فهرس الكتاب

شرح الزرقاني - بَابُ الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ فِي الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ

رقم الحديث 334 حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مالِكٍ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَجْمَعُ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ، فِي سَفَرِهِ إِلَى تَبُوكَ.


الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ فِي الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ

( مالِكٍ عَنْ دَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ) بمهملتين مصغر المدني ثقة لم تثبت عنه بدعة ( عَنِ الْأَعْرَجِ) عبد الرحمن بن هرمز ثقة من خيار التابعين مات سنة سبع عشرة ومائة بالإسكندرية ( عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) هكذا روي عن يحيى مسندًا وروي عنه مرسلاً كجمهور رواة الموطأ قاله ابن عبد البر في التقصي.
وقال في تمهيده رواه أصحاب مالك مرسلاً إلا أبا مصعب في غير الموطأ ومحمد بن المبارك الصوري ومحمد بن خالد وإسماعيل بن داود فقالوا عن أبي هريرة، وذكره أحمد بن خالد عن يحيى مسندًا، وإنما وجدناه عند شيوخنا مرسلاً في نسخة يحيى وروايته ويمكن أن ابن وضاح طرح أبا هريرة من روايته عن يحيى لأنه رأى ابن القاسم وغيره ممن انتهت إليه روايته للموطأ قد أرسل الحديث، فظن أن رواية يحيى غلط لم يتابع عليه فرمى أبا هريرة، وأرسل الحديث إن صح قول ابن خالد وإلاّ فهو وهم منه.

( أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَجْمَعُ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ فِي سَفَرِهِ إِلَى تَبُوكَ) جمع تقديم إن ارتحل بعد زوال الشمس وجمع تأخير إن ارتحل قبل الزوال على ما روى أبو داود وغيره عن معاذ ولم يذكر المغرب والعشاء وهو محفوظ من حديث معاذ وغيره كما في الحديث التالي.

( مالِكٍ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ) محمد بن مسلم بن تدرس بفتح الفوقية وسكون المهملة وضم الراء الأسدي مولاهم ( الْمَكِّيِّ) صدوق روى له الجميع وله في الموطأ ثمانية أحاديث ومات سنة ست أو ثمان وعشرين ومائة ( عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ) بضم الطاء المهملة وفتح الفاء ( عَامِرِ بْنِ وَاثِلَةَ) بمثلثة ابن عبد الله بن عمرو الليثي وربما سمي عمر ولد عام إحدى عشر ورأى النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عن أبي بكر فمن بعده وعمر إلى أن مات سنة عشر ومائة على الصحيح وهو آخر من مات من الصحابة قاله مسلم وغيره.

( أَنَّ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ) بن عمرو بن أوس الأنصاري الخزرجي مشهور من أعيان الصحابة شهد بدرًا وما بعدها وكان إليه المنتهى في العلم بالأحكام والقرآن مات بالشام سنة ثماني عشرة ( أَخْبَرَهُ أَنَّهُمْ) أي الصحابة ( خَرَجُوا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ تَبُوكَ) بمنع الصرف لوزن الفعل كتقول ( فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجْمَعُ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَالْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ) أي جمع تأخير كذا حمله الباجي.

وروى أبو داود والترمذي وأحمد وابن حبان من طريق الليث عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي الطفيل عن معاذ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في غزوة تبوك إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس أخر الظهر حتى يجمعها إلى العصر فيصليهما جميعًا وإذا ارتحل بعد زيغ الشمس صلى الظهر والعصر جميعًا، لكن أعله جماعة من أئمة الحديث بتفرّد قتيبة به عن الليث، بل ذكر البخاري أن بعض الضعفاء أدخله على قتيبة حكاه الحاكم في علوم الحديث.
وله طريق أخرى عن أبي داود من رواية هشام بن سعد عن أبي الزبير عن أبي الطفيل عن معاذ وهشام مختلف فيه وقد خالفه الحفاظ من أصحاب أبي الزبير كمالك وسفيان الثوري وقرّة بن خالد وغيرهم فلم يذكروا في روايتهم جمع التقديم، وبه احتج من أبى جمع التقديم.

وجاء فيه حديث آخر عند أحمد عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا زاغت الشمس في منزله جمع بين الظهر والعصر قبل أن يركب، وإذا لم تزغ في منزله ركب حتى إذا كان العصر نزل فجمع بين الظهر والعصر وفيه راوٍ ضعيف، لكن له شاهد عند ابن عباس لا أعلمه إلا مرفوعًا نحوه رواه البيهقي برجال ثقات إلا أنه مشكوك في رفعه والمحفوظ وقفه، ورواه البيهقي أيضًا من وجه بالجزم بأنه موقوف على ابن عباس، وقد قال أبو داود ليس في تقديم الوقت حديث قائم.

( قَالَ: فَأَخَّرَ الصَّلَاةَ يَوْمًا ثُمَّ خَرَجَ فَصَلَّى الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ جَمِيعًا) جمع تأخير وحمله بعضهم على الجمع الصوري بأن صلى الظهر في آخر وقتها والعصر في أوّله.
وتعقبه الخطابي وابن عبد البر وغيرهما بأن الجمع رخصة فلو كان صوريًا لكان أعظم ضيقًا من الإتيان بكل صلاة في وقتها لأن أوائل الأوقات وأواخرها مما لا يدركه أكثر الخاصة فضلاً عن العامّة، ومن الدليل على أن الجمع رخصة قول ابن عباس أراد أن لا يحرّج على أمّته رواه مسلم، وأيضًا فصريح الأخبار أن الجمع في وقت إحدى الصلاتين وهو المتبادر إلى الفهم من لفظ الجمع.

( ثُمَّ دَخَلَ ثُمَّ خَرَجَ فَصَلَّى الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ جَمِيعًا) قال الباجي: مقتضاه أنه مقيم غير سائر لأنه إنما يستعمل في الدخول إلى الخباء والخروج منه وهو الغالب إلا أن يريد دخل إلى الطريق مسافرًا، ثم خرج عن الطريق للصلاة ثم دخله للسير وفيه بعد، وكذا نقله عياض واستبعده.
وقال ابن عبد البر: هذا أوضح دليل على ردّ من قال لا يجمع إلا من جدّ به السير وهو قاطع للالتباس اهـ.

ففيه أنّ المسافر له أن يجمع نازلاً وسائرًا وكأنه فعله صلى الله عليه وسلم لبيان الجواز وكان أكثر عادته ما دل عليه حديث أنس في الصحيحين وغيرهما قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس أخر الظهر إلى وقت العصر ثم يجمع بينهما، وإذا زاغت قبل أن يرتحل صلى الظهر ثم ركب، وعند الإسماعيلي، وإذا زالت صلى الظهر والعصر جميعًا ثم ارتحل، وقال الشافعية والمالكية: ترك الجمع للمسافر أفضل وعن مالك رواية بكراهته.
وفي هذه الأحاديث تخصيص حديث الأوقات التي بيّنها جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم وبيّنها النبي للأعرابي بقوله في آخرها الوقت ما بين هذين.

( ثُمَّ قَالَ: إِنَّكُمْ سَتَأْتُونَ غَدًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ) تبركًا وامتثالاً للآية ( عَيْنَ تَبُوكَ) التي بها ففيه دليل على عدم تسميتها بذلك لوقوع هذا القول قبل إتيانها بيوم ( وَإِنَّكُمْ لَنْ تَأْتُوهَا حَتَّى يَضْحَى النَّهَارُ) يرتفع قويًا ( فَمَنْ جَاءَهَا) أي قبلي بدليل قوله ( فَلَا يَمَسَّ مِنْ مَائِهَا شَيْئًا حَتَّى آتِيَ) بالمدّ أجيء قال الباجي: وفيه أنّ للإمام المنع من الأمور العامة كالماء والكلأ للمصلحة ( فَجِئْنَاهَا وَقَدْ سَبَقَنَا إِلَيْهَا رَجُلَانِ وَالْعَيْنُ تَبِضُّ) بصاد مهملة رواه يحيى وجماعة أي تبرق.
ورواه ابن القاسم والقعنبي بمعجمة أي تقطر وتسيل يقال بص الماء وصب على القلب بمعنى والوجهان معًا صحيحان ( بِشَيْءٍ مِنْ مَاءٍ) يشير إلى تقليله اهـ.

وقال أبو عمر: الرواية الصحيحة المشهورة في الموطأ تبض بالضاد المنقوطة وعليها الناس ( فَسَأَلَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَلْ مَسِسْتُمَا) بكسر السين الأولى على الأفصح وتفتح ( مِنْ مَائِهَا شَيْئًا؟ فَقَالَا: نَعَمْ) قال الباجي: لأنهما لم يعلما نهيه أو حملاه على الكراهة أو نسياه إن كانا مؤمنين.
وروى أبو بشر الدولابي أنهما كانا من المنافقين ( فَسَبَّهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

     وَقَالَ  لَهُمَا مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقُولَ)
لنفاقهما أو عمل النهي على الكراهة فإن كانا لم يعلما أو نسيا فكأنه سبهما إذ كانا سببًا لفوات ما أراده من إظهار المعجزة كما يسب الساهي والناسي ويلامان إذا كانا سببًا لفوات محروس عليه اهـ.

( ثُمَّ غَرَفُوا بِأَيْدِيهِمْ مِنَ الْعَيْنِ قَلِيلًا قَلِيلًا) بالتكرار دليلاً على نهاية القلة ( حَتَّى اجْتَمَعَ) الماء الذي غرفوه ( فِي شَيْءٍ) من الأواني التي كانت معهم ولا قلب فيه، وإنّ أصله غرفوا في شيء حتى اجتمع ماء كثير كما توهم ( ثُمَّ غَسَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ) أي الشيء أي الإناء ( وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ) للبركة، والأظهر أنّ ضمير فيه للماء أي به وعبر بفي لمشاكلة قوله ( ثُمَّ أَعَادَهُ فِيهَا فَجَرَتِ الْعَيْنُ بِمَاءٍ كَثِيرٍ) وفي مسلم بماء منهمر أو قال غزير شك أبو علي أي راويه عن مالك ( فَاسْتَقَى النَّاسُ) شربوا وسقوا دوابهم فهو إخبار عن كثرة الماء وهم جيش كثير عددهم.

( ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يُوشِكُ) يقرب ويسرع من غير بطء ( يَا مُعَاذُ إِنْ طَالَتْ بِكَ حَيَاةٌ) أي إن أطال الله عمرك ورأيت هذا المكان ( أَنْ تَرَى) بعينك فاعل يوشك وأن بالفتح مصدرية ( مَا) موصول أي الذي ( هَاهُنَا) إشارة للمكان ( قَدْ مُلِئَ) بالبناء للمفعول ونائبه الضمير أي هو ( جِنَانًا) نصب على التمييز بكسر الجيم جمع جنة بفتحها أي يكثر ماؤه ويخصب أرضه فيكون بساتين ذات أشجار كثيرة وثمار.

قال الباجي: وهذا إخبار بغيب قد وقع وخص معاذًا بذلك لأنه استوطن الشام وبها مات، فعلم صلى الله عليه وسلم بالوحي أنه سيرى ذلك الموضع كما ذكر، وأنه يمتلئ جنانًا ببركته صلى الله عليه وسلم ولو لم يكن له معجزة غير هذه لتبين صدقه وظهرت حجته.

وقال ابن عبد البر: قال ابن وضاح: أنا رأيت ذلك الموضع كله حوالي تلك العين جنانًا خضرة نضرة، ولعله يتمادى إلى قيام الساعة وهكذا النبوّة وأما الشجر فلا يبقى بعد مفارقة صاحبه اهـ.

وهذا الحديث أخرجه مسلم في فضائل النبي صلى الله عليه وسلم، حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي قال: حدثنا أبو علي الحنفي قال: حدثنا مالك به سوى الشك الذي ذكرته.

( مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا عَجِلَ) بفتح العين وكسر الجيم أسرع وحضر ( بِهِ السَّيْرُ) ونسبة الفعل إلى السير مجاز وتوسع ( يَجْمَعُ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ) جمع تأخير ففي الصحيح من رواية الزهري عن سالم عن أبيه رأيت النبي صلى الله عليه وسلم إذا أعجله السير في السفر يؤخر المغرب حتى يجمع بينها وبين العشاء، وتعلق به من اشترط في الجمع الجد في السير، ورده ابن عبد البر بأنه إنما حكى الحال التي رأى ولم يقل لا يجمع إلا أن يجد به فلا يعارض حديث معاذ قبله، ولم يعين غاية التأخير وبينه مسلم من طريق عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر بأنه بعد أن يغيب الشفق، ولعبد الرزاق عن معمر عن أيوب وموسى بن عقبة عن نافع فأخر المغرب بعد ذهاب الشفق حتى ذهب هويّ من الليل، وللبخاري في الجهاد من طريق أسلم عن ابن عمر: حتى كان بعد غروب الشفق نزل فصلى المغرب والعشاء جمع بينهما، ولأبي داود من رواية ربيعة عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر في هذه القصة فسار حتى غاب الشفق وتصوّبت النجوم نزل فصلى الصلاتين جميعًا.
وجاءت رواية أخرى عن ابن عمر أنه صلى المغرب في آخر الشفق ثم أقام الصلاة وقد توارى الشفق فصلى العشاء أخرجه أبو داود من طريق عبد الرحمن بن يزيد بن جابر عن نافع ولا تعارض بينه وبين ما سبق لأنه كان في واقعة أخرى.

وهذا الحديث رواه مسلم عن يحيى عن مالك به، وتابعه عبيد الله عن نافع بنحوه في مسلم وهو في الصحيحين من طريق الزهري عن سالم عن أبيه بنحوه.

( مَالِكٍ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ) محمد بن مسلم ( الْمَكِّيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ) بضم الجيم مصغر ( عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ جَمِيعًا وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ جَمِيعًا فِي غَيْرِ خَوْفٍ وَلَا سَفَرٍ.
قَالَ مَالِكٌ: أُرَى)
بضم الهمزة أي أظن ( ذَلِكَ كَانَ فِي مَطَرٍ) ووافقه على ما ظنه جماعة من أهل المدينة وغيرها منهم الشافعي قاله ابن عبد البر، لكن روى الحديث مسلم وأصحاب السنن من طريق حبيب بن أبي ثابت عن سعيد بن جبير عن ابن عباس بلفظ: من غير خوف ولا مطر، وأجاب البيهقي بأن الأولى رواية الجمهور فهي أولى قال: وقد روينا عن ابن عباس وابن عمر الجمع بالمطر وهو يؤيد التأويل.
وأجاب غيره: بأن المراد ولا مطر كثير أو ولا مطر مستدام فلعله انقطع في أثناء الثانية، وقيل الجمع المذكور للمرض وقوّاه النووي.

قال الحافظ: وفيه نظر لأنه لو جمع له لما صلى معه إلا من به المرض، والظاهر أنه صلى الله عليه وسلم جمع بأصحابه وبه صرح ابن عباس في رواية، وقيل كان في غيم فصلى الظهر، ثم انكشف الغيم فبان أن وقت العصر دخل فصلاها، وأبطله النووي لأنه وإن كان فيه أدنى احتمال في الظهرين فلا احتمال فيه في العشاءين وكأنّ نفيه الاحتمال مبني على أنه ليس للمغرب إلا وقت واحد، والمختار عنده خلافه وهو أن وقتها يمتدّ إلى العشاء فالاحتمال قائم، وقيل الجمع صوري بأن يوقع الظهر آخر وقتها والعصر في أوّل وقتها.

قال النووي: وهو ضعيف أو باطل لأنه مخالف للظاهر مخالفة لا تحتمل، لكن هذا الذي ضعفه استحسنه القرطبي ورجحه قبله إمام الحرمين، ومن القدماء ابن الماجشون والطحاوي، وقوّاه ابن سيد الناس بأنّ أبا الشعثاء راوي الحديث عن ابن عباس قد قال به، وذلك فيما أخرجه الشيخان من طريق ابن عيينة عن عمرو بن دينار فذكر هذا الحديث وزاد قلت: يا أبا الشعثاء أظنه أخر الظهر وعجل العصر وأخر المغرب وعجل العشاء.
قال: وأنا أظنه وراوي الحديث أدرى بالمراد من غيره.

قلت: لكن لم يجزم بذلك ولم يستمرّ عليه، بل جوّز أن يكون الجمع بعذر المطر كما في الصحيح لكن يقوي الجمع الصوري أن طرق الحديث كلها ليس فيها صفة الجمع، فإمّا أن تحمل على مطلقها فيستلزم إخراج الصلاة عن وقتها المحدود بلا عذر، وإما أن تحمل على صفة مخصوصة ولا يستلزم الإخراج ويجمع بها بين مفترق الأحاديث، والجمع الصوري أولى.

وذهب جماعة من الأئمة إلى الأخذ بظاهر الحديث فجوّزوا الجمع في الحضر للحاجة مطلقًا لكن بشرط أن لا يتخذ ذلك عادة وممن قال به ابن سيرين وربيعة وأشهب وابن المنذر والقفال الكبير وجماعة من أصحاب الحديث، واستدل لهم بما في مسلم في هذا الحديث عن سعيد بن جبير فقلت لابن عباس: لم فعل ذلك؟ قال: أراد أن لا يحرج أحدًا من أمّته.

وللنسائي من طريق عمرو بن هرم عن أبي الشعثاء أن ابن عباس صلى بالبصرة الأولى والعصر ليس بينهما شيء والمغرب والعشاء ليس بينهما شيء فعل ذلك من شغل وفيه رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم.

ولمسلم عن عبد الله بن شقيق أن شغل ابن عباس كان بالخطبة وأنه خطب بعد العصر إلى أن بدت النجوم ثم جمع بين المغرب والعشاء، وفيه تصديق أبي هريرة لابن عباس في رفعه، وما ذكره ابن عباس من التعليل بنفي الحرج ظاهر في مطلق الجمع.

وجاء مثله عن ابن مسعود قال: جمع النبي صلى الله عليه وسلم بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء فقيل له في ذلك فقال: صنعت هذا لئلا تحرج أمّتي رواه الطبراني، وإرادة نفي الحرج تقدح في حمله على الجمع الصوري لأنّ القصد إليه لا يخلو عن حرج انتهى.

والحديث رواه مسلم عن يحيى عن مالك به وله طرق في الصحيحين.

( مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ إِذَا جَمَعَ الْأُمَرَاءُ) جمع أمير ( بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ فِي الْمَطَرِ جَمَعَ مَعَهُمْ) لأنه مستحب لإدراك فضيلة الجماعة.

( مَالِكٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّهُ سَأَلَ سَالِمَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ هَلْ يُجْمَعُ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ فِي السَّفَرِ؟ فَقَالَ: نَعَمْ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ) أي يجوز بلا كراهة وإن كان الأفضل تركه ( أَلَمْ تَرَ إِلَى صَلَاةِ النَّاسِ بِعَرَفَةَ) بالجمع بين الظهرين جمع تقديم فقاس سالم المختلف فيه على المتفق عليه بجامع أنّ العلة السفر.

وفي مسلم عن جابر أنه صلى الله عليه وسلم جمع بين الظهر والعصر بعرفة في وقت الظهر ولو لم يرد من فعله إلا هذا لكان أدل دليل على جواز جمع التقديم في السفر وإلى جواز الجمع في السفر وإن لم يجدّ به السير ذهب كثير من الصحابة والتابعين والثوري ومالك في رواية مشهورة والشافعي وأحمد وإسحاق وأشهب.

وقال الليث ومالك في المدوّنة: يختص بمن جدّ به السير وقيل يختص بالسائر دون النازل وهو قول ابن حبيب، وقيل بمن له عذر، وقيل يجوز التأخير لا التقديم، وروي عن مالك وأحمد واختاره ابن حزم وقال قوم: لا يجوز الجمع مطلقًا إلا بعرفة ومزدلفة وهو قول الحسن والنخعي وأبي حنيفة وصاحبيه، وقول النووي أنهما خالفاه ردّه عليه السروجي في شرح الهداية وهو أعرف بمذهبه.
وأجابوا عن الأحاديث بأنه جمع صوري وتقدّم ردّه.

قال إمام الحرمين: ثبت في الجمع أحاديث نصوص لا يتطرق إليها تأويل ودليله من حيث المعنى الاستنباط من الجمع بعرفة ومزدلفة فإن سببه احتياج الحاج إليه لاشتغالهم بمناسكهم، وهذا المعنى موجود في كل الأسفار ولم تتقيد الرخص كالقصر والفطر بالنسك إلى أن قال: ولا يخفى على منصف أن الجمع أرفق من القصر فإن القائم إلى الصلاة لا يشق عليه ركعتان يضمهما إلى ركعتيه ورفق الجمع بمن جدّ به السير.

( مَالِكٍ أَنَّهُ بَلَغَهُ عَنْ عَلِيِّ) زين العابدين ( بْنِ حُسَيْنٍ) بن علي بن أبي طالب ( أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَسِيرَ يَوْمَهُ جَمَعَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ) جمع تقديم إن سار بعد الزوال وتأخير إن سار قبله ( وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَسِيرَ لَيْلَهُ جَمَعَ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ) قال ابن عبد البر: هذا حديث يتصل من رواية مالك من حديث معاذ بن جبل وابن عمر معناه وهو عند جماعة من أصحابه مسند.



رقم الحديث 335 وَحَدَّثَنِي عَنْ مالِكٍ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ الْمَكِّيِّ، عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ عَامِرِ بْنِ وَاثِلَةَ أَنَّ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ أَخْبَرَهُ، أَنَّهُمْ خَرَجُوا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ تَبُوكَ.
فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجْمَعُ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ، وَالْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ.
قَالَ: فَأَخَّرَ الصَّلَاةَ يَوْمًا، ثُمَّ خَرَجَ فَصَلَّى الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ جَمِيعًا، ثُمَّ دَخَلَ.
ثُمَّ خَرَجَ فَصَلَّى الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ جَمِيعًا، ثُمَّ قَالَ: إِنَّكُمْ سَتَأْتُونَ غَدًا، إِنْ شَاءَ اللَّهُ عَيْنَ تَبُوكَ، وَإِنَّكُمْ لَنْ تَأْتُوهَا حَتَّى يَضْحَى النَّهَارُ، فَمَنْ جَاءَهَا فَلَا يَمَسَّ مِنْ مَائِهَا شَيْئًا، حَتَّى آتِيَ، فَجِئْنَاهَا، وَقَدْ سَبَقَنَا إِلَيْهَا رَجُلَانِ، وَالْعَيْنُ تَبِضُّ بِشَيْءٍ مِنْ مَاءٍ، فَسَأَلَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ: هَلْ مَسِسْتُمَا مِنْ مَائِهَا شَيْئًا؟، فَقَالَا: نَعَمْ.
فَسَبَّهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،.

     وَقَالَ  لَهُمَا مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقُولَ.
ثُمَّ غَرَفُوا بِأَيْدِيهِمْ مِنَ الْعَيْنِ، قَلِيلًا قَلِيلًا.
حَتَّى اجْتَمَعَ فِي شَيْءٍ، ثُمَّ غَسَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِيهِ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ.
ثُمَّ أَعَادَهُ فِيهَا، فَجَرَتِ الْعَيْنُ بِمَاءٍ كَثِيرٍ.
فَاسْتَقَى النَّاسُ.
ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يُوشِكُ يَا مُعَاذُ إِنْ طَالَتْ بِكَ حَيَاةٌ، أَنْ تَرَى مَا هَاهُنَا قَدْ مُلِئَ جِنَانًا.


الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ فِي الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ

( مالِكٍ عَنْ دَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ) بمهملتين مصغر المدني ثقة لم تثبت عنه بدعة ( عَنِ الْأَعْرَجِ) عبد الرحمن بن هرمز ثقة من خيار التابعين مات سنة سبع عشرة ومائة بالإسكندرية ( عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) هكذا روي عن يحيى مسندًا وروي عنه مرسلاً كجمهور رواة الموطأ قاله ابن عبد البر في التقصي.
وقال في تمهيده رواه أصحاب مالك مرسلاً إلا أبا مصعب في غير الموطأ ومحمد بن المبارك الصوري ومحمد بن خالد وإسماعيل بن داود فقالوا عن أبي هريرة، وذكره أحمد بن خالد عن يحيى مسندًا، وإنما وجدناه عند شيوخنا مرسلاً في نسخة يحيى وروايته ويمكن أن ابن وضاح طرح أبا هريرة من روايته عن يحيى لأنه رأى ابن القاسم وغيره ممن انتهت إليه روايته للموطأ قد أرسل الحديث، فظن أن رواية يحيى غلط لم يتابع عليه فرمى أبا هريرة، وأرسل الحديث إن صح قول ابن خالد وإلاّ فهو وهم منه.

( أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَجْمَعُ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ فِي سَفَرِهِ إِلَى تَبُوكَ) جمع تقديم إن ارتحل بعد زوال الشمس وجمع تأخير إن ارتحل قبل الزوال على ما روى أبو داود وغيره عن معاذ ولم يذكر المغرب والعشاء وهو محفوظ من حديث معاذ وغيره كما في الحديث التالي.

( مالِكٍ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ) محمد بن مسلم بن تدرس بفتح الفوقية وسكون المهملة وضم الراء الأسدي مولاهم ( الْمَكِّيِّ) صدوق روى له الجميع وله في الموطأ ثمانية أحاديث ومات سنة ست أو ثمان وعشرين ومائة ( عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ) بضم الطاء المهملة وفتح الفاء ( عَامِرِ بْنِ وَاثِلَةَ) بمثلثة ابن عبد الله بن عمرو الليثي وربما سمي عمر ولد عام إحدى عشر ورأى النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عن أبي بكر فمن بعده وعمر إلى أن مات سنة عشر ومائة على الصحيح وهو آخر من مات من الصحابة قاله مسلم وغيره.

( أَنَّ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ) بن عمرو بن أوس الأنصاري الخزرجي مشهور من أعيان الصحابة شهد بدرًا وما بعدها وكان إليه المنتهى في العلم بالأحكام والقرآن مات بالشام سنة ثماني عشرة ( أَخْبَرَهُ أَنَّهُمْ) أي الصحابة ( خَرَجُوا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ تَبُوكَ) بمنع الصرف لوزن الفعل كتقول ( فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجْمَعُ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَالْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ) أي جمع تأخير كذا حمله الباجي.

وروى أبو داود والترمذي وأحمد وابن حبان من طريق الليث عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي الطفيل عن معاذ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في غزوة تبوك إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس أخر الظهر حتى يجمعها إلى العصر فيصليهما جميعًا وإذا ارتحل بعد زيغ الشمس صلى الظهر والعصر جميعًا، لكن أعله جماعة من أئمة الحديث بتفرّد قتيبة به عن الليث، بل ذكر البخاري أن بعض الضعفاء أدخله على قتيبة حكاه الحاكم في علوم الحديث.
وله طريق أخرى عن أبي داود من رواية هشام بن سعد عن أبي الزبير عن أبي الطفيل عن معاذ وهشام مختلف فيه وقد خالفه الحفاظ من أصحاب أبي الزبير كمالك وسفيان الثوري وقرّة بن خالد وغيرهم فلم يذكروا في روايتهم جمع التقديم، وبه احتج من أبى جمع التقديم.

وجاء فيه حديث آخر عند أحمد عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا زاغت الشمس في منزله جمع بين الظهر والعصر قبل أن يركب، وإذا لم تزغ في منزله ركب حتى إذا كان العصر نزل فجمع بين الظهر والعصر وفيه راوٍ ضعيف، لكن له شاهد عند ابن عباس لا أعلمه إلا مرفوعًا نحوه رواه البيهقي برجال ثقات إلا أنه مشكوك في رفعه والمحفوظ وقفه، ورواه البيهقي أيضًا من وجه بالجزم بأنه موقوف على ابن عباس، وقد قال أبو داود ليس في تقديم الوقت حديث قائم.

( قَالَ: فَأَخَّرَ الصَّلَاةَ يَوْمًا ثُمَّ خَرَجَ فَصَلَّى الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ جَمِيعًا) جمع تأخير وحمله بعضهم على الجمع الصوري بأن صلى الظهر في آخر وقتها والعصر في أوّله.
وتعقبه الخطابي وابن عبد البر وغيرهما بأن الجمع رخصة فلو كان صوريًا لكان أعظم ضيقًا من الإتيان بكل صلاة في وقتها لأن أوائل الأوقات وأواخرها مما لا يدركه أكثر الخاصة فضلاً عن العامّة، ومن الدليل على أن الجمع رخصة قول ابن عباس أراد أن لا يحرّج على أمّته رواه مسلم، وأيضًا فصريح الأخبار أن الجمع في وقت إحدى الصلاتين وهو المتبادر إلى الفهم من لفظ الجمع.

( ثُمَّ دَخَلَ ثُمَّ خَرَجَ فَصَلَّى الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ جَمِيعًا) قال الباجي: مقتضاه أنه مقيم غير سائر لأنه إنما يستعمل في الدخول إلى الخباء والخروج منه وهو الغالب إلا أن يريد دخل إلى الطريق مسافرًا، ثم خرج عن الطريق للصلاة ثم دخله للسير وفيه بعد، وكذا نقله عياض واستبعده.
وقال ابن عبد البر: هذا أوضح دليل على ردّ من قال لا يجمع إلا من جدّ به السير وهو قاطع للالتباس اهـ.

ففيه أنّ المسافر له أن يجمع نازلاً وسائرًا وكأنه فعله صلى الله عليه وسلم لبيان الجواز وكان أكثر عادته ما دل عليه حديث أنس في الصحيحين وغيرهما قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس أخر الظهر إلى وقت العصر ثم يجمع بينهما، وإذا زاغت قبل أن يرتحل صلى الظهر ثم ركب، وعند الإسماعيلي، وإذا زالت صلى الظهر والعصر جميعًا ثم ارتحل، وقال الشافعية والمالكية: ترك الجمع للمسافر أفضل وعن مالك رواية بكراهته.
وفي هذه الأحاديث تخصيص حديث الأوقات التي بيّنها جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم وبيّنها النبي للأعرابي بقوله في آخرها الوقت ما بين هذين.

( ثُمَّ قَالَ: إِنَّكُمْ سَتَأْتُونَ غَدًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ) تبركًا وامتثالاً للآية ( عَيْنَ تَبُوكَ) التي بها ففيه دليل على عدم تسميتها بذلك لوقوع هذا القول قبل إتيانها بيوم ( وَإِنَّكُمْ لَنْ تَأْتُوهَا حَتَّى يَضْحَى النَّهَارُ) يرتفع قويًا ( فَمَنْ جَاءَهَا) أي قبلي بدليل قوله ( فَلَا يَمَسَّ مِنْ مَائِهَا شَيْئًا حَتَّى آتِيَ) بالمدّ أجيء قال الباجي: وفيه أنّ للإمام المنع من الأمور العامة كالماء والكلأ للمصلحة ( فَجِئْنَاهَا وَقَدْ سَبَقَنَا إِلَيْهَا رَجُلَانِ وَالْعَيْنُ تَبِضُّ) بصاد مهملة رواه يحيى وجماعة أي تبرق.
ورواه ابن القاسم والقعنبي بمعجمة أي تقطر وتسيل يقال بص الماء وصب على القلب بمعنى والوجهان معًا صحيحان ( بِشَيْءٍ مِنْ مَاءٍ) يشير إلى تقليله اهـ.

وقال أبو عمر: الرواية الصحيحة المشهورة في الموطأ تبض بالضاد المنقوطة وعليها الناس ( فَسَأَلَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَلْ مَسِسْتُمَا) بكسر السين الأولى على الأفصح وتفتح ( مِنْ مَائِهَا شَيْئًا؟ فَقَالَا: نَعَمْ) قال الباجي: لأنهما لم يعلما نهيه أو حملاه على الكراهة أو نسياه إن كانا مؤمنين.
وروى أبو بشر الدولابي أنهما كانا من المنافقين ( فَسَبَّهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

     وَقَالَ  لَهُمَا مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقُولَ)
لنفاقهما أو عمل النهي على الكراهة فإن كانا لم يعلما أو نسيا فكأنه سبهما إذ كانا سببًا لفوات ما أراده من إظهار المعجزة كما يسب الساهي والناسي ويلامان إذا كانا سببًا لفوات محروس عليه اهـ.

( ثُمَّ غَرَفُوا بِأَيْدِيهِمْ مِنَ الْعَيْنِ قَلِيلًا قَلِيلًا) بالتكرار دليلاً على نهاية القلة ( حَتَّى اجْتَمَعَ) الماء الذي غرفوه ( فِي شَيْءٍ) من الأواني التي كانت معهم ولا قلب فيه، وإنّ أصله غرفوا في شيء حتى اجتمع ماء كثير كما توهم ( ثُمَّ غَسَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ) أي الشيء أي الإناء ( وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ) للبركة، والأظهر أنّ ضمير فيه للماء أي به وعبر بفي لمشاكلة قوله ( ثُمَّ أَعَادَهُ فِيهَا فَجَرَتِ الْعَيْنُ بِمَاءٍ كَثِيرٍ) وفي مسلم بماء منهمر أو قال غزير شك أبو علي أي راويه عن مالك ( فَاسْتَقَى النَّاسُ) شربوا وسقوا دوابهم فهو إخبار عن كثرة الماء وهم جيش كثير عددهم.

( ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يُوشِكُ) يقرب ويسرع من غير بطء ( يَا مُعَاذُ إِنْ طَالَتْ بِكَ حَيَاةٌ) أي إن أطال الله عمرك ورأيت هذا المكان ( أَنْ تَرَى) بعينك فاعل يوشك وأن بالفتح مصدرية ( مَا) موصول أي الذي ( هَاهُنَا) إشارة للمكان ( قَدْ مُلِئَ) بالبناء للمفعول ونائبه الضمير أي هو ( جِنَانًا) نصب على التمييز بكسر الجيم جمع جنة بفتحها أي يكثر ماؤه ويخصب أرضه فيكون بساتين ذات أشجار كثيرة وثمار.

قال الباجي: وهذا إخبار بغيب قد وقع وخص معاذًا بذلك لأنه استوطن الشام وبها مات، فعلم صلى الله عليه وسلم بالوحي أنه سيرى ذلك الموضع كما ذكر، وأنه يمتلئ جنانًا ببركته صلى الله عليه وسلم ولو لم يكن له معجزة غير هذه لتبين صدقه وظهرت حجته.

وقال ابن عبد البر: قال ابن وضاح: أنا رأيت ذلك الموضع كله حوالي تلك العين جنانًا خضرة نضرة، ولعله يتمادى إلى قيام الساعة وهكذا النبوّة وأما الشجر فلا يبقى بعد مفارقة صاحبه اهـ.

وهذا الحديث أخرجه مسلم في فضائل النبي صلى الله عليه وسلم، حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي قال: حدثنا أبو علي الحنفي قال: حدثنا مالك به سوى الشك الذي ذكرته.

( مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا عَجِلَ) بفتح العين وكسر الجيم أسرع وحضر ( بِهِ السَّيْرُ) ونسبة الفعل إلى السير مجاز وتوسع ( يَجْمَعُ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ) جمع تأخير ففي الصحيح من رواية الزهري عن سالم عن أبيه رأيت النبي صلى الله عليه وسلم إذا أعجله السير في السفر يؤخر المغرب حتى يجمع بينها وبين العشاء، وتعلق به من اشترط في الجمع الجد في السير، ورده ابن عبد البر بأنه إنما حكى الحال التي رأى ولم يقل لا يجمع إلا أن يجد به فلا يعارض حديث معاذ قبله، ولم يعين غاية التأخير وبينه مسلم من طريق عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر بأنه بعد أن يغيب الشفق، ولعبد الرزاق عن معمر عن أيوب وموسى بن عقبة عن نافع فأخر المغرب بعد ذهاب الشفق حتى ذهب هويّ من الليل، وللبخاري في الجهاد من طريق أسلم عن ابن عمر: حتى كان بعد غروب الشفق نزل فصلى المغرب والعشاء جمع بينهما، ولأبي داود من رواية ربيعة عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر في هذه القصة فسار حتى غاب الشفق وتصوّبت النجوم نزل فصلى الصلاتين جميعًا.
وجاءت رواية أخرى عن ابن عمر أنه صلى المغرب في آخر الشفق ثم أقام الصلاة وقد توارى الشفق فصلى العشاء أخرجه أبو داود من طريق عبد الرحمن بن يزيد بن جابر عن نافع ولا تعارض بينه وبين ما سبق لأنه كان في واقعة أخرى.

وهذا الحديث رواه مسلم عن يحيى عن مالك به، وتابعه عبيد الله عن نافع بنحوه في مسلم وهو في الصحيحين من طريق الزهري عن سالم عن أبيه بنحوه.

( مَالِكٍ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ) محمد بن مسلم ( الْمَكِّيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ) بضم الجيم مصغر ( عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ جَمِيعًا وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ جَمِيعًا فِي غَيْرِ خَوْفٍ وَلَا سَفَرٍ.
قَالَ مَالِكٌ: أُرَى)
بضم الهمزة أي أظن ( ذَلِكَ كَانَ فِي مَطَرٍ) ووافقه على ما ظنه جماعة من أهل المدينة وغيرها منهم الشافعي قاله ابن عبد البر، لكن روى الحديث مسلم وأصحاب السنن من طريق حبيب بن أبي ثابت عن سعيد بن جبير عن ابن عباس بلفظ: من غير خوف ولا مطر، وأجاب البيهقي بأن الأولى رواية الجمهور فهي أولى قال: وقد روينا عن ابن عباس وابن عمر الجمع بالمطر وهو يؤيد التأويل.
وأجاب غيره: بأن المراد ولا مطر كثير أو ولا مطر مستدام فلعله انقطع في أثناء الثانية، وقيل الجمع المذكور للمرض وقوّاه النووي.

قال الحافظ: وفيه نظر لأنه لو جمع له لما صلى معه إلا من به المرض، والظاهر أنه صلى الله عليه وسلم جمع بأصحابه وبه صرح ابن عباس في رواية، وقيل كان في غيم فصلى الظهر، ثم انكشف الغيم فبان أن وقت العصر دخل فصلاها، وأبطله النووي لأنه وإن كان فيه أدنى احتمال في الظهرين فلا احتمال فيه في العشاءين وكأنّ نفيه الاحتمال مبني على أنه ليس للمغرب إلا وقت واحد، والمختار عنده خلافه وهو أن وقتها يمتدّ إلى العشاء فالاحتمال قائم، وقيل الجمع صوري بأن يوقع الظهر آخر وقتها والعصر في أوّل وقتها.

قال النووي: وهو ضعيف أو باطل لأنه مخالف للظاهر مخالفة لا تحتمل، لكن هذا الذي ضعفه استحسنه القرطبي ورجحه قبله إمام الحرمين، ومن القدماء ابن الماجشون والطحاوي، وقوّاه ابن سيد الناس بأنّ أبا الشعثاء راوي الحديث عن ابن عباس قد قال به، وذلك فيما أخرجه الشيخان من طريق ابن عيينة عن عمرو بن دينار فذكر هذا الحديث وزاد قلت: يا أبا الشعثاء أظنه أخر الظهر وعجل العصر وأخر المغرب وعجل العشاء.
قال: وأنا أظنه وراوي الحديث أدرى بالمراد من غيره.

قلت: لكن لم يجزم بذلك ولم يستمرّ عليه، بل جوّز أن يكون الجمع بعذر المطر كما في الصحيح لكن يقوي الجمع الصوري أن طرق الحديث كلها ليس فيها صفة الجمع، فإمّا أن تحمل على مطلقها فيستلزم إخراج الصلاة عن وقتها المحدود بلا عذر، وإما أن تحمل على صفة مخصوصة ولا يستلزم الإخراج ويجمع بها بين مفترق الأحاديث، والجمع الصوري أولى.

وذهب جماعة من الأئمة إلى الأخذ بظاهر الحديث فجوّزوا الجمع في الحضر للحاجة مطلقًا لكن بشرط أن لا يتخذ ذلك عادة وممن قال به ابن سيرين وربيعة وأشهب وابن المنذر والقفال الكبير وجماعة من أصحاب الحديث، واستدل لهم بما في مسلم في هذا الحديث عن سعيد بن جبير فقلت لابن عباس: لم فعل ذلك؟ قال: أراد أن لا يحرج أحدًا من أمّته.

وللنسائي من طريق عمرو بن هرم عن أبي الشعثاء أن ابن عباس صلى بالبصرة الأولى والعصر ليس بينهما شيء والمغرب والعشاء ليس بينهما شيء فعل ذلك من شغل وفيه رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم.

ولمسلم عن عبد الله بن شقيق أن شغل ابن عباس كان بالخطبة وأنه خطب بعد العصر إلى أن بدت النجوم ثم جمع بين المغرب والعشاء، وفيه تصديق أبي هريرة لابن عباس في رفعه، وما ذكره ابن عباس من التعليل بنفي الحرج ظاهر في مطلق الجمع.

وجاء مثله عن ابن مسعود قال: جمع النبي صلى الله عليه وسلم بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء فقيل له في ذلك فقال: صنعت هذا لئلا تحرج أمّتي رواه الطبراني، وإرادة نفي الحرج تقدح في حمله على الجمع الصوري لأنّ القصد إليه لا يخلو عن حرج انتهى.

والحديث رواه مسلم عن يحيى عن مالك به وله طرق في الصحيحين.

( مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ إِذَا جَمَعَ الْأُمَرَاءُ) جمع أمير ( بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ فِي الْمَطَرِ جَمَعَ مَعَهُمْ) لأنه مستحب لإدراك فضيلة الجماعة.

( مَالِكٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّهُ سَأَلَ سَالِمَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ هَلْ يُجْمَعُ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ فِي السَّفَرِ؟ فَقَالَ: نَعَمْ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ) أي يجوز بلا كراهة وإن كان الأفضل تركه ( أَلَمْ تَرَ إِلَى صَلَاةِ النَّاسِ بِعَرَفَةَ) بالجمع بين الظهرين جمع تقديم فقاس سالم المختلف فيه على المتفق عليه بجامع أنّ العلة السفر.

وفي مسلم عن جابر أنه صلى الله عليه وسلم جمع بين الظهر والعصر بعرفة في وقت الظهر ولو لم يرد من فعله إلا هذا لكان أدل دليل على جواز جمع التقديم في السفر وإلى جواز الجمع في السفر وإن لم يجدّ به السير ذهب كثير من الصحابة والتابعين والثوري ومالك في رواية مشهورة والشافعي وأحمد وإسحاق وأشهب.

وقال الليث ومالك في المدوّنة: يختص بمن جدّ به السير وقيل يختص بالسائر دون النازل وهو قول ابن حبيب، وقيل بمن له عذر، وقيل يجوز التأخير لا التقديم، وروي عن مالك وأحمد واختاره ابن حزم وقال قوم: لا يجوز الجمع مطلقًا إلا بعرفة ومزدلفة وهو قول الحسن والنخعي وأبي حنيفة وصاحبيه، وقول النووي أنهما خالفاه ردّه عليه السروجي في شرح الهداية وهو أعرف بمذهبه.
وأجابوا عن الأحاديث بأنه جمع صوري وتقدّم ردّه.

قال إمام الحرمين: ثبت في الجمع أحاديث نصوص لا يتطرق إليها تأويل ودليله من حيث المعنى الاستنباط من الجمع بعرفة ومزدلفة فإن سببه احتياج الحاج إليه لاشتغالهم بمناسكهم، وهذا المعنى موجود في كل الأسفار ولم تتقيد الرخص كالقصر والفطر بالنسك إلى أن قال: ولا يخفى على منصف أن الجمع أرفق من القصر فإن القائم إلى الصلاة لا يشق عليه ركعتان يضمهما إلى ركعتيه ورفق الجمع بمن جدّ به السير.

( مَالِكٍ أَنَّهُ بَلَغَهُ عَنْ عَلِيِّ) زين العابدين ( بْنِ حُسَيْنٍ) بن علي بن أبي طالب ( أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَسِيرَ يَوْمَهُ جَمَعَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ) جمع تقديم إن سار بعد الزوال وتأخير إن سار قبله ( وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَسِيرَ لَيْلَهُ جَمَعَ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ) قال ابن عبد البر: هذا حديث يتصل من رواية مالك من حديث معاذ بن جبل وابن عمر معناه وهو عند جماعة من أصحابه مسند.



رقم الحديث 336 وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا عَجِلَ بِهِ السَّيْرُ، يَجْمَعُ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ.


الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ فِي الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ

( مالِكٍ عَنْ دَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ) بمهملتين مصغر المدني ثقة لم تثبت عنه بدعة ( عَنِ الْأَعْرَجِ) عبد الرحمن بن هرمز ثقة من خيار التابعين مات سنة سبع عشرة ومائة بالإسكندرية ( عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) هكذا روي عن يحيى مسندًا وروي عنه مرسلاً كجمهور رواة الموطأ قاله ابن عبد البر في التقصي.
وقال في تمهيده رواه أصحاب مالك مرسلاً إلا أبا مصعب في غير الموطأ ومحمد بن المبارك الصوري ومحمد بن خالد وإسماعيل بن داود فقالوا عن أبي هريرة، وذكره أحمد بن خالد عن يحيى مسندًا، وإنما وجدناه عند شيوخنا مرسلاً في نسخة يحيى وروايته ويمكن أن ابن وضاح طرح أبا هريرة من روايته عن يحيى لأنه رأى ابن القاسم وغيره ممن انتهت إليه روايته للموطأ قد أرسل الحديث، فظن أن رواية يحيى غلط لم يتابع عليه فرمى أبا هريرة، وأرسل الحديث إن صح قول ابن خالد وإلاّ فهو وهم منه.

( أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَجْمَعُ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ فِي سَفَرِهِ إِلَى تَبُوكَ) جمع تقديم إن ارتحل بعد زوال الشمس وجمع تأخير إن ارتحل قبل الزوال على ما روى أبو داود وغيره عن معاذ ولم يذكر المغرب والعشاء وهو محفوظ من حديث معاذ وغيره كما في الحديث التالي.

( مالِكٍ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ) محمد بن مسلم بن تدرس بفتح الفوقية وسكون المهملة وضم الراء الأسدي مولاهم ( الْمَكِّيِّ) صدوق روى له الجميع وله في الموطأ ثمانية أحاديث ومات سنة ست أو ثمان وعشرين ومائة ( عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ) بضم الطاء المهملة وفتح الفاء ( عَامِرِ بْنِ وَاثِلَةَ) بمثلثة ابن عبد الله بن عمرو الليثي وربما سمي عمر ولد عام إحدى عشر ورأى النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عن أبي بكر فمن بعده وعمر إلى أن مات سنة عشر ومائة على الصحيح وهو آخر من مات من الصحابة قاله مسلم وغيره.

( أَنَّ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ) بن عمرو بن أوس الأنصاري الخزرجي مشهور من أعيان الصحابة شهد بدرًا وما بعدها وكان إليه المنتهى في العلم بالأحكام والقرآن مات بالشام سنة ثماني عشرة ( أَخْبَرَهُ أَنَّهُمْ) أي الصحابة ( خَرَجُوا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ تَبُوكَ) بمنع الصرف لوزن الفعل كتقول ( فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجْمَعُ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَالْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ) أي جمع تأخير كذا حمله الباجي.

وروى أبو داود والترمذي وأحمد وابن حبان من طريق الليث عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي الطفيل عن معاذ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في غزوة تبوك إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس أخر الظهر حتى يجمعها إلى العصر فيصليهما جميعًا وإذا ارتحل بعد زيغ الشمس صلى الظهر والعصر جميعًا، لكن أعله جماعة من أئمة الحديث بتفرّد قتيبة به عن الليث، بل ذكر البخاري أن بعض الضعفاء أدخله على قتيبة حكاه الحاكم في علوم الحديث.
وله طريق أخرى عن أبي داود من رواية هشام بن سعد عن أبي الزبير عن أبي الطفيل عن معاذ وهشام مختلف فيه وقد خالفه الحفاظ من أصحاب أبي الزبير كمالك وسفيان الثوري وقرّة بن خالد وغيرهم فلم يذكروا في روايتهم جمع التقديم، وبه احتج من أبى جمع التقديم.

وجاء فيه حديث آخر عند أحمد عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا زاغت الشمس في منزله جمع بين الظهر والعصر قبل أن يركب، وإذا لم تزغ في منزله ركب حتى إذا كان العصر نزل فجمع بين الظهر والعصر وفيه راوٍ ضعيف، لكن له شاهد عند ابن عباس لا أعلمه إلا مرفوعًا نحوه رواه البيهقي برجال ثقات إلا أنه مشكوك في رفعه والمحفوظ وقفه، ورواه البيهقي أيضًا من وجه بالجزم بأنه موقوف على ابن عباس، وقد قال أبو داود ليس في تقديم الوقت حديث قائم.

( قَالَ: فَأَخَّرَ الصَّلَاةَ يَوْمًا ثُمَّ خَرَجَ فَصَلَّى الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ جَمِيعًا) جمع تأخير وحمله بعضهم على الجمع الصوري بأن صلى الظهر في آخر وقتها والعصر في أوّله.
وتعقبه الخطابي وابن عبد البر وغيرهما بأن الجمع رخصة فلو كان صوريًا لكان أعظم ضيقًا من الإتيان بكل صلاة في وقتها لأن أوائل الأوقات وأواخرها مما لا يدركه أكثر الخاصة فضلاً عن العامّة، ومن الدليل على أن الجمع رخصة قول ابن عباس أراد أن لا يحرّج على أمّته رواه مسلم، وأيضًا فصريح الأخبار أن الجمع في وقت إحدى الصلاتين وهو المتبادر إلى الفهم من لفظ الجمع.

( ثُمَّ دَخَلَ ثُمَّ خَرَجَ فَصَلَّى الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ جَمِيعًا) قال الباجي: مقتضاه أنه مقيم غير سائر لأنه إنما يستعمل في الدخول إلى الخباء والخروج منه وهو الغالب إلا أن يريد دخل إلى الطريق مسافرًا، ثم خرج عن الطريق للصلاة ثم دخله للسير وفيه بعد، وكذا نقله عياض واستبعده.
وقال ابن عبد البر: هذا أوضح دليل على ردّ من قال لا يجمع إلا من جدّ به السير وهو قاطع للالتباس اهـ.

ففيه أنّ المسافر له أن يجمع نازلاً وسائرًا وكأنه فعله صلى الله عليه وسلم لبيان الجواز وكان أكثر عادته ما دل عليه حديث أنس في الصحيحين وغيرهما قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس أخر الظهر إلى وقت العصر ثم يجمع بينهما، وإذا زاغت قبل أن يرتحل صلى الظهر ثم ركب، وعند الإسماعيلي، وإذا زالت صلى الظهر والعصر جميعًا ثم ارتحل، وقال الشافعية والمالكية: ترك الجمع للمسافر أفضل وعن مالك رواية بكراهته.
وفي هذه الأحاديث تخصيص حديث الأوقات التي بيّنها جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم وبيّنها النبي للأعرابي بقوله في آخرها الوقت ما بين هذين.

( ثُمَّ قَالَ: إِنَّكُمْ سَتَأْتُونَ غَدًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ) تبركًا وامتثالاً للآية ( عَيْنَ تَبُوكَ) التي بها ففيه دليل على عدم تسميتها بذلك لوقوع هذا القول قبل إتيانها بيوم ( وَإِنَّكُمْ لَنْ تَأْتُوهَا حَتَّى يَضْحَى النَّهَارُ) يرتفع قويًا ( فَمَنْ جَاءَهَا) أي قبلي بدليل قوله ( فَلَا يَمَسَّ مِنْ مَائِهَا شَيْئًا حَتَّى آتِيَ) بالمدّ أجيء قال الباجي: وفيه أنّ للإمام المنع من الأمور العامة كالماء والكلأ للمصلحة ( فَجِئْنَاهَا وَقَدْ سَبَقَنَا إِلَيْهَا رَجُلَانِ وَالْعَيْنُ تَبِضُّ) بصاد مهملة رواه يحيى وجماعة أي تبرق.
ورواه ابن القاسم والقعنبي بمعجمة أي تقطر وتسيل يقال بص الماء وصب على القلب بمعنى والوجهان معًا صحيحان ( بِشَيْءٍ مِنْ مَاءٍ) يشير إلى تقليله اهـ.

وقال أبو عمر: الرواية الصحيحة المشهورة في الموطأ تبض بالضاد المنقوطة وعليها الناس ( فَسَأَلَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَلْ مَسِسْتُمَا) بكسر السين الأولى على الأفصح وتفتح ( مِنْ مَائِهَا شَيْئًا؟ فَقَالَا: نَعَمْ) قال الباجي: لأنهما لم يعلما نهيه أو حملاه على الكراهة أو نسياه إن كانا مؤمنين.
وروى أبو بشر الدولابي أنهما كانا من المنافقين ( فَسَبَّهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

     وَقَالَ  لَهُمَا مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقُولَ)
لنفاقهما أو عمل النهي على الكراهة فإن كانا لم يعلما أو نسيا فكأنه سبهما إذ كانا سببًا لفوات ما أراده من إظهار المعجزة كما يسب الساهي والناسي ويلامان إذا كانا سببًا لفوات محروس عليه اهـ.

( ثُمَّ غَرَفُوا بِأَيْدِيهِمْ مِنَ الْعَيْنِ قَلِيلًا قَلِيلًا) بالتكرار دليلاً على نهاية القلة ( حَتَّى اجْتَمَعَ) الماء الذي غرفوه ( فِي شَيْءٍ) من الأواني التي كانت معهم ولا قلب فيه، وإنّ أصله غرفوا في شيء حتى اجتمع ماء كثير كما توهم ( ثُمَّ غَسَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ) أي الشيء أي الإناء ( وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ) للبركة، والأظهر أنّ ضمير فيه للماء أي به وعبر بفي لمشاكلة قوله ( ثُمَّ أَعَادَهُ فِيهَا فَجَرَتِ الْعَيْنُ بِمَاءٍ كَثِيرٍ) وفي مسلم بماء منهمر أو قال غزير شك أبو علي أي راويه عن مالك ( فَاسْتَقَى النَّاسُ) شربوا وسقوا دوابهم فهو إخبار عن كثرة الماء وهم جيش كثير عددهم.

( ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يُوشِكُ) يقرب ويسرع من غير بطء ( يَا مُعَاذُ إِنْ طَالَتْ بِكَ حَيَاةٌ) أي إن أطال الله عمرك ورأيت هذا المكان ( أَنْ تَرَى) بعينك فاعل يوشك وأن بالفتح مصدرية ( مَا) موصول أي الذي ( هَاهُنَا) إشارة للمكان ( قَدْ مُلِئَ) بالبناء للمفعول ونائبه الضمير أي هو ( جِنَانًا) نصب على التمييز بكسر الجيم جمع جنة بفتحها أي يكثر ماؤه ويخصب أرضه فيكون بساتين ذات أشجار كثيرة وثمار.

قال الباجي: وهذا إخبار بغيب قد وقع وخص معاذًا بذلك لأنه استوطن الشام وبها مات، فعلم صلى الله عليه وسلم بالوحي أنه سيرى ذلك الموضع كما ذكر، وأنه يمتلئ جنانًا ببركته صلى الله عليه وسلم ولو لم يكن له معجزة غير هذه لتبين صدقه وظهرت حجته.

وقال ابن عبد البر: قال ابن وضاح: أنا رأيت ذلك الموضع كله حوالي تلك العين جنانًا خضرة نضرة، ولعله يتمادى إلى قيام الساعة وهكذا النبوّة وأما الشجر فلا يبقى بعد مفارقة صاحبه اهـ.

وهذا الحديث أخرجه مسلم في فضائل النبي صلى الله عليه وسلم، حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي قال: حدثنا أبو علي الحنفي قال: حدثنا مالك به سوى الشك الذي ذكرته.

( مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا عَجِلَ) بفتح العين وكسر الجيم أسرع وحضر ( بِهِ السَّيْرُ) ونسبة الفعل إلى السير مجاز وتوسع ( يَجْمَعُ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ) جمع تأخير ففي الصحيح من رواية الزهري عن سالم عن أبيه رأيت النبي صلى الله عليه وسلم إذا أعجله السير في السفر يؤخر المغرب حتى يجمع بينها وبين العشاء، وتعلق به من اشترط في الجمع الجد في السير، ورده ابن عبد البر بأنه إنما حكى الحال التي رأى ولم يقل لا يجمع إلا أن يجد به فلا يعارض حديث معاذ قبله، ولم يعين غاية التأخير وبينه مسلم من طريق عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر بأنه بعد أن يغيب الشفق، ولعبد الرزاق عن معمر عن أيوب وموسى بن عقبة عن نافع فأخر المغرب بعد ذهاب الشفق حتى ذهب هويّ من الليل، وللبخاري في الجهاد من طريق أسلم عن ابن عمر: حتى كان بعد غروب الشفق نزل فصلى المغرب والعشاء جمع بينهما، ولأبي داود من رواية ربيعة عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر في هذه القصة فسار حتى غاب الشفق وتصوّبت النجوم نزل فصلى الصلاتين جميعًا.
وجاءت رواية أخرى عن ابن عمر أنه صلى المغرب في آخر الشفق ثم أقام الصلاة وقد توارى الشفق فصلى العشاء أخرجه أبو داود من طريق عبد الرحمن بن يزيد بن جابر عن نافع ولا تعارض بينه وبين ما سبق لأنه كان في واقعة أخرى.

وهذا الحديث رواه مسلم عن يحيى عن مالك به، وتابعه عبيد الله عن نافع بنحوه في مسلم وهو في الصحيحين من طريق الزهري عن سالم عن أبيه بنحوه.

( مَالِكٍ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ) محمد بن مسلم ( الْمَكِّيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ) بضم الجيم مصغر ( عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ جَمِيعًا وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ جَمِيعًا فِي غَيْرِ خَوْفٍ وَلَا سَفَرٍ.
قَالَ مَالِكٌ: أُرَى)
بضم الهمزة أي أظن ( ذَلِكَ كَانَ فِي مَطَرٍ) ووافقه على ما ظنه جماعة من أهل المدينة وغيرها منهم الشافعي قاله ابن عبد البر، لكن روى الحديث مسلم وأصحاب السنن من طريق حبيب بن أبي ثابت عن سعيد بن جبير عن ابن عباس بلفظ: من غير خوف ولا مطر، وأجاب البيهقي بأن الأولى رواية الجمهور فهي أولى قال: وقد روينا عن ابن عباس وابن عمر الجمع بالمطر وهو يؤيد التأويل.
وأجاب غيره: بأن المراد ولا مطر كثير أو ولا مطر مستدام فلعله انقطع في أثناء الثانية، وقيل الجمع المذكور للمرض وقوّاه النووي.

قال الحافظ: وفيه نظر لأنه لو جمع له لما صلى معه إلا من به المرض، والظاهر أنه صلى الله عليه وسلم جمع بأصحابه وبه صرح ابن عباس في رواية، وقيل كان في غيم فصلى الظهر، ثم انكشف الغيم فبان أن وقت العصر دخل فصلاها، وأبطله النووي لأنه وإن كان فيه أدنى احتمال في الظهرين فلا احتمال فيه في العشاءين وكأنّ نفيه الاحتمال مبني على أنه ليس للمغرب إلا وقت واحد، والمختار عنده خلافه وهو أن وقتها يمتدّ إلى العشاء فالاحتمال قائم، وقيل الجمع صوري بأن يوقع الظهر آخر وقتها والعصر في أوّل وقتها.

قال النووي: وهو ضعيف أو باطل لأنه مخالف للظاهر مخالفة لا تحتمل، لكن هذا الذي ضعفه استحسنه القرطبي ورجحه قبله إمام الحرمين، ومن القدماء ابن الماجشون والطحاوي، وقوّاه ابن سيد الناس بأنّ أبا الشعثاء راوي الحديث عن ابن عباس قد قال به، وذلك فيما أخرجه الشيخان من طريق ابن عيينة عن عمرو بن دينار فذكر هذا الحديث وزاد قلت: يا أبا الشعثاء أظنه أخر الظهر وعجل العصر وأخر المغرب وعجل العشاء.
قال: وأنا أظنه وراوي الحديث أدرى بالمراد من غيره.

قلت: لكن لم يجزم بذلك ولم يستمرّ عليه، بل جوّز أن يكون الجمع بعذر المطر كما في الصحيح لكن يقوي الجمع الصوري أن طرق الحديث كلها ليس فيها صفة الجمع، فإمّا أن تحمل على مطلقها فيستلزم إخراج الصلاة عن وقتها المحدود بلا عذر، وإما أن تحمل على صفة مخصوصة ولا يستلزم الإخراج ويجمع بها بين مفترق الأحاديث، والجمع الصوري أولى.

وذهب جماعة من الأئمة إلى الأخذ بظاهر الحديث فجوّزوا الجمع في الحضر للحاجة مطلقًا لكن بشرط أن لا يتخذ ذلك عادة وممن قال به ابن سيرين وربيعة وأشهب وابن المنذر والقفال الكبير وجماعة من أصحاب الحديث، واستدل لهم بما في مسلم في هذا الحديث عن سعيد بن جبير فقلت لابن عباس: لم فعل ذلك؟ قال: أراد أن لا يحرج أحدًا من أمّته.

وللنسائي من طريق عمرو بن هرم عن أبي الشعثاء أن ابن عباس صلى بالبصرة الأولى والعصر ليس بينهما شيء والمغرب والعشاء ليس بينهما شيء فعل ذلك من شغل وفيه رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم.

ولمسلم عن عبد الله بن شقيق أن شغل ابن عباس كان بالخطبة وأنه خطب بعد العصر إلى أن بدت النجوم ثم جمع بين المغرب والعشاء، وفيه تصديق أبي هريرة لابن عباس في رفعه، وما ذكره ابن عباس من التعليل بنفي الحرج ظاهر في مطلق الجمع.

وجاء مثله عن ابن مسعود قال: جمع النبي صلى الله عليه وسلم بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء فقيل له في ذلك فقال: صنعت هذا لئلا تحرج أمّتي رواه الطبراني، وإرادة نفي الحرج تقدح في حمله على الجمع الصوري لأنّ القصد إليه لا يخلو عن حرج انتهى.

والحديث رواه مسلم عن يحيى عن مالك به وله طرق في الصحيحين.

( مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ إِذَا جَمَعَ الْأُمَرَاