فهرس الكتاب

شرح الزرقاني - بَابُ انْتِظَارِ الصَّلَاةِ وَالْمَشْيِ إِلَيْهَا

رقم الحديث 389 وَحَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: الْمَلَائِكَةُ تُصَلِّي عَلَى أَحَدِكُمْ مَا دَامَ فِي مُصَلَّاهُ الَّذِي صَلَّى فِيهِ، مَا لَمْ يُحْدِثْ.
اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ
قَالَ مَالِكٌ: لَا أَرَى قَوْلَهُ: مَا لَمْ يُحْدِثْ، إِلَّا الْإِحْدَاثَ الَّذِي يَنْقُضُ الْوُضُوءَ.


انْتِظَارِ الصَّلَاةِ وَالْمَشْيِ إِلَيْهَا

( مالك عن أبي الزناد) بكسر الزاي ونون عبد الله بن ذكوان ( عن الأعرج) عبد الرحمن بن هرمز ( عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: الملائكة) الحفظة أو السيارة أو أعم من ذلك كل محتمل قاله الحافظ العراقي وتبعه تلميذه في فتح الباري وقال غيرهما: الجمع المحلى بأل يفيد الاستغراق ( تصلي على أحدكم) أي تستغفر له قيل عبر بتصلي ليتناسب الجزاء والعمل ( ما دام في مصلاه الذي صلى فيه) صلاة تامّة لأنه صلى الله عليه وسلم قال للمسيء صلاته: ارجع فصل فإنك لم تصل قال ابن أبي جمرة زاد في رواية للبخاري: ينتظر الصلاة ومفهومه أنه إذا انصرف من مصلاه انقضى ذلك، لكن مقتضى الحديث بعده أنّ للمنتظر حكم المصلي سواء بقي في مجلسه ذلك من المسجد أم تحوّل إلى غيره فيمكن حمل قوله في مصلاه على المكان المعدّ للصلاة لا الموضع الخاص الذي صلى فيه أولاً فلا تخالف بين الحديثين قاله في الفتح.
وقال في موضع آخر: ومصلاه المكان الذي أوقع فيه الصلاة من المسجد وكأنه خرج مخرج الغالب وإلاّ فلو قام إلى بقعة أخرى من المسجد مستمرًا على نية انتظار الصلاة كان كذلك انتهى.

بل في الاستذكار مصلاه المسجد وهذا هو الأغلب في معنى انتظار الصلاة، ولو قعدت امرأة في مصلى بيتها تنتظر وقت صلاة أخرى لم يبعد أن تدخل في معنى الحديث لأنها حبست نفسها عن التصرف رغبة في الصلاة، ومن هذا قيل انتظار الصلاة رباط لأنّ المرابط حبس نفسه عن المكاسب والتصرف إرصادًا للعدوّ.

وقال الباجي عن المبسوط: سئل مالك عن رجل صلى في غير جماعة ثم قعد بموضعه ينتظر صلاة أخرى أتراه في صلاة بمنزلة من كان في المسجد كما جاء في الحديث؟ قال: نعم إن شاء الله أرجو أن يكون كذلك ما لم يحدث فيبطل ذلك ولو استمرّ جالسًا.
وفيه: أنّ الحدث في المسجد أشدّ من النخامة لأنّ لها كفارة وهي دفنها ولم يذكر هنا كفارة بل عومل صاحبه بحرمان استغفار الملائكة.

( اللهم اغفر له) على إضمار قائلين أو تقول وهو بيان لقوله تصلي.
قال أبو عمر: بين في سياق الحديث أنّ صلاة الملائكة الدعاء ( اللهم ارحمه) زاد ابن ماجه: اللهم تب عليه وهو مطابق لقوله تعالى: { { وَالْمَلاَئِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الأَرْضِ } } قيل: السر فيه أنهم يطلعون على أحوال بني آدم وما فيها من المعصية والخلل في الطاعة فيقتصرون على الاستغفار لهم من ذلك لأن دفع المفسدة مقدّم على جلب المصلحة، ولو فرض أن فيهم من يحفظ من ذلك فإنه يعوّض من المغفرة بما يقابلها من الثواب.
واستدل بالحديث على أفضلية الصلاة على غيرها من الأعمال لصلاة الملائكة عليه ودعائهم له بالمغفرة والرحمة والتوبة وعلى تفضيل صالحي الناس على الملائكة لأنهم في تحصيل الدرجات بعبادتهم والملائكة مشغولون بالاستغفار والدعاء لهم.

( قال مالك: لا أرى قوله ما لم يحدث إلا الإحداث الذي ينقض الوضوء) لأن القاعد في المسجد على غير وضوء لا يكون منتظرًا للصلاة، وقيل معناه هنا الكلام القبيح وهذا ضعيف لأن الكلام القبيح لا يخرجه من أن يكون منتظرًا للصلاة قاله ابن عبد البر.

قال الباجي: وقد روى أبو هريرة مثل قول مالك وقال: الحدث فساء أو ضراط، وفي فتح الباري المراد بالحدث حدث الفرج، لكن يؤخذ منه أن اجتناب حدث اللسان واليد من باب أولى لأن الأذى منهما يكون أشدّ أشار إلى ذلك ابن بطال، ويؤخذ من قوله في مصلاه الذي صلى فيه أن ذلك مقيد بمن صلى ثم انتظر صلاة أخرى وتتقيد الصلاة الأولى بكونها مجزية أما لو كان فيها نقص فإنها تجبر بالنافلة كما ثبت في الخبر الآخر انتهى.

وهذا الحديث رواه البخاري حدّثنا عبد الله بن يوسف قال أخبرنا مالك به، ورواه مسلم وغيره.

( مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا يزال أحدكم في صلاة) أي في ثوابها لا في حكمها لأنه يحل له الكلام وغيره مما منع في الصلاة ( ما كانت) وفي رواية ما دامت ( الصلاة تحبسه) أي مدّة دوام حبس الصلاة له.
قال الباجي: سواء انتظر وقتها أو إقامتها في الجماعة ( لا يمنعه أن ينقلب) يرجع ( إلى أهله إلا الصلاة) لا غيرها.

وهذا يقتضي أنه إذا صرف نيته عن ذلك صارف آخر انقطع عنه الثواب وكذلك إذا شارك نية الانتظار أمر آخر وهل يحصل ذلك لمن نيته إيقاع الصلاة في المسجد ولو لم يكن فيه الظاهر خلافه لأنه رتب الثواب المذكور على المجموع من النية وشغل البقعة بالعبادة لكن للمذكور ثواب يخصه، ولعل هذا سر إيراد البخاري عقب هذا الحديث حديث: سبعة يظلهم الله وفيه ورجل قلبه متعلق بالمساجد ذكره الحافظ.
وقال غيره: يحتمل الحديث العموم في كل صلاة سواء اشتركا في الوقت كانتظار العصر بعد الظهر والعشاء بعد المغرب أو لم يشتركا كالباقي خلافًا للباجي حيث خصه بالمشتركتين انتهى، ويأتي له مزيد قريبًا.

وهذا الحديث والذي قبله رواه البخاري حدّثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك به فجعلهما حديثًا واحدًا، والموطأ كما ترى جعلهما حديثين وإن اتحد إسنادهما.
قال الحافظ: ولا حجر في ذلك، وأخرج مسلم هذا الثاني عن يحيى بن يحيى عن مالك به.

( مالك عن سمي) بضم السين وفتح الميم ( مولى أبي بكر أن) مولاه ( أبا بكر بن عبد الرحمن) بن الحارث بن هشام أحد الفقهاء ( كان يقول: من غدا) ذهب وقت الغدوة أوّل النهار ( أو راح) من الزوال ( إلى المسجد لا يريد غيره ليتعلم خيرًا) من غيره ( أو ليعلمه) بشدّ اللام هو لغيره ( ثم رجع إلى بيته كان كالمجاهد في سبيل الله رجع غانمًا) .
قال ابن عبد البر: معلوم أن هذا لا يدرك بالرأي والاجتهاد لأنه قطع على غيب من حكم الله وأمره في ثوابه انتهى.

وقد ورد مرفوعًا عن سهل بن سعد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من دخل مسجدي هذا ليتعلم خيرًا أو ليعلمه كان كالمجاهد في سبيل الله.
وعن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من غدا إلى المسجد لا يريد إلا أن يتعلم خيرًا أو يعلمه كان كأجر حاج تامًا حجه أخرجهما الطبراني وإسناد كل منهما حسن كذا قال السيوطي، وإنما يوافق الحديث الأوّل رواية الموطأ بقياس بقية المساجد على المسجد النبوي، وأما الثاني فحديث آخر جعل ثوابه كالحج لا كالجهاد.

( مالك عن نعيم) بضم النون ( بن عبد الله المجمر) بضم الميم وسكون الجيم وكسر الميم الثانية صفة لنعيم ولأبيه أيضًا كما تقدّم ( أنه سمع أبا هريرة يقول: إذا صلى أحدكم) فرضًا أو نفلاً لأن حذف المفعول يؤذن بالعموم وقد استظهر ذلك ابن أبي جمرة ( ثم جلس في مصلاه لم تزل الملائكة تصلي عليه) تدعو له قائلين ( اللهم اغفر له اللهم ارحمه فإن قام من مصلاه فجلس في المسجد ينتظر الصلاة لم يزل في صلاة) حكمًا من الثواب ( حتى يصلي) .

قال ابن عبد البر: هذا مثل حديثه المرفوع قبل إلا أن في هذا أن من قام من مجلسه لا يخرج من ثواب المصلي إذا كان منتظرًا للصلاة إلا أنه لا يقال إن الملائكة تصلي عليه كما تصلي على الذي في مصلاه.
قال: وهو في الموطأ موقوف، وقد رفعه عن مالك بهذا الإسناد ابن وهب عند ابن الجارود، وعثمان بن عمرو والوليد بن مسلم عند النسائي، وأخرجه ابن عبد البر من رواية إسماعيل بن جعفر عن مالك عن نعيم عن أبي سلمة عن أبي هريرة مرفوعًا انتهى.

وقد صرح نعيم بسماعه أبا هريرة فكأنه سمع منه الموقوف ومن أبي سلمة عنه المرفوع.

( مالك عن العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب) المدني صدوق مات سنة بضع وثلاثين ومائة ( عن أبيه) عبد الرحمن الجهني المدني ثقة ( عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ألا) بفتح الهمزة والتخفيف حرف تنبيه يفيد تحقيق ما بعده لتركبها من الهمزة ولا النافية وهمزة الاستفهام إذا دخلت على النفي أفادت التحقيق ( أخبركم بما يمحو الله به الخطايا) قال الباجي: كناية عن غفرانها والعفو عنها وقد يكون محوها من كتاب الحفظة دليلاً على عفوه تعالى عمن كتبت عليه ( ويرفع به الدرجات) أي المنازل في الجنة، ويحتمل أن يريد رفع درجته في الدنيا بالذكر الجميل وفي الآخرة بالثواب الجزيل.
وقال أبو عمر: هذا الحديث من أحسن ما يروى في فضائل الأعمال، وفيه طرح المسألة على المتعلم زاد في رواية لمسلم قالوا: بلى يا رسول الله.
قال الأبي: جوابهم ببلى يدل على أن لا في ألا نافية دخلت عليها ألف الاستفهام، ويحتمل أنها للاستفتاح.

( إسباغ الوضوء) أي إكماله وإتمامه واستيعاب أعضائه بالماء قال تعالى: { { وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ } } أي أتمها وأكملها ( عند المكاره) جمع مكرهة بمعنى الكره والمشقة.
قال أبو عمر: هي شدّة البرد وكل حال يكره المرء فيها نفسه على الوضوء قال عبيد بن عمير: من صدق الإيمان وبّره إسباغ الوضوء على المكاره، ومن صدق الإيمان أن يخلو الرجل بالمرأة الجميلة فيدعها لا يدعها إلا لله.
وقال الباجي: ومن المكاره شدة برد وعلة جسم وقلة ماء وحاجة إلى النوم وعجلة إلى أمر مهم وغير ذلك ( وكثرة الخطا) بالضم جمع خطوة بالفتح المرّة والضم ما بين القدمين ( إلى المساجد) وهو يكون ببعد الدار عن المسجد ويكون بكثرة التكرر عليه.
قال اليعمري: وفيه أن بعد الدار عن المسجد أفضل، وقد صرح به في قوله لبني سلمة، وقد أرادوا أن يتحوّلوا قريبًا من المسجد.
يا بني سلمة دياركم تكتب آثاركم.
وقال الأبي عن العز بن عبد السلام: لا يمر إلى المسجد من أبعد طريقيه ليكثر الخطا لأنّ الغرض الحصول في المسجد وهو يحصل بالقريبة.
قال: والحديث إنما هو تنشيط لمن بعدت داره أن لا يكسل ومن نحو ما ذكر أن لا يؤثر أبعد المسجدين منه بالصلاة فيه مع ما جاء لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد، وقالت عائشة: يا رسول الله إن لي جارين فإلى أيهما أهدي؟ قال: إلى أقربهما دارًا وإمام المسجد لا يمنعه أخذ المرتب من ثواب تكرره إليه انتهى.

( وانتظار الصلاة بعد الصلاة) قال المظهري: أي إذا صلى بالجماعة ينتظر صلاة أخرى يتعلق ذكره لها إما بأن يجلس في المسجد ينتظرها أو يكون في بيته أو يشتغل بكسبه وقلبه متعلق بها ينتظر حضورها فكل ذلك داخل في هذا الحكم.
ويؤيده حديث: ورجل قلبه معلق بالمسجد إذا خرج منه حتى يعود إليه انتهى.

وقال الباجي: هذا إنما يكون في صلاتين العصر بعد الظهر والعشاء بعد المغرب، وأما انتظار الصبح بعد العشاء فلم يكن من عمل الناس وكذا انتظار الظهر بعد الصبح، وأما انتظار المغرب بعد العصر فلا أذكر فيه نصًا، وحكمه عندي كالصبح بعد العشاء والظهر بعد الصبح لأن الذي ينتظر صلاة ليس بينها وبين التي صلى اشتراك في وقت قال: وفي ظني أني رأيته رواية لابن وهب عن مالك ولا أذكر موضعها الآن، وتعقبه الأبي بأنه ليس في الحديث ما يدل على المشتركتين لولا ما ذكره أنه ليس من عمل الناس وهو بناء على أنه يعني بالانتظار الجلوس بالمسجد.

قال ابن العربي: ويحتمل أن يريد به تعلق القلب بالصلاة فيعم الخمس.

قال الشيخ يعني ابن عرفة: جلوس الإمام في المسجد ينتظر الصلاة يدفع بذلك مشقة الرجوع لبعد أو مطر لا يمنع من نيل الثواب وفي المذكور وفي انتظار الإمام ذلك بالدويرة التي بالجامع نظر انتهى.

( فذلكم) المذكور من الثلاثة عند الطيبي وابن عرفة أو الإشارة لانتظار الصلاة كما عليه ابن عبد البر، وقال الأبي إنه الأظهر ( الرباط) المرغب فيه لأنه ربط نفسه على هذا العمل وحبسها عليه، ويحتمل أن يريد تفضيل هذا الرباط على غيره من الرباط في الثغور ولذا قال: ( فذلكم الرباط) أي أنه أفضل أنواعه كما يقال جهاد النفس هو الجهاد أي أنه أفضله، ويحتمل أن يريد الرباط الممكن المتيسر، وقد قال الشيخ أبو إسحاق الشيرازي: إن ذلك من ألفاظ الحصر ( فذلكم الرباط) ذكره ثلاثًا على معنى التعظيم لشأنه أو الإبهام أو غير ذلك قاله الباجي، وقيل أراد أن ثوابه كثواب الرباط، وقال ابن العربي: يعني به تفسير قوله تعالى: { { اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا } } وقال أبو عمر: الرباط هنا ملازمة المسجد لانتظار الصلاة، قال صاحب العين: الرباط ملازمة الثغور والرباط مواظبة الصلاة.
وقال أبو سلمة بن عبد الرحمن في قوله تعالى: { { اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا } } لم يكن الرباط على عهده صلى الله عليه وسلم ولكن نزلت في انتظار الصلاة.
وقال محمد بن كعب القرظي: اصبروا على دينكم وصابروا الوعد الذي وعدتكم ورابطوا عدوّي وعدوّكم انتهى.

وقال الطيبي في قوله: فذلكم الرباط معنى حديث رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر لإتيانه باسم الإشارة الدال على بعد منزلة المشار إليه في مقام التعظيم وإيقاع الرباط المحلى بلام الجنس خبرًا لاسم الإشارة كما في قوله { { الم ذَلِكَ الْكِتَابُ } } إذ التعريف في الخبر للجنس ولما أريد تقرير ذلك مزيد تقرير واهتمام بشأنه كرره ثلاثًا وتخصيصها بالثلاث لأن الأعمال المذكورة في الحديث ثلاث، وأتى باسم الإشارة إشارة إلى تعظيمه بالبعد.

وهذا الحديث رواه مسلم من طريق معن عن مالك به، وتابعه إسماعيل وشعبة كلاهما عن العلاء إلا أنه ليس في حديث شعبة ذكر الرباط، وفي رواية إسماعيل فذلكم الرباط مرة، وفي حديث مالك مرتين كذا قال مسلم بناء على رواية معن عنده، وإلا فأكثر الموطآت ثلاثًا، وكذا أخرجه الشافعي وأحمد والترمذي والنسائي كلهم من طريق مالك ثلاثًا.

( مالك أنه بلغه أن سعيد بن المسيب قال: يقال لا يخرج أحد من المسجد بعد النداء) لأنه دعاء إلى صلاة الجماعة فمن خرج حينئذ فقصد خلافهم وتفريق جماعتهم وهذا ممنوع باتفاق ( إلا أحد يريد الرجوع إليه) وقد نزلت به ضرورة حدث أو غيره فإن كانت ظاهرة كرعاف منعت سوء الظن به وإن كانت باطنة قبض على أنفه كالراعف ( إلا منافق) يريد أن ذلك من أفعال المنافقين، وهذا ما لم يكن صلى تلك الصلاة جماعة وإلا خرج عند النداء والإقامة فإن كان صلاها فذا فقال ابن الماجشون له أن يخرج ما لم تقم الصلاة فيلزمه إعادتها جماعة قاله كله الباجي.

قال ابن عبد البر: هذا لا يقال مثله من جهة الرأي ولا يكون إلا توقيفًا انتهى.
وقد صح مرفوعًا أخرج الطبراني برجال الصحيح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يسمع النداء في مسجدي هذا ثم يخرج منه إلا لحاجة ثم لا يرجع إليه إلا منافق.

وفي مسلم وأبي داود وأحمد عن أبي الشعثاء قال: كنا قعودًا في المسجد مع أبي هريرة فأذن المؤذن فقام رجل من المسجد يمشي فأتبعه أبو هريرة بصره حتى خرج من المسجد فقال أبو هريرة: أما هذا فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم.
زاد في رواية أحمد.
ثم قال أبو هريرة: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا كنتم في المسجد فنودي بالصلاة فلا يخرج أحدكم حتى يصلي.

قال ابن عبد البر: قال مالك: دخل أعرابي المسجد وأذن المؤذن فقام يحل عقال ناقته ليخرج فنهاه سعيد بن المسيب فلم ينته فما سارت به غير يسير حتى وقصت به فأصيب في جسده فقال سعيد: قد بلغنا أن من خرج من بين الأذان والإقامة لغير الوضوء أنه يصاب.

( مالك عن عامر بن عبد الله بن الزبير) بن العوّام الأسدي أبي الحارث المدني ثقة عابد مات سنة إحدى وعشرين ومائة ( عن عمرو) بفتح العين ( بن سليم) بضم السين ابن خلدة بسكون اللام الأنصاري ( الزرقي) بضم الزاي وفتح الراء بعدها قاف ثقة من كبار التابعين مات سنة أربع ومائة ويقال له رؤية.

( عن أبي قتادة الأنصاري) اسمه الحارث ويقال عمرو أو النعمان بن ربعي بكسر الراء وسكون الموحدة بعدها مهملة السلمي بفتحتين المدني شهد أحدًا وما بعدها ولم يصح شهوده بدرًا، ومات سنة أربع وخمسين وقيل سنة ثمان وثلاثين، والأول أصح وأشهر.

( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا دخل أحدكم المسجد) وهو متوضئ ( فليركع) أي فليصل من إطلاق الجزء وإرادة الكل ( ركعتين) هذا العدد لا مفهوم لأكثره باتفاق واختلف في أقله والصحيح اعتباره فلا يتأدى هذا المستحب بأقل من ركعتين ( قبل أن يجلس) فإن خالف وجلس لم يشرع له التدارك كذا قال جماعة وفيه نظر لما رواه ابن حبان عن أبي ذر أنه دخل المسجد فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أركعت ركعتين قال: لا.
قال: قم فاركعهما ترجم عليه ابن حبان في صحيحه تحية المسجد لا تفوت بالجلوس ومثله في قصة سليك.

وقال المحب الطبري: يحتمل أن يقال وقتهما قبل الجلوس وقت فضيلة وبعده وقت جواز، ويقال وقتهما قبله أداء وبعده قضاء، ويحتمل أن يحمل مشروعيتهما بعد الجلوس على ما لم يطل الفصل، واتفق أئمة الفتوى على أن الأمر للندب، وقال الظاهرية: للوجوب.
ومن أدلة عدمه قوله صلى الله عليه وسلم الذي رآه يتخطى: اجلس فقد آذيت ولم يأمره بصلاة كذا استدل به الطحاوي وغيره.
قال الحافظ: وفيه نظر، وقال الطحاوي أيضًا: الأوقات التي نهي عن الصلاة فيها ليس هذا الأمر بداخل فيها.

قلت: هما عمومان تعارضا الأمر بالصلاة لكل داخل من غير تفصيل والنهي عن الصلاة في أوقات مخصوصة فلا بدّ من تخصيص أحد العمومين فذهب جمع إلى تخصيص النهي وتعميم الأمر وهو الأصح عند الشافعية، وذهب جمع إلى عكسه وهو مذهب المالكية والحنفية انتهى.

وخص منه أيضًا إذا دخل والإمام يصلي الفرض أو شرع في الإقامة أو قربها لحديث: إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة وإن دخل المسجد ليمرّ فيه فقال مالك ليس عليه تحية لقوله قبل أن يجلس وهذا لم يرد الجلوس وهذا فيما عدا المسجد الحرام فتحيته الطواف وتندرج التحية تحت ركعتي الطواف.

والحديث أخرجه البخاري عن عبد الله بن يوسف عن يحيى كلاهما عن مالك به، وقد ورد على سبب وهو أن أبا قتادة دخل المسجد فوجد النبي صلى الله عليه وسلم جالسًا بين أصحابه فجلس معهم فقال له: ما منعك أن تركع قال: رأيتك جالسًا والناس جلوس.
قال: فإذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يركع ركعتين أخرجه مسلم.

( مالك عن أبي النضر) سالم بن أبي أمية ( مولى عمر بن عبيد الله) بضم العين فيهما ( عن أبي سلمة بن عبد الرحمن) بن عوف ( أنه قال له:) أي لأبي النضر ( ألم أر صاحبك) أي عمر بن عبيد الله بن معمر التيمي تيم قريش ( إذا دخل المسجد يجلس قبل أن يركع؟ قال أبو النضر يعني بذلك عمر بن عبيد الله) الذي هو مولاه سماه صاحبه ( ويعيب ذلك عليه أن يجلس إذا دخل المسجد قبل أن يركع) التحية بدل من الإشارة.

قال ابن عبد البر: إنما عاب عليه تقصيره عن حفظ نفسه في استعمال السنة مع قدرته عليها لا أن ذلك كان واجبًا عنده ولذا ( قال مالك: وذلك حسن) أي مستحب ( وليس بواجب) وعلى هذا جماعة الفقهاء، وأوجب أهل الظاهر على كل من دخل المسجد طاهرًا في حين تجوز فيه النافلة أن يركع، وأوجب بعضهم ذلك في كل وقت وقالوا فعل الخير لا يمنع منه إلا بدليل معارض له ولم يقولوا بالمجمل، ودليل مالك والجماعة أنه صلى الله عليه وسلم أمر رجلاً دخل المسجد وهو يخطب يوم الجمعة أن يركع وأمر الذي رآه يتخطى رقاب الناس بالجلوس ولم يقل له اركع، واستعمال الأحاديث لا يكون إلا على ما قال مالك.
وقال زيد بن أسلم: كان الصحابة يدخلون المسجد ثم يخرجون ولا يصلون قال: ورأيت ابن عمر يفعله وكذا سالم ابنه، وكان القاسم بن محمد يدخل المسجد فيجلس ولا يصلي وفي قوله صلى الله عليه وسلم للأعرابي الذي قال في الصلوات الخمس هل عليّ غيرها؟ قال: لا إلا أن تطوّع ما يردّ قول أهل الظاهر انتهى.

وكذا نقل ابن بطال عن أهل الظاهر الوجوب، وتوقف الحافظ فيه بأنّ ابن حزم صرح بعدمه ولا توقف لأنه وإن كان ظاهريًا لا يمتنع أن يخالفهم في مسائل ككثير من مقلدي الأئمة.



رقم الحديث 390 وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لَا يَزَالُ أَحَدُكُمْ فِي صَلَاةٍ مَا كَانَتِ الصَّلَاةُ تَحْبِسُهُ، لَا يَمْنَعُهُ أَنْ يَنْقَلِبَ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا الصَّلَاةُ.


