فهرس الكتاب

شرح الزرقاني - بَابُ الصَّلَاةِ الْوُسْطَى

رقم الحديث 320 حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنِ الْقَعْقَاعِ بْنِ حَكِيمٍ، عَنْ أَبِي يُونُسَ مَوْلَى عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّهُ قَالَ: أَمَرَتْنِي عَائِشَةُ أَنْ أَكْتُبَ لَهَا مُصْحَفًا.
ثُمَّ قَالَتْ: إِذَا بَلَغْتَ هَذِهِ الْآيَةَ فَآذِنِّي { { حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ } } فَلَمَّا بَلَغْتُهَا آذَنْتُهَا فَأَمْلَتْ عَلَيَّ حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ، وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى، وَصَلَاةِ الْعَصْرِ، وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ، قَالَتْ عَائِشَةُ: سَمِعْتُهَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.


( مَالِكٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنِ الْقَعْقَاعِ بْنِ حَكِيمٍ) الكناني المدني تابع ثقة روى له مسلم والأربعة ( عَنْ أَبِي يُونُسَ مَوْلَى عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ) من ثقات التابعين لا يعرف اسمه ( أَنَّهُ قَالَ: أَمَرَتْنِي عَائِشَةُ أَنْ أَكْتُبَ لَهَا مُصْحَفًا) مثلث الميم والأشهر الضم ( ثُمَّ قَالَتْ: إِذَا بَلَغْتَ هَذِهِ الْآيَةَ فَآذِنِّي) بالمد وذال مكسورة ونون ثقيلة أعلمني { { حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ } } الخمس بأدائها في أوقاتها { { وَالصَّلاَةِ الْوُسْطَى } } أفردها بالذكر لفضلها { { وَقُومُوا للَّهِ قَانِتِينَ } } قيل معناه مطيعين لقوله صلى الله عليه وسلم كل قنوت في القراءة فهو طاعة.
رواه أحمد وغيره، وقيل ساكتين لحديث زيد بن أرقم: كنا نتكلم في الصلاة حتى نزلت فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام رواه الشيخان.

( فَلَمَّا بَلَغْتُهَا آذَنْتُهَا فَأَمْلَتْ عَلَيَّ حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَصَلَاةِ الْعَصْرِ وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ) قال ابن عبد البر: فقوله: وصلاة العصر بالواو الفاصلة التي لم يختلف في ثبوتها في حديث عائشة هذا بخلاف حديث حفصة بعده قال: وثبوتها يدل على أنها ليست الوسطى.
قال الباجي: لأن الشيء لا يعطف على نفسه قال: وهذا يقتضي أن يكون بعد جمع القرآن في مصحف وقبل أن تجمع المصاحف على المصاحف التي كتبها عثمان وأنفذها إلى الأمصار لأنه لم يكتب بعد ذلك في المصاحف إلا ما أجمع عليه وثبت بالتواتر أنه قرآن.

( قَالَتْ عَائِشَةُ: سَمِعْتُهَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قال الباجي: يحتمل أنها سمعتها على أنها قرآن ثم نسخت كما في حديث البراء، فلعل عائشة لم تعلم بنسخها أو اعتقدت أنها مما نسخ حكمه وبقي رسمه، ويحتمل أنه ذكرها صلى الله عليه وسلم على أنها من غير القرآن لتأكيد فضيلتها فظنتها قرآنًا فأرادت إثباتها في المصحف لذلك أو أنها اعتقدت جواز إثبات غير القرآن معه على ما روي عن أبيّ وغيره من الصحابة أنهم جوّزوا إثبات القنوت وبعض التفسير في المصحف وإن لم يعتقدوه قرآنًا اهـ.
واحتماله الثاني ليس بظاهر.

وقال أبو عمر: النسخ في القرآن ثلاثة أوجه.
نسخ رسم فلا يقرأ به إلا أنه ربما جاءت منه أشياء لا يقطع بأنها قرآن، والثاني نسخ خطه وبقاء حكمه كقوله وصلاة العصر عند من ذهب إليه، والثالث أن ينسخ حكمه ويبقى خطه كقوله: { { وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لأزْوَاجِهِم } } نسخها { { يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا } } اهـ باختصار.

وحديث عائشة هذا رواه مسلم عن يحيى وأبو داود عن القعنبي والترمذي عن قتيبة الثلاثة عن مالك به.
وروى مسلم عن عقبة عن شقيق بن عقبة عن البراء بن عازب قال: نزلت هذه الآية ( حافظوا على الصلوات وصلاة العصر) فقرأناها ما شاء الله ثم نسخها الله فنزلت { { حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاَةِ الْوُسْطَى } } فقال رجل كان جالسًا عند شقيق له: هي إذًا صلاة العصر، فقال البراء: قد أخبرتك كيف نزلت وكيف نسخها الله فالله أعلم.

قال القرطبي: وهذا أقوى حجة لمن قال إنها غير العصر لأنه يشعر بأنها أبهمت بعدما عينت.
قال الحافظ: وفي إشعاره بذلك نظر بل الذي فيه أنها عينت ثم وصفت ولذا قال الرجل فهي إذًا العصر ولم ينكر عليه البراء نعم جواب البراء يشعر بالتوقف لما يطرقه من الاحتمال اهـ.

وعبارة المفهم يظهر منه التردّد لكن في ماذا هل نسخ تعيينها فقط وبقيت هي الوسطى أو نسخ كونها الوسطى فيه تردّد وإلا فقد أخبر بوقوع النسخ، وقال الأبيّ: لا يعترض على أنها العصر بقول البراء قد أخبرتك إلخ لاحتمال أن المنسوخ النطق بلفظ العصر، وقد أشار البراء إلى الاحتمال بقوله، فالله أعلم.

( مَالِكٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ عَمْرِو) بفتح العين ( بْنِ رَافِعٍ) العدوي مولاهم المدني مقبول ( أَنَّهُ قَالَ: كُنْتُ أَكْتُبُ مُصْحَفًا لِحَفْصَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ فَقَالَتْ: إِذَا بَلَغْتَ هَذِهِ الْآيَةَ فَآذِنِّي) أعلمني ( { { حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاَةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا للَّهِ قَانِتِينَ } } فَلَمَّا بَلَغْتُهَا آذَنْتُهَا فَأَمْلَتْ) بفتح الهمزة وسكون الميم وفتح اللام الخفيفة من أملى وبفتح الميم واللام مشدّدة من أملل يملل أي ألقت ( عَلَيَّ) يقال أمللت الكتاب على الكاتب إملالاً ألقيته عليه وأمليته عليه إملاء فالأولى لغة الحجاز وبني أسد والثانية لغة بني تميم وقيس، وجاء الكتاب العزيز بهما { { وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ } } فهي تملي عليه ( حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَصَلَاةِ الْعَصْرِ) بالواو ( وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ) وروي بحذف الواو وزعم بعضهم أن إثبات الواو وسقوطها سواء كقوله:

أنا الملك القرم وابن الهمام
وليث الكتيبة في المزدحم

أراد القرم ابن الهمام وقوله: { { مَن كَانَ عَدُوًّا للَّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ } } يريد وملائكته جبريل وميكائيل و { { فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ } } أي فاكهة نخل ورمّان وخولف هذا القائل في ذلك، ومالك روى حديث حفصة موقوفًا، ورواه هشام بن سعد عن زيد بن أسلم عن عمر فذكره، وزاد عن حفصة هكذا سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم أخرجه ابن عبد البر.

وروى إسماعيل بن إسحاق وابن المنذر من طريق عبيد الله عن نافع: أن حفصة أمرت مولى لها أن يكتب لها مصحفًا فذكر مثله وزاد أنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولها: قال نافع: فقرأت ذلك المصحف فوجدت فيه الواو.
قال أبو عمر: إسناده صحيح.

قال الحافظ: وحديث عائشة وحفصة من حجج من قال إنها غير العصر لأن العطف يقتضي المغايرة فتكون العصر غير الوسطى، وأجيب: باحتمال زيادة الواو، ويؤيده ما رواه أبو عبيد بإسناد صحيح عن أبيّ بن كعب أنه كان يقرؤها ( حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى صلاة العصر) بغير واو وباحتمال أنها عاطفة لكن عطف صفة لا عطف ذات بدليل رواية ابن جرير عن عروة كان في مصحف عائشة والصلاة الوسطى وهي صلاة العصر.

وقال الحافظ صلاح الدين العلائي: حاصل أدلة من قال إنّ الوسطى غير العصر يرجع إلى ثلاثة أنواع.
أحدها: تنصيص بعض الصحابة وهو معارض بمثله ممن قال منهم إنها العصر وترجح بالنص المرفوع وإذا اختلف الصحابة لم يكن قول بعضهم حجة على غيره فتبقى حجة المرفوع قائمة.
ثانيها: معارضة المرفوع بالتأكيد على فعل غيرها كالحث على المواظبة على الصبح والعشاء كما تقدّم وهو معارض بما هو أقوى منه وهو الوعيد الشديد الوارد في ترك العصر وتقدّم أيضًا.
ثالثها: ما جاء عن حفصة وعائشة من قراءة وصلاة العصر فإن العطف يقتضي المغايرة، وهذا يرد عليه إثبات القرآن بخبر الآحاد وهو ممتنع وكونه يتنزل منزلة خبر الواحد مختلف فيه سلمنا لكن لا يصلح معارضًا للنص الصريح فليس العطف صريحًا في اقتضاء المغايرة لوروده في نفس الصفات كقوله تعالى { { الأوَّلُ وَالآَخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ } } كذا قال ويردّ الأوّل بأن ما قال إنه النص محتمل كما يأتي عن الباجي، والثاني بأنه وإن صح الذي تفوته العصر كأنما وتر أهله وماله لكن لم يرد وصف تارك الجماعة فيها بالنفاق كما في الصبح والعشاء، والثالث بأنه لم يثبت القرآن بخبر الآحاد إنما هو بمنزلة الحديث فيحتج به إذا صرح القارئ به برفعه كما هنا على الأصح، وحمله على زيادة الواو أو جعله من عطف الصفات خلاف الأصل، والظاهر وقد علم أنّ ما قال إنه نص صريح لم يسلم.

( مَالِكٍ عَنْ دَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ) بمهملتين مصغر ( عَنِ ابْنِ يَرْبُوعٍ الْمَخْزُومِيِّ) هو عبد الرحمن بن سعيد بن يربوع نسب إلى جدّه تابعي ثقة وقيل يربوع أبوه، والصواب أنه جدّه قاله الدارقطني ( أَنَّهُ قَالَ: سَمِعْتُ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ يَقُولُ: الصَّلَاةُ الْوُسْطَى صَلَاةُ الظُّهْرِ) وجزم زيد بذلك لقوله كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي الظهر بالهاجرة ولم تكن صلاة أشدّ على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم منها فنزلت { { حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ } } الآية.
رواه عنه أبو داود.

