلى الله عليه وسلم إذا نمتم فأطفئوا سرجكم فإن الشيطان يدل مثل هذه على هذا فتحرقكم وروى الطحاوي عن يزيد بن أبي نعيم أنه سأل أبا سعيد الخدري لم سميت الفأرة الفويسقة قال استيقظ النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة وقد أخذت فأرة فتيلة لتحرق عليه البيت فقام إليها وقتلها وأحل قتلها للحلال والمحرم ففي هذا بيان سبب الأمر بالإطفاء والسبب الحامل للفأرة على جر الفتيلة وهو الشيطان فيستعين وهو عدو الإنسان بعدو آخر وهي النار والأوامر المذكورة للإرشاد إلى المصلحة الدنيوية والاستحباب خصوصًا من ينوي بفعلها الامتثال وفي الصحيح مرفوعًا لا تتركوا النار في بيوتكم حين تنامون قال النووي وهو عام يدخل فيه المصباح وغيره وأما القناديل المعلقة في المساجد وغيرها فإن خيف حريق بسببها دخلت في الأمر وإن أمن ذلك كما هو الغالب فالظاهر أنه لا بأس بها للعلة التي علل بها صلى الله عليه وسلم وإذا انتفت العلة زال المانع والحديث رواه مسلم عن يحيى عن مالك به وتابعه الليث وزهير وسفيان كلهم عند مسلم عن أبي الزبير بنحوه وهو في البخاري ومسلم من طرق عن عطاء بن أبي رباح عن جابر بنحوه ( مالك عن سعيد بن أبي سعيد) كيسان ( المقبري) بضم الباء وفتحها المدني ( عن أبي شريح) بضم الشين المعجمة وآخره حاء مهملة الخزاعي ثم ( الكعبي) نسبة إلى كعب بن عمرو بطن من خزاعة اسمه خويلد بن عمرو على الأشهر وقيل عمرو بن خويلد وقيل هانئ وقيل كعب بن عمرو وقيل عبد الرحمن أسلم قبل الفتح وكان معه لواء خزاعة يوم فتح مكة نزل المدينة وله أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم وروى أيضًا عن ابن مسعود وروى عنه جماعة من التابعين مات بالمدينة سنة ثمان وستين ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال) وفي رواية الليث عن سعيد عن أبي شريح سمعت أذناي وأبصرت عيناي حين تكلم النبي صلى الله عليه وسلم فقال ( من كان يؤمن بالله) الذي خلقه إيمانًا كاملاً ( واليوم الآخر) الذي إليه معاده وفيه جزاؤه فهو إشارة إلى المبدأ والمعاد وعبر بالمضارع هنا وفيما بعده قصدًا إلى استمرار الإيمان وتجدده بتجدد أمثاله وقتًا فوقتًا لأنه عرض لا يبقى زمانين وذلك لأن المضارع لكونه فعلاً يفيد التجدد والحدوث وهذا من خطاب التهييج من قبيل { { وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين } } أي أن ذلك من صفة المؤمن وأن خلافه لا يليق بمن يؤمن بذلك ولو قيل لا يحل لأحد لم يحصل هذا الغرض ( فليقل خيرًا) يثاب عليه بعد التفكر فيما يريد التكلم به فإذا ظهر له أنه خير لا يترتب عليه مفسدة قاله ( أو ليصمت) بضم الميم أي يسكت عن الشر فيسلم لقوله في الحديث الآخر من صمت نجا قاله عياض وقد ضبطه غير واحد بضم الميم وكأنه الرواية المشهورة وإلا فقد قال الطوفي سمعناه بكسرها وهو القياس لأن قياس فعل بفتح العين ماضيًا يفعل بكسرها مضارعًا نحو ضرب يضرب ويفعل بضم العين فيه دخيل كما في الخصائص لابن جني انتهى أي يسكت عما لا خير فيه وفواتهما ينافي حال المؤمنين وشرف الإيمان لأنه من الأمن ولا أمان لمن فاته الغنيمة والسلامة وفي رواية أو ليسكت ومعناهما واحد لكن الصمت أخص لأنه السكوت مع القدرة وهو المأمور به أما السكوت مع العجز لفساد آلة النطق فهو الخرس أو لتوقفها فهو العي قال القرطبي معناه أن المصدق بالثواب والعقاب المترتبين على الكلام في الدار الآخرة لا يخلو إما أن يتكلم بما يحصل له ثوابًا أو خيرًا فيغنم أو يسكت عن شيء يجلب له عقابًا أو شرًا فيسلم فأو للتنويع والتقسيم فيسن له الصمت حتى عن المباح لأدائه إلى محرم أو مكروه وبفرض خلوه عن ذلك فهو ضياع الوقت فيما لا يعني ومن حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه قال وأفاد الحديث أن قول الخير أفضل من الصمت لتقديمه عليه وإنما أمر به عند عدم قول الخير وقد أكثر الناس في تفصيل آفات الكلام وهي أكثر من أن تدخل تحت حصر وحاصله أن آفات اللسان أسرع الآفات للإنسان وأعظمها في الهلاك والخسران فالأصل ملازمة الصمت حتى تتحقق السلامة من الآفات والحصول على الخيرات فحينئذ تخرج تلك الكلمة مخطومة وبأزمة التقوى مزمومة وهذا من جوامع الكلم لأن الكلام كله خير أو شر أو آيل إلى أحدهما فدخل في الخير كل مطلوب من فرض ونفل فأذن فيه على اختلاف أنواعه ودخل فيه ما يؤول إليه وما عدا ذلك مما هو شر أو يؤول إليه فأمر بالصمت عنه فكل من آمن بالله حق الإيمان خاف وعيده ورجا ثوابه ومن آمن باليوم الآخر استعد واجتهد في فعل ما يدفع به أهواله فيأتمر بالأوامر وينتهي عن النواهي ويتقرب لمولاه بما يقربه إليه ويعلم أن من أهم ما عليه ضبط جوارحه ومن أكثر المعاصي عددًا وأيسرها فعلاً معاصي اللسان وقد استقرأ المحاسبون لأنفسهم آفات اللسان فزادت على العشرين وأرشد إلى ذلك جملة فقال وهل يكب الناس على مناخرهم في النار إلا حصائد ألسنتهم إلى غير ذلك فمن آمن بذلك حق إيمانه اتقى الله في لسانه وقد قال ابن مسعود وسلمان ما شيء أحق بطول السجن من اللسان ( ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر) أي يوم القيامة وصف به لتأخره عن أيام الدنيا أو لأنه أخر الحساب إليه أو لأنه لا ليل بعده ولا يقال يوم إلا لما بعده ليل أي يصدق بوجوده مع ما اشتمل عليه من الأحوال والأهوال واكتفى بهما عن الإيمان بالرسل والكتب وغيرهما لأن الإيمان به على ما هو عليه يستلزم الإيمان بنبوءته صلى الله عليه وسلم وهو يستلزم الإيمان بجميع ما جاء به ( فليكرم جاره) بالبشر وطلاقة الوجه وبذل الندى وكف الأذى وتحمل ما فرط منه ونحو ذلك وفي رواية نافع عن جبير عن أبي شريح عند مسلم فليحسن إلى جاره وفي رواية للشيخين من حديث أبي هريرة فلا يؤذي جاره وقد أوصى الله بالإحسان إليه في القرآن وقال صلى الله عليه وسلم ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه قال القرطبي فمن كان مع هذا التأكيد الشديد مضرًا لجاره كاشفًا لعوراته حريصًا على إنزال البوائق به كان ذلك منه دليلاً على فساد اعتقاد ونفاق فيكون كافرًا ولا شك أنه لا يدخل الجنة وأما على امتهانه بما عظم الله من حرمة الجار ومن تأكيد عهد الجوار فيكون فاسقًا فسقًا عظيمًا ومرتكب كبيرة يخاف عليه من الإصرار عليها أن يختم له بالكفر فإن المعاصي بريد الكفر فيكون من الصنف الأول فإن سلم من ذلك ومات بلا توبة فأمره إلى الله وقد كانوا في الجاهلية يبالغون في رعايته وحفظ حقه حكى ابن عبد البر عن أبي حازم بن دينار قال كان أهل الجاهلية أبر منكم بالجار هذا قائلهم قال

