فهرس الكتاب

شرح الزرقاني - بَابُ صَلَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْوِتْرِ

رقم الحديث 268 حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً، يُوتِرُ مِنْهَا بِوَاحِدَةٍ فَإِذَا فَرَغَ اضْطَجَعَ عَلَى شِقِّهِ الْأَيْمَنِ.


( مَالِكٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً) زاد يونس والأوزاعي وابن أبي ذئب عن الزهري بإسناده يسلم من كل ركعتين ( يُوتِرُ مِنْهَا بِوَاحِدَةٍ فَإِذَا فَرَغَ اضْطَجَعَ عَلَى شِقِّهِ الْأَيْمَنِ) للاستراحة من طول القيام هكذا اتفق عليه رواة الموطأ.

وأما أصحاب ابن شهاب فرووا هذا الحديث عنه بإسناده فجعلوا الاضطجاع بعد ركعتي الفجر لا بعد الوتر فقالوا: فإذا تبين له الفجر وجاءه المؤذن ركع ركعتين خفيفتين ثم اضطجع على شقه الأيمن حتى يأتيه المؤذن للإقامة.
وزعم محمد بن يحيى الذهلي بذال ولام وغيره أنه الصواب دون رواية مالك، ورده ابن عبد البر بأنه لا يدفع ما قاله مالك لموضعه من الحفظ والإتقان ولثبوته في ابن شهاب وعلمه بحديثه، وقد قال يحيى بن معين إذا اختلف أصحاب ابن شهاب فالقول ما قال مالك فهو أثبتهم فيه وأحفظهم لحديثه، ويحتمل أن يضطجع مرة كذا ومرة كذا، ولرواية مالك شاهد وهو حديث ابن عباس الآتي أن اضطجاعه كان بعد الوتر وقبل ركعتي الفجر فلا ينكر أن يحفظ ذلك مالك في حديث ابن شهاب وإن لم يتابع عليه انتهى أي لأنه إمام متقن حافظ فلا يضره التفرد.

وقد أخرجه الترمذي من طريق معن عن مالك وقال: حسن صحيح ومسلم عن يحيى عن مالك به، وزاد: حتى يأتيه المؤذن فيصلي ركعتين خفيفتين يعني ركعتي الفجر.
ثم روى بعده من طريق عمرو بن الحارث ويونس عن ابن شهاب بسنده وفيه: أن الاضطجاع بعد ركعتي الفجر فأشار إلى أن الروايتين محفوظتان لأن شرط الشذوذ تعذر الجمع وقد أمكن بما قال أبو عمر مرة كذا ومرة كذا وبأنه لا يلزم من ذكر الاضطجاع في أحد الوقتين نفي الآخر فكان يفعله قبل وبعد، ورجح هذا بأنه لم يثبت ترك الاضطجاع.

( مَالِكٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ) كيسان ( الْمَقْبُرِيِّ) بفتح الميم وسكون القاف وضم الموحدة وفتحها نسبة إلى المقبرة لأنه كان مجاورًا لها ( عَنْ أَبِي سَلَمَةَ) إسماعيل أو عبد الله أو اسمه كنيته ( بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ) الزهري التابعي ابن الصحابي ( أَنَّهُ سَأَلَ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَيْفَ كَانَتْ صَلَاةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رَمَضَانَ؟ فَقَالَتْ: مَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَزِيدُ فِي رَمَضَانَ وَلَا فِي غَيْرِهِ عَلَى إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً) أي غير ركعتي الفجر كما في رواية القاسم عنها وفيه: أن صلاته كانت متساوية في جميع السنة، ولا ينافي ذلك حديثها كان صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر يتهجد فيه ما لا يتهجد في غيره لأنه يحمل على التطويل في الركعات دون الزيادة في العدد وما رواه ابن أبي شيبة عن ابن عباس كان صلى الله عليه وسلم يصلي في رمضان عشرين ركعة والوتر فإسناده ضعيف، وقد عارضه هذا الحديث الصحيح مع كون عائشة أعلم بحال النبي صلى الله عليه وسلم ليلاً من غيرها.

قال الحافظ: وظهر لي أنّ الحكمة في عدم الزيادة على إحدى عشرة ركعة أن التهجد والوتر مختص بصلاة الليل وفرائض النهار الظهر وهي أربع والعصر وهي أربع والمغرب وهي ثلاث وتر النهار، فناسب أن تكون صلاة الليل كصلاة النهار في العدد جملة وتفصيلاً، وأما مناسبة ثلاثة عشر فبضم صلاة الصبح لكونها نهارية إلى ما بعدها انتهى.

وتعقب بأن الصبح نهارية لقوله تعالى: { { وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأسْوَدِ } } والمغرب ليلية لحديث: إذا أقبل الليل من ههنا فقد أفطر الصائم ويرد بقوله صلى الله عليه وسلم صلاة المغرب وتر النهار فأوتروا صلاة الليل إسناده صحيح كما قاله الحافظ العراقي فأضيفت إلى النهار لوقوعها عقبه فهي نهارية حكمًا ليلية حقيقة كما يأتي قريبًا.

( يُصَلِّي أَرْبَعًا فَلَا تَسْأَلْ عَنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ) أي إنهنّ في نهاية من كمال الحسن والطول مستغنيات بظهور ذلك عن السؤال عنه ( ثُمَّ يُصَلِّي أَرْبَعًا فَلَا تَسْأَلْ عَنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ) يعني أربعًا في الطول والحسن وترتيب القراءة ونحو ذلك فلا ينافي أنه كان يجلس في كل ركعتين ويسلم لقوله صلى الله عليه وسلم: صلاة الليل مثنى مثنى ومحال أن يأمر بشيء ويفعل خلافه، وإلى هذا ذهب فقهاء الحجاز وجماعة من أهل العراق، وذهب قوم إلى أنّ الأربع لم يكن بينهما سلام، وقال بعضهم: ولا جلوس إلا في آخرها، ويرد عليه أن في رواية عروة عن عائشة أنه صلى الله عليه وسلم كان يسلم من كل ركعتين ذكره في التمهيد اهـ.

( ثُمَّ يُصَلِّي ثَلَاثًا) يوتر منها بواحدة كما في حديثها فوقه والركعتان شفع ( فَقَالَتْ عَائِشَةُ فَقُلْتُ) بفاء العطف على السابق ( يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتَنَامُ قَبْلَ أَنْ تُوتِرَ؟) بهمزة الاستفهام الاستخباري لأنها لم تعرف النوم قبل الوتر لأن أباها كان لا ينام حتى يوتر وكان يوتر أوّل الليل، فكان مقرّرًا عندها أن لا نوم قبل الوتر، فأجابها صلى الله عليه وسلم بأنه ليس كغيره.

( فَقَالَ: يَا عَائِشَةُ إِنَّ عَيْنَيَّ تَنَامَانِ وَلَا يَنَامُ قَلْبِي) لأن القلب إذا قويت حياته لا ينام إذا نام البدن ولا يكون ذلك إلا للأنبياء كما قال صلى الله عليه وسلم: إنا معاشر الأنبياء تنام أعيننا ولا تنام قلوبنا ولذا قال ابن عباس وغيره من العلماء: رؤيا الأنبياء وحي ولو سلط النوم على قلوبهم كانت رؤياهم كرؤيا من سواهم، ولذا كان صلى الله عليه وسلم ينام حتى ينفخ ويسمع غطيطه ثم يصلي ولا يتوضأ لأن الوضوء إنما يجب بغلبة النوم على القلب لا على العين ولا يعارض نومه بالوادي لأن رؤية الفجر متعلق بالعين لا بالقلب كما مرّ مبسوطًا.

قال ابن عبد البر: في هذا الحديث تقديم وتأخير لأن السؤال بعد ذكر الوتر ومعناه أنه كان ينام قبل صلاته، وهذا يدل على أنه كان يقوم ثم ينام ثم يقوم ثم ينام ثم يقوم فيوتر، ولذا جاء الحديث أربعًا ثم أربعًا ثم ثلاثًا أظن ذلك والله أعلم من أجل أنه كان ينام بينهنّ فقالت أربعًا ثم أربعًا تعني بعد نوم ثم ثلاث بعد نوم، ولذا قالت: أتنام قبل أن توتر؟ وقد قالت أمّ سلمة كان يصلي ثم ينام قدر ما صلى ثم يصلي قدر ما ينام ثم ينام قدر ما صلى الحديث.
يعني فهذا شاهد لحمل خبر عائشة على ما ذكر.

وأخرجه البخاري في الصلاة عن عبد الله بن يوسف، وفي الصوم عن إسماعيل، وفي الصفة النبوية عن القعنبي، ومسلم عن يحيى وأصحاب السنن الثلاثة عن قتيبة، ومن طريق ابن القاسم وابن مهدي والترمذي من طريق معن الثمانية عن مالك به.

( مَالِكٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي بِاللَّيْلِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً) ظاهره يخالف ما قبله من رواية أبي سلمة عنها ما كان يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة، فيحتمل أنها أضافت إلى صلاة الليل سنة العشاء لأنه كان يصليها في بيته أو ما كان يفتتح به صلاة الليل كما في مسلم من طريق سعد بن هشام عنها أنه كان يفتتحها بركعتين خفيفتين، وهذا أرجح في نظري لأن رواية أبي سلمة الدالة على الحصر جاء في صفتها يصلي أربعًا ثم أربعًا ثم ثلاثًا فدل على أنها لم تتعرض للركعتين الخفيفتين وتعرضت لهما هنا في رواية عروة والزيادة من الحافظ مقبولة.

وفي الصحيح عن مسروق سئلت عائشة عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالليل؟ فقالت: سبعًا وتسعًا وإحدى عشرة سوى ركعتي الفجر، ومرادها أن ذلك وقع منه في أوقات مختلفة فتارة سبعًا وتارة إلى آخره، ورواية القاسم عنها في الصحيحين كان يصلي ثلاث عشرة ركعة منها الوتر وركعتا الفجر محمولة على أن ذلك كان غالب حاله وبهذا يجمع بين الروايات.

قال القرطبي: أشكلت روايات عائشة على كثير من العلماء حتى نسب بعضهم حديثها إلى الاضطراب، وهذا إنما يتم لو كان الراوي عنها واحدًا وأخبرت عن وقت واحد والصواب أن كل شيء ذكرته من ذلك محمول على أوقات متعدّدة وأحوال مختلفة بحسب النشاط وبيان الجواز ذكره في فتح الباري.

وقال الباجي: ذكر بعض من لم يتأمّل أن رواية عائشة اضطربت في الحج والرضاع وصلاة النبي صلى الله عليه وسلم بالليل وقصر الصلاة في السفر قال: وهذا غلط ممن قاله فقد أجمع العلماء على أنها أحفظ الصحابة أي من أحفظهم فكيف بغيرهم، وإنما حمله على هذا قلة معرفته بمعاني الكلام ووجوه التأويل، فإن الحديث الأوّل إخبار عن صلاته المعتادة غالبًا والثاني إخبار عن زيادة وقعت في بعض الأوقات أو ضمت ما كان يفتتح به صلاته من ركعتين خفيفتين قبل الإحدى عشرة.

وقال ابن عبد البر: ذكر قوم من رواة هذا الحديث عن هشام أنه كان يوتر ذلك بخمس لا يجلس في شيء من الخمس ركعات إلا في آخرهنّ رواه حماد بن سلمة وأبو عوانة ووهيب وغيرهم، وأكثر الحفاظ رووه عن هشام كما رواه مالك والرواية المخالفة له إنما حدّث بها عن هشام أهل العراق وما حدّث به هشام قبل خروجه إلى العراق أصح عندهم.

( ثُمَّ يُصَلِّي إِذَا سَمِعَ النِّدَاءَ) أي الأذان ( بِالصُّبْحِ رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ) رغيبتي الفجر، وفي رواية عمرة عن عائشة حتى إني لأقول هل قرأ بأمّ الكتاب أم لا.
واختلف في حكمة تخفيفهما فقيل ليبادر إلى صلاة الصبح في أوّل الوقت، وبه جزم القرطبي وقيل ليستفتح صلاة النهار بركعتين خفيفتين كما كان يصنع في صلاة الليل ليدخل في الفرض أو ما شابهه في الفضل بنشاط واستعداد تام والله أعلم.

وهذا الحديث رواه البخاري عن عبد الله بن يوسف، وأبو داود عن القعنبي والثلاثة عن قتيبة ثلاثتهم عن مالك به.

( مَالِكٍ عَنْ مَخْرَمَةَ) بإسكان الخاء وفتح غيرها ( بْنِ سُلَيْمَانَ) الأسدي الوالبي بكسر اللام والموحدة المدني روى عن ابن الزبير وأسماء بنت أبي بكر وعدّة وعنه جماعة وثقه ابن معين وغيره.
قال الواقدي: قتلته الحرورية بقديد سنة ثلاثين ومائة وهو ابن سبعين سنة.

( عَنْ كُرَيْبٍ) بضم الكاف وفتح الراء ابن أبي مسلم الهاشمي مولاهم المدني يكنى بأبي رشدين ( مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ) عن مولاه وابن عمر وزيد بن ثابت وأسامة وعائشة وميمونة وأم سلمة، وعنه ابناه رشدين ومحمد وبكير بن الأشج ومكحول وموسى بن عقبة وآخرون، وثقه ابن معين وابن سعد والنسائي واحتج به الجماعة مات سنة ثمان وتسعين.

( أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ) الحبر واسع العلم فقهًا وحديثًا وعربية وأنسابًا وشعرًا وتفسيرًا.
روى الطبراني عنه دعاني صلى الله عليه وسلم فقال: نعم ترجمان القرآن أنت دعاك جبريل مرتين وعنه وضع صلى الله عليه وسلم يده على كتفي أو منكبي ثم قال: اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل.
رواه أحمد والطبراني برجال الصحيح، وعنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وضع يده على صدره فوجد بردها في صدره ثم قال: اللهم احش جوفه علمًا وحلمًا وعنه ضمني صلى الله عليه وسلم إلى صدره وقال: اللهم علمه الحكمة وفي رواية الكتاب رواهما البخاري.

( أَخْبَرَهُ أَنَّهُ بَاتَ لَيْلَةً عِنْدَ مَيْمُونَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهِيَ خَالَتُهُ) زاد شريك بن أبي نمر عن كريب عند مسلم فرقبت رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف يصلي.
زاد أبو عوانة من هذا الوجه بالليل، ولمسلم من طريق عطاء عن ابن عباس قال: بعثني العباس إلى النبي صلى الله عليه وسلم، زاد النسائي من طريق حبيب بن أبي ثابت عن كريب في إبل أعطاه إياها من الصدقة أي صدقة التطوّع أو ليتولى صرفه في مصالح غيره ممن يحل له أخذ ذلك، وإلاّ فالعباس هاشمي لا يعطى صدقة الفرض، ولأبي عوانة عن عليّ بن عبد الله بن عباس عن أبيه أن العباس بعثه إلى النبي صلى الله عليه وسلم في حاجة قال: فوجدته جالسًا في المسجد فلم أستطع أن أكلمه، فلما صلى المغرب قام فركع حتى أذن المؤذنون بصلاة العشاء، ولابن خزيمة عن طلحة بن نافع عنه كان صلى الله عليه وسلم وعد العباس ذودًا من الإبل فبعثني إليه بعد العشاء وكان في بيت ميمونة، وهذا يخالف ما قبله ويجمع بأنه لما لم يكلمه في المسجد عاد إليه بعد العشاء، وفيه جواز تقاضي الوعد وإن كان من وعد به مقطوعًا بوفائه.
ولمحمد بن نصر من طريق محمد بن الوليد عن كريب فقال لي: يا بني بت الليلة عندنا.
وفي رواية حبيب المذكورة فقلت: لأنام حتى أنظر إلى ما يصنع رسول الله صلى الله عليه وسلم أي في صلاة الليل، ولمسلم عن الضحاك بن عثمان عن مخرمة فقلت لميمونة: إذا قام صلى الله عليه وسلم فأيقظيني فكأنه عزم في نفسه على السهر ليطلع على الكيفية التي أرادها ثم خشي أن يغلبه النوم فوصى ميمونة أن توقظه وفيه فضل ابن عباس وقوّة فهمه وحرصه على تعليم أمر الدين وحسن تأنيه في ذلك.

( قَالَ: فَاضْطَجَعْتُ) أي وضعت جنبي بالأرض ( فِي عَرْضِ) بفتح العين على المشهور وبضمها أيضًا، وأنكره الباجي نقلاً ومعنى قال: لأن العرض هو الجانب وهو لفظ مشترك، وردّه العسقلاني بأنه لما قال في طولها تعين المراد وقد صحت به الرواية فلا وجه للإنكار ( الْوِسَادَةِ) ما يوضع عليه الرأس للنوم ولمحمد بن نصر وسادة من أدم حشوها ليف ( وَاضْطَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَهْلُهُ فِي طُولِهَا) أي الوسادة.

قال ابن عبد البر: كان ابن عباس والله أعلم مضطجعًا عند أرجلهما أو عند رأسهما.
وقال الباجي: هذا ليس بالبين لأنه لو كان كذلك لقال توسدت عرضها وقوله فاضطجعت في عرض يقتضي أن العرض محل لاضطجاعه، وفي رواية طلحة بن نافع عند ابن خزيمة ثم دخل مع امرأته في فراشها وكانت ليلتئذ حائضًا وفيه مبيت الصغير عند محرمه وإن كان زوجها عندها والاضطجاع مع الحائض وترك الاحتشام في ذلك بحضرة الصغير وإن كان مميزًا بل مراهقًا.
وللبخاري في التفسير ومسلم من رواية شريك عن كريب فتحدّث صلى الله عليه وسلم مع أهله ساعة، ولأبي زرعة الرازي في العلل عن ابن عباس أتيت خالتي ميمونة فقلت: إني أريد أن أبيت عندكم.
فقالت: كيف تبيت وإنما الفراش واحد.
فقلت: لا حاجة لي بفراشكم أفرش نصف إزاري، وأما الوسادة فإني أضع رأسي مع رأسكما من وراء الوسادة، فجاء صلى الله عليه وسلم فحدّثته ميمونة بما قلت فقال: هذا شيخ قريش.

( فَنَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى إِذَا انْتَصَفَ اللَّيْلُ أَوْ قَبْلَهُ بِقَلِيلٍ أَوْ بَعْدَهُ بِقَلِيلٍ) قال ابن عبد البر: فيه التحرّي في الألفاظ وفي المعاني، وللبخاري عن القعنبي عن مالك حتى انتصف الليل أو قريبًا منه، وله عن شريك عن كريب الجزم بثلث الليل الأخير.
قال الحافظ: ويجمع بينهما بأن الاستيقاظ وقع مرتين.
في الأولى نظر إلى السماء.
ثم تلا الآيات ثم عاد لمضجعه فنام، وفي الثانية أعاد ذلك ثم توضأ وصلى وبين ذلك محمد بن الوليد في روايته المذكورة، وفي رواية الثوري عن سلمة بن كهيل عن كريب في الصحيحين فقام من الليل فأتى حاجته ثم غسل وجهه ويديه ثم نام ثم قام فأتى القربة الحديث.
وفي رواية سعيد بن مسروق عن سلمة عند مسلم ثم قام قومة أخرى.
وعنده من رواية شعبة عن سلمة: فبال بدل فأتى حاجته.

( اسْتَيْقَظَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) إن جعلت إذا ظرفية فقبله ظرف لاستيقظ أي استيقظ وقت الانتصاف أو قبله وإن جعلت شرطية فمتعلق بفعل مقدر واستيقظ جواب الشرط أي حتى إذا انتصف الليل أو كان قبله أو بعده استيقظ ( فَجَلَسَ) حال كونه ( يَمْسَحُ النَّوْمَ عَنْ وَجْهِهِ) قال الباجي: يحتمل أنه أراد إزالة النوم وأنه أراد إزالة الكسل بمسح الوجه ( بِيَدِهِ) بالإفراد أي يمسح بيده عينيه من إطلاق اسم الحال على المحل لأن المسح إنما يقع على العين والنوم لا يمسح، أو المراد يمسح أثر النوم من إطلاق السبب على المسبب قاله الحافظ.
وتعقب بأن أثر النوم من النوم لأنه نفسه ورد بأن الأثر غير المؤثر فالمراد هنا ارتخاء الجفون من النوم ونحوه.

( ثُمَّ قَرَأَ) صلى الله عليه وسلم ( الْعَشْرَ الْآيَاتِ) من إضافة الصفة للموصوف واللام تدخل في العدد المضاف نحو الثلاثة الأثواب ( الْخَوَاتِمَ) بالنصب صفة العشر ( مِنْ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ) أوّلها { { إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } } إلى آخر السورة.

قال الباجي: يحتمل أن ذلك ليبتدئ يقظته بذكر الله كما ختمها بذكره عند نومه، ويحتمل أن ذلك ليتذكر ما ندب إليه من العبادة وما وعد على ذلك من الثواب، فإنّ هذه الآيات جامعة لكثير من ذلك ليكون تنشيطًا له على العبادة.

قال ابن عبد البر: فيه قراءة القرآن على غير وضوء ولا خلاف فيه وقد قال علي: كان صلى الله عليه وسلم لا يحجزه عن قراءة القرآن إلا الجنابة وعليه جمهور العلماء، وشذ قوم فأجازوا قراءته للجنب وهم محجوجون بالسنة.

وقال ابن بطال: فيه دليل على من كره قراءة القرآن على غير طهارة لأنه صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآيات بعد قيامه من النوم قبل أن يتوضأ، وتعقبه ابن المنير وغيره بأن ذلك مفرع على أن نومه ناقض وليس كذلك لقوله: إن عينيّ تنامان ولا ينام قلبي وأما وضوءه عقبه فلعله تجديد أو أحدث بعد ذلك فتوضأ.

قال الحافظ: وهو تعقب جيد بالنسبة إلى قول ابن بطال بعد قيامه من النوم لأنه لم يتعين أنه أحدث في النوم، لكن لما عقب ذلك بالوضوء كان ظاهرًا في أنه أحدث ولا يلزم من كون نومه لا ينقض وضوءه أن لا يقع منه حدث وهو نائم.
نعم خصوصيته أنه إن وقع شعر به بخلاف غيره وما ادّعوه من التجديد وغيره.
الأصل عدمه وقد سبق الإسماعيلي إلى معنى ما ذكر ابن المنير.

( ثُمَّ قَامَ إِلَى شَنٍّ مُعَلَّقٍ) بفتح الشين المعجمة وشدّ النون قربة خلقة من أدم وذكر الوصف باعتبار لفظه أو الأدم أو الجلد أو السقاء أو الوعاء.
وفي رواية للبخاري من هذا الوجه معلقة بتأنيث الوصف لإرادة القربة ( فَتَوَضَّأَ مِنْهُ) أي الشن.
وللبخاري منها أي القربة ولمحمد بن نصر من طريق محمد بن الوليد عن كريب، ثم استفرغ من الشن في إناء ثم توضأ وفيه جواز الاغتراف من الماء القليل لأن الإناء المذكور كان قصعة أو صحفة ( فَأَحْسَنَ وُضُوءَهُ) أي أتمه بأن أتى بمندوباته.
ولابن خزيمة ومحمد بن نصر فأسبغ الوضوء، وللبخاري من رواية عمرو بن دينار عن كريب فتوضأ وضوءًا خفيفًا، ويجمع بينهما برواية الثوري في الصحيحين فتوضأ وضوءًا بين وضوءين لم يكثر وقد أبلغ، ولمسلم فأسبغ الوضوء ولم يمس من الماء إلا قليلاً وزاد فيها فتسوّك.