وروى الطيالسي عن زهرة بن معبد قال: كنا عند زيد بن ثابت فأرسلوا يسألونه عن الصلاة الوسطى فقال: هي الظهر.
ورواه من وجه آخر وزاد: كان صلى الله عليه وسلم يصلي الظهر بالهجير فلا يكون وراءه إلا الصف أو الصفان والناس في قائلتهم وفي تجارتهم فنزلت.
وكذا جاء عن أبي سعيد وعائشة أنها الظهر أخرجه ابن المنذر وغيره وبه قال أبو حنيفة في رواية، فقول إسماعيل القاضي من قال إنها الظهر ذهب إلى أنها وسط النهار، أو لعل بعضهم روى في ذلك أثرًا فتبعه تقصير شديد لأن زيد بن ثابت اعتمد على نزول الآية في الظهر.

( مَالِكٍ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ كَانَا يَقُولَانِ الصَّلَاةُ الْوُسْطَى صَلَاةُ الصُّبْحِ) روى ابن جرير من طريق عوف الأعرابي عن أبي رجاء العطاردي قال: صليت خلف ابن عباس الصبح فقنت فيها ورفع يديه ثم قال هذه الصلاة الوسطى التي أمرنا أن نقوم فيها قانتين.
وأخرجه أيضًا من وجه آخر عن ابن عمر، وأما علي فالمعروف عنه أنها العصر رواه مسلم من طريق ابن سيرين ومن طريق عبيدة السلماني عنه والترمذي والنسائي من طريق زرّ بن حبيش قال: قلنا لعبيدة سل عليًا عن الصلاة الوسطى فسأله فقال: كنا نرى أنها الصبح حتى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يوم الأحزاب: شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر.
كذا في الفتح.

وسبقه في التمهيد إلى ذلك وزاد وقد قال قوم إن ما في الموطأ هنا عن علي أخذه من حديث حسين بن عبد الله بن ضميرة عن أبيه عن جدّه عن علي أنه قال: الصلاة الوسطى صلاة الصبح لأنه لا يوجد إلا من حديث حسين وهو متروك كذا قال وفيه نظر لما علم أن بلاغ مالك صحيح وحسين ممن كذبه مالك، ومحال أن يعتمد على من كذبه.

( قَالَ مَالِكٌ وَقَوْلُ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ) أنها الصبح ( أَحَبُّ مَا سَمِعْتُ إِلَيَّ فِي ذَلِكَ) وقال به أبيّ بن كعب وأنس وجابر وأبو العالية وعبيد بن عمير وعطاء وعكرمة ومجاهد وغيرهم نقله ابن أبي حاتم عنهم.
وروى ابن جرير عن أبي العالية: صليت خلف عبد الله بن قيس بالبصرة في زمن عمر صلاة الغداة فقلت لهم ما الصلاة الوسطى؟ قالوا: هي هذه الصلاة وهو قول مالك كما رأيت وهو الذي نص عليه الشافعي في الأمّ، واحتجوا بأن فيها القنوت وقد قال تعالى: { { وَقُومُوا للَّهِ قَانِتِينَ } } وقال تعالى: { { وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ } } وبأنها لا تقصر في السفر وبأنها بين صلاتي جهر وصلاتي سر.

قال ابن عباس: تصلى في سواد من الليل وبياض من النهار وهي أكثر الصلوات تفوت الناس رواه إسماعيل القاضي قال: ويدل على ذلك قوله تعالى { { وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا } } فخصت بهذا النص مع أنها مختصة بوقتها لا يشاركها غيرها فيه، وأوضحه الباجي فقال: ووقتها أولى بأن يوصف بالتوسط لأنها لا تشارك فلو جعلناها العصر لكنا فصلناها من مشاركتها الظهر وأضفنا إلى الظهر ما لا يشاركها وهي الصبح.

وأمّا قوله صلى الله عليه وسلم يوم الخندق: شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر فيحتمل أن يريد به الوسطى من الصلوات التي شغل عنها وهي الظهر والعصر والمغرب لأنها وسطى هذه الثلاث لتأكد فضلها عن الصلاتين اللتين معها ولا يدل ذلك على أنها أفضل من صلاة الصبح وإنما الخلاف عند الإطلاق اهـ.

وذهب أكثر علماء الصحابة كما قال الترمذي وجمهور التابعين كما قال الماوردي وأكثر علماء الأثر كما قال ابن عبد البر إلى أنها العصر، وقال به من المالكية ابن حبيب وابن العربي وابن عطية وهو الصحيح عند الحنفية والحنابلة، وذهب إليه أكثر الشافعية مخالفين نص إمامهم لصحة الحديث فيه، وقد قال: إذا صح الحديث فهو مذهبي.
قال ابن كثير: لكن صمم جماعة من الشافعية أنها الصبح قولاً واحدًا اهـ.
أي لأنه نص الشافعي وقد علم أن كون الحديث مذهبه محله إذا علم أنه لم يطلع عليه أمّا إذا احتمل اطلاعه عليه وأنه حمله على محمل فلا يكون مذهبه، وهذا يحتمل أن يكون حمله على نحو ما قال الباجي.

وقيل: المغرب رواه ابن أبي حاتم بإسناد حسن عن ابن عباس وابن جرير عن قتيبة بن ذؤيب، وحجتهم أنها معتدلة في عدد الركعات وأنها لا تقصر في الأسفار وأن العمل مضى على المبادرة إليها والتعجيل بها في أوّل ما تغرب الشمس ولأن قبلها صلاتا سرّ وبعدها صلاتا جهر وقيل العشاء نقله ابن التين والقرطبي، واحتج له بأنها بين صلاتين لا تقصران ولأنها تقع عند النوم، فلذا أمرنا بالمحافظة عليها واختاره الواحدي.

وقال الباجي: وصف الصلاة بالوسطى يحتمل أنها بمعنى فاضلة نحو { { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا } } أي فاضلة قال أوسطهم وأن وقتها يتوسط أوقات الصلوات وأن توصف بذلك للتخصيص، وإن كان كل صلاة وسطى، وعلى هذه الوجوه الثلاثة فكل صلاة يصح أن توصف بأنها وسطى، لكن من جهة الفضيلة الصبح أحقها بذلك لتأكد فضيلتها إذ ليس في الصلوات أشق منها لأنها في ألذ أوقات النوم ويترك لها كالاضطجاع والدفء ويقوم في شدّة البرد ويتناول الماء البارد ووقتها أولى بأن توصف بالتوسط لأنها لا تشارك اهـ.

وقيل: الصبح والعصر معًا لقوة الأدلة فظاهر القرآن الصبح وظاهر السنة العصر قال ابن عبد البر: الاختلاف القوي في الصلاة الوسطى إنما هو في هاتين الصلاتين وغير ذلك ضعيف، وقيل جميع الصلوات الخمس قاله معاذ بن جبل، وأخرجه ابن أبي حاتم بإسناد حسن عن ابن عمر، والحجة له أن قوله { { حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ } } يتناول الفرائض والنوافل فعطف عليه الوسطى وأريد بها كل الفرائض تأكيدًا لها، واختاره ابن عبد البر.

وقيل: الجمعة ذكره ابن حبيب واحتج بما اختصت به من الاجتماع والخطبة، وقيل الظهر في الأيام والجمعة يوم الجمعة وقيل الصبح والعشاء معًا لحديث الصحيح أنهما أثقل الصلاة على المنافقين واختاره الأبهري من المالكية، وقيل الصبح أو العصر على الترديد وهو غير المتقدم الجازم بأن كلاً منهما يقال لها الوسطى وصلاة الجماعة أو الخوف أو الوتر أو صلاة عيد الأضحى أو صلاة عيد الفطر أو صلاة الضحى أو واحدة من الخمس غير معينة أو التوقف، فقد روى ابن جرير بإسناد صحيح عن سعيد بن المسيب قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مختلفين في الصلاة الوسطى هكذا وشبك بين أصابعه أو صلاة الليل فهذه عشرون قولاً: وزاد بعض المتأخرين أنها الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم.

قال القرطبي: وصار إلى أنها أبهمت جماعة من العلماء المتأخرين وهو الصحيح لتعارض الأدلة وعسر الترجيح اهـ.

فإن أراد أبهمت في الخمس فهو القول المحكي وإن أراد أبهمت فيما هو أعم من الخمس فيكون زائدًا، وقد ضعف القرطبي القول بأنها الصلوات كلها لأنه يؤدّي إلى خلاف عادة الفصحاء لأنهم لا يذكرون شيئًا مفصلاً مبينًا ثم يذكرونه مجملاً بل يذكرون الشيء مجملاً أو كليًا ثم يفصلونه، وأيضًا لا يطلقون لفظ الجمع ويعطفون عليه أحد أفراده ويريدون بذلك الفرد ذلك الجمع إذ ذاك غاية في الإلباس، وأيضًا فلو أريد ذلك كان كأنه قيل حافظوا على الصلوات والصلاة ويريد بالثاني الأوّل وهذا ليس فصيحًا في لفظه ولا صحيحًا في معناه إذ لا يحصل بالثاني تأكيد الأوّل لأنه معطوف عليه ولا يفيد معنى آخر فيكون حشوًا، فحمل كلام الله تعالى على شيء من هذه الثلاثة غير سائغ ولا جائز كذا قال وهو مبني على فهمه أن المراد بالصلوات خصوص الخمس وليس كذلك، بل يتناول الفرائض والنوافل فعطف الوسطى مرادًا بها الفرائض للتأكيد والتشريف كما قدّمنا وهذا سائغ جائز وبعد وروده عن صحابي قال فيه المصطفى إنه أعلم بالحلال والحرام لا يليق التشغيب عليه بمثل هذه الأمور العقلية.



رقم الحديث 320 وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ بَلَغَهُ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: مَنْ لَمْ يَجِدْ ثَوْبَيْنِ فَلْيُصَلِّي فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، مُلْتَحِفًا بِهِ.
فَإِنْ كَانَ الثَّوْبُ قَصِيرًا فَلْيَتَّزِرْ بِهِ
قَالَ مَالِكٌ: أَحَبُّ إِلَيَّ أَنْ يَجْعَلَ، الَّذِي يُصَلِّي فِي الْقَمِيصِ الْوَاحِدِ، عَلَى عَاتِقَيْهِ ثَوْبًا أَوْ عِمَامَةً.


( مَالِكٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ) وفي رواية يحيى القطان عن هشام حدّثني أبي ( عَنْ عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ) عبد الله بن عبد الأسد المخزومي صحابي صغير ربيب النبي صلى الله عليه وسلم أمّه هند أمّ سلمة أمّ المؤمنين، وولد في الحبشة في السنة الثانية وأمّره علي بن أبي طالب على البحرين ومات سنة ثلاث وثمانين على الصحيح بالمدينة، ووهم من قال قتل يوم الجمل، نعم شهدها.

وفي رواية أبي أسامة عن هشام عن أبيه أن عمر بن أبي سلمة أخبره ( أَنَّهُ رَأَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ) حال كونه ( مُشْتَمِلًا بِهِ فِي بَيْتِ أُمِّ سَلَمَةَ) ظرف ليصلي أو مشتملاً أولهما حال كونه ( وَاضِعًا طَرَفَيْهِ) بالتثنية أي الثوب ( عَلَى عَاتِقَيْهِ) صلوات الله وسلامه عليه.