ناري ونار الجار واحدة
وإليه قبلي ينزل القدر

ما ضر جاري إذ أجاوره
أن لا يكون لبابه ستر

أغض طرفي إذا ما جارتي برزت
حتى يواري جارتي الخدر

وقال آخر

أغض طرفي ما بدت لي جارتي
حتى يواري جارتي مأواها

قال الحافظ واسم الجار يشمل المسلم والكافر والعابد والفاسق والصديق والعدو والغريب والبلدي والنافع والضار والقريب والأجنبي والأقرب دارًا والأبعد وله مراتب أعلى من بعض فأعلى من اجتمعت فيه الصفات الأول كلها ثم أكثرها وهلم جرًا إلى الواحد وعكسه من اجتمعت فيه الصفات الأخرى فيعطى كل حقه بحسب حاله وقد تتعارض صفتان فترجح أو تساوي وقد حمله ابن عمر على العموم فأمر لما ذبحت له شاة أن يهدي منها لجاره اليهودي كما رواه البخاري في الأدب المفرد والترمذي وحسنه ووردت الإشارة إلى ما ذكر في حديث مرفوع أخرجه الطبراني الجيران ثلاثة جار له حق وهو المشرك له حق الجوار وجار له حقان وهو المسلم له حق الجوار وحق الإسلام وجار له ثلاثة حقوق وهو المسلم له رحم حق الإسلام والجوار والرحم والأمر بالإكرام يختلف باختلاف الأشخاص والأحوال فقد يكون فرض عين وقد يكون فرض كفاية وقد يكون مندوبًا ويجمع الجميع أنه من مكارم الأخلاق وجاء تفسير الإحسان والإكرام للجار في أخبار أخر منها ما رواه الطبراني والخرائطي وأبو الشيخ عن معاوية بن حيدة قلت يا رسول الله ما حق جاري علي قال إن مرض عدته وإن مات شيعته وإن استقرضك أقرضته وإن أعوز سترته وإن أصابه خير هنيته وإن أصابته مصيبة عزيته ولا ترفع بناءك فوق بنائه فتسد عليه الريح ولا تؤذيه بريح قدرك إلا أن تغرف له منها وروى الخرائطي والطبراني عن معاذ قالوا يا رسول الله ما حق الجار على جاره قال إن استقرضك أقرضته وإن استعانك أعنته وإن مرض عدته وإن احتاج أعطيته وإن افتقر عدت عليه وإذا أصابه خير هنيته وإن أصابته مصيبة عزيته وإن مات اتبعت جنازته ولا تستطيل عليه بالبناء فتحجب عنه الريح إلا بإذنه ولا تؤذيه بريح قدرك إلا أن تغرف له منها وإن اشتريت فاكهة فأهد له وإن لم تفعل فأدخلها سرًا ولا تخرج بها ولدك ليغبط بها ولده ورواه الخرائطي أيضًا من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده وألفاظهم متقاربة وأسانيدهم واهية لكن تعدد مخارجها يشعر بأن للحديث أصلاً قال ابن أبي جمرة وإكرام الجار من كمال الإيمان والذي يشمل جميع وجوه الإكرام إرادة الخير له وموعظته بالحسنى والدعاء له بالهداية وترك الإضرار على اختلاف أنواعه حسيًا كان أو معنويًا إلا في الموضع الذي يجب فيه الإضرار بالقول أو الفعل والذي يخص الصالح هو جميع ما تقدم وغير الصالح كفه عما يرتكبه بالحسنى على حسب مراتب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ويعظ الكافر بعرض الإسلام عليه وإظهار محاسنه والترغيب فيه برفق والفاسق بما يليق به برفق فإن أفاد وإلا هجره قاصدًا تأديبه مع إعلامه بالسبب وهنا تنبيه وهو أنه إذا أمر بإكرام الجار مع الحائل بين الإنسان وبينه فينبغي أن يرعى حق الحافظين اللذين ليس بينه وبينهما جدار ولا حائل فلا يؤذيهما بأنواع المخالفات في مرور الساعات فقد ورد أنهما يسران بالحسنات ويحزنان بالسيئات فينبغي إكرامهما ورعاية جانبهما بالإكثار من عمل الطاعات والمواظبة على تجنب المعاصي فهما أولى بالإكرام من كثير من الجيران انتهى وقال ابن العربي حد الجوار في رواية بعضهم مرفوعًا إلى أربعين دارًا ولم يثبت وعنوا به من كل جهة وهذا دعوى لا برهان عليها والذي يتحصل عند النظر أن الجار له مراتب الأول الملاصقة والثاني المخالطة بأن يجمعهما مسجد أو مجلس أو بيوت ويتأكد الحق مع المسلم ويبقى أصله مع الكافر والمسلم وقد يكون مع العاصي بالتستر عليه انتهى وقالت عائشة يا رسول الله إن لي جارين فإلى أيهما أهدي قال إلى أقربهما منك بابًا قال الزواوي هذا والله أعلم إذا كان المشي قليلاً فالأقرب بابًا أولى به فأما مع السعة وكثرة ما يهدي فليهد إلى غير واحد الأقرب فالأقرب ( ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر) إيمانًا كاملاً ( فليكرم ضيفه) بطلاقة الوجه والإتحاف والزيادة ( جائزته) بجيم وزاي منقوطة أي منحته وعطيته وإتحافه بأفضل ما يقدر عليه روي بالرفع مبتدأ خبره ( يوم وليلة) وبالنصب مفعول ثان ليكرم لأنه في معنى يعطي أو بنزع الخافض أي بجائزته وهي يوم وليلة أو بدل اشتمال وفي رواية الليث فليكرم ضيفه جائزته قالوا وما جائزته يا رسول الله قال يوم وليلة ( وضيافته ثلاثة أيام) باليوم الأول أو ثلاثة بعده والأول أشبه لكن في مسلم من رواية عبد الحميد بن جعفر عن سعيد المقبري عن أبي شريح الضيافة ثلاثة أيام وجائزته يوم وليلة وهذا يدل على المغايرة قال عيسى بن دينار معنى جائزته يوم وليلة أن يتحفه ويكرمه بأفضل ما يستطيعه وضيافته ثلاثة كأنه يريد من غير تكلف كما يتكلف في أول ليلة قال الباجي ويحتمل أن الضيافة لمن أراد الجواز يوم وليلة ولمن أراد المقام ثلاثة أيام وقال الخطابي أي يتكلف له يومًا وليلة فيتحفه ويزيد في البر على ما يحضره في سائر الأيام وفي اليومين الآخرين يقدم له ما حضر فإذا مضت الثلاث فقد مضى حقه ( فما كان بعد ذلك) مما يحضره له بعد ذلك ( فهو صدقة) عليه وفي التعبير بصدقة تنفير عنه لأن كثيرًا من الناس لا سيما الأغنياء يأنفون غالبًا من أكل الصدقة وكان ابن عمر إذا قدم مكة نزل على أصهاره فيأتيه طعامه من عند دار خالد بن أسيد فيأكل من طعامهم ثلاثة أيام ثم يقول احبسوا عنا صدقتكم ويقول لنافع أنفق من عندك الآن أخرجه أبو عمر في التمهيد ( ولا يحل له) للضيف ( أن يثوي) بفتح التحتية وسكون المثلثة وكسر الواو أي يقيم ( عنده) عند من أضافه ( حتى يحرجه) بضم التحتية وسكون الحاء المهملة وكسر الراء وجيم من الحرج وهو الضيق قال أبو عمر أي يضيق عليه وقال الباجي يحتمل أن يريد حتى يؤثمه وهو أن يضر به مقامه فيقول أو يفعل ما يؤثمه انتهى ولمسلم حتى يؤثمه أي يوقعه في الإثم لأنه قد يغتابه لطول إقامته أو يعرض له ما يؤذيه أو يظن به ظنًا سيئًا ويستفاد منه أنه إذا ارتفع الحرج جازت الإقامة بعد بأن يختار المضيف إقامة الضيف أو يغلب على ظن الضيف أن المضيف لا يكره ذلك ثم الأمر بالإكرام للاستحباب عند الجمهور لأن الضيافة من مكارم الأخلاق ومحاسن الدين وخلق النبيين لا واجبة لقوله جائزة والجائزة تفضل وإحسان لا تجب اتفاقًا هكذا استدل به الطحاوي وابن بطال وابن عبد البر وقال الليث وأحمد تجب الضيافة ليلة واحدة للحديث المرفوع ليلة الضيف واجبة على كل مسلم وحديث الصحيح مرفوعًا إن نزلتم بقوم فأمروا لكم بما ينبغي للضيف فاقبلوا فإن لم يفعلوا فخذوا منهم حق الضيف الذي ينبغي لهم وأجاب الجمهور عن هذين وما أشبههما بأن هذا كان في صدر الإسلام حتى كانت المواساة واجبة أو للمجاهدين في أول الإسلام لقلة الأزواد ثم نسخ وبأنه محمول على المضطرين فإن ضيافتهم واجبة من حيث الاضطرار أو مخصوص بالعمال الذين يبعثهم الإمام لأخذ الزكاة أو الكلام في أهل الذمة المشروط عليهم ضيافة المارة وعند الشافعي ومحمد بن عبد الحكم أن المخاطب بها أهل الحضر والبادية وعند مالك وسحنون إنما هي على أهل البوادي لا على أهل الحضر لوجود الفنادق وغيرها للنزول فيها ووجود الطعام للبيع فيها قال بعضهم ولا يحصل الامتثال إلا بالقيام بكفايته فلو أطعمه بعض كفايته لم يكرمه لانتفاء جزء الإكرام وإذا انتفى جزؤه انتفى كله وفي كتاب المنتخب من الفردوس عن أبي الدرداء مرفوعًا إذا أكل أحدكم مع الضيف فليلقمه بيده فإذا فعل ذلك كتب له به عمل سنة صيام نهارها وقيام ليلها ومن حديث قيس بن سعد من إكرام الضيف أن يضع له ما يغسل به حين يدخل المنزل ومن إكرامه أن يركبه إذا انقلب إلى منزله إن كان بعيدًا وأن يجلس تحته وروى ابن شاهين عن أبي هريرة برفعه من أطعم أخاه لقمة حلوة لم يذق مرارة يوم القيامة هذا ومحل الاستحباب فيمن وجد فاضلاً عمن يمونه وإلا فليس له ذلك وأما حديث الأنصاري التي أثنى الله تعالى عليه وعلى زوجته بإيثارهما الضيف على أنفسهما وصبيانهما حيث نومتهم أمهم حتى أكل الضيف فأجيب عن ظاهره من تقديم الضيف على حاجة الصبيان بأنهم لم تشتد حاجتهم للأكل وإنما خاف أبواهما أن الطعام لو قدم للضيف وهم منتبهون لم يصبروا على الأكل وإن لم يكونوا جياعًا وهذا الحديث من جوامع الكلم لاشتماله على ثلاثة أمور تجمع مكارم الأخلاق الفعلية والقولية وحاصله أن كامل الإيمان متصف بالشفقة على خلق الله قولاً بالخير أو سكوتًا عن الشر أو فعلاً لما ينفع أو تركًا لما يضر فليس المراد ما اقتضاه ظاهره من توقف الإيمان على ما ذكر فيه بل المراد الإيمان الكامل كما علم أو على المبالغة في استجلاب هذه الأفعال كما تقول لولدك إن كنت ابني فأطعمني تحريضًا وتهييجًا على الطاعة لا أنه بانتفاء الطاعة تنتفي ولديته وأخرجه البخاري في الأدب عن عبد الله بن يوسف وإسماعيل كلاهما عن مالك به وتابعه الليث عند البخاري وعبد الحميد بن جعفر عند مسلم كلاهما عن سعيد نحوه وأخرجه مسلم أيضًا من حديث نافع بن جبير عن أبي شريح نحوه ( مالك عن سمي) بضم السين المهملة وفتح الميم وشد التحتية ( مولى أبي بكر) بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام ( عن أبي صالح) ذكوان ( السمان عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال بينما) بميم وفي رواية بدونها ( رجل) قال الحافظ لم يسم ( يمشي بطريق) وللدارقطني في الموطآت من طريق روح بن عبادة عن مالك يمشي بفلاة وله من طريق ابن وهب عن مالك يمشي بطريق مكة ( إذ اشتد عليه العطش فوجد بئرًا فنزل فيها فشرب) منها ( وخرج) من البئر وفي رواية ثم خرج ( فإذا كلب) وفي رواية فإذا هو بكلب ( يلهث) بفتح الهاء ومثلثة أي يرتفع نفسه بين أضلاعه أو يخرج لسانه من العطش حال كونه ( يأكل الثرى) بفتح المثلثة والقصر التراب الندي ( من العطش) ويجوز أن يأكل خبر ثان ( فقال الرجل لقد بلغ هذا الكلب) بالرفع والنصب ( من العطش) الشديد الذي أصابه ( مثل الذي بلغ مني) وفي رواية بي وزاد ابن حبان من وجه آخر عن أبي صالح فرحمه ومثل ضبطه الحافظ وغيره بالنصب نعت لمصدر محذوف أي بلغ مبلغًا مثل الذي بلغ مني قال في المصابيح ولا يتعين لجواز أن المحذوف مفعول به أي عطشًا وضبطه الحافظ الدمياطي وغيره بالرفع على أنه فاعل يبلغ فهما روايتان ( فنزل البئر فملأ خفه) ماء ( ثم أمسكه بفيه) ليصعد من البئر لعسر الرقي منها ( حتى رقي) بفتح الراء وكسر القاف كصعد وزنًا ومعنى ومقتضى كلام ابن التين أن الرواية رقى بفتح القاف فإنه قال كذا وقع وصوابه رقى على وزن علم ومعناه صعد قال تعالى { { أو ترقى في السماء } } وأما رقى بفتح القاف فمن الرقية وليس هذا موضعه وخرجه على لغة طيء في مثل بقى يبقى ورضى يرضى يأتون بالفتحة مكان الكسرة فتقلب الياء ألفًا وهذا دأبهم في كل ما هو من هذا الباب انتهى قال في المصابيح ولعل المقتضي لإيثار الفتح هنا إن صح قصد المزاوجة