انْتِظَارِ الصَّلَاةِ وَالْمَشْيِ إِلَيْهَا

( مالك عن أبي الزناد) بكسر الزاي ونون عبد الله بن ذكوان ( عن الأعرج) عبد الرحمن بن هرمز ( عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: الملائكة) الحفظة أو السيارة أو أعم من ذلك كل محتمل قاله الحافظ العراقي وتبعه تلميذه في فتح الباري وقال غيرهما: الجمع المحلى بأل يفيد الاستغراق ( تصلي على أحدكم) أي تستغفر له قيل عبر بتصلي ليتناسب الجزاء والعمل ( ما دام في مصلاه الذي صلى فيه) صلاة تامّة لأنه صلى الله عليه وسلم قال للمسيء صلاته: ارجع فصل فإنك لم تصل قال ابن أبي جمرة زاد في رواية للبخاري: ينتظر الصلاة ومفهومه أنه إذا انصرف من مصلاه انقضى ذلك، لكن مقتضى الحديث بعده أنّ للمنتظر حكم المصلي سواء بقي في مجلسه ذلك من المسجد أم تحوّل إلى غيره فيمكن حمل قوله في مصلاه على المكان المعدّ للصلاة لا الموضع الخاص الذي صلى فيه أولاً فلا تخالف بين الحديثين قاله في الفتح.
وقال في موضع آخر: ومصلاه المكان الذي أوقع فيه الصلاة من المسجد وكأنه خرج مخرج الغالب وإلاّ فلو قام إلى بقعة أخرى من المسجد مستمرًا على نية انتظار الصلاة كان كذلك انتهى.

بل في الاستذكار مصلاه المسجد وهذا هو الأغلب في معنى انتظار الصلاة، ولو قعدت امرأة في مصلى بيتها تنتظر وقت صلاة أخرى لم يبعد أن تدخل في معنى الحديث لأنها حبست نفسها عن التصرف رغبة في الصلاة، ومن هذا قيل انتظار الصلاة رباط لأنّ المرابط حبس نفسه عن المكاسب والتصرف إرصادًا للعدوّ.

وقال الباجي عن المبسوط: سئل مالك عن رجل صلى في غير جماعة ثم قعد بموضعه ينتظر صلاة أخرى أتراه في صلاة بمنزلة من كان في المسجد كما جاء في الحديث؟ قال: نعم إن شاء الله أرجو أن يكون كذلك ما لم يحدث فيبطل ذلك ولو استمرّ جالسًا.
وفيه: أنّ الحدث في المسجد أشدّ من النخامة لأنّ لها كفارة وهي دفنها ولم يذكر هنا كفارة بل عومل صاحبه بحرمان استغفار الملائكة.

( اللهم اغفر له) على إضمار قائلين أو تقول وهو بيان لقوله تصلي.
قال أبو عمر: بين في سياق الحديث أنّ صلاة الملائكة الدعاء ( اللهم ارحمه) زاد ابن ماجه: اللهم تب عليه وهو مطابق لقوله تعالى: { { وَالْمَلاَئِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الأَرْضِ } } قيل: السر فيه أنهم يطلعون على أحوال بني آدم وما فيها من المعصية والخلل في الطاعة فيقتصرون على الاستغفار لهم من ذلك لأن دفع المفسدة مقدّم على جلب المصلحة، ولو فرض أن فيهم من يحفظ من ذلك فإنه يعوّض من المغفرة بما يقابلها من الثواب.
واستدل بالحديث على أفضلية الصلاة على غيرها من الأعمال لصلاة الملائكة عليه ودعائهم له بالمغفرة والرحمة والتوبة وعلى تفضيل صالحي الناس على الملائكة لأنهم في تحصيل الدرجات بعبادتهم والملائكة مشغولون بالاستغفار والدعاء لهم.

( قال مالك: لا أرى قوله ما لم يحدث إلا الإحداث الذي ينقض الوضوء) لأن القاعد في المسجد على غير وضوء لا يكون منتظرًا للصلاة، وقيل معناه هنا الكلام القبيح وهذا ضعيف لأن الكلام القبيح لا يخرجه من أن يكون منتظرًا للصلاة قاله ابن عبد البر.

قال الباجي: وقد روى أبو هريرة مثل قول مالك وقال: الحدث فساء أو ضراط، وفي فتح الباري المراد بالحدث حدث الفرج، لكن يؤخذ منه أن اجتناب حدث اللسان واليد من باب أولى لأن الأذى منهما يكون أشدّ أشار إلى ذلك ابن بطال، ويؤخذ من قوله في مصلاه الذي صلى فيه أن ذلك مقيد بمن صلى ثم انتظر صلاة أخرى وتتقيد الصلاة الأولى بكونها مجزية أما لو كان فيها نقص فإنها تجبر بالنافلة كما ثبت في الخبر الآخر انتهى.

وهذا الحديث رواه البخاري حدّثنا عبد الله بن يوسف قال أخبرنا مالك به، ورواه مسلم وغيره.

( مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا يزال أحدكم في صلاة) أي في ثوابها لا في حكمها لأنه يحل له الكلام وغيره مما منع في الصلاة ( ما كانت) وفي رواية ما دامت ( الصلاة تحبسه) أي مدّة دوام حبس الصلاة له.
قال الباجي: سواء انتظر وقتها أو إقامتها في الجماعة ( لا يمنعه أن ينقلب) يرجع ( إلى أهله إلا الصلاة) لا غيرها.

وهذا يقتضي أنه إذا صرف نيته عن ذلك صارف آخر انقطع عنه الثواب وكذلك إذا شارك نية الانتظار أمر آخر وهل يحصل ذلك لمن نيته إيقاع الصلاة في المسجد ولو لم يكن فيه الظاهر خلافه لأنه رتب الثواب المذكور على المجموع من النية وشغل البقعة بالعبادة لكن للمذكور ثواب يخصه، ولعل هذا سر إيراد البخاري عقب هذا الحديث حديث: سبعة يظلهم الله وفيه ورجل قلبه متعلق بالمساجد ذكره الحافظ.
وقال غيره: يحتمل الحديث العموم في كل صلاة سواء اشتركا في الوقت كانتظار العصر بعد الظهر والعشاء بعد المغرب أو لم يشتركا كالباقي خلافًا للباجي حيث خصه بالمشتركتين انتهى، ويأتي له مزيد قريبًا.

وهذا الحديث والذي قبله رواه البخاري حدّثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك به فجعلهما حديثًا واحدًا، والموطأ كما ترى جعلهما حديثين وإن اتحد إسنادهما.
قال الحافظ: ولا حجر في ذلك، وأخرج مسلم هذا الثاني عن يحيى بن يحيى عن مالك به.

( مالك عن سمي) بضم السين وفتح الميم ( مولى أبي بكر أن) مولاه ( أبا بكر بن عبد الرحمن) بن الحارث بن هشام أحد الفقهاء ( كان يقول: من غدا) ذهب وقت الغدوة أوّل النهار ( أو راح) من الزوال ( إلى المسجد لا يريد غيره ليتعلم خيرًا) من غيره ( أو ليعلمه) بشدّ اللام هو لغيره ( ثم رجع إلى بيته كان كالمجاهد في سبيل الله رجع غانمًا) .
قال ابن عبد البر: معلوم أن هذا لا يدرك بالرأي والاجتهاد لأنه قطع على غيب من حكم الله وأمره في ثوابه انتهى.

وقد ورد مرفوعًا عن سهل بن سعد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من دخل مسجدي هذا ليتعلم خيرًا أو ليعلمه كان كالمجاهد في سبيل الله.
وعن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من غدا إلى المسجد لا يريد إلا أن يتعلم خيرًا أو يعلمه كان كأجر حاج تامًا حجه أخرجهما الطبراني وإسناد كل منهما حسن كذا قال السيوطي، وإنما يوافق الحديث الأوّل رواية الموطأ بقياس بقية المساجد على المسجد النبوي، وأما الثاني فحديث آخر جعل ثوابه كالحج لا كالجهاد.

( مالك عن نعيم) بضم النون ( بن عبد الله المجمر) بضم الميم وسكون الجيم وكسر الميم الثانية صفة لنعيم ولأبيه أيضًا كما تقدّم ( أنه سمع أبا هريرة يقول: إذا صلى أحدكم) فرضًا أو نفلاً لأن حذف المفعول يؤذن بالعموم وقد استظهر ذلك ابن أبي جمرة ( ثم جلس في مصلاه لم تزل الملائكة تصلي عليه) تدعو له قائلين ( اللهم اغفر له اللهم ارحمه فإن قام من مصلاه فجلس في المسجد ينتظر الصلاة لم يزل في صلاة) حكمًا من الثواب ( حتى يصلي) .

قال ابن عبد البر: هذا مثل حديثه المرفوع قبل إلا أن في هذا أن من قام من مجلسه لا يخرج من ثواب المصلي إذا كان منتظرًا للصلاة إلا أنه لا يقال إن الملائكة تصلي عليه كما تصلي على الذي في مصلاه.
قال: وهو في الموطأ موقوف، وقد رفعه عن مالك بهذا الإسناد ابن وهب عند ابن الجارود، وعثمان بن عمرو والوليد بن مسلم عند النسائي، وأخرجه ابن عبد البر من رواية إسماعيل بن جعفر عن مالك عن نعيم عن أبي سلمة عن أبي هريرة مرفوعًا انتهى.

وقد صرح نعيم بسماعه أبا هريرة فكأنه سمع منه الموقوف ومن أبي سلمة عنه المرفوع.

( مالك عن العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب) المدني صدوق مات سنة بضع وثلاثين ومائة ( عن أبيه) عبد الرحمن الجهني المدني ثقة ( عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ألا) بفتح الهمزة والتخفيف حرف تنبيه يفيد تحقيق ما بعده لتركبها من الهمزة ولا النافية وهمزة الاستفهام إذا دخلت على النفي أفادت التحقيق ( أخبركم بما يمحو الله به الخطايا) قال الباجي: كناية عن غفرانها والعفو عنها وقد يكون محوها من كتاب الحفظة دليلاً على عفوه تعالى عمن كتبت عليه ( ويرفع به الدرجات) أي المنازل في الجنة، ويحتمل أن يريد رفع درجته في الدنيا بالذكر الجميل وفي الآخرة بالثواب الجزيل.
وقال أبو عمر: هذا الحديث من أحسن ما يروى في فضائل الأعمال، وفيه طرح المسألة على المتعلم زاد في رواية لمسلم قالوا: بلى يا رسول الله.
قال الأبي: جوابهم ببلى يدل على أن لا في ألا نافية دخلت عليها ألف الاستفهام، ويحتمل أنها للاستفتاح.

( إسباغ الوضوء) أي إكماله وإتمامه واستيعاب أعضائه بالماء قال تعالى: { { وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ } } أي أتمها وأكملها ( عند المكاره) جمع مكرهة بمعنى الكره والمشقة.
قال أبو عمر: هي شدّة البرد وكل حال يكره المرء فيها نفسه على الوضوء قال عبيد بن عمير: من صدق الإيمان وبّره إسباغ الوضوء على المكاره، ومن صدق الإيمان أن يخلو الرجل بالمرأة الجميلة فيدعها لا يدعها إلا لله.
وقال الباجي: ومن المكاره شدة برد وعلة جسم وقلة ماء وحاجة إلى النوم وعجلة إلى أمر مهم وغير ذلك ( وكثرة الخطا) بالضم جمع خطوة بالفتح المرّة والضم ما بين القدمين ( إلى المساجد) وهو يكون ببعد الدار عن المسجد ويكون بكثرة التكرر عليه.
قال اليعمري: وفيه أن بعد الدار عن المسجد أفضل، وقد صرح به في قوله لبني سلمة، وقد أرادوا أن يتحوّلوا قريبًا من المسجد.
يا بني سلمة دياركم تكتب آثاركم.
وقال الأبي عن العز بن عبد السلام: لا يمر إلى المسجد من أبعد طريقيه ليكثر الخطا لأنّ الغرض الحصول في المسجد وهو يحصل بالقريبة.
قال: والحديث إنما هو تنشيط لمن بعدت داره أن لا يكسل ومن نحو ما ذكر أن لا يؤثر أبعد المسجدين منه بالصلاة فيه مع ما جاء لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد، وقالت عائشة: يا رسول الله إن لي جارين فإلى أيهما أهدي؟ قال: إلى أقربهما دارًا وإمام المسجد لا يمنعه أخذ المرتب من ثواب تكرره إليه انتهى.

( وانتظار الصلاة بعد الصلاة) قال المظهري: أي إذا صلى بالجماعة ينتظر صلاة أخرى يتعلق ذكره لها إما بأن يجلس في المسجد ينتظرها أو يكون في بيته أو يشتغل بكسبه وقلبه متعلق بها ينتظر حضورها فكل ذلك داخل في هذا الحكم.
ويؤيده حديث: ورجل قلبه معلق بالمسجد إذا خرج منه حتى يعود إليه انتهى.

وقال الباجي: هذا إنما يكون في صلاتين العصر بعد الظهر والعشاء بعد المغرب، وأما انتظار الصبح بعد العشاء فلم يكن من عمل الناس وكذا انتظار الظهر بعد الصبح، وأما انتظار المغرب بعد العصر فلا أذكر فيه نصًا، وحكمه عندي كالصبح بعد العشاء والظهر بعد الصبح لأن الذي ينتظر صلاة ليس بينها وبين التي صلى اشتراك في وقت قال: وفي ظني أني رأيته رواية لابن وهب عن مالك ولا أذكر موضعها الآن، وتعقبه الأبي بأنه ليس في الحديث ما يدل على المشتركتين لولا ما ذكره أنه ليس من عمل الناس وهو بناء على أنه يعني بالانتظار الجلوس بالمسجد.

قال ابن العربي: ويحتمل أن يريد به تعلق القلب بالصلاة فيعم الخمس.

قال الشيخ يعني ابن عرفة: جلوس الإمام في المسجد ينتظر الصلاة يدفع بذلك مشقة الرجوع لبعد أو مطر لا يمنع من نيل الثواب وفي المذكور وفي انتظار الإمام ذلك بالدويرة التي بالجامع نظر انتهى.

( فذلكم) المذكور من الثلاثة عند الطيبي وابن عرفة أو الإشارة لانتظار الصلاة كما عليه ابن عبد البر، وقال الأبي إنه الأظهر ( الرباط) المرغب فيه لأنه ربط نفسه على هذا العمل وحبسها عليه، ويحتمل أن يريد تفضيل هذا الرباط على غيره من الرباط في الثغور ولذا قال: ( فذلكم الرباط) أي أنه أفضل أنواعه كما يقال جهاد النفس هو الجهاد أي أنه أفضله، ويحتمل أن يريد الرباط الممكن المتيسر، وقد قال الشيخ أبو إسحاق الشيرازي: إن ذلك من ألفاظ الحصر ( فذلكم الرباط) ذكره ثلاثًا على معنى التعظيم لشأنه أو الإبهام أو غير ذلك قاله الباجي، وقيل أراد أن ثوابه كثواب الرباط، وقال ابن العربي: يعني به تفسير قوله تعالى: { { اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا } } وقال أبو عمر: الرباط هنا ملازمة المسجد لانتظار الصلاة، قال صاحب العين: الرباط ملازمة الثغور والرباط مواظبة الصلاة.
وقال أبو سلمة بن عبد الرحمن في قوله تعالى: { { اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا } } لم يكن الرباط على عهده صلى الله عليه وسلم ولكن نزلت في انتظار الصلاة.
وقال محمد بن كعب القرظي: اصبروا على دينكم وصابروا الوعد الذي وعدتكم ورابطوا عدوّي وعدوّكم انتهى.

وقال الطيبي في قوله: فذلكم الرباط معنى حديث رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر لإتيانه باسم الإشارة الدال على بعد منزلة المشار إليه في مقام التعظيم وإيقاع الرباط المحلى بلام الجنس خبرًا لاسم الإشارة كما في قوله { { الم ذَلِكَ الْكِتَابُ } } إذ التعريف في الخبر للجنس ولما أريد تقرير ذلك مزيد تقرير واهتمام بشأنه كرره ثلاثًا وتخصيصها بالثلاث لأن الأعمال المذكورة في الحديث ثلاث، وأتى باسم الإشارة إشارة إلى تعظيمه بالبعد.

وهذا الحديث رواه مسلم من طريق معن عن مالك به، وتابعه إسماعيل وشعبة كلاهما عن العلاء إلا أنه ليس في حديث شعبة ذكر الرباط، وفي رواية إسماعيل فذلكم الرباط مرة، وفي حديث مالك مرتين كذا قال مسلم بناء على رواية معن عنده، وإلا فأكثر الموطآت ثلاثًا، وكذا أخرجه الشافعي وأحمد والترمذي والنسائي كلهم من طريق مالك ثلاثًا.

( مالك أنه بلغه أن سعيد بن المسيب قال: يقال لا يخرج أحد من المسجد بعد النداء) لأنه دعاء إلى صلاة الجماعة فمن خرج حينئذ فقصد خلافهم وتفريق جماعتهم وهذا ممنوع باتفاق ( إلا أحد يريد الرجوع إليه) وقد نزلت به ضرورة حدث أو غيره فإن كانت ظاهرة كرعاف منعت سوء الظن به وإن كانت باطنة قبض على أنفه كالراعف ( إلا منافق) يريد أن ذلك من أفعال المنافقين، وهذا ما لم يكن صلى تلك الصلاة جماعة وإلا خرج عند النداء والإقامة فإن كان صلاها فذا فقال ابن الماجشون له أن يخرج ما لم تقم الصلاة فيلزمه إعادتها جماعة قاله كله الباجي.

قال ابن عبد البر: هذا لا يقال مثله من جهة الرأي ولا يكون إلا توقيفًا انتهى.
وقد صح مرفوعًا أخرج الطبراني برجال الصحيح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يسمع النداء في مسجدي هذا ثم يخرج منه إلا لحاجة ثم لا يرجع إليه إلا منافق.

وفي مسلم وأبي داود وأحمد عن أبي الشعثاء قال: كنا قعودًا في المسجد مع أبي هريرة فأذن المؤذن فقام رجل من المسجد يمشي فأتبعه أبو هريرة بصره حتى خرج من المسجد فقال أبو هريرة: أما هذا فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم.
زاد في رواية أحمد.
ثم قال أبو هريرة: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا كنتم في المسجد فنودي بالصلاة فلا يخرج أحدكم حتى يصلي.

قال ابن عبد البر: قال مالك: دخل أعرابي المسجد وأذن المؤذن فقام يحل عقال ناقته ليخرج فنهاه سعيد بن المسيب فلم ينته فما سارت به غير يسير حتى وقصت به فأصيب في جسده فقال سعيد: قد بلغنا أن من خرج من بين الأذان والإقامة لغير الوضوء أنه يصاب.

( مالك عن عامر بن عبد الله بن الزبير) بن العوّام الأسدي أبي الحارث المدني ثقة عابد مات سنة إحدى وعشرين ومائة ( عن عمرو) بفتح العين ( بن سليم) بضم السين ابن خلدة بسكون اللام الأنصاري ( الزرقي) بضم الزاي وفتح الراء بعدها قاف ثقة من كبار التابعين مات سنة أربع ومائة ويقال له رؤية.

( عن أبي قتادة الأنصاري) اسمه الحارث ويقال عمرو أو النعمان بن ربعي بكسر الراء وسكون الموحدة بعدها مهملة السلمي بفتحتين المدني شهد أحدًا وما بعدها ولم يصح شهوده بدرًا، ومات سنة أربع وخمسين وقيل سنة ثمان وثلاثين، والأول أصح وأشهر.

( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا دخل أحدكم المسجد) وهو متوضئ ( فليركع) أي فليصل من إطلاق الجزء وإرادة الكل ( ركعتين) هذا العدد لا مفهوم لأكثره باتفاق واختلف في أقله والصحيح اعتباره فلا يتأدى هذا المستحب بأقل من ركعتين ( قبل أن يجلس) فإن خالف وجلس لم يشرع له التدارك كذا قال جماعة وفيه نظر لما رواه ابن حبان عن أبي ذر أنه دخل المسجد فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أركعت ركعتين قال: لا.
قال: قم فاركعهما ترجم عليه ابن حبان في صحيحه تحية المسجد لا تفوت بالجلوس ومثله في قصة سليك.

وقال المحب الطبري: يحتمل أن يقال وقتهما قبل الجلوس وقت فضيلة وبعده وقت جواز، ويقال وقتهما قبله أداء وبعده قضاء، ويحتمل أن يحمل مشروعيتهما بعد الجلوس على ما لم يطل الفصل، واتفق أئمة الفتوى على أن الأمر للندب، وقال الظاهرية: للوجوب.
ومن أدلة عدمه قوله صلى الله عليه وسلم الذي رآه يتخطى: اجلس فقد آذيت ولم يأمره بصلاة كذا استدل به الطحاوي وغيره.
قال الحافظ: وفيه نظر، وقال الطحاوي أيضًا: الأوقات التي نهي عن الصلاة فيها ليس هذا الأمر بداخل فيها.

قلت: هما عمومان تعارضا الأمر بالصلاة لكل داخل من غير تفصيل والنهي عن الصلاة في أوقات مخصوصة فلا بدّ من تخصيص أحد العمومين فذهب جمع إلى تخصيص النهي وتعميم الأمر وهو الأصح عند الشافعية، وذهب جمع إلى عكسه وهو مذهب المالكية والحنفية انتهى.

وخص منه أيضًا إذا دخل والإمام يصلي الفرض أو شرع في الإقامة أو قربها لحديث: إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة وإن دخل المسجد ليمرّ فيه فقال مالك ليس عليه تحية لقوله قبل أن يجلس وهذا لم يرد الجلوس وهذا فيما عدا المسجد الحرام فتحيته الطواف وتندرج التحية تحت ركعتي الطواف.

والحديث أخرجه البخاري عن عبد الله بن يوسف عن يحيى كلاهما عن مالك به، وقد ورد على سبب وهو أن أبا قتادة دخل المسجد فوجد النبي صلى الله عليه وسلم جالسًا بين أصحابه فجلس معهم فقال له: ما منعك أن تركع قال: رأيتك جالسًا والناس جلوس.
قال: فإذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يركع ركعتين أخرجه مسلم.

( مالك عن أبي النضر) سالم بن أبي أمية ( مولى عمر بن عبيد الله) بضم العين فيهما ( عن أبي سلمة بن عبد الرحمن) بن عوف ( أنه قال له:) أي لأبي النضر ( ألم أر صاحبك) أي عمر بن عبيد الله بن معمر التيمي تيم قريش ( إذا دخل المسجد يجلس قبل أن يركع؟ قال أبو النضر يعني بذلك عمر بن عبيد الله) الذي هو مولاه سماه صاحبه ( ويعيب ذلك عليه أن يجلس إذا دخل المسجد قبل أن يركع) التحية بدل من الإشارة.

قال ابن عبد البر: إنما عاب عليه تقصيره عن حفظ نفسه في استعمال السنة مع قدرته عليها لا أن ذلك كان واجبًا عنده ولذا ( قال مالك: وذلك حسن) أي مستحب ( وليس بواجب) وعلى هذا جماعة الفقهاء، وأوجب أهل الظاهر على كل من دخل المسجد طاهرًا في حين تجوز فيه النافلة أن يركع، وأوجب بعضهم ذلك في كل وقت وقالوا فعل الخير لا يمنع منه إلا بدليل معارض له ولم يقولوا بالمجمل، ودليل مالك والجماعة أنه صلى الله عليه وسلم أمر رجلاً دخل المسجد وهو يخطب يوم الجمعة أن يركع وأمر الذي رآه يتخطى رقاب الناس بالجلوس ولم يقل له اركع، واستعمال الأحاديث لا يكون إلا على ما قال مالك.
وقال زيد بن أسلم: كان الصحابة يدخلون المسجد ثم يخرجون ولا يصلون قال: ورأيت ابن عمر يفعله وكذا سالم ابنه، وكان القاسم بن محمد يدخل المسجد فيجلس ولا يصلي وفي قوله صلى الله عليه وسلم للأعرابي الذي قال في الصلوات الخمس هل عليّ غيرها؟ قال: لا إلا أن تطوّع ما يردّ قول أهل الظاهر انتهى.

وكذا نقل ابن بطال عن أهل الظاهر الوجوب، وتوقف الحافظ فيه بأنّ ابن حزم صرح بعدمه ولا توقف لأنه وإن كان ظاهريًا لا يمتنع أن يخالفهم في مسائل ككثير من مقلدي الأئمة.



رقم الحديث 390 وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ يَقُولُ: مَنْ وَضَعَ جَبْهَتَهُ بِالْأَرْضِ، فَلْيَضَعْ كَفَّيْهِ عَلَى الَّذِي يَضَعُ عَلَيْهِ جَبْهَتَهُ، ثُمَّ إِذَا رَفَعَ، فَلْيَرْفَعْهُمَا.
فَإِنَّ الْيَدَيْنِ تَسْجُدَانِ كَمَا يَسْجُدُ الْوَجْهُ.


وَضْعِ الْيَدَيْنِ عَلَى مَا يُوضَعُ عَلَيْهِ الْوَجْهُ فِي السُّجُودِ

( مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر كان إذا سجد وضع كفيه على الذي يضع عليه جبهته) لأنه السنّة ولأن اليدين مما يرفع ويوضع في السجود كالوجه بخلاف سائر الأعضاء ويستحب أن يباشر بجبهته الأرض قاله الباجي ( قال نافع: ولقد رأيته في يوم شديد البرد وإنه ليخرج كفيه من تحت برنس له حتى يضعهما على الحصباء) تحصيلاً للأفضل حتى روي أنه كان يخرجهما وأنهما ليقطران دمًا، وكان سالم وقتادة وغيرهما يباشرون بأكفهم الأرض وأمر بذلك عمر وكان جماعة من التابعين يسجدون وأيديهم في ثيابهم، وحديث صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجد بني عبد الأشهل فرأيته واضعًا يديه في ثوبه إذا سجد ضعيف لأن رواية إسماعيل بن أبي حبيبة لا يحتج به إذا انفرد لضعفه قاله أبو عمر.

( مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر كان يقول: من وضع جبهته بالأرض فليضع كفيه على الذي يضع عليه جبهته) لأن ذلك مأمور به مرغب فيه ( ثم إذا رفع فليرفعهما) لأن رفعهما فرض عند الجميع إذ لا يعتدل من لم يرفعهما والاعتدال في الركوع والسجود والرفع منهما فرض لأمره صلى الله عليه وسلم بذلك وفعله له، وقوله: صلوا كما رأيتموني أصلي وقوله صلى الله عليه وسلم: لا ينظر الله عز وجل إلى من لا يقيم صلبه في ركوعه وسجوده ولا خلاف في ذلك إنما الخلاف في الطمأنينة بعد الاعتدال، ولم نعدّ قول أبي حنيفة وبعض أصحابنا خلافًا لأنهم محجوجون بالآثار وبما عليه الجمهور كذا قال ابن عبد البر.

( فإن اليدين تسجدان كما يسجد الوجه) تعليل للأمر بوضعهما على الأرض.
وفي الصحيحين عن ابن عباس أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن نسجد على سبعة أعضاء ولا نكف شعرًا ولا ثوبًا الجبهة واليدين، ولمسلم: والكفين والركبتين والرجلين، وفي الصحيح أيضًا عن ابن عباس قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: أمرت أن أسجد على سبعة أعظم على الجبهة - وأشار بيده على أنفه - واليدين والركبتين وأطراف القدمين ولا نكفت الثياب والشعر.



رقم الحديث 391 وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ سُمَيٍّ مَوْلَى أَبِي بَكْرٍ، أَنَّ أَبَا بَكْرِ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ كَانَ يَقُولُ: مَنْ غَدَا أَوْ رَاحَ إِلَى الْمَسْجِدِ، لَا يُرِيدُ غَيْرَهُ، لِيَتَعَلَّمَ خَيْرًا أَوْ لِيُعَلِّمَهُ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى بَيْتِهِ، كَانَ كَالْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، رَجَعَ غَانِمًا.


انْتِظَارِ الصَّلَاةِ وَالْمَشْيِ إِلَيْهَا

( مالك عن أبي الزناد) بكسر الزاي ونون عبد الله بن ذكوان ( عن الأعرج) عبد الرحمن بن هرمز ( عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: الملائكة) الحفظة أو السيارة أو أعم من ذلك كل محتمل قاله الحافظ العراقي وتبعه تلميذه في فتح الباري وقال غيرهما: الجمع المحلى بأل يفيد الاستغراق ( تصلي على أحدكم) أي تستغفر له قيل عبر بتصلي ليتناسب الجزاء والعمل ( ما دام في مصلاه الذي صلى فيه) صلاة تامّة لأنه صلى الله عليه وسلم قال للمسيء صلاته: ارجع فصل فإنك لم تصل قال ابن أبي جمرة زاد في رواية للبخاري: ينتظر الصلاة ومفهومه أنه إذا انصرف من مصلاه انقضى ذلك، لكن مقتضى الحديث بعده أنّ للمنتظر حكم المصلي سواء بقي في مجلسه ذلك من المسجد أم تحوّل إلى غيره فيمكن حمل قوله في مصلاه على المكان المعدّ للصلاة لا الموضع الخاص الذي صلى فيه أولاً فلا تخالف بين الحديثين قاله في الفتح.
وقال في موضع آخر: ومصلاه المكان الذي أوقع فيه الصلاة من المسجد وكأنه خرج مخرج الغالب وإلاّ فلو قام إلى بقعة أخرى من المسجد مستمرًا على نية انتظار الصلاة كان كذلك انتهى.

بل في الاستذكار مصلاه المسجد وهذا هو الأغلب في معنى انتظار الصلاة، ولو قعدت امرأة في مصلى بيتها تنتظر وقت صلاة أخرى لم يبعد أن تدخل في معنى الحديث لأنها حبست نفسها عن التصرف رغبة في الصلاة، ومن هذا قيل انتظار الصلاة رباط لأنّ المرابط حبس نفسه عن المكاسب والتصرف إرصادًا للعدوّ.

وقال الباجي عن المبسوط: سئل مالك عن رجل صلى في غير جماعة ثم قعد بموضعه ينتظر صلاة أخرى أتراه في صلاة بمنزلة من كان في المسجد كما جاء في الحديث؟ قال: نعم إن شاء الله أرجو أن يكون كذلك ما لم يحدث فيبطل ذلك ولو استمرّ جالسًا.
وفيه: أنّ الحدث في المسجد أشدّ من النخامة لأنّ لها كفارة وهي دفنها ولم يذكر هنا كفارة بل عومل صاحبه بحرمان استغفار الملائكة.

( اللهم اغفر له) على إضمار قائلين أو تقول وهو بيان لقوله تصلي.
قال أبو عمر: بين في سياق الحديث أنّ صلاة الملائكة الدعاء ( اللهم ارحمه) زاد ابن ماجه: اللهم تب عليه وهو مطابق لقوله تعالى: { { وَالْمَلاَئِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الأَرْضِ } } قيل: السر فيه أنهم يطلعون على أحوال بني آدم وما فيها من المعصية والخلل في الطاعة فيقتصرون على الاستغفار لهم من ذلك لأن دفع المفسدة مقدّم على جلب المصلحة، ولو فرض أن فيهم من يحفظ من ذلك فإنه يعوّض من المغفرة بما يقابلها من الثواب.
واستدل بالحديث على أفضلية الصلاة على غيرها من الأعمال لصلاة الملائكة عليه ودعائهم له بالمغفرة والرحمة والتوبة وعلى تفضيل صالحي الناس على الملائكة لأنهم في تحصيل الدرجات بعبادتهم والملائكة مشغولون بالاستغفار والدعاء لهم.

( قال مالك: لا أرى قوله ما لم يحدث إلا الإحداث الذي ينقض الوضوء) لأن القاعد في المسجد على غير وضوء لا يكون منتظرًا للصلاة، وقيل معناه هنا الكلام القبيح وهذا ضعيف لأن الكلام القبيح لا يخرجه من أن يكون منتظرًا للصلاة قاله ابن عبد البر.

قال الباجي: وقد روى أبو هريرة مثل قول مالك وقال: الحدث فساء أو ضراط، وفي فتح الباري المراد بالحدث حدث الفرج، لكن يؤخذ منه أن اجتناب حدث اللسان واليد من باب أولى لأن الأذى منهما يكون أشدّ أشار إلى ذلك ابن بطال، ويؤخذ من قوله في مصلاه الذي صلى فيه أن ذلك مقيد بمن صلى ثم انتظر صلاة أخرى وتتقيد الصلاة الأولى بكونها مجزية أما لو كان فيها نقص فإنها تجبر بالنافلة كما ثبت في الخبر الآخر انتهى.

وهذا الحديث رواه البخاري حدّثنا عبد الله بن يوسف قال أخبرنا مالك به، ورواه مسلم وغيره.

( مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا يزال أحدكم في صلاة) أي في ثوابها لا في حكمها لأنه يحل له الكلام وغيره مما منع في الصلاة ( ما كانت) وفي رواية ما دامت ( الصلاة تحبسه) أي مدّة دوام حبس الصلاة له.
قال الباجي: سواء انتظر وقتها أو إقامتها في الجماعة ( لا يمنعه أن ينقلب) يرجع ( إلى أهله إلا الصلاة) لا غيرها.

وهذا يقتضي أنه إذا صرف نيته عن ذلك صارف آخر انقطع عنه الثواب وكذلك إذا شارك نية الانتظار أمر آخر وهل يحصل ذلك لمن نيته إيقاع الصلاة في المسجد ولو لم يكن فيه الظاهر خلافه لأنه رتب الثواب المذكور على المجموع من النية وشغل البقعة بالعبادة لكن للمذكور ثواب يخصه، ولعل هذا سر إيراد البخاري عقب هذا الحديث حديث: سبعة يظلهم الله وفيه ورجل قلبه متعلق بالمساجد ذكره الحافظ.
وقال غيره: يحتمل الحديث العموم في كل صلاة سواء اشتركا في الوقت كانتظار العصر بعد الظهر والعشاء بعد المغرب أو لم يشتركا كالباقي خلافًا للباجي حيث خصه بالمشتركتين انتهى، ويأتي له مزيد قريبًا.

وهذا الحديث والذي قبله رواه البخاري حدّثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك به فجعلهما حديثًا واحدًا، والموطأ كما ترى جعلهما حديثين وإن اتحد إسنادهما.
قال الحافظ: ولا حجر في ذلك، وأخرج مسلم هذا الثاني عن يحيى بن يحيى عن مالك به.

( مالك عن سمي) بضم السين وفتح الميم ( مولى أبي بكر أن) مولاه ( أبا بكر بن عبد الرحمن) بن الحارث بن هشام أحد الفقهاء ( كان يقول: من غدا) ذهب وقت الغدوة أوّل النهار ( أو راح) من الزوال ( إلى المسجد لا يريد غيره ليتعلم خيرًا) من غيره ( أو ليعلمه) بشدّ اللام هو لغيره ( ثم رجع إلى بيته كان كالمجاهد في سبيل الله رجع غانمًا) .
قال ابن عبد البر: معلوم أن هذا لا يدرك بالرأي والاجتهاد لأنه قطع على غيب من حكم الله وأمره في ثوابه انتهى.

وقد ورد مرفوعًا عن سهل بن سعد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من دخل مسجدي هذا ليتعلم خيرًا أو ليعلمه كان كالمجاهد في سبيل الله.
وعن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من غدا إلى المسجد لا يريد إلا أن يتعلم خيرًا أو يعلمه كان كأجر حاج تامًا حجه أخرجهما الطبراني وإسناد كل منهما حسن كذا قال السيوطي، وإنما يوافق الحديث الأوّل رواية الموطأ بقياس بقية المساجد على المسجد النبوي، وأما الثاني فحديث آخر جعل ثوابه كالحج لا كالجهاد.

( مالك عن نعيم) بضم النون ( بن عبد الله المجمر) بضم الميم وسكون الجيم وكسر الميم الثانية صفة لنعيم ولأبيه أيضًا كما تقدّم ( أنه سمع أبا هريرة يقول: إذا صلى أحدكم) فرضًا أو نفلاً لأن حذف المفعول يؤذن بالعموم وقد استظهر ذلك ابن أبي جمرة ( ثم جلس في مصلاه لم تزل الملائكة تصلي عليه) تدعو له قائلين ( اللهم اغفر له اللهم ارحمه فإن قام من مصلاه فجلس في المسجد ينتظر الصلاة لم يزل في صلاة) حكمًا من الثواب ( حتى يصلي) .

قال ابن عبد البر: هذا مثل حديثه المرفوع قبل إلا أن في هذا أن من قام من مجلسه لا يخرج من ثواب المصلي إذا كان منتظرًا للصلاة إلا أنه لا يقال إن الملائكة تصلي عليه كما تصلي على الذي في مصلاه.
قال: وهو في الموطأ موقوف، وقد رفعه عن مالك بهذا الإسناد ابن وهب عند ابن الجارود، وعثمان بن عمرو والوليد بن مسلم عند النسائي، وأخرجه ابن عبد البر من رواية إسماعيل بن جعفر عن مالك عن نعيم عن أبي سلمة عن أبي هريرة مرفوعًا انتهى.

وقد صرح نعيم بسماعه أبا هريرة فكأنه سمع منه الموقوف ومن أبي سلمة عنه المرفوع.

( مالك عن العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب) المدني صدوق مات سنة بضع وثلاثين ومائة ( عن أبيه) عبد الرحمن الجهني المدني ثقة ( عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ألا) بفتح الهمزة والتخفيف حرف تنبيه يفيد تحقيق ما بعده لتركبها من الهمزة ولا النافية وهمزة الاستفهام إذا دخلت على النفي أفادت التحقيق ( أخبركم بما يمحو الله به الخطايا) قال الباجي: كناية عن غفرانها والعفو عنها وقد يكون محوها من كتاب الحفظة دليلاً على عفوه تعالى عمن كتبت عليه ( ويرفع به الدرجات) أي المنازل في الجنة، ويحتمل أن يريد رفع درجته في الدنيا بالذكر الجميل وفي الآخرة بالثواب الجزيل.
وقال أبو عمر: هذا الحديث من أحسن ما يروى في فضائل الأعمال، وفيه طرح المسألة على المتعلم زاد في رواية لمسلم قالوا: بلى يا رسول الله.
قال الأبي: جوابهم ببلى يدل على أن لا في ألا نافية دخلت عليها ألف الاستفهام، ويحتمل أنها للاستفتاح.

( إسباغ الوضوء) أي إكماله وإتمامه واستيعاب أعضائه بالماء قال تعالى: { { وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ } } أي أتمها وأكملها ( عند المكاره) جمع مكرهة بمعنى الكره والمشقة.
قال أبو عمر: هي شدّة البرد وكل حال يكره المرء فيها نفسه على الوضوء قال عبيد بن عمير: من صدق الإيمان وبّره إسباغ الوضوء على المكاره، ومن صدق الإيمان أن يخلو الرجل بالمرأة الجميلة فيدعها لا يدعها إلا لله.
وقال الباجي: ومن المكاره شدة برد وعلة جسم وقلة ماء وحاجة إلى النوم وعجلة إلى أمر مهم وغير ذلك ( وكثرة الخطا) بالضم جمع خطوة بالفتح المرّة والضم ما بين القدمين ( إلى المساجد) وهو يكون ببعد الدار عن المسجد ويكون بكثرة التكرر عليه.
قال اليعمري: وفيه أن بعد الدار عن المسجد أفضل، وقد صرح به في قوله لبني سلمة، وقد أرادوا أن يتحوّلوا قريبًا من المسجد.
يا بني سلمة دياركم تكتب آثاركم.
وقال الأبي عن العز بن عبد السلام: لا يمر إلى المسجد من أبعد طريقيه ليكثر الخطا لأنّ الغرض الحصول في المسجد وهو يحصل بالقريبة.
قال: والحديث إنما هو تنشيط لمن بعدت داره أن لا يكسل ومن نحو ما ذكر أن لا يؤثر أبعد المسجدين منه بالصلاة فيه مع ما جاء لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد، وقالت عائشة: يا رسول الله إن لي جارين فإلى أيهما أهدي؟ قال: إلى أقربهما دارًا وإمام المسجد لا يمنعه أخذ المرتب من ثواب تكرره إليه انتهى.

( وانتظار الصلاة بعد الصلاة) قال المظهري: أي إذا صلى بالجماعة ينتظر صلاة أخرى يتعلق ذكره لها إما بأن يجلس في المسجد ينتظرها أو يكون في بيته أو يشتغل بكسبه وقلبه متعلق بها ينتظر حضورها فكل ذلك داخل في هذا الحكم.
ويؤيده حديث: ورجل قلبه معلق بالمسجد إذا خرج منه حتى يعود إليه انتهى.

وقال الباجي: هذا إنما يكون في صلاتين العصر بعد الظهر والعشاء بعد المغرب، وأما انتظار الصبح بعد العشاء فلم يكن من عمل الناس وكذا انتظار الظهر بعد الصبح، وأما انتظار المغرب بعد العصر فلا أذكر فيه نصًا، وحكمه عندي كالصبح بعد العشاء والظهر بعد الصبح لأن الذي ينتظر صلاة ليس بينها وبين التي صلى اشتراك في وقت قال: وفي ظني أني رأيته رواية لابن وهب عن مالك ولا أذكر موضعها الآن، وتعقبه الأبي بأنه ليس في الحديث ما يدل على المشتركتين لولا ما ذكره أنه ليس من عمل الناس وهو بناء على أنه يعني بالانتظار الجلوس بالمسجد.

قال ابن العربي: ويحتمل أن يريد به تعلق القلب بالصلاة فيعم الخمس.

قال الشيخ يعني ابن عرفة: جلوس الإمام في المسجد ينتظر الصلاة يدفع بذلك مشقة الرجوع لبعد أو مطر لا يمنع من نيل الثواب وفي المذكور وفي انتظار الإمام ذلك بالدويرة التي بالجامع نظر انتهى.

( فذلكم) المذكور من الثلاثة عند الطيبي وابن عرفة أو الإشارة لانتظار الصلاة كما عليه ابن عبد البر، وقال الأبي إنه الأظهر ( الرباط) المرغب فيه لأنه ربط نفسه على هذا العمل وحبسها عليه، ويحتمل أن يريد تفضيل هذا الرباط على غيره من الرباط في الثغور ولذا قال: ( فذلكم الرباط) أي أنه أفضل أنواعه كما يقال جهاد النفس هو الجهاد أي أنه أفضله، ويحتمل أن يريد الرباط الممكن المتيسر، وقد قال الشيخ أبو إسحاق الشيرازي: إن ذلك من ألفاظ الحصر ( فذلكم الرباط) ذكره ثلاثًا على معنى التعظيم لشأنه أو الإبهام أو غير ذلك قاله الباجي، وقيل أراد أن ثوابه كثواب الرباط، وقال ابن العربي: يعني به تفسير قوله تعالى: { { اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا } } وقال أبو عمر: الرباط هنا ملازمة المسجد لانتظار الصلاة، قال صاحب العين: الرباط ملازمة الثغور والرباط مواظبة الصلاة.
وقال أبو سلمة بن عبد الرحمن في قوله تعالى: { { اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا } } لم يكن الرباط على عهده صلى الله عليه وسلم ولكن نزلت في انتظار الصلاة.
وقال محمد بن كعب القرظي: اصبروا على دينكم وصابروا الوعد الذي وعدتكم ورابطوا عدوّي وعدوّكم انتهى.

وقال الطيبي في قوله: فذلكم الرباط معنى حديث رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر لإتيانه باسم الإشارة الدال على بعد منزلة المشار إليه في مقام التعظيم وإيقاع الرباط المحلى بلام الجنس خبرًا لاسم الإشارة كما في قوله { { الم ذَلِكَ الْكِتَابُ } } إذ التعريف في الخبر للجنس ولما أريد تقرير ذلك مزيد تقرير واهتمام بشأنه كرره ثلاثًا وتخصيصها بالثلاث لأن الأعمال المذكورة في الحديث ثلاث، وأتى باسم الإشارة إشارة إلى تعظيمه بالبعد.

وهذا الحديث رواه مسلم من طريق معن عن مالك به، وتابعه إسماعيل وشعبة كلاهما عن العلاء إلا أنه ليس في حديث شعبة ذكر الرباط، وفي رواية إسماعيل فذلكم الرباط مرة، وفي حديث مالك مرتين كذا قال مسلم بناء على رواية معن عنده، وإلا فأكثر الموطآت ثلاثًا، وكذا أخرجه الشافعي وأحمد والترمذي والنسائي كلهم من طريق مالك ثلاثًا.

( مالك أنه بلغه أن سعيد بن المسيب قال: يقال لا يخرج أحد من المسجد بعد النداء) لأنه دعاء إلى صلاة الجماعة فمن خرج حينئذ فقصد خلافهم وتفريق جماعتهم وهذا ممنوع باتفاق ( إلا أحد يريد الرجوع إليه) وقد نزلت به ضرورة حدث أو غيره فإن كانت ظاهرة كرعاف منعت سوء الظن به وإن كانت باطنة قبض على أنفه كالراعف ( إلا منافق) يريد أن ذلك من أفعال المنافقين، وهذا ما لم يكن صلى تلك الصلاة جماعة وإلا خرج عند النداء والإقامة فإن كان صلاها فذا فقال ابن الماجشون له أن يخرج ما لم تقم الصلاة فيلزمه إعادتها جماعة قاله كله الباجي.

قال ابن عبد البر: هذا لا يقال مثله من جهة الرأي ولا يكون إلا توقيفًا انتهى.
وقد صح مرفوعًا أخرج الطبراني برجال الصحيح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يسمع النداء في مسجدي هذا ثم يخرج منه إلا لحاجة ثم لا يرجع إليه إلا منافق.

وفي مسلم وأبي داود وأحمد عن أبي الشعثاء قال: كنا قعودًا في المسجد مع أبي هريرة فأذن المؤذن فقام رجل من المسجد يمشي فأتبعه أبو هريرة بصره حتى خرج من المسجد فقال أبو هريرة: أما هذا فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم.
زاد في رواية أحمد.
ثم قال أبو هريرة: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا كنتم في المسجد فنودي بالصلاة فلا يخرج أحدكم حتى يصلي.

قال ابن عبد البر: قال مالك: دخل أعرابي المسجد وأذن المؤذن فقام يحل عقال ناقته ليخرج فنهاه سعيد بن المسيب فلم ينته فما سارت به غير يسير حتى وقصت به فأصيب في جسده فقال سعيد: قد بلغنا أن من خرج من بين الأذان والإقامة لغير الوضوء أنه يصاب.

( مالك عن عامر بن عبد الله بن الزبير) بن العوّام الأسدي أبي الحارث المدني ثقة عابد مات سنة إحدى وعشرين ومائة ( عن عمرو) بفتح العين ( بن سليم) بضم السين ابن خلدة بسكون اللام الأنصاري ( الزرقي) بضم الزاي وفتح الراء بعدها قاف ثقة من كبار التابعين مات سنة أربع ومائة ويقال له رؤية.

( عن أبي قتادة الأنصاري) اسمه الحارث ويقال عمرو أو النعمان بن ربعي بكسر الراء وسكون الموحدة بعدها مهملة السلمي بفتحتين المدني شهد أحدًا وما بعدها ولم يصح شهوده بدرًا، ومات سنة أربع وخمسين وقيل سنة ثمان وثلاثين، والأول أصح وأشهر.

( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا دخل أحدكم المسجد) وهو متوضئ ( فليركع) أي فليصل من إطلاق الجزء وإرادة الكل ( ركعتين) هذا العدد لا مفهوم لأكثره باتفاق واختلف في أقله والصحيح اعتباره فلا يتأدى هذا المستحب بأقل من ركعتين ( قبل أن يجلس) فإن خالف وجلس لم يشرع له التدارك كذا قال جماعة وفيه نظر لما رواه ابن حبان عن أبي ذر أنه دخل المسجد فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أركعت ركعتين قال: لا.
قال: قم فاركعهما ترجم عليه ابن حبان في صحيحه تحية المسجد لا تفوت بالجلوس ومثله في قصة سليك.

وقال المحب الطبري: يحتمل أن يقال وقتهما قبل الجلوس وقت فضيلة وبعده وقت جواز، ويقال وقتهما قبله أداء وبعده قضاء، ويحتمل أن يحمل مشروعيتهما بعد الجلوس على ما لم يطل الفصل، واتفق أئمة الفتوى على أن الأمر للندب، وقال الظاهرية: للوجوب.
ومن أدلة عدمه قوله صلى الله عليه وسلم الذي رآه يتخطى: اجلس فقد آذيت ولم يأمره بصلاة كذا استدل به الطحاوي وغيره.
قال الحافظ: وفيه نظر، وقال الطحاوي أيضًا: الأوقات التي نهي عن الصلاة فيها ليس هذا الأمر بداخل فيها.

قلت: هما عمومان تعارضا الأمر بالصلاة لكل داخل من غير تفصيل والنهي عن الصلاة في أوقات مخصوصة فلا بدّ من تخصيص أحد العمومين فذهب جمع إلى تخصيص النهي وتعميم الأمر وهو الأصح عند الشافعية، وذهب جمع إلى عكسه وهو مذهب المالكية والحنفية انتهى.

وخص منه أيضًا إذا دخل والإمام يصلي الفرض أو شرع في الإقامة أو قربها لحديث: إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة وإن دخل المسجد ليمرّ فيه فقال مالك ليس عليه تحية لقوله قبل أن يجلس وهذا لم يرد الجلوس وهذا فيما عدا المسجد الحرام فتحيته الطواف وتندرج التحية تحت ركعتي الطواف.

والحديث أخرجه البخاري عن عبد الله بن يوسف عن يحيى كلاهما عن مالك به، وقد ورد على سبب وهو أن أبا قتادة دخل المسجد فوجد النبي صلى الله عليه وسلم جالسًا بين أصحابه فجلس معهم فقال له: ما منعك أن تركع قال: رأيتك جالسًا والناس جلوس.
قال: فإذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يركع ركعتين أخرجه مسلم.

( مالك عن أبي النضر) سالم بن أبي أمية ( مولى عمر بن عبيد الله) بضم العين فيهما ( عن أبي سلمة بن عبد الرحمن) بن عوف ( أنه قال له:) أي لأبي النضر ( ألم أر صاحبك) أي عمر بن عبيد الله بن معمر التيمي تيم قريش ( إذا دخل المسجد يجلس قبل أن يركع؟ قال أبو النضر يعني بذلك عمر بن عبيد الله) الذي هو مولاه سماه صاحبه ( ويعيب ذلك عليه أن يجلس إذا دخل المسجد قبل أن يركع) التحية بدل من الإشارة.

قال ابن عبد البر: إنما عاب عليه تقصيره عن حفظ نفسه في استعمال السنة مع قدرته عليها لا أن ذلك كان واجبًا عنده ولذا ( قال مالك: وذلك حسن) أي مستحب ( وليس بواجب) وعلى هذا جماعة الفقهاء، وأوجب أهل الظاهر على كل من دخل المسجد طاهرًا في حين تجوز فيه النافلة أن يركع، وأوجب بعضهم ذلك في كل وقت وقالوا فعل الخير لا يمنع منه إلا بدليل معارض له ولم يقولوا بالمجمل، ودليل مالك والجماعة أنه صلى الله عليه وسلم أمر رجلاً دخل المسجد وهو يخطب يوم الجمعة أن يركع وأمر الذي رآه يتخطى رقاب الناس بالجلوس ولم يقل له اركع، واستعمال الأحاديث لا يكون إلا على ما قال مالك.
وقال زيد بن أسلم: كان الصحابة يدخلون المسجد ثم يخرجون ولا يصلون قال: ورأيت ابن عمر يفعله وكذا سالم ابنه، وكان القاسم بن محمد يدخل المسجد فيجلس ولا يصلي وفي قوله صلى الله عليه وسلم للأعرابي الذي قال في الصلوات الخمس هل عليّ غيرها؟ قال: لا إلا أن تطوّع ما يردّ قول أهل الظاهر انتهى.

وكذا نقل ابن بطال عن أهل الظاهر الوجوب، وتوقف الحافظ فيه بأنّ ابن حزم صرح بعدمه ولا توقف لأنه وإن كان ظاهريًا لا يمتنع أن يخالفهم في مسائل ككثير من مقلدي الأئمة.



رقم الحديث 392 وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ نُعَيْمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمُجْمِرِ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ، ثُمَّ جَلَسَ فِي مُصَلَّاهُ، لَمْ تَزَلِ الْمَلَائِكَةُ تُصَلِّي عَلَيْهِ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ، اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ.
فَإِنْ قَامَ مِنْ مُصَلَّاهُ، فَجَلَسَ فِي الْمَسْجِدِ يَنْتَظِرُ الصَّلَاةَ، لَمْ يَزَلْ فِي صَلَاةٍ حَتَّى يُصَلِّيَ.


انْتِظَارِ الصَّلَاةِ وَالْمَشْيِ إِلَيْهَا

( مالك عن أبي الزناد) بكسر الزاي ونون عبد الله بن ذكوان ( عن الأعرج) عبد الرحمن بن هرمز ( عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: الملائكة) الحفظة أو السيارة أو أعم من ذلك كل محتمل قاله الحافظ العراقي وتبعه تلميذه في فتح الباري وقال غيرهما: الجمع المحلى بأل يفيد الاستغراق ( تصلي على أحدكم) أي تستغفر له قيل عبر بتصلي ليتناسب الجزاء والعمل ( ما دام في مصلاه الذي صلى فيه) صلاة تامّة لأنه صلى الله عليه وسلم قال للمسيء صلاته: ارجع فصل فإنك لم تصل قال ابن أبي جمرة زاد في رواية للبخاري: ينتظر الصلاة ومفهومه أنه إذا انصرف من مصلاه انقضى ذلك، لكن مقتضى الحديث بعده أنّ للمنتظر حكم المصلي سواء بقي في مجلسه ذلك من المسجد أم تحوّل إلى غيره فيمكن حمل قوله في مصلاه على المكان المعدّ للصلاة لا الموضع الخاص الذي صلى فيه أولاً فلا تخالف بين الحديثين قاله في الفتح.
وقال في موضع آخر: ومصلاه المكان الذي أوقع فيه الصلاة من المسجد وكأنه خرج مخرج الغالب وإلاّ فلو قام إلى بقعة أخرى من المسجد مستمرًا على نية انتظار الصلاة كان كذلك انتهى.

بل في الاستذكار مصلاه المسجد وهذا هو الأغلب في معنى انتظار الصلاة، ولو قعدت امرأة في مصلى بيتها تنتظر وقت صلاة أخرى لم يبعد أن تدخل في معنى الحديث لأنها حبست نفسها عن التصرف رغبة في الصلاة، ومن هذا قيل انتظار الصلاة رباط لأنّ المرابط حبس نفسه عن المكاسب والتصرف إرصادًا للعدوّ.

وقال الباجي عن المبسوط: سئل مالك عن رجل صلى في غير جماعة ثم قعد بموضعه ينتظر صلاة أخرى أتراه في صلاة بمنزلة من كان في المسجد كما جاء في الحديث؟ قال: نعم إن شاء الله أرجو أن يكون كذلك ما لم يحدث فيبطل ذلك ولو استمرّ جالسًا.
وفيه: أنّ الحدث في المسجد أشدّ من النخامة لأنّ لها كفارة وهي دفنها ولم يذكر هنا كفارة بل عومل صاحبه بحرمان استغفار الملائكة.

( اللهم اغفر له) على إضمار قائلين أو تقول وهو بيان لقوله تصلي.
قال أبو عمر: بين في سياق الحديث أنّ صلاة الملائكة الدعاء ( اللهم ارحمه) زاد ابن ماجه: اللهم تب عليه وهو مطابق لقوله تعالى: { { وَالْمَلاَئِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الأَرْضِ } } قيل: السر فيه أنهم يطلعون على أحوال بني آدم وما فيها من المعصية والخلل في الطاعة فيقتصرون على الاستغفار لهم من ذلك لأن دفع المفسدة مقدّم على جلب المصلحة، ولو فرض أن فيهم من يحفظ من ذلك فإنه يعوّض من المغفرة بما يقابلها من الثواب.
واستدل بالحديث على أفضلية الصلاة على غيرها من الأعمال لصلاة الملائكة عليه ودعائهم له بالمغفرة والرحمة والتوبة وعلى تفضيل صالحي الناس على الملائكة لأنهم في تحصيل الدرجات بعبادتهم والملائكة مشغولون بالاستغفار والدعاء لهم.

( قال مالك: لا أرى قوله ما لم يحدث إلا الإحداث الذي ينقض الوضوء) لأن القاعد في المسجد على غير وضوء لا يكون منتظرًا للصلاة، وقيل معناه هنا الكلام القبيح وهذا ضعيف لأن الكلام القبيح لا يخرجه من أن يكون منتظرًا للصلاة قاله ابن عبد البر.

قال الباجي: وقد روى أبو هريرة مثل قول مالك وقال: الحدث فساء أو ضراط، وفي فتح الباري المراد بالحدث حدث الفرج، لكن يؤخذ منه أن اجتناب حدث اللسان واليد من باب أولى لأن الأذى منهما يكون أشدّ أشار إلى ذلك ابن بطال، ويؤخذ من قوله في مصلاه الذي صلى فيه أن ذلك مقيد بمن صلى ثم انتظر صلاة أخرى وتتقيد الصلاة الأولى بكونها مجزية أما لو كان فيها نقص فإنها تجبر بالنافلة كما ثبت في الخبر الآخر انتهى.

وهذا الحديث رواه البخاري حدّثنا عبد الله بن يوسف قال أخبرنا مالك به، ورواه مسلم وغيره.

( مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا يزال أحدكم في صلاة) أي في ثوابها لا في حكمها لأنه يحل له الكلام وغيره مما منع في الصلاة ( ما كانت) وفي رواية ما دامت ( الصلاة تحبسه) أي مدّة دوام حبس الصلاة له.
قال الباجي: سواء انتظر وقتها أو إقامتها في الجماعة ( لا يمنعه أن ينقلب) يرجع ( إلى أهله إلا الصلاة) لا غيرها.

وهذا يقتضي أنه إذا صرف نيته عن ذلك صارف آخر انقطع عنه الثواب وكذلك إذا شارك نية الانتظار أمر آخر وهل يحصل ذلك لمن نيته إيقاع الصلاة في المسجد ولو لم يكن فيه الظاهر خلافه لأنه رتب الثواب المذكور على المجموع من النية وشغل البقعة بالعبادة لكن للمذكور ثواب يخصه، ولعل هذا سر إيراد البخاري عقب هذا الحديث حديث: سبعة يظلهم الله وفيه ورجل قلبه متعلق بالمساجد ذكره الحافظ.
وقال غيره: يحتمل الحديث العموم في كل صلاة سواء اشتركا في الوقت كانتظار العصر بعد الظهر والعشاء بعد المغرب أو لم يشتركا كالباقي خلافًا للباجي حيث خصه بالمشتركتين انتهى، ويأتي له مزيد قريبًا.

وهذا الحديث والذي قبله رواه البخاري حدّثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك به فجعلهما حديثًا واحدًا، والموطأ كما ترى جعلهما حديثين وإن اتحد إسنادهما.
قال الحافظ: ولا حجر في ذلك، وأخرج مسلم هذا الثاني عن يحيى بن يحيى عن مالك به.

( مالك عن سمي) بضم السين وفتح الميم ( مولى أبي بكر أن) مولاه ( أبا بكر بن عبد الرحمن) بن الحارث بن هشام أحد الفقهاء ( كان يقول: من غدا) ذهب وقت الغدوة أوّل النهار ( أو راح) من الزوال ( إلى المسجد لا يريد غيره ليتعلم خيرًا) من غيره ( أو ليعلمه) بشدّ اللام هو لغيره ( ثم رجع إلى بيته كان كالمجاهد في سبيل الله رجع غانمًا) .
قال ابن عبد البر: معلوم أن هذا لا يدرك بالرأي والاجتهاد لأنه قطع على غيب من حكم الله وأمره في ثوابه انتهى.

وقد ورد مرفوعًا عن سهل بن سعد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من دخل مسجدي هذا ليتعلم خيرًا أو ليعلمه كان كالمجاهد في سبيل الله.
وعن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من غدا إلى المسجد لا يريد إلا أن يتعلم خيرًا أو يعلمه كان كأجر حاج تامًا حجه أخرجهما الطبراني وإسناد كل منهما حسن كذا قال السيوطي، وإنما يوافق الحديث الأوّل رواية الموطأ بقياس بقية المساجد على المسجد النبوي، وأما الثاني فحديث آخر جعل ثوابه كالحج لا كالجهاد.

( مالك عن نعيم) بضم النون ( بن عبد الله المجمر) بضم الميم وسكون الجيم وكسر الميم الثانية صفة لنعيم ولأبيه أيضًا كما تقدّم ( أنه سمع أبا هريرة يقول: إذا صلى أحدكم) فرضًا أو نفلاً لأن حذف المفعول يؤذن بالعموم وقد استظهر ذلك ابن أبي جمرة ( ثم جلس في مصلاه لم تزل الملائكة تصلي عليه) تدعو له قائلين ( اللهم اغفر له اللهم ارحمه فإن قام من مصلاه فجلس في المسجد ينتظر الصلاة لم يزل في صلاة) حكمًا من الثواب ( حتى يصلي) .

قال ابن عبد البر: هذا مثل حديثه المرفوع قبل إلا أن في هذا أن من قام من مجلسه لا يخرج من ثواب المصلي إذا كان منتظرًا للصلاة إلا أنه لا يقال إن الملائكة تصلي عليه كما تصلي على الذي في مصلاه.
قال: وهو في الموطأ موقوف، وقد رفعه عن مالك بهذا الإسناد ابن وهب عند ابن الجارود، وعثمان بن عمرو والوليد بن مسلم عند النسائي، وأخرجه ابن عبد البر من رواية إسماعيل بن جعفر عن مالك عن نعيم عن أبي سلمة عن أبي هريرة مرفوعًا انتهى.

وقد صرح نعيم بسماعه أبا هريرة فكأنه سمع منه الموقوف ومن أبي سلمة عنه المرفوع.

( مالك عن العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب) المدني صدوق مات سنة بضع وثلاثين ومائة ( عن أبيه) عبد الرحمن الجهني المدني ثقة ( عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ألا) بفتح الهمزة والتخفيف حرف تنبيه يفيد تحقيق ما بعده لتركبها من الهمزة ولا النافية وهمزة الاستفهام إذا دخلت على النفي أفادت التحقيق ( أخبركم بما يمحو الله به الخطايا) قال الباجي: كناية عن غفرانها والعفو عنها وقد يكون محوها من كتاب الحفظة دليلاً على عفوه تعالى عمن كتبت عليه ( ويرفع به الدرجات) أي المنازل في الجنة، ويحتمل أن يريد رفع درجته في الدنيا بالذكر الجميل وفي الآخرة بالثواب الجزيل.
وقال أبو عمر: هذا الحديث من أحسن ما يروى في فضائل الأعمال، وفيه طرح المسألة على المتعلم زاد في رواية لمسلم قالوا: بلى يا رسول الله.
قال الأبي: جوابهم ببلى يدل على أن لا في ألا نافية دخلت عليها ألف الاستفهام، ويحتمل أنها للاستفتاح.

( إسباغ الوضوء) أي إكماله وإتمامه واستيعاب أعضائه بالماء قال تعالى: { { وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ } } أي أتمها وأكملها ( عند المكاره) جمع مكرهة بمعنى الكره والمشقة.
قال أبو عمر: هي شدّة البرد وكل حال يكره المرء فيها نفسه على الوضوء قال عبيد بن عمير: من صدق الإيمان وبّره إسباغ الوضوء على المكاره، ومن صدق الإيمان أن يخلو الرجل بالمرأة الجميلة فيدعها لا يدعها إلا لله.
وقال الباجي: ومن المكاره شدة برد وعلة جسم وقلة ماء وحاجة إلى النوم وعجلة إلى أمر مهم وغير ذلك ( وكثرة الخطا) بالضم جمع خطوة بالفتح المرّة والضم ما بين القدمين ( إلى المساجد) وهو يكون ببعد الدار عن المسجد ويكون بكثرة التكرر عليه.
قال اليعمري: وفيه أن بعد الدار عن المسجد أفضل، وقد صرح به في قوله لبني سلمة، وقد أرادوا أن يتحوّلوا قريبًا من المسجد.
يا بني سلمة دياركم تكتب آثاركم.
وقال الأبي عن العز بن عبد السلام: لا يمر إلى المسجد من أبعد طريقيه ليكثر الخطا لأنّ الغرض الحصول في المسجد وهو يحصل بالقريبة.
قال: والحديث إنما هو تنشيط لمن بعدت داره أن لا يكسل ومن نحو ما ذكر أن لا يؤثر أبعد المسجدين منه بالصلاة فيه مع ما جاء لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد، وقالت عائشة: يا رسول الله إن لي جارين فإلى أيهما أهدي؟ قال: إلى أقربهما دارًا وإمام المسجد لا يمنعه أخذ المرتب من ثواب تكرره إليه انتهى.

( وانتظار الصلاة بعد الصلاة) قال المظهري: أي إذا صلى بالجماعة ينتظر صلاة أخرى يتعلق ذكره لها إما بأن يجلس في المسجد ينتظرها أو يكون في بيته أو يشتغل بكسبه وقلبه متعلق بها ينتظر حضورها فكل ذلك داخل في هذا الحكم.
ويؤيده حديث: ورجل قلبه معلق بالمسجد إذا خرج منه حتى يعود إليه انتهى.

وقال الباجي: هذا إنما يكون في صلاتين العصر بعد الظهر والعشاء بعد المغرب، وأما انتظار الصبح بعد العشاء فلم يكن من عمل الناس وكذا انتظار الظهر بعد الصبح، وأما انتظار المغرب بعد العصر فلا أذكر فيه نصًا، وحكمه عندي كالصبح بعد العشاء والظهر بعد الصبح لأن الذي ينتظر صلاة ليس بينها وبين التي صلى اشتراك في وقت قال: وفي ظني أني رأيته رواية لابن وهب عن مالك ولا أذكر موضعها الآن، وتعقبه الأبي بأنه ليس في الحديث ما يدل على المشتركتين لولا ما ذكره أنه ليس من عمل الناس وهو بناء على أنه يعني بالانتظار الجلوس بالمسجد.

قال ابن العربي: ويحتمل أن يريد به تعلق القلب بالصلاة فيعم الخمس.

قال الشيخ يعني ابن عرفة: جلوس الإمام في المسجد ينتظر الصلاة يدفع بذلك مشقة الرجوع لبعد أو مطر لا يمنع من نيل الثواب وفي المذكور وفي انتظار الإمام ذلك بالدويرة التي بالجامع نظر انتهى.

( فذلكم) المذكور من الثلاثة عند الطيبي وابن عرفة أو الإشارة لانتظار الصلاة كما عليه ابن عبد البر، وقال الأبي إنه الأظهر ( الرباط) المرغب فيه لأنه ربط نفسه على هذا العمل وحبسها عليه، ويحتمل أن يريد تفضيل هذا الرباط على غيره من الرباط في الثغور ولذا قال: ( فذلكم الرباط) أي أنه أفضل أنواعه كما يقال جهاد النفس هو الجهاد أي أنه أفضله، ويحتمل أن يريد الرباط الممكن المتيسر، وقد قال الشيخ أبو إسحاق الشيرازي: إن ذلك من ألفاظ الحصر ( فذلكم الرباط) ذكره ثلاثًا على معنى التعظيم لشأنه أو الإبهام أو غير ذلك قاله الباجي، وقيل أراد أن ثوابه كثواب الرباط، وقال ابن العربي: يعني به تفسير قوله تعالى: { { اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا } } وقال أبو عمر: الرباط هنا ملازمة المسجد لانتظار الصلاة، قال صاحب العين: الرباط ملازمة الثغور والرباط مواظبة الصلاة.
وقال أبو سلمة بن عبد الرحمن في قوله تعالى: { { اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا } } لم يكن الرباط على عهده صلى الله عليه وسلم ولكن نزلت في انتظار الصلاة.
وقال محمد بن كعب القرظي: اصبروا على دينكم وصابروا الوعد الذي وعدتكم ورابطوا عدوّي وعدوّكم انتهى.

وقال الطيبي في قوله: فذلكم الرباط معنى حديث رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر لإتيانه باسم الإشارة الدال على بعد منزلة المشار إليه في مقام التعظيم وإيقاع الرباط المحلى بلام الجنس خبرًا لاسم الإشارة كما في قوله { { الم ذَلِكَ الْكِتَابُ } } إذ التعريف في الخبر للجنس ولما أريد تقرير ذلك مزيد تقرير واهتمام بشأنه كرره ثلاثًا وتخصيصها بالثلاث لأن الأعمال المذكورة في الحديث ثلاث، وأتى باسم الإشارة إشارة إلى تعظيمه بالبعد.

وهذا الحديث رواه مسلم من طريق معن عن مالك به، وتابعه إسماعيل وشعبة كلاهما عن العلاء إلا أنه ليس في حديث شعبة ذكر الرباط، وفي رواية إسماعيل فذلكم الرباط مرة، وفي حديث مالك مرتين كذا قال مسلم بناء على رواية معن عنده، وإلا فأكثر الموطآت ثلاثًا، وكذا أخرجه الشافعي وأحمد والترمذي والنسائي كلهم من طريق مالك ثلاثًا.

( مالك أنه بلغه أن سعيد بن المسيب قال: يقال لا يخرج أحد من المسجد بعد النداء) لأنه دعاء إلى صلاة الجماعة فمن خرج حينئذ فقصد خلافهم وتفريق جماعتهم وهذا ممنوع باتفاق ( إلا أحد يريد الرجوع إليه) وقد نزلت به ضرورة حدث أو غيره فإن كانت ظاهرة كرعاف منعت سوء الظن به وإن كانت باطنة قبض على أنفه كالراعف ( إلا منافق) يريد أن ذلك من أفعال المنافقين، وهذا ما لم يكن صلى تلك الصلاة جماعة وإلا خرج عند النداء والإقامة فإن كان صلاها فذا فقال ابن الماجشون له أن يخرج ما لم تقم الصلاة فيلزمه إعادتها جماعة قاله كله الباجي.

قال ابن عبد البر: هذا لا يقال مثله من جهة الرأي ولا يكون إلا توقيفًا انتهى.
وقد صح مرفوعًا أخرج الطبراني برجال الصحيح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يسمع النداء في مسجدي هذا ثم يخرج منه إلا لحاجة ثم لا يرجع إليه إلا منافق.

وفي مسلم وأبي داود وأحمد عن أبي الشعثاء قال: كنا قعودًا في المسجد مع أبي هريرة فأذن المؤذن فقام رجل من المسجد يمشي فأتبعه أبو هريرة بصره حتى خرج من المسجد فقال أبو هريرة: أما هذا فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم.
زاد في رواية أحمد.
ثم قال أبو هريرة: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا كنتم في المسجد فنودي بالصلاة فلا يخرج أحدكم حتى يصلي.

قال ابن عبد البر: قال مالك: دخل أعرابي المسجد وأذن المؤذن فقام يحل عقال ناقته ليخرج فنهاه سعيد بن المسيب فلم ينته فما سارت به غير يسير حتى وقصت به فأصيب في جسده فقال سعيد: قد بلغنا أن من خرج من بين الأذان والإقامة لغير الوضوء أنه يصاب.

( مالك عن عامر بن عبد الله بن الزبير) بن العوّام الأسدي أبي الحارث المدني ثقة عابد مات سنة إحدى وعشرين ومائة ( عن عمرو) بفتح العين ( بن سليم) بضم السين ابن خلدة بسكون اللام الأنصاري ( الزرقي) بضم الزاي وفتح الراء بعدها قاف ثقة من كبار التابعين مات سنة أربع ومائة ويقال له رؤية.

( عن أبي قتادة الأنصاري) اسمه الحارث ويقال عمرو أو النعمان بن ربعي بكسر الراء وسكون الموحدة بعدها مهملة السلمي بفتحتين المدني شهد أحدًا وما بعدها ولم يصح شهوده بدرًا، ومات سنة أربع وخمسين وقيل سنة ثمان وثلاثين، والأول أصح وأشهر.

( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا دخل أحدكم المسجد) وهو متوضئ ( فليركع) أي فليصل من إطلاق الجزء وإرادة الكل ( ركعتين) هذا العدد لا مفهوم لأكثره باتفاق واختلف في أقله والصحيح اعتباره فلا يتأدى هذا المستحب بأقل من ركعتين ( قبل أن يجلس) فإن خالف وجلس لم يشرع له التدارك كذا قال جماعة وفيه نظر لما رواه ابن حبان عن أبي ذر أنه دخل المسجد فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أركعت ركعتين قال: لا.
قال: قم فاركعهما ترجم عليه ابن حبان في صحيحه تحية المسجد لا تفوت بالجلوس ومثله في قصة سليك.

وقال المحب الطبري: يحتمل أن يقال وقتهما قبل الجلوس وقت فضيلة وبعده وقت جواز، ويقال وقتهما قبله أداء وبعده قضاء، ويحتمل أن يحمل مشروعيتهما بعد الجلوس على ما لم يطل الفصل، واتفق أئمة الفتوى على أن الأمر للندب، وقال الظاهرية: للوجوب.
ومن أدلة عدمه قوله صلى الله عليه وسلم الذي رآه يتخطى: اجلس فقد آذيت ولم يأمره بصلاة كذا استدل به الطحاوي وغيره.
قال الحافظ: وفيه نظر، وقال الطحاوي أيضًا: الأوقات التي نهي عن الصلاة فيها ليس هذا الأمر بداخل فيها.

قلت: هما عمومان تعارضا الأمر بالصلاة لكل داخل من غير تفصيل والنهي عن الصلاة في أوقات مخصوصة فلا بدّ من تخصيص أحد العمومين فذهب جمع إلى تخصيص النهي وتعميم الأمر وهو الأصح عند الشافعية، وذهب جمع إلى عكسه وهو مذهب المالكية والحنفية انتهى.

وخص منه أيضًا إذا دخل والإمام يصلي الفرض أو شرع في الإقامة أو قربها لحديث: إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة وإن دخل المسجد ليمرّ فيه فقال مالك ليس عليه تحية لقوله قبل أن يجلس وهذا لم يرد الجلوس وهذا فيما عدا المسجد الحرام فتحيته الطواف وتندرج التحية تحت ركعتي الطواف.

والحديث أخرجه البخاري عن عبد الله بن يوسف عن يحيى كلاهما عن مالك به، وقد ورد على سبب وهو أن أبا قتادة دخل المسجد فوجد النبي صلى الله عليه وسلم جالسًا بين أصحابه فجلس معهم فقال له: ما منعك أن تركع قال: رأيتك جالسًا والناس جلوس.
قال: فإذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يركع ركعتين أخرجه مسلم.

( مالك عن أبي النضر) سالم بن أبي أمية ( مولى عمر بن عبيد الله) بضم العين فيهما ( عن أبي سلمة بن عبد الرحمن) بن عوف ( أنه قال له:) أي لأبي النضر ( ألم أر صاحبك) أي عمر بن عبيد الله بن معمر التيمي تيم قريش ( إذا دخل المسجد يجلس قبل أن يركع؟ قال أبو النضر يعني بذلك عمر بن عبيد الله) الذي هو مولاه سماه صاحبه ( ويعيب ذلك عليه أن يجلس إذا دخل المسجد قبل أن يركع) التحية بدل من الإشارة.