قال الباجي: يريد أنه أخذ طرف ثوبه تحت يده اليمنى ووضعه على كتفه اليسرى وأخذ الطرف الآخر تحت يده اليسرى فوضعه على كتفه اليمنى وهذا نوع من الاشتمال يسمى التوشيح ويسمى الاضطباع وهو مباح في الصلاة وغيرها لأنه يمكنه إخراج يده للسجود وغيره دون كشف عورته.

وهذا الحديث رواه النسائي عن قتيبة عن مالك به، وتابعه عبيد الله بن موسى ويحيى القطان عند البخاري وأبو أسامة عنده وعند مسلم وحماد بن زيد ووكيع عند مسلم خمستهم عن هشام، ورواه مسلم أيضًا من طريق الليث عن يحيى بن سعيد عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف عن عمر بن أبي سلمة.

( مَالِكٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ سَائِلًا) قال الحافظ: لم أقف على اسمه لكن ذكر شمس الأئمة السرخسي الحنفي في كتابه المبسوط أن السائل ثوبان ( سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الصَّلَاةِ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ) وفي رواية في الثوب الواحد ( فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَوَلِكُلِّكُمْ ثَوْبَانِ) استفهام إنكاري إبطالي.

قال الخطابي: لفظه استخبار ومعناه الإخبار عما هم عليه من قلة الثياب، ووقع في ضمنه الفتوى من طريق الفحوى كأنه يقول: إذا علمتم أن ستر العورة فرض الصلاة والصلاة لازمة وليس لكل واحد منكم ثوبان فكيف لم تعلموا أن الصلاة في الثوب الواحد جائزة أي مع مراعاة ستر العورة به.

وقال الطحاوي: معناه لو كانت الصلاة مكروهة في الثوب الواحد لكرهته لمن لا يجد إلا ثوبًا واحدًا اهـ.
وهذه الملازمة ممنوعة للفرق بين القادر وغيره والسؤال إنما هو عن الجواز وعدمه لا عن الكراهة اهـ.

وقال الباجي في الجواب مع السؤال إشارة إلى أن عدم أكثر من الثوب الواحد أمر شائع والضرورة إذا كانت شائعة كانت الرخصة بها عامة.
ألا ترى أن غالب حال السفر المشقة فعمت رخصته من لا تلحقه مشقة فيه ولما ندرت في الحضر لم تدرك الرخصة فيه من تدركه المشقة، ولما كان عدم الثوب الواحد نادرًا لم تجز الصلاة دونه مع التمكن منه والثوبان أفضل لمن وسع الله عليه اهـ.

وهذا الحديث رواه البخاري عن عبد الله بن يوسف ومسلم عن يحيى والنسائي عن قتيبة الثلاثة عن مالك به، ورواه ابن حبان من طريق الأوزاعي عن ابن شهاب، لكن قال في الجواب ليتوشح به ثم ليصلي فيه.
قال الحافظ: فيحتمل أن يكونا حديثين أو حديثًا واحدًا فرقه الرواة وهو الأظهر.

( مَالِكٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّهُ قَالَ: سُئِلَ أَبُو هُرَيْرَةَ: هَلْ يُصَلِّي الرَّجُلُ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، فَقِيلَ لَهُ: هَلْ تَفْعَلُ أَنْتَ ذَلِكَ؟ فَقَالَ: نَعَمْ إِنِّي لَأُصَلِّي فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ وَإِنَّ ثِيَابِي لَعَلَى الْمِشْجَبِ) بكسر الميم وسكون المعجمة وفتح الجيم فموحدة عيدان تضم رؤوسها ويفرج بين قوائمها توضع عليها الثياب وغيرها.

وقال ابن سيده: المشجب والشجاب خشبات ثلاث يعلق عليها الراعي دلوه وسقاءه ويقال في المثل فلان كالمشجب من حيث قصدته وجدته.

قال الباجي: اقتصر على الجائز دون الأفضل ليبين جوازه فيقتدى به في قبول رخصة الله تعالى، ولعل السائل ممن لا يجد ثوبين فأراد تطييب نفسه وإعلامه بصحة ذلك وأنه يفعله مع القدرة على ثوبين فكيف بمن لا يقدر أو أخبره بفعله النادر أو بفعله في منزله دون المساجد.

قال مالك في المبسوط: ليس من أمر الناس أن يلبس الرجل الثوب الواحد في الجماعة فكيف بالمسجد وقال تعالى: { { خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ } } قال السدّي: هي ما يواري العورة والأظهر أنه الرداء أو ما يتجمل به من الثياب.

( مَالِكٍ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ كَانَ يُصَلِّي فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ) قال محمد بن المنكدر: رأيت جابر بن عبد الله يصلي في ثوب واحد وقال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يصلي في ثوب رواه البخاري، وعنده من وجه آخر عن ابن المنكدر قال: صلى جابر في إزار قد عقده من قبل قفاه وثيابه على المشجب فقال له قائل: أتصلي في إزار واحد؟ فقال: إنما صنعت ذلك ليراني أحمق مثلك.
وأيضًا كان له ثوبان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم.

وفي مسلم أن القائل عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت، وفي رواية أن سعيد بن الحارث سأله ولعلهما جميعًا سألاه والمراد بالأحمق الجاهل لقوله في رواية أخرى أحببت أن تراني الجهال مثلكم.
رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يصلي كذا، والحمق وضع الشيء في غير موضعه مع العلم بقبحه كما في النهاية، والغرض بيان جواز الصلاة في ثوب واحد ولو كانت الصلاة في ثوبين أفضل فكأنه قال صنعته عمدًا لبيان الجواز إما ليقتدي بي الجاهل ابتداء أو ينكر عليّ فأعلمه بجوازه، وإنما أغلظ لهم في الخطاب زجرًا عن الإنكار على العلماء وحثًا لهم على البحث في الأمور الشرعية.

( مَالِكٍ عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ كَانَ يُصَلِّي فِي الْقَمِيصِ الْوَاحِدِ) مراده من سياق نحو هذا أن العمل استمرّ على ذلك.

( مَالِكٍ أَنَّهُ بَلَغَهُ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ) وهذا حديث محفوظ عنه من رواية أهل المدينة أخرجه البخاري من طريق فليح بن سليمان عن سعيد بن الحارث عن جابر ومسلم من طريق حاتم بن إسماعيل عن أبي حزرة عن عبادة بن الوليد عن جابر ( أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: مَنْ لَمْ يَجِدْ ثَوْبَيْنِ فَلْيُصَلِّي) بإثبات الياء للإشباع كقوله تعالى { { أَفَمَن يَّتَّقِي } } ( فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ) قال الباجي: يحتمل من قال بدليل الخطاب أن يمنع من الصلاة بثوب واحد من وجد ثوبين، ويحتمل أن يكون على معنى الأفضل فيتعلق المنع المفهوم من دليل الخطاب بالتفضيل دون التحريم ( مُلْتَحِفًا بِهِ) قال الزهري: الملتحف المتوشح وهو المخالف بين طرفيه على عاتقيه وهو الاشتمال على منكبيه نقله البخاري.
قال الباجي: فجعل الالتحاف هو التوشح والمشهور لغة أن الالتحاف هو الالتفاف في الثوب على أي وجه كان فيدخل تحته التوشح والاشتمال، وقد خص منه اشتمال الصماء، وفي الفتح الذي يظهر أن قوله وهو المخالف إلخ... من كلام البخاري.

( فَإِنْ كَانَ الثَّوْبُ قَصِيرًا فَلْيَتَّزِرْ بِهِ) لأن القصد الأصلي ستر العورة وهو يحصل بالاتزار ولا يحتاج إلى الانحناء عليه المخالف للاعتدال المأمور به.
هكذا الرواية بإدغام الهمزة المدغومة في التاء وهو يرد على الصرفيين حيث جعلوه خطأ وأن صوابه فليأتزر به بالهمز.

( قَالَ مَالِكٌ: أَحَبُّ إِلَيَّ أَنْ يَجْعَلَ الَّذِي يُصَلِّي فِي الْقَمِيصِ الْوَاحِدِ عَلَى عَاتِقَيْهِ ثَوْبًا أَوْ عِمَامَةً) لقوله صلى الله عليه وسلم: لا يصلي أحدكم في الثوب الواحد ليس على عاتقه شيء رواه البخاري حدّثنا أبو عاصم عن مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة.



رقم الحديث 321 وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ رَافِعٍ أَنَّهُ قَالَ: كُنْتُ أَكْتُبُ مُصْحَفًا لِحَفْصَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ.
فَقَالَتْ: إِذَا بَلَغْتَ هَذِهِ الْآيَةَ فَآذِنِّي { { حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ } } فَلَمَّا بَلَغْتُهَا آذَنْتُهَا فَأَمْلَتْ عَلَيَّ: حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ، وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى، وَصَلَاةِ الْعَصْرِ، وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ.


( مَالِكٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنِ الْقَعْقَاعِ بْنِ حَكِيمٍ) الكناني المدني تابع ثقة روى له مسلم والأربعة ( عَنْ أَبِي يُونُسَ مَوْلَى عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ) من ثقات التابعين لا يعرف اسمه ( أَنَّهُ قَالَ: أَمَرَتْنِي عَائِشَةُ أَنْ أَكْتُبَ لَهَا مُصْحَفًا) مثلث الميم والأشهر الضم ( ثُمَّ قَالَتْ: إِذَا بَلَغْتَ هَذِهِ الْآيَةَ فَآذِنِّي) بالمد وذال مكسورة ونون ثقيلة أعلمني { { حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ } } الخمس بأدائها في أوقاتها { { وَالصَّلاَةِ الْوُسْطَى } } أفردها بالذكر لفضلها { { وَقُومُوا للَّهِ قَانِتِينَ } } قيل معناه مطيعين لقوله صلى الله عليه وسلم كل قنوت في القراءة فهو طاعة.
رواه أحمد وغيره، وقيل ساكتين لحديث زيد بن أرقم: كنا نتكلم في الصلاة حتى نزلت فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام رواه الشيخان.

( فَلَمَّا بَلَغْتُهَا آذَنْتُهَا فَأَمْلَتْ عَلَيَّ حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَصَلَاةِ الْعَصْرِ وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ) قال ابن عبد البر: فقوله: وصلاة العصر بالواو الفاصلة التي لم يختلف في ثبوتها في حديث عائشة هذا بخلاف حديث حفصة بعده قال: وثبوتها يدل على أنها ليست الوسطى.
قال الباجي: لأن الشيء لا يعطف على نفسه قال: وهذا يقتضي أن يكون بعد جمع القرآن في مصحف وقبل أن تجمع المصاحف على المصاحف التي كتبها عثمان وأنفذها إلى الأمصار لأنه لم يكتب بعد ذلك في المصاحف إلا ما أجمع عليه وثبت بالتواتر أنه قرآن.

( قَالَتْ عَائِشَةُ: سَمِعْتُهَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قال الباجي: يحتمل أنها سمعتها على أنها قرآن ثم نسخت كما في حديث البراء، فلعل عائشة لم تعلم بنسخها أو اعتقدت أنها مما نسخ حكمه وبقي رسمه، ويحتمل أنه ذكرها صلى الله عليه وسلم على أنها من غير القرآن لتأكيد فضيلتها فظنتها قرآنًا فأرادت إثباتها في المصحف لذلك أو أنها اعتقدت جواز إثبات غير القرآن معه على ما روي عن أبيّ وغيره من الصحابة أنهم جوّزوا إثبات القنوت وبعض التفسير في المصحف وإن لم يعتقدوه قرآنًا اهـ.
واحتماله الثاني ليس بظاهر.

وقال أبو عمر: النسخ في القرآن ثلاثة أوجه.
نسخ رسم فلا يقرأ به إلا أنه ربما جاءت منه أشياء لا يقطع بأنها قرآن، والثاني نسخ خطه وبقاء حكمه كقوله وصلاة العصر عند من ذهب إليه، والثالث أن ينسخ حكمه ويبقى خطه كقوله: { { وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لأزْوَاجِهِم } } نسخها { { يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا } } اهـ باختصار.

وحديث عائشة هذا رواه مسلم عن يحيى وأبو داود عن القعنبي والترمذي عن قتيبة الثلاثة عن مالك به.
وروى مسلم عن عقبة عن شقيق بن عقبة عن البراء بن عازب قال: نزلت هذه الآية ( حافظوا على الصلوات وصلاة العصر) فقرأناها ما شاء الله ثم نسخها الله فنزلت { { حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاَةِ الْوُسْطَى } } فقال رجل كان جالسًا عند شقيق له: هي إذًا صلاة العصر، فقال البراء: قد أخبرتك كيف نزلت وكيف نسخها الله فالله أعلم.

قال القرطبي: وهذا أقوى حجة لمن قال إنها غير العصر لأنه يشعر بأنها أبهمت بعدما عينت.
قال الحافظ: وفي إشعاره بذلك نظر بل الذي فيه أنها عينت ثم وصفت ولذا قال الرجل فهي إذًا العصر ولم ينكر عليه البراء نعم جواب البراء يشعر بالتوقف لما يطرقه من الاحتمال اهـ.

وعبارة المفهم يظهر منه التردّد لكن في ماذا هل نسخ تعيينها فقط وبقيت هي الوسطى أو نسخ كونها الوسطى فيه تردّد وإلا فقد أخبر بوقوع النسخ، وقال الأبيّ: لا يعترض على أنها العصر بقول البراء قد أخبرتك إلخ لاحتمال أن المنسوخ النطق بلفظ العصر، وقد أشار البراء إلى الاحتمال بقوله، فالله أعلم.

( مَالِكٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ عَمْرِو) بفتح العين ( بْنِ رَافِعٍ) العدوي مولاهم المدني مقبول ( أَنَّهُ قَالَ: كُنْتُ أَكْتُبُ مُصْحَفًا لِحَفْصَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ فَقَالَتْ: إِذَا بَلَغْتَ هَذِهِ الْآيَةَ فَآذِنِّي) أعلمني ( { { حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاَةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا للَّهِ قَانِتِينَ } } فَلَمَّا بَلَغْتُهَا آذَنْتُهَا فَأَمْلَتْ) بفتح الهمزة وسكون الميم وفتح اللام الخفيفة من أملى وبفتح الميم واللام مشدّدة من أملل يملل أي ألقت ( عَلَيَّ) يقال أمللت الكتاب على الكاتب إملالاً ألقيته عليه وأمليته عليه إملاء فالأولى لغة الحجاز وبني أسد والثانية لغة بني تميم وقيس، وجاء الكتاب العزيز بهما { { وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ } } فهي تملي عليه ( حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَصَلَاةِ الْعَصْرِ) بالواو ( وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ) وروي بحذف الواو وزعم بعضهم أن إثبات الواو وسقوطها سواء كقوله:

أنا الملك القرم وابن الهمام
وليث الكتيبة في المزدحم

أراد القرم ابن الهمام وقوله: { { مَن كَانَ عَدُوًّا للَّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ } } يريد وملائكته جبريل وميكائيل و { { فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ } } أي فاكهة نخل ورمّان وخولف هذا القائل في ذلك، ومالك روى حديث حفصة موقوفًا، ورواه هشام بن سعد عن زيد بن أسلم عن عمر فذكره، وزاد عن حفصة هكذا سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم أخرجه ابن عبد البر.

وروى إسماعيل بن إسحاق وابن المنذر من طريق عبيد الله عن نافع: أن حفصة أمرت مولى لها أن يكتب لها مصحفًا فذكر مثله وزاد أنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولها: قال نافع: فقرأت ذلك المصحف فوجدت فيه الواو.
قال أبو عمر: إسناده صحيح.

قال الحافظ: وحديث عائشة وحفصة من حجج من قال إنها غير العصر لأن العطف يقتضي المغايرة فتكون العصر غير الوسطى، وأجيب: باحتمال زيادة الواو، ويؤيده ما رواه أبو عبيد بإسناد صحيح عن أبيّ بن كعب أنه كان يقرؤها ( حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى صلاة العصر) بغير واو وباحتمال أنها عاطفة لكن عطف صفة لا عطف ذات بدليل رواية ابن جرير عن عروة كان في مصحف عائشة والصلاة الوسطى وهي صلاة العصر.

وقال الحافظ صلاح الدين العلائي: حاصل أدلة من قال إنّ الوسطى غير العصر يرجع إلى ثلاثة أنواع.
أحدها: تنصيص بعض الصحابة وهو معارض بمثله ممن قال منهم إنها العصر وترجح بالنص المرفوع وإذا اختلف الصحابة لم يكن قول بعضهم حجة على غيره فتبقى حجة المرفوع قائمة.
ثانيها: معارضة المرفوع بالتأكيد على فعل غيرها كالحث على المواظبة على الصبح والعشاء كما تقدّم وهو معارض بما هو أقوى منه وهو الوعيد الشديد الوارد في ترك العصر وتقدّم أيضًا.
ثالثها: ما جاء عن حفصة وعائشة من قراءة وصلاة العصر فإن العطف يقتضي المغايرة، وهذا يرد عليه إثبات القرآن بخبر الآحاد وهو ممتنع وكونه يتنزل منزلة خبر الواحد مختلف فيه سلمنا لكن لا يصلح معارضًا للنص الصريح فليس العطف صريحًا في اقتضاء المغايرة لوروده في نفس الصفات كقوله تعالى { { الأوَّلُ وَالآَخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ } } كذا قال ويردّ الأوّل بأن ما قال إنه النص محتمل كما يأتي عن الباجي، والثاني بأنه وإن صح الذي تفوته العصر كأنما وتر أهله وماله لكن لم يرد وصف تارك الجماعة فيها بالنفاق كما في الصبح والعشاء، والثالث بأنه لم يثبت القرآن بخبر الآحاد إنما هو بمنزلة الحديث فيحتج به إذا صرح القارئ به برفعه كما هنا على الأصح، وحمله على زيادة الواو أو جعله من عطف الصفات خلاف الأصل، والظاهر وقد علم أنّ ما قال إنه نص صريح لم يسلم.

( مَالِكٍ عَنْ دَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ) بمهملتين مصغر ( عَنِ ابْنِ يَرْبُوعٍ الْمَخْزُومِيِّ) هو عبد الرحمن بن سعيد بن يربوع نسب إلى جدّه تابعي ثقة وقيل يربوع أبوه، والصواب أنه جدّه قاله الدارقطني ( أَنَّهُ قَالَ: سَمِعْتُ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ يَقُولُ: الصَّلَاةُ الْوُسْطَى صَلَاةُ الظُّهْرِ) وجزم زيد بذلك لقوله كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي الظهر بالهاجرة ولم تكن صلاة أشدّ على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم منها فنزلت { { حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ } } الآية.
رواه عنه أبو داود.

وروى الطيالسي عن زهرة بن معبد قال: كنا عند زيد بن ثابت فأرسلوا يسألونه عن الصلاة الوسطى فقال: هي الظهر.
ورواه من وجه آخر وزاد: كان صلى الله عليه وسلم يصلي الظهر بالهجير فلا يكون وراءه إلا الصف أو الصفان والناس في قائلتهم وفي تجارتهم فنزلت.
وكذا جاء عن أبي سعيد وعائشة أنها الظهر أخرجه ابن المنذر وغيره وبه قال أبو حنيفة في رواية، فقول إسماعيل القاضي من قال إنها الظهر ذهب إلى أنها وسط النهار، أو لعل بعضهم روى في ذلك أثرًا فتبعه تقصير شديد لأن زيد بن ثابت اعتمد على نزول الآية في الظهر.

( مَالِكٍ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ كَانَا يَقُولَانِ الصَّلَاةُ الْوُسْطَى صَلَاةُ الصُّبْحِ) روى ابن جرير من طريق عوف الأعرابي عن أبي رجاء العطاردي قال: صليت خلف ابن عباس الصبح فقنت فيها ورفع يديه ثم قال هذه الصلاة الوسطى التي أمرنا أن نقوم فيها قانتين.
وأخرجه أيضًا من وجه آخر عن ابن عمر، وأما علي فالمعروف عنه أنها العصر رواه مسلم من طريق ابن سيرين ومن طريق عبيدة السلماني عنه والترمذي والنسائي من طريق زرّ بن حبيش قال: قلنا لعبيدة سل عليًا عن الصلاة الوسطى فسأله فقال: كنا نرى أنها الصبح حتى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يوم الأحزاب: شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر.
كذا في الفتح.

وسبقه في التمهيد إلى ذلك وزاد وقد قال قوم إن ما في الموطأ هنا عن علي أخذه من حديث حسين بن عبد الله بن ضميرة عن أبيه عن جدّه عن علي أنه قال: الصلاة الوسطى صلاة الصبح لأنه لا يوجد إلا من حديث حسين وهو متروك كذا قال وفيه نظر لما علم أن بلاغ مالك صحيح وحسين ممن كذبه مالك، ومحال أن يعتمد على من كذبه.

( قَالَ مَالِكٌ وَقَوْلُ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ) أنها الصبح ( أَحَبُّ مَا سَمِعْتُ إِلَيَّ فِي ذَلِكَ) وقال به أبيّ بن كعب وأنس وجابر وأبو العالية وعبيد بن عمير وعطاء وعكرمة ومجاهد وغيرهم نقله ابن أبي حاتم عنهم.
وروى ابن جرير عن أبي العالية: صليت خلف عبد الله بن قيس بالبصرة في زمن عمر صلاة الغداة فقلت لهم ما الصلاة الوسطى؟ قالوا: هي هذه الصلاة وهو قول مالك كما رأيت وهو الذي نص عليه الشافعي في الأمّ، واحتجوا بأن فيها القنوت وقد قال تعالى: { { وَقُومُوا للَّهِ قَانِتِينَ } } وقال تعالى: { { وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ } } وبأنها لا تقصر في السفر وبأنها بين صلاتي جهر وصلاتي سر.

قال ابن عباس: تصلى في سواد من الليل وبياض من النهار وهي أكثر الصلوات تفوت الناس رواه إسماعيل القاضي قال: ويدل على ذلك قوله تعالى { { وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا } } فخصت بهذا النص مع أنها مختصة بوقتها لا يشاركها غيرها فيه، وأوضحه الباجي فقال: ووقتها أولى بأن يوصف بالتوسط لأنها لا تشارك فلو جعلناها العصر لكنا فصلناها من مشاركتها الظهر وأضفنا إلى الظهر ما لا يشاركها وهي الصبح.