بين رقى وسقى وهي من مقاصدهم التي يعتقدون فيها تغيير الكلمة عن وضعها الأصلي ( فسقى الكلب) زاد عبد الله بن دينار عن أبي صالح حتى أرواه كما في الصحيحين أي جعله ريان ( فشكر الله له) أثنى عليه أو قبل عمله ذلك أو أظهر ما جازاه به عند ملائكته ( فغفر له) الفاء للسببية أي بسبب قبوله غفر له وفي رواية ابن دينار بدله فأدخله الجنة ( فقالوا) أي الصحابة وسمي منهم سراقة بن مالك بن جعشم عند أحمد وابن ماجه وابن حبان ( يا رسول الله) الأمر كما قلت ( وأن لنا في) سقي ( البهائم) أو في الإحسان إليها ( لأجرًا) ثوابًا ( فقال) صلى الله عليه وسلم ( في كل كبد) بفتح الكاف وكسر الموحدة ويجوز سكونها وكسر الكاف وسكون الموحدة ( رطبة) برطوبة الحياة من جميع الحيوان أو لأن الرطوبة لازمة للحياة فيكون كناية عنها أو هو من باب وصف الشيء باعتبار ما يؤول إليه فيكون معناه في كل كبد حرى لمن سقاها حتى تصير رطبة ( أجر) بالرفع مبتدأ قدم خبره أي حاصل وكائن في إرواء كل ذي كبد حية ويحتمل أن في سببية كقولك في النفس الدية قال الداودي المعنى في كل كبد حي وهو عام في جميع الحيوان قال الأبي حتى الكافر ويدل عليه قوله تعالى { { ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا } } لأن الأسير إنما يكون في الأغلب كافرًا انتهى وقال أبو عبد الملك هذا الحديث كان في بني إسرائيل وأما الإسلام فقد أمر بقتل الكلاب وقوله في كل كبد مخصوص ببعض البهائم مما لا ضرر فيه لأن المأمور بقتله كالخنزير لا يجوز أن يقوى ليزداد ضرره وكذا قال النووي عمومه مخصوص بالحيوان المحترم وهو مما لم يؤمر بقتله فيحصل الثواب بسقيه ويلتحق به إطعامه وغير ذلك من وجوه الإحسان وقال ابن التين لا يمنع إجراؤه على عمومه يعني فيسقى ثم يقتل لأنا أمرنا بأن نحسن القتلة ونهينا عن المثلة وفيه جواز حفر الآبار في الصحراء لانتفاع عطشان وغيره بها فإن قيل كيف ساغ مع مظنة الاستضرار بها من ساقط بليل أو وقوع بهيمة ونحوها فيها أجيب بأنه لما كانت المنفعة أكثر ومتحققة والاستضرار نادر أو مظنون غلب الانتفاع وسقط الضمان فكانت جبارًا فلو تحققت الضرورة لم يجز وضمن الحافر وفيه الحث على الإحسان وأن سقي الماء من أعظم القربات وأخرجه البخاري في الشرب عن عبد الله بن يوسف وفي المظالم عن القعنبي وفي الأدب عن إسماعيل ومسلم في الحيوان عن قتيبة بن سعيد وأبو داود في الجهاد عن القعنبي كلهم عن مالك به ( مالك عن وهب بن كيسان) القرشي مولاهم أبي نعيم المدني المعلم ثقة من رجال الجميع مات سنة سبع وعشرين ومائة ( عن جابر بن عبد الله) رضي الله عنهما ( أنه قال بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثًا قبل) بكسر ففتح جهة ( الساحل) أي ساحل البحر زاد في رواية عمرو بن دينار عن جابر في الصحيحين يرصد عيرًا لقريش ولمسلم عن عبيد الله بن مقسم عن جابر بعثنا إلى أرض جهينة وذكر ابن سعد أن بعثهم إلى حي من جهينة بالقبلية بفتح القاف والموحدة وكسر اللام وشد التحتية مما يلي ساحل البحر بينه وبين المدينة خمس ليال وأنهم انصرفوا ولم يلقوا كيدًا أي حربًا ولا منافاة لاحتمال أن البعث للمتصدين رصد عير قريش وقصد محاربة حي من جهينة قال ابن سعد وكان ذلك في رجب سنة ثمان قال الحافظ لكن تلقي عير قريش لا يتصور كونه في هذا الوقت لأنهم كانوا حينئذ في الهدنة بل مقتضى ما في الصحيح أن يكون البعث في سنة ست أو قبلها قبل هدنة الحديبية نعم يحتمل أن تلقيهم للعير ليس لحربهم بل لحفظهم من جهينة ولهذا لم يقع في شيء من طرق الخبر أنهم قاتلوا أحدًا بل فيه أنهم أقاموا نصف شهرًا وأكثر في مكان واحد انتهى وقال الولي العراقي قالوا كان ذلك في رجب سنة ثمان بعد نكث قريش العهد وقبل فتح مكة في رمضان من السنة المذكورة انتهى وقال في الهدى كونه في رجب وهم غير محفوظ إذ لم يحفظ أنه صلى الله عليه وسلم غزا في الشهر الحرام ولا أغار فيه ولا بعث فيه سرية قال الحافظ برهان الدين الحلبي هذا كلام حسن مليح لكنه على مختاره من عدم نسخ القتال في الشهر الحرام كشيخه ابن تيمية تبعًا للظاهرية وعطاء وهو خلاف ما عليه المعظم من نسخه ( فأمر) بشد الميم أي جعل أميرًا ( عليهم) أي على البعث ( أبا عبيدة) عامر بن عبد الله ( بن الجراح) القرشي الفهري أحد العشرة البدري من السابقين مات شهيدًا بطاعون عمواس سنة ثمان عشرة أميرًا على الشام من قبل عمر وفي رواية حمزة الخولاني عن جابر عند ابن أبي عاصم أمر علينا قيس بن سعد بن عبادة قال الحافظ والمحفوظ ما اتفقت عليه روايات الصحيحين أنه أبو عبيدة وكأن أحد رواته ظن من صنع قيس من نحر الإبل التي اشتراها أنه أمير السرية وليس كذلك ( وهم) أي الجيش ( ثلاثمائة) على المشهور في الروايات في الكتب الستة وبه جزم أهل السير كابن سعد قائلاً من المهاجرين والأنصار وللنسائي أيضًا بضع عشرة وثلثمائة فإن صحت فلعله اقتصر في الرواية المشهورة على ثلثمائة استسهالاً لأمر الكسر لقلته لكن الأخذ بالزيادة مع صحتها واجب لأنه زيادة ثقة غير منافية ( قال) جابر ( وأنا فيهم) زاد في رواية لمسلم وفيهم عمر بن الخطاب وزاد البخاري ومسلم عن هشام بن عروة عن وهب نحمل زادنا على رقابنا ( فخرجنا حتى إذا كنا ببعض الطريق) التفات من الغيبة للتكلم ( فني) بفتح الفاء وكسر النون فرغ ( الزاد) جوز بعض الشراح أن يكون معنى فني أشرف على الفناء ( فأمر أبو عبيدة بأزواد ذلك الجيش فجمع ذلك كله فكان مزودي تمر) بكسر الميم وإسكان الزاي وفتح الواو والدال تثنية مزود بالكسر ما يجعل فيه الزاي ( قال) جابر ( فكان) أبو عبيدة ( يقوتناه) بفتح أوله والتخفيف من الثلاثي وبضمه والتشديد من التفويت ( كل يوم قليلاً قليلاً) بالنصب على المفعولية ( حتى فني) ما في المزودين من التمر ( ولم تصبنا) مما جمع ثانيًا من الأزواد الخاصة ( إلا تمرة تمرة) كل يوم هكذا قاله بعض الشراح وجوز بعضهم أن يكون معنى فني أشرف على الفناء وقال الحافظ ظاهر هذا السياق أنهم كان لهم أزواد بطريق العموم وأزواد بطريق الخصوص فلما فني الذي بطريق العموم اقتضى رأي أبي عبيدة أن يجمع الذي بطريق الخصوص لقصد المواساة بينهم ففعل فكان جميعه مزودًا واحدًا ولمسلم عن أبي الزبير عن جابر فزودنا صلى الله عليه وسلم جرابًا من تمر لم يجد لنا غيره فكان أبو عبيدة يعطينا تمرة تمرة وظاهره يخالف حديث الباب ويجمع بأن الزاد العام كان قدر جراب فلما نفذ وجمع أبو عبيدة الزاد الخاص اتفق أنه قدر جراب ويكون كل من الراويين ذكر ما لم يذكر الآخر وأما تفرقته تمرة تمرة فكان في ثاني الحال انتهى ولا بأس بما قال إلا قوله مزودًا واحدًا فإن الحديث هنا وفي البخاري وغيره من طريق مالك روي بالتثنية وقول عياض يحتمل أنه لم يكن في أزوادهم تمر غير الجراب المذكور ورده الحافظ بأن حديث وهب صريح في أن الذي اجتمع من أزوادهم مزودًا تمر ورواية ابن الزبير صريحة في أنه صلى الله عليه وسلم زودهم جرابًا من تمر فصح أن التمر كان معهم من غير الجراب قال وقول غيره يحتمل أن تفرقته عليهم تمرة تمرة قصدًا لبركته وكان يفرق عليهم من الأزواد التي جمعت أزيد من ذلك بعيد من السياق بل في رواية هشام بن عروة عند ابن عبد البر فقلت أزوادنا حتى ما كان يصيب الرجل منا إلا تمرة قال وهب بن كيسان ( فقلت) لجابر ( وما تغني) عنكم ( تمرة) وفي رواية هشام عن وهب وأين كانت التمرة تقع من الرجل ( فقال لقد وجدنا فقدها) مؤثرًا ( حيث فنيت) لأنها خير من لا شيء إذ تحلي الفم وترد بعض ألم الجوع ولمسلم عن أبي الزبير أنه أيضًا سأل عن ذلك فقال لقد وجدنا فقدها فقلت ما كنتم تصنعون بها قال نمصها كما يمص الصبي الثدي ثم نشرب عليها من الماء فيكفينا يومنا إلى الليل وزاد عمرو بن دينار عن جابر في الصحيحين وغيرهما فأقمنا على الساحل حتى فني زادنا فأصابنا جوع شديد حتى أكلنا الخبط بفتح المعجمة والموحدة وطاء مهملة أي ورق السلم بفتحتين شجر عظيم له شوك كالعوسج والطلح قيل وهو الذي أكلوا ورقه ولمسلم عن أبي الزبير عن جابر وكنا نضرب بعصينا الخبط ونبله بالماء فنأكله وهذا يدل على أنه كان يابسًا خلافًا لزعم الداودي أنه كان أخضر رطبًا ولهذا تعرف بسرية الخبط ( قال) جابر ( فانتهينا) وفي رواية ثم انتهينًا ( إلى البحر فإذا حوت) اسم جنس لجميع السمك وقيل مخصوص بما عظم منه ( مثل الظرب) بفتح الظاء المعجمة المشالة وكسر الراء وموحدة وحكى ابن التين أنه بالمعجمة الساقطة والأول أصوب الجبل الصغير وقال القزاز هو بسكون الراء إذا كان منبسطًا ليس بالعالي ولمسلم عن أبي الزبير عن جابر فوقع لنا على ساحل البحر كهيئة الكثيب الضخم فأتيناه فإذا هي دابة تدعى العنبر وفي رواية عمرو بن دينار فألقى لنا البحر دابة يقال لها العنبر وفي رواية عنه أيضًا فألقى لنا البحر حوتًا ميتًا لم نر مثله يقال له العنبر قال أهل اللغة العنبر دابة بحرية كبيرة يتخذ من جلدها الترسة ويقال أن العنبر المشموم رجيع هذه الدابة وقيل المشموم يخرج من الشجر وإنما يوجد في أجواف السمك الذي تبتلعه وقال الشافعي سمعت من يقول رأيت العنبر نابتًا في البحر ملتويًا مثل عنق الشاة وفي البحر دابة تأكله وهو اسم لها فيقتلها فيقذفه البحر فيخرج العنبر من بطنها وقال الأزهري العنبر سمكة تكون بالبحر الأعظم يبلغ طولها خمسين ذراعًا يقال لها بالة وليست عربية ( فأكل منه ذلك الجيش ثماني عشرة ليلة) وفي رواية عمرو بن دينار فأكلنا منه نصف شهر وفي رواية أبي الزبير فأقمنا عليه شهرًا قال الحافظ ويجمع بأن من قال ثماني عشرة ضبط ما لم يضبطه غيره ومن قال نصف شهر ألغى الكسر الزائد وهو ثلاثة أيام ومن قال شهرًا جبر الكسر أو ضم بقية المدة التي كانت قبل وجدانهم الحوت إليها ورجح النووي رواية أبي الزبير لما فيها من الزيادة وقال ابن التين إحدى الروايتين وهم ولعل الجمع الذي ذكرته أولى ووقع في رواية الحاكم اثنى عشر يومًا وهي شاذة وأشد منها شذوذًا رواية الخولاني فأقمنا عليها ثلاثًا زاد في رواية عمرو بن دينار عن جابر وادهنا من ودكه حتى ثابت إلينا أجسامنا بمثلثة وموحدة أي رجعت وفيه إشارة إلى أنهم حصل لهم هزال من الجوع السابق ( ثم أمر أبو عبيدة بضلعين) بكسر الضاد المعجمة وفتح اللام ( من أضلاعه فنصبًا) بالتذكير وإن كانت الضلع مؤنثة لأنه غير حقيقي فيجوز تذكيره ( ثم أمر براحلة) أن ترحل ( فرحلت) بخفة الحاء وشدها ( ثم مرت تحتهما فلم تصبهما) الراحلة لعظمهما وفي رواية للبخاري فعمد إلى أطول رجل معه فمر تحته وعند ابن إسحاق عن عبادة بن الصامت ثم أمر بأجسم بعير معنا فحمل عليه أجسم رجل منا فخرج من تحتها وما مسته رأسه وجزم في المقدمة بأن الرجل قيس بن سعد بن عبادة وقال في الفتح لم أقف على اسمه وأظنه قيسًا فإنه مشهور بالطول وقصته مع معاوية معروفة لما أرسل إليه ملك الروم أطول رجل منهم ونزع له قيس سراويله فكانت طول قامة الرومي بحيث كان طرفها على أنفه وطرفها على الأرض وعوتب قيس في نزع سراويله فقال