( ثُمَّ قَامَ يُصَلِّي) ولمحمد بن نصر ثم أخذ بردًا له حضرميًا فتوشحه ثم دخل البيت فقام يصلي ( قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَقُمْتُ فَصَنَعْتُ مِثْلَ مَا صَنَعَ) يقتضي أنه صنع جميع ما ذكر من القول والنظر والوضوء والسواك والتوشح، ويحتمل أن يحمل على الأغلب إذ لا يلزم من إطلاق المثلية المساواة من كل جهة، وزاد سلمة عن كريب في الدعوات من البخاري في أوّل الحديث فقمت فتمطيت كراهة أن يرى أني كنت أرقبه، وكأنه خشي أن يترك بعض عمله لما جرى من عادته صلى الله عليه وسلم أنه كان يترك بعض العمل خشية أن يفرض على أمته.

( ثُمَّ ذَهَبْتُ فَقُمْتُ إِلَى جَنْبِهِ) أي الأيسر وظاهره المساواة ( فَوَضَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى رَأْسِي) قال ابن عبد البر: يعني أنه أداره فجعله عن يمينه، وهذا ذكره أكثر الرواة في هذا الحديث ولم يذكره مالك، وفي مسلم فقمت عن يساره فأدارني من خلفه حتى جعلني عن يمينه ( وَأَخَذَ بِأُذُنِي) بضم الهمزة والمعجمة ( الْيُمْنَى) حال كونه ( يَفْتِلُهَا) أي يدلكها.
زاد محمد بن نصر: فعرفت أنه إنما صنع ذلك ليؤنسني بيده في ظلمة الليل، ولمسلم فجعلت إذا أغفيت أخذ بشحمة أذني، وفي هذا رد على من زعم أن أخذ الأذن إنما كان حال إدارته له من اليسار إلى اليمين متمسكا برواية للبخاري في التفسير بلفظ: فأخذ بأذني فأدارني عن يمينه، لكن لا يلزم من إدارته على هذه الصفة أن لا يعود إلى مسك أذنه لما ذكر من تأنيسه وإيقاظه لأنّ حاله يقتضي ذلك لصغر سنه، وفيه جواز فتل أذن الصغير لتأنيسه وإيقاظه، وقد قيل: إنّ المتعلم إذا تعوهد فتل أذنه كان أدعى لفهمه وفيه أن قليل العمل في الصلاة لا يفسدها.

( فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ) ذكرها ست مرات، فالجملة ثنتا عشرة ركعة، وظاهره أنه فصل بين كل ركعتين.
وبه صرح في رواية طلحة بن نافع عن ابن عباس عند ابن خزيمة قال: يسلم من كل ركعتين، ولمسلم من رواية علي بن عبد الله بن عباس التصريح بالفصل أيضًا، وأنه استاك بين كل ركعتين إلى غير ذلك.

( ثُمَّ أَوْتَرَ) بواحدة، وللبخاري فتتامّت ولمسلم فتكاملت صلاته ثلاث عشرة ركعة.
وللبخاري أيضًا من وجه آخر عن كريب فصلى ثلاث عشرة ركعة ( ثُمَّ اضْطَجَعَ حَتَّى أَتَاهُ الْمُؤَذِّنُ) بلال كما في رواية للبخاري وله في أخرى ثم اضطجع فنام حتى نفخ ثم قام ( فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ) الفجر قبل الصبح ( ثُمَّ خَرَجَ) من الحجرة إلى المسجد ( فَصَلَّى الصُّبْحَ) بالجماعة.
واتفق أكثر أصحاب كريب على أنه صلى ثلاث عشرة ركعة وركعتي الفجر، وفي رواية شريك عنه عند البخاري فصلى إحدى عشرة ركعة ثم أذن بلال فصلى ركعتين ثم خرج، فخالف شريك الأكثر وروايتهم مقدمة على روايته لما معهم من الزيادة ولكونهم أحفظ منه، وحمل بعضهم الزيادة على الركعتين بعد العشاء وبعده لا يخفى، لا سيما مع رواية حديث الباب وحمله على أنه أخرهما حتى استيقظ يعكر عليه رواية المنهال الآتية قريبًا.

واختلف على سعيد بن جبير أيضًا فللبخاري في التفسير من طريق الحكم عنه فصلى أربع ركعات ثم نام ثم صلى خمس ركعات، وحمل محمد بن نصر هذه الأربعة على سنة العشاء لوقوعها قبل النوم يعكر عليه ما رواه هو من طريق المنهال بن عمرو عن عليّ بن عبد الله بن عباس بلفظ: فصلى العشاء ثم صلى أربع ركعات بعدها حتى لم يبق في المسجد غيره ثم انصرف، فإنه يقتضي أنه صلى الأربع في المسجد لا في البيت.

ورواية ابن جبير أيضًا تقتضي الاقتصار على خمس ركعات بعد النوم وفيه نظر، وظهر لي من رواية أخرى ما يرفع الإشكال ويوضح أن رواية الحكم وقع فيها تقصير، فعند النسائي من طريق يحيى بن عباد عن سعيد بن جبير فصلى ركعتين ركعتين حتى صلى ثمان ركعات ثم أوتر بخمس لم يجلس بينهن، فبهذا يجمع بين روايتي سعيد وكريب، وأما ما فيهما من الفصل والوصل فرواية سعيد صريحة في الوصل.

ورواية كريب محتملة فتحمل على رواية سعيد وقوله في رواية طلحة بن نافع يسلم من كل ركعتين يحتمل تخصيصه بالثمان فيوافق رواية سعيد ويوافقه رواية يحيى الجزار الآتية، ولم أر في شيء من طريق حديث ابن عباس ما يخالف ذلك لأن أكثر الرواة عنه لم يذكروا عددًا ومن ذكر العدد منهم لم يزد على ثلاث عشرة ولم ينقص عن إحدى عشرة إلا أن في رواية علي بن عبد الله بن عباس عند مسلم ما يخالفهم فإنّ فيه: فصلى ركعتين أطال فيهما ثم انصرف فنام حتى نفخ ففعل ذلك ثلاث مرات بست ركعات كل ذلك يستاك ويتوضأ ويقرأ هؤلاء الآيات يعني آخر آل عمران، ثم أوتر بثلاث فأذن المؤذن فخرج إلى الصلاة فزاد على الرواة تكرار الوضوء وما معه ونقص عنهم ركعتين أو أربعًا ولم يذكر ركعتي الفجر أيضًا، وأظن ذلك من الراوي عنه حبيب بن أبي ثابت فإن فيه مقالاً، وقد اختلف عليه في إسناده ومتنه، ويحتمل أنه لم يذكر الأربع كما لم يذكر الحكم الثمان كما تقدم، وأما الفجر فقد ثبت ذكره في طريق أخرى عن علي بن عبد الله عند أبي داود.

والحاصل أن قصة مبيت ابن عباس يغلب على الظن اتحادها فينبغي الاعتناء بالجمع بين مختلف الروايات فيها ولا شك أن الأخذ بما اتفق عليه الأكثر والأحفظ أولى مما خالفهم فيه من هو دونهم، ولا سيما إن زاد أو نقص والمحقق من عدد صلاته تلك الليلة إحدى عشرة.
وأما رواية ثلاث عشرة فيحتمل أن تكون سنة العشاء ويوافق ذلك رواية أبي جمرة عن ابن عباس عند البخاري: كانت صلاة النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث عشرة يعني بالليل ولم يبين هل سنة الفجر منها أو لا.
وبينها يحيى الجزار عن ابن عباس عند النسائي بلفظ: كان يصلي ثمان ركعات ويوتر بثلاث ويصلي ركعتين قبل صلاة الصبح ولا يعكر على هذا الجمع إلا ظاهر سياق حديث الباب فيمكن حمل قوله: صلى ركعتين ثم ركعتين أي قبل أن ينام ويكون منها سنة العشاء، وقوله: ثم ركعتين إلخ أي: بعد أن قام.

وجمع الكرماني بين مختلف روايات قصة ابن عباس هذه باحتمال أن بعض رواته ذكر القدر الذي اقتدى ابن عباس به وفصله عما لم يقتد به فيه وبعضهم ذكر الجميع مجملاً كذا في فتح الباري.
ولا يخفى ما في جمعه هو من التكلف البعيد والله أعلم.

والحديث أخرجه البخاري عن إسماعيل وعن القعنبي وقتيبة والتنيسي، ومن طريق معن وعبد الرحمن بن مهدي ومسلم عن يحيى السبعة عن مالك به.

( مَالِكٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ) بن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري المدني قاضيها الثقة المتوفى سنة خمس وثلاثين ومائة وله سبعون سنة ( عَنْ أَبِيهِ) أبي بكر اسمه وكنيته واحد، وقيل يكنى أبا محمد ثقة عابد تقدّما غير مرة ( أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ قَيْسِ بْنِ مَخْرَمَةَ) بفتح الميم وإسكان الخاء المعجمة وفتح الراء والميم الثانية ابن المطلب بن عبد مناف المطلبي قال العسكري: أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم، وذكره ابن أبي خيثمة والبغوي وابن شاهين في الصحابة، وذكره البخاري وابن أبي حاتم وابن حبان في كبار التابعين وأبوه صحابي، روى هو عن أبيه وزيد بن خالد وأبي هريرة وابن عمر، وعنه ابناه محمد والمطلب وإسحاق بن يسار والد محمد صاحب السيرة، وثقه النسائي وعمل لعبد الملك بن مروان على العراق واستقضاه الحجاج على المدينة سنة ثلاث وسبعين ومات سنة ست وسبعين.

( أَخْبَرَهُ عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ) المدني صحابي شهير مات بالكوفة سنة ثمان وستين أو سبعين وله خمس وثمانون سنة ( أَنَّهُ قَالَ:) هذا هو الصواب، ووقع في رواية أبي أويس عن عبد الله بن أبي بكر عن أبيه أن عبد الله بن قيس قال لأرمقنّ رواه ابن أبي خيثمة وهو خطأ وأبو أويس كثير الوهم فسقط منه الصحابي وسماع أبي أويس كان مع مالك، فالعمدة على رواية مالك وهي الصواب، وقد أخرجه مسلم وأصحاب السنن من طريق مالك بهذا الإسناد عن زيد بن خالد أنه قال: ( لَأَرْمُقَنَّ) بفتح الهمزة وإسكان الراء وضم الميم وفتح القاف والنون الثقيلة وأصله النظر إلى الشيء شزرًا نظر العداوة واستعير هنا لمطلق النظر وعدل عن الماضي فلم يقل رمقت استحضارًا لتلك الحالة الماضية ليقرّرها للسامع أبلغ تقرير أي لأنظرنّ ( اللَّيْلَةَ صَلَاةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: فَتَوَسَّدْتُ عَتَبَتَهُ) أي عتبة بابه أي جعلتها كالوسادة بوضع رأسي عليها ( أَوْ فُسْطَاطَهُ) بضم الفاء وكسرها بيت من الشعر.
قال الباجي: والخبر بالتفسير الأوّل أشبه ويحتمل أن ذلك شك من الراوي، وقال غيره: هو محمول على أن ذلك حين سمعه قام يصلي لا قبل ذلك لأنه من التجسس المنهي عنه وأما ترقبه للصلاة فمحمود.

( فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ طَوِيلَتَيْنِ طَوِيلَتَيْنِ طَوِيلَتَيْنِ) كذا في رواية يحيى ثلاثًا وسائر أصحاب الموطأ قالوا ذلك مرتين فقط يعني بذلك المبالغة في طولهما كذا قال الباجي، والذي قاله أبو عمر بن عبد البر إن يحيى قال طويلتين مرتين وغيره يقول ثلاث مرات وهو الصواب فإنه في رواية مسلم وغيره من طريق مالك ثلاثًا.

( ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ وَهُمَا دُونَ اللَّتَيْنِ قَبْلَهُمَا) يعني في الطول.
قال ابن عبد البر: لم يتابع يحيى على هذا أحد من الرواة والذي في الموطأ عند جميعهم فصلى ركعتين خفيفتين ثم صلى ركعتين طويلتين طويلتين طويلتين، فأسقط يحيى ذكر الركعتين الخفيفتين وذلك خطأ واضح لأن المحفوظ عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث زيد بن خالد وغيره كعائشة أنه كان يفتتح صلاة الليل بركعتين خفيفتين.
وقال أيضًا: طويلتين مرتين وغيره يقول ثلاث مرات فوهم يحيى في الموضعين وذلك مما عدّ عليه من سقطه وغلطه والغلط لا يسلم منه أحد.

( ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ وَهُمَا دُونَ اللَّتَيْنِ قَبْلَهُمَا) في الطول ( ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ وَهُمَا دُونَ اللَّتَيْنِ قَبْلَهُمَا ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ وَهُمَا دُونَ اللَّتَيْنِ قَبْلَهُمَا ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ وَهُمَا دُونَ اللَّتَيْنِ قَبْلَهُمَا) فذكرهما ست مرات أولاهما خفيفتين على الصواب ثم التالية أطولها ثم الأربع التي بعدها كل ركعتين أقصر مما قبلهما ( ثُمَّ أَوْتَرَ) بواحدة ( فَتِلْكَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً) ذكر ذلك مع استفادته من العدّ لئلا يسقط ركعتان مثلاً.

والحديث رواه مسلم والترمذي والنسائي عن قتيبة، وأبو داود عن القعنبي والترمذي أيضًا من طريق معن وابن ماجه من طريق عبد الله بن نافع أربعتهم عن مالك به كلهم مثل رواية الجمهور عنه إلا أنه لم يقع عند مسلم قوله فتوسدت عتبته أو فسطاطه.



رقم الحديث 269 وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، أَنَّهُ سَأَلَ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَيْفَ كَانَتْ صَلَاةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رَمَضَانَ؟ فَقَالَتْ: مَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَزِيدُ فِي رَمَضَانَ، وَلَا فِي غَيْرِهِ، عَلَى إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً.
يُصَلِّي أَرْبَعًا، فَلَا تَسْأَلْ عَنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ، ثُمَّ يُصَلِّي أَرْبَعًا، فَلَا تَسْأَلْ عَنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ، ثُمَّ يُصَلِّي ثَلَاثًا.
فَقَالَتْ عَائِشَةُ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتَنَامُ قَبْلَ أَنْ تُوتِرَ؟ فَقَالَ: يَا عَائِشَةُ إِنَّ عَيْنَيَّ تَنَامَانِ وَلَا يَنَامُ قَلْبِي.


( مَالِكٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً) زاد يونس والأوزاعي وابن أبي ذئب عن الزهري بإسناده يسلم من كل ركعتين ( يُوتِرُ مِنْهَا بِوَاحِدَةٍ فَإِذَا فَرَغَ اضْطَجَعَ عَلَى شِقِّهِ الْأَيْمَنِ) للاستراحة من طول القيام هكذا اتفق عليه رواة الموطأ.

وأما أصحاب ابن شهاب فرووا هذا الحديث عنه بإسناده فجعلوا الاضطجاع بعد ركعتي الفجر لا بعد الوتر فقالوا: فإذا تبين له الفجر وجاءه المؤذن ركع ركعتين خفيفتين ثم اضطجع على شقه الأيمن حتى يأتيه المؤذن للإقامة.
وزعم محمد بن يحيى الذهلي بذال ولام وغيره أنه الصواب دون رواية مالك، ورده ابن عبد البر بأنه لا يدفع ما قاله مالك لموضعه من الحفظ والإتقان ولثبوته في ابن شهاب وعلمه بحديثه، وقد قال يحيى بن معين إذا اختلف أصحاب ابن شهاب فالقول ما قال مالك فهو أثبتهم فيه وأحفظهم لحديثه، ويحتمل أن يضطجع مرة كذا ومرة كذا، ولرواية مالك شاهد وهو حديث ابن عباس الآتي أن اضطجاعه كان بعد الوتر وقبل ركعتي الفجر فلا ينكر أن يحفظ ذلك مالك في حديث ابن شهاب وإن لم يتابع عليه انتهى أي لأنه إمام متقن حافظ فلا يضره التفرد.

وقد أخرجه الترمذي من طريق معن عن مالك وقال: حسن صحيح ومسلم عن يحيى عن مالك به، وزاد: حتى يأتيه المؤذن فيصلي ركعتين خفيفتين يعني ركعتي الفجر.
ثم روى بعده من طريق عمرو بن الحارث ويونس عن ابن شهاب بسنده وفيه: أن الاضطجاع بعد ركعتي الفجر فأشار إلى أن الروايتين محفوظتان لأن شرط الشذوذ تعذر الجمع وقد أمكن بما قال أبو عمر مرة كذا ومرة كذا وبأنه لا يلزم من ذكر الاضطجاع في أحد الوقتين نفي الآخر فكان يفعله قبل وبعد، ورجح هذا بأنه لم يثبت ترك الاضطجاع.

( مَالِكٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ) كيسان ( الْمَقْبُرِيِّ) بفتح الميم وسكون القاف وضم الموحدة وفتحها نسبة إلى المقبرة لأنه كان مجاورًا لها ( عَنْ أَبِي سَلَمَةَ) إسماعيل أو عبد الله أو اسمه كنيته ( بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ) الزهري التابعي ابن الصحابي ( أَنَّهُ سَأَلَ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَيْفَ كَانَتْ صَلَاةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رَمَضَانَ؟ فَقَالَتْ: مَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَزِيدُ فِي رَمَضَانَ وَلَا فِي غَيْرِهِ عَلَى إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً) أي غير ركعتي الفجر كما في رواية القاسم عنها وفيه: أن صلاته كانت متساوية في جميع السنة، ولا ينافي ذلك حديثها كان صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر يتهجد فيه ما لا يتهجد في غيره لأنه يحمل على التطويل في الركعات دون الزيادة في العدد وما رواه ابن أبي شيبة عن ابن عباس كان صلى الله عليه وسلم يصلي في رمضان عشرين ركعة والوتر فإسناده ضعيف، وقد عارضه هذا الحديث الصحيح مع كون عائشة أعلم بحال النبي صلى الله عليه وسلم ليلاً من غيرها.

قال الحافظ: وظهر لي أنّ الحكمة في عدم الزيادة على إحدى عشرة ركعة أن التهجد والوتر مختص بصلاة الليل وفرائض النهار الظهر وهي أربع والعصر وهي أربع والمغرب وهي ثلاث وتر النهار، فناسب أن تكون صلاة الليل كصلاة النهار في العدد جملة وتفصيلاً، وأما مناسبة ثلاثة عشر فبضم صلاة الصبح لكونها نهارية إلى ما بعدها انتهى.

وتعقب بأن الصبح نهارية لقوله تعالى: { { وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأسْوَدِ } } والمغرب ليلية لحديث: إذا أقبل الليل من ههنا فقد أفطر الصائم ويرد بقوله صلى الله عليه وسلم صلاة المغرب وتر النهار فأوتروا صلاة الليل إسناده صحيح كما قاله الحافظ العراقي فأضيفت إلى النهار لوقوعها عقبه فهي نهارية حكمًا ليلية حقيقة كما يأتي قريبًا.

( يُصَلِّي أَرْبَعًا فَلَا تَسْأَلْ عَنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ) أي إنهنّ في نهاية من كمال الحسن والطول مستغنيات بظهور ذلك عن السؤال عنه ( ثُمَّ يُصَلِّي أَرْبَعًا فَلَا تَسْأَلْ عَنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ) يعني أربعًا في الطول والحسن وترتيب القراءة ونحو ذلك فلا ينافي أنه كان يجلس في كل ركعتين ويسلم لقوله صلى الله عليه وسلم: صلاة الليل مثنى مثنى ومحال أن يأمر بشيء ويفعل خلافه، وإلى هذا ذهب فقهاء الحجاز وجماعة من أهل العراق، وذهب قوم إلى أنّ الأربع لم يكن بينهما سلام، وقال بعضهم: ولا جلوس إلا في آخرها، ويرد عليه أن في رواية عروة عن عائشة أنه صلى الله عليه وسلم كان يسلم من كل ركعتين ذكره في التمهيد اهـ.

( ثُمَّ يُصَلِّي ثَلَاثًا) يوتر منها بواحدة كما في حديثها فوقه والركعتان شفع ( فَقَالَتْ عَائِشَةُ فَقُلْتُ) بفاء العطف على السابق ( يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتَنَامُ قَبْلَ أَنْ تُوتِرَ؟) بهمزة الاستفهام الاستخباري لأنها لم تعرف النوم قبل الوتر لأن أباها كان لا ينام حتى يوتر وكان يوتر أوّل الليل، فكان مقرّرًا عندها أن لا نوم قبل الوتر، فأجابها صلى الله عليه وسلم بأنه ليس كغيره.

( فَقَالَ: يَا عَائِشَةُ إِنَّ عَيْنَيَّ تَنَامَانِ وَلَا يَنَامُ قَلْبِي) لأن القلب إذا قويت حياته لا ينام إذا نام البدن ولا يكون ذلك إلا للأنبياء كما قال صلى الله عليه وسلم: إنا معاشر الأنبياء تنام أعيننا ولا تنام قلوبنا ولذا قال ابن عباس وغيره من العلماء: رؤيا الأنبياء وحي ولو سلط النوم على قلوبهم كانت رؤياهم كرؤيا من سواهم، ولذا كان صلى الله عليه وسلم ينام حتى ينفخ ويسمع غطيطه ثم يصلي ولا يتوضأ لأن الوضوء إنما يجب بغلبة النوم على القلب لا على العين ولا يعارض نومه بالوادي لأن رؤية الفجر متعلق بالعين لا بالقلب كما مرّ مبسوطًا.

قال ابن عبد البر: في هذا الحديث تقديم وتأخير لأن السؤال بعد ذكر الوتر ومعناه أنه كان ينام قبل صلاته، وهذا يدل على أنه كان يقوم ثم ينام ثم يقوم ثم ينام ثم يقوم فيوتر، ولذا جاء الحديث أربعًا ثم أربعًا ثم ثلاثًا أظن ذلك والله أعلم من أجل أنه كان ينام بينهنّ فقالت أربعًا ثم أربعًا تعني بعد نوم ثم ثلاث بعد نوم، ولذا قالت: أتنام قبل أن توتر؟ وقد قالت أمّ سلمة كان يصلي ثم ينام قدر ما صلى ثم يصلي قدر ما ينام ثم ينام قدر ما صلى الحديث.
يعني فهذا شاهد لحمل خبر عائشة على ما ذكر.

وأخرجه البخاري في الصلاة عن عبد الله بن يوسف، وفي الصوم عن إسماعيل، وفي الصفة النبوية عن القعنبي، ومسلم عن يحيى وأصحاب السنن الثلاثة عن قتيبة، ومن طريق ابن القاسم وابن مهدي والترمذي من طريق معن الثمانية عن مالك به.

( مَالِكٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي بِاللَّيْلِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً) ظاهره يخالف ما قبله من رواية أبي سلمة عنها ما كان يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة، فيحتمل أنها أضافت إلى صلاة الليل سنة العشاء لأنه كان يصليها في بيته أو ما كان يفتتح به صلاة الليل كما في مسلم من طريق سعد بن هشام عنها أنه كان يفتتحها بركعتين خفيفتين، وهذا أرجح في نظري لأن رواية أبي سلمة الدالة على الحصر جاء في صفتها يصلي أربعًا ثم أربعًا ثم ثلاثًا فدل على أنها لم تتعرض للركعتين الخفيفتين وتعرضت لهما هنا في رواية عروة والزيادة من الحافظ مقبولة.