وأمّا قوله صلى الله عليه وسلم يوم الخندق: شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر فيحتمل أن يريد به الوسطى من الصلوات التي شغل عنها وهي الظهر والعصر والمغرب لأنها وسطى هذه الثلاث لتأكد فضلها عن الصلاتين اللتين معها ولا يدل ذلك على أنها أفضل من صلاة الصبح وإنما الخلاف عند الإطلاق اهـ.

وذهب أكثر علماء الصحابة كما قال الترمذي وجمهور التابعين كما قال الماوردي وأكثر علماء الأثر كما قال ابن عبد البر إلى أنها العصر، وقال به من المالكية ابن حبيب وابن العربي وابن عطية وهو الصحيح عند الحنفية والحنابلة، وذهب إليه أكثر الشافعية مخالفين نص إمامهم لصحة الحديث فيه، وقد قال: إذا صح الحديث فهو مذهبي.
قال ابن كثير: لكن صمم جماعة من الشافعية أنها الصبح قولاً واحدًا اهـ.
أي لأنه نص الشافعي وقد علم أن كون الحديث مذهبه محله إذا علم أنه لم يطلع عليه أمّا إذا احتمل اطلاعه عليه وأنه حمله على محمل فلا يكون مذهبه، وهذا يحتمل أن يكون حمله على نحو ما قال الباجي.

وقيل: المغرب رواه ابن أبي حاتم بإسناد حسن عن ابن عباس وابن جرير عن قتيبة بن ذؤيب، وحجتهم أنها معتدلة في عدد الركعات وأنها لا تقصر في الأسفار وأن العمل مضى على المبادرة إليها والتعجيل بها في أوّل ما تغرب الشمس ولأن قبلها صلاتا سرّ وبعدها صلاتا جهر وقيل العشاء نقله ابن التين والقرطبي، واحتج له بأنها بين صلاتين لا تقصران ولأنها تقع عند النوم، فلذا أمرنا بالمحافظة عليها واختاره الواحدي.

وقال الباجي: وصف الصلاة بالوسطى يحتمل أنها بمعنى فاضلة نحو { { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا } } أي فاضلة قال أوسطهم وأن وقتها يتوسط أوقات الصلوات وأن توصف بذلك للتخصيص، وإن كان كل صلاة وسطى، وعلى هذه الوجوه الثلاثة فكل صلاة يصح أن توصف بأنها وسطى، لكن من جهة الفضيلة الصبح أحقها بذلك لتأكد فضيلتها إذ ليس في الصلوات أشق منها لأنها في ألذ أوقات النوم ويترك لها كالاضطجاع والدفء ويقوم في شدّة البرد ويتناول الماء البارد ووقتها أولى بأن توصف بالتوسط لأنها لا تشارك اهـ.

وقيل: الصبح والعصر معًا لقوة الأدلة فظاهر القرآن الصبح وظاهر السنة العصر قال ابن عبد البر: الاختلاف القوي في الصلاة الوسطى إنما هو في هاتين الصلاتين وغير ذلك ضعيف، وقيل جميع الصلوات الخمس قاله معاذ بن جبل، وأخرجه ابن أبي حاتم بإسناد حسن عن ابن عمر، والحجة له أن قوله { { حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ } } يتناول الفرائض والنوافل فعطف عليه الوسطى وأريد بها كل الفرائض تأكيدًا لها، واختاره ابن عبد البر.

وقيل: الجمعة ذكره ابن حبيب واحتج بما اختصت به من الاجتماع والخطبة، وقيل الظهر في الأيام والجمعة يوم الجمعة وقيل الصبح والعشاء معًا لحديث الصحيح أنهما أثقل الصلاة على المنافقين واختاره الأبهري من المالكية، وقيل الصبح أو العصر على الترديد وهو غير المتقدم الجازم بأن كلاً منهما يقال لها الوسطى وصلاة الجماعة أو الخوف أو الوتر أو صلاة عيد الأضحى أو صلاة عيد الفطر أو صلاة الضحى أو واحدة من الخمس غير معينة أو التوقف، فقد روى ابن جرير بإسناد صحيح عن سعيد بن المسيب قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مختلفين في الصلاة الوسطى هكذا وشبك بين أصابعه أو صلاة الليل فهذه عشرون قولاً: وزاد بعض المتأخرين أنها الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم.

قال القرطبي: وصار إلى أنها أبهمت جماعة من العلماء المتأخرين وهو الصحيح لتعارض الأدلة وعسر الترجيح اهـ.

فإن أراد أبهمت في الخمس فهو القول المحكي وإن أراد أبهمت فيما هو أعم من الخمس فيكون زائدًا، وقد ضعف القرطبي القول بأنها الصلوات كلها لأنه يؤدّي إلى خلاف عادة الفصحاء لأنهم لا يذكرون شيئًا مفصلاً مبينًا ثم يذكرونه مجملاً بل يذكرون الشيء مجملاً أو كليًا ثم يفصلونه، وأيضًا لا يطلقون لفظ الجمع ويعطفون عليه أحد أفراده ويريدون بذلك الفرد ذلك الجمع إذ ذاك غاية في الإلباس، وأيضًا فلو أريد ذلك كان كأنه قيل حافظوا على الصلوات والصلاة ويريد بالثاني الأوّل وهذا ليس فصيحًا في لفظه ولا صحيحًا في معناه إذ لا يحصل بالثاني تأكيد الأوّل لأنه معطوف عليه ولا يفيد معنى آخر فيكون حشوًا، فحمل كلام الله تعالى على شيء من هذه الثلاثة غير سائغ ولا جائز كذا قال وهو مبني على فهمه أن المراد بالصلوات خصوص الخمس وليس كذلك، بل يتناول الفرائض والنوافل فعطف الوسطى مرادًا بها الفرائض للتأكيد والتشريف كما قدّمنا وهذا سائغ جائز وبعد وروده عن صحابي قال فيه المصطفى إنه أعلم بالحلال والحرام لا يليق التشغيب عليه بمثل هذه الأمور العقلية.



رقم الحديث 322 وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ، عَنِ ابْنِ يَرْبُوعٍ الْمَخْزُومِيِّ أَنَّهُ قَالَ: سَمِعْتُ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ يَقُولُ: الصَّلَاةُ الْوُسْطَى صَلَاةُ الظُّهْرِ.


( مَالِكٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنِ الْقَعْقَاعِ بْنِ حَكِيمٍ) الكناني المدني تابع ثقة روى له مسلم والأربعة ( عَنْ أَبِي يُونُسَ مَوْلَى عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ) من ثقات التابعين لا يعرف اسمه ( أَنَّهُ قَالَ: أَمَرَتْنِي عَائِشَةُ أَنْ أَكْتُبَ لَهَا مُصْحَفًا) مثلث الميم والأشهر الضم ( ثُمَّ قَالَتْ: إِذَا بَلَغْتَ هَذِهِ الْآيَةَ فَآذِنِّي) بالمد وذال مكسورة ونون ثقيلة أعلمني { { حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ } } الخمس بأدائها في أوقاتها { { وَالصَّلاَةِ الْوُسْطَى } } أفردها بالذكر لفضلها { { وَقُومُوا للَّهِ قَانِتِينَ } } قيل معناه مطيعين لقوله صلى الله عليه وسلم كل قنوت في القراءة فهو طاعة.
رواه أحمد وغيره، وقيل ساكتين لحديث زيد بن أرقم: كنا نتكلم في الصلاة حتى نزلت فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام رواه الشيخان.

( فَلَمَّا بَلَغْتُهَا آذَنْتُهَا فَأَمْلَتْ عَلَيَّ حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَصَلَاةِ الْعَصْرِ وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ) قال ابن عبد البر: فقوله: وصلاة العصر بالواو الفاصلة التي لم يختلف في ثبوتها في حديث عائشة هذا بخلاف حديث حفصة بعده قال: وثبوتها يدل على أنها ليست الوسطى.
قال الباجي: لأن الشيء لا يعطف على نفسه قال: وهذا يقتضي أن يكون بعد جمع القرآن في مصحف وقبل أن تجمع المصاحف على المصاحف التي كتبها عثمان وأنفذها إلى الأمصار لأنه لم يكتب بعد ذلك في المصاحف إلا ما أجمع عليه وثبت بالتواتر أنه قرآن.

( قَالَتْ عَائِشَةُ: سَمِعْتُهَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قال الباجي: يحتمل أنها سمعتها على أنها قرآن ثم نسخت كما في حديث البراء، فلعل عائشة لم تعلم بنسخها أو اعتقدت أنها مما نسخ حكمه وبقي رسمه، ويحتمل أنه ذكرها صلى الله عليه وسلم على أنها من غير القرآن لتأكيد فضيلتها فظنتها قرآنًا فأرادت إثباتها في المصحف لذلك أو أنها اعتقدت جواز إثبات غير القرآن معه على ما روي عن أبيّ وغيره من الصحابة أنهم جوّزوا إثبات القنوت وبعض التفسير في المصحف وإن لم يعتقدوه قرآنًا اهـ.
واحتماله الثاني ليس بظاهر.

وقال أبو عمر: النسخ في القرآن ثلاثة أوجه.
نسخ رسم فلا يقرأ به إلا أنه ربما جاءت منه أشياء لا يقطع بأنها قرآن، والثاني نسخ خطه وبقاء حكمه كقوله وصلاة العصر عند من ذهب إليه، والثالث أن ينسخ حكمه ويبقى خطه كقوله: { { وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لأزْوَاجِهِم } } نسخها { { يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا } } اهـ باختصار.

وحديث عائشة هذا رواه مسلم عن يحيى وأبو داود عن القعنبي والترمذي عن قتيبة الثلاثة عن مالك به.
وروى مسلم عن عقبة عن شقيق بن عقبة عن البراء بن عازب قال: نزلت هذه الآية ( حافظوا على الصلوات وصلاة العصر) فقرأناها ما شاء الله ثم نسخها الله فنزلت { { حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاَةِ الْوُسْطَى } } فقال رجل كان جالسًا عند شقيق له: هي إذًا صلاة العصر، فقال البراء: قد أخبرتك كيف نزلت وكيف نسخها الله فالله أعلم.

قال القرطبي: وهذا أقوى حجة لمن قال إنها غير العصر لأنه يشعر بأنها أبهمت بعدما عينت.
قال الحافظ: وفي إشعاره بذلك نظر بل الذي فيه أنها عينت ثم وصفت ولذا قال الرجل فهي إذًا العصر ولم ينكر عليه البراء نعم جواب البراء يشعر بالتوقف لما يطرقه من الاحتمال اهـ.

وعبارة المفهم يظهر منه التردّد لكن في ماذا هل نسخ تعيينها فقط وبقيت هي الوسطى أو نسخ كونها الوسطى فيه تردّد وإلا فقد أخبر بوقوع النسخ، وقال الأبيّ: لا يعترض على أنها العصر بقول البراء قد أخبرتك إلخ لاحتمال أن المنسوخ النطق بلفظ العصر، وقد أشار البراء إلى الاحتمال بقوله، فالله أعلم.

( مَالِكٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ عَمْرِو) بفتح العين ( بْنِ رَافِعٍ) العدوي مولاهم المدني مقبول ( أَنَّهُ قَالَ: كُنْتُ أَكْتُبُ مُصْحَفًا لِحَفْصَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ فَقَالَتْ: إِذَا بَلَغْتَ هَذِهِ الْآيَةَ فَآذِنِّي) أعلمني ( { { حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاَةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا للَّهِ قَانِتِينَ } } فَلَمَّا بَلَغْتُهَا آذَنْتُهَا فَأَمْلَتْ) بفتح الهمزة وسكون الميم وفتح اللام الخفيفة من أملى وبفتح الميم واللام مشدّدة من أملل يملل أي ألقت ( عَلَيَّ) يقال أمللت الكتاب على الكاتب إملالاً ألقيته عليه وأمليته عليه إملاء فالأولى لغة الحجاز وبني أسد والثانية لغة بني تميم وقيس، وجاء الكتاب العزيز بهما { { وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ } } فهي تملي عليه ( حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَصَلَاةِ الْعَصْرِ) بالواو ( وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ) وروي بحذف الواو وزعم بعضهم أن إثبات الواو وسقوطها سواء كقوله:

أنا الملك القرم وابن الهمام
وليث الكتيبة في المزدحم

أراد القرم ابن الهمام وقوله: { { مَن كَانَ عَدُوًّا للَّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ } } يريد وملائكته جبريل وميكائيل و { { فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ } } أي فاكهة نخل ورمّان وخولف هذا القائل في ذلك، ومالك روى حديث حفصة موقوفًا، ورواه هشام بن سعد عن زيد بن أسلم عن عمر فذكره، وزاد عن حفصة هكذا سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم أخرجه ابن عبد البر.

وروى إسماعيل بن إسحاق وابن المنذر من طريق عبيد الله عن نافع: أن حفصة أمرت مولى لها أن يكتب لها مصحفًا فذكر مثله وزاد أنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولها: قال نافع: فقرأت ذلك المصحف فوجدت فيه الواو.
قال أبو عمر: إسناده صحيح.

قال الحافظ: وحديث عائشة وحفصة من حجج من قال إنها غير العصر لأن العطف يقتضي المغايرة فتكون العصر غير الوسطى، وأجيب: باحتمال زيادة الواو، ويؤيده ما رواه أبو عبيد بإسناد صحيح عن أبيّ بن كعب أنه كان يقرؤها ( حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى صلاة العصر) بغير واو وباحتمال أنها عاطفة لكن عطف صفة لا عطف ذات بدليل رواية ابن جرير عن عروة كان في مصحف عائشة والصلاة الوسطى وهي صلاة العصر.

وقال الحافظ صلاح الدين العلائي: حاصل أدلة من قال إنّ الوسطى غير العصر يرجع إلى ثلاثة أنواع.
أحدها: تنصيص بعض الصحابة وهو معارض بمثله ممن قال منهم إنها العصر وترجح بالنص المرفوع وإذا اختلف الصحابة لم يكن قول بعضهم حجة على غيره فتبقى حجة المرفوع قائمة.
ثانيها: معارضة المرفوع بالتأكيد على فعل غيرها كالحث على المواظبة على الصبح والعشاء كما تقدّم وهو معارض بما هو أقوى منه وهو الوعيد الشديد الوارد في ترك العصر وتقدّم أيضًا.
ثالثها: ما جاء عن حفصة وعائشة من قراءة وصلاة العصر فإن العطف يقتضي المغايرة، وهذا يرد عليه إثبات القرآن بخبر الآحاد وهو ممتنع وكونه يتنزل منزلة خبر الواحد مختلف فيه سلمنا لكن لا يصلح معارضًا للنص الصريح فليس العطف صريحًا في اقتضاء المغايرة لوروده في نفس الصفات كقوله تعالى { { الأوَّلُ وَالآَخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ } } كذا قال ويردّ الأوّل بأن ما قال إنه النص محتمل كما يأتي عن الباجي، والثاني بأنه وإن صح الذي تفوته العصر كأنما وتر أهله وماله لكن لم يرد وصف تارك الجماعة فيها بالنفاق كما في الصبح والعشاء، والثالث بأنه لم يثبت القرآن بخبر الآحاد إنما هو بمنزلة الحديث فيحتج به إذا صرح القارئ به برفعه كما هنا على الأصح، وحمله على زيادة الواو أو جعله من عطف الصفات خلاف الأصل، والظاهر وقد علم أنّ ما قال إنه نص صريح لم يسلم.

( مَالِكٍ عَنْ دَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ) بمهملتين مصغر ( عَنِ ابْنِ يَرْبُوعٍ الْمَخْزُومِيِّ) هو عبد الرحمن بن سعيد بن يربوع نسب إلى جدّه تابعي ثقة وقيل يربوع أبوه، والصواب أنه جدّه قاله الدارقطني ( أَنَّهُ قَالَ: سَمِعْتُ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ يَقُولُ: الصَّلَاةُ الْوُسْطَى صَلَاةُ الظُّهْرِ) وجزم زيد بذلك لقوله كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي الظهر بالهاجرة ولم تكن صلاة أشدّ على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم منها فنزلت { { حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ } } الآية.
رواه عنه أبو داود.

وروى الطيالسي عن زهرة بن معبد قال: كنا عند زيد بن ثابت فأرسلوا يسألونه عن الصلاة الوسطى فقال: هي الظهر.
ورواه من وجه آخر وزاد: كان صلى الله عليه وسلم يصلي الظهر بالهجير فلا يكون وراءه إلا الصف أو الصفان والناس في قائلتهم وفي تجارتهم فنزلت.
وكذا جاء عن أبي سعيد وعائشة أنها الظهر أخرجه ابن المنذر وغيره وبه قال أبو حنيفة في رواية، فقول إسماعيل القاضي من قال إنها الظهر ذهب إلى أنها وسط النهار، أو لعل بعضهم روى في ذلك أثرًا فتبعه تقصير شديد لأن زيد بن ثابت اعتمد على نزول الآية في الظهر.

( مَالِكٍ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ كَانَا يَقُولَانِ الصَّلَاةُ الْوُسْطَى صَلَاةُ الصُّبْحِ) روى ابن جرير من طريق عوف الأعرابي عن أبي رجاء العطاردي قال: صليت خلف ابن عباس الصبح فقنت فيها ورفع يديه ثم قال هذه الصلاة الوسطى التي أمرنا أن نقوم فيها قانتين.
وأخرجه أيضًا من وجه آخر عن ابن عمر، وأما علي فالمعروف عنه أنها العصر رواه مسلم من طريق ابن سيرين ومن طريق عبيدة السلماني عنه والترمذي والنسائي من طريق زرّ بن حبيش قال: قلنا لعبيدة سل عليًا عن الصلاة الوسطى فسأله فقال: كنا نرى أنها الصبح حتى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يوم الأحزاب: شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر.
كذا في الفتح.

وسبقه في التمهيد إلى ذلك وزاد وقد قال قوم إن ما في الموطأ هنا عن علي أخذه من حديث حسين بن عبد الله بن ضميرة عن أبيه عن جدّه عن علي أنه قال: الصلاة الوسطى صلاة الصبح لأنه لا يوجد إلا من حديث حسين وهو متروك كذا قال وفيه نظر لما علم أن بلاغ مالك صحيح وحسين ممن كذبه مالك، ومحال أن يعتمد على من كذبه.

( قَالَ مَالِكٌ وَقَوْلُ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ) أنها الصبح ( أَحَبُّ مَا سَمِعْتُ إِلَيَّ فِي ذَلِكَ) وقال به أبيّ بن كعب وأنس وجابر وأبو العالية وعبيد بن عمير وعطاء وعكرمة ومجاهد وغيرهم نقله ابن أبي حاتم عنهم.
وروى ابن جرير عن أبي العالية: صليت خلف عبد الله بن قيس بالبصرة في زمن عمر صلاة الغداة فقلت لهم ما الصلاة الوسطى؟ قالوا: هي هذه الصلاة وهو قول مالك كما رأيت وهو الذي نص عليه الشافعي في الأمّ، واحتجوا بأن فيها القنوت وقد قال تعالى: { { وَقُومُوا للَّهِ قَانِتِينَ } } وقال تعالى: { { وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ } } وبأنها لا تقصر في السفر وبأنها بين صلاتي جهر وصلاتي سر.

قال ابن عباس: تصلى في سواد من الليل وبياض من النهار وهي أكثر الصلوات تفوت الناس رواه إسماعيل القاضي قال: ويدل على ذلك قوله تعالى { { وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا } } فخصت بهذا النص مع أنها مختصة بوقتها لا يشاركها غيرها فيه، وأوضحه الباجي فقال: ووقتها أولى بأن يوصف بالتوسط لأنها لا تشارك فلو جعلناها العصر لكنا فصلناها من مشاركتها الظهر وأضفنا إلى الظهر ما لا يشاركها وهي الصبح.

وأمّا قوله صلى الله عليه وسلم يوم الخندق: شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر فيحتمل أن يريد به الوسطى من الصلوات التي شغل عنها وهي الظهر والعصر والمغرب لأنها وسطى هذه الثلاث لتأكد فضلها عن الصلاتين اللتين معها ولا يدل ذلك على أنها أفضل من صلاة الصبح وإنما الخلاف عند الإطلاق اهـ.

وذهب أكثر علماء الصحابة كما قال الترمذي وجمهور التابعين كما قال الماوردي وأكثر علماء الأثر كما قال ابن عبد البر إلى أنها العصر، وقال به من المالكية ابن حبيب وابن العربي وابن عطية وهو الصحيح عند الحنفية والحنابلة، وذهب إليه أكثر الشافعية مخالفين نص إمامهم لصحة الحديث فيه، وقد قال: إذا صح الحديث فهو مذهبي.
قال ابن كثير: لكن صمم جماعة من الشافعية أنها الصبح قولاً واحدًا اهـ.
أي لأنه نص الشافعي وقد علم أن كون الحديث مذهبه محله إذا علم أنه لم يطلع عليه أمّا إذا احتمل اطلاعه عليه وأنه حمله على محمل فلا يكون مذهبه، وهذا يحتمل أن يكون حمله على نحو ما قال الباجي.

وقيل: المغرب رواه ابن أبي حاتم بإسناد حسن عن ابن عباس وابن جرير عن قتيبة بن ذؤيب، وحجتهم أنها معتدلة في عدد الركعات وأنها لا تقصر في الأسفار وأن العمل مضى على المبادرة إليها والتعجيل بها في أوّل ما تغرب الشمس ولأن قبلها صلاتا سرّ وبعدها صلاتا جهر وقيل العشاء نقله ابن التين والقرطبي، واحتج له بأنها بين صلاتين لا تقصران ولأنها تقع عند النوم، فلذا أمرنا بالمحافظة عليها واختاره الواحدي.