أردت لكيما يعلم الناس أنها
سراويل قيس والوفود شهود

وأن لا يقولوا غاب قيس وهذه
سراويل عادي نمته ثمود

ولمسلم عن أبي الزبير عن جابر فلقد رأيتنا نغترف من وقب عينيه بالقلال الدهن ونقتطع منه الفدر كالتور فأخذ أبو عبيد ثلاثة عشر رجلاً فأقعدهم في وقب عينيه بفتح الواو وسكون القاف وموحدة النقرة التي فيها الحدقة والفدر بكسر الفاء وفتح الدال جمع فدرة بفتح فسكون القطعة من اللحم وغيره وفي رواية الخولاني عن جابر وحملنا ما شئنا من قديد وودك في الأسقية والغرائر وفي مسلم عن عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت عن جابر فأتينا سيف البحر فزخر البحر زخرة فألقى دابة فأورينا على شقها النار فأطبخنا واشتوينا وأكلنا وشبعنا قال جابر فدخلت أنا وفلان وفلان حتى عد خمسة في حجاج عينها ما يرانا أحد حتى خرجنا وأخذنا ضلعًا من أضلاعها فقوسناه ودعونا بأعظم رجل في الركب وأعظم جمل في الركب وأعظم كفل في الركب فدخل تحته ما يطأطئ رأسه وكفل بكسر الكاف وسكون الفاء ولام كساء يجعله الراكب على سنامه لئلا يسقط وفي رواية الخولاني عن جابر وحملنا ما شئنا من قديد وودك وللبخاري عن أبي الزبير عن جابر فلما قدمنا المدينة ذكرنا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال كلوا رزقًا أخرجه الله أطعمونا إن كان معكم فأتاه بعضهم بعضو منه فأكله ولأحمد ومسلم عن أبي الزبير عن جابر فقال النبي صلى الله عليه وسلم هو رزق أخرجه الله لكم فهل معكم شيء من لحمه فتطعمونا فكان معنا منه شيء فأرسلنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منه فأكل ولابن أبي عاصم عن الخولاني عن جابر فقال صلى الله عليه وسلم لو نعلم أنا ندركه لم يروح لأحببنا لو كان عندنا منه قال الحافظ وهذا لا يخالف رواية أبي الزبير لأنه يحمل على أنه قال ذلك ازديادًا منه بعد أن أحضروا له منه ما ذكر أو قال ذلك قبل أن يحضروا له منه وكان ما أحضروه لم يروح فأكل منه وفي البخاري ومسلم عن عمرو بن دينار عن جابر وكان رجل من القوم نحر ثلاث جزائر أي عندما جاعوا ثم نحر ثلاث جزائر ثم نحر ثلاث جزائر بالتكرار ثلاث مرات وللحميدي في مسنده وغيره عن عمرو بن دينار عن أبي صالح عن قيس بن سعد قال قلت لأبي وكنت في جيش الخبط أصاب الناس جوع قال انحر قلت نحرت ثم جاعوا قال انحر قلت نحرت ثم جاعوا قال انحر قلت نحرت ثم جاعوا قال انحر قلت قد نهيت وروى الواقدي أنهم أصابهم جوع شديد فقال قيس من يشتري مني تمرًا بالمدينة بجزر هنا فقال له رجل من جهينة من أنت فانتسب فقال عرفت نسبك فابتاع منه خمس جزائر بخمسة أوسق وأشهد له نفرًا من الصحابة وامتنع عمر لكون قيس لا مال له فقال الأعرابي ما كان سعد ليخنى بابنه في خمسة أوسق بفتح التحتية وسكون الخاء المعجمة ونون أي يقصر قال وأرى وجهًا حسنًا وفعلاً شريفًا فأخذ قيس الجزر فنحر لهم ثلاثة كل يوم جزورًا فلما كان اليوم الرابع نهاه أميره فقال عزمت عليك أن لا تنحر تريد أن تخفر ذمتك ولا مال لك قال قيس يا أبا عبيدة أترى أبا ثابت يعني سعدًا أباه يقضي ديون الناس ويحمل الكل ويطعم في المجاعة لا يقضي عني تمرًا لقوم مجاهدين في سبيل الله فكاد أبو عبيدة يلين وجعل عمر يقول أعزم فعزم عليه فبقيت جزوران فقدم بهما قيس المدينة ظهرًا يتعاقبون عليهما وبلغ سعدًا مجاعة القوم فقال إن يك قيس كما أعرف فسينحر لهم فلما لقيه قال ما صنعت في مجاعة القوم قال نحرت قال أصبت ثم ماذا قال نحرت قال أصبت ثم ماذا قال نحرت قال أصبت ثم ماذا قال نهيت قال ومن نهاك قال أبو عبيدة أميري قال ولم قال زعم أنه لا مال لي وإنما المال لأبيك فقال لك أربع حوائط أدناها تجد منه خمسين وسقًا وقدم البدوي مع قيس فأوفاه أوسقه وحمله وكساه فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فعل قيس فقال إنه في قلب جود ولابن خزيمة فقال صلى الله عليه وسلم إن الجود من سيمة أهل ذلك البيت ويمكن الجمع بأنه نحر أولا ستًا مما معه من الظهر ثم اشترى خمسًا نحر منها ثلاثًا ثم نهي فاقتصر من قال ثلاثًا على ما نحره مما اشتراه ومن قال تسعًا ذكر جملة ما نحره فإن ساغ هذا وإلا فما في الصحيح أصح والله أعلم ولم يتنزل الحافظ للجمع وقال اختلف في سبب نهي أبي عبيدة قيسًا أن يستمر على إطعام الجيش فقيل خيفة أن تفنى حمولتهم وفيه نظر لأن في القصة أنه اشترى من غير العسكر وقيل لأنه كان يستدين على ذمته وليس له مال فأريد الرفق به وهذا أظهر انتهى ولا نظر لأنه خاف أن يشتري من العسكر بعد نحر ما اشتراه من غيره وفي الحديث مشروعية المواساة بين الجيش عند المجاعة فإن الاجتماع على الطعام يستدعي البركة فيه ورواه البخاري في الشركة عن عبد الله بن يوسف وفي المغازي عن إسماعيل ومسلم من طريق ابن مهدي كلهم عن مالك به ورواه الأربعة من طريق مالك وغيره وله طرق عندهم بزيادات قد أتيت على حاصلها والله الموفق المعين ( قال مالك الظرب) بالظاء المعجمة المشالة وزن كتف ( الجبيل) بضم الجيم مصغر إشارة إلى صغره وفي رواية ابن بكير الجبل الصغير ( مالك عن زيد بن أسلم) العدوي ( عن عمرو) بفتح العين ( ابن سعد بن معاذ) نسبة إلى جده إذ هو عمرو بن معاذ بن سعد بن معاذ الأشهلي المدني يكنى أبا محمد وقلبه بعضهم فقال معاذ بن عمرو تابعي ثقة ( عن جدته) قال ابن عبد البر قيل اسمها حواء بنت يزيد بن السكن وقيل إنها جدة ابن نجيد أيضًا ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يا نساء المؤمنات) قال الباجي رويناه بالمشرق بنصب نساء وخفض المؤمنات على الإضافة من إضافة الشيء إلى نفسه كمسجد الجامع أو من إضافة العام للخاص كبهيمة الأنعام أو على تأويل نساء بفاضلات أي فاضلات المؤمنات كما يقال رجال القوم أي ساداتهم وأفاضلهم ورويناه ببلدنا برفع الكلمتين الأولى على النداء والثانية صفة على اللفظ أي يا أيها النساء المؤمنات ويجوز رفع الأولى ونصب الثانية بالكسرة نعت على الموضع كما يقال يا زيد العاقل بنصب العاقل ورفعه وتعقب الأبي قوله من إضافة الشيء إلى نفسه بأنه ممنوع اتفاقًا وإنما هو من إضافة الموصوف إلى صفته عند الكوفيين ومنعه البصريون وتأولوا نحو مسجد الجامع على حذف الموصوف أي مسجد المكان الجامع وإنما ذكر النحاة مسجد الجامع مثالاً لإضافة الموصوف إلى الصفة لا لإضافة الشيء إلى نفسه انتهى ومثل هذا ظاهر فإنما سبقه القلم أراد أن يكتب إلى صفته بدليل قوله كمسجد الجامع فطغى عليه القلم وأنكر ابن عبد البر رواية الإضافة ورده ابن السيد بأنها صحت نقلاً وساعدتها اللغة فلا معنى للإنكار ( لا تحقرن إحداكن) أن تهدي ( لجارتها) شيئًا ( ولو) كان ( كراع شاة) بضم الكاف ما دون العقب من المواشي والدواب والإنس كما في العين وخص النهي بالنساء لأنهن مواد المودة والبغضاء ولأنهن أسرع انتقالاً في كل منهما ( محرقًا) نعت لكراع وهو مؤنث فكان حقه محرقة إلا أن الرواية وردت هكذا في الموطآت وغيرها وحكى ابن الأعرابي أن بعض العرب يذكره فلعل الرواية على تلك اللغة ثم يحتمل أنه نهي للمهدية وأن يكون للمهدى إليها والأول أظهر قاله الباجي وقال غيره المراد به المبالغة في إهداء الشيء القليل وقبوله لا إلى حقيقته لأن العادة لم تجر بإهداء الكراع أي لا يمنع جارة من إهدائها لجارتها الموجود عندها استقلاله بل ينبغي أن تجود لها بما تيسر وإن قل فهو خير من العدم وإذا تواصل القليل صار كثيرًا وروى الطبراني عن عائشة مرفوعًا يا نساء المؤمنين تهادوا ولو فرسن شاة فإنه ينبت المودة ويذهب الضغائن والحديث في الصحيحين من طريق سعيد المقبري عن أبي هريرة بلفظ ولو فرسن شاة بكسر الفاء والسين المهملة بينهما راء ساكنة وهو كالقدم للإنسان وبلفظ المسلمات بدل المؤمنات والمعنى واحد بل في بعض نسخ البخاري يا نساء المؤمنات ( مالك عن عبد الله بن أبي بكر) بن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري ( أنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم) مرسلاً وهو موصول في الصحيحين وغيرهما عن أبي هريرة وابن عمر وجابر وأبي داود عن ابن عباس وفي حديث جابر أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول عام الفتح وهو بمكة إن الله ورسوله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام فقيل يا رسول الله أرأيت شحوم الميتة فإنها تطلى بها السفن ويدهن بها الجلود ويستصبح بها الناس فقال هو حرام ثم قال عند ذلك وفي حديث ابن عباس كان صلى الله عليه وسلم قاعدًا خلف المقام فرفع رأسه إلى السماء ساعة ثم ضحك ثم قال ( قاتل الله اليهود) أي لعنهم وقال النووي قتلهم والمفاعلة ليست على بابها وقال غيره عاداهم وقال الداودي من صار عدوًا لله وجب قتله وقال البيضاوي قاتل أي عادى أو قتل وأخرج في صورة المغالبة أو عبر عنه بما هو مسبب عنه فإنهم بما اخترعوا من الحيلة انتصبوا لمحاربة الله ومقاتلته ومن حاربه حارب ومن قاتله قتل ( نهوا عن أكل الشحم) كما قال تعالى { { ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما } } ( فباعوه فأكلوا ثمنه) وفي رواية الصحيحين جملوه ثم باعوه فأكلوا ثمنه بالجيم أي أذابوه قائلين إن الله حرم الشحم وهذا ودك زاد في رواية لأبي داود وإن الله إذا حرم على قوم أكل شيء حرم عليهم ثمنه قال عياض كثر اعتراض ملاعين اليهود والزنادقة على هذا الحديث بأن موطوءة الأب بالملك لولده بيعها دون وطئها وهو ساقط لأن موطوءة الأب لم يحرم