وفي الصحيح عن مسروق سئلت عائشة عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالليل؟ فقالت: سبعًا وتسعًا وإحدى عشرة سوى ركعتي الفجر، ومرادها أن ذلك وقع منه في أوقات مختلفة فتارة سبعًا وتارة إلى آخره، ورواية القاسم عنها في الصحيحين كان يصلي ثلاث عشرة ركعة منها الوتر وركعتا الفجر محمولة على أن ذلك كان غالب حاله وبهذا يجمع بين الروايات.

قال القرطبي: أشكلت روايات عائشة على كثير من العلماء حتى نسب بعضهم حديثها إلى الاضطراب، وهذا إنما يتم لو كان الراوي عنها واحدًا وأخبرت عن وقت واحد والصواب أن كل شيء ذكرته من ذلك محمول على أوقات متعدّدة وأحوال مختلفة بحسب النشاط وبيان الجواز ذكره في فتح الباري.

وقال الباجي: ذكر بعض من لم يتأمّل أن رواية عائشة اضطربت في الحج والرضاع وصلاة النبي صلى الله عليه وسلم بالليل وقصر الصلاة في السفر قال: وهذا غلط ممن قاله فقد أجمع العلماء على أنها أحفظ الصحابة أي من أحفظهم فكيف بغيرهم، وإنما حمله على هذا قلة معرفته بمعاني الكلام ووجوه التأويل، فإن الحديث الأوّل إخبار عن صلاته المعتادة غالبًا والثاني إخبار عن زيادة وقعت في بعض الأوقات أو ضمت ما كان يفتتح به صلاته من ركعتين خفيفتين قبل الإحدى عشرة.

وقال ابن عبد البر: ذكر قوم من رواة هذا الحديث عن هشام أنه كان يوتر ذلك بخمس لا يجلس في شيء من الخمس ركعات إلا في آخرهنّ رواه حماد بن سلمة وأبو عوانة ووهيب وغيرهم، وأكثر الحفاظ رووه عن هشام كما رواه مالك والرواية المخالفة له إنما حدّث بها عن هشام أهل العراق وما حدّث به هشام قبل خروجه إلى العراق أصح عندهم.

( ثُمَّ يُصَلِّي إِذَا سَمِعَ النِّدَاءَ) أي الأذان ( بِالصُّبْحِ رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ) رغيبتي الفجر، وفي رواية عمرة عن عائشة حتى إني لأقول هل قرأ بأمّ الكتاب أم لا.
واختلف في حكمة تخفيفهما فقيل ليبادر إلى صلاة الصبح في أوّل الوقت، وبه جزم القرطبي وقيل ليستفتح صلاة النهار بركعتين خفيفتين كما كان يصنع في صلاة الليل ليدخل في الفرض أو ما شابهه في الفضل بنشاط واستعداد تام والله أعلم.

وهذا الحديث رواه البخاري عن عبد الله بن يوسف، وأبو داود عن القعنبي والثلاثة عن قتيبة ثلاثتهم عن مالك به.

( مَالِكٍ عَنْ مَخْرَمَةَ) بإسكان الخاء وفتح غيرها ( بْنِ سُلَيْمَانَ) الأسدي الوالبي بكسر اللام والموحدة المدني روى عن ابن الزبير وأسماء بنت أبي بكر وعدّة وعنه جماعة وثقه ابن معين وغيره.
قال الواقدي: قتلته الحرورية بقديد سنة ثلاثين ومائة وهو ابن سبعين سنة.

( عَنْ كُرَيْبٍ) بضم الكاف وفتح الراء ابن أبي مسلم الهاشمي مولاهم المدني يكنى بأبي رشدين ( مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ) عن مولاه وابن عمر وزيد بن ثابت وأسامة وعائشة وميمونة وأم سلمة، وعنه ابناه رشدين ومحمد وبكير بن الأشج ومكحول وموسى بن عقبة وآخرون، وثقه ابن معين وابن سعد والنسائي واحتج به الجماعة مات سنة ثمان وتسعين.

( أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ) الحبر واسع العلم فقهًا وحديثًا وعربية وأنسابًا وشعرًا وتفسيرًا.
روى الطبراني عنه دعاني صلى الله عليه وسلم فقال: نعم ترجمان القرآن أنت دعاك جبريل مرتين وعنه وضع صلى الله عليه وسلم يده على كتفي أو منكبي ثم قال: اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل.
رواه أحمد والطبراني برجال الصحيح، وعنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وضع يده على صدره فوجد بردها في صدره ثم قال: اللهم احش جوفه علمًا وحلمًا وعنه ضمني صلى الله عليه وسلم إلى صدره وقال: اللهم علمه الحكمة وفي رواية الكتاب رواهما البخاري.

( أَخْبَرَهُ أَنَّهُ بَاتَ لَيْلَةً عِنْدَ مَيْمُونَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهِيَ خَالَتُهُ) زاد شريك بن أبي نمر عن كريب عند مسلم فرقبت رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف يصلي.
زاد أبو عوانة من هذا الوجه بالليل، ولمسلم من طريق عطاء عن ابن عباس قال: بعثني العباس إلى النبي صلى الله عليه وسلم، زاد النسائي من طريق حبيب بن أبي ثابت عن كريب في إبل أعطاه إياها من الصدقة أي صدقة التطوّع أو ليتولى صرفه في مصالح غيره ممن يحل له أخذ ذلك، وإلاّ فالعباس هاشمي لا يعطى صدقة الفرض، ولأبي عوانة عن عليّ بن عبد الله بن عباس عن أبيه أن العباس بعثه إلى النبي صلى الله عليه وسلم في حاجة قال: فوجدته جالسًا في المسجد فلم أستطع أن أكلمه، فلما صلى المغرب قام فركع حتى أذن المؤذنون بصلاة العشاء، ولابن خزيمة عن طلحة بن نافع عنه كان صلى الله عليه وسلم وعد العباس ذودًا من الإبل فبعثني إليه بعد العشاء وكان في بيت ميمونة، وهذا يخالف ما قبله ويجمع بأنه لما لم يكلمه في المسجد عاد إليه بعد العشاء، وفيه جواز تقاضي الوعد وإن كان من وعد به مقطوعًا بوفائه.
ولمحمد بن نصر من طريق محمد بن الوليد عن كريب فقال لي: يا بني بت الليلة عندنا.
وفي رواية حبيب المذكورة فقلت: لأنام حتى أنظر إلى ما يصنع رسول الله صلى الله عليه وسلم أي في صلاة الليل، ولمسلم عن الضحاك بن عثمان عن مخرمة فقلت لميمونة: إذا قام صلى الله عليه وسلم فأيقظيني فكأنه عزم في نفسه على السهر ليطلع على الكيفية التي أرادها ثم خشي أن يغلبه النوم فوصى ميمونة أن توقظه وفيه فضل ابن عباس وقوّة فهمه وحرصه على تعليم أمر الدين وحسن تأنيه في ذلك.

( قَالَ: فَاضْطَجَعْتُ) أي وضعت جنبي بالأرض ( فِي عَرْضِ) بفتح العين على المشهور وبضمها أيضًا، وأنكره الباجي نقلاً ومعنى قال: لأن العرض هو الجانب وهو لفظ مشترك، وردّه العسقلاني بأنه لما قال في طولها تعين المراد وقد صحت به الرواية فلا وجه للإنكار ( الْوِسَادَةِ) ما يوضع عليه الرأس للنوم ولمحمد بن نصر وسادة من أدم حشوها ليف ( وَاضْطَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَهْلُهُ فِي طُولِهَا) أي الوسادة.

قال ابن عبد البر: كان ابن عباس والله أعلم مضطجعًا عند أرجلهما أو عند رأسهما.
وقال الباجي: هذا ليس بالبين لأنه لو كان كذلك لقال توسدت عرضها وقوله فاضطجعت في عرض يقتضي أن العرض محل لاضطجاعه، وفي رواية طلحة بن نافع عند ابن خزيمة ثم دخل مع امرأته في فراشها وكانت ليلتئذ حائضًا وفيه مبيت الصغير عند محرمه وإن كان زوجها عندها والاضطجاع مع الحائض وترك الاحتشام في ذلك بحضرة الصغير وإن كان مميزًا بل مراهقًا.
وللبخاري في التفسير ومسلم من رواية شريك عن كريب فتحدّث صلى الله عليه وسلم مع أهله ساعة، ولأبي زرعة الرازي في العلل عن ابن عباس أتيت خالتي ميمونة فقلت: إني أريد أن أبيت عندكم.
فقالت: كيف تبيت وإنما الفراش واحد.
فقلت: لا حاجة لي بفراشكم أفرش نصف إزاري، وأما الوسادة فإني أضع رأسي مع رأسكما من وراء الوسادة، فجاء صلى الله عليه وسلم فحدّثته ميمونة بما قلت فقال: هذا شيخ قريش.

( فَنَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى إِذَا انْتَصَفَ اللَّيْلُ أَوْ قَبْلَهُ بِقَلِيلٍ أَوْ بَعْدَهُ بِقَلِيلٍ) قال ابن عبد البر: فيه التحرّي في الألفاظ وفي المعاني، وللبخاري عن القعنبي عن مالك حتى انتصف الليل أو قريبًا منه، وله عن شريك عن كريب الجزم بثلث الليل الأخير.
قال الحافظ: ويجمع بينهما بأن الاستيقاظ وقع مرتين.
في الأولى نظر إلى السماء.
ثم تلا الآيات ثم عاد لمضجعه فنام، وفي الثانية أعاد ذلك ثم توضأ وصلى وبين ذلك محمد بن الوليد في روايته المذكورة، وفي رواية الثوري عن سلمة بن كهيل عن كريب في الصحيحين فقام من الليل فأتى حاجته ثم غسل وجهه ويديه ثم نام ثم قام فأتى القربة الحديث.
وفي رواية سعيد بن مسروق عن سلمة عند مسلم ثم قام قومة أخرى.
وعنده من رواية شعبة عن سلمة: فبال بدل فأتى حاجته.

( اسْتَيْقَظَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) إن جعلت إذا ظرفية فقبله ظرف لاستيقظ أي استيقظ وقت الانتصاف أو قبله وإن جعلت شرطية فمتعلق بفعل مقدر واستيقظ جواب الشرط أي حتى إذا انتصف الليل أو كان قبله أو بعده استيقظ ( فَجَلَسَ) حال كونه ( يَمْسَحُ النَّوْمَ عَنْ وَجْهِهِ) قال الباجي: يحتمل أنه أراد إزالة النوم وأنه أراد إزالة الكسل بمسح الوجه ( بِيَدِهِ) بالإفراد أي يمسح بيده عينيه من إطلاق اسم الحال على المحل لأن المسح إنما يقع على العين والنوم لا يمسح، أو المراد يمسح أثر النوم من إطلاق السبب على المسبب قاله الحافظ.
وتعقب بأن أثر النوم من النوم لأنه نفسه ورد بأن الأثر غير المؤثر فالمراد هنا ارتخاء الجفون من النوم ونحوه.

( ثُمَّ قَرَأَ) صلى الله عليه وسلم ( الْعَشْرَ الْآيَاتِ) من إضافة الصفة للموصوف واللام تدخل في العدد المضاف نحو الثلاثة الأثواب ( الْخَوَاتِمَ) بالنصب صفة العشر ( مِنْ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ) أوّلها { { إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } } إلى آخر السورة.

قال الباجي: يحتمل أن ذلك ليبتدئ يقظته بذكر الله كما ختمها بذكره عند نومه، ويحتمل أن ذلك ليتذكر ما ندب إليه من العبادة وما وعد على ذلك من الثواب، فإنّ هذه الآيات جامعة لكثير من ذلك ليكون تنشيطًا له على العبادة.

قال ابن عبد البر: فيه قراءة القرآن على غير وضوء ولا خلاف فيه وقد قال علي: كان صلى الله عليه وسلم لا يحجزه عن قراءة القرآن إلا الجنابة وعليه جمهور العلماء، وشذ قوم فأجازوا قراءته للجنب وهم محجوجون بالسنة.

وقال ابن بطال: فيه دليل على من كره قراءة القرآن على غير طهارة لأنه صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآيات بعد قيامه من النوم قبل أن يتوضأ، وتعقبه ابن المنير وغيره بأن ذلك مفرع على أن نومه ناقض وليس كذلك لقوله: إن عينيّ تنامان ولا ينام قلبي وأما وضوءه عقبه فلعله تجديد أو أحدث بعد ذلك فتوضأ.

قال الحافظ: وهو تعقب جيد بالنسبة إلى قول ابن بطال بعد قيامه من النوم لأنه لم يتعين أنه أحدث في النوم، لكن لما عقب ذلك بالوضوء كان ظاهرًا في أنه أحدث ولا يلزم من كون نومه لا ينقض وضوءه أن لا يقع منه حدث وهو نائم.
نعم خصوصيته أنه إن وقع شعر به بخلاف غيره وما ادّعوه من التجديد وغيره.
الأصل عدمه وقد سبق الإسماعيلي إلى معنى ما ذكر ابن المنير.

( ثُمَّ قَامَ إِلَى شَنٍّ مُعَلَّقٍ) بفتح الشين المعجمة وشدّ النون قربة خلقة من أدم وذكر الوصف باعتبار لفظه أو الأدم أو الجلد أو السقاء أو الوعاء.
وفي رواية للبخاري من هذا الوجه معلقة بتأنيث الوصف لإرادة القربة ( فَتَوَضَّأَ مِنْهُ) أي الشن.
وللبخاري منها أي القربة ولمحمد بن نصر من طريق محمد بن الوليد عن كريب، ثم استفرغ من الشن في إناء ثم توضأ وفيه جواز الاغتراف من الماء القليل لأن الإناء المذكور كان قصعة أو صحفة ( فَأَحْسَنَ وُضُوءَهُ) أي أتمه بأن أتى بمندوباته.
ولابن خزيمة ومحمد بن نصر فأسبغ الوضوء، وللبخاري من رواية عمرو بن دينار عن كريب فتوضأ وضوءًا خفيفًا، ويجمع بينهما برواية الثوري في الصحيحين فتوضأ وضوءًا بين وضوءين لم يكثر وقد أبلغ، ولمسلم فأسبغ الوضوء ولم يمس من الماء إلا قليلاً وزاد فيها فتسوّك.

( ثُمَّ قَامَ يُصَلِّي) ولمحمد بن نصر ثم أخذ بردًا له حضرميًا فتوشحه ثم دخل البيت فقام يصلي ( قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَقُمْتُ فَصَنَعْتُ مِثْلَ مَا صَنَعَ) يقتضي أنه صنع جميع ما ذكر من القول والنظر والوضوء والسواك والتوشح، ويحتمل أن يحمل على الأغلب إذ لا يلزم من إطلاق المثلية المساواة من كل جهة، وزاد سلمة عن كريب في الدعوات من البخاري في أوّل الحديث فقمت فتمطيت كراهة أن يرى أني كنت أرقبه، وكأنه خشي أن يترك بعض عمله لما جرى من عادته صلى الله عليه وسلم أنه كان يترك بعض العمل خشية أن يفرض على أمته.

( ثُمَّ ذَهَبْتُ فَقُمْتُ إِلَى جَنْبِهِ) أي الأيسر وظاهره المساواة ( فَوَضَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى رَأْسِي) قال ابن عبد البر: يعني أنه أداره فجعله عن يمينه، وهذا ذكره أكثر الرواة في هذا الحديث ولم يذكره مالك، وفي مسلم فقمت عن يساره فأدارني من خلفه حتى جعلني عن يمينه ( وَأَخَذَ بِأُذُنِي) بضم الهمزة والمعجمة ( الْيُمْنَى) حال كونه ( يَفْتِلُهَا) أي يدلكها.
زاد محمد بن نصر: فعرفت أنه إنما صنع ذلك ليؤنسني بيده في ظلمة الليل، ولمسلم فجعلت إذا أغفيت أخذ بشحمة أذني، وفي هذا رد على من زعم أن أخذ الأذن إنما كان حال إدارته له من اليسار إلى اليمين متمسكا برواية للبخاري في التفسير بلفظ: فأخذ بأذني فأدارني عن يمينه، لكن لا يلزم من إدارته على هذه الصفة أن لا يعود إلى مسك أذنه لما ذكر من تأنيسه وإيقاظه لأنّ حاله يقتضي ذلك لصغر سنه، وفيه جواز فتل أذن الصغير لتأنيسه وإيقاظه، وقد قيل: إنّ المتعلم إذا تعوهد فتل أذنه كان أدعى لفهمه وفيه أن قليل العمل في الصلاة لا يفسدها.

( فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ) ذكرها ست مرات، فالجملة ثنتا عشرة ركعة، وظاهره أنه فصل بين كل ركعتين.
وبه صرح في رواية طلحة بن نافع عن ابن عباس عند ابن خزيمة قال: يسلم من كل ركعتين، ولمسلم من رواية علي بن عبد الله بن عباس التصريح بالفصل أيضًا، وأنه استاك بين كل ركعتين إلى غير ذلك.

( ثُمَّ أَوْتَرَ) بواحدة، وللبخاري فتتامّت ولمسلم فتكاملت صلاته ثلاث عشرة ركعة.
وللبخاري أيضًا من وجه آخر عن كريب فصلى ثلاث عشرة ركعة ( ثُمَّ اضْطَجَعَ حَتَّى أَتَاهُ الْمُؤَذِّنُ) بلال كما في رواية للبخاري وله في أخرى ثم اضطجع فنام حتى نفخ ثم قام ( فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ) الفجر قبل الصبح ( ثُمَّ خَرَجَ) من الحجرة إلى المسجد ( فَصَلَّى الصُّبْحَ) بالجماعة.
واتفق أكثر أصحاب كريب على أنه صلى ثلاث عشرة ركعة وركعتي الفجر، وفي رواية شريك عنه عند البخاري فصلى إحدى عشرة ركعة ثم أذن بلال فصلى ركعتين ثم خرج، فخالف شريك الأكثر وروايتهم مقدمة على روايته لما معهم من الزيادة ولكونهم أحفظ منه، وحمل بعضهم الزيادة على الركعتين بعد العشاء وبعده لا يخفى، لا سيما مع رواية حديث الباب وحمله على أنه أخرهما حتى استيقظ يعكر عليه رواية المنهال الآتية قريبًا.

واختلف على سعيد بن جبير أيضًا فللبخاري في التفسير من طريق الحكم عنه فصلى أربع ركعات ثم نام ثم صلى خمس ركعات، وحمل محمد بن نصر هذه الأربعة على سنة العشاء لوقوعها قبل النوم يعكر عليه ما رواه هو من طريق المنهال بن عمرو عن عليّ بن عبد الله بن عباس بلفظ: فصلى العشاء ثم صلى أربع ركعات بعدها حتى لم يبق في المسجد غيره ثم انصرف، فإنه يقتضي أنه صلى الأربع في المسجد لا في البيت.

ورواية ابن جبير أيضًا تقتضي الاقتصار على خمس ركعات بعد النوم وفيه نظر، وظهر لي من رواية أخرى ما يرفع الإشكال ويوضح أن رواية الحكم وقع فيها تقصير، فعند النسائي من طريق يحيى بن عباد عن سعيد بن جبير فصلى ركعتين ركعتين حتى صلى ثمان ركعات ثم أوتر بخمس لم يجلس بينهن، فبهذا يجمع بين روايتي سعيد وكريب، وأما ما فيهما من الفصل والوصل فرواية سعيد صريحة في الوصل.

ورواية كريب محتملة فتحمل على رواية سعيد وقوله في رواية طلحة بن نافع يسلم من كل ركعتين يحتمل تخصيصه بالثمان فيوافق رواية سعيد ويوافقه رواية يحيى الجزار الآتية، ولم أر في شيء من طريق حديث ابن عباس ما يخالف ذلك لأن أكثر الرواة عنه لم يذكروا عددًا ومن ذكر العدد منهم لم يزد على ثلاث عشرة ولم ينقص عن إحدى عشرة إلا أن في رواية علي بن عبد الله بن عباس عند مسلم ما يخالفهم فإنّ فيه: فصلى ركعتين أطال فيهما ثم انصرف فنام حتى نفخ ففعل ذلك ثلاث مرات بست ركعات كل ذلك يستاك ويتوضأ ويقرأ هؤلاء الآيات يعني آخر آل عمران، ثم أوتر بثلاث فأذن المؤذن فخرج إلى الصلاة فزاد على الرواة تكرار الوضوء وما معه ونقص عنهم ركعتين أو أربعًا ولم يذكر ركعتي الفجر أيضًا، وأظن ذلك من الراوي عنه حبيب بن أبي ثابت فإن فيه مقالاً، وقد اختلف عليه في إسناده ومتنه، ويحتمل أنه لم يذكر الأربع كما لم يذكر الحكم الثمان كما تقدم، وأما الفجر فقد ثبت ذكره في طريق أخرى عن علي بن عبد الله عند أبي داود.

والحاصل أن قصة مبيت ابن عباس يغلب على الظن اتحادها فينبغي الاعتناء بالجمع بين مختلف الروايات فيها ولا شك أن الأخذ بما اتفق عليه الأكثر والأحفظ أولى مما خالفهم فيه من هو دونهم، ولا سيما إن زاد أو نقص والمحقق من عدد صلاته تلك الليلة إحدى عشرة.
وأما رواية ثلاث عشرة فيحتمل أن تكون سنة العشاء ويوافق ذلك رواية أبي جمرة عن ابن عباس عند البخاري: كانت صلاة النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث عشرة يعني بالليل ولم يبين هل سنة الفجر منها أو لا.
وبينها يحيى الجزار عن ابن عباس عند النسائي بلفظ: كان يصلي ثمان ركعات ويوتر بثلاث ويصلي ركعتين قبل صلاة الصبح ولا يعكر على هذا الجمع إلا ظاهر سياق حديث الباب فيمكن حمل قوله: صلى ركعتين ثم ركعتين أي قبل أن ينام ويكون منها سنة العشاء، وقوله: ثم ركعتين إلخ أي: بعد أن قام.

وجمع الكرماني بين مختلف روايات قصة ابن عباس هذه باحتمال أن بعض رواته ذكر القدر الذي اقتدى ابن عباس به وفصله عما لم يقتد به فيه وبعضهم ذكر الجميع مجملاً كذا في فتح الباري.
ولا يخفى ما في جمعه هو من التكلف البعيد والله أعلم.

والحديث أخرجه البخاري عن إسماعيل وعن القعنبي وقتيبة والتنيسي، ومن طريق معن وعبد الرحمن بن مهدي ومسلم عن يحيى السبعة عن مالك به.

( مَالِكٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ) بن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري المدني قاضيها الثقة المتوفى سنة خمس وثلاثين ومائة وله سبعون سنة ( عَنْ أَبِيهِ) أبي بكر اسمه وكنيته واحد، وقيل يكنى أبا محمد ثقة عابد تقدّما غير مرة ( أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ قَيْسِ بْنِ مَخْرَمَةَ) بفتح الميم وإسكان الخاء المعجمة وفتح الراء والميم الثانية ابن المطلب بن عبد مناف المطلبي قال العسكري: أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم، وذكره ابن أبي خيثمة والبغوي وابن شاهين في الصحابة، وذكره البخاري وابن أبي حاتم وابن حبان في كبار التابعين وأبوه صحابي، روى هو عن أبيه وزيد بن خالد وأبي هريرة وابن عمر، وعنه ابناه محمد والمطلب وإسحاق بن يسار والد محمد صاحب السيرة، وثقه النسائي وعمل لعبد الملك بن مروان على العراق واستقضاه الحجاج على المدينة سنة ثلاث وسبعين ومات سنة ست وسبعين.