قال ابن عبد البر: إنما عاب عليه تقصيره عن حفظ نفسه في استعمال السنة مع قدرته عليها لا أن ذلك كان واجبًا عنده ولذا ( قال مالك: وذلك حسن) أي مستحب ( وليس بواجب) وعلى هذا جماعة الفقهاء، وأوجب أهل الظاهر على كل من دخل المسجد طاهرًا في حين تجوز فيه النافلة أن يركع، وأوجب بعضهم ذلك في كل وقت وقالوا فعل الخير لا يمنع منه إلا بدليل معارض له ولم يقولوا بالمجمل، ودليل مالك والجماعة أنه صلى الله عليه وسلم أمر رجلاً دخل المسجد وهو يخطب يوم الجمعة أن يركع وأمر الذي رآه يتخطى رقاب الناس بالجلوس ولم يقل له اركع، واستعمال الأحاديث لا يكون إلا على ما قال مالك.
وقال زيد بن أسلم: كان الصحابة يدخلون المسجد ثم يخرجون ولا يصلون قال: ورأيت ابن عمر يفعله وكذا سالم ابنه، وكان القاسم بن محمد يدخل المسجد فيجلس ولا يصلي وفي قوله صلى الله عليه وسلم للأعرابي الذي قال في الصلوات الخمس هل عليّ غيرها؟ قال: لا إلا أن تطوّع ما يردّ قول أهل الظاهر انتهى.

وكذا نقل ابن بطال عن أهل الظاهر الوجوب، وتوقف الحافظ فيه بأنّ ابن حزم صرح بعدمه ولا توقف لأنه وإن كان ظاهريًا لا يمتنع أن يخالفهم في مسائل ككثير من مقلدي الأئمة.



رقم الحديث 393 وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَعْقُوبَ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِمَا يَمْحُو اللَّهُ بِهِ الْخَطَايَا، وَيَرْفَعُ بِهِ الدَّرَجَاتِ؟ إِسْبَاغُ الْوُضُوءِ عِنْدَ الْمَكَارِهِ، وَكَثْرَةُ الْخُطَا إِلَى الْمَسَاجِدِ، وَانْتِظَارُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ.
فَذَلِكُمُ الرِّبَاطُ، فَذَلِكُمُ الرِّبَاطُ، فَذَلِكُمُ الرِّبَاطُ.


انْتِظَارِ الصَّلَاةِ وَالْمَشْيِ إِلَيْهَا

( مالك عن أبي الزناد) بكسر الزاي ونون عبد الله بن ذكوان ( عن الأعرج) عبد الرحمن بن هرمز ( عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: الملائكة) الحفظة أو السيارة أو أعم من ذلك كل محتمل قاله الحافظ العراقي وتبعه تلميذه في فتح الباري وقال غيرهما: الجمع المحلى بأل يفيد الاستغراق ( تصلي على أحدكم) أي تستغفر له قيل عبر بتصلي ليتناسب الجزاء والعمل ( ما دام في مصلاه الذي صلى فيه) صلاة تامّة لأنه صلى الله عليه وسلم قال للمسيء صلاته: ارجع فصل فإنك لم تصل قال ابن أبي جمرة زاد في رواية للبخاري: ينتظر الصلاة ومفهومه أنه إذا انصرف من مصلاه انقضى ذلك، لكن مقتضى الحديث بعده أنّ للمنتظر حكم المصلي سواء بقي في مجلسه ذلك من المسجد أم تحوّل إلى غيره فيمكن حمل قوله في مصلاه على المكان المعدّ للصلاة لا الموضع الخاص الذي صلى فيه أولاً فلا تخالف بين الحديثين قاله في الفتح.
وقال في موضع آخر: ومصلاه المكان الذي أوقع فيه الصلاة من المسجد وكأنه خرج مخرج الغالب وإلاّ فلو قام إلى بقعة أخرى من المسجد مستمرًا على نية انتظار الصلاة كان كذلك انتهى.

بل في الاستذكار مصلاه المسجد وهذا هو الأغلب في معنى انتظار الصلاة، ولو قعدت امرأة في مصلى بيتها تنتظر وقت صلاة أخرى لم يبعد أن تدخل في معنى الحديث لأنها حبست نفسها عن التصرف رغبة في الصلاة، ومن هذا قيل انتظار الصلاة رباط لأنّ المرابط حبس نفسه عن المكاسب والتصرف إرصادًا للعدوّ.

وقال الباجي عن المبسوط: سئل مالك عن رجل صلى في غير جماعة ثم قعد بموضعه ينتظر صلاة أخرى أتراه في صلاة بمنزلة من كان في المسجد كما جاء في الحديث؟ قال: نعم إن شاء الله أرجو أن يكون كذلك ما لم يحدث فيبطل ذلك ولو استمرّ جالسًا.
وفيه: أنّ الحدث في المسجد أشدّ من النخامة لأنّ لها كفارة وهي دفنها ولم يذكر هنا كفارة بل عومل صاحبه بحرمان استغفار الملائكة.

( اللهم اغفر له) على إضمار قائلين أو تقول وهو بيان لقوله تصلي.
قال أبو عمر: بين في سياق الحديث أنّ صلاة الملائكة الدعاء ( اللهم ارحمه) زاد ابن ماجه: اللهم تب عليه وهو مطابق لقوله تعالى: { { وَالْمَلاَئِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الأَرْضِ } } قيل: السر فيه أنهم يطلعون على أحوال بني آدم وما فيها من المعصية والخلل في الطاعة فيقتصرون على الاستغفار لهم من ذلك لأن دفع المفسدة مقدّم على جلب المصلحة، ولو فرض أن فيهم من يحفظ من ذلك فإنه يعوّض من المغفرة بما يقابلها من الثواب.
واستدل بالحديث على أفضلية الصلاة على غيرها من الأعمال لصلاة الملائكة عليه ودعائهم له بالمغفرة والرحمة والتوبة وعلى تفضيل صالحي الناس على الملائكة لأنهم في تحصيل الدرجات بعبادتهم والملائكة مشغولون بالاستغفار والدعاء لهم.

( قال مالك: لا أرى قوله ما لم يحدث إلا الإحداث الذي ينقض الوضوء) لأن القاعد في المسجد على غير وضوء لا يكون منتظرًا للصلاة، وقيل معناه هنا الكلام القبيح وهذا ضعيف لأن الكلام القبيح لا يخرجه من أن يكون منتظرًا للصلاة قاله ابن عبد البر.

قال الباجي: وقد روى أبو هريرة مثل قول مالك وقال: الحدث فساء أو ضراط، وفي فتح الباري المراد بالحدث حدث الفرج، لكن يؤخذ منه أن اجتناب حدث اللسان واليد من باب أولى لأن الأذى منهما يكون أشدّ أشار إلى ذلك ابن بطال، ويؤخذ من قوله في مصلاه الذي صلى فيه أن ذلك مقيد بمن صلى ثم انتظر صلاة أخرى وتتقيد الصلاة الأولى بكونها مجزية أما لو كان فيها نقص فإنها تجبر بالنافلة كما ثبت في الخبر الآخر انتهى.

وهذا الحديث رواه البخاري حدّثنا عبد الله بن يوسف قال أخبرنا مالك به، ورواه مسلم وغيره.

( مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا يزال أحدكم في صلاة) أي في ثوابها لا في حكمها لأنه يحل له الكلام وغيره مما منع في الصلاة ( ما كانت) وفي رواية ما دامت ( الصلاة تحبسه) أي مدّة دوام حبس الصلاة له.
قال الباجي: سواء انتظر وقتها أو إقامتها في الجماعة ( لا يمنعه أن ينقلب) يرجع ( إلى أهله إلا الصلاة) لا غيرها.

وهذا يقتضي أنه إذا صرف نيته عن ذلك صارف آخر انقطع عنه الثواب وكذلك إذا شارك نية الانتظار أمر آخر وهل يحصل ذلك لمن نيته إيقاع الصلاة في المسجد ولو لم يكن فيه الظاهر خلافه لأنه رتب الثواب المذكور على المجموع من النية وشغل البقعة بالعبادة لكن للمذكور ثواب يخصه، ولعل هذا سر إيراد البخاري عقب هذا الحديث حديث: سبعة يظلهم الله وفيه ورجل قلبه متعلق بالمساجد ذكره الحافظ.
وقال غيره: يحتمل الحديث العموم في كل صلاة سواء اشتركا في الوقت كانتظار العصر بعد الظهر والعشاء بعد المغرب أو لم يشتركا كالباقي خلافًا للباجي حيث خصه بالمشتركتين انتهى، ويأتي له مزيد قريبًا.

وهذا الحديث والذي قبله رواه البخاري حدّثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك به فجعلهما حديثًا واحدًا، والموطأ كما ترى جعلهما حديثين وإن اتحد إسنادهما.
قال الحافظ: ولا حجر في ذلك، وأخرج مسلم هذا الثاني عن يحيى بن يحيى عن مالك به.

( مالك عن سمي) بضم السين وفتح الميم ( مولى أبي بكر أن) مولاه ( أبا بكر بن عبد الرحمن) بن الحارث بن هشام أحد الفقهاء ( كان يقول: من غدا) ذهب وقت الغدوة أوّل النهار ( أو راح) من الزوال ( إلى المسجد لا يريد غيره ليتعلم خيرًا) من غيره ( أو ليعلمه) بشدّ اللام هو لغيره ( ثم رجع إلى بيته كان كالمجاهد في سبيل الله رجع غانمًا) .
قال ابن عبد البر: معلوم أن هذا لا يدرك بالرأي والاجتهاد لأنه قطع على غيب من حكم الله وأمره في ثوابه انتهى.

وقد ورد مرفوعًا عن سهل بن سعد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من دخل مسجدي هذا ليتعلم خيرًا أو ليعلمه كان كالمجاهد في سبيل الله.
وعن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من غدا إلى المسجد لا يريد إلا أن يتعلم خيرًا أو يعلمه كان كأجر حاج تامًا حجه أخرجهما الطبراني وإسناد كل منهما حسن كذا قال السيوطي، وإنما يوافق الحديث الأوّل رواية الموطأ بقياس بقية المساجد على المسجد النبوي، وأما الثاني فحديث آخر جعل ثوابه كالحج لا كالجهاد.

( مالك عن نعيم) بضم النون ( بن عبد الله المجمر) بضم الميم وسكون الجيم وكسر الميم الثانية صفة لنعيم ولأبيه أيضًا كما تقدّم ( أنه سمع أبا هريرة يقول: إذا صلى أحدكم) فرضًا أو نفلاً لأن حذف المفعول يؤذن بالعموم وقد استظهر ذلك ابن أبي جمرة ( ثم جلس في مصلاه لم تزل الملائكة تصلي عليه) تدعو له قائلين ( اللهم اغفر له اللهم ارحمه فإن قام من مصلاه فجلس في المسجد ينتظر الصلاة لم يزل في صلاة) حكمًا من الثواب ( حتى يصلي) .

قال ابن عبد البر: هذا مثل حديثه المرفوع قبل إلا أن في هذا أن من قام من مجلسه لا يخرج من ثواب المصلي إذا كان منتظرًا للصلاة إلا أنه لا يقال إن الملائكة تصلي عليه كما تصلي على الذي في مصلاه.
قال: وهو في الموطأ موقوف، وقد رفعه عن مالك بهذا الإسناد ابن وهب عند ابن الجارود، وعثمان بن عمرو والوليد بن مسلم عند النسائي، وأخرجه ابن عبد البر من رواية إسماعيل بن جعفر عن مالك عن نعيم عن أبي سلمة عن أبي هريرة مرفوعًا انتهى.

وقد صرح نعيم بسماعه أبا هريرة فكأنه سمع منه الموقوف ومن أبي سلمة عنه المرفوع.

( مالك عن العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب) المدني صدوق مات سنة بضع وثلاثين ومائة ( عن أبيه) عبد الرحمن الجهني المدني ثقة ( عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ألا) بفتح الهمزة والتخفيف حرف تنبيه يفيد تحقيق ما بعده لتركبها من الهمزة ولا النافية وهمزة الاستفهام إذا دخلت على النفي أفادت التحقيق ( أخبركم بما يمحو الله به الخطايا) قال الباجي: كناية عن غفرانها والعفو عنها وقد يكون محوها من كتاب الحفظة دليلاً على عفوه تعالى عمن كتبت عليه ( ويرفع به الدرجات) أي المنازل في الجنة، ويحتمل أن يريد رفع درجته في الدنيا بالذكر الجميل وفي الآخرة بالثواب الجزيل.
وقال أبو عمر: هذا الحديث من أحسن ما يروى في فضائل الأعمال، وفيه طرح المسألة على المتعلم زاد في رواية لمسلم قالوا: بلى يا رسول الله.
قال الأبي: جوابهم ببلى يدل على أن لا في ألا نافية دخلت عليها ألف الاستفهام، ويحتمل أنها للاستفتاح.

( إسباغ الوضوء) أي إكماله وإتمامه واستيعاب أعضائه بالماء قال تعالى: { { وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ } } أي أتمها وأكملها ( عند المكاره) جمع مكرهة بمعنى الكره والمشقة.
قال أبو عمر: هي شدّة البرد وكل حال يكره المرء فيها نفسه على الوضوء قال عبيد بن عمير: من صدق الإيمان وبّره إسباغ الوضوء على المكاره، ومن صدق الإيمان أن يخلو الرجل بالمرأة الجميلة فيدعها لا يدعها إلا لله.
وقال الباجي: ومن المكاره شدة برد وعلة جسم وقلة ماء وحاجة إلى النوم وعجلة إلى أمر مهم وغير ذلك ( وكثرة الخطا) بالضم جمع خطوة بالفتح المرّة والضم ما بين القدمين ( إلى المساجد) وهو يكون ببعد الدار عن المسجد ويكون بكثرة التكرر عليه.
قال اليعمري: وفيه أن بعد الدار عن المسجد أفضل، وقد صرح به في قوله لبني سلمة، وقد أرادوا أن يتحوّلوا قريبًا من المسجد.
يا بني سلمة دياركم تكتب آثاركم.
وقال الأبي عن العز بن عبد السلام: لا يمر إلى المسجد من أبعد طريقيه ليكثر الخطا لأنّ الغرض الحصول في المسجد وهو يحصل بالقريبة.
قال: والحديث إنما هو تنشيط لمن بعدت داره أن لا يكسل ومن نحو ما ذكر أن لا يؤثر أبعد المسجدين منه بالصلاة فيه مع ما جاء لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد، وقالت عائشة: يا رسول الله إن لي جارين فإلى أيهما أهدي؟ قال: إلى أقربهما دارًا وإمام المسجد لا يمنعه أخذ المرتب من ثواب تكرره إليه انتهى.

( وانتظار الصلاة بعد الصلاة) قال المظهري: أي إذا صلى بالجماعة ينتظر صلاة أخرى يتعلق ذكره لها إما بأن يجلس في المسجد ينتظرها أو يكون في بيته أو يشتغل بكسبه وقلبه متعلق بها ينتظر حضورها فكل ذلك داخل في هذا الحكم.
ويؤيده حديث: ورجل قلبه معلق بالمسجد إذا خرج منه حتى يعود إليه انتهى.

وقال الباجي: هذا إنما يكون في صلاتين العصر بعد الظهر والعشاء بعد المغرب، وأما انتظار الصبح بعد العشاء فلم يكن من عمل الناس وكذا انتظار الظهر بعد الصبح، وأما انتظار المغرب بعد العصر فلا أذكر فيه نصًا، وحكمه عندي كالصبح بعد العشاء والظهر بعد الصبح لأن الذي ينتظر صلاة ليس بينها وبين التي صلى اشتراك في وقت قال: وفي ظني أني رأيته رواية لابن وهب عن مالك ولا أذكر موضعها الآن، وتعقبه الأبي بأنه ليس في الحديث ما يدل على المشتركتين لولا ما ذكره أنه ليس من عمل الناس وهو بناء على أنه يعني بالانتظار الجلوس بالمسجد.

قال ابن العربي: ويحتمل أن يريد به تعلق القلب بالصلاة فيعم الخمس.

قال الشيخ يعني ابن عرفة: جلوس الإمام في المسجد ينتظر الصلاة يدفع بذلك مشقة الرجوع لبعد أو مطر لا يمنع من نيل الثواب وفي المذكور وفي انتظار الإمام ذلك بالدويرة التي بالجامع نظر انتهى.

( فذلكم) المذكور من الثلاثة عند الطيبي وابن عرفة أو الإشارة لانتظار الصلاة كما عليه ابن عبد البر، وقال الأبي إنه الأظهر ( الرباط) المرغب فيه لأنه ربط نفسه على هذا العمل وحبسها عليه، ويحتمل أن يريد تفضيل هذا الرباط على غيره من الرباط في الثغور ولذا قال: ( فذلكم الرباط) أي أنه أفضل أنواعه كما يقال جهاد النفس هو الجهاد أي أنه أفضله، ويحتمل أن يريد الرباط الممكن المتيسر، وقد قال الشيخ أبو إسحاق الشيرازي: إن ذلك من ألفاظ الحصر ( فذلكم الرباط) ذكره ثلاثًا على معنى التعظيم لشأنه أو الإبهام أو غير ذلك قاله الباجي، وقيل أراد أن ثوابه كثواب الرباط، وقال ابن العربي: يعني به تفسير قوله تعالى: { { اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا } } وقال أبو عمر: الرباط هنا ملازمة المسجد لانتظار الصلاة، قال صاحب العين: الرباط ملازمة الثغور والرباط مواظبة الصلاة.
وقال أبو سلمة بن عبد الرحمن في قوله تعالى: { { اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا } } لم يكن الرباط على عهده صلى الله عليه وسلم ولكن نزلت في انتظار الصلاة.
وقال محمد بن كعب القرظي: اصبروا على دينكم وصابروا الوعد الذي وعدتكم ورابطوا عدوّي وعدوّكم انتهى.

وقال الطيبي في قوله: فذلكم الرباط معنى حديث رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر لإتيانه باسم الإشارة الدال على بعد منزلة المشار إليه في مقام التعظيم وإيقاع الرباط المحلى بلام الجنس خبرًا لاسم الإشارة كما في قوله { { الم ذَلِكَ الْكِتَابُ } } إذ التعريف في الخبر للجنس ولما أريد تقرير ذلك مزيد تقرير واهتمام بشأنه كرره ثلاثًا وتخصيصها بالثلاث لأن الأعمال المذكورة في الحديث ثلاث، وأتى باسم الإشارة إشارة إلى تعظيمه بالبعد.

وهذا الحديث رواه مسلم من طريق معن عن مالك به، وتابعه إسماعيل وشعبة كلاهما عن العلاء إلا أنه ليس في حديث شعبة ذكر الرباط، وفي رواية إسماعيل فذلكم الرباط مرة، وفي حديث مالك مرتين كذا قال مسلم بناء على رواية معن عنده، وإلا فأكثر الموطآت ثلاثًا، وكذا أخرجه الشافعي وأحمد والترمذي والنسائي كلهم من طريق مالك ثلاثًا.

( مالك أنه بلغه أن سعيد بن المسيب قال: يقال لا يخرج أحد من المسجد بعد النداء) لأنه دعاء إلى صلاة الجماعة فمن خرج حينئذ فقصد خلافهم وتفريق جماعتهم وهذا ممنوع باتفاق ( إلا أحد يريد الرجوع إليه) وقد نزلت به ضرورة حدث أو غيره فإن كانت ظاهرة كرعاف منعت سوء الظن به وإن كانت باطنة قبض على أنفه كالراعف ( إلا منافق) يريد أن ذلك من أفعال المنافقين، وهذا ما لم يكن صلى تلك الصلاة جماعة وإلا خرج عند النداء والإقامة فإن كان صلاها فذا فقال ابن الماجشون له أن يخرج ما لم تقم الصلاة فيلزمه إعادتها جماعة قاله كله الباجي.

قال ابن عبد البر: هذا لا يقال مثله من جهة الرأي ولا يكون إلا توقيفًا انتهى.
وقد صح مرفوعًا أخرج الطبراني برجال الصحيح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يسمع النداء في مسجدي هذا ثم يخرج منه إلا لحاجة ثم لا يرجع إليه إلا منافق.

وفي مسلم وأبي داود وأحمد عن أبي الشعثاء قال: كنا قعودًا في المسجد مع أبي هريرة فأذن المؤذن فقام رجل من المسجد يمشي فأتبعه أبو هريرة بصره حتى خرج من المسجد فقال أبو هريرة: أما هذا فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم.
زاد في رواية أحمد.
ثم قال أبو هريرة: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا كنتم في المسجد فنودي بالصلاة فلا يخرج أحدكم حتى يصلي.

قال ابن عبد البر: قال مالك: دخل أعرابي المسجد وأذن المؤذن فقام يحل عقال ناقته ليخرج فنهاه سعيد بن المسيب فلم ينته فما سارت به غير يسير حتى وقصت به فأصيب في جسده فقال سعيد: قد بلغنا أن من خرج من بين الأذان والإقامة لغير الوضوء أنه يصاب.

( مالك عن عامر بن عبد الله بن الزبير) بن العوّام الأسدي أبي الحارث المدني ثقة عابد مات سنة إحدى وعشرين ومائة ( عن عمرو) بفتح العين ( بن سليم) بضم السين ابن خلدة بسكون اللام الأنصاري ( الزرقي) بضم الزاي وفتح الراء بعدها قاف ثقة من كبار التابعين مات سنة أربع ومائة ويقال له رؤية.

( عن أبي قتادة الأنصاري) اسمه الحارث ويقال عمرو أو النعمان بن ربعي بكسر الراء وسكون الموحدة بعدها مهملة السلمي بفتحتين المدني شهد أحدًا وما بعدها ولم يصح شهوده بدرًا، ومات سنة أربع وخمسين وقيل سنة ثمان وثلاثين، والأول أصح وأشهر.

( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا دخل أحدكم المسجد) وهو متوضئ ( فليركع) أي فليصل من إطلاق الجزء وإرادة الكل ( ركعتين) هذا العدد لا مفهوم لأكثره باتفاق واختلف في أقله والصحيح اعتباره فلا يتأدى هذا المستحب بأقل من ركعتين ( قبل أن يجلس) فإن خالف وجلس لم يشرع له التدارك كذا قال جماعة وفيه نظر لما رواه ابن حبان عن أبي ذر أنه دخل المسجد فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أركعت ركعتين قال: لا.
قال: قم فاركعهما ترجم عليه ابن حبان في صحيحه تحية المسجد لا تفوت بالجلوس ومثله في قصة سليك.

وقال المحب الطبري: يحتمل أن يقال وقتهما قبل الجلوس وقت فضيلة وبعده وقت جواز، ويقال وقتهما قبله أداء وبعده قضاء، ويحتمل أن يحمل مشروعيتهما بعد الجلوس على ما لم يطل الفصل، واتفق أئمة الفتوى على أن الأمر للندب، وقال الظاهرية: للوجوب.
ومن أدلة عدمه قوله صلى الله عليه وسلم الذي رآه يتخطى: اجلس فقد آذيت ولم يأمره بصلاة كذا استدل به الطحاوي وغيره.
قال الحافظ: وفيه نظر، وقال الطحاوي أيضًا: الأوقات التي نهي عن الصلاة فيها ليس هذا الأمر بداخل فيها.

قلت: هما عمومان تعارضا الأمر بالصلاة لكل داخل من غير تفصيل والنهي عن الصلاة في أوقات مخصوصة فلا بدّ من تخصيص أحد العمومين فذهب جمع إلى تخصيص النهي وتعميم الأمر وهو الأصح عند الشافعية، وذهب جمع إلى عكسه وهو مذهب المالكية والحنفية انتهى.

وخص منه أيضًا إذا دخل والإمام يصلي الفرض أو شرع في الإقامة أو قربها لحديث: إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة وإن دخل المسجد ليمرّ فيه فقال مالك ليس عليه تحية لقوله قبل أن يجلس وهذا لم يرد الجلوس وهذا فيما عدا المسجد الحرام فتحيته الطواف وتندرج التحية تحت ركعتي الطواف.

والحديث أخرجه البخاري عن عبد الله بن يوسف عن يحيى كلاهما عن مالك به، وقد ورد على سبب وهو أن أبا قتادة دخل المسجد فوجد النبي صلى الله عليه وسلم جالسًا بين أصحابه فجلس معهم فقال له: ما منعك أن تركع قال: رأيتك جالسًا والناس جلوس.
قال: فإذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يركع ركعتين أخرجه مسلم.

( مالك عن أبي النضر) سالم بن أبي أمية ( مولى عمر بن عبيد الله) بضم العين فيهما ( عن أبي سلمة بن عبد الرحمن) بن عوف ( أنه قال له:) أي لأبي النضر ( ألم أر صاحبك) أي عمر بن عبيد الله بن معمر التيمي تيم قريش ( إذا دخل المسجد يجلس قبل أن يركع؟ قال أبو النضر يعني بذلك عمر بن عبيد الله) الذي هو مولاه سماه صاحبه ( ويعيب ذلك عليه أن يجلس إذا دخل المسجد قبل أن يركع) التحية بدل من الإشارة.