على الابن منها إلا وطؤها فجميع منافعها غيره حلال له وشحم الميتة المقصود منه الأكل وهو حرام من كل وجه وحرمته عامة على كل اليهود فافترقا وقال العز بن عبد السلام في أماليه المتبادر إلى الأفهام من تحريم الشحوم إنما هو تحريم أكلها لأنها من المطعومات فيحرم بيعها مشكل لأنه غير متعلق التحريم والجواب أنه صلى الله عليه وسلم لما لعن اليهود لكونهم فعلوا غير الأكل دل ذلك على أن المحرم عموم منافعها لا خصوص أكلها ( مالك أنه بلغه أن عيسى ابن مريم صلى الله عليه وسلم كان يقول يا بني إسرائيل) أولاد يعقوب بن إسحاق ( عليكم بالماء القراح) أي الخالص الذي لا يمازجه شيء ( والبقل) كل نبات أخضرت به الأرض ( البري) نسبة إلى البرية وهي الصحراء ( وخبز الشعير) بفتح الشين وقد تكسر ( وإياكم وخبز البر) القمح أي احذروا أكله ( فإنكم لن تقوموا بشكره) تعليل للتحذير منه ( مالك أنه بلغه) أخرجه مسلم وأصحاب السنن الأربعة عن أبي هريرة والبزار وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم عن عمر بن الخطاب وابن حبان عن ابن عباس وابن مردويه عن ابن عمر والطبراني عن ابن مسعود وفي سياقهم اختلاف بالزيادة والنقص ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل المسجد) النبوي وفي مسلم عن أبي هريرة قال خرج صلى الله عليه وسلم ذات يوم أو ليلة هكذا بالشك وفي الترمذي في ساعة لا يخرج فيها ولا يلقاه فيها أحد ( فوجد فيه أبا بكر الصديق وعمر بن الخطاب فسألهما) في مسلم فقال ما أخرجكما من بيوتكما هذه الساعة ( فقالا أخرجنا الجوع) وفي رواية الترمذي فأتاه أبو بكر فقال ما جاء بك يا أبا بكر قال خرجت ألقى رسول الله وأنظر في وجهه والتسليم عليه فلم يلبث أن جاء عمر فقال ما جاء بك يا عمر قال الجوع يا رسول الله ( فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم) زاد مسلم والذي نفسي بيده ( وأنا أخرجني الجوع) قاله تسلية وإيناسًا لهما لما علم من شدة جوعهما وفي رواية الترمذي قال صلى الله عليه وسلم وأنا قد وجدت بعض ذلك والأصح أن هذه القصة كانت بعد فتح الفتوح لأن إسلام أبي هريرة كان بعد فتح خيبر فروايته تدل على أنه بعد فتحها ولا ينافي صنيعهم لأنهم كانوا يبذلون ما يسألون فربما يحتاجون قاله النووي وتعقب بأن أبا هريرة لعله روى الحديث عن غيره لأنه تردد في كونه ذات يوم أو ليلة فلو كانت روايته عن مشاهدة ما تردد وأجيب بمنع أن الشك منه لجواز أنه من أحد رجال الإسناد ( فذهبوا إلى أبي الهيثم) بفتح الهاء والمثلثة بينهما تحتية ساكنة ثم ميم مشهور بكنيته واسمه مالك ( ابن التيهان) بفتح الفوقية وكسر التحتية مشددة يقال إنه لقب واسمه أيضًا مالك بن عتيك بن عمرو بن عبد الأعلم بن عامر بن زعوراء ( الأنصاري) الأوسي وزعوراء أخو عبد الأشهل شهد العقبة وبدرًا والمشاهد كلها مات سنة عشرين أو إحدى وعشرين أو قتل مع علي بصفين سنة سبع وثلاثين قال الواقدي لم أر من يعرف ذلك ولا يثبته وقيل مات في العهد النبوي قال أبو عمر لم يتابع عليه قائله وفي رواية الترمذي فانطلقوا إلى منزل أبي الهيثم بن التيهان الأنصاري وكان رجلاً كثير النخل والشياه ولم يكن له خدم وكذا عند البزار وأبي يعلى والطبراني عن ابن عباس وللطبراني أيضًا عن ابن عمر أنه أبو الهيثم وللطبراني أيضًا وابن حبان عن ابن عباس أنه أبو أيوب والظاهر أن القصة اتفقت مرة مع أبي الهيثم كما صرح به في أكثر الروايات ومرة مع أبي أيوب قاله المنذري ووقع في مسلم بالإبهام قال فأتى بهما رجلاً من الأنصار وذهابهم إليه لا ينافي كمال شرفهم فقد استطعم قبلهم موسى والخضر لإرادة الله سبحانه بتسلية الخلق بهم وأن يستن بهم السنن ففعلوا ذلك تشريعًا للأمة وهل خرج صلى الله عليه وسلم قاصدًا من أول خروجه إنسانًا معينًا أو جاء التعيين بالاتفاق احتمالان قال بعضهم الأصح أن أول خاطر حركه للخروج لم يكن إلى جهة معينة لأن الكمل لا يعتمدون إلا على الله زاد في مسلم فإذا هو ليس في بيته فلما رأته المرأة قالت مرحبًا وأهلاً فقال لها صلى الله عليه وسلم أين فلان وفي الترمذي فقالوا أين صاحبك قالت ذهب يستعذب لنا الماء فلم يلبثوا أن جاء أبو الهيثم بقربة فوضعها ثم جاء يلتزم النبي صلى الله عليه وسلم ويفديه بأبيه وأمه وفي مسلم فنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبيه فقال الحمد لله ما أجد اليوم أكرم أضيافًا مني ( فأمر لهم بشعير عنده يعمل) خبزًا ( وقام يذبح لهم شاة) وفي مسلم وأخذ المدية ( فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم نكب) بفتح النون وكسر الكاف الثقيلة وموحدة أي أعرض ( عن ذات الدر) أي اللبن وفي مسلم فقال له إياك والحلوب نهاه عن ذبحها شفقة على أهله بانتفاعهم بلبنها مع حصول المقصود بغيرها فهو نهي إرشاد لا كراهة في مخالفته لزيادة إكرام الضيف لكنه امتثل الأمر ( فذبح لهم شاة) عناقًا أو جديًا كما في الترمذي بالشك والعناق بالفتح أنثى المعز لها أربعة أشهر وقيل ما لم يتم سنة والجدي بفتح الجيم ذكر المعز لم يبلغ سنة وفي الترمذي ثم انطلق بهم إلى حديقة فبسط لهم بساطًا ثم انطلق إلى نخلة فجاء بقنو فيه بسر وتمر ورطب فوضعه بين أيديهم وقال كلوا فقال صلى الله عليه وسلم أفلا تنقيت لنا من رطبه فقال يا رسول الله إني أردت أن تختاروا وفي رواية أحببت أن تأكلوا من تمره وبسره ورطبه قال القرطبي إنما فعل ذلك لأنه الذي تيسر فورًا بلا كلفة لا سيما مع تحققه حاجتهم ولأن فيه ألوانًا ثلاثة ولأن الابتداء بما يتفكه به من الحلاوة أولى لأنه مقو للمعدة لأنه أسرع هضمًا ( واستعذب لهم ماء) أي جاء لهم بماء عذب وكان أكثر مياه المدينة مالحة وفيه حل استعذاب الماء وأنه لا ينافي الزهد ( فعلق في نخلة) ليصيبه برد الهواء فيصير عذبًا باردًا ( ثم أتوا بذلك الطعام) خبز الشعير والشاة روي أنه شوى نصفه وطبخ نصفه ثم أتاهم به فلما وضعه بين يديه صلى الله عليه وسلم أخذ من الجدي فوضعه في رغيف وقال للأنصاري أبلغ بهذا فاطمة لم تصب مثله منذ أيام فذهب به إليها ( فأكلوا منه وشربوا من ذلك الماء) العذب البارد ( فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لتسألن عن نعيم هذا اليوم) قيل سؤال امتنان لا سؤال حساب وقيل سؤال حساب دون مناقشة حكاهما الباجي وقال ابن القيم هذا سؤال تشريف وإنعام وتعديد فضل لا سؤال تقريع وتوبيخ ومحاسبة والمراد أن كل أحد يسأل عن نعيمه الذي كان فيه هل ناله من حله أم لا فإذا خلص من ذلك سئل هل قام بواجب الشكر فاستعان به على الطاعة أم لا فالأول سؤال عن سبب استخراجه والثاني عن محل صرفه وفي مسلم فلما أن شبعوا ورووا قال صلى الله عليه وسلم لأبي بكر وعمر والذي نفسي بيده لتسألن عن هذا النعيم يوم القيامة أخرجكم من بيوتكم الجوع ثم لم ترجعوا حتى أصابكم هذا النعيم وفي الترمذي فقال هذا والذي نفسي بيده من النعيم الذي تسألون عنه يوم القيامة ظل بارد ورطب طيب وماء بارد وإنما ذكر صلى الله عليه وسلم هذا في هذا المقام إرشادًا للآكلين والشاربين إلى حفظ أنفسهم في الشبع عن الغفلة والاشتغال بالحديقة والتنعم عن الآخرة أو هو تسلية للحاضرين المفتقرين عن فقرهم بأنهم وإن حرموا عن التنزه فقد اتقوا السؤال عنه يوم القيامة وفي رواية فكبر ذلك على أصحابه فقال إذا أصبتم مثل هذا فصار بأيديكم فقولوا بسم الله فإذا شبعتم فقولوا الحمد لله الذي هو أشبعنا وأنعم علينا وأفضل فإن هذا كفاء هذا فأخذ عمر العذق فضرب بها الأرض حتى تناثر البسر ثم قال يا رسول الله إنا لمسؤولون عن هذا يوم القيامة قال نعم إلا من ثلاثة كسرة يسد بها الرجل جوعه أو ثوب يستر به عورته أو حجر يدخل فيه من القر والحر ( مالك عن يحيى بن سعيد) الأنصاري ( أن عمر بن الخطاب كان يأكل خبزًا بسمن فدعا رجلاً من أهل البادية) لم يسم ( فجعل يأكل ويتبع) بشد الفوقية ( باللقمة وضر) بفتح الواو والضاد المعجمة وسخ ( الصحفة) ما يعلق به من أثر السمن ( فقال عمر كأنك مقفر) بضم الميم وإسكان القاف وكسر الفاء أي لا أدم عندك ( فقال والله ما أكلت سمنًا ولا رأيت أكلاً به مند كذا وكذا) مدة عينها ( فقال عمر لا آكل السمن حتى يحيا الناس) أي يصيبهم الخصب والمطر ( من أول ما يحيون) حتى لا أمتاز عليهم ( مالك عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة) الأنصاري ( عن) عمه ( أنس بن مالك قال رأيت عمر بن الخطاب وهو يومئذ أمير المؤمنين يطرح) يلقى ( له صاع من تمر فيأكله حتى يأكل حشفها) يابسها الرديء ( مالك عن عبد الله بن دينار عن) مولاه ( عبد الله بن عمر أنه قال سئل عمر بن الخطاب عن الجراد فقال وددت أن عندنا منه قفعة) بفتح القاف وإسكان الفاء ثم عين مهملة قال ابن الأثير شيء شبيه بالزنبيل من الخوص ليس له عرى وليس بالكبير وقيل شيء كالقفة تتخذ واسعة الأسفل ضيقة الأعلى ( نأكل منه) لإذهابه الجوع بدون ترفه ( مالك عن محمد بن عمرو بن حلحلة) بحاءين مهملتين بينهما لام ساكنة المدني ( عن حميد بن مالك بن خثيم) بمعجمة ومثلثة مصغر ويقال مالك جده واسم أبيه عبد الله تابعي ثقة ( قال كنت جالسًا مع أبي هريرة بأرضه بالعقيق) محل بقرب المدينة ( فأتاه قوم من أهل المدينة على دواب فنزلوا عنده قال حميد فقال أبو هريرة اذهب إلى أمي) اسمها أميمة بميمين مصغر بنت صبيح أو صفيح بموحدة أو فاء مصغر صحابية روى مسلم عن أبي هريرة كنت أدعو أمي إلى الإسلام فدعوتها يومًا فأسمعتني في رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أكره فأتيته وأنا أبكي فأخبرته وقلت ادع الله أن يهديها فقال اللهم اهد أم أبي هريرة فخرجت مستبشرًا بدعوته فلما جئت إلى الباب فإذا هو مجاف فسمعت أمي حس قدمي فقالت مكانك يا أبا هريرة وسمعت خضخضة الماء ولبست درعها وأعجلت عن خمارها ففتحت الباب وقالت أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله فرجعت إليه صلى الله عليه وسلم فأخبرته فحمد الله وقال خيرًا ( فقل إن ابنك يقرئك السلام ويقول لك أطعمينا شيئًا) يعني أي شيء تيسر ( قال فوضعت ثلاثة أقراص) من خبز ( في صحفة وشيئًا من زيت وملح ثم وضعتها على رأسي وحملتها) حتى جئت بها ( إليهم فلما وضعتها بين أيديهم كبر أبو هريرة) أي قال الله أكبر ( وقال الحمد الله الذي أشبعنا من الخبز بعد أن لم يكن طعامنا إلا الأسودين الماء والتمر) فيه تغليب لأن الماء لا لون له ( فلم يصب القوم من الطعام شيئًا) لشبع أو غيره ( فلما انصرفوا قال يا ابن أخي) في الإسلام ( أحسن إلى غنمك وامسح الرعام) بضم الراء وإهمال العين على الأشهر رواية مخاط رقيق يجري من أنوف الغنم وبفتح الراء وغين معجمة أي امسح التراب عنها قال في النهاية رواه بعضهم بغين معجمة وقال إنه ما يسيل من الأنف والمشهور فيه والمروي بعين مهملة ويجوز أن يكون أراد مسح التراب عنها رعيًا لها وإصلاحًا لشأنها انتهى أي على رواية الأعجام لا ما فسره ذلك البعض فإنما يصح على الإهمال ( وأطب) نظف ( مراحها) بضم الميم مكانها الذي تأوي فيه والأمر للإرشاد والإصلاح ( وصل في ناحيتها فإنها من دواب الجنة) أي نزلت منها أو تدخلها بعد الحشر أو من نوع ما في الجنة بمعنى أن فيها أشباهها وشبه الشيء يكرم لأجله وهذا موقوف صحيح له حكم الرفع فإنه لا يقال إلا بتوقيف وقد أخرج البزار عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أكرموا المعزى وامسحوا برغامها فإنها من دواب الجنة وإسناده ضعيف لكنه يقويه هذا الموقوف الصحيح وأخرج ابن عدي والبيهقي عن أبي هريرة مرفوعًا صلوا في مراح الغنم وامسحوا برغامها فإنها من دواب الجنة قال البيهقي روي مرفوعًا وموقوفًا وهو أصح ( والذي نفسي بيده ليوشك أن يأتي على الناس زمان تكون الثلة) بضم المثلثة وشد اللام الطائفة القليلة المائة ونحوها ( من الغنم أحب إلى صاحبها من دار مروان) بن الحكم أمير المدينة يومئذ وهذا أيضًا لا يقال إلا بتوقيف لأنه إخبار عن غيب يأتي ( مالك عن أبي نعيم وهب بن كيسان) التابعي ( أنه قال) مرسلاً عند الأكثر ورواه خالد بن مخلد ويحيى بن صالح الوحاظي فقالا عن مالك عن وهب عن عمر بن أبي سلمة موصولاً أخرجهما الدارقطني والأول النسائي وكذا رواه محمد بن عمرو بن حلحلة عن وهب عن عمر عند البخاري قال الحافظ والمشهور عن مالك إرساله كعادته وقد أخرجه البخاري عن عبد الله بن يوسف والنسائي عن قتيبة كلاهما عن مالك عن وهب مرسلاً كما في الموطأ ومقتضاه أن مالكًا لم يصرح بوصله ولعله وصله مرة فحفظ ذلك عنه خالد ويحيى وهما ثقتان وبه يتبين صحة سماع وهب من عمر وقد صرح في رواية الشيخين وغيرهما عن الوليد بن كثير أنه سمع وهب بن كيسان أنه سمع عمر بن أبي سلمة يقول ( أتي) بضم الهمزة مبني للمفعول ( رسول الله صلى الله عليه وسلم بطعام ومعه ربيبه) ابن زوجته أم سلمة ( عمر) بضم العين ( ابن أبي سلمة) الصحابي ابن الصحابي وفي رواية محمد بن عمرو بن حلحلة أكلت يومًا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم طعامًا فجعلت آكل من نواحي الصحفة وفي رواية الوليد بن كثير كنت غلامًا في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت يدي تطيش في الصحفة ( فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم) يا غلام ( سم الله) طردًا للشيطان ومنعًا له من الأكل فتسن التسمية قال النووي أقلها بسم الله وأفضله بسم الله الرحمن الرحيم قال الحافظ لم أر لما ادعاه من الأفضلية دليلاً خاصًا وأما قول الغزالي يستحب أن يقول مع اللقمة الأولى بسم الله والثانية بسم الله الرحمن والثالثة البسملة بتمامها فإن سمى مع كل لقمة فهو أحسن حتى لا يشغله الأكل عن ذكر الله ويزيد بعد التسمية اللهم بارك لنا فيما رزقتنا وأنت خير الرازقين وقنا عذاب النار فقال الحافظ أيضًا لم أر لاستحباب ذلك دليلاً ولا أصل لذلك كله وقال غيره ظاهر الأحاديث خلافه ومن أصرحها حديث أحمد كان صلى الله عليه وسلم إذا قرب إليه طعام قال بسم الله ( وكل مما يليك) استحبابًا لا وجوبًا عند الجمهور فيكره الأكل مما لا يلي لأن الأكل من موضع يد صاحبه سوء عشرة وترك مودة لنفور النفس لا سيما في الأمراق ولما فيه من إظهار الحرص والنهم وسوء الأدب وأشباهها فإن كان غير لون أو تمر جاز فقد روى ابن ماجه وغيره عن عائشة كان صلى الله عليه وسلم إذا أتي بطعام أكل مما يليه وإذا أتي بالتمر جالت يده فيه وروى الترمذي وابن ماجه عن عكراش بن ذؤيب قال أخذ بيدي صلى الله عليه وسلم إلى بيت أم سلمة فقال هل من طعام فأتينا بجفنة كثيرة الثريد والودك فأكلنا منها فخبطت بيدي في نواحيها وأكل صلى الله عليه وسلم من بين يديه فقبض بيده اليسرى على يدي اليمنى ثم قال يا عكراش كل من موضع واحد فإنه طعام واحد ثم أتينا بطبق فيه ألوان التمر أو الرطب فجعلت آكل من بين يدي وجالت يده صلى الله عليه وسلم في الطبق فقال يا عكراش كل من حيث شئت فإنه غير لون واحد وفي إسناده ضعف لكن له شواهد تقويه زاد في رواية الوليد بن كثير وكل بيمينك فما زالت تلك طعمتي بعد بكسر الطاء أي لزمت ذلك وصار لي عادة قال الكرماني وفي بعض الروايات بالضم يقال طعم إذا أكل والطعمة الأكل والمراد جميع ما مر من الابتداء بالتسمية والأكل باليمين والأكل مما يليه وبعد بالبناء على الضم أي استمر ذلك صنيعي في الأكل ( مالك عن يحيى بن سعد) الأنصاري ( أنه قال سمعت القاسم بن محمد) بن الصديق ( يقول جاء رجل إلى عبد الله بن عباس فقال له إن لي يتيمًا) أقوم عليه ( وله إبل أفأشرب من لبن إبله فقال ابن عباس إن كنت تبغي) تطلب ( ضالة إبله) أي ما ضل منها ( وتهنأ) بالهمز تطلي ( جرباها بالهناء) بزنة كتاب القطران ( وتلط) بفتح الفوقية وضم اللام وشد الطاء المهملة ( حوضها) أي تمدده وتطينه وتصلحه وأصل اللوط اللصوق قاله الهروي ( وتسقيها يوم وردها) أي شربها ( فاشرب غير مضر بنسل) أي بولدها الرضيع ( ولا ناهك) أي مستأصل ( في الحلب) اللبن حتى يضر بها قال الباجي الحلب بفتح اللام اللبن وبتسكينها الفعل وقال الهروي أي ولا مبالغ فيه حتى يضر ذلك بها وقد نهكت الناقة حلبًا إذا تقصيتها ولم تبق في ضرعها لبنًا ( مالك عن هشام بن عروة عن أبيه أنه كان لا يؤتى بطعام أو شراب) ماء أو لبن أو غيرهما ( حتى الدواء فيطعمه أو يشربه) بنصب الفعلين ( إلا قال الحمد لله) لأن الحمد على النعم يرتبط به العبيد ويستجلب به المزيد فلحظ وقت حضور الغداء إلى أجل النعم فقال ( الذي هدانا) إذ الهداية للإيمان أعظم نعم الله تعالى على العبد فشكره عليها مقدم على غيرها فأشار إلى أن الأولى بالحامد أن لا يجرد حمده إلى دقائق النعم بل ينظر إلى جلائلها فيحمد عليها لأنها أحق بذلك ولأن الحمد من نتائج الهداية للإسلام ( وأطعمنا وسقانا) قدم الطعام لزيادة الاهتمام به حتى كأن السقي من تتمته وتابع له لأن الأكل يستدعي الشرب ( ونعمنا) بأنواع النعم التي لا تحصى ( الله أكبر) سرورًا بهذه النعم ( اللهم ألفتنا) وجدتنا ( نعمتك بكل شر) من التقصير في عبادتك وشكرك ( فأصبحنا منها وأمسينا بكل خير) من فضلك ولم تعاملنا بتقصيرنا ( نسألك تمامها) لعله استعمله بمعنى إدامتها أي النعم ( وشكرها) فإنا لا نبلغه إلا بفضلك إذ هو نعمة تستدعي شكرًا إلى غير نهاية ( لا خير إلا خيرك) فإنه بيدك دون غيرك ( ولا إله غيرك) يرجى لكشف الضر وإجابة الدعاء والإعانة على الشكر ( إله) بالنصب على النداء بحذف الأداة ( الصالحين) المسلمين ( ورب العالمين) أي مالك جميع الخلق من الإنس والملائكة والجن والدواب وغيرهم وكل منها يطلق عليه عالم يقال عالم الإنس وعالم الجن إلى غير ذلك وغلب في جمعه بالياء والنون أولى العلم على غيرهم وهو من العلامة لأنه علامة على موجده ( الحمد لله) جملة قصد بها الثناء على الله بمضمونها من أنه تعالى مالك لجميع الحمد من الخلق ومستحق لأن يحمد ( ولا إله إلا الله ما شاء الله ولا قوة إلا بالله) أتى به إشارة إلى استحباب هذا الذكر عند رؤية ما يعجب لقوله تعالى { { ولولا إذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله لا قوة إلا بالله } } قال ابن العربي واستدل به مالك على استحبابه لكل من دخل منزله انتهى وأخرج ابن أبي حاتم عن مطرف قال كان مالك إذا دخل بيته قال ما شاء الله قلت له لم تقول هذا قال ألا تسمع الله يقول وتلا الآية وجاء مرفوعًا من رأى شيئًا فأعجبه فقال ما شاء الله لا قوة إلا بالله لم يضره ( اللهم بارك) أتم وزد ( لنا فيما رزقتنا وقنا عذاب النار) بعدم دخولها ( سئل مالك هل تأكل المرأة مع غير ذي محرم منها أو مع غلامها فقال ليس بذلك بأس) أي يجوز ( إذا كان ذلك على وجه ما يعرف للمرأة أن تأكل معه من الرجال) بأن كان ثم محرم كما ( قال وقد تأكل المرأة مع زوجها ومع غيره ممن تؤاكله أو مع أخيه على مثل ذلك ويكره) تحريمًا ( للمرأة أن تخلو مع الرجل ليس بينه وبينها حرمة) أي قرابة نسب أو صهر أو رضاع.