( أَخْبَرَهُ عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ) المدني صحابي شهير مات بالكوفة سنة ثمان وستين أو سبعين وله خمس وثمانون سنة ( أَنَّهُ قَالَ:) هذا هو الصواب، ووقع في رواية أبي أويس عن عبد الله بن أبي بكر عن أبيه أن عبد الله بن قيس قال لأرمقنّ رواه ابن أبي خيثمة وهو خطأ وأبو أويس كثير الوهم فسقط منه الصحابي وسماع أبي أويس كان مع مالك، فالعمدة على رواية مالك وهي الصواب، وقد أخرجه مسلم وأصحاب السنن من طريق مالك بهذا الإسناد عن زيد بن خالد أنه قال: ( لَأَرْمُقَنَّ) بفتح الهمزة وإسكان الراء وضم الميم وفتح القاف والنون الثقيلة وأصله النظر إلى الشيء شزرًا نظر العداوة واستعير هنا لمطلق النظر وعدل عن الماضي فلم يقل رمقت استحضارًا لتلك الحالة الماضية ليقرّرها للسامع أبلغ تقرير أي لأنظرنّ ( اللَّيْلَةَ صَلَاةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: فَتَوَسَّدْتُ عَتَبَتَهُ) أي عتبة بابه أي جعلتها كالوسادة بوضع رأسي عليها ( أَوْ فُسْطَاطَهُ) بضم الفاء وكسرها بيت من الشعر.
قال الباجي: والخبر بالتفسير الأوّل أشبه ويحتمل أن ذلك شك من الراوي، وقال غيره: هو محمول على أن ذلك حين سمعه قام يصلي لا قبل ذلك لأنه من التجسس المنهي عنه وأما ترقبه للصلاة فمحمود.

( فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ طَوِيلَتَيْنِ طَوِيلَتَيْنِ طَوِيلَتَيْنِ) كذا في رواية يحيى ثلاثًا وسائر أصحاب الموطأ قالوا ذلك مرتين فقط يعني بذلك المبالغة في طولهما كذا قال الباجي، والذي قاله أبو عمر بن عبد البر إن يحيى قال طويلتين مرتين وغيره يقول ثلاث مرات وهو الصواب فإنه في رواية مسلم وغيره من طريق مالك ثلاثًا.

( ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ وَهُمَا دُونَ اللَّتَيْنِ قَبْلَهُمَا) يعني في الطول.
قال ابن عبد البر: لم يتابع يحيى على هذا أحد من الرواة والذي في الموطأ عند جميعهم فصلى ركعتين خفيفتين ثم صلى ركعتين طويلتين طويلتين طويلتين، فأسقط يحيى ذكر الركعتين الخفيفتين وذلك خطأ واضح لأن المحفوظ عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث زيد بن خالد وغيره كعائشة أنه كان يفتتح صلاة الليل بركعتين خفيفتين.
وقال أيضًا: طويلتين مرتين وغيره يقول ثلاث مرات فوهم يحيى في الموضعين وذلك مما عدّ عليه من سقطه وغلطه والغلط لا يسلم منه أحد.

( ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ وَهُمَا دُونَ اللَّتَيْنِ قَبْلَهُمَا) في الطول ( ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ وَهُمَا دُونَ اللَّتَيْنِ قَبْلَهُمَا ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ وَهُمَا دُونَ اللَّتَيْنِ قَبْلَهُمَا ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ وَهُمَا دُونَ اللَّتَيْنِ قَبْلَهُمَا) فذكرهما ست مرات أولاهما خفيفتين على الصواب ثم التالية أطولها ثم الأربع التي بعدها كل ركعتين أقصر مما قبلهما ( ثُمَّ أَوْتَرَ) بواحدة ( فَتِلْكَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً) ذكر ذلك مع استفادته من العدّ لئلا يسقط ركعتان مثلاً.

والحديث رواه مسلم والترمذي والنسائي عن قتيبة، وأبو داود عن القعنبي والترمذي أيضًا من طريق معن وابن ماجه من طريق عبد الله بن نافع أربعتهم عن مالك به كلهم مثل رواية الجمهور عنه إلا أنه لم يقع عند مسلم قوله فتوسدت عتبته أو فسطاطه.



رقم الحديث 270 وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي بِاللَّيْلِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً ثُمَّ يُصَلِّي إِذَا سَمِعَ النِّدَاءَ بِالصُّبْحِ رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ.


( مَالِكٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً) زاد يونس والأوزاعي وابن أبي ذئب عن الزهري بإسناده يسلم من كل ركعتين ( يُوتِرُ مِنْهَا بِوَاحِدَةٍ فَإِذَا فَرَغَ اضْطَجَعَ عَلَى شِقِّهِ الْأَيْمَنِ) للاستراحة من طول القيام هكذا اتفق عليه رواة الموطأ.

وأما أصحاب ابن شهاب فرووا هذا الحديث عنه بإسناده فجعلوا الاضطجاع بعد ركعتي الفجر لا بعد الوتر فقالوا: فإذا تبين له الفجر وجاءه المؤذن ركع ركعتين خفيفتين ثم اضطجع على شقه الأيمن حتى يأتيه المؤذن للإقامة.
وزعم محمد بن يحيى الذهلي بذال ولام وغيره أنه الصواب دون رواية مالك، ورده ابن عبد البر بأنه لا يدفع ما قاله مالك لموضعه من الحفظ والإتقان ولثبوته في ابن شهاب وعلمه بحديثه، وقد قال يحيى بن معين إذا اختلف أصحاب ابن شهاب فالقول ما قال مالك فهو أثبتهم فيه وأحفظهم لحديثه، ويحتمل أن يضطجع مرة كذا ومرة كذا، ولرواية مالك شاهد وهو حديث ابن عباس الآتي أن اضطجاعه كان بعد الوتر وقبل ركعتي الفجر فلا ينكر أن يحفظ ذلك مالك في حديث ابن شهاب وإن لم يتابع عليه انتهى أي لأنه إمام متقن حافظ فلا يضره التفرد.

وقد أخرجه الترمذي من طريق معن عن مالك وقال: حسن صحيح ومسلم عن يحيى عن مالك به، وزاد: حتى يأتيه المؤذن فيصلي ركعتين خفيفتين يعني ركعتي الفجر.
ثم روى بعده من طريق عمرو بن الحارث ويونس عن ابن شهاب بسنده وفيه: أن الاضطجاع بعد ركعتي الفجر فأشار إلى أن الروايتين محفوظتان لأن شرط الشذوذ تعذر الجمع وقد أمكن بما قال أبو عمر مرة كذا ومرة كذا وبأنه لا يلزم من ذكر الاضطجاع في أحد الوقتين نفي الآخر فكان يفعله قبل وبعد، ورجح هذا بأنه لم يثبت ترك الاضطجاع.

( مَالِكٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ) كيسان ( الْمَقْبُرِيِّ) بفتح الميم وسكون القاف وضم الموحدة وفتحها نسبة إلى المقبرة لأنه كان مجاورًا لها ( عَنْ أَبِي سَلَمَةَ) إسماعيل أو عبد الله أو اسمه كنيته ( بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ) الزهري التابعي ابن الصحابي ( أَنَّهُ سَأَلَ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَيْفَ كَانَتْ صَلَاةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رَمَضَانَ؟ فَقَالَتْ: مَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَزِيدُ فِي رَمَضَانَ وَلَا فِي غَيْرِهِ عَلَى إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً) أي غير ركعتي الفجر كما في رواية القاسم عنها وفيه: أن صلاته كانت متساوية في جميع السنة، ولا ينافي ذلك حديثها كان صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر يتهجد فيه ما لا يتهجد في غيره لأنه يحمل على التطويل في الركعات دون الزيادة في العدد وما رواه ابن أبي شيبة عن ابن عباس كان صلى الله عليه وسلم يصلي في رمضان عشرين ركعة والوتر فإسناده ضعيف، وقد عارضه هذا الحديث الصحيح مع كون عائشة أعلم بحال النبي صلى الله عليه وسلم ليلاً من غيرها.

قال الحافظ: وظهر لي أنّ الحكمة في عدم الزيادة على إحدى عشرة ركعة أن التهجد والوتر مختص بصلاة الليل وفرائض النهار الظهر وهي أربع والعصر وهي أربع والمغرب وهي ثلاث وتر النهار، فناسب أن تكون صلاة الليل كصلاة النهار في العدد جملة وتفصيلاً، وأما مناسبة ثلاثة عشر فبضم صلاة الصبح لكونها نهارية إلى ما بعدها انتهى.

وتعقب بأن الصبح نهارية لقوله تعالى: { { وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأسْوَدِ } } والمغرب ليلية لحديث: إذا أقبل الليل من ههنا فقد أفطر الصائم ويرد بقوله صلى الله عليه وسلم صلاة المغرب وتر النهار فأوتروا صلاة الليل إسناده صحيح كما قاله الحافظ العراقي فأضيفت إلى النهار لوقوعها عقبه فهي نهارية حكمًا ليلية حقيقة كما يأتي قريبًا.

( يُصَلِّي أَرْبَعًا فَلَا تَسْأَلْ عَنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ) أي إنهنّ في نهاية من كمال الحسن والطول مستغنيات بظهور ذلك عن السؤال عنه ( ثُمَّ يُصَلِّي أَرْبَعًا فَلَا تَسْأَلْ عَنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ) يعني أربعًا في الطول والحسن وترتيب القراءة ونحو ذلك فلا ينافي أنه كان يجلس في كل ركعتين ويسلم لقوله صلى الله عليه وسلم: صلاة الليل مثنى مثنى ومحال أن يأمر بشيء ويفعل خلافه، وإلى هذا ذهب فقهاء الحجاز وجماعة من أهل العراق، وذهب قوم إلى أنّ الأربع لم يكن بينهما سلام، وقال بعضهم: ولا جلوس إلا في آخرها، ويرد عليه أن في رواية عروة عن عائشة أنه صلى الله عليه وسلم كان يسلم من كل ركعتين ذكره في التمهيد اهـ.

( ثُمَّ يُصَلِّي ثَلَاثًا) يوتر منها بواحدة كما في حديثها فوقه والركعتان شفع ( فَقَالَتْ عَائِشَةُ فَقُلْتُ) بفاء العطف على السابق ( يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتَنَامُ قَبْلَ أَنْ تُوتِرَ؟) بهمزة الاستفهام الاستخباري لأنها لم تعرف النوم قبل الوتر لأن أباها كان لا ينام حتى يوتر وكان يوتر أوّل الليل، فكان مقرّرًا عندها أن لا نوم قبل الوتر، فأجابها صلى الله عليه وسلم بأنه ليس كغيره.

( فَقَالَ: يَا عَائِشَةُ إِنَّ عَيْنَيَّ تَنَامَانِ وَلَا يَنَامُ قَلْبِي) لأن القلب إذا قويت حياته لا ينام إذا نام البدن ولا يكون ذلك إلا للأنبياء كما قال صلى الله عليه وسلم: إنا معاشر الأنبياء تنام أعيننا ولا تنام قلوبنا ولذا قال ابن عباس وغيره من العلماء: رؤيا الأنبياء وحي ولو سلط النوم على قلوبهم كانت رؤياهم كرؤيا من سواهم، ولذا كان صلى الله عليه وسلم ينام حتى ينفخ ويسمع غطيطه ثم يصلي ولا يتوضأ لأن الوضوء إنما يجب بغلبة النوم على القلب لا على العين ولا يعارض نومه بالوادي لأن رؤية الفجر متعلق بالعين لا بالقلب كما مرّ مبسوطًا.

قال ابن عبد البر: في هذا الحديث تقديم وتأخير لأن السؤال بعد ذكر الوتر ومعناه أنه كان ينام قبل صلاته، وهذا يدل على أنه كان يقوم ثم ينام ثم يقوم ثم ينام ثم يقوم فيوتر، ولذا جاء الحديث أربعًا ثم أربعًا ثم ثلاثًا أظن ذلك والله أعلم من أجل أنه كان ينام بينهنّ فقالت أربعًا ثم أربعًا تعني بعد نوم ثم ثلاث بعد نوم، ولذا قالت: أتنام قبل أن توتر؟ وقد قالت أمّ سلمة كان يصلي ثم ينام قدر ما صلى ثم يصلي قدر ما ينام ثم ينام قدر ما صلى الحديث.
يعني فهذا شاهد لحمل خبر عائشة على ما ذكر.

وأخرجه البخاري في الصلاة عن عبد الله بن يوسف، وفي الصوم عن إسماعيل، وفي الصفة النبوية عن القعنبي، ومسلم عن يحيى وأصحاب السنن الثلاثة عن قتيبة، ومن طريق ابن القاسم وابن مهدي والترمذي من طريق معن الثمانية عن مالك به.

( مَالِكٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي بِاللَّيْلِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً) ظاهره يخالف ما قبله من رواية أبي سلمة عنها ما كان يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة، فيحتمل أنها أضافت إلى صلاة الليل سنة العشاء لأنه كان يصليها في بيته أو ما كان يفتتح به صلاة الليل كما في مسلم من طريق سعد بن هشام عنها أنه كان يفتتحها بركعتين خفيفتين، وهذا أرجح في نظري لأن رواية أبي سلمة الدالة على الحصر جاء في صفتها يصلي أربعًا ثم أربعًا ثم ثلاثًا فدل على أنها لم تتعرض للركعتين الخفيفتين وتعرضت لهما هنا في رواية عروة والزيادة من الحافظ مقبولة.

وفي الصحيح عن مسروق سئلت عائشة عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالليل؟ فقالت: سبعًا وتسعًا وإحدى عشرة سوى ركعتي الفجر، ومرادها أن ذلك وقع منه في أوقات مختلفة فتارة سبعًا وتارة إلى آخره، ورواية القاسم عنها في الصحيحين كان يصلي ثلاث عشرة ركعة منها الوتر وركعتا الفجر محمولة على أن ذلك كان غالب حاله وبهذا يجمع بين الروايات.

قال القرطبي: أشكلت روايات عائشة على كثير من العلماء حتى نسب بعضهم حديثها إلى الاضطراب، وهذا إنما يتم لو كان الراوي عنها واحدًا وأخبرت عن وقت واحد والصواب أن كل شيء ذكرته من ذلك محمول على أوقات متعدّدة وأحوال مختلفة بحسب النشاط وبيان الجواز ذكره في فتح الباري.

وقال الباجي: ذكر بعض من لم يتأمّل أن رواية عائشة اضطربت في الحج والرضاع وصلاة النبي صلى الله عليه وسلم بالليل وقصر الصلاة في السفر قال: وهذا غلط ممن قاله فقد أجمع العلماء على أنها أحفظ الصحابة أي من أحفظهم فكيف بغيرهم، وإنما حمله على هذا قلة معرفته بمعاني الكلام ووجوه التأويل، فإن الحديث الأوّل إخبار عن صلاته المعتادة غالبًا والثاني إخبار عن زيادة وقعت في بعض الأوقات أو ضمت ما كان يفتتح به صلاته من ركعتين خفيفتين قبل الإحدى عشرة.

وقال ابن عبد البر: ذكر قوم من رواة هذا الحديث عن هشام أنه كان يوتر ذلك بخمس لا يجلس في شيء من الخمس ركعات إلا في آخرهنّ رواه حماد بن سلمة وأبو عوانة ووهيب وغيرهم، وأكثر الحفاظ رووه عن هشام كما رواه مالك والرواية المخالفة له إنما حدّث بها عن هشام أهل العراق وما حدّث به هشام قبل خروجه إلى العراق أصح عندهم.

( ثُمَّ يُصَلِّي إِذَا سَمِعَ النِّدَاءَ) أي الأذان ( بِالصُّبْحِ رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ) رغيبتي الفجر، وفي رواية عمرة عن عائشة حتى إني لأقول هل قرأ بأمّ الكتاب أم لا.
واختلف في حكمة تخفيفهما فقيل ليبادر إلى صلاة الصبح في أوّل الوقت، وبه جزم القرطبي وقيل ليستفتح صلاة النهار بركعتين خفيفتين كما كان يصنع في صلاة الليل ليدخل في الفرض أو ما شابهه في الفضل بنشاط واستعداد تام والله أعلم.

وهذا الحديث رواه البخاري عن عبد الله بن يوسف، وأبو داود عن القعنبي والثلاثة عن قتيبة ثلاثتهم عن مالك به.

( مَالِكٍ عَنْ مَخْرَمَةَ) بإسكان الخاء وفتح غيرها ( بْنِ سُلَيْمَانَ) الأسدي الوالبي بكسر اللام والموحدة المدني روى عن ابن الزبير وأسماء بنت أبي بكر وعدّة وعنه جماعة وثقه ابن معين وغيره.
قال الواقدي: قتلته الحرورية بقديد سنة ثلاثين ومائة وهو ابن سبعين سنة.

( عَنْ كُرَيْبٍ) بضم الكاف وفتح الراء ابن أبي مسلم الهاشمي مولاهم المدني يكنى بأبي رشدين ( مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ) عن مولاه وابن عمر وزيد بن ثابت وأسامة وعائشة وميمونة وأم سلمة، وعنه ابناه رشدين ومحمد وبكير بن الأشج ومكحول وموسى بن عقبة وآخرون، وثقه ابن معين وابن سعد والنسائي واحتج به الجماعة مات سنة ثمان وتسعين.

( أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ) الحبر واسع العلم فقهًا وحديثًا وعربية وأنسابًا وشعرًا وتفسيرًا.
روى الطبراني عنه دعاني صلى الله عليه وسلم فقال: نعم ترجمان القرآن أنت دعاك جبريل مرتين وعنه وضع صلى الله عليه وسلم يده على كتفي أو منكبي ثم قال: اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل.
رواه أحمد والطبراني برجال الصحيح، وعنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وضع يده على صدره فوجد بردها في صدره ثم قال: اللهم احش جوفه علمًا وحلمًا وعنه ضمني صلى الله عليه وسلم إلى صدره وقال: اللهم علمه الحكمة وفي رواية الكتاب رواهما البخاري.

( أَخْبَرَهُ أَنَّهُ بَاتَ لَيْلَةً عِنْدَ مَيْمُونَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهِيَ خَالَتُهُ) زاد شريك بن أبي نمر عن كريب عند مسلم فرقبت رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف يصلي.
زاد أبو عوانة من هذا الوجه بالليل، ولمسلم من طريق عطاء عن ابن عباس قال: بعثني العباس إلى النبي صلى الله عليه وسلم، زاد النسائي من طريق حبيب بن أبي ثابت عن كريب في إبل أعطاه إياها من الصدقة أي صدقة التطوّع أو ليتولى صرفه في مصالح غيره ممن يحل له أخذ ذلك، وإلاّ فالعباس هاشمي لا يعطى صدقة الفرض، ولأبي عوانة عن عليّ بن عبد الله بن عباس عن أبيه أن العباس بعثه إلى النبي صلى الله عليه وسلم في حاجة قال: فوجدته جالسًا في المسجد فلم أستطع أن أكلمه، فلما صلى المغرب قام فركع حتى أذن المؤذنون بصلاة العشاء، ولابن خزيمة عن طلحة بن نافع عنه كان صلى الله عليه وسلم وعد العباس ذودًا من الإبل فبعثني إليه بعد العشاء وكان في بيت ميمونة، وهذا يخالف ما قبله ويجمع بأنه لما لم يكلمه في المسجد عاد إليه بعد العشاء، وفيه جواز تقاضي الوعد وإن كان من وعد به مقطوعًا بوفائه.
ولمحمد بن نصر من طريق محمد بن الوليد عن كريب فقال لي: يا بني بت الليلة عندنا.
وفي رواية حبيب المذكورة فقلت: لأنام حتى أنظر إلى ما يصنع رسول الله صلى الله عليه وسلم أي في صلاة الليل، ولمسلم عن الضحاك بن عثمان عن مخرمة فقلت لميمونة: إذا قام صلى الله عليه وسلم فأيقظيني فكأنه عزم في نفسه على السهر ليطلع على الكيفية التي أرادها ثم خشي أن يغلبه النوم فوصى ميمونة أن توقظه وفيه فضل ابن عباس وقوّة فهمه وحرصه على تعليم أمر الدين وحسن تأنيه في ذلك.

( قَالَ: فَاضْطَجَعْتُ) أي وضعت جنبي بالأرض ( فِي عَرْضِ) بفتح العين على المشهور وبضمها أيضًا، وأنكره الباجي نقلاً ومعنى قال: لأن العرض هو الجانب وهو لفظ مشترك، وردّه العسقلاني بأنه لما قال في طولها تعين المراد وقد صحت به الرواية فلا وجه للإنكار ( الْوِسَادَةِ) ما يوضع عليه الرأس للنوم ولمحمد بن نصر وسادة من أدم حشوها ليف ( وَاضْطَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَهْلُهُ فِي طُولِهَا) أي الوسادة.

قال ابن عبد البر: كان ابن عباس والله أعلم مضطجعًا عند أرجلهما أو عند رأسهما.
وقال الباجي: هذا ليس بالبين لأنه لو كان كذلك لقال توسدت عرضها وقوله فاضطجعت في عرض يقتضي أن العرض محل لاضطجاعه، وفي رواية طلحة بن نافع عند ابن خزيمة ثم دخل مع امرأته في فراشها وكانت ليلتئذ حائضًا وفيه مبيت الصغير عند محرمه وإن كان زوجها عندها والاضطجاع مع الحائض وترك الاحتشام في ذلك بحضرة الصغير وإن كان مميزًا بل مراهقًا.
وللبخاري في التفسير ومسلم من رواية شريك عن كريب فتحدّث صلى الله عليه وسلم مع أهله ساعة، ولأبي زرعة الرازي في العلل عن ابن عباس أتيت خالتي ميمونة فقلت: إني أريد أن أبيت عندكم.
فقالت: كيف تبيت وإنما الفراش واحد.
فقلت: لا حاجة لي بفراشكم أفرش نصف إزاري، وأما الوسادة فإني أضع رأسي مع رأسكما من وراء الوسادة، فجاء صلى الله عليه وسلم فحدّثته ميمونة بما قلت فقال: هذا شيخ قريش.

( فَنَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى إِذَا انْتَصَفَ اللَّيْلُ أَوْ قَبْلَهُ بِقَلِيلٍ أَوْ بَعْدَهُ بِقَلِيلٍ) قال ابن عبد البر: فيه التحرّي في الألفاظ وفي المعاني، وللبخاري عن القعنبي عن مالك حتى انتصف الليل أو قريبًا منه، وله عن شريك عن كريب الجزم بثلث الليل الأخير.
قال الحافظ: ويجمع بينهما بأن الاستيقاظ وقع مرتين.
في الأولى نظر إلى السماء.
ثم تلا الآيات ثم عاد لمضجعه فنام، وفي الثانية أعاد ذلك ثم توضأ وصلى وبين ذلك محمد بن الوليد في روايته المذكورة، وفي رواية الثوري عن سلمة بن كهيل عن كريب في الصحيحين فقام من الليل فأتى حاجته ثم غسل وجهه ويديه ثم نام ثم قام فأتى القربة الحديث.
وفي رواية سعيد بن مسروق عن سلمة عند مسلم ثم قام قومة أخرى.
وعنده من رواية شعبة عن سلمة: فبال بدل فأتى حاجته.

( اسْتَيْقَظَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) إن جعلت إذا ظرفية فقبله ظرف لاستيقظ أي استيقظ وقت الانتصاف أو قبله وإن جعلت شرطية فمتعلق بفعل مقدر واستيقظ جواب الشرط أي حتى إذا انتصف الليل أو كان قبله أو بعده استيقظ ( فَجَلَسَ) حال كونه ( يَمْسَحُ النَّوْمَ عَنْ وَجْهِهِ) قال الباجي: يحتمل أنه أراد إزالة النوم وأنه أراد إزالة الكسل بمسح الوجه ( بِيَدِهِ) بالإفراد أي يمسح بيده عينيه من إطلاق اسم الحال على المحل لأن المسح إنما يقع على العين والنوم لا يمسح، أو المراد يمسح أثر النوم من إطلاق السبب على المسبب قاله الحافظ.
وتعقب بأن أثر النوم من النوم لأنه نفسه ورد بأن الأثر غير المؤثر فالمراد هنا ارتخاء الجفون من النوم ونحوه.

( ثُمَّ قَرَأَ) صلى الله عليه وسلم ( الْعَشْرَ الْآيَاتِ) من إضافة الصفة للموصوف واللام تدخل في العدد المضاف نحو الثلاثة الأثواب ( الْخَوَاتِمَ) بالنصب صفة العشر ( مِنْ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ) أوّلها { { إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } } إلى آخر السورة.

قال الباجي: يحتمل أن ذلك ليبتدئ يقظته بذكر الله كما ختمها بذكره عند نومه، ويحتمل أن ذلك ليتذكر ما ندب إليه من العبادة وما وعد على ذلك من الثواب، فإنّ هذه الآيات جامعة لكثير من ذلك ليكون تنشيطًا له على العبادة.

قال ابن عبد البر: فيه قراءة القرآن على غير وضوء ولا خلاف فيه وقد قال علي: كان صلى الله عليه وسلم لا يحجزه عن قراءة القرآن إلا الجنابة وعليه جمهور العلماء، وشذ قوم فأجازوا قراءته للجنب وهم محجوجون بالسنة.

وقال ابن بطال: فيه دليل على من كره قراءة القرآن على غير طهارة لأنه صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآيات بعد قيامه من النوم قبل أن يتوضأ، وتعقبه ابن المنير وغيره بأن ذلك مفرع على أن نومه ناقض وليس كذلك لقوله: إن عينيّ تنامان ولا ينام قلبي وأما وضوءه عقبه فلعله تجديد أو أحدث بعد ذلك فتوضأ.

قال الحافظ: وهو تعقب جيد بالنسبة إلى قول ابن بطال بعد قيامه من النوم لأنه لم يتعين أنه أحدث في النوم، لكن لما عقب ذلك بالوضوء كان ظاهرًا في أنه أحدث ولا يلزم من كون نومه لا ينقض وضوءه أن لا يقع منه حدث وهو نائم.
نعم خصوصيته أنه إن وقع شعر به بخلاف غيره وما ادّعوه من التجديد وغيره.
الأصل عدمه وقد سبق الإسماعيلي إلى معنى ما ذكر ابن المنير.

( ثُمَّ قَامَ إِلَى شَنٍّ مُعَلَّقٍ) بفتح الشين المعجمة وشدّ النون قربة خلقة من أدم وذكر الوصف باعتبار لفظه أو الأدم أو الجلد أو السقاء أو الوعاء.
وفي رواية للبخاري من هذا الوجه معلقة بتأنيث الوصف لإرادة القربة ( فَتَوَضَّأَ مِنْهُ) أي الشن.
وللبخاري منها أي القربة ولمحمد بن نصر من طريق محمد بن الوليد عن كريب، ثم استفرغ من الشن في إناء ثم توضأ وفيه جواز الاغتراف من الماء القليل لأن الإناء المذكور كان قصعة أو صحفة ( فَأَحْسَنَ وُضُوءَهُ) أي أتمه بأن أتى بمندوباته.
ولابن خزيمة ومحمد بن نصر فأسبغ الوضوء، وللبخاري من رواية عمرو بن دينار عن كريب فتوضأ وضوءًا خفيفًا، ويجمع بينهما برواية الثوري في الصحيحين فتوضأ وضوءًا بين وضوءين لم يكثر وقد أبلغ، ولمسلم فأسبغ الوضوء ولم يمس من الماء إلا قليلاً وزاد فيها فتسوّك.

( ثُمَّ قَامَ يُصَلِّي) ولمحمد بن نصر ثم أخذ بردًا له حضرميًا فتوشحه ثم دخل البيت فقام يصلي ( قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَقُمْتُ فَصَنَعْتُ مِثْلَ مَا صَنَعَ) يقتضي أنه صنع جميع ما ذكر من القول والنظر والوضوء والسواك والتوشح، ويحتمل أن يحمل على الأغلب إذ لا يلزم من إطلاق المثلية المساواة من كل جهة، وزاد سلمة عن كريب في الدعوات من البخاري في أوّل الحديث فقمت فتمطيت كراهة أن يرى أني كنت أرقبه، وكأنه خشي أن يترك بعض عمله لما جرى من عادته صلى الله عليه وسلم أنه كان يترك بعض العمل خشية أن يفرض على أمته.

( ثُمَّ ذَهَبْتُ فَقُمْتُ إِلَى جَنْبِهِ) أي الأيسر وظاهره المساواة ( فَوَضَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى رَأْسِي) قال ابن عبد البر: يعني أنه أداره فجعله عن يمينه، وهذا ذكره أكثر الرواة في هذا الحديث ولم يذكره مالك، وفي مسلم فقمت عن يساره فأدارني من خلفه حتى جعلني عن يمينه ( وَأَخَذَ بِأُذُنِي) بضم الهمزة والمعجمة ( الْيُمْنَى) حال كونه ( يَفْتِلُهَا) أي يدلكها.
زاد محمد بن نصر: فعرفت أنه إنما صنع ذلك ليؤنسني بيده في ظلمة الليل، ولمسلم فجعلت إذا أغفيت أخذ بشحمة أذني، وفي هذا رد على من زعم أن أخذ الأذن إنما كان حال إدارته له من اليسار إلى اليمين متمسكا برواية للبخاري في التفسير بلفظ: فأخذ بأذني فأدارني عن يمينه، لكن لا يلزم من إدارته على هذه الصفة أن لا يعود إلى مسك أذنه لما ذكر من تأنيسه وإيقاظه لأنّ حاله يقتضي ذلك لصغر سنه، وفيه جواز فتل أذن الصغير لتأنيسه وإيقاظه، وقد قيل: إنّ المتعلم إذا تعوهد فتل أذنه كان أدعى لفهمه وفيه أن قليل العمل في الصلاة لا يفسدها.

( فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ) ذكرها ست مرات، فالجملة ثنتا عشرة ركعة، وظاهره أنه فصل بين كل ركعتين.
وبه صرح في رواية طلحة بن نافع عن ابن عباس عند ابن خزيمة قال: يسلم من كل ركعتين، ولمسلم من رواية علي بن عبد الله بن عباس التصريح بالفصل أيضًا، وأنه استاك بين كل ركعتين إلى غير ذلك.

( ثُمَّ أَوْتَرَ) بواحدة، وللبخاري فتتامّت ولمسلم فتكاملت صلاته ثلاث عشرة ركعة.
وللبخاري أيضًا من وجه آخر عن كريب فصلى ثلاث عشرة ركعة ( ثُمَّ اضْطَجَعَ حَتَّى أَتَاهُ الْمُؤَذِّنُ) بلال كما في رواية للبخاري وله في أخرى ثم اضطجع فنام حتى نفخ ثم قام ( فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ) الفجر قبل الصبح ( ثُمَّ خَرَجَ) من الحجرة إلى المسجد ( فَصَلَّى الصُّبْحَ) بالجماعة.
واتفق أكثر أصحاب كريب على أنه صلى ثلاث عشرة ركعة وركعتي الفجر، وفي رواية شريك عنه عند البخاري فصلى إحدى عشرة ركعة ثم أذن بلال فصلى ركعتين ثم خرج، فخالف شريك الأكثر وروايتهم مقدمة على روايته لما معهم من الزيادة ولكونهم أحفظ منه، وحمل بعضهم الزيادة على الركعتين بعد العشاء وبعده لا يخفى، لا سيما مع رواية حديث الباب وحمله على أنه أخرهما حتى استيقظ يعكر عليه رواية المنهال الآتية قريبًا.

واختلف على سعيد بن جبير أيضًا فللبخاري في التفسير من طريق الحكم عنه فصلى أربع ركعات ثم نام ثم صلى خمس ركعات، وحمل محمد بن نصر هذه الأربعة على سنة العشاء لوقوعها قبل النوم يعكر عليه ما رواه هو من طريق المنهال بن عمرو عن عليّ بن عبد الله بن عباس بلفظ: فصلى العشاء ثم صلى أربع ركعات بعدها حتى لم يبق في المسجد غيره ثم انصرف، فإنه يقتضي أنه صلى الأربع في المسجد لا في البيت.

ورواية ابن جبير أيضًا تقتضي الاقتصار على خمس ركعات بعد النوم وفيه نظر، وظهر لي من رواية أخرى ما يرفع الإشكال ويوضح أن رواية الحكم وقع فيها تقصير، فعند النسائي من طريق يحيى بن عباد عن سعيد بن جبير فصلى ركعتين ركعتين حتى صلى ثمان ركعات ثم أوتر بخمس لم يجلس بينهن، فبهذا يجمع بين روايتي سعيد وكريب، وأما ما فيهما من الفصل والوصل فرواية سعيد صريحة في الوصل.

ورواية كريب محتملة فتحمل على رواية سعيد وقوله في رواية طلحة بن نافع يسلم من كل ركعتين يحتمل تخصيصه بالثمان فيوافق رواية سعيد ويوافقه رواية يحيى الجزار الآتية، ولم أر في شيء من طريق حديث ابن عباس ما يخالف ذلك لأن أكثر الرواة عنه لم يذكروا عددًا ومن ذكر العدد منهم لم يزد على ثلاث عشرة ولم ينقص عن إحدى عشرة إلا أن في رواية علي بن عبد الله بن عباس عند مسلم ما يخالفهم فإنّ فيه: فصلى ركعتين أطال فيهما ثم انصرف فنام حتى نفخ ففعل ذلك ثلاث مرات بست ركعات كل ذلك يستاك ويتوضأ ويقرأ هؤلاء الآيات يعني آخر آل عمران، ثم أوتر بثلاث فأذن المؤذن فخرج إلى الصلاة فزاد على الرواة تكرار الوضوء وما معه ونقص عنهم ركعتين أو أربعًا ولم يذكر ركعتي الفجر أيضًا، وأظن ذلك من الراوي عنه حبيب بن أبي ثابت فإن فيه مقالاً، وقد اختلف عليه في إسناده ومتنه، ويحتمل أنه لم يذكر الأربع كما لم يذكر الحكم الثمان كما تقدم، وأما الفجر فقد ثبت ذكره في طريق أخرى عن علي بن عبد الله عند أبي داود.

والحاصل أن قصة مبيت ابن عباس يغلب على الظن اتحادها فينبغي الاعتناء بالجمع بين مختلف الروايات فيها ولا شك أن الأخذ بما اتفق عليه الأكثر والأحفظ أولى مما خالفهم فيه من هو دونهم، ولا سيما إن زاد أو نقص والمحقق من عدد صلاته تلك الليلة إحدى عشرة.
وأما رواية ثلاث عشرة فيحتمل أن تكون سنة العشاء ويوافق ذلك رواية أبي جمرة عن ابن عباس عند البخاري: كانت صلاة النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث عشرة يعني بالليل ولم يبين هل سنة الفجر منها أو لا.
وبينها يحيى الجزار عن ابن عباس عند النسائي بلفظ: كان يصلي ثمان ركعات ويوتر بثلاث ويصلي ركعتين قبل صلاة الصبح ولا يعكر على هذا الجمع إلا ظاهر سياق حديث الباب فيمكن حمل قوله: صلى ركعتين ثم ركعتين أي قبل أن ينام ويكون منها سنة العشاء، وقوله: ثم ركعتين إلخ أي: بعد أن قام.

وجمع الكرماني بين مختلف روايات قصة ابن عباس هذه باحتمال أن بعض رواته ذكر القدر الذي اقتدى ابن عباس به وفصله عما لم يقتد به فيه وبعضهم ذكر الجميع مجملاً كذا في فتح الباري.
ولا يخفى ما في جمعه هو من التكلف البعيد والله أعلم.

والحديث أخرجه البخاري عن إسماعيل وعن القعنبي وقتيبة والتنيسي، ومن طريق معن وعبد الرحمن بن مهدي ومسلم عن يحيى السبعة عن مالك به.

( مَالِكٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ) بن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري المدني قاضيها الثقة المتوفى سنة خمس وثلاثين ومائة وله سبعون سنة ( عَنْ أَبِيهِ) أبي بكر اسمه وكنيته واحد، وقيل يكنى أبا محمد ثقة عابد تقدّما غير مرة ( أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ قَيْسِ بْنِ مَخْرَمَةَ) بفتح الميم وإسكان الخاء المعجمة وفتح الراء والميم الثانية ابن المطلب بن عبد مناف المطلبي قال العسكري: أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم، وذكره ابن أبي خيثمة والبغوي وابن شاهين في الصحابة، وذكره البخاري وابن أبي حاتم وابن حبان في كبار التابعين وأبوه صحابي، روى هو عن أبيه وزيد بن خالد وأبي هريرة وابن عمر، وعنه ابناه محمد والمطلب وإسحاق بن يسار والد محمد صاحب السيرة، وثقه النسائي وعمل لعبد الملك بن مروان على العراق واستقضاه الحجاج على المدينة سنة ثلاث وسبعين ومات سنة ست وسبعين.

( أَخْبَرَهُ عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ) المدني صحابي شهير مات بالكوفة سنة ثمان وستين أو سبعين وله خمس وثمانون سنة ( أَنَّهُ قَالَ:) هذا هو الصواب، ووقع في رواية أبي أويس عن عبد الله بن أبي بكر عن أبيه أن عبد الله بن قيس قال لأرمقنّ رواه ابن أبي خيثمة وهو خطأ وأبو أويس كثير الوهم فسقط منه الصحابي وسماع أبي أويس كان مع مالك، فالعمدة على رواية مالك وهي الصواب، وقد أخرجه مسلم وأصحاب السنن من طريق مالك بهذا الإسناد عن زيد بن خالد أنه قال: ( لَأَرْمُقَنَّ) بفتح الهمزة وإسكان الراء وضم الميم وفتح القاف والنون الثقيلة وأصله النظر إلى الشيء شزرًا نظر العداوة واستعير هنا لمطلق النظر وعدل عن الماضي فلم يقل رمقت استحضارًا لتلك الحالة الماضية ليقرّرها للسامع أبلغ تقرير أي لأنظرنّ ( اللَّيْلَةَ صَلَاةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: فَتَوَسَّدْتُ عَتَبَتَهُ) أي عتبة بابه أي جعلتها كالوسادة بوضع رأسي عليها ( أَوْ فُسْطَاطَهُ) بضم الفاء وكسرها بيت من الشعر.
قال الباجي: والخبر بالتفسير الأوّل أشبه ويحتمل أن ذلك شك من الراوي، وقال غيره: هو محمول على أن ذلك حين سمعه قام يصلي لا قبل ذلك لأنه من التجسس المنهي عنه وأما ترقبه للصلاة فمحمود.

( فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ طَوِيلَتَيْنِ طَوِيلَتَيْنِ طَوِيلَتَيْنِ) كذا في رواية يحيى ثلاثًا وسائر أصحاب الموطأ قالوا ذلك مرتين فقط يعني بذلك المبالغة في طولهما كذا قال الباجي، والذي قاله أبو عمر بن عبد البر إن يحيى قال طويلتين مرتين وغيره يقول ثلاث مرات وهو الصواب فإنه في رواية مسلم وغيره من طريق مالك ثلاثًا.

( ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ وَهُمَا دُونَ اللَّتَيْنِ قَبْلَهُمَا) يعني في الطول.
قال ابن عبد البر: لم يتابع يحيى على هذا أحد من الرواة والذي في الموطأ عند جميعهم فصلى ركعتين خفيفتين ثم صلى ركعتين طويلتين طويلتين طويلتين، فأسقط يحيى ذكر الركعتين الخفيفتين وذلك خطأ واضح لأن المحفوظ عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث زيد بن خالد وغيره كعائشة أنه كان يفتتح صلاة الليل بركعتين خفيفتين.
وقال أيضًا: طويلتين مرتين وغيره يقول ثلاث مرات فوهم يحيى في الموضعين وذلك مما عدّ عليه من سقطه وغلطه والغلط لا يسلم منه أحد.

( ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ وَهُمَا دُونَ اللَّتَيْنِ قَبْلَهُمَا) في الطول ( ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ وَهُمَا دُونَ اللَّتَيْنِ قَبْلَهُمَا ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ وَهُمَا دُونَ اللَّتَيْنِ قَبْلَهُمَا ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ وَهُمَا دُونَ اللَّتَيْنِ قَبْلَهُمَا) فذكرهما ست مرات أولاهما خفيفتين على الصواب ثم التالية أطولها ثم الأربع التي بعدها كل ركعتين أقصر مما قبلهما ( ثُمَّ أَوْتَرَ) بواحدة ( فَتِلْكَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً) ذكر ذلك مع استفادته من العدّ لئلا يسقط ركعتان مثلاً.

والحديث رواه مسلم والترمذي والنسائي عن قتيبة، وأبو داود عن القعنبي والترمذي أيضًا من طريق معن وابن ماجه من طريق عبد الله بن نافع أربعتهم عن مالك به كلهم مثل رواية الجمهور عنه إلا أنه لم يقع عند مسلم قوله فتوسدت عتبته أو فسطاطه.



رقم الحديث 271 وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ مَخْرَمَةَ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنْ كُرَيْبٍ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ أَخْبَرَهُ، أَنَّهُ بَاتَ لَيْلَةً عِنْدَ مَيْمُونَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهِيَ خَالَتُهُ، قَالَ: فَاضْطَجَعْتُ فِي عَرْضِ الْوِسَادَةِ وَاضْطَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَهْلُهُ، فِي طُولِهَا.
فَنَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى إِذَا انْتَصَفَ اللَّيْلُ، أَوْ قَبْلَهُ بِقَلِيلٍ، أَوْ بَعْدَهُ بِقَلِيلٍ، اسْتَيْقَظَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجَلَسَ يَمْسَحُ النَّوْمَ عَنْ وَجْهِهِ بِيَدِهِ، ثُمَّ قَرَأَ الْعَشْرَ الْآيَاتِ الْخَوَاتِمَ مِنْ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ.
ثُمَّ قَامَ إِلَى شَنٍّ مُعَلَّقٍ فَتَوَضَّأَ مِنْهُ، فَأَحْسَنَ وُضُوءَهُ، ثُمَّ قَامَ يُصَلِّي.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَقُمْتُ فَصَنَعْتُ مِثْلَ مَا صَنَعَ، ثُمَّ ذَهَبْتُ فَقُمْتُ إِلَى جَنْبِهِ، فَوَضَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى رَأْسِي، وَأَخَذَ بِأُذُنِي الْيُمْنَى يَفْتِلُهَا، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ.
ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ.
ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ.
ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ.
ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ.
ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ.
ثُمَّ أَوْتَرَ ثُمَّ اضْطَجَعَ، حَتَّى أَتَاهُ الْمُؤَذِّنُ.
فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ، ثُمَّ خَرَجَ فَصَلَّى الصُّبْحَ.


( مَالِكٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً) زاد يونس والأوزاعي وابن أبي ذئب عن الزهري بإسناده يسلم من كل ركعتين ( يُوتِرُ مِنْهَا بِوَاحِدَةٍ فَإِذَا فَرَغَ اضْطَجَعَ عَلَى شِقِّهِ الْأَيْمَنِ) للاستراحة من طول القيام هكذا اتفق عليه رواة الموطأ.

وأما أصحاب ابن شهاب فرووا هذا الحديث عنه بإسناده فجعلوا الاضطجاع بعد ركعتي الفجر لا بعد الوتر فقالوا: فإذا تبين له الفجر وجاءه المؤذن ركع ركعتين خفيفتين ثم اضطجع على شقه الأيمن حتى يأتيه المؤذن للإقامة.
وزعم محمد بن يحيى الذهلي بذال ولام وغيره أنه الصواب دون رواية مالك، ورده ابن عبد البر بأنه لا يدفع ما قاله مالك لموضعه من الحفظ والإتقان ولثبوته في ابن شهاب وعلمه بحديثه، وقد قال يحيى بن معين إذا اختلف أصحاب ابن شهاب فالقول ما قال مالك فهو أثبتهم فيه وأحفظهم لحديثه، ويحتمل أن يضطجع مرة كذا ومرة كذا، ولرواية مالك شاهد وهو حديث ابن عباس الآتي أن اضطجاعه كان بعد الوتر وقبل ركعتي الفجر فلا ينكر أن يحفظ ذلك مالك في حديث ابن شهاب وإن لم يتابع عليه انتهى أي لأنه إمام متقن حافظ فلا يضره التفرد.

وقد أخرجه الترمذي من طريق معن عن مالك وقال: حسن صحيح ومسلم عن يحيى عن مالك به، وزاد: حتى يأتيه المؤذن فيصلي ركعتين خفيفتين يعني ركعتي الفجر.
ثم روى بعده من طريق عمرو بن الحارث ويونس عن ابن شهاب بسنده وفيه: أن الاضطجاع بعد ركعتي الفجر فأشار إلى أن الروايتين محفوظتان لأن شرط الشذوذ تعذر الجمع وقد أمكن بما قال أبو عمر مرة كذا ومرة كذا وبأنه لا يلزم من ذكر الاضطجاع في أحد الوقتين نفي الآخر فكان يفعله قبل وبعد، ورجح هذا بأنه لم يثبت ترك الاضطجاع.

( مَالِكٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ) كيسان ( الْمَقْبُرِيِّ) بفتح الميم وسكون القاف وضم الموحدة وفتحها نسبة إلى المقبرة لأنه كان مجاورًا لها ( عَنْ أَبِي سَلَمَةَ) إسماعيل أو عبد الله أو اسمه كنيته ( بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ) الزهري التابعي ابن الصحابي ( أَنَّهُ سَأَلَ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَيْفَ كَانَتْ صَلَاةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رَمَضَانَ؟ فَقَالَتْ: مَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَزِيدُ فِي رَمَضَانَ وَلَا فِي غَيْرِهِ عَلَى إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً) أي غير ركعتي الفجر كما في رواية القاسم عنها وفيه: أن صلاته كانت متساوية في جميع السنة، ولا ينافي ذلك حديثها كان صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر يتهجد فيه ما لا يتهجد في غيره لأنه يحمل على التطويل في الركعات دون الزيادة في العدد وما رواه ابن أبي شيبة عن ابن عباس كان صلى الله عليه وسلم يصلي في رمضان عشرين ركعة والوتر فإسناده ضعيف، وقد عارضه هذا الحديث الصحيح مع كون عائشة أعلم بحال النبي صلى الله عليه وسلم ليلاً من غيرها.

قال الحافظ: وظهر لي أنّ الحكمة في عدم الزيادة على إحدى عشرة ركعة أن التهجد والوتر مختص بصلاة الليل وفرائض النهار الظهر وهي أربع والعصر وهي أربع والمغرب وهي ثلاث وتر النهار، فناسب أن تكون صلاة الليل كصلاة النهار في العدد جملة وتفصيلاً، وأما مناسبة ثلاثة عشر فبضم صلاة الصبح لكونها نهارية إلى ما بعدها انتهى.