قال ابن عبد البر: إنما عاب عليه تقصيره عن حفظ نفسه في استعمال السنة مع قدرته عليها لا أن ذلك كان واجبًا عنده ولذا ( قال مالك: وذلك حسن) أي مستحب ( وليس بواجب) وعلى هذا جماعة الفقهاء، وأوجب أهل الظاهر على كل من دخل المسجد طاهرًا في حين تجوز فيه النافلة أن يركع، وأوجب بعضهم ذلك في كل وقت وقالوا فعل الخير لا يمنع منه إلا بدليل معارض له ولم يقولوا بالمجمل، ودليل مالك والجماعة أنه صلى الله عليه وسلم أمر رجلاً دخل المسجد وهو يخطب يوم الجمعة أن يركع وأمر الذي رآه يتخطى رقاب الناس بالجلوس ولم يقل له اركع، واستعمال الأحاديث لا يكون إلا على ما قال مالك.
وقال زيد بن أسلم: كان الصحابة يدخلون المسجد ثم يخرجون ولا يصلون قال: ورأيت ابن عمر يفعله وكذا سالم ابنه، وكان القاسم بن محمد يدخل المسجد فيجلس ولا يصلي وفي قوله صلى الله عليه وسلم للأعرابي الذي قال في الصلوات الخمس هل عليّ غيرها؟ قال: لا إلا أن تطوّع ما يردّ قول أهل الظاهر انتهى.

وكذا نقل ابن بطال عن أهل الظاهر الوجوب، وتوقف الحافظ فيه بأنّ ابن حزم صرح بعدمه ولا توقف لأنه وإن كان ظاهريًا لا يمتنع أن يخالفهم في مسائل ككثير من مقلدي الأئمة.



رقم الحديث 394 وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ قَالَ: يُقَالُ لَا يَخْرُجُ أَحَدٌ مِنَ الْمَسْجِدِ بَعْدَ النِّدَاءِ، إِلَّا أَحَدٌ يُرِيدُ الرُّجُوعَ إِلَيْهِ، إِلَّا مُنَافِقٌ.


انْتِظَارِ الصَّلَاةِ وَالْمَشْيِ إِلَيْهَا

( مالك عن أبي الزناد) بكسر الزاي ونون عبد الله بن ذكوان ( عن الأعرج) عبد الرحمن بن هرمز ( عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: الملائكة) الحفظة أو السيارة أو أعم من ذلك كل محتمل قاله الحافظ العراقي وتبعه تلميذه في فتح الباري وقال غيرهما: الجمع المحلى بأل يفيد الاستغراق ( تصلي على أحدكم) أي تستغفر له قيل عبر بتصلي ليتناسب الجزاء والعمل ( ما دام في مصلاه الذي صلى فيه) صلاة تامّة لأنه صلى الله عليه وسلم قال للمسيء صلاته: ارجع فصل فإنك لم تصل قال ابن أبي جمرة زاد في رواية للبخاري: ينتظر الصلاة ومفهومه أنه إذا انصرف من مصلاه انقضى ذلك، لكن مقتضى الحديث بعده أنّ للمنتظر حكم المصلي سواء بقي في مجلسه ذلك من المسجد أم تحوّل إلى غيره فيمكن حمل قوله في مصلاه على المكان المعدّ للصلاة لا الموضع الخاص الذي صلى فيه أولاً فلا تخالف بين الحديثين قاله في الفتح.
وقال في موضع آخر: ومصلاه المكان الذي أوقع فيه الصلاة من المسجد وكأنه خرج مخرج الغالب وإلاّ فلو قام إلى بقعة أخرى من المسجد مستمرًا على نية انتظار الصلاة كان كذلك انتهى.

بل في الاستذكار مصلاه المسجد وهذا هو الأغلب في معنى انتظار الصلاة، ولو قعدت امرأة في مصلى بيتها تنتظر وقت صلاة أخرى لم يبعد أن تدخل في معنى الحديث لأنها حبست نفسها عن التصرف رغبة في الصلاة، ومن هذا قيل انتظار الصلاة رباط لأنّ المرابط حبس نفسه عن المكاسب والتصرف إرصادًا للعدوّ.

وقال الباجي عن المبسوط: سئل مالك عن رجل صلى في غير جماعة ثم قعد بموضعه ينتظر صلاة أخرى أتراه في صلاة بمنزلة من كان في المسجد كما جاء في الحديث؟ قال: نعم إن شاء الله أرجو أن يكون كذلك ما لم يحدث فيبطل ذلك ولو استمرّ جالسًا.
وفيه: أنّ الحدث في المسجد أشدّ من النخامة لأنّ لها كفارة وهي دفنها ولم يذكر هنا كفارة بل عومل صاحبه بحرمان استغفار الملائكة.

( اللهم اغفر له) على إضمار قائلين أو تقول وهو بيان لقوله تصلي.
قال أبو عمر: بين في سياق الحديث أنّ صلاة الملائكة الدعاء ( اللهم ارحمه) زاد ابن ماجه: اللهم تب عليه وهو مطابق لقوله تعالى: { { وَالْمَلاَئِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الأَرْضِ } } قيل: السر فيه أنهم يطلعون على أحوال بني آدم وما فيها من المعصية والخلل في الطاعة فيقتصرون على الاستغفار لهم من ذلك لأن دفع المفسدة مقدّم على جلب المصلحة، ولو فرض أن فيهم من يحفظ من ذلك فإنه يعوّض من المغفرة بما يقابلها من الثواب.
واستدل بالحديث على أفضلية الصلاة على غيرها من الأعمال لصلاة الملائكة عليه ودعائهم له بالمغفرة والرحمة والتوبة وعلى تفضيل صالحي الناس على الملائكة لأنهم في تحصيل الدرجات بعبادتهم والملائكة مشغولون بالاستغفار والدعاء لهم.

( قال مالك: لا أرى قوله ما لم يحدث إلا الإحداث الذي ينقض الوضوء) لأن القاعد في المسجد على غير وضوء لا يكون منتظرًا للصلاة، وقيل معناه هنا الكلام القبيح وهذا ضعيف لأن الكلام القبيح لا يخرجه من أن يكون منتظرًا للصلاة قاله ابن عبد البر.

قال الباجي: وقد روى أبو هريرة مثل قول مالك وقال: الحدث فساء أو ضراط، وفي فتح الباري المراد بالحدث حدث الفرج، لكن يؤخذ منه أن اجتناب حدث اللسان واليد من باب أولى لأن الأذى منهما يكون أشدّ أشار إلى ذلك ابن بطال، ويؤخذ من قوله في مصلاه الذي صلى فيه أن ذلك مقيد بمن صلى ثم انتظر صلاة أخرى وتتقيد الصلاة الأولى بكونها مجزية أما لو كان فيها نقص فإنها تجبر بالنافلة كما ثبت في الخبر الآخر انتهى.

وهذا الحديث رواه البخاري حدّثنا عبد الله بن يوسف قال أخبرنا مالك به، ورواه مسلم وغيره.

( مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا يزال أحدكم في صلاة) أي في ثوابها لا في حكمها لأنه يحل له الكلام وغيره مما منع في الصلاة ( ما كانت) وفي رواية ما دامت ( الصلاة تحبسه) أي مدّة دوام حبس الصلاة له.
قال الباجي: سواء انتظر وقتها أو إقامتها في الجماعة ( لا يمنعه أن ينقلب) يرجع ( إلى أهله إلا الصلاة) لا غيرها.

وهذا يقتضي أنه إذا صرف نيته عن ذلك صارف آخر انقطع عنه الثواب وكذلك إذا شارك نية الانتظار أمر آخر وهل يحصل ذلك لمن نيته إيقاع الصلاة في المسجد ولو لم يكن فيه الظاهر خلافه لأنه رتب الثواب المذكور على المجموع من النية وشغل البقعة بالعبادة لكن للمذكور ثواب يخصه، ولعل هذا سر إيراد البخاري عقب هذا الحديث حديث: سبعة يظلهم الله وفيه ورجل قلبه متعلق بالمساجد ذكره الحافظ.
وقال غيره: يحتمل الحديث العموم في كل صلاة سواء اشتركا في الوقت كانتظار العصر بعد الظهر والعشاء بعد المغرب أو لم يشتركا كالباقي خلافًا للباجي حيث خصه بالمشتركتين انتهى، ويأتي له مزيد قريبًا.

وهذا الحديث والذي قبله رواه البخاري حدّثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك به فجعلهما حديثًا واحدًا، والموطأ كما ترى جعلهما حديثين وإن اتحد إسنادهما.
قال الحافظ: ولا حجر في ذلك، وأخرج مسلم هذا الثاني عن يحيى بن يحيى عن مالك به.

( مالك عن سمي) بضم السين وفتح الميم ( مولى أبي بكر أن) مولاه ( أبا بكر بن عبد الرحمن) بن الحارث بن هشام أحد الفقهاء ( كان يقول: من غدا) ذهب وقت الغدوة أوّل النهار ( أو راح) من الزوال ( إلى المسجد لا يريد غيره ليتعلم خيرًا) من غيره ( أو ليعلمه) بشدّ اللام هو لغيره ( ثم رجع إلى بيته كان كالمجاهد في سبيل الله رجع غانمًا) .
قال ابن عبد البر: معلوم أن هذا لا يدرك بالرأي والاجتهاد لأنه قطع على غيب من حكم الله وأمره في ثوابه انتهى.

وقد ورد مرفوعًا عن سهل بن سعد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من دخل مسجدي هذا ليتعلم خيرًا أو ليعلمه كان كالمجاهد في سبيل الله.
وعن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من غدا إلى المسجد لا يريد إلا أن يتعلم خيرًا أو يعلمه كان كأجر حاج تامًا حجه أخرجهما الطبراني وإسناد كل منهما حسن كذا قال السيوطي، وإنما يوافق الحديث الأوّل رواية الموطأ بقياس بقية المساجد على المسجد النبوي، وأما الثاني فحديث آخر جعل ثوابه كالحج لا كالجهاد.

( مالك عن نعيم) بضم النون ( بن عبد الله المجمر) بضم الميم وسكون الجيم وكسر الميم الثانية صفة لنعيم ولأبيه أيضًا كما تقدّم ( أنه سمع أبا هريرة يقول: إذا صلى أحدكم) فرضًا أو نفلاً لأن حذف المفعول يؤذن بالعموم وقد استظهر ذلك ابن أبي جمرة ( ثم جلس في مصلاه لم تزل الملائكة تصلي عليه) تدعو له قائلين ( اللهم اغفر له اللهم ارحمه فإن قام من مصلاه فجلس في المسجد ينتظر الصلاة لم يزل في صلاة) حكمًا من الثواب ( حتى يصلي) .

قال ابن عبد البر: هذا مثل حديثه المرفوع قبل إلا أن في هذا أن من قام من مجلسه لا يخرج من ثواب المصلي إذا كان منتظرًا للصلاة إلا أنه لا يقال إن الملائكة تصلي عليه كما تصلي على الذي في مصلاه.
قال: وهو في الموطأ موقوف، وقد رفعه عن مالك بهذا الإسناد ابن وهب عند ابن الجارود، وعثمان بن عمرو والوليد بن مسلم عند النسائي، وأخرجه ابن عبد البر من رواية إسماعيل بن جعفر عن مالك عن نعيم عن أبي سلمة عن أبي هريرة مرفوعًا انتهى.

وقد صرح نعيم بسماعه أبا هريرة فكأنه سمع منه الموقوف ومن أبي سلمة عنه المرفوع.

( مالك عن العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب) المدني صدوق مات سنة بضع وثلاثين ومائة ( عن أبيه) عبد الرحمن الجهني المدني ثقة ( عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ألا) بفتح الهمزة والتخفيف حرف تنبيه يفيد تحقيق ما بعده لتركبها من الهمزة ولا النافية وهمزة الاستفهام إذا دخلت على النفي أفادت التحقيق ( أخبركم بما يمحو الله به الخطايا) قال الباجي: كناية عن غفرانها والعفو عنها وقد يكون محوها من كتاب الحفظة دليلاً على عفوه تعالى عمن كتبت عليه ( ويرفع به الدرجات) أي المنازل في الجنة، ويحتمل أن يريد رفع درجته في الدنيا بالذكر الجميل وفي الآخرة بالثواب الجزيل.
وقال أبو عمر: هذا الحديث من أحسن ما يروى في فضائل الأعمال، وفيه طرح المسألة على المتعلم زاد في رواية لمسلم قالوا: بلى يا رسول الله.
قال الأبي: جوابهم ببلى يدل على أن لا في ألا نافية دخلت عليها ألف الاستفهام، ويحتمل أنها للاستفتاح.

( إسباغ الوضوء) أي إكماله وإتمامه واستيعاب أعضائه بالماء قال تعالى: { { وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ } } أي أتمها وأكملها ( عند المكاره) جمع مكرهة بمعنى الكره والمشقة.
قال أبو عمر: هي شدّة البرد وكل حال يكره المرء فيها نفسه على الوضوء قال عبيد بن عمير: من صدق الإيمان وبّره إسباغ الوضوء على المكاره، ومن صدق الإيمان أن يخلو الرجل بالمرأة الجميلة فيدعها لا يدعها إلا لله.
وقال الباجي: ومن المكاره شدة برد وعلة جسم وقلة ماء وحاجة إلى النوم وعجلة إلى أمر مهم وغير ذلك ( وكثرة الخطا) بالضم جمع خطوة بالفتح المرّة والضم ما بين القدمين ( إلى المساجد) وهو يكون ببعد الدار عن المسجد ويكون بكثرة التكرر عليه.
قال اليعمري: وفيه أن بعد الدار عن المسجد أفضل، وقد صرح به في قوله لبني سلمة، وقد أرادوا أن يتحوّلوا قريبًا من المسجد.
يا بني سلمة دياركم تكتب آثاركم.
وقال الأبي عن العز بن عبد السلام: لا يمر إلى المسجد من أبعد طريقيه ليكثر الخطا لأنّ الغرض الحصول في المسجد وهو يحصل بالقريبة.
قال: والحديث إنما هو تنشيط لمن بعدت داره أن لا يكسل ومن نحو ما ذكر أن لا يؤثر أبعد المسجدين منه بالصلاة فيه مع ما جاء لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد، وقالت عائشة: يا رسول الله إن لي جارين فإلى أيهما أهدي؟ قال: إلى أقربهما دارًا وإمام المسجد لا يمنعه أخذ المرتب من ثواب تكرره إليه انتهى.

( وانتظار الصلاة بعد الصلاة) قال المظهري: أي إذا صلى بالجماعة ينتظر صلاة أخرى يتعلق ذكره لها إما بأن يجلس في المسجد ينتظرها أو يكون في بيته أو يشتغل بكسبه وقلبه متعلق بها ينتظر حضورها فكل ذلك داخل في هذا الحكم.
ويؤيده حديث: ورجل قلبه معلق بالمسجد إذا خرج منه حتى يعود إليه انتهى.

وقال الباجي: هذا إنما يكون في صلاتين العصر بعد الظهر والعشاء بعد المغرب، وأما انتظار الصبح بعد العشاء فلم يكن من عمل الناس وكذا انتظار الظهر بعد الصبح، وأما انتظار المغرب بعد العصر فلا أذكر فيه نصًا، وحكمه عندي كالصبح بعد العشاء والظهر بعد الصبح لأن الذي ينتظر صلاة ليس بينها وبين التي صلى اشتراك في وقت قال: وفي ظني أني رأيته رواية لابن وهب عن مالك ولا أذكر موضعها الآن، وتعقبه الأبي بأنه ليس في الحديث ما يدل على المشتركتين لولا ما ذكره أنه ليس من عمل الناس وهو بناء على أنه يعني بالانتظار الجلوس بالمسجد.

قال ابن العربي: ويحتمل أن يريد به تعلق القلب بالصلاة فيعم الخمس.

قال الشيخ يعني ابن عرفة: جلوس الإمام في المسجد ينتظر الصلاة يدفع بذلك مشقة الرجوع لبعد أو مطر لا يمنع من نيل الثواب وفي المذكور وفي انتظار الإمام ذلك بالدويرة التي بالجامع نظر انتهى.

( فذلكم) المذكور من الثلاثة عند الطيبي وابن عرفة أو الإشارة لانتظار الصلاة كما عليه ابن عبد البر، وقال الأبي إنه الأظهر ( الرباط) المرغب فيه لأنه ربط نفسه على هذا العمل وحبسها عليه، ويحتمل أن يريد تفضيل هذا الرباط على غيره من الرباط في الثغور ولذا قال: ( فذلكم الرباط) أي أنه أفضل أنواعه كما يقال جهاد النفس هو الجهاد أي أنه أفضله، ويحتمل أن يريد الرباط الممكن المتيسر، وقد قال الشيخ أبو إسحاق الشيرازي: إن ذلك من ألفاظ الحصر ( فذلكم الرباط) ذكره ثلاثًا على معنى التعظيم لشأنه أو الإبهام أو غير ذلك قاله الباجي، وقيل أراد أن ثوابه كثواب الرباط، وقال ابن العربي: يعني به تفسير قوله تعالى: { { اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا } } وقال أبو عمر: الرباط هنا ملازمة المسجد لانتظار الصلاة، قال صاحب العين: الرباط ملازمة الثغور والرباط مواظبة الصلاة.
وقال أبو سلمة بن عبد الرحمن في قوله تعالى: { { اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا } } لم يكن الرباط على عهده صلى الله عليه وسلم ولكن نزلت في انتظار الصلاة.
وقال محمد بن كعب القرظي: اصبروا على دينكم وصابروا الوعد الذي وعدتكم ورابطوا عدوّي وعدوّكم انتهى.

وقال الطيبي في قوله: فذلكم الرباط معنى حديث رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر لإتيانه باسم الإشارة الدال على بعد منزلة المشار إليه في مقام التعظيم وإيقاع الرباط المحلى بلام الجنس خبرًا لاسم الإشارة كما في قوله { { الم ذَلِكَ الْكِتَابُ } } إذ التعريف في الخبر للجنس ولما أريد تقرير ذلك مزيد تقرير واهتمام بشأنه كرره ثلاثًا وتخصيصها بالثلاث لأن الأعمال المذكورة في الحديث ثلاث، وأتى باسم الإشارة إشارة إلى تعظيمه بالبعد.

وهذا الحديث رواه مسلم من طريق معن عن مالك به، وتابعه إسماعيل وشعبة كلاهما عن العلاء إلا أنه ليس في حديث شعبة ذكر الرباط، وفي رواية إسماعيل فذلكم الرباط مرة، وفي حديث مالك مرتين كذا قال مسلم بناء على رواية معن عنده، وإلا فأكثر الموطآت ثلاثًا، وكذا أخرجه الشافعي وأحمد والترمذي والنسائي كلهم من طريق مالك ثلاثًا.

( مالك أنه بلغه أن سعيد بن المسيب قال: يقال لا يخرج أحد من المسجد بعد النداء) لأنه دعاء إلى صلاة الجماعة فمن خرج حينئذ فقصد خلافهم وتفريق جماعتهم وهذا ممنوع باتفاق ( إلا أحد يريد الرجوع إليه) وقد نزلت به ضرورة حدث أو غيره فإن كانت ظاهرة كرعاف منعت سوء الظن به وإن كانت باطنة قبض على أنفه كالراعف ( إلا منافق) يريد أن ذلك من أفعال المنافقين، وهذا ما لم يكن صلى تلك الصلاة جماعة وإلا خرج عند النداء والإقامة فإن كان صلاها فذا فقال ابن الماجشون له أن يخرج ما لم تقم الصلاة فيلزمه إعادتها جماعة قاله كله الباجي.

قال ابن عبد البر: هذا لا يقال مثله من جهة الرأي ولا يكون إلا توقيفًا انتهى.
وقد صح مرفوعًا أخرج الطبراني برجال الصحيح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يسمع النداء في مسجدي هذا ثم يخرج منه إلا لحاجة ثم لا يرجع إليه إلا منافق.

وفي مسلم وأبي داود وأحمد عن أبي الشعثاء قال: كنا قعودًا في المسجد مع أبي هريرة فأذن المؤذن فقام رجل من المسجد يمشي فأتبعه أبو هريرة بصره حتى خرج من المسجد فقال أبو هريرة: أما هذا فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم.
زاد في رواية أحمد.
ثم قال أبو هريرة: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا كنتم في المسجد فنودي بالصلاة فلا يخرج أحدكم حتى يصلي.

قال ابن عبد البر: قال مالك: دخل أعرابي المسجد وأذن المؤذن فقام يحل عقال ناقته ليخرج فنهاه سعيد بن المسيب فلم ينته فما سارت به غير يسير حتى وقصت به فأصيب في جسده فقال سعيد: قد بلغنا أن من خرج من بين الأذان والإقامة لغير الوضوء أنه يصاب.

( مالك عن عامر بن عبد الله بن الزبير) بن العوّام الأسدي أبي الحارث المدني ثقة عابد مات سنة إحدى وعشرين ومائة ( عن عمرو) بفتح العين ( بن سليم) بضم السين ابن خلدة بسكون اللام الأنصاري ( الزرقي) بضم الزاي وفتح الراء بعدها قاف ثقة من كبار التابعين مات سنة أربع ومائة ويقال له رؤية.

( عن أبي قتادة الأنصاري) اسمه الحارث ويقال عمرو أو النعمان بن ربعي بكسر الراء وسكون الموحدة بعدها مهملة السلمي بفتحتين المدني شهد أحدًا وما بعدها ولم يصح شهوده بدرًا، ومات سنة أربع وخمسين وقيل سنة ثمان وثلاثين، والأول أصح وأشهر.

( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا دخل أحدكم المسجد) وهو متوضئ ( فليركع) أي فليصل من إطلاق الجزء وإرادة الكل ( ركعتين) هذا العدد لا مفهوم لأكثره باتفاق واختلف في أقله والصحيح اعتباره فلا يتأدى هذا المستحب بأقل من ركعتين ( قبل أن يجلس) فإن خالف وجلس لم يشرع له التدارك كذا قال جماعة وفيه نظر لما رواه ابن حبان عن أبي ذر أنه دخل المسجد فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أركعت ركعتين قال: لا.
قال: قم فاركعهما ترجم عليه ابن حبان في صحيحه تحية المسجد لا تفوت بالجلوس ومثله في قصة سليك.

وقال المحب الطبري: يحتمل أن يقال وقتهما قبل الجلوس وقت فضيلة وبعده وقت جواز، ويقال وقتهما قبله أداء وبعده قضاء، ويحتمل أن يحمل مشروعيتهما بعد الجلوس على ما لم يطل الفصل، واتفق أئمة الفتوى على أن الأمر للندب، وقال الظاهرية: للوجوب.
ومن أدلة عدمه قوله صلى الله عليه وسلم الذي رآه يتخطى: اجلس فقد آذيت ولم يأمره بصلاة كذا استدل به الطحاوي وغيره.
قال الحافظ: وفيه نظر، وقال الطحاوي أيضًا: الأوقات التي نهي عن الصلاة فيها ليس هذا الأمر بداخل فيها.

قلت: هما عمومان تعارضا الأمر بالصلاة لكل داخل من غير تفصيل والنهي عن الصلاة في أوقات مخصوصة فلا بدّ من تخصيص أحد العمومين فذهب جمع إلى تخصيص النهي وتعميم الأمر وهو الأصح عند الشافعية، وذهب جمع إلى عكسه وهو مذهب المالكية والحنفية انتهى.

وخص منه أيضًا إذا دخل والإمام يصلي الفرض أو شرع في الإقامة أو قربها لحديث: إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة وإن دخل المسجد ليمرّ فيه فقال مالك ليس عليه تحية لقوله قبل أن يجلس وهذا لم يرد الجلوس وهذا فيما عدا المسجد الحرام فتحيته الطواف وتندرج التحية تحت ركعتي الطواف.

والحديث أخرجه البخاري عن عبد الله بن يوسف عن يحيى كلاهما عن مالك به، وقد ورد على سبب وهو أن أبا قتادة دخل المسجد فوجد النبي صلى الله عليه وسلم جالسًا بين أصحابه فجلس معهم فقال له: ما منعك أن تركع قال: رأيتك جالسًا والناس جلوس.
قال: فإذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يركع ركعتين أخرجه مسلم.

( مالك عن أبي النضر) سالم بن أبي أمية ( مولى عمر بن عبيد الله) بضم العين فيهما ( عن أبي سلمة بن عبد الرحمن) بن عوف ( أنه قال له:) أي لأبي النضر ( ألم أر صاحبك) أي عمر بن عبيد الله بن معمر التيمي تيم قريش ( إذا دخل المسجد يجلس قبل أن يركع؟ قال أبو النضر يعني بذلك عمر بن عبيد الله) الذي هو مولاه سماه صاحبه ( ويعيب ذلك عليه أن يجلس إذا دخل المسجد قبل أن يركع) التحية بدل من الإشارة.

قال ابن عبد البر: إنما عاب عليه تقصيره عن حفظ نفسه في استعمال السنة مع قدرته عليها لا أن ذلك كان واجبًا عنده ولذا ( قال مالك: وذلك حسن) أي مستحب ( وليس بواجب) وعلى هذا جماعة الفقهاء، وأوجب أهل الظاهر على كل من دخل المسجد طاهرًا في حين تجوز فيه النافلة أن يركع، وأوجب بعضهم ذلك في كل وقت وقالوا فعل الخير لا يمنع منه إلا بدليل معارض له ولم يقولوا بالمجمل، ودليل مالك والجماعة أنه صلى الله عليه وسلم أمر رجلاً دخل المسجد وهو يخطب يوم الجمعة أن يركع وأمر الذي رآه يتخطى رقاب الناس بالجلوس ولم يقل له اركع، واستعمال الأحاديث لا يكون إلا على ما قال مالك.
وقال زيد بن أسلم: كان الصحابة يدخلون المسجد ثم يخرجون ولا يصلون قال: ورأيت ابن عمر يفعله وكذا سالم ابنه، وكان القاسم بن محمد يدخل المسجد فيجلس ولا يصلي وفي قوله صلى الله عليه وسلم للأعرابي الذي قال في الصلوات الخمس هل عليّ غيرها؟ قال: لا إلا أن تطوّع ما يردّ قول أهل الظاهر انتهى.