رقم الحديث 1834 وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٌ أَنَّهُ بَلَغَهُ عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ مِسْكِينًا سَأَلَهَا، وَهِيَ صَائِمَةٌ، وَلَيْسَ فِي بَيْتِهَا إِلَّا رَغِيفٌ، فَقَالَتْ لِمَوْلَاةٍ لَهَا: أَعْطِيهِ إِيَّاهُ، فَقَالَتْ: لَيْسَ لَكِ مَا تُفْطِرِينَ عَلَيْهِ، فَقَالَتْ: أَعْطِيهِ إِيَّاهُ، قَالَتْ: فَفَعَلْتُ، قَالَتْ: فَلَمَّا أَمْسَيْنَا أَهْدَى لَنَا أَهْلُ بَيْتٍ أَوْ إِنْسَانٌ مَا كَانَ يُهْدِي لَنَا شَاةً وَكَفَنَهَا، فَدَعَتْنِي عَائِشَةُ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ فَقَالَتْ: كُلِي مِنْ هَذَا، هَذَا خَيْرٌ مِنْ قُرْصِكِ.


(الترغيب في الصدقة)

(مالك عن يحيى بن سعيد) الأنصاري (عن أبي الحباب) بضم الحاء المهملة وموحدتين مخففًا (سعد بن يسار) بتحتية ومهملة خفيفة مرسلاً عند يحيى وأكثر الرواة وأسنده معن وابن بكير عن مالك عن يحيى عن أبي الحباب (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من تصدق بصدقة من كسب طيب) أي مكسوب والمراد ما هو أعم من تعاطي التكسب أو حصول المكسوب بغير تعاط كالميراث وكأنه ذكر الكسب لأنه الغالب في تحصيل المال والمراد بالطيب الحلال لأنه صفة كسب قال القرطبي أصل الطيب المستلذ بالطبع ثم أطلق على المطلوب بالشرع وهو الحلال قال ابن عبد البر المحض أو المتشابه به لأنه في حيز الحلال على أشبه الأقوال للأدلة (ولا يقبل الله إلا طيبًا) جملة معترضة بين الشرط والجزاء التقدير ما قبله وفي رواية للبخاري ولا يصعد إلى الله إلا الطيب أي الحلال أو المتشابه لا الحرام قال القرطبي لأنه غير مملوك للمتصدق وهو ممنوع من التصرف فيه وهو قد تصرف فيه فلو قبله لزم أن يكون الشيء مأمورًا منهيًا من وجه واحد وهو محال وقال الأبي القبول حصول الثواب على الفعل إذ المعنى لا يثيب الله من تصدق بحرام وإنما يصح الحج بالمال الحرام لأن القبول أخص من الصحة لأنها عبارة عن كون الفعل مسقطًا للفرض ولا يلزم من نفي الأخص نفي الأعم فالحج بالحرام صحيح إذ يسقط به الفرض وهو غير متقبل أي لا ثواب فيه ولا يتعقب هذا بأنه لا واجب إلا وفيه ثواب لأن رد الشيء المغصوب واجب ولا ثواب فيه ولا يشكل صحة الحج بالحرام بقول مالك في النكاح بالمال الحرام أخاف أن يضارع الزنا لأن ذلك مبالغة في التنفير عنه وإلا فالنكاح صحيح (فإنه إنما يضعها في كف الرحمن) ولمسلم عن سعيد المقبري عن سعيد بن يسار عن أبي هريرة أخذها الرحمن بيمينه وإن كانت ثميرة فتربو في كف الرحمن قال المازري هذا الحديث وشبهه إنما عبر به على ما اعتادوه في خطابهم ليفهموا عنه فكنى عن قبول الصدقة باليمين وبالكف وعن تضعيف أجرها بالتربية وقال عياض لما كان الشيء الذي يرتضي يتلقى باليمين ويؤخذ بها استعمل في مثل هذا واستعير للقبول كقول الشاعر