وتعقب بأن الصبح نهارية لقوله تعالى: { { وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأسْوَدِ } } والمغرب ليلية لحديث: إذا أقبل الليل من ههنا فقد أفطر الصائم ويرد بقوله صلى الله عليه وسلم صلاة المغرب وتر النهار فأوتروا صلاة الليل إسناده صحيح كما قاله الحافظ العراقي فأضيفت إلى النهار لوقوعها عقبه فهي نهارية حكمًا ليلية حقيقة كما يأتي قريبًا.

( يُصَلِّي أَرْبَعًا فَلَا تَسْأَلْ عَنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ) أي إنهنّ في نهاية من كمال الحسن والطول مستغنيات بظهور ذلك عن السؤال عنه ( ثُمَّ يُصَلِّي أَرْبَعًا فَلَا تَسْأَلْ عَنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ) يعني أربعًا في الطول والحسن وترتيب القراءة ونحو ذلك فلا ينافي أنه كان يجلس في كل ركعتين ويسلم لقوله صلى الله عليه وسلم: صلاة الليل مثنى مثنى ومحال أن يأمر بشيء ويفعل خلافه، وإلى هذا ذهب فقهاء الحجاز وجماعة من أهل العراق، وذهب قوم إلى أنّ الأربع لم يكن بينهما سلام، وقال بعضهم: ولا جلوس إلا في آخرها، ويرد عليه أن في رواية عروة عن عائشة أنه صلى الله عليه وسلم كان يسلم من كل ركعتين ذكره في التمهيد اهـ.

( ثُمَّ يُصَلِّي ثَلَاثًا) يوتر منها بواحدة كما في حديثها فوقه والركعتان شفع ( فَقَالَتْ عَائِشَةُ فَقُلْتُ) بفاء العطف على السابق ( يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتَنَامُ قَبْلَ أَنْ تُوتِرَ؟) بهمزة الاستفهام الاستخباري لأنها لم تعرف النوم قبل الوتر لأن أباها كان لا ينام حتى يوتر وكان يوتر أوّل الليل، فكان مقرّرًا عندها أن لا نوم قبل الوتر، فأجابها صلى الله عليه وسلم بأنه ليس كغيره.

( فَقَالَ: يَا عَائِشَةُ إِنَّ عَيْنَيَّ تَنَامَانِ وَلَا يَنَامُ قَلْبِي) لأن القلب إذا قويت حياته لا ينام إذا نام البدن ولا يكون ذلك إلا للأنبياء كما قال صلى الله عليه وسلم: إنا معاشر الأنبياء تنام أعيننا ولا تنام قلوبنا ولذا قال ابن عباس وغيره من العلماء: رؤيا الأنبياء وحي ولو سلط النوم على قلوبهم كانت رؤياهم كرؤيا من سواهم، ولذا كان صلى الله عليه وسلم ينام حتى ينفخ ويسمع غطيطه ثم يصلي ولا يتوضأ لأن الوضوء إنما يجب بغلبة النوم على القلب لا على العين ولا يعارض نومه بالوادي لأن رؤية الفجر متعلق بالعين لا بالقلب كما مرّ مبسوطًا.

قال ابن عبد البر: في هذا الحديث تقديم وتأخير لأن السؤال بعد ذكر الوتر ومعناه أنه كان ينام قبل صلاته، وهذا يدل على أنه كان يقوم ثم ينام ثم يقوم ثم ينام ثم يقوم فيوتر، ولذا جاء الحديث أربعًا ثم أربعًا ثم ثلاثًا أظن ذلك والله أعلم من أجل أنه كان ينام بينهنّ فقالت أربعًا ثم أربعًا تعني بعد نوم ثم ثلاث بعد نوم، ولذا قالت: أتنام قبل أن توتر؟ وقد قالت أمّ سلمة كان يصلي ثم ينام قدر ما صلى ثم يصلي قدر ما ينام ثم ينام قدر ما صلى الحديث.
يعني فهذا شاهد لحمل خبر عائشة على ما ذكر.

وأخرجه البخاري في الصلاة عن عبد الله بن يوسف، وفي الصوم عن إسماعيل، وفي الصفة النبوية عن القعنبي، ومسلم عن يحيى وأصحاب السنن الثلاثة عن قتيبة، ومن طريق ابن القاسم وابن مهدي والترمذي من طريق معن الثمانية عن مالك به.

( مَالِكٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي بِاللَّيْلِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً) ظاهره يخالف ما قبله من رواية أبي سلمة عنها ما كان يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة، فيحتمل أنها أضافت إلى صلاة الليل سنة العشاء لأنه كان يصليها في بيته أو ما كان يفتتح به صلاة الليل كما في مسلم من طريق سعد بن هشام عنها أنه كان يفتتحها بركعتين خفيفتين، وهذا أرجح في نظري لأن رواية أبي سلمة الدالة على الحصر جاء في صفتها يصلي أربعًا ثم أربعًا ثم ثلاثًا فدل على أنها لم تتعرض للركعتين الخفيفتين وتعرضت لهما هنا في رواية عروة والزيادة من الحافظ مقبولة.

وفي الصحيح عن مسروق سئلت عائشة عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالليل؟ فقالت: سبعًا وتسعًا وإحدى عشرة سوى ركعتي الفجر، ومرادها أن ذلك وقع منه في أوقات مختلفة فتارة سبعًا وتارة إلى آخره، ورواية القاسم عنها في الصحيحين كان يصلي ثلاث عشرة ركعة منها الوتر وركعتا الفجر محمولة على أن ذلك كان غالب حاله وبهذا يجمع بين الروايات.

قال القرطبي: أشكلت روايات عائشة على كثير من العلماء حتى نسب بعضهم حديثها إلى الاضطراب، وهذا إنما يتم لو كان الراوي عنها واحدًا وأخبرت عن وقت واحد والصواب أن كل شيء ذكرته من ذلك محمول على أوقات متعدّدة وأحوال مختلفة بحسب النشاط وبيان الجواز ذكره في فتح الباري.

وقال الباجي: ذكر بعض من لم يتأمّل أن رواية عائشة اضطربت في الحج والرضاع وصلاة النبي صلى الله عليه وسلم بالليل وقصر الصلاة في السفر قال: وهذا غلط ممن قاله فقد أجمع العلماء على أنها أحفظ الصحابة أي من أحفظهم فكيف بغيرهم، وإنما حمله على هذا قلة معرفته بمعاني الكلام ووجوه التأويل، فإن الحديث الأوّل إخبار عن صلاته المعتادة غالبًا والثاني إخبار عن زيادة وقعت في بعض الأوقات أو ضمت ما كان يفتتح به صلاته من ركعتين خفيفتين قبل الإحدى عشرة.

وقال ابن عبد البر: ذكر قوم من رواة هذا الحديث عن هشام أنه كان يوتر ذلك بخمس لا يجلس في شيء من الخمس ركعات إلا في آخرهنّ رواه حماد بن سلمة وأبو عوانة ووهيب وغيرهم، وأكثر الحفاظ رووه عن هشام كما رواه مالك والرواية المخالفة له إنما حدّث بها عن هشام أهل العراق وما حدّث به هشام قبل خروجه إلى العراق أصح عندهم.

( ثُمَّ يُصَلِّي إِذَا سَمِعَ النِّدَاءَ) أي الأذان ( بِالصُّبْحِ رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ) رغيبتي الفجر، وفي رواية عمرة عن عائشة حتى إني لأقول هل قرأ بأمّ الكتاب أم لا.
واختلف في حكمة تخفيفهما فقيل ليبادر إلى صلاة الصبح في أوّل الوقت، وبه جزم القرطبي وقيل ليستفتح صلاة النهار بركعتين خفيفتين كما كان يصنع في صلاة الليل ليدخل في الفرض أو ما شابهه في الفضل بنشاط واستعداد تام والله أعلم.

وهذا الحديث رواه البخاري عن عبد الله بن يوسف، وأبو داود عن القعنبي والثلاثة عن قتيبة ثلاثتهم عن مالك به.

( مَالِكٍ عَنْ مَخْرَمَةَ) بإسكان الخاء وفتح غيرها ( بْنِ سُلَيْمَانَ) الأسدي الوالبي بكسر اللام والموحدة المدني روى عن ابن الزبير وأسماء بنت أبي بكر وعدّة وعنه جماعة وثقه ابن معين وغيره.
قال الواقدي: قتلته الحرورية بقديد سنة ثلاثين ومائة وهو ابن سبعين سنة.

( عَنْ كُرَيْبٍ) بضم الكاف وفتح الراء ابن أبي مسلم الهاشمي مولاهم المدني يكنى بأبي رشدين ( مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ) عن مولاه وابن عمر وزيد بن ثابت وأسامة وعائشة وميمونة وأم سلمة، وعنه ابناه رشدين ومحمد وبكير بن الأشج ومكحول وموسى بن عقبة وآخرون، وثقه ابن معين وابن سعد والنسائي واحتج به الجماعة مات سنة ثمان وتسعين.

( أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ) الحبر واسع العلم فقهًا وحديثًا وعربية وأنسابًا وشعرًا وتفسيرًا.
روى الطبراني عنه دعاني صلى الله عليه وسلم فقال: نعم ترجمان القرآن أنت دعاك جبريل مرتين وعنه وضع صلى الله عليه وسلم يده على كتفي أو منكبي ثم قال: اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل.
رواه أحمد والطبراني برجال الصحيح، وعنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وضع يده على صدره فوجد بردها في صدره ثم قال: اللهم احش جوفه علمًا وحلمًا وعنه ضمني صلى الله عليه وسلم إلى صدره وقال: اللهم علمه الحكمة وفي رواية الكتاب رواهما البخاري.

( أَخْبَرَهُ أَنَّهُ بَاتَ لَيْلَةً عِنْدَ مَيْمُونَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهِيَ خَالَتُهُ) زاد شريك بن أبي نمر عن كريب عند مسلم فرقبت رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف يصلي.
زاد أبو عوانة من هذا الوجه بالليل، ولمسلم من طريق عطاء عن ابن عباس قال: بعثني العباس إلى النبي صلى الله عليه وسلم، زاد النسائي من طريق حبيب بن أبي ثابت عن كريب في إبل أعطاه إياها من الصدقة أي صدقة التطوّع أو ليتولى صرفه في مصالح غيره ممن يحل له أخذ ذلك، وإلاّ فالعباس هاشمي لا يعطى صدقة الفرض، ولأبي عوانة عن عليّ بن عبد الله بن عباس عن أبيه أن العباس بعثه إلى النبي صلى الله عليه وسلم في حاجة قال: فوجدته جالسًا في المسجد فلم أستطع أن أكلمه، فلما صلى المغرب قام فركع حتى أذن المؤذنون بصلاة العشاء، ولابن خزيمة عن طلحة بن نافع عنه كان صلى الله عليه وسلم وعد العباس ذودًا من الإبل فبعثني إليه بعد العشاء وكان في بيت ميمونة، وهذا يخالف ما قبله ويجمع بأنه لما لم يكلمه في المسجد عاد إليه بعد العشاء، وفيه جواز تقاضي الوعد وإن كان من وعد به مقطوعًا بوفائه.
ولمحمد بن نصر من طريق محمد بن الوليد عن كريب فقال لي: يا بني بت الليلة عندنا.
وفي رواية حبيب المذكورة فقلت: لأنام حتى أنظر إلى ما يصنع رسول الله صلى الله عليه وسلم أي في صلاة الليل، ولمسلم عن الضحاك بن عثمان عن مخرمة فقلت لميمونة: إذا قام صلى الله عليه وسلم فأيقظيني فكأنه عزم في نفسه على السهر ليطلع على الكيفية التي أرادها ثم خشي أن يغلبه النوم فوصى ميمونة أن توقظه وفيه فضل ابن عباس وقوّة فهمه وحرصه على تعليم أمر الدين وحسن تأنيه في ذلك.

( قَالَ: فَاضْطَجَعْتُ) أي وضعت جنبي بالأرض ( فِي عَرْضِ) بفتح العين على المشهور وبضمها أيضًا، وأنكره الباجي نقلاً ومعنى قال: لأن العرض هو الجانب وهو لفظ مشترك، وردّه العسقلاني بأنه لما قال في طولها تعين المراد وقد صحت به الرواية فلا وجه للإنكار ( الْوِسَادَةِ) ما يوضع عليه الرأس للنوم ولمحمد بن نصر وسادة من أدم حشوها ليف ( وَاضْطَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَهْلُهُ فِي طُولِهَا) أي الوسادة.

قال ابن عبد البر: كان ابن عباس والله أعلم مضطجعًا عند أرجلهما أو عند رأسهما.
وقال الباجي: هذا ليس بالبين لأنه لو كان كذلك لقال توسدت عرضها وقوله فاضطجعت في عرض يقتضي أن العرض محل لاضطجاعه، وفي رواية طلحة بن نافع عند ابن خزيمة ثم دخل مع امرأته في فراشها وكانت ليلتئذ حائضًا وفيه مبيت الصغير عند محرمه وإن كان زوجها عندها والاضطجاع مع الحائض وترك الاحتشام في ذلك بحضرة الصغير وإن كان مميزًا بل مراهقًا.
وللبخاري في التفسير ومسلم من رواية شريك عن كريب فتحدّث صلى الله عليه وسلم مع أهله ساعة، ولأبي زرعة الرازي في العلل عن ابن عباس أتيت خالتي ميمونة فقلت: إني أريد أن أبيت عندكم.
فقالت: كيف تبيت وإنما الفراش واحد.
فقلت: لا حاجة لي بفراشكم أفرش نصف إزاري، وأما الوسادة فإني أضع رأسي مع رأسكما من وراء الوسادة، فجاء صلى الله عليه وسلم فحدّثته ميمونة بما قلت فقال: هذا شيخ قريش.

( فَنَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى إِذَا انْتَصَفَ اللَّيْلُ أَوْ قَبْلَهُ بِقَلِيلٍ أَوْ بَعْدَهُ بِقَلِيلٍ) قال ابن عبد البر: فيه التحرّي في الألفاظ وفي المعاني، وللبخاري عن القعنبي عن مالك حتى انتصف الليل أو قريبًا منه، وله عن شريك عن كريب الجزم بثلث الليل الأخير.
قال الحافظ: ويجمع بينهما بأن الاستيقاظ وقع مرتين.
في الأولى نظر إلى السماء.
ثم تلا الآيات ثم عاد لمضجعه فنام، وفي الثانية أعاد ذلك ثم توضأ وصلى وبين ذلك محمد بن الوليد في روايته المذكورة، وفي رواية الثوري عن سلمة بن كهيل عن كريب في الصحيحين فقام من الليل فأتى حاجته ثم غسل وجهه ويديه ثم نام ثم قام فأتى القربة الحديث.
وفي رواية سعيد بن مسروق عن سلمة عند مسلم ثم قام قومة أخرى.
وعنده من رواية شعبة عن سلمة: فبال بدل فأتى حاجته.

( اسْتَيْقَظَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) إن جعلت إذا ظرفية فقبله ظرف لاستيقظ أي استيقظ وقت الانتصاف أو قبله وإن جعلت شرطية فمتعلق بفعل مقدر واستيقظ جواب الشرط أي حتى إذا انتصف الليل أو كان قبله أو بعده استيقظ ( فَجَلَسَ) حال كونه ( يَمْسَحُ النَّوْمَ عَنْ وَجْهِهِ) قال الباجي: يحتمل أنه أراد إزالة النوم وأنه أراد إزالة الكسل بمسح الوجه ( بِيَدِهِ) بالإفراد أي يمسح بيده عينيه من إطلاق اسم الحال على المحل لأن المسح إنما يقع على العين والنوم لا يمسح، أو المراد يمسح أثر النوم من إطلاق السبب على المسبب قاله الحافظ.
وتعقب بأن أثر النوم من النوم لأنه نفسه ورد بأن الأثر غير المؤثر فالمراد هنا ارتخاء الجفون من النوم ونحوه.

( ثُمَّ قَرَأَ) صلى الله عليه وسلم ( الْعَشْرَ الْآيَاتِ) من إضافة الصفة للموصوف واللام تدخل في العدد المضاف نحو الثلاثة الأثواب ( الْخَوَاتِمَ) بالنصب صفة العشر ( مِنْ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ) أوّلها { { إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } } إلى آخر السورة.

قال الباجي: يحتمل أن ذلك ليبتدئ يقظته بذكر الله كما ختمها بذكره عند نومه، ويحتمل أن ذلك ليتذكر ما ندب إليه من العبادة وما وعد على ذلك من الثواب، فإنّ هذه الآيات جامعة لكثير من ذلك ليكون تنشيطًا له على العبادة.

قال ابن عبد البر: فيه قراءة القرآن على غير وضوء ولا خلاف فيه وقد قال علي: كان صلى الله عليه وسلم لا يحجزه عن قراءة القرآن إلا الجنابة وعليه جمهور العلماء، وشذ قوم فأجازوا قراءته للجنب وهم محجوجون بالسنة.

وقال ابن بطال: فيه دليل على من كره قراءة القرآن على غير طهارة لأنه صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآيات بعد قيامه من النوم قبل أن يتوضأ، وتعقبه ابن المنير وغيره بأن ذلك مفرع على أن نومه ناقض وليس كذلك لقوله: إن عينيّ تنامان ولا ينام قلبي وأما وضوءه عقبه فلعله تجديد أو أحدث بعد ذلك فتوضأ.

قال الحافظ: وهو تعقب جيد بالنسبة إلى قول ابن بطال بعد قيامه من النوم لأنه لم يتعين أنه أحدث في النوم، لكن لما عقب ذلك بالوضوء كان ظاهرًا في أنه أحدث ولا يلزم من كون نومه لا ينقض وضوءه أن لا يقع منه حدث وهو نائم.
نعم خصوصيته أنه إن وقع شعر به بخلاف غيره وما ادّعوه من التجديد وغيره.
الأصل عدمه وقد سبق الإسماعيلي إلى معنى ما ذكر ابن المنير.

( ثُمَّ قَامَ إِلَى شَنٍّ مُعَلَّقٍ) بفتح الشين المعجمة وشدّ النون قربة خلقة من أدم وذكر الوصف باعتبار لفظه أو الأدم أو الجلد أو السقاء أو الوعاء.
وفي رواية للبخاري من هذا الوجه معلقة بتأنيث الوصف لإرادة القربة ( فَتَوَضَّأَ مِنْهُ) أي الشن.
وللبخاري منها أي القربة ولمحمد بن نصر من طريق محمد بن الوليد عن كريب، ثم استفرغ من الشن في إناء ثم توضأ وفيه جواز الاغتراف من الماء القليل لأن الإناء المذكور كان قصعة أو صحفة ( فَأَحْسَنَ وُضُوءَهُ) أي أتمه بأن أتى بمندوباته.
ولابن خزيمة ومحمد بن نصر فأسبغ الوضوء، وللبخاري من رواية عمرو بن دينار عن كريب فتوضأ وضوءًا خفيفًا، ويجمع بينهما برواية الثوري في الصحيحين فتوضأ وضوءًا بين وضوءين لم يكثر وقد أبلغ، ولمسلم فأسبغ الوضوء ولم يمس من الماء إلا قليلاً وزاد فيها فتسوّك.

( ثُمَّ قَامَ يُصَلِّي) ولمحمد بن نصر ثم أخذ بردًا له حضرميًا فتوشحه ثم دخل البيت فقام يصلي ( قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَقُمْتُ فَصَنَعْتُ مِثْلَ مَا صَنَعَ) يقتضي أنه صنع جميع ما ذكر من القول والنظر والوضوء والسواك والتوشح، ويحتمل أن يحمل على الأغلب إذ لا يلزم من إطلاق المثلية المساواة من كل جهة، وزاد سلمة عن كريب في الدعوات من البخاري في أوّل الحديث فقمت فتمطيت كراهة أن يرى أني كنت أرقبه، وكأنه خشي أن يترك بعض عمله لما جرى من عادته صلى الله عليه وسلم أنه كان يترك بعض العمل خشية أن يفرض على أمته.

( ثُمَّ ذَهَبْتُ فَقُمْتُ إِلَى جَنْبِهِ) أي الأيسر وظاهره المساواة ( فَوَضَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى رَأْسِي) قال ابن عبد البر: يعني أنه أداره فجعله عن يمينه، وهذا ذكره أكثر الرواة في هذا الحديث ولم يذكره مالك، وفي مسلم فقمت عن يساره فأدارني من خلفه حتى جعلني عن يمينه ( وَأَخَذَ بِأُذُنِي) بضم الهمزة والمعجمة ( الْيُمْنَى) حال كونه ( يَفْتِلُهَا) أي يدلكها.
زاد محمد بن نصر: فعرفت أنه إنما صنع ذلك ليؤنسني بيده في ظلمة الليل، ولمسلم فجعلت إذا أغفيت أخذ بشحمة أذني، وفي هذا رد على من زعم أن أخذ الأذن إنما كان حال إدارته له من اليسار إلى اليمين متمسكا برواية للبخاري في التفسير بلفظ: فأخذ بأذني فأدارني عن يمينه، لكن لا يلزم من إدارته على هذه الصفة أن لا يعود إلى مسك أذنه لما ذكر من تأنيسه وإيقاظه لأنّ حاله يقتضي ذلك لصغر سنه، وفيه جواز فتل أذن الصغير لتأنيسه وإيقاظه، وقد قيل: إنّ المتعلم إذا تعوهد فتل أذنه كان أدعى لفهمه وفيه أن قليل العمل في الصلاة لا يفسدها.

( فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ) ذكرها ست مرات، فالجملة ثنتا عشرة ركعة، وظاهره أنه فصل بين كل ركعتين.
وبه صرح في رواية طلحة بن نافع عن ابن عباس عند ابن خزيمة قال: يسلم من كل ركعتين، ولمسلم من رواية علي بن عبد الله بن عباس التصريح بالفصل أيضًا، وأنه استاك بين كل ركعتين إلى غير ذلك.

( ثُمَّ أَوْتَرَ) بواحدة، وللبخاري فتتامّت ولمسلم فتكاملت صلاته ثلاث عشرة ركعة.
وللبخاري أيضًا من وجه آخر عن كريب فصلى ثلاث عشرة ركعة ( ثُمَّ اضْطَجَعَ حَتَّى أَتَاهُ الْمُؤَذِّنُ) بلال كما في رواية للبخاري وله في أخرى ثم اضطجع فنام حتى نفخ ثم قام ( فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ) الفجر قبل الصبح ( ثُمَّ خَرَجَ) من الحجرة إلى المسجد ( فَصَلَّى الصُّبْحَ) بالجماعة.
واتفق أكثر أصحاب كريب على أنه صلى ثلاث عشرة ركعة وركعتي الفجر، وفي رواية شريك عنه عند البخاري فصلى إحدى عشرة ركعة ثم أذن بلال فصلى ركعتين ثم خرج، فخالف شريك الأكثر وروايتهم مقدمة على روايته لما معهم من الزيادة ولكونهم أحفظ منه، وحمل بعضهم الزيادة على الركعتين بعد العشاء وبعده لا يخفى، لا سيما مع رواية حديث الباب وحمله على أنه أخرهما حتى استيقظ يعكر عليه رواية المنهال الآتية قريبًا.