وكذا نقل ابن بطال عن أهل الظاهر الوجوب، وتوقف الحافظ فيه بأنّ ابن حزم صرح بعدمه ولا توقف لأنه وإن كان ظاهريًا لا يمتنع أن يخالفهم في مسائل ككثير من مقلدي الأئمة.



رقم الحديث 395 وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ عَامِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ سُلَيْمٍ الزُّرَقِيِّ، عَنْ أَبِي قَتَادَةَ الْأَنْصَارِيِّ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِذَا دَخَلَ أَحَدُكُمُ الْمَسْجِدَ، فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ، قَبْلَ أَنْ يَجْلِسَ.


انْتِظَارِ الصَّلَاةِ وَالْمَشْيِ إِلَيْهَا

( مالك عن أبي الزناد) بكسر الزاي ونون عبد الله بن ذكوان ( عن الأعرج) عبد الرحمن بن هرمز ( عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: الملائكة) الحفظة أو السيارة أو أعم من ذلك كل محتمل قاله الحافظ العراقي وتبعه تلميذه في فتح الباري وقال غيرهما: الجمع المحلى بأل يفيد الاستغراق ( تصلي على أحدكم) أي تستغفر له قيل عبر بتصلي ليتناسب الجزاء والعمل ( ما دام في مصلاه الذي صلى فيه) صلاة تامّة لأنه صلى الله عليه وسلم قال للمسيء صلاته: ارجع فصل فإنك لم تصل قال ابن أبي جمرة زاد في رواية للبخاري: ينتظر الصلاة ومفهومه أنه إذا انصرف من مصلاه انقضى ذلك، لكن مقتضى الحديث بعده أنّ للمنتظر حكم المصلي سواء بقي في مجلسه ذلك من المسجد أم تحوّل إلى غيره فيمكن حمل قوله في مصلاه على المكان المعدّ للصلاة لا الموضع الخاص الذي صلى فيه أولاً فلا تخالف بين الحديثين قاله في الفتح.
وقال في موضع آخر: ومصلاه المكان الذي أوقع فيه الصلاة من المسجد وكأنه خرج مخرج الغالب وإلاّ فلو قام إلى بقعة أخرى من المسجد مستمرًا على نية انتظار الصلاة كان كذلك انتهى.

بل في الاستذكار مصلاه المسجد وهذا هو الأغلب في معنى انتظار الصلاة، ولو قعدت امرأة في مصلى بيتها تنتظر وقت صلاة أخرى لم يبعد أن تدخل في معنى الحديث لأنها حبست نفسها عن التصرف رغبة في الصلاة، ومن هذا قيل انتظار الصلاة رباط لأنّ المرابط حبس نفسه عن المكاسب والتصرف إرصادًا للعدوّ.

وقال الباجي عن المبسوط: سئل مالك عن رجل صلى في غير جماعة ثم قعد بموضعه ينتظر صلاة أخرى أتراه في صلاة بمنزلة من كان في المسجد كما جاء في الحديث؟ قال: نعم إن شاء الله أرجو أن يكون كذلك ما لم يحدث فيبطل ذلك ولو استمرّ جالسًا.
وفيه: أنّ الحدث في المسجد أشدّ من النخامة لأنّ لها كفارة وهي دفنها ولم يذكر هنا كفارة بل عومل صاحبه بحرمان استغفار الملائكة.

( اللهم اغفر له) على إضمار قائلين أو تقول وهو بيان لقوله تصلي.
قال أبو عمر: بين في سياق الحديث أنّ صلاة الملائكة الدعاء ( اللهم ارحمه) زاد ابن ماجه: اللهم تب عليه وهو مطابق لقوله تعالى: { { وَالْمَلاَئِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الأَرْضِ } } قيل: السر فيه أنهم يطلعون على أحوال بني آدم وما فيها من المعصية والخلل في الطاعة فيقتصرون على الاستغفار لهم من ذلك لأن دفع المفسدة مقدّم على جلب المصلحة، ولو فرض أن فيهم من يحفظ من ذلك فإنه يعوّض من المغفرة بما يقابلها من الثواب.
واستدل بالحديث على أفضلية الصلاة على غيرها من الأعمال لصلاة الملائكة عليه ودعائهم له بالمغفرة والرحمة والتوبة وعلى تفضيل صالحي الناس على الملائكة لأنهم في تحصيل الدرجات بعبادتهم والملائكة مشغولون بالاستغفار والدعاء لهم.

( قال مالك: لا أرى قوله ما لم يحدث إلا الإحداث الذي ينقض الوضوء) لأن القاعد في المسجد على غير وضوء لا يكون منتظرًا للصلاة، وقيل معناه هنا الكلام القبيح وهذا ضعيف لأن الكلام القبيح لا يخرجه من أن يكون منتظرًا للصلاة قاله ابن عبد البر.

قال الباجي: وقد روى أبو هريرة مثل قول مالك وقال: الحدث فساء أو ضراط، وفي فتح الباري المراد بالحدث حدث الفرج، لكن يؤخذ منه أن اجتناب حدث اللسان واليد من باب أولى لأن الأذى منهما يكون أشدّ أشار إلى ذلك ابن بطال، ويؤخذ من قوله في مصلاه الذي صلى فيه أن ذلك مقيد بمن صلى ثم انتظر صلاة أخرى وتتقيد الصلاة الأولى بكونها مجزية أما لو كان فيها نقص فإنها تجبر بالنافلة كما ثبت في الخبر الآخر انتهى.

وهذا الحديث رواه البخاري حدّثنا عبد الله بن يوسف قال أخبرنا مالك به، ورواه مسلم وغيره.

( مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا يزال أحدكم في صلاة) أي في ثوابها لا في حكمها لأنه يحل له الكلام وغيره مما منع في الصلاة ( ما كانت) وفي رواية ما دامت ( الصلاة تحبسه) أي مدّة دوام حبس الصلاة له.
قال الباجي: سواء انتظر وقتها أو إقامتها في الجماعة ( لا يمنعه أن ينقلب) يرجع ( إلى أهله إلا الصلاة) لا غيرها.

وهذا يقتضي أنه إذا صرف نيته عن ذلك صارف آخر انقطع عنه الثواب وكذلك إذا شارك نية الانتظار أمر آخر وهل يحصل ذلك لمن نيته إيقاع الصلاة في المسجد ولو لم يكن فيه الظاهر خلافه لأنه رتب الثواب المذكور على المجموع من النية وشغل البقعة بالعبادة لكن للمذكور ثواب يخصه، ولعل هذا سر إيراد البخاري عقب هذا الحديث حديث: سبعة يظلهم الله وفيه ورجل قلبه متعلق بالمساجد ذكره الحافظ.
وقال غيره: يحتمل الحديث العموم في كل صلاة سواء اشتركا في الوقت كانتظار العصر بعد الظهر والعشاء بعد المغرب أو لم يشتركا كالباقي خلافًا للباجي حيث خصه بالمشتركتين انتهى، ويأتي له مزيد قريبًا.

وهذا الحديث والذي قبله رواه البخاري حدّثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك به فجعلهما حديثًا واحدًا، والموطأ كما ترى جعلهما حديثين وإن اتحد إسنادهما.
قال الحافظ: ولا حجر في ذلك، وأخرج مسلم هذا الثاني عن يحيى بن يحيى عن مالك به.

( مالك عن سمي) بضم السين وفتح الميم ( مولى أبي بكر أن) مولاه ( أبا بكر بن عبد الرحمن) بن الحارث بن هشام أحد الفقهاء ( كان يقول: من غدا) ذهب وقت الغدوة أوّل النهار ( أو راح) من الزوال ( إلى المسجد لا يريد غيره ليتعلم خيرًا) من غيره ( أو ليعلمه) بشدّ اللام هو لغيره ( ثم رجع إلى بيته كان كالمجاهد في سبيل الله رجع غانمًا) .
قال ابن عبد البر: معلوم أن هذا لا يدرك بالرأي والاجتهاد لأنه قطع على غيب من حكم الله وأمره في ثوابه انتهى.

وقد ورد مرفوعًا عن سهل بن سعد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من دخل مسجدي هذا ليتعلم خيرًا أو ليعلمه كان كالمجاهد في سبيل الله.
وعن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من غدا إلى المسجد لا يريد إلا أن يتعلم خيرًا أو يعلمه كان كأجر حاج تامًا حجه أخرجهما الطبراني وإسناد كل منهما حسن كذا قال السيوطي، وإنما يوافق الحديث الأوّل رواية الموطأ بقياس بقية المساجد على المسجد النبوي، وأما الثاني فحديث آخر جعل ثوابه كالحج لا كالجهاد.

( مالك عن نعيم) بضم النون ( بن عبد الله المجمر) بضم الميم وسكون الجيم وكسر الميم الثانية صفة لنعيم ولأبيه أيضًا كما تقدّم ( أنه سمع أبا هريرة يقول: إذا صلى أحدكم) فرضًا أو نفلاً لأن حذف المفعول يؤذن بالعموم وقد استظهر ذلك ابن أبي جمرة ( ثم جلس في مصلاه لم تزل الملائكة تصلي عليه) تدعو له قائلين ( اللهم اغفر له اللهم ارحمه فإن قام من مصلاه فجلس في المسجد ينتظر الصلاة لم يزل في صلاة) حكمًا من الثواب ( حتى يصلي) .

قال ابن عبد البر: هذا مثل حديثه المرفوع قبل إلا أن في هذا أن من قام من مجلسه لا يخرج من ثواب المصلي إذا كان منتظرًا للصلاة إلا أنه لا يقال إن الملائكة تصلي عليه كما تصلي على الذي في مصلاه.
قال: وهو في الموطأ موقوف، وقد رفعه عن مالك بهذا الإسناد ابن وهب عند ابن الجارود، وعثمان بن عمرو والوليد بن مسلم عند النسائي، وأخرجه ابن عبد البر من رواية إسماعيل بن جعفر عن مالك عن نعيم عن أبي سلمة عن أبي هريرة مرفوعًا انتهى.

وقد صرح نعيم بسماعه أبا هريرة فكأنه سمع منه الموقوف ومن أبي سلمة عنه المرفوع.

( مالك عن العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب) المدني صدوق مات سنة بضع وثلاثين ومائة ( عن أبيه) عبد الرحمن الجهني المدني ثقة ( عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ألا) بفتح الهمزة والتخفيف حرف تنبيه يفيد تحقيق ما بعده لتركبها من الهمزة ولا النافية وهمزة الاستفهام إذا دخلت على النفي أفادت التحقيق ( أخبركم بما يمحو الله به الخطايا) قال الباجي: كناية عن غفرانها والعفو عنها وقد يكون محوها من كتاب الحفظة دليلاً على عفوه تعالى عمن كتبت عليه ( ويرفع به الدرجات) أي المنازل في الجنة، ويحتمل أن يريد رفع درجته في الدنيا بالذكر الجميل وفي الآخرة بالثواب الجزيل.
وقال أبو عمر: هذا الحديث من أحسن ما يروى في فضائل الأعمال، وفيه طرح المسألة على المتعلم زاد في رواية لمسلم قالوا: بلى يا رسول الله.
قال الأبي: جوابهم ببلى يدل على أن لا في ألا نافية دخلت عليها ألف الاستفهام، ويحتمل أنها للاستفتاح.

( إسباغ الوضوء) أي إكماله وإتمامه واستيعاب أعضائه بالماء قال تعالى: { { وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ } } أي أتمها وأكملها ( عند المكاره) جمع مكرهة بمعنى الكره والمشقة.
قال أبو عمر: هي شدّة البرد وكل حال يكره المرء فيها نفسه على الوضوء قال عبيد بن عمير: من صدق الإيمان وبّره إسباغ الوضوء على المكاره، ومن صدق الإيمان أن يخلو الرجل بالمرأة الجميلة فيدعها لا يدعها إلا لله.
وقال الباجي: ومن المكاره شدة برد وعلة جسم وقلة ماء وحاجة إلى النوم وعجلة إلى أمر مهم وغير ذلك ( وكثرة الخطا) بالضم جمع خطوة بالفتح المرّة والضم ما بين القدمين ( إلى المساجد) وهو يكون ببعد الدار عن المسجد ويكون بكثرة التكرر عليه.
قال اليعمري: وفيه أن بعد الدار عن المسجد أفضل، وقد صرح به في قوله لبني سلمة، وقد أرادوا أن يتحوّلوا قريبًا من المسجد.
يا بني سلمة دياركم تكتب آثاركم.
وقال الأبي عن العز بن عبد السلام: لا يمر إلى المسجد من أبعد طريقيه ليكثر الخطا لأنّ الغرض الحصول في المسجد وهو يحصل بالقريبة.
قال: والحديث إنما هو تنشيط لمن بعدت داره أن لا يكسل ومن نحو ما ذكر أن لا يؤثر أبعد المسجدين منه بالصلاة فيه مع ما جاء لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد، وقالت عائشة: يا رسول الله إن لي جارين فإلى أيهما أهدي؟ قال: إلى أقربهما دارًا وإمام المسجد لا يمنعه أخذ المرتب من ثواب تكرره إليه انتهى.

( وانتظار الصلاة بعد الصلاة) قال المظهري: أي إذا صلى بالجماعة ينتظر صلاة أخرى يتعلق ذكره لها إما بأن يجلس في المسجد ينتظرها أو يكون في بيته أو يشتغل بكسبه وقلبه متعلق بها ينتظر حضورها فكل ذلك داخل في هذا الحكم.
ويؤيده حديث: ورجل قلبه معلق بالمسجد إذا خرج منه حتى يعود إليه انتهى.

وقال الباجي: هذا إنما يكون في صلاتين العصر بعد الظهر والعشاء بعد المغرب، وأما انتظار الصبح بعد العشاء فلم يكن من عمل الناس وكذا انتظار الظهر بعد الصبح، وأما انتظار المغرب بعد العصر فلا أذكر فيه نصًا، وحكمه عندي كالصبح بعد العشاء والظهر بعد الصبح لأن الذي ينتظر صلاة ليس بينها وبين التي صلى اشتراك في وقت قال: وفي ظني أني رأيته رواية لابن وهب عن مالك ولا أذكر موضعها الآن، وتعقبه الأبي بأنه ليس في الحديث ما يدل على المشتركتين لولا ما ذكره أنه ليس من عمل الناس وهو بناء على أنه يعني بالانتظار الجلوس بالمسجد.

قال ابن العربي: ويحتمل أن يريد به تعلق القلب بالصلاة فيعم الخمس.

قال الشيخ يعني ابن عرفة: جلوس الإمام في المسجد ينتظر الصلاة يدفع بذلك مشقة الرجوع لبعد أو مطر لا يمنع من نيل الثواب وفي المذكور وفي انتظار الإمام ذلك بالدويرة التي بالجامع نظر انتهى.

( فذلكم) المذكور من الثلاثة عند الطيبي وابن عرفة أو الإشارة لانتظار الصلاة كما عليه ابن عبد البر، وقال الأبي إنه الأظهر ( الرباط) المرغب فيه لأنه ربط نفسه على هذا العمل وحبسها عليه، ويحتمل أن يريد تفضيل هذا الرباط على غيره من الرباط في الثغور ولذا قال: ( فذلكم الرباط) أي أنه أفضل أنواعه كما يقال جهاد النفس هو الجهاد أي أنه أفضله، ويحتمل أن يريد الرباط الممكن المتيسر، وقد قال الشيخ أبو إسحاق الشيرازي: إن ذلك من ألفاظ الحصر ( فذلكم الرباط) ذكره ثلاثًا على معنى التعظيم لشأنه أو الإبهام أو غير ذلك قاله الباجي، وقيل أراد أن ثوابه كثواب الرباط، وقال ابن العربي: يعني به تفسير قوله تعالى: { { اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا } } وقال أبو عمر: الرباط هنا ملازمة المسجد لانتظار الصلاة، قال صاحب العين: الرباط ملازمة الثغور والرباط مواظبة الصلاة.
وقال أبو سلمة بن عبد الرحمن في قوله تعالى: { { اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا } } لم يكن الرباط على عهده صلى الله عليه وسلم ولكن نزلت في انتظار الصلاة.
وقال محمد بن كعب القرظي: اصبروا على دينكم وصابروا الوعد الذي وعدتكم ورابطوا عدوّي وعدوّكم انتهى.

وقال الطيبي في قوله: فذلكم الرباط معنى حديث رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر لإتيانه باسم الإشارة الدال على بعد منزلة المشار إليه في مقام التعظيم وإيقاع الرباط المحلى بلام الجنس خبرًا لاسم الإشارة كما في قوله { { الم ذَلِكَ الْكِتَابُ } } إذ التعريف في الخبر للجنس ولما أريد تقرير ذلك مزيد تقرير واهتمام بشأنه كرره ثلاثًا وتخصيصها بالثلاث لأن الأعمال المذكورة في الحديث ثلاث، وأتى باسم الإشارة إشارة إلى تعظيمه بالبعد.

وهذا الحديث رواه مسلم من طريق معن عن مالك به، وتابعه إسماعيل وشعبة كلاهما عن العلاء إلا أنه ليس في حديث شعبة ذكر الرباط، وفي رواية إسماعيل فذلكم الرباط مرة، وفي حديث مالك مرتين كذا قال مسلم بناء على رواية معن عنده، وإلا فأكثر الموطآت ثلاثًا، وكذا أخرجه الشافعي وأحمد والترمذي والنسائي كلهم من طريق مالك ثلاثًا.

( مالك أنه بلغه أن سعيد بن المسيب قال: يقال لا يخرج أحد من المسجد بعد النداء) لأنه دعاء إلى صلاة الجماعة فمن خرج حينئذ فقصد خلافهم وتفريق جماعتهم وهذا ممنوع باتفاق ( إلا أحد يريد الرجوع إليه) وقد نزلت به ضرورة حدث أو غيره فإن كانت ظاهرة كرعاف منعت سوء الظن به وإن كانت باطنة قبض على أنفه كالراعف ( إلا منافق) يريد أن ذلك من أفعال المنافقين، وهذا ما لم يكن صلى تلك الصلاة جماعة وإلا خرج عند النداء والإقامة فإن كان صلاها فذا فقال ابن الماجشون له أن يخرج ما لم تقم الصلاة فيلزمه إعادتها جماعة قاله كله الباجي.

قال ابن عبد البر: هذا لا يقال مثله من جهة الرأي ولا يكون إلا توقيفًا انتهى.
وقد صح مرفوعًا أخرج الطبراني برجال الصحيح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يسمع النداء في مسجدي هذا ثم يخرج منه إلا لحاجة ثم لا يرجع إليه إلا منافق.

وفي مسلم وأبي داود وأحمد عن أبي الشعثاء قال: كنا قعودًا في المسجد مع أبي هريرة فأذن المؤذن فقام رجل من المسجد يمشي فأتبعه أبو هريرة بصره حتى خرج من المسجد فقال أبو هريرة: أما هذا فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم.
زاد في رواية أحمد.
ثم قال أبو هريرة: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا كنتم في المسجد فنودي بالصلاة فلا يخرج أحدكم حتى يصلي.

قال ابن عبد البر: قال مالك: دخل أعرابي المسجد وأذن المؤذن فقام يحل عقال ناقته ليخرج فنهاه سعيد بن المسيب فلم ينته فما سارت به غير يسير حتى وقصت به فأصيب في جسده فقال سعيد: قد بلغنا أن من خرج من بين الأذان والإقامة لغير الوضوء أنه يصاب.

( مالك عن عامر بن عبد الله بن الزبير) بن العوّام الأسدي أبي الحارث المدني ثقة عابد مات سنة إحدى وعشرين ومائة ( عن عمرو) بفتح العين ( بن سليم) بضم السين ابن خلدة بسكون اللام الأنصاري ( الزرقي) بضم الزاي وفتح الراء بعدها قاف ثقة من كبار التابعين مات سنة أربع ومائة ويقال له رؤية.

( عن أبي قتادة الأنصاري) اسمه الحارث ويقال عمرو أو النعمان بن ربعي بكسر الراء وسكون الموحدة بعدها مهملة السلمي بفتحتين المدني شهد أحدًا وما بعدها ولم يصح شهوده بدرًا، ومات سنة أربع وخمسين وقيل سنة ثمان وثلاثين، والأول أصح وأشهر.

( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا دخل أحدكم المسجد) وهو متوضئ ( فليركع) أي فليصل من إطلاق الجزء وإرادة الكل ( ركعتين) هذا العدد لا مفهوم لأكثره باتفاق واختلف في أقله والصحيح اعتباره فلا يتأدى هذا المستحب بأقل من ركعتين ( قبل أن يجلس) فإن خالف وجلس لم يشرع له التدارك كذا قال جماعة وفيه نظر لما رواه ابن حبان عن أبي ذر أنه دخل المسجد فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أركعت ركعتين قال: لا.
قال: قم فاركعهما ترجم عليه ابن حبان في صحيحه تحية المسجد لا تفوت بالجلوس ومثله في قصة سليك.

وقال المحب الطبري: يحتمل أن يقال وقتهما قبل الجلوس وقت فضيلة وبعده وقت جواز، ويقال وقتهما قبله أداء وبعده قضاء، ويحتمل أن يحمل مشروعيتهما بعد الجلوس على ما لم يطل الفصل، واتفق أئمة الفتوى على أن الأمر للندب، وقال الظاهرية: للوجوب.
ومن أدلة عدمه قوله صلى الله عليه وسلم الذي رآه يتخطى: اجلس فقد آذيت ولم يأمره بصلاة كذا استدل به الطحاوي وغيره.
قال الحافظ: وفيه نظر، وقال الطحاوي أيضًا: الأوقات التي نهي عن الصلاة فيها ليس هذا الأمر بداخل فيها.

قلت: هما عمومان تعارضا الأمر بالصلاة لكل داخل من غير تفصيل والنهي عن الصلاة في أوقات مخصوصة فلا بدّ من تخصيص أحد العمومين فذهب جمع إلى تخصيص النهي وتعميم الأمر وهو الأصح عند الشافعية، وذهب جمع إلى عكسه وهو مذهب المالكية والحنفية انتهى.

وخص منه أيضًا إذا دخل والإمام يصلي الفرض أو شرع في الإقامة أو قربها لحديث: إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة وإن دخل المسجد ليمرّ فيه فقال مالك ليس عليه تحية لقوله قبل أن يجلس وهذا لم يرد الجلوس وهذا فيما عدا المسجد الحرام فتحيته الطواف وتندرج التحية تحت ركعتي الطواف.

والحديث أخرجه البخاري عن عبد الله بن يوسف عن يحيى كلاهما عن مالك به، وقد ورد على سبب وهو أن أبا قتادة دخل المسجد فوجد النبي صلى الله عليه وسلم جالسًا بين أصحابه فجلس معهم فقال له: ما منعك أن تركع قال: رأيتك جالسًا والناس جلوس.
قال: فإذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يركع ركعتين أخرجه مسلم.

( مالك عن أبي النضر) سالم بن أبي أمية ( مولى عمر بن عبيد الله) بضم العين فيهما ( عن أبي سلمة بن عبد الرحمن) بن عوف ( أنه قال له:) أي لأبي النضر ( ألم أر صاحبك) أي عمر بن عبيد الله بن معمر التيمي تيم قريش ( إذا دخل المسجد يجلس قبل أن يركع؟ قال أبو النضر يعني بذلك عمر بن عبيد الله) الذي هو مولاه سماه صاحبه ( ويعيب ذلك عليه أن يجلس إذا دخل المسجد قبل أن يركع) التحية بدل من الإشارة.

قال ابن عبد البر: إنما عاب عليه تقصيره عن حفظ نفسه في استعمال السنة مع قدرته عليها لا أن ذلك كان واجبًا عنده ولذا ( قال مالك: وذلك حسن) أي مستحب ( وليس بواجب) وعلى هذا جماعة الفقهاء، وأوجب أهل الظاهر على كل من دخل المسجد طاهرًا في حين تجوز فيه النافلة أن يركع، وأوجب بعضهم ذلك في كل وقت وقالوا فعل الخير لا يمنع منه إلا بدليل معارض له ولم يقولوا بالمجمل، ودليل مالك والجماعة أنه صلى الله عليه وسلم أمر رجلاً دخل المسجد وهو يخطب يوم الجمعة أن يركع وأمر الذي رآه يتخطى رقاب الناس بالجلوس ولم يقل له اركع، واستعمال الأحاديث لا يكون إلا على ما قال مالك.
وقال زيد بن أسلم: كان الصحابة يدخلون المسجد ثم يخرجون ولا يصلون قال: ورأيت ابن عمر يفعله وكذا سالم ابنه، وكان القاسم بن محمد يدخل المسجد فيجلس ولا يصلي وفي قوله صلى الله عليه وسلم للأعرابي الذي قال في الصلوات الخمس هل عليّ غيرها؟ قال: لا إلا أن تطوّع ما يردّ قول أهل الظاهر انتهى.

وكذا نقل ابن بطال عن أهل الظاهر الوجوب، وتوقف الحافظ فيه بأنّ ابن حزم صرح بعدمه ولا توقف لأنه وإن كان ظاهريًا لا يمتنع أن يخالفهم في مسائل ككثير من مقلدي الأئمة.



رقم الحديث 396 وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ أَبِي النَّضْرِ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَنَّهُ قَالَ لَهُ: لَمْ أَرَ صَاحِبَكَ إِذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ يَجْلِسُ قَبْلَ أَنْ يَرْكَعَ؟ قَالَ أَبُو النَّضْرِ يَعْنِي بِذَلِكَ عُمَرَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ، وَيَعِيبُ ذَلِكَ عَلَيْهِ، أَنْ يَجْلِسَ إِذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ قَبْلَ أَنْ يَرْكَعَ قَالَ يَحْيَى: قَالَ مَالِكٌ: وَذَلِكَ حَسَنٌ، وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ.


انْتِظَارِ الصَّلَاةِ وَالْمَشْيِ إِلَيْهَا

( مالك عن أبي الزناد) بكسر الزاي ونون عبد الله بن ذكوان ( عن الأعرج) عبد الرحمن بن هرمز ( عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: الملائكة) الحفظة أو السيارة أو أعم من ذلك كل محتمل قاله الحافظ العراقي وتبعه تلميذه في فتح الباري وقال غيرهما: الجمع المحلى بأل يفيد الاستغراق ( تصلي على أحدكم) أي تستغفر له قيل عبر بتصلي ليتناسب الجزاء والعمل ( ما دام في مصلاه الذي صلى فيه) صلاة تامّة لأنه صلى الله عليه وسلم قال للمسيء صلاته: ارجع فصل فإنك لم تصل قال ابن أبي جمرة زاد في رواية للبخاري: ينتظر الصلاة ومفهومه أنه إذا انصرف من مصلاه انقضى ذلك، لكن مقتضى الحديث بعده أنّ للمنتظر حكم المصلي سواء بقي في مجلسه ذلك من المسجد أم تحوّل إلى غيره فيمكن حمل قوله في مصلاه على المكان المعدّ للصلاة لا الموضع الخاص الذي صلى فيه أولاً فلا تخالف بين الحديثين قاله في الفتح.
وقال في موضع آخر: ومصلاه المكان الذي أوقع فيه الصلاة من المسجد وكأنه خرج مخرج الغالب وإلاّ فلو قام إلى بقعة أخرى من المسجد مستمرًا على نية انتظار الصلاة كان كذلك انتهى.

بل في الاستذكار مصلاه المسجد وهذا هو الأغلب في معنى انتظار الصلاة، ولو قعدت امرأة في مصلى بيتها تنتظر وقت صلاة أخرى لم يبعد أن تدخل في معنى الحديث لأنها حبست نفسها عن التصرف رغبة في الصلاة، ومن هذا قيل انتظار الصلاة رباط لأنّ المرابط حبس نفسه عن المكاسب والتصرف إرصادًا للعدوّ.

وقال الباجي عن المبسوط: سئل مالك عن رجل صلى في غير جماعة ثم قعد بموضعه ينتظر صلاة أخرى أتراه في صلاة بمنزلة من كان في المسجد كما جاء في الحديث؟ قال: نعم إن شاء الله أرجو أن يكون كذلك ما لم يحدث فيبطل ذلك ولو استمرّ جالسًا.
وفيه: أنّ الحدث في المسجد أشدّ من النخامة لأنّ لها كفارة وهي دفنها ولم يذكر هنا كفارة بل عومل صاحبه بحرمان استغفار الملائكة.

( اللهم اغفر له) على إضمار قائلين أو تقول وهو بيان لقوله تصلي.
قال أبو عمر: بين في سياق الحديث أنّ صلاة الملائكة الدعاء ( اللهم ارحمه) زاد ابن ماجه: اللهم تب عليه وهو مطابق لقوله تعالى: { { وَالْمَلاَئِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الأَرْضِ } } قيل: السر فيه أنهم يطلعون على أحوال بني آدم وما فيها من المعصية والخلل في الطاعة فيقتصرون على الاستغفار لهم من ذلك لأن دفع المفسدة مقدّم على جلب المصلحة، ولو فرض أن فيهم من يحفظ من ذلك فإنه يعوّض من المغفرة بما يقابلها من الثواب.
واستدل بالحديث على أفضلية الصلاة على غيرها من الأعمال لصلاة الملائكة عليه ودعائهم له بالمغفرة والرحمة والتوبة وعلى تفضيل صالحي الناس على الملائكة لأنهم في تحصيل الدرجات بعبادتهم والملائكة مشغولون بالاستغفار والدعاء لهم.

( قال مالك: لا أرى قوله ما لم يحدث إلا الإحداث الذي ينقض الوضوء) لأن القاعد في المسجد على غير وضوء لا يكون منتظرًا للصلاة، وقيل معناه هنا الكلام القبيح وهذا ضعيف لأن الكلام القبيح لا يخرجه من أن يكون منتظرًا للصلاة قاله ابن عبد البر.

قال الباجي: وقد روى أبو هريرة مثل قول مالك وقال: الحدث فساء أو ضراط، وفي فتح الباري المراد بالحدث حدث الفرج، لكن يؤخذ منه أن اجتناب حدث اللسان واليد من باب أولى لأن الأذى منهما يكون أشدّ أشار إلى ذلك ابن بطال، ويؤخذ من قوله في مصلاه الذي صلى فيه أن ذلك مقيد بمن صلى ثم انتظر صلاة أخرى وتتقيد الصلاة الأولى بكونها مجزية أما لو كان فيها نقص فإنها تجبر بالنافلة كما ثبت في الخبر الآخر انتهى.

وهذا الحديث رواه البخاري حدّثنا عبد الله بن يوسف قال أخبرنا مالك به، ورواه مسلم وغيره.

( مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا يزال أحدكم في صلاة) أي في ثوابها لا في حكمها لأنه يحل له الكلام وغيره مما منع في الصلاة ( ما كانت) وفي رواية ما دامت ( الصلاة تحبسه) أي مدّة دوام حبس الصلاة له.
قال الباجي: سواء انتظر وقتها أو إقامتها في الجماعة ( لا يمنعه أن ينقلب) يرجع ( إلى أهله إلا الصلاة) لا غيرها.

وهذا يقتضي أنه إذا صرف نيته عن ذلك صارف آخر انقطع عنه الثواب وكذلك إذا شارك نية الانتظار أمر آخر وهل يحصل ذلك لمن نيته إيقاع الصلاة في المسجد ولو لم يكن فيه الظاهر خلافه لأنه رتب الثواب المذكور على المجموع من النية وشغل البقعة بالعبادة لكن للمذكور ثواب يخصه، ولعل هذا سر إيراد البخاري عقب هذا الحديث حديث: سبعة يظلهم الله وفيه ورجل قلبه متعلق بالمساجد ذكره الحافظ.
وقال غيره: يحتمل الحديث العموم في كل صلاة سواء اشتركا في الوقت كانتظار العصر بعد الظهر والعشاء بعد المغرب أو لم يشتركا كالباقي خلافًا للباجي حيث خصه بالمشتركتين انتهى، ويأتي له مزيد قريبًا.

وهذا الحديث والذي قبله رواه البخاري حدّثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك به فجعلهما حديثًا واحدًا، والموطأ كما ترى جعلهما حديثين وإن اتحد إسنادهما.
قال الحافظ: ولا حجر في ذلك، وأخرج مسلم هذا الثاني عن يحيى بن يحيى عن مالك به.

( مالك عن سمي) بضم السين وفتح الميم ( مولى أبي بكر أن) مولاه ( أبا بكر بن عبد الرحمن) بن الحارث بن هشام أحد الفقهاء ( كان يقول: من غدا) ذهب وقت الغدوة أوّل النهار ( أو راح) من الزوال ( إلى المسجد لا يريد غيره ليتعلم خيرًا) من غيره ( أو ليعلمه) بشدّ اللام هو لغيره ( ثم رجع إلى بيته كان كالمجاهد في سبيل الله رجع غانمًا) .
قال ابن عبد البر: معلوم أن هذا لا يدرك بالرأي والاجتهاد لأنه قطع على غيب من حكم الله وأمره في ثوابه انتهى.

وقد ورد مرفوعًا عن سهل بن سعد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من دخل مسجدي هذا ليتعلم خيرًا أو ليعلمه كان كالمجاهد في سبيل الله.
وعن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من غدا إلى المسجد لا يريد إلا أن يتعلم خيرًا أو يعلمه كان كأجر حاج تامًا حجه أخرجهما الطبراني وإسناد كل منهما حسن كذا قال السيوطي، وإنما يوافق الحديث الأوّل رواية الموطأ بقياس بقية المساجد على المسجد النبوي، وأما الثاني فحديث آخر جعل ثوابه كالحج لا كالجهاد.

( مالك عن نعيم) بضم النون ( بن عبد الله المجمر) بضم الميم وسكون الجيم وكسر الميم الثانية صفة لنعيم ولأبيه أيضًا كما تقدّم ( أنه سمع أبا هريرة يقول: إذا صلى أحدكم) فرضًا أو نفلاً لأن حذف المفعول يؤذن بالعموم وقد استظهر ذلك ابن أبي جمرة ( ثم جلس في مصلاه لم تزل الملائكة تصلي عليه) تدعو له قائلين ( اللهم اغفر له اللهم ارحمه فإن قام من مصلاه فجلس في المسجد ينتظر الصلاة لم يزل في صلاة) حكمًا من الثواب ( حتى يصلي) .

قال ابن عبد البر: هذا مثل حديثه المرفوع قبل إلا أن في هذا أن من قام من مجلسه لا يخرج من ثواب المصلي إذا كان منتظرًا للصلاة إلا أنه لا يقال إن الملائكة تصلي عليه كما تصلي على الذي في مصلاه.
قال: وهو في الموطأ موقوف، وقد رفعه عن مالك بهذا الإسناد ابن وهب عند ابن الجارود، وعثمان بن عمرو والوليد بن مسلم عند النسائي، وأخرجه ابن عبد البر من رواية إسماعيل بن جعفر عن مالك عن نعيم عن أبي سلمة عن أبي هريرة مرفوعًا انتهى.

وقد صرح نعيم بسماعه أبا هريرة فكأنه سمع منه الموقوف ومن أبي سلمة عنه المرفوع.

( مالك عن العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب) المدني صدوق مات سنة بضع وثلاثين ومائة ( عن أبيه) عبد الرحمن الجهني المدني ثقة ( عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ألا) بفتح الهمزة والتخفيف حرف تنبيه يفيد تحقيق ما بعده لتركبها من الهمزة ولا النافية وهمزة الاستفهام إذا دخلت على النفي أفادت التحقيق ( أخبركم بما يمحو الله به الخطايا) قال الباجي: كناية عن غفرانها والعفو عنها وقد يكون محوها من كتاب الحفظة دليلاً على عفوه تعالى عمن كتبت عليه ( ويرفع به الدرجات) أي المنازل في الجنة، ويحتمل أن يريد رفع درجته في الدنيا بالذكر الجميل وفي الآخرة بالثواب الجزيل.
وقال أبو عمر: هذا الحديث من أحسن ما يروى في فضائل الأعمال، وفيه طرح المسألة على المتعلم زاد في رواية لمسلم قالوا: بلى يا رسول الله.
قال الأبي: جوابهم ببلى يدل على أن لا في ألا نافية دخلت عليها ألف الاستفهام، ويحتمل أنها للاستفتاح.

( إسباغ الوضوء) أي إكماله وإتمامه واستيعاب أعضائه بالماء قال تعالى: { { وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ } } أي أتمها وأكملها ( عند المكاره) جمع مكرهة بمعنى الكره والمشقة.
قال أبو عمر: هي شدّة البرد وكل حال يكره المرء فيها نفسه على الوضوء قال عبيد بن عمير: من صدق الإيمان وبّره إسباغ الوضوء على المكاره، ومن صدق الإيمان أن يخلو الرجل بالمرأة الجميلة فيدعها لا يدعها إلا لله.
وقال الباجي: ومن المكاره شدة برد وعلة جسم وقلة ماء وحاجة إلى النوم وعجلة إلى أمر مهم وغير ذلك ( وكثرة الخطا) بالضم جمع خطوة بالفتح المرّة والضم ما بين القدمين ( إلى المساجد) وهو يكون ببعد الدار عن المسجد ويكون بكثرة التكرر عليه.
قال اليعمري: وفيه أن بعد الدار عن المسجد أفضل، وقد صرح به في قوله لبني سلمة، وقد أرادوا أن يتحوّلوا قريبًا من المسجد.
يا بني سلمة دياركم تكتب آثاركم.
وقال الأبي عن العز بن عبد السلام: لا يمر إلى المسجد من أبعد طريقيه ليكثر الخطا لأنّ الغرض الحصول في المسجد وهو يحصل بالقريبة.
قال: والحديث إنما هو تنشيط لمن بعدت داره أن لا يكسل ومن نحو ما ذكر أن لا يؤثر أبعد المسجدين منه بالصلاة فيه مع ما جاء لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد، وقالت عائشة: يا رسول الله إن لي جارين فإلى أيهما أهدي؟ قال: إلى أقربهما دارًا وإمام المسجد لا يمنعه أخذ المرتب من ثواب تكرره إليه انتهى.

( وانتظار الصلاة بعد الصلاة) قال المظهري: أي إذا صلى بالجماعة ينتظر صلاة أخرى يتعلق ذكره لها إما بأن يجلس في المسجد ينتظرها أو يكون في بيته أو يشتغل بكسبه وقلبه متعلق بها ينتظر حضورها فكل ذلك داخل في هذا الحكم.
ويؤيده حديث: ورجل قلبه معلق بالمسجد إذا خرج منه حتى يعود إليه انتهى.

وقال الباجي: هذا إنما يكون في صلاتين العصر بعد الظهر والعشاء بعد المغرب، وأما انتظار الصبح بعد العشاء فلم يكن من عمل الناس وكذا انتظار الظهر بعد الصبح، وأما انتظار المغرب بعد العصر فلا أذكر فيه نصًا، وحكمه عندي كالصبح بعد العشاء والظهر بعد الصبح لأن الذي ينتظر صلاة ليس بينها وبين التي صلى اشتراك في وقت قال: وفي ظني أني رأيته رواية لابن وهب عن مالك ولا أذكر موضعها الآن، وتعقبه الأبي بأنه ليس في الحديث ما يدل على المشتركتين لولا ما ذكره أنه ليس من عمل الناس وهو بناء على أنه يعني بالانتظار الجلوس بالمسجد.

قال ابن العربي: ويحتمل أن يريد به تعلق القلب بالصلاة فيعم الخمس.

قال الشيخ يعني ابن عرفة: جلوس الإمام في المسجد ينتظر الصلاة يدفع بذلك مشقة الرجوع لبعد أو مطر لا يمنع من نيل الثواب وفي المذكور وفي انتظار الإمام ذلك بالدويرة التي بالجامع نظر انتهى.

( فذلكم) المذكور من الثلاثة عند الطيبي وابن عرفة أو الإشارة لانتظار الصلاة كما عليه ابن عبد البر، وقال الأبي إنه الأظهر ( الرباط) المرغب فيه لأنه ربط نفسه على هذا العمل وحبسها عليه، ويحتمل أن يريد تفضيل هذا الرباط على غيره من الرباط في الثغور ولذا قال: ( فذلكم الرباط) أي أنه أفضل أنواعه كما يقال جهاد النفس هو الجهاد أي أنه أفضله، ويحتمل أن يريد الرباط الممكن المتيسر، وقد قال الشيخ أبو إسحاق الشيرازي: إن ذلك من ألفاظ الحصر ( فذلكم الرباط) ذكره ثلاثًا على معنى التعظيم لشأنه أو الإبهام أو غير ذلك قاله الباجي، وقيل أراد أن ثوابه كثواب الرباط، وقال ابن العربي: يعني به تفسير قوله تعالى: { { اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا } } وقال أبو عمر: الرباط هنا ملازمة المسجد لانتظار الصلاة، قال صاحب العين: الرباط ملازمة الثغور والرباط مواظبة الصلاة.
وقال أبو سلمة بن عبد الرحمن في قوله تعالى: { { اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا } } لم يكن الرباط على عهده صلى الله عليه وسلم ولكن نزلت في انتظار الصلاة.
وقال محمد بن كعب القرظي: اصبروا على دينكم وصابروا الوعد الذي وعدتكم ورابطوا عدوّي وعدوّكم انتهى.

وقال الطيبي في قوله: فذلكم الرباط معنى حديث رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر لإتيانه باسم الإشارة الدال على بعد منزلة المشار إليه في مقام التعظيم وإيقاع الرباط المحلى بلام الجنس خبرًا لاسم الإشارة كما في قوله { { الم ذَلِكَ الْكِتَابُ } } إذ التعريف في الخبر للجنس ولما أريد تقرير ذلك مزيد تقرير واهتمام بشأنه كرره ثلاثًا وتخصيصها بالثلاث لأن الأعمال المذكورة في الحديث ثلاث، وأتى باسم الإشارة إشارة إلى تعظيمه بالبعد.

وهذا الحديث رواه مسلم من طريق معن عن مالك به، وتابعه إسماعيل وشعبة كلاهما عن العلاء إلا أنه ليس في حديث شعبة ذكر الرباط، وفي رواية إسماعيل فذلكم الرباط مرة، وفي حديث مالك مرتين كذا قال مسلم بناء على رواية معن عنده، وإلا فأكثر الموطآت ثلاثًا، وكذا أخرجه الشافعي وأحمد والترمذي والنسائي كلهم من طريق مالك ثلاثًا.

( مالك أنه بلغه أن سعيد بن المسيب قال: يقال لا يخرج أحد من المسجد بعد النداء) لأنه دعاء إلى صلاة الجماعة فمن خرج حينئذ فقصد خلافهم وتفريق جماعتهم وهذا ممنوع باتفاق ( إلا أحد يريد الرجوع إليه) وقد نزلت به ضرورة حدث أو غيره فإن كانت ظاهرة كرعاف منعت سوء الظن به وإن كانت باطنة قبض على أنفه كالراعف ( إلا منافق) يريد أن ذلك من أفعال المنافقين، وهذا ما لم يكن صلى تلك الصلاة جماعة وإلا خرج عند النداء والإقامة فإن كان صلاها فذا فقال ابن الماجشون له أن يخرج ما لم تقم الصلاة فيلزمه إعادتها جماعة قاله كله الباجي.

قال ابن عبد البر: هذا لا يقال مثله من جهة الرأي ولا يكون إلا توقيفًا انتهى.
وقد صح مرفوعًا أخرج الطبراني برجال الصحيح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يسمع النداء في مسجدي هذا ثم يخرج منه إلا لحاجة ثم لا يرجع إليه إلا منافق.

وفي مسلم وأبي داود وأحمد عن أبي الشعثاء قال: كنا قعودًا في المسجد مع أبي هريرة فأذن المؤذن فقام رجل من المسجد يمشي فأتبعه أبو هريرة بصره حتى خرج من المسجد فقال أبو هريرة: أما هذا فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم.
زاد في رواية أحمد.
ثم قال أبو هريرة: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا كنتم في المسجد فنودي بالصلاة فلا يخرج أحدكم حتى يصلي.

قال ابن عبد البر: قال مالك: دخل أعرابي المسجد وأذن المؤذن فقام يحل عقال ناقته ليخرج فنهاه سعيد بن المسيب فلم ينته فما سارت به غير يسير حتى وقصت به فأصيب في جسده فقال سعيد: قد بلغنا أن من خرج من بين الأذان والإقامة لغير الوضوء أنه يصاب.

( مالك عن عامر بن عبد الله بن الزبير) بن العوّام الأسدي أبي الحارث المدني ثقة عابد مات سنة إحدى وعشرين ومائة ( عن عمرو) بفتح العين ( بن سليم) بضم السين ابن خلدة بسكون اللام الأنصاري ( الزرقي) بضم الزاي وفتح الراء بعدها قاف ثقة من كبار التابعين مات سنة أربع ومائة ويقال له رؤية.

( عن أبي قتادة الأنصاري) اسمه الحارث ويقال عمرو أو النعمان بن ربعي بكسر الراء وسكون الموحدة بعدها مهملة السلمي بفتحتين المدني شهد أحدًا وما بعدها ولم يصح شهوده بدرًا، ومات سنة أربع وخمسين وقيل سنة ثمان وثلاثين، والأول أصح وأشهر.

( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا دخل أحدكم المسجد) وهو متوضئ ( فليركع) أي فليصل من إطلاق الجزء وإرادة الكل ( ركعتين) هذا العدد لا مفهوم لأكثره باتفاق واختلف في أقله والصحيح اعتباره فلا يتأدى هذا المستحب بأقل من ركعتين ( قبل أن يجلس) فإن خالف وجلس لم يشرع له التدارك كذا قال جماعة وفيه نظر لما رواه ابن حبان عن أبي ذر أنه دخل المسجد فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أركعت ركعتين قال: لا.
قال: قم فاركعهما ترجم عليه ابن حبان في صحيحه تحية المسجد لا تفوت بالجلوس ومثله في قصة سليك.

وقال المحب الطبري: يحتمل أن يقال وقتهما قبل الجلوس وقت فضيلة وبعده وقت جواز، ويقال وقتهما قبله أداء وبعده قضاء، ويحتمل أن يحمل مشروعيتهما بعد الجلوس على ما لم يطل الفصل، واتفق أئمة الفتوى على أن الأمر للندب، وقال الظاهرية: للوجوب.
ومن أدلة عدمه قوله صلى الله عليه وسلم الذي رآه يتخطى: اجلس فقد آذيت ولم يأمره بصلاة كذا استدل به الطحاوي وغيره.
قال الحافظ: وفيه نظر، وقال الطحاوي أيضًا: الأوقات التي نهي عن الصلاة فيها ليس هذا الأمر بداخل فيها.

قلت: هما عمومان تعارضا الأمر بالصلاة لكل داخل من غير تفصيل والنهي عن الصلاة في أوقات مخصوصة فلا بدّ من تخصيص أحد العمومين فذهب جمع إلى تخصيص النهي وتعميم الأمر وهو الأصح عند الشافعية، وذهب جمع إلى عكسه وهو مذهب المالكية والحنفية انتهى.

وخص منه أيضًا إذا دخل والإمام يصلي الفرض أو شرع في الإقامة أو قربها لحديث: إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة وإن دخل المسجد ليمرّ فيه فقال مالك ليس عليه تحية لقوله قبل أن يجلس وهذا لم يرد الجلوس وهذا فيما عدا المسجد الحرام فتحيته الطواف وتندرج التحية تحت ركعتي الطواف.

والحديث أخرجه البخاري عن عبد الله بن يوسف عن يحيى كلاهما عن مالك به، وقد ورد على سبب وهو أن أبا قتادة دخل المسجد فوجد النبي صلى الله عليه وسلم جالسًا بين أصحابه فجلس معهم فقال له: ما منعك أن تركع قال: رأيتك جالسًا والناس جلوس.
قال: فإذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يركع ركعتين أخرجه مسلم.

( مالك عن أبي النضر) سالم بن أبي أمية ( مولى عمر بن عبيد الله) بضم العين فيهما ( عن أبي سلمة بن عبد الرحمن) بن عوف ( أنه قال له:) أي لأبي النضر ( ألم أر صاحبك) أي عمر بن عبيد الله بن معمر التيمي تيم قريش ( إذا دخل المسجد يجلس قبل أن يركع؟ قال أبو النضر يعني بذلك عمر بن عبيد الله) الذي هو مولاه سماه صاحبه ( ويعيب ذلك عليه أن يجلس إذا دخل المسجد قبل أن يركع) التحية بدل من الإشارة.

قال ابن عبد البر: إنما عاب عليه تقصيره عن حفظ نفسه في استعمال السنة مع قدرته عليها لا أن ذلك كان واجبًا عنده ولذا ( قال مالك: وذلك حسن) أي مستحب ( وليس بواجب) وعلى هذا جماعة الفقهاء، وأوجب أهل الظاهر على كل من دخل المسجد طاهرًا في حين تجوز فيه النافلة أن يركع، وأوجب بعضهم ذلك في كل وقت وقالوا فعل الخير لا يمنع منه إلا بدليل معارض له ولم يقولوا بالمجمل، ودليل مالك والجماعة أنه صلى الله عليه وسلم أمر رجلاً دخل المسجد وهو يخطب يوم الجمعة أن يركع وأمر الذي رآه يتخطى رقاب الناس بالجلوس ولم يقل له اركع، واستعمال الأحاديث لا يكون إلا على ما قال مالك.
وقال زيد بن أسلم: كان الصحابة يدخلون المسجد ثم يخرجون ولا يصلون قال: ورأيت ابن عمر يفعله وكذا سالم ابنه، وكان القاسم بن محمد يدخل المسجد فيجلس ولا يصلي وفي قوله صلى الله عليه وسلم للأعرابي الذي قال في الصلوات الخمس هل عليّ غيرها؟ قال: لا إلا أن تطوّع ما يردّ قول أهل الظاهر انتهى.

وكذا نقل ابن بطال عن أهل الظاهر الوجوب، وتوقف الحافظ فيه بأنّ ابن حزم صرح بعدمه ولا توقف لأنه وإن كان ظاهريًا لا يمتنع أن يخالفهم في مسائل ككثير من مقلدي الأئمة.