إذا ما راية رفعت لمجد
تلقاها عرابة باليمين

لما استعار للمجد الراية استعار للمبادرة إلى فعلها التلقي باليمين وليس المراد الجارحة وقيل اليمين كناية عن الرضا والقبول إذ الشمال تستعمل في ضد ذلك وقد فرق الله بين أصحاب اليمين وأصحاب الشمال وقيل المراد بكف الرحمن ويمينه كف المتصدق عليه ويمينه وإضافتها إلى الله إضافة ملك واختصاص لوضع هذه الصدقة في كف الآخذ ويمينه لوجه الله وقيل المراد سرعة القبول وقيل حسنه ولعله يصح أن المراد بالكف كفة الميزان وكف كل شيء كفه وكفته وقال الزين بن المنير الكناية عن الرضا والقبول بالتلقي باليمين والكف لتثبيت المعاني المعقولة في الأذهان وتحقيقها في النفوس تحقيق المحسوسات أي لا يتشكك في القبول كما لا يتشكك من عاين التلقي للشيء بيمينه لا إن التناول كالتناول المعهود ولا أن التناول بجارحة وقال الترمذي في جامعه قال أهل العلم من أهل السنة والجماعة نؤمن بهذا الأحاديث ولا نتوهم فيها تشبيهًا ولا نقول كيف هي هكذا روي عن مالك وابن عيينة وابن المبارك وغيرهم وأنكرت الجهمية هذه الروايات انتهى وقد رد عليهم بما هو معلوم (يربيها) أي ينميها لصاحبها بمضاعفة الأجر أو الزيادة في الكمية قاله عياض وقد يصح أن التربية على وجهها وأن ذاتها تعظم يبارك الله فيها ويزيدها من فضله لتعظم في الميزان وتثقله (كما يربي أحدكم فلوه) بفتح الفاء وضم اللام وشد الواو مهره لأنه يفلي أي يفطم وقيل هو كل فطيم من حافر والجمع أفلاء كعدو وأعداء وحكى كسر الفاء وسكون اللام وأنكره ابن دريد وقال أبو زيد إذا فتحت الفاء شددت الواو وإذا كسرتها سكنت اللام وضرب به المثل لأنه يزيد زيادة بينة ولأن الصدقة نتاج العمل وأحوج ما يكون النتاج إلى التربية إذا كان فطيمًا فإذا أحسن العناية به انتهى إلى حد الكمال وكذلك عمل ابن آدم لا سيما الصدقة فإن العبد إذا تصدق بكسب طيب لا يزال ينظر الله إليها يكسبها نعت الكمال حتى تنتهي بالتضعيف إلى نصاب تقع المناسبة بينه وبين ما تقدم نسبة ما بين التمرة إلى الجبل (أو فصيله) وهو ولد الناقة لأنه فصل عن رضاع أمه وفي رواية لمسلم أو قلوصه وهي الناقة المسنة وعند البزار مهره أو وصيفه أو فصيله ولابن خزيمة من طريق سعيد بن يسار عن أبي هريرة فلوه أو قال فصيله وهذا يشعر بأن أو للشك من الراوي (حتى تكون مثل الجبل) لتثقل في ميزانه وفي مسلم عن المقبري عن سعيد بن يسار حتى تكون أعظم من الجبل وله عن سهيل عن أبيه حتى تكون مثل الجبل أو أعظم ولابن جرير من وجه آخر حتى يوافي بها يوم القيامة وهي أعظم من أحد قال أبو هريرة وتصديق ذلك في كتاب الله { { يمحق الله الربا ويربي الصدقات } } وللترمذي حتى أن اللقمة لتصير مثل جبل أحد قال الحافظ فالظاهر أن عينها تعظم لتثقل في الميزان ويحتمل أنه عبارة عن ثوابها وفي التمهيد قيل لبعض العلماء إن الله قال يمحق الله الربا وإنا نرى أصحاب الربا تنمى أموالهم فقال إنما يمحق الله الربا حيث يربي الصدقات ويضعفها يوم القيامة فإذا نظر العبد إلى أعماله نظرها ممحوقة أو مضاعفة وهذا الحديث مجمع على صحته انتهى وهو في الصحيحين وغيرهما من طريق عبيدة (مالك عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة أنه سمع أنس بن مالك يقول كان أبو طلحة) زيد بن سهل الخزرجي (أكثر أنصاري) أي أكثر كل واحد من الأنصار ولذا لم يقل أكثر الأنصار فهو من التفضيل على التفضيل قاله الكرماني (بالمدينة مالاً) تمييز أي من حيث المال (من نخل) بيان لمال (وكان أحب أمواله) هي حوائط قال ابن عبد البر كانت دار أبي جعفر والدار التي تليها حوائط لأبي طلحة وكان قصر بني حديلة حائطًا له يقال لها بئر حاء قال الحافظ ومراده بدار أبي جعفر التي صارت إليه بعد ذلك وعرفت به وهو أبو جعفر المنصور الخليفة العباسي وقصر بني حديلة بحاء مهملة مصغر ووهم من قال بجيم بطن من الأنصار فنسب إليه بسبب المجاورة وإلا فالذي بناه معاوية لما اشترى حصة حسان بمائة ألف درهم ليكون له حصنًا وجعل له بابين أحدهما شارع على خط بني حديلة والآخر في الزاوية الشرقية والذي بناه لمعاوية الطفيل بن أبي بن كعب كما ذكره ابن شبة وغيره (بئر حاء) قال الباجي قرأناه على أبي ذر بفتح الراء في موضع الرفع والنصب والخفض والجمع واللفظان اسم لموضع وليست مضافة إلى موضع وقال الحافظ أبو عبد الله الصوري إنما هي بفتح الباء والراء واتفق هو وأبو ذر وغيرهما من الحفاظ على أن من رفع الراء حال الرفع فقد غلط وعلى ذلك كنا نقرؤه على شيوخ بلدنا وعلى الأول أدركت أهل العلم بالمشرق وهذا الموضع يعرف بقصر بني حديلة قبلي مسجد المدينة وفي فتح الباري بيرحاء بفتح الموحدة وسكون التحتية وبفتح الراء وبالمهملة والمد وجاء في ضبطها أوجه جمعها في النهاية فقال يروى بفتح الباء وكسرها وبفتح الراء وضمها وبالمد والقصر فهذه ثمانية وفي رواية حماد بن سلمة يعني في مسلم بريحا بفتح وكسر الراء مقدمة على التحتية وفي أبي داود بأريحاء مثله لكن بزيادة ألف وقال الباجي أفصحها بفتح الباء وسكون الياء وفتح الراء مقصور وكذا جزم به الصغاني وقال إنه فعيلاً من البراح قال ومن ذكره بكسر الموحدة فظن أنها بئر من آبار المدينة فقد صحف انتهى وتعقب فيما نسبه للنهاية بأن الذي فيها إنما هو خمس فقط فنصبها بفتح الباء وكسرها وبفتح الراء وضمها والمد فيها وبفتحهما والقصر وقال عياض رويناه بفتح الباء والراء وبكسر الباء مع فتح الراء وضمها يسمى به وليس اسم بئر وجزم التيمي بأن المراد البستان قال لأن بساتين المدينة تدعى بآبارها أي البستان الذي فيه بيرحاء وجزم الصغاني بأنها اسم أرض لا بئر قال في اللامع ولا تنافي بين ذلك فإن الأرض أو البستان تسمى باسم البئر التي فيه وصوب الصغاني والزمخشري والمجد الشيرازي من هذا كله فتح الموحدة والراء وقال الباجي إنها المسموعة على أبي ذر وغيره قال في الفتح واختلف في حاء هل هي اسم رجل أو امرأة أو مكان أضيفت إليه البئر أو هي كلمة زجر للإبل فكأن الإبل كانت ترعى هناك وتزجر بهذه اللفظة فأضيفت البئر إلى اللفظة المذكورة (وكانت مستقبلة المسجد) النبوي أي مقابلته قريبة منه (وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخلها) زاد في رواية للبخاري ويستظل فيها (ويشرب من ماء فيها) أي في بيرحاء (طيب) بالجر صفة ماء وفيه إباحة استعذاب الماء وتفضيل بعضه على بعض وإباحة الشرب من دار الصديق ولو لم يكن حاضرًا إذا علم طيب نفسه واتخاذ الحوائط والبساتين ودخول أهل العلم والفضل فيها والاستظلال بظلها والراحة والتنزه فيها وقد يكون ذلك مستحبًا يثاب عليه إذا قصد به إجمام النفس من تعب العبادة وتنشيطها في الطاعة (قال أنس فلما أنزلت هذه الآية { { لن تنالوا البر } } أي لن تبلغوا حقيقة البر الذي هو كمال الخير أو لن تنالوا بر الله الذي هو الرحمة والرضا والجنة { { حتى تنفقوا مما تحبون } } أي بعض ما تحبون من المال أو ما يعمه وغيره كبذل الجاه في معاونة الناس والبدن في طاعة الله والمهجة في سبيل الله (قام أبو طلحة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم) زاد في رواية عند ابن عبد البر ورسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر (فقال يا رسول الله إن الله تعالى يقول { { لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون } } وإن أحب أموالي إلي) بشد الياء (بيرحاء) خبر إن (وإنها صدقة لله أرجو برها) أي خيرها (وذخرها) بضم الذال وإسكان الخاء المعجمتين أي أقدمها فأدخرها لأجدها (عند الله) تعالى ولمسلم عن ثابت عن أنس لما نزلت الآية قال أبو طلحة أرى ربنا يسألنا عن أموالنا فاستشهدك يا رسول الله أني جعلت أرضي بيرحاء لله (فضعها يا رسول الله حيث شئت) وللتنيسي والقعنبي حيث أراك الله فوض أبو طلحة تعيين مصرفها له صلى الله عليه وسلم لكن لا تصريح فيه بأنه جعلها وقفًا ولذا قيل لا ينهض الاستدلال بهذه القصة لشيء من مسائل الوقف (قال) أنس (فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فبخ) بفتح الموحدة وسكون المعجمة وقد تنون مع التثقيل والتخفيف بالكسر وبالرفع والسكون ويجوز التنوين لغات ولو كررت فالمختار تنوين الأولى وتسكين الثانية ومعناه تفخيم الأمر والإعجاب به قاله الحافظ (ذلك مال رابح ذلك مال رابح) مرتين قال الباجي رواه يحيى وجماعة بتحتية وجيم أي يروج ثوابه في الآخرة انتهى وهو مخالف لقول ابن عبد البر رواه يحيى وجماعة رابح من الربح أي رابح صاحبه ومعطيه ورواه ابن وهب وغيره بتحتية أي يروح على صاحبه بالأجر العظيم والأول أولى عندي انتهى ونحوه قول أبي العباس الداني في أطراف الموطأ رواه يحيى الأندلسي بالموحدة والحاء المهملة وتابعه جماعة ورواه يحيى النيسابوري بالتحتية والحاء المهملة وتابعه إسماعيل وابن وهب ورواه القعنبي بالشك انتهى ومعنى رابح بموحدة ذو ربح كلابن وتامر أي يربح صاحبه في الآخرة وقيل فاعل بمعنى مفعول أي مال مربوح فيه ومعناه بتحتية اسم فاعل من الرواح نقيض الغد وأنه قريب الفائدة يصل نفعه إلى صاحبه كل رواح لا يحتاج أن يتكلف فيه إلى مشقة وسير أو يروح بالأجر ويغدو به واكتفى بالرواح عن الغدو لعلم السامع أو من شأنه الرواح وهو الذهاب والفوات فإذا ذهب في الخير فهو أولى وادعى الإسماعيلي أن رواية التحتية تصحيف (وقد سمعت) أنا (ما قلت) أنت (فيه وإني أرى أن تجعلها في الأقربين) وفي رواية للبخاري قبلناه منك ورددناه عليك فاجعله في الأقربين (فقال أبو طلحة أفعل) بضم اللام مضارع (يا رسول الله فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه) عطف خاص على عام وفي البخاري من وجه آخر عن أنس فجعلها لحسان وأبي وأنا أقرب إليه ولم يجعل لي منها فباع حسان فقيل له أتبيع صدقة أبي طلحة فقال ألا أبيع صاعًا من تمر بصاع من دراهم وفي مرسل أبي بكر بن حزم فرده على أقاربه أبي بن كعب وحسان بن ثابت وأخيه أو ابن أخيه شداد بن أوس ونبيط بن جابر فتقاوموه فباع حسان حصته من معاوية بمائة ألف درهم أي بعد ذلك في خلافة معاوية قال ابن عبد البر روى إسماعيل القاضي عن القعنبي عن مالك بلفظ فقسمها صلى الله عليه وسلم في أقاربه وبني عمه أي أقارب أبي طلحة وإضافة القسم إلى المصطفى صلى الله عليه وسلم على أنه الآمر به وإن شاع في لسان العرب لكن أكثر الرواة لم يقولوا ذلك والصواب على ابن عبد العزيز عن القعنبي فقسمها أبو طلحة كرواية الجماعة وفيه التمسك بالعموم لأن أبا طلحة فهم من الآية تناول ذلك لجميع أفراده فلم يقف حتى يرد عليه البيان عن شيء بعينه بل بادر إلى إنفاق ما يحبه وأقره صلى الله عليه وسلم وفيه فضيلة لأبي طلحة لأن الآية تضمنت الحث على الإنفاق من المحبوب فترقى هو إلى إنفاق أحب المحبوب فصوبه صلى الله عليه وسلم وشكر فعله ثم أمره أن يخص بها أهله وكنى عن رضاه بذلك بقوله بخ وزيادة صدقة التطوع على نصاب الزكاة خلافًا لمن قيدها به وصدقة الصحيح بأكثر من ثلثه لأنه صلى الله عليه وسلم لم يستفصل أبا طلحة عن قدر ما تصدق به وقال لسعد بن أبي وقاص الثلث والثلث كثير وفيه جواز حب المال للرجل الفاضل العالم وأنه لا نقص عليه من ذلك وقد أخبر الله عن الإنسان بقوله { { وإنه لحب الخير لشديد } } والخير المال اتفاقًا وفيه غير ذلك وأخرجه البخاري في الزكاة عن عبد الله بن يوسف وفي الوكالة عن يحيى النيسابوري وفي الوقف وفي الأشربة عن القعنبي وفي التفسير عن إسماعيل بن أبي أويس ومسلم في الزكاة عن يحيى النيسابوري أربعتهم عن مالك به وتابعه عبد العزيز الماجشون عن إسحاق عند البخاري (مالك عن زيد بن أسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أعطوا السائل) الذي يسأل التصدق عليه (وإن جاء على فرس) يعني لا تردوه وإن جاء على حالة تدل على غناه كركوب فرس فإنه لولا حاجته للسؤال ما بذل وجهه بل هذا وشبهه من المستورين الذين يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف وقد حكي أن عمر بن عبد العزيز بعث مالاً يفرق بالرقة فقال له الذي بعث معه يا أمير المؤمنين تبعثني إلى قوم لا أعرفهم وفيهم غني وفقير فقال كل من مد يده إليك فأعطه وزعم أن المراد وإن جاء على فرس يطلب علفه وطعامه تعسف ركيك قال الحراني ولو في مثله تجيء منبهة على أن ما قبلها جاء على سبيل الاستقصاء وما بعدها جاء نصًا على الحالة التي يظن أنها لا تندرج فيما قبلها فكونه على فرس يؤذن بغناه فلا يليق إعطاؤه دفعًا للتوهم وقال أبو حيان هذه الواو لعطف حال على حال محذوفة تضمنها السابق والمعنى أعطوه كائنًا من كان ولا تجيء هذه الحال إلا منبهة على ما يتوهم أنه لا يندرج تحت عموم الحال المحذوفة فأدرج تحته ألا ترى أنه لا يحسن أعطوا السائل ولو كان غنيًا أو فقيرًا انتهى ومقصود الحديث الحث على إعطاء السائل وإن جل ولو ما قل كما يفيده حذف المتعلق لكن إذا وجده ولم يعارضه ما هو أهم وإلا فلا ضير في رده كما يفيده أحاديث أخر قال ابن عبد البر لا أعلم في إرسال هذا الحديث خلافًا عن مالك وليس فيه مسند يحتج به فيما أعلم انتهى وقد وصله ابن عدي من طريق عبد الله بن زيد بن أسلم عن أبيه عن أبي صالح عن أبي هريرة ولكن عبد الله ضعيف نعم له شاهد أخرجه أحمد وأبو داود وقاسم بن أصبغ عن الحسين بن علي مرفوعًا للسائل حق وإن جاء على فرس وسنده جيد قاله العراقي وغيره ولكن قال ابن عبد البر سنده ليس بالقوي وجاء بلفظ الموطأ وجه آخر عن أبي هريرة عند ابن عدي وضعفه ومن وجه آخر عند الدارقطني والحاصل أن المرسل صحيح وتتقوى رواية الواصل بتعدد الطرق وباعتضادها بالمرسل (مالك عن زيد بن أسلم) العدوي (عن عمرو) بفتح العين (ابن معاذ) بن سعد بن معاذ (الأشهلي الأنصاري) الأوسي أبي محمد المدني (عن جدته) يقال اسمها حواء بنت يزيد بن السكن صحابية مدنية (أنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا نساء المؤمنات) روي بضم الهمزة منادى مفرد والمؤمنات صفة له فيرفع على اللفظ وينصب بالكسرة على المحل وروي بفتح الهمزة منادى مفرد مضاف والمؤمنات صفة لموصوف محذوف أي نساء النفوس أو الطائفة المؤمنات فخرج عن إضافة الموصوف إلى صفته ويجوز أنها منها بتأويل نساء بفاضلات أي فاضلات المؤمنات وأنكر ابن عبد البر رواية الإضافة ورده ابن السيد بأنها قد صحت نقلاً وساعدتها اللغة فلا معنى للإنكار ورواه الطبراني من حديث عائشة بلفظ يا نساء المؤمنين (لا تحقرن إحداكن أن تهدي لجارتها) شيئًا (ولو) كان (كراع شاة) بضم الكاف ما دون العقب وخص النساء لأنهن مواد المودة والبغضاء ولأنهن أسرع انتقالاً في كل منهما (محرقًا) نعت لكراع وهو مؤنث فحقه محرقة لكن وردت الرواية هكذا في الموطآت وغيرها وقل أن تعرض العرب بذكره فلعل الرواية على هذه اللغة والأظهر أنه نهي للمهدى إليها قاله الباجي ومر هذا الحديث سنده ومتنه في جامع ما جاء في الطعام والشراب إشارة إلى أن الطعام اسم لكل ما يطعم وإن قل وأعاده هنا إلى الترغيب في الصدقة وإن قلت والنهي عن احتقارها فلا تكرار قال أبو عمر في ذكر القليل تنبيه على فضل الكثير لمن فهم معنى الخطاب وقد أحسن القائل

افعل الخير ما استطعت وإن كان
قليلاً فلن تطيق لكله

ومتى تفعل الكثير من الخير
إذا كنت تاركًا لأقله

وأحسن منه قول محمد الوراق

لو قد رأيت الصغير من عمل
الخير ثوابًا عجبت من كبره

أو قد رأيت الحقير من عمل
الشر جزاء شفقت من شره

(مالك أنه بلغه عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أن مسكينًا سألها وهي صائمة وليس في بيتها إلا رغيف) واحد (فقالت لمولاة لها) لم تسم (أعطيه إياه فقالت ليس لك ما تفطرين عليه فقالت أعطيه إياه قالت) المولاة (ففعلت) أعطيته الرغيف (قالت فلما أمسينا أهدى لنا أهل بيت أو إنسان) شكت (ما كان يهدي لنا) شيئًا قبل ذلك (شاة) مفعول أهدى (وكفنها) أي مطبوخة للأكل (فدعتني عائشة فقالت كلي من هذا) أي لحم الشاة (هذا خير من قرصك) الرغيف الذي أردت منعي عن إعطائه للسائل (مالك قد بلغني أن مسكينًا استطعم عائشة أم المؤمنين وبين يديها عنب فقالت لإنسان خذ حبة فأعطه إياها فجعل) ذلك الإنسان (ينظر إليها ويتعجب) إذ لا تقع حبة عنب موقعًا من المستطعم (فقالت عائشة أتعجب كم ترى في هذه الحبة من مثقال) أي زنة (ذرة) وقد قال الله تعالى { { ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا } } أي من نقص حسنة أو زيادة سيئة { { وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها } } [الأنبياء: 47] .