واختلف على سعيد بن جبير أيضًا فللبخاري في التفسير من طريق الحكم عنه فصلى أربع ركعات ثم نام ثم صلى خمس ركعات، وحمل محمد بن نصر هذه الأربعة على سنة العشاء لوقوعها قبل النوم يعكر عليه ما رواه هو من طريق المنهال بن عمرو عن عليّ بن عبد الله بن عباس بلفظ: فصلى العشاء ثم صلى أربع ركعات بعدها حتى لم يبق في المسجد غيره ثم انصرف، فإنه يقتضي أنه صلى الأربع في المسجد لا في البيت.

ورواية ابن جبير أيضًا تقتضي الاقتصار على خمس ركعات بعد النوم وفيه نظر، وظهر لي من رواية أخرى ما يرفع الإشكال ويوضح أن رواية الحكم وقع فيها تقصير، فعند النسائي من طريق يحيى بن عباد عن سعيد بن جبير فصلى ركعتين ركعتين حتى صلى ثمان ركعات ثم أوتر بخمس لم يجلس بينهن، فبهذا يجمع بين روايتي سعيد وكريب، وأما ما فيهما من الفصل والوصل فرواية سعيد صريحة في الوصل.

ورواية كريب محتملة فتحمل على رواية سعيد وقوله في رواية طلحة بن نافع يسلم من كل ركعتين يحتمل تخصيصه بالثمان فيوافق رواية سعيد ويوافقه رواية يحيى الجزار الآتية، ولم أر في شيء من طريق حديث ابن عباس ما يخالف ذلك لأن أكثر الرواة عنه لم يذكروا عددًا ومن ذكر العدد منهم لم يزد على ثلاث عشرة ولم ينقص عن إحدى عشرة إلا أن في رواية علي بن عبد الله بن عباس عند مسلم ما يخالفهم فإنّ فيه: فصلى ركعتين أطال فيهما ثم انصرف فنام حتى نفخ ففعل ذلك ثلاث مرات بست ركعات كل ذلك يستاك ويتوضأ ويقرأ هؤلاء الآيات يعني آخر آل عمران، ثم أوتر بثلاث فأذن المؤذن فخرج إلى الصلاة فزاد على الرواة تكرار الوضوء وما معه ونقص عنهم ركعتين أو أربعًا ولم يذكر ركعتي الفجر أيضًا، وأظن ذلك من الراوي عنه حبيب بن أبي ثابت فإن فيه مقالاً، وقد اختلف عليه في إسناده ومتنه، ويحتمل أنه لم يذكر الأربع كما لم يذكر الحكم الثمان كما تقدم، وأما الفجر فقد ثبت ذكره في طريق أخرى عن علي بن عبد الله عند أبي داود.

والحاصل أن قصة مبيت ابن عباس يغلب على الظن اتحادها فينبغي الاعتناء بالجمع بين مختلف الروايات فيها ولا شك أن الأخذ بما اتفق عليه الأكثر والأحفظ أولى مما خالفهم فيه من هو دونهم، ولا سيما إن زاد أو نقص والمحقق من عدد صلاته تلك الليلة إحدى عشرة.
وأما رواية ثلاث عشرة فيحتمل أن تكون سنة العشاء ويوافق ذلك رواية أبي جمرة عن ابن عباس عند البخاري: كانت صلاة النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث عشرة يعني بالليل ولم يبين هل سنة الفجر منها أو لا.
وبينها يحيى الجزار عن ابن عباس عند النسائي بلفظ: كان يصلي ثمان ركعات ويوتر بثلاث ويصلي ركعتين قبل صلاة الصبح ولا يعكر على هذا الجمع إلا ظاهر سياق حديث الباب فيمكن حمل قوله: صلى ركعتين ثم ركعتين أي قبل أن ينام ويكون منها سنة العشاء، وقوله: ثم ركعتين إلخ أي: بعد أن قام.

وجمع الكرماني بين مختلف روايات قصة ابن عباس هذه باحتمال أن بعض رواته ذكر القدر الذي اقتدى ابن عباس به وفصله عما لم يقتد به فيه وبعضهم ذكر الجميع مجملاً كذا في فتح الباري.
ولا يخفى ما في جمعه هو من التكلف البعيد والله أعلم.

والحديث أخرجه البخاري عن إسماعيل وعن القعنبي وقتيبة والتنيسي، ومن طريق معن وعبد الرحمن بن مهدي ومسلم عن يحيى السبعة عن مالك به.

( مَالِكٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ) بن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري المدني قاضيها الثقة المتوفى سنة خمس وثلاثين ومائة وله سبعون سنة ( عَنْ أَبِيهِ) أبي بكر اسمه وكنيته واحد، وقيل يكنى أبا محمد ثقة عابد تقدّما غير مرة ( أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ قَيْسِ بْنِ مَخْرَمَةَ) بفتح الميم وإسكان الخاء المعجمة وفتح الراء والميم الثانية ابن المطلب بن عبد مناف المطلبي قال العسكري: أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم، وذكره ابن أبي خيثمة والبغوي وابن شاهين في الصحابة، وذكره البخاري وابن أبي حاتم وابن حبان في كبار التابعين وأبوه صحابي، روى هو عن أبيه وزيد بن خالد وأبي هريرة وابن عمر، وعنه ابناه محمد والمطلب وإسحاق بن يسار والد محمد صاحب السيرة، وثقه النسائي وعمل لعبد الملك بن مروان على العراق واستقضاه الحجاج على المدينة سنة ثلاث وسبعين ومات سنة ست وسبعين.

( أَخْبَرَهُ عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ) المدني صحابي شهير مات بالكوفة سنة ثمان وستين أو سبعين وله خمس وثمانون سنة ( أَنَّهُ قَالَ:) هذا هو الصواب، ووقع في رواية أبي أويس عن عبد الله بن أبي بكر عن أبيه أن عبد الله بن قيس قال لأرمقنّ رواه ابن أبي خيثمة وهو خطأ وأبو أويس كثير الوهم فسقط منه الصحابي وسماع أبي أويس كان مع مالك، فالعمدة على رواية مالك وهي الصواب، وقد أخرجه مسلم وأصحاب السنن من طريق مالك بهذا الإسناد عن زيد بن خالد أنه قال: ( لَأَرْمُقَنَّ) بفتح الهمزة وإسكان الراء وضم الميم وفتح القاف والنون الثقيلة وأصله النظر إلى الشيء شزرًا نظر العداوة واستعير هنا لمطلق النظر وعدل عن الماضي فلم يقل رمقت استحضارًا لتلك الحالة الماضية ليقرّرها للسامع أبلغ تقرير أي لأنظرنّ ( اللَّيْلَةَ صَلَاةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: فَتَوَسَّدْتُ عَتَبَتَهُ) أي عتبة بابه أي جعلتها كالوسادة بوضع رأسي عليها ( أَوْ فُسْطَاطَهُ) بضم الفاء وكسرها بيت من الشعر.
قال الباجي: والخبر بالتفسير الأوّل أشبه ويحتمل أن ذلك شك من الراوي، وقال غيره: هو محمول على أن ذلك حين سمعه قام يصلي لا قبل ذلك لأنه من التجسس المنهي عنه وأما ترقبه للصلاة فمحمود.

( فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ طَوِيلَتَيْنِ طَوِيلَتَيْنِ طَوِيلَتَيْنِ) كذا في رواية يحيى ثلاثًا وسائر أصحاب الموطأ قالوا ذلك مرتين فقط يعني بذلك المبالغة في طولهما كذا قال الباجي، والذي قاله أبو عمر بن عبد البر إن يحيى قال طويلتين مرتين وغيره يقول ثلاث مرات وهو الصواب فإنه في رواية مسلم وغيره من طريق مالك ثلاثًا.

( ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ وَهُمَا دُونَ اللَّتَيْنِ قَبْلَهُمَا) يعني في الطول.
قال ابن عبد البر: لم يتابع يحيى على هذا أحد من الرواة والذي في الموطأ عند جميعهم فصلى ركعتين خفيفتين ثم صلى ركعتين طويلتين طويلتين طويلتين، فأسقط يحيى ذكر الركعتين الخفيفتين وذلك خطأ واضح لأن المحفوظ عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث زيد بن خالد وغيره كعائشة أنه كان يفتتح صلاة الليل بركعتين خفيفتين.
وقال أيضًا: طويلتين مرتين وغيره يقول ثلاث مرات فوهم يحيى في الموضعين وذلك مما عدّ عليه من سقطه وغلطه والغلط لا يسلم منه أحد.

( ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ وَهُمَا دُونَ اللَّتَيْنِ قَبْلَهُمَا) في الطول ( ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ وَهُمَا دُونَ اللَّتَيْنِ قَبْلَهُمَا ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ وَهُمَا دُونَ اللَّتَيْنِ قَبْلَهُمَا ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ وَهُمَا دُونَ اللَّتَيْنِ قَبْلَهُمَا) فذكرهما ست مرات أولاهما خفيفتين على الصواب ثم التالية أطولها ثم الأربع التي بعدها كل ركعتين أقصر مما قبلهما ( ثُمَّ أَوْتَرَ) بواحدة ( فَتِلْكَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً) ذكر ذلك مع استفادته من العدّ لئلا يسقط ركعتان مثلاً.

والحديث رواه مسلم والترمذي والنسائي عن قتيبة، وأبو داود عن القعنبي والترمذي أيضًا من طريق معن وابن ماجه من طريق عبد الله بن نافع أربعتهم عن مالك به كلهم مثل رواية الجمهور عنه إلا أنه لم يقع عند مسلم قوله فتوسدت عتبته أو فسطاطه.



رقم الحديث 272 وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ قَيْسِ بْنِ مَخْرَمَةَ أَخْبَرَهُ، عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ أَنَّهُ قَالَ: لَأَرْمُقَنَّ اللَّيْلَةَ صَلَاةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَالَ: فَتَوَسَّدْتُ عَتَبَتَهُ، أَوْ فُسْطَاطَهُ، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ طَوِيلَتَيْنِ طَوِيلَتَيْنِ طَوِيلَتَيْنِ، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ، وَهُمَا دُونَ اللَّتَيْنِ قَبْلَهُمَا، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ، وَهُمَا دُونَ اللَّتَيْنِ قَبْلَهُمَا، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ، وَهُمَا دُونَ اللَّتَيْنِ قَبْلَهُمَا، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ، وَهُمَا دُونَ اللَّتَيْنِ قَبْلَهُمَا، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ، وَهُمَا دُونَ اللَّتَيْنِ قَبْلَهُمَا، ثُمَّ أَوْتَرَ فَتِلْكَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً.


( مَالِكٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً) زاد يونس والأوزاعي وابن أبي ذئب عن الزهري بإسناده يسلم من كل ركعتين ( يُوتِرُ مِنْهَا بِوَاحِدَةٍ فَإِذَا فَرَغَ اضْطَجَعَ عَلَى شِقِّهِ الْأَيْمَنِ) للاستراحة من طول القيام هكذا اتفق عليه رواة الموطأ.

وأما أصحاب ابن شهاب فرووا هذا الحديث عنه بإسناده فجعلوا الاضطجاع بعد ركعتي الفجر لا بعد الوتر فقالوا: فإذا تبين له الفجر وجاءه المؤذن ركع ركعتين خفيفتين ثم اضطجع على شقه الأيمن حتى يأتيه المؤذن للإقامة.
وزعم محمد بن يحيى الذهلي بذال ولام وغيره أنه الصواب دون رواية مالك، ورده ابن عبد البر بأنه لا يدفع ما قاله مالك لموضعه من الحفظ والإتقان ولثبوته في ابن شهاب وعلمه بحديثه، وقد قال يحيى بن معين إذا اختلف أصحاب ابن شهاب فالقول ما قال مالك فهو أثبتهم فيه وأحفظهم لحديثه، ويحتمل أن يضطجع مرة كذا ومرة كذا، ولرواية مالك شاهد وهو حديث ابن عباس الآتي أن اضطجاعه كان بعد الوتر وقبل ركعتي الفجر فلا ينكر أن يحفظ ذلك مالك في حديث ابن شهاب وإن لم يتابع عليه انتهى أي لأنه إمام متقن حافظ فلا يضره التفرد.

وقد أخرجه الترمذي من طريق معن عن مالك وقال: حسن صحيح ومسلم عن يحيى عن مالك به، وزاد: حتى يأتيه المؤذن فيصلي ركعتين خفيفتين يعني ركعتي الفجر.
ثم روى بعده من طريق عمرو بن الحارث ويونس عن ابن شهاب بسنده وفيه: أن الاضطجاع بعد ركعتي الفجر فأشار إلى أن الروايتين محفوظتان لأن شرط الشذوذ تعذر الجمع وقد أمكن بما قال أبو عمر مرة كذا ومرة كذا وبأنه لا يلزم من ذكر الاضطجاع في أحد الوقتين نفي الآخر فكان يفعله قبل وبعد، ورجح هذا بأنه لم يثبت ترك الاضطجاع.

( مَالِكٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ) كيسان ( الْمَقْبُرِيِّ) بفتح الميم وسكون القاف وضم الموحدة وفتحها نسبة إلى المقبرة لأنه كان مجاورًا لها ( عَنْ أَبِي سَلَمَةَ) إسماعيل أو عبد الله أو اسمه كنيته ( بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ) الزهري التابعي ابن الصحابي ( أَنَّهُ سَأَلَ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَيْفَ كَانَتْ صَلَاةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رَمَضَانَ؟ فَقَالَتْ: مَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَزِيدُ فِي رَمَضَانَ وَلَا فِي غَيْرِهِ عَلَى إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً) أي غير ركعتي الفجر كما في رواية القاسم عنها وفيه: أن صلاته كانت متساوية في جميع السنة، ولا ينافي ذلك حديثها كان صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر يتهجد فيه ما لا يتهجد في غيره لأنه يحمل على التطويل في الركعات دون الزيادة في العدد وما رواه ابن أبي شيبة عن ابن عباس كان صلى الله عليه وسلم يصلي في رمضان عشرين ركعة والوتر فإسناده ضعيف، وقد عارضه هذا الحديث الصحيح مع كون عائشة أعلم بحال النبي صلى الله عليه وسلم ليلاً من غيرها.

قال الحافظ: وظهر لي أنّ الحكمة في عدم الزيادة على إحدى عشرة ركعة أن التهجد والوتر مختص بصلاة الليل وفرائض النهار الظهر وهي أربع والعصر وهي أربع والمغرب وهي ثلاث وتر النهار، فناسب أن تكون صلاة الليل كصلاة النهار في العدد جملة وتفصيلاً، وأما مناسبة ثلاثة عشر فبضم صلاة الصبح لكونها نهارية إلى ما بعدها انتهى.

وتعقب بأن الصبح نهارية لقوله تعالى: { { وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأسْوَدِ } } والمغرب ليلية لحديث: إذا أقبل الليل من ههنا فقد أفطر الصائم ويرد بقوله صلى الله عليه وسلم صلاة المغرب وتر النهار فأوتروا صلاة الليل إسناده صحيح كما قاله الحافظ العراقي فأضيفت إلى النهار لوقوعها عقبه فهي نهارية حكمًا ليلية حقيقة كما يأتي قريبًا.

( يُصَلِّي أَرْبَعًا فَلَا تَسْأَلْ عَنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ) أي إنهنّ في نهاية من كمال الحسن والطول مستغنيات بظهور ذلك عن السؤال عنه ( ثُمَّ يُصَلِّي أَرْبَعًا فَلَا تَسْأَلْ عَنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ) يعني أربعًا في الطول والحسن وترتيب القراءة ونحو ذلك فلا ينافي أنه كان يجلس في كل ركعتين ويسلم لقوله صلى الله عليه وسلم: صلاة الليل مثنى مثنى ومحال أن يأمر بشيء ويفعل خلافه، وإلى هذا ذهب فقهاء الحجاز وجماعة من أهل العراق، وذهب قوم إلى أنّ الأربع لم يكن بينهما سلام، وقال بعضهم: ولا جلوس إلا في آخرها، ويرد عليه أن في رواية عروة عن عائشة أنه صلى الله عليه وسلم كان يسلم من كل ركعتين ذكره في التمهيد اهـ.

( ثُمَّ يُصَلِّي ثَلَاثًا) يوتر منها بواحدة كما في حديثها فوقه والركعتان شفع ( فَقَالَتْ عَائِشَةُ فَقُلْتُ) بفاء العطف على السابق ( يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتَنَامُ قَبْلَ أَنْ تُوتِرَ؟) بهمزة الاستفهام الاستخباري لأنها لم تعرف النوم قبل الوتر لأن أباها كان لا ينام حتى يوتر وكان يوتر أوّل الليل، فكان مقرّرًا عندها أن لا نوم قبل الوتر، فأجابها صلى الله عليه وسلم بأنه ليس كغيره.

( فَقَالَ: يَا عَائِشَةُ إِنَّ عَيْنَيَّ تَنَامَانِ وَلَا يَنَامُ قَلْبِي) لأن القلب إذا قويت حياته لا ينام إذا نام البدن ولا يكون ذلك إلا للأنبياء كما قال صلى الله عليه وسلم: إنا معاشر الأنبياء تنام أعيننا ولا تنام قلوبنا ولذا قال ابن عباس وغيره من العلماء: رؤيا الأنبياء وحي ولو سلط النوم على قلوبهم كانت رؤياهم كرؤيا من سواهم، ولذا كان صلى الله عليه وسلم ينام حتى ينفخ ويسمع غطيطه ثم يصلي ولا يتوضأ لأن الوضوء إنما يجب بغلبة النوم على القلب لا على العين ولا يعارض نومه بالوادي لأن رؤية الفجر متعلق بالعين لا بالقلب كما مرّ مبسوطًا.

قال ابن عبد البر: في هذا الحديث تقديم وتأخير لأن السؤال بعد ذكر الوتر ومعناه أنه كان ينام قبل صلاته، وهذا يدل على أنه كان يقوم ثم ينام ثم يقوم ثم ينام ثم يقوم فيوتر، ولذا جاء الحديث أربعًا ثم أربعًا ثم ثلاثًا أظن ذلك والله أعلم من أجل أنه كان ينام بينهنّ فقالت أربعًا ثم أربعًا تعني بعد نوم ثم ثلاث بعد نوم، ولذا قالت: أتنام قبل أن توتر؟ وقد قالت أمّ سلمة كان يصلي ثم ينام قدر ما صلى ثم يصلي قدر ما ينام ثم ينام قدر ما صلى الحديث.
يعني فهذا شاهد لحمل خبر عائشة على ما ذكر.

وأخرجه البخاري في الصلاة عن عبد الله بن يوسف، وفي الصوم عن إسماعيل، وفي الصفة النبوية عن القعنبي، ومسلم عن يحيى وأصحاب السنن الثلاثة عن قتيبة، ومن طريق ابن القاسم وابن مهدي والترمذي من طريق معن الثمانية عن مالك به.

( مَالِكٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي بِاللَّيْلِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً) ظاهره يخالف ما قبله من رواية أبي سلمة عنها ما كان يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة، فيحتمل أنها أضافت إلى صلاة الليل سنة العشاء لأنه كان يصليها في بيته أو ما كان يفتتح به صلاة الليل كما في مسلم من طريق سعد بن هشام عنها أنه كان يفتتحها بركعتين خفيفتين، وهذا أرجح في نظري لأن رواية أبي سلمة الدالة على الحصر جاء في صفتها يصلي أربعًا ثم أربعًا ثم ثلاثًا فدل على أنها لم تتعرض للركعتين الخفيفتين وتعرضت لهما هنا في رواية عروة والزيادة من الحافظ مقبولة.

وفي الصحيح عن مسروق سئلت عائشة عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالليل؟ فقالت: سبعًا وتسعًا وإحدى عشرة سوى ركعتي الفجر، ومرادها أن ذلك وقع منه في أوقات مختلفة فتارة سبعًا وتارة إلى آخره، ورواية القاسم عنها في الصحيحين كان يصلي ثلاث عشرة ركعة منها الوتر وركعتا الفجر محمولة على أن ذلك كان غالب حاله وبهذا يجمع بين الروايات.

قال القرطبي: أشكلت روايات عائشة على كثير من العلماء حتى نسب بعضهم حديثها إلى الاضطراب، وهذا إنما يتم لو كان الراوي عنها واحدًا وأخبرت عن وقت واحد والصواب أن كل شيء ذكرته من ذلك محمول على أوقات متعدّدة وأحوال مختلفة بحسب النشاط وبيان الجواز ذكره في فتح الباري.

وقال الباجي: ذكر بعض من لم يتأمّل أن رواية عائشة اضطربت في الحج والرضاع وصلاة النبي صلى الله عليه وسلم بالليل وقصر الصلاة في السفر قال: وهذا غلط ممن قاله فقد أجمع العلماء على أنها أحفظ الصحابة أي من أحفظهم فكيف بغيرهم، وإنما حمله على هذا قلة معرفته بمعاني الكلام ووجوه التأويل، فإن الحديث الأوّل إخبار عن صلاته المعتادة غالبًا والثاني إخبار عن زيادة وقعت في بعض الأوقات أو ضمت ما كان يفتتح به صلاته من ركعتين خفيفتين قبل الإحدى عشرة.

وقال ابن عبد البر: ذكر قوم من رواة هذا الحديث عن هشام أنه كان يوتر ذلك بخمس لا يجلس في شيء من الخمس ركعات إلا في آخرهنّ رواه حماد بن سلمة وأبو عوانة ووهيب وغيرهم، وأكثر الحفاظ رووه عن هشام كما رواه مالك والرواية المخالفة له إنما حدّث بها عن هشام أهل العراق وما حدّث به هشام قبل خروجه إلى العراق أصح عندهم.

( ثُمَّ يُصَلِّي إِذَا سَمِعَ النِّدَاءَ) أي الأذان ( بِالصُّبْحِ رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ) رغيبتي الفجر، وفي رواية عمرة عن عائشة حتى إني لأقول هل قرأ بأمّ الكتاب أم لا.
واختلف في حكمة تخفيفهما فقيل ليبادر إلى صلاة الصبح في أوّل الوقت، وبه جزم القرطبي وقيل ليستفتح صلاة النهار بركعتين خفيفتين كما كان يصنع في صلاة الليل ليدخل في الفرض أو ما شابهه في الفضل بنشاط واستعداد تام والله أعلم.

وهذا الحديث رواه البخاري عن عبد الله بن يوسف، وأبو داود عن القعنبي والثلاثة عن قتيبة ثلاثتهم عن مالك به.

( مَالِكٍ عَنْ مَخْرَمَةَ) بإسكان الخاء وفتح غيرها ( بْنِ سُلَيْمَانَ) الأسدي الوالبي بكسر اللام والموحدة المدني روى عن ابن الزبير وأسماء بنت أبي بكر وعدّة وعنه جماعة وثقه ابن معين وغيره.
قال الواقدي: قتلته الحرورية بقديد سنة ثلاثين ومائة وهو ابن سبعين سنة.

( عَنْ كُرَيْبٍ) بضم الكاف وفتح الراء ابن أبي مسلم الهاشمي مولاهم المدني يكنى بأبي رشدين ( مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ) عن مولاه وابن عمر وزيد بن ثابت وأسامة وعائشة وميمونة وأم سلمة، وعنه ابناه رشدين ومحمد وبكير بن الأشج ومكحول وموسى بن عقبة وآخرون، وثقه ابن معين وابن سعد والنسائي واحتج به الجماعة مات سنة ثمان وتسعين.

( أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ) الحبر واسع العلم فقهًا وحديثًا وعربية وأنسابًا وشعرًا وتفسيرًا.
روى الطبراني عنه دعاني صلى الله عليه وسلم فقال: نعم ترجمان القرآن أنت دعاك جبريل مرتين وعنه وضع صلى الله عليه وسلم يده على كتفي أو منكبي ثم قال: اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل.
رواه أحمد والطبراني برجال الصحيح، وعنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وضع يده على صدره فوجد بردها في صدره ثم قال: اللهم احش جوفه علمًا وحلمًا وعنه ضمني صلى الله عليه وسلم إلى صدره وقال: اللهم علمه الحكمة وفي رواية الكتاب رواهما البخاري.

( أَخْبَرَهُ أَنَّهُ بَاتَ لَيْلَةً عِنْدَ مَيْمُونَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهِيَ خَالَتُهُ) زاد شريك بن أبي نمر عن كريب عند مسلم فرقبت رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف يصلي.
زاد أبو عوانة من هذا الوجه بالليل، ولمسلم من طريق عطاء عن ابن عباس قال: بعثني العباس إلى النبي صلى الله عليه وسلم، زاد النسائي من طريق حبيب بن أبي ثابت عن كريب في إبل أعطاه إياها من الصدقة أي صدقة التطوّع أو ليتولى صرفه في مصالح غيره ممن يحل له أخذ ذلك، وإلاّ فالعباس هاشمي لا يعطى صدقة الفرض، ولأبي عوانة عن عليّ بن عبد الله بن عباس عن أبيه أن العباس بعثه إلى النبي صلى الله عليه وسلم في حاجة قال: فوجدته جالسًا في المسجد فلم أستطع أن أكلمه، فلما صلى المغرب قام فركع حتى أذن المؤذنون بصلاة العشاء، ولابن خزيمة عن طلحة بن نافع عنه كان صلى الله عليه وسلم وعد العباس ذودًا من الإبل فبعثني إليه بعد العشاء وكان في بيت ميمونة، وهذا يخالف ما قبله ويجمع بأنه لما لم يكلمه في المسجد عاد إليه بعد العشاء، وفيه جواز تقاضي الوعد وإن كان من وعد به مقطوعًا بوفائه.
ولمحمد بن نصر من طريق محمد بن الوليد عن كريب فقال لي: يا بني بت الليلة عندنا.
وفي رواية حبيب المذكورة فقلت: لأنام حتى أنظر إلى ما يصنع رسول الله صلى الله عليه وسلم أي في صلاة الليل، ولمسلم عن الضحاك بن عثمان عن مخرمة فقلت لميمونة: إذا قام صلى الله عليه وسلم فأيقظيني فكأنه عزم في نفسه على السهر ليطلع على الكيفية التي أرادها ثم خشي أن يغلبه النوم فوصى ميمونة أن توقظه وفيه فضل ابن عباس وقوّة فهمه وحرصه على تعليم أمر الدين وحسن تأنيه في ذلك.

( قَالَ: فَاضْطَجَعْتُ) أي وضعت جنبي بالأرض ( فِي عَرْضِ) بفتح العين على المشهور وبضمها أيضًا، وأنكره الباجي نقلاً ومعنى قال: لأن العرض هو الجانب وهو لفظ مشترك، وردّه العسقلاني بأنه لما قال في طولها تعين المراد وقد صحت به الرواية فلا وجه للإنكار ( الْوِسَادَةِ) ما يوضع عليه الرأس للنوم ولمحمد بن نصر وسادة من أدم حشوها ليف ( وَاضْطَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَهْلُهُ فِي طُولِهَا) أي الوسادة.

قال ابن عبد البر: كان ابن عباس والله أعلم مضطجعًا عند أرجلهما أو عند رأسهما.
وقال الباجي: هذا ليس بالبين لأنه لو كان كذلك لقال توسدت عرضها وقوله فاضطجعت في عرض يقتضي أن العرض محل لاضطجاعه، وفي رواية طلحة بن نافع عند ابن خزيمة ثم دخل مع امرأته في فراشها وكانت ليلتئذ حائضًا وفيه مبيت الصغير عند محرمه وإن كان زوجها عندها والاضطجاع مع الحائض وترك الاحتشام في ذلك بحضرة الصغير وإن كان مميزًا بل مراهقًا.
وللبخاري في التفسير ومسلم من رواية شريك عن كريب فتحدّث صلى الله عليه وسلم مع أهله ساعة، ولأبي زرعة الرازي في العلل عن ابن عباس أتيت خالتي ميمونة فقلت: إني أريد أن أبيت عندكم.
فقالت: كيف تبيت وإنما الفراش واحد.
فقلت: لا حاجة لي بفراشكم أفرش نصف إزاري، وأما الوسادة فإني أضع رأسي مع رأسكما من وراء الوسادة، فجاء صلى الله عليه وسلم فحدّثته ميمونة بما قلت فقال: هذا شيخ قريش.

( فَنَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى إِذَا انْتَصَفَ اللَّيْلُ أَوْ قَبْلَهُ بِقَلِيلٍ أَوْ بَعْدَهُ بِقَلِيلٍ) قال ابن عبد البر: فيه التحرّي في الألفاظ وفي المعاني، وللبخاري عن القعنبي عن مالك حتى انتصف الليل أو قريبًا منه، وله عن شريك عن كريب الجزم بثلث الليل الأخير.
قال الحافظ: ويجمع بينهما بأن الاستيقاظ وقع مرتين.
في الأولى نظر إلى السماء.
ثم تلا الآيات ثم عاد لمضجعه فنام، وفي الثانية أعاد ذلك ثم توضأ وصلى وبين ذلك محمد بن الوليد في روايته المذكورة، وفي رواية الثوري عن سلمة بن كهيل عن كريب في الصحيحين فقام من الليل فأتى حاجته ثم غسل وجهه ويديه ثم نام ثم قام فأتى القربة الحديث.
وفي رواية سعيد بن مسروق عن سلمة عند مسلم ثم قام قومة أخرى.
وعنده من رواية شعبة عن سلمة: فبال بدل فأتى حاجته.

( اسْتَيْقَظَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) إن جعلت إذا ظرفية فقبله ظرف لاستيقظ أي استيقظ وقت الانتصاف أو قبله وإن جعلت شرطية فمتعلق بفعل مقدر واستيقظ جواب الشرط أي حتى إذا انتصف الليل أو كان قبله أو بعده استيقظ ( فَجَلَسَ) حال كونه ( يَمْسَحُ النَّوْمَ عَنْ وَجْهِهِ) قال الباجي: يحتمل أنه أراد إزالة النوم وأنه أراد إزالة الكسل بمسح الوجه ( بِيَدِهِ) بالإفراد أي يمسح بيده عينيه من إطلاق اسم الحال على المحل لأن المسح إنما يقع على العين والنوم لا يمسح، أو المراد يمسح أثر النوم من إطلاق السبب على المسبب قاله الحافظ.
وتعقب بأن أثر النوم من النوم لأنه نفسه ورد بأن الأثر غير المؤثر فالمراد هنا ارتخاء الجفون من النوم ونحوه.

( ثُمَّ قَرَأَ) صلى الله عليه وسلم ( الْعَشْرَ الْآيَاتِ) من إضافة الصفة للموصوف واللام تدخل في العدد المضاف نحو الثلاثة الأثواب ( الْخَوَاتِمَ) بالنصب صفة العشر ( مِنْ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ) أوّلها { { إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } } إلى آخر السورة.

قال الباجي: يحتمل أن ذلك ليبتدئ يقظته بذكر الله كما ختمها بذكره عند نومه، ويحتمل أن ذلك ليتذكر ما ندب إليه من العبادة وما وعد على ذلك من الثواب، فإنّ هذه الآيات جامعة لكثير من ذلك ليكون تنشيطًا له على العبادة.

قال ابن عبد البر: فيه قراءة القرآن على غير وضوء ولا خلاف فيه وقد قال علي: كان صلى الله عليه وسلم لا يحجزه عن قراءة القرآن إلا الجنابة وعليه جمهور العلماء، وشذ قوم فأجازوا قراءته للجنب وهم محجوجون بالسنة.

وقال ابن بطال: فيه دليل على من كره قراءة القرآن على غير طهارة لأنه صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآيات بعد قيامه من النوم قبل أن يتوضأ، وتعقبه ابن المنير وغيره بأن ذلك مفرع على أن نومه ناقض وليس كذلك لقوله: إن عينيّ تنامان ولا ينام قلبي وأما وضوءه عقبه فلعله تجديد أو أحدث بعد ذلك فتوضأ.

قال الحافظ: وهو تعقب جيد بالنسبة إلى قول ابن بطال بعد قيامه من النوم لأنه لم يتعين أنه أحدث في النوم، لكن لما عقب ذلك بالوضوء كان ظاهرًا في أنه أحدث ولا يلزم من كون نومه لا ينقض وضوءه أن لا يقع منه حدث وهو نائم.
نعم خصوصيته أنه إن وقع شعر به بخلاف غيره وما ادّعوه من التجديد وغيره.
الأصل عدمه وقد سبق الإسماعيلي إلى معنى ما ذكر ابن المنير.

( ثُمَّ قَامَ إِلَى شَنٍّ مُعَلَّقٍ) بفتح الشين المعجمة وشدّ النون قربة خلقة من أدم وذكر الوصف باعتبار لفظه أو الأدم أو الجلد أو السقاء أو الوعاء.
وفي رواية للبخاري من هذا الوجه معلقة بتأنيث الوصف لإرادة القربة ( فَتَوَضَّأَ مِنْهُ) أي الشن.
وللبخاري منها أي القربة ولمحمد بن نصر من طريق محمد بن الوليد عن كريب، ثم استفرغ من الشن في إناء ثم توضأ وفيه جواز الاغتراف من الماء القليل لأن الإناء المذكور كان قصعة أو صحفة ( فَأَحْسَنَ وُضُوءَهُ) أي أتمه بأن أتى بمندوباته.
ولابن خزيمة ومحمد بن نصر فأسبغ الوضوء، وللبخاري من رواية عمرو بن دينار عن كريب فتوضأ وضوءًا خفيفًا، ويجمع بينهما برواية الثوري في الصحيحين فتوضأ وضوءًا بين وضوءين لم يكثر وقد أبلغ، ولمسلم فأسبغ الوضوء ولم يمس من الماء إلا قليلاً وزاد فيها فتسوّك.

( ثُمَّ قَامَ يُصَلِّي) ولمحمد بن نصر ثم أخذ بردًا له حضرميًا فتوشحه ثم دخل البيت فقام يصلي ( قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَقُمْتُ فَصَنَعْتُ مِثْلَ مَا صَنَعَ) يقتضي أنه صنع جميع ما ذكر من القول والنظر والوضوء والسواك والتوشح، ويحتمل أن يحمل على الأغلب إذ لا يلزم من إطلاق المثلية المساواة من كل جهة، وزاد سلمة عن كريب في الدعوات من البخاري في أوّل الحديث فقمت فتمطيت كراهة أن يرى أني كنت أرقبه، وكأنه خشي أن يترك بعض عمله لما جرى من عادته صلى الله عليه وسلم أنه كان يترك بعض العمل خشية أن يفرض على أمته.

( ثُمَّ ذَهَبْتُ فَقُمْتُ إِلَى جَنْبِهِ) أي الأيسر وظاهره المساواة ( فَوَضَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى رَأْسِي) قال ابن عبد البر: يعني أنه أداره فجعله عن يمينه، وهذا ذكره أكثر الرواة في هذا الحديث ولم يذكره مالك، وفي مسلم فقمت عن يساره فأدارني من خلفه حتى جعلني عن يمينه ( وَأَخَذَ بِأُذُنِي) بضم الهمزة والمعجمة ( الْيُمْنَى) حال كونه ( يَفْتِلُهَا) أي يدلكها.
زاد محمد بن نصر: فعرفت أنه إنما صنع ذلك ليؤنسني بيده في ظلمة الليل، ولمسلم فجعلت إذا أغفيت أخذ بشحمة أذني، وفي هذا رد على من زعم أن أخذ الأذن إنما كان حال إدارته له من اليسار إلى اليمين متمسكا برواية للبخاري في التفسير بلفظ: فأخذ بأذني فأدارني عن يمينه، لكن لا يلزم من إدارته على هذه الصفة أن لا يعود إلى مسك أذنه لما ذكر من تأنيسه وإيقاظه لأنّ حاله يقتضي ذلك لصغر سنه، وفيه جواز فتل أذن الصغير لتأنيسه وإيقاظه، وقد قيل: إنّ المتعلم إذا تعوهد فتل أذنه كان أدعى لفهمه وفيه أن قليل العمل في الصلاة لا يفسدها.

( فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ) ذكرها ست مرات، فالجملة ثنتا عشرة ركعة، وظاهره أنه فصل بين كل ركعتين.
وبه صرح في رواية طلحة بن نافع عن ابن عباس عند ابن خزيمة قال: يسلم من كل ركعتين، ولمسلم من رواية علي بن عبد الله بن عباس التصريح بالفصل أيضًا، وأنه استاك بين كل ركعتين إلى غير ذلك.

( ثُمَّ أَوْتَرَ) بواحدة، وللبخاري فتتامّت ولمسلم فتكاملت صلاته ثلاث عشرة ركعة.
وللبخاري أيضًا من وجه آخر عن كريب فصلى ثلاث عشرة ركعة ( ثُمَّ اضْطَجَعَ حَتَّى أَتَاهُ الْمُؤَذِّنُ) بلال كما في رواية للبخاري وله في أخرى ثم اضطجع فنام حتى نفخ ثم قام ( فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ) الفجر قبل الصبح ( ثُمَّ خَرَجَ) من الحجرة إلى المسجد ( فَصَلَّى الصُّبْحَ) بالجماعة.
واتفق أكثر أصحاب كريب على أنه صلى ثلاث عشرة ركعة وركعتي الفجر، وفي رواية شريك عنه عند البخاري فصلى إحدى عشرة ركعة ثم أذن بلال فصلى ركعتين ثم خرج، فخالف شريك الأكثر وروايتهم مقدمة على روايته لما معهم من الزيادة ولكونهم أحفظ منه، وحمل بعضهم الزيادة على الركعتين بعد العشاء وبعده لا يخفى، لا سيما مع رواية حديث الباب وحمله على أنه أخرهما حتى استيقظ يعكر عليه رواية المنهال الآتية قريبًا.

واختلف على سعيد بن جبير أيضًا فللبخاري في التفسير من طريق الحكم عنه فصلى أربع ركعات ثم نام ثم صلى خمس ركعات، وحمل محمد بن نصر هذه الأربعة على سنة العشاء لوقوعها قبل النوم يعكر عليه ما رواه هو من طريق المنهال بن عمرو عن عليّ بن عبد الله بن عباس بلفظ: فصلى العشاء ثم صلى أربع ركعات بعدها حتى لم يبق في المسجد غيره ثم انصرف، فإنه يقتضي أنه صلى الأربع في المسجد لا في البيت.

ورواية ابن جبير أيضًا تقتضي الاقتصار على خمس ركعات بعد النوم وفيه نظر، وظهر لي من رواية أخرى ما يرفع الإشكال ويوضح أن رواية الحكم وقع فيها تقصير، فعند النسائي من طريق يحيى بن عباد عن سعيد بن جبير فصلى ركعتين ركعتين حتى صلى ثمان ركعات ثم أوتر بخمس لم يجلس بينهن، فبهذا يجمع بين روايتي سعيد وكريب، وأما ما فيهما من الفصل والوصل فرواية سعيد صريحة في الوصل.

ورواية كريب محتملة فتحمل على رواية سعيد وقوله في رواية طلحة بن نافع يسلم من كل ركعتين يحتمل تخصيصه بالثمان فيوافق رواية سعيد ويوافقه رواية يحيى الجزار الآتية، ولم أر في شيء من طريق حديث ابن عباس ما يخالف ذلك لأن أكثر الرواة عنه لم يذكروا عددًا ومن ذكر العدد منهم لم يزد على ثلاث عشرة ولم ينقص عن إحدى عشرة إلا أن في رواية علي بن عبد الله بن عباس عند مسلم ما يخالفهم فإنّ فيه: فصلى ركعتين أطال فيهما ثم انصرف فنام حتى نفخ ففعل ذلك ثلاث مرات بست ركعات كل ذلك يستاك ويتوضأ ويقرأ هؤلاء الآيات يعني آخر آل عمران، ثم أوتر بثلاث فأذن المؤذن فخرج إلى الصلاة فزاد على الرواة تكرار الوضوء وما معه ونقص عنهم ركعتين أو أربعًا ولم يذكر ركعتي الفجر أيضًا، وأظن ذلك من الراوي عنه حبيب بن أبي ثابت فإن فيه مقالاً، وقد اختلف عليه في إسناده ومتنه، ويحتمل أنه لم يذكر الأربع كما لم يذكر الحكم الثمان كما تقدم، وأما الفجر فقد ثبت ذكره في طريق أخرى عن علي بن عبد الله عند أبي داود.

والحاصل أن قصة مبيت ابن عباس يغلب على الظن اتحادها فينبغي الاعتناء بالجمع بين مختلف الروايات فيها ولا شك أن الأخذ بما اتفق عليه الأكثر والأحفظ أولى مما خالفهم فيه من هو دونهم، ولا سيما إن زاد أو نقص والمحقق من عدد صلاته تلك الليلة إحدى عشرة.
وأما رواية ثلاث عشرة فيحتمل أن تكون سنة العشاء ويوافق ذلك رواية أبي جمرة عن ابن عباس عند البخاري: كانت صلاة النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث عشرة يعني بالليل ولم يبين هل سنة الفجر منها أو لا.
وبينها يحيى الجزار عن ابن عباس عند النسائي بلفظ: كان يصلي ثمان ركعات ويوتر بثلاث ويصلي ركعتين قبل صلاة الصبح ولا يعكر على هذا الجمع إلا ظاهر سياق حديث الباب فيمكن حمل قوله: صلى ركعتين ثم ركعتين أي قبل أن ينام ويكون منها سنة العشاء، وقوله: ثم ركعتين إلخ أي: بعد أن قام.

وجمع الكرماني بين مختلف روايات قصة ابن عباس هذه باحتمال أن بعض رواته ذكر القدر الذي اقتدى ابن عباس به وفصله عما لم يقتد به فيه وبعضهم ذكر الجميع مجملاً كذا في فتح الباري.
ولا يخفى ما في جمعه هو من التكلف البعيد والله أعلم.

والحديث أخرجه البخاري عن إسماعيل وعن القعنبي وقتيبة والتنيسي، ومن طريق معن وعبد الرحمن بن مهدي ومسلم عن يحيى السبعة عن مالك به.

( مَالِكٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ) بن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري المدني قاضيها الثقة المتوفى سنة خمس وثلاثين ومائة وله سبعون سنة ( عَنْ أَبِيهِ) أبي بكر اسمه وكنيته واحد، وقيل يكنى أبا محمد ثقة عابد تقدّما غير مرة ( أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ قَيْسِ بْنِ مَخْرَمَةَ) بفتح الميم وإسكان الخاء المعجمة وفتح الراء والميم الثانية ابن المطلب بن عبد مناف المطلبي قال العسكري: أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم، وذكره ابن أبي خيثمة والبغوي وابن شاهين في الصحابة، وذكره البخاري وابن أبي حاتم وابن حبان في كبار التابعين وأبوه صحابي، روى هو عن أبيه وزيد بن خالد وأبي هريرة وابن عمر، وعنه ابناه محمد والمطلب وإسحاق بن يسار والد محمد صاحب السيرة، وثقه النسائي وعمل لعبد الملك بن مروان على العراق واستقضاه الحجاج على المدينة سنة ثلاث وسبعين ومات سنة ست وسبعين.

( أَخْبَرَهُ عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ) المدني صحابي شهير مات بالكوفة سنة ثمان وستين أو سبعين وله خمس وثمانون سنة ( أَنَّهُ قَالَ:) هذا هو الصواب، ووقع في رواية أبي أويس عن عبد الله بن أبي بكر عن أبيه أن عبد الله بن قيس قال لأرمقنّ رواه ابن أبي خيثمة وهو خطأ وأبو أويس كثير الوهم فسقط منه الصحابي وسماع أبي أويس كان مع مالك، فالعمدة على رواية مالك وهي الصواب، وقد أخرجه مسلم وأصحاب السنن من طريق مالك بهذا الإسناد عن زيد بن خالد أنه قال: ( لَأَرْمُقَنَّ) بفتح الهمزة وإسكان الراء وضم الميم وفتح القاف والنون الثقيلة وأصله النظر إلى الشيء شزرًا نظر العداوة واستعير هنا لمطلق النظر وعدل عن الماضي فلم يقل رمقت استحضارًا لتلك الحالة الماضية ليقرّرها للسامع أبلغ تقرير أي لأنظرنّ ( اللَّيْلَةَ صَلَاةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: فَتَوَسَّدْتُ عَتَبَتَهُ) أي عتبة بابه أي جعلتها كالوسادة بوضع رأسي عليها ( أَوْ فُسْطَاطَهُ) بضم الفاء وكسرها بيت من الشعر.
قال الباجي: والخبر بالتفسير الأوّل أشبه ويحتمل أن ذلك شك من الراوي، وقال غيره: هو محمول على أن ذلك حين سمعه قام يصلي لا قبل ذلك لأنه من التجسس المنهي عنه وأما ترقبه للصلاة فمحمود.

( فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ طَوِيلَتَيْنِ طَوِيلَتَيْنِ طَوِيلَتَيْنِ) كذا في رواية يحيى ثلاثًا وسائر أصحاب الموطأ قالوا ذلك مرتين فقط يعني بذلك المبالغة في طولهما كذا قال الباجي، والذي قاله أبو عمر بن عبد البر إن يحيى قال طويلتين مرتين وغيره يقول ثلاث مرات وهو الصواب فإنه في رواية مسلم وغيره من طريق مالك ثلاثًا.

( ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ وَهُمَا دُونَ اللَّتَيْنِ قَبْلَهُمَا) يعني في الطول.
قال ابن عبد البر: لم يتابع يحيى على هذا أحد من الرواة والذي في الموطأ عند جميعهم فصلى ركعتين خفيفتين ثم صلى ركعتين طويلتين طويلتين طويلتين، فأسقط يحيى ذكر الركعتين الخفيفتين وذلك خطأ واضح لأن المحفوظ عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث زيد بن خالد وغيره كعائشة أنه كان يفتتح صلاة الليل بركعتين خفيفتين.
وقال أيضًا: طويلتين مرتين وغيره يقول ثلاث مرات فوهم يحيى في الموضعين وذلك مما عدّ عليه من سقطه وغلطه والغلط لا يسلم منه أحد.

( ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ وَهُمَا دُونَ اللَّتَيْنِ قَبْلَهُمَا) في الطول ( ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ وَهُمَا دُونَ اللَّتَيْنِ قَبْلَهُمَا ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ وَهُمَا دُونَ اللَّتَيْنِ قَبْلَهُمَا ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ وَهُمَا دُونَ اللَّتَيْنِ قَبْلَهُمَا) فذكرهما ست مرات أولاهما خفيفتين على الصواب ثم التالية أطولها ثم الأربع التي بعدها كل ركعتين أقصر مما قبلهما ( ثُمَّ أَوْتَرَ) بواحدة ( فَتِلْكَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً) ذكر ذلك مع استفادته من العدّ لئلا يسقط ركعتان مثلاً.

والحديث رواه مسلم والترمذي والنسائي عن قتيبة، وأبو داود عن القعنبي والترمذي أيضًا من طريق معن وابن ماجه من طريق عبد الله بن نافع أربعتهم عن مالك به كلهم مثل رواية الجمهور عنه إلا أنه لم يقع عند مسلم قوله فتوسدت عتبته أو فسطاطه.