وقال الباجي: وصف الصلاة بالوسطى يحتمل أنها بمعنى فاضلة نحو { { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا } } أي فاضلة قال أوسطهم وأن وقتها يتوسط أوقات الصلوات وأن توصف بذلك للتخصيص، وإن كان كل صلاة وسطى، وعلى هذه الوجوه الثلاثة فكل صلاة يصح أن توصف بأنها وسطى، لكن من جهة الفضيلة الصبح أحقها بذلك لتأكد فضيلتها إذ ليس في الصلوات أشق منها لأنها في ألذ أوقات النوم ويترك لها كالاضطجاع والدفء ويقوم في شدّة البرد ويتناول الماء البارد ووقتها أولى بأن توصف بالتوسط لأنها لا تشارك اهـ.

وقيل: الصبح والعصر معًا لقوة الأدلة فظاهر القرآن الصبح وظاهر السنة العصر قال ابن عبد البر: الاختلاف القوي في الصلاة الوسطى إنما هو في هاتين الصلاتين وغير ذلك ضعيف، وقيل جميع الصلوات الخمس قاله معاذ بن جبل، وأخرجه ابن أبي حاتم بإسناد حسن عن ابن عمر، والحجة له أن قوله { { حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ } } يتناول الفرائض والنوافل فعطف عليه الوسطى وأريد بها كل الفرائض تأكيدًا لها، واختاره ابن عبد البر.

وقيل: الجمعة ذكره ابن حبيب واحتج بما اختصت به من الاجتماع والخطبة، وقيل الظهر في الأيام والجمعة يوم الجمعة وقيل الصبح والعشاء معًا لحديث الصحيح أنهما أثقل الصلاة على المنافقين واختاره الأبهري من المالكية، وقيل الصبح أو العصر على الترديد وهو غير المتقدم الجازم بأن كلاً منهما يقال لها الوسطى وصلاة الجماعة أو الخوف أو الوتر أو صلاة عيد الأضحى أو صلاة عيد الفطر أو صلاة الضحى أو واحدة من الخمس غير معينة أو التوقف، فقد روى ابن جرير بإسناد صحيح عن سعيد بن المسيب قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مختلفين في الصلاة الوسطى هكذا وشبك بين أصابعه أو صلاة الليل فهذه عشرون قولاً: وزاد بعض المتأخرين أنها الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم.

قال القرطبي: وصار إلى أنها أبهمت جماعة من العلماء المتأخرين وهو الصحيح لتعارض الأدلة وعسر الترجيح اهـ.

فإن أراد أبهمت في الخمس فهو القول المحكي وإن أراد أبهمت فيما هو أعم من الخمس فيكون زائدًا، وقد ضعف القرطبي القول بأنها الصلوات كلها لأنه يؤدّي إلى خلاف عادة الفصحاء لأنهم لا يذكرون شيئًا مفصلاً مبينًا ثم يذكرونه مجملاً بل يذكرون الشيء مجملاً أو كليًا ثم يفصلونه، وأيضًا لا يطلقون لفظ الجمع ويعطفون عليه أحد أفراده ويريدون بذلك الفرد ذلك الجمع إذ ذاك غاية في الإلباس، وأيضًا فلو أريد ذلك كان كأنه قيل حافظوا على الصلوات والصلاة ويريد بالثاني الأوّل وهذا ليس فصيحًا في لفظه ولا صحيحًا في معناه إذ لا يحصل بالثاني تأكيد الأوّل لأنه معطوف عليه ولا يفيد معنى آخر فيكون حشوًا، فحمل كلام الله تعالى على شيء من هذه الثلاثة غير سائغ ولا جائز كذا قال وهو مبني على فهمه أن المراد بالصلوات خصوص الخمس وليس كذلك، بل يتناول الفرائض والنوافل فعطف الوسطى مرادًا بها الفرائض للتأكيد والتشريف كما قدّمنا وهذا سائغ جائز وبعد وروده عن صحابي قال فيه المصطفى إنه أعلم بالحلال والحرام لا يليق التشغيب عليه بمثل هذه الأمور العقلية.



رقم الحديث 323 وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ كَانَا لَا يَتَوَضَّآَنِ مِمَّا مَسَّتِ النَّارُ.


( مَالِكٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ) العدوي مولى عمر ( عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ) بلفظ ضد يمين ( عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكَلَ كَتِفَ شَاةٍ) أي لحمه.
وفي رواية للبخاري معرق أي أكل ما على العرق بفتح المهملة وسكون الراء وهو العظم ويقال له أيضًا العراق بالضم، وأفاد القاضي إسماعيل أن ذلك في بيت ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب وهي بنت عمه صلى الله عليه وسلم، ويحتمل أنه كان في بيت ميمونة كما في الصحيحين عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم أكل عندها كتفًا ثم صلى ولم يتوضأ ولا مانع من التعدد كما في الفتح.

( ثُمَّ صَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ) فهذا نص في أن لا وضوء مما مست النار، وأما خبر زيد بن ثابت مرفوعًا: الوضوء مما مست النار، وحديث أبي هريرة وعائشة رفعاه: توضئوا مما مست النار أخرج الثلاثة مسلم، وحديث جابر بن سمرة عند مسلم أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم أتوضأ من لحم الغنم؟ قال: إن شئت فتوضأ وإن شئت فلا تتوضأ قال: أتوضأ من لحم الإبل؟ قال: نعم توضأ من لحوم الإبل فقد حمل ذلك الوضوء على غسل اليد والمضمضة لزيادة دسومته وزهومة لحم الإبل، وقد نهى صلى الله عليه وسلم أن يبيت وفي يده أو فمه دسم خوفًا من عقرب ونحوها وبأنها منسوخة بقول جابر كان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك الوضوء مما مست النار رواه أبو داود وغيره.
وقد أومأ مسلم إلى النسخ فروى أولاً أحاديث زيد وأبي هريرة وعائشة، ثم عقبها بحديث ابن عباس هذا فرواه عن القعنبي والبخاري عن ابن يوسف كلاهما عن مالك به.

( مالِكٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ) بكسر العين الأنصاري ( عَنْ بُشَيْرِ) بضم الموحدة وفتح المعجمة ( بْنِ يَسَارٍ) بتحتية ومهملة ( مَوْلَى بَنِي حَارِثَةَ) من الأنصار الأنصاري الحارثي المدني وثقه ابن معين.
قال ابن سعد: كان شيخًا كبيرًا فقيهًا أدرك عامة الصحابة وكان قليل الحديث.

( عَنْ سُوَيْدِ) بضم السين ( بْنِ النُّعْمَانِ) بضم النون ابن مالك الأنصاري صحابي شهد أحدًا وما بعدها ما روى عنه سوى بشير، وذكر العسكري أنه استشهد بالقادسية قال في الإصابة: وفيه نظر لأن بشير بن يسار سمع منه وهو لم يلحق ذلك الزمان ( أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ خَرَجَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ خَيْبَرَ) بخاء معجمة مفتوحة وتحتية ساكنة وموحدة مفتوحة وراء غير منصرف للعلمية والتأنيث وهي مدينة كبيرة ذات حصون ومزارع ونخل كثير على ثمانية برد من المدينة إلى جهة الشام.
ذكر أبو عبيد البكري أنها سميت باسم رجل من العماليق نزلها وهو خيبر أخو يثرب ابنا قانية بن مهاييل، وقيل الخيبر بلسان اليهود الحصن ولذا سميت خيابر أيضًا ذكره الحازمي.

( حَتَّى إِذَا كَانُوا بِالصَّهْبَاءِ) بفتح المهملة والمد ( وَهِيَ مِنْ أَدْنَى) أي أسفل ( خَيْبَرَ) أي طرفها مما يلي المدينة وفي رواية للبخاري وهي على روحة من خيبر، وقال أبو عبيد البكري: هي على بريد، وبين البخاري في الأطعمة من حديث ابن عيينة أن قوله وهي أدنى خيبر من قول يحيى بن سعيد أدرجت ( نَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَلَّى الْعَصْرَ ثُمَّ دَعَا بِالْأَزْوَادِ) جمع زاد وهو ما يؤكل في السفر ( فَلَمْ يُؤْتَ إِلَّا بِالسَّوِيقِ) قال الداودي: وهو دقيق الشعير أو السلت المقلو، وقال غيره يكون من القمح وقد وصفه أعرابي فقال عدة المسافر وطعام العجلان وبلغة المريض ( فَأَمَرَ بِهِ فَثُرِّيَ) بضم المثلثة وشد الراء ويجوز تخفيفها أي بل بالماء لما لحقه من اليبس ( فَأَكَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) منه ( وَأَكَلْنَا) منه.
زاد في رواية للبخاري وشربنا وله في أخرى فلكنا وأكلنا وشربنا أي من الماء أو من مائع السويق.

( ثُمَّ قَامَ إِلَى الْمَغْرِبِ فَمَضْمَضَ) قبل الدخول في الصلاة ( وَمَضْمَضْنَا) وفائدتها وإن كان لا دسم في السويق أنه يحتبس بقاياه بين الأسنان ونواحي الفم فيشغله ببلعه عن الصلاة ( ثُمَّ صَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ) بسبب أكل السويق.

قال الخطابي: فيه أن الوضوء مما مست النار منسوخ لأنه متقدم، وخيبر كانت سنة سبع.
قال الحافظ: لا دلالة فيه لأن أبا هريرة حضر بعد فتحها، وروي الأمر بالوضوء كما في مسلم، وكان يفتي به بعد النبي صلى الله عليه وسلم، واستدل به البخاري على جواز صلاتين فأكثر بوضوء واحد وعلى استحباب المضمضة بعد الطعام وفيه جمع الرفقاء على الزاد في السفر وإن كان بعضهم أكثر أكلاً وحمل الأزواد في السفر وأنه لا يقدح في التوكل، وأخذ منه المهلب أن الإمام يأخذ المحتكرين بإخراج الطعام عند قلته ليبيعوه من أهل الحاجة، وأن الإمام ينظر لأهل العسكر فيجمع الزاد ليصيب منه من لا زاد معه.

وأخرجه البخاري عن عبد الله بن يوسف عن مالك به ولم يخرجه مسلم.

( مالِكٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ) بن عبد الله بن الهدير بالتصغير التيمي المدني عن أبيه وجابر وابن عمر وابن عباس وأبي أيوب وأبي هريرة وعائشة وخلق، وعنه الزهري وأبو حنيفة ومالك والسفيانان وخلق.
قال ابن عيينة: كان من معادن الصدق ويجتمع إليه الصالحون، وثقه ابن معين وأبو حاتم مات سنة ثلاثين ومائة أو بعدها بسنة.

( وَعَنْ صَفْوَانَ بْنِ سُلَيْمٍ) بضم السين ( أَنَّهُمَا أَخْبَرَاهُ) أي مالكًا ( عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَارِثِ التَّيْمِيِّ) أي تيم قريش ( عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْهُدَيْرِ) بالتصغير ابن عبد العزى بن عامر بن الحارث بن حارثة بن سعد بن تيم بن مرة التيمي، ولد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وله عن أبي بكر وعمر وغيرهما وهو معدود في كبار التابعين قاله أبو عمر، ومنهم من أدخل بين عبد الله والهدير ربيعة آخر، وذكره ابن حبان فقال: له صحبة ثم ذكره في ثقات التابعين.
وقال الدارقطني: تابع كبير قليل المسند وكان ثقة من خيار الناس مات سنة ثلاث وتسعين.

( أَنَّهُ تَعَشَّى مَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ) طعامًا مسته النار ( ثُمَّ صَلَّى) عمر ( وَلَمْ يَتَوَضَّأْ) ففيه دلالة على النسخ.
وقد روى الطبراني في مسند الشاميين بإسناد حسن عن مسلم بن عامر قال: رأيت أبا بكر وعمر وعثمان أكلوا مما مست النار ولم يتوضئوا وجاء من طرق كثيرة عن جابر مرفوعًا وموقوفًا على الثلاثة مفرقًا ومجموعًا.

( مالِكٍ عَنْ ضَمْرَةَ) بفتح المعجمة وإسكان الميم ( بْنِ سَعِيدٍ) بن أبي حنة بمهملة ثم نون وقيل موحدة الأنصاري ( الْمَازِنِيِّ) نسبة إلى مازن بن النجار المدني تابع صغير ثقة ( عَنْ أَبَانَ بْنِ عُثْمَانَ) الأموي أبي سعيد أو أبي عبد الله المدني ثقة مات سنة خمس ومائة.

( أَنَّ) أباه ( عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ) أمير المؤمنين ( أَكَلَ خُبْزًا وَلَحْمًا ثُمَّ مَضْمَضَ) فاه ( وَغَسَلَ يَدَيْهِ وَمَسَحَ بِهِمَا وَجْهَهُ) لعله خشي أن يعلق به شيء من الطعام ( ثُمَّ صَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ) فهو دليل أيضًا على نسخ الوضوء مما مست النار.

( مَالِكٍ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ) أبا الحسن الهاشمي أمير المؤمنين كثير الفضائل ( وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ كَانَا لَا يَتَوَضَّآَنِ مِمَّا مَسَّتِ النَّارُ) لأنه ليس بناقض.

( مَالِكٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ) الأنصاري ( أَنَّهُ سَأَلَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ) العنزي حليف بني عدي ولد على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ووثقه العجلي مات سنة بضع وثمانين.

( عَنِ الرَّجُلِ يَتَوَضَّأُ لِلصَّلَاةِ ثُمَّ يُصِيبُ طَعَامًا قَدْ مَسَّتْهُ النَّارُ أَيَتَوَضَّأُ؟ قَالَ: رَأَيْتُ أَبِي) عامر بن ربيعة بن كعب بن مالك العنزي بفتح المهملة وسكون النون وزاي حليف آل الخطاب صحابي مشهور أسلم قديمًا وهاجر وشهد بدرًا مات ليالي قتل عثمان ( يَفْعَلُ ذَلِكَ وَلَا يَتَوَضَّأُ) فدل ذلك على النسخ أيضًا.

( مَالِكٍ عَنْ أَبِي نُعَيْمٍ) بضم النون ( وَهْبِ بْنِ كَيْسَانَ) القرشي مولاهم المدني المعلم عن جابر وابن عباس وابن الزبير وأسماء وعدة، وعنه مالك وابن إسحاق وأيوب السختياني وآخرون، وثقه النسائي وغيره، وروى له الجميع ومات سنة سبع وعشرين ومائة.

( أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ) بن عمرو بن حرام بمهملة وراء ( الْأَنْصَارِيَّ) السلمي بفتحتين صحابي ابن صحابي غزا تسع عشرة غزوة مع المصطفى ولم يشهد بدرًا ولا أحدًا منعه أبوه واستغفر له النبي صلى الله عليه وسلم ليلة البعير خمسًا وعشرين مرة، وكانت له حلقة في المسجد النبوي يؤخذ عنه، ومات بالمدينة وقيل بمكة وقيل بقبا سنة ثمان وسبعين أو سنة تسع أو سبع أو أربع أو ثلاث أو اثنين وهو ابن أربع وتسعين سنة.

( يَقُولُ: رَأَيْتُ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ) لسبقه لتصديق النبي صلى الله عليه وسلم وكان علي يحلف أن الله أنزل اسم أبي بكر من السماء الصديق ( أَكَلَ لَحْمًا ثُمَّ صَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ) فهؤلاء الخلفاء الأربع وعامر بن ربيعة وابن عباس فعلوا ذلك بعد النبي صلى الله عليه وسلم فدل على نسخ الوضوء مما مست النار، وقد قال مالك: إذا جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثان مختلفان وعمل أبو بكر وعمر بأحدهما دل على أن الحق ما عملا به، وكان مكحول يتوضأ مما مست النار فأخبره عطاء بن أبي رباح بحديث جابر هذا عن أبي بكر فترك الوضوء وقال: لأن يقع أبو بكر من السماء إلى الأرض أحب إليه من أن يخالف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأتى الإمام بذلك لرد قول شيخه ابن شهاب أنه ناسخ لحديث الإباحة.

روى البخاري ومسلم عن عمرو بن أمية أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يحتز كتف شاة يأكل منها فدعي إلى الصلاة فألقاها والسكين وصلى ولم يتوضأ.
زاد البيهقي قال الزهري: فذهبت تلك القصة في الناس ثم أخبر رجال من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ونساء من أزواجه أنه قال: توضئوا مما مست النار قال: وكان الزهري يرى أن الأمر بذلك ناسخ لأحاديث الإباحة لأن الإباحة سابقة واعترض عليه بحديث جابر قال: كان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك الوضوء مما مست النار رواه أبو داود والنسائي وغيرهما وصححه ابن خزيمة وابن حبان وغيرهما، لكن قال أبو داود وغيره: المراد بالأمر هنا الشأن والقصة لا مقابل النهي وأن هذا اللفظ مختصر من حديث جابر المشهور في قصة المرأة التي صنعت للنبي صلى الله عليه وسلم شاة فأكل منها ثم توضأ وصلى الظهر ثم أكل منها وصلى العصر ولم يتوضأ، فيحتمل أن هذه القصة وقعت قبل الأمر بالوضوء مما مست النار، وأن وضوءه لصلاة الظهر كان لحدث لا للأكل من الشاة.

وحكى البيهقي عن عثمان الدارمي أنه قال: لما اختلفت أحاديث الباب ولم يتبين الراجح منها نظرنا إلى ما عمل به الخلفاء الراشدون بعد النبي صلى الله عليه وسلم فرجحنا به أحد الجانبين، وبهذا يظهر حكمة ذكر الإمام لفعل الخلفاء الأربعة وغيرهم من الصحابة بعد تصديره بحديثي ابن عباس وسويد في أن المصطفى أكل مما مست النار ولم يتوضأ.

وجمع الخطابي بوجه آخر وهو أن أحاديث الأمر محمولة على الاستحباب لا على الوجوب.

( مَالِكٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ) وصله أبو داود من طريق ابن جريج والترمذي من طريق سفيان بن عيينة كلاهما عن محمد بن المنكدر عن جابر ( أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دُعِيَ لِطَعَامٍ) أي دعته امرأة من الأنصار كما في الطريق الموصولة ( فَقُرِّبَ إِلَيْهِ لَحْمٌ) من شاة ذبحتها له الأنصارية ( وَخُبْزٌ فَأَكَلَ مِنْهُ ثُمَّ تَوَضَّأَ) للأكل من الشاة أو لأنه كان محدثًا فلا دلالة فيه على وجوب الوضوء مما مست النار ولا على ندبه ( وَصَلَّى) الظهر ( ثُمَّ أُتِيَ بِفَضْلِ) أي باقي ( ذَلِكَ الطَّعَامِ فَأَكَلَ مِنْهُ ثُمَّ صَلَّى) العصر ( وَلَمْ يَتَوَضَّأْ) .

وفي رواية ابن القاسم وابن بكير: ثم دعي بفضل ذلك الطعام فقال: دعي مكان أتي فيحتمل أن صاحب الطعام سأله ذلك فأجابه لإدخال السرور عليه ويكون وقت قيامه للصلاة لم ينو الرجوع لحديث: إذا حضر الطعام فابدءوا به قبل الصلاة أي لئلا يشتغل به عن الإقبال إليها، وإن كان صلى الله عليه وسلم ليس كغيره لكنه مشرع وفيه: أنه أكل اللحم في يوم مرتين ولا يلزم أنه شبع منه فلا يعارضه قول عائشة: ما شبع من لحم في يوم مرتين كما توهم.

( مالِكٍ عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ) بالقاف ابن أبي عياش بتحتية ومعجمة القرشي مولاهم المدني عن أم خالد بنت خالد ولها صحبة ونافع وسالم والزهري وخلق، وعنه مالك وشعبة والسفيانان وابن جريج وغيرهم، وثقه أحمد ويحيى وأبو حاتم وغيرهم ولم يصح أن ابن معين لينه وقال معن وغيره: وكان مالك إذا سئل عن المغازي يقول: عليك بمغازي الرجل الصالح موسى بن عقبة فإنها أصح المغازي مات سنة إحدى وأربعين ومائة وقيل بعدها.

( عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ) بتحتية قبل الزاي ابن جارية بجيم وتحتية ( الْأَنْصَارِيِّ) أبي محمد المدني أخي عاصم بن عمر لأمه يقال ولد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وذكره ابن حبان في ثقات التابعين مات سنة ثلاث وتسعين وأبوه صحابي مشهور.

( أَنَّ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ قَدِمَ مِنَ الْعِرَاقِ فَدَخَلَ عَلَيْهِ) زوج أمه ( أَبُو طَلْحَةَ) زيد بن سهل الأنصاري النجاري مشهور بكنيته من كبار الصحابة شهد بدرًا وما بعدها مات سنة أربع وثلاثين.
وقال أبو زرعة الدمشقي: عاش بعد النبي صلى الله عليه وسلم أربعين سنة.

( وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ) الأنصاري الخزرجي أبو المنذر سيد القراء من فضلاء الصحابة في سنة موته خلف كثير فقيل سنة تسع عشرة وقيل اثنين وثلاثين وقيل غير ذلك ( فَقَرَّبَ لَهُمَا طَعَامًا قَدْ مَسَّتْهُ النَّارُ فَأَكَلُوا مِنْهُ فَقَامَ أَنَسٌ فَتَوَضَّأَ فَقَالَ) له ( أَبُو طَلْحَةَ وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ: مَا هَذَا) الفعل ( يَا أَنَسُ أَعِرَاقِيَّةٌ؟) أي أبالعراق استفدت هذا العلم وتركت عمل أهل المدينة المتلقى عن النبي صلى الله عليه وسلم ( فَقَالَ أَنَسٌ: لَيْتَنِي لَمْ أَفْعَلْ) أي لأنه يوهم للشبهة.

( وَقَامَ أَبُو طَلْحَةَ وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ فَصَلَّيَا وَلَمْ يَتَوَضَّآَ) فدل فعلهما وإنكارهما وهما منهما على أنس ورجوعه إليهما على أن إجماع أهل المدينة على أن لا وضوء مما مست النار وهو من الحجج القوية الدالة على نسخ الوضوء منه، ومن ثم ختم به هذا الباب وهو يفيد أيضًا رد ما ذهب إليه الخطابي من حمل أحاديث الأمر على الاستحباب إذ لو كان مستحبًا ما ساغ إنكارهما عليه، والله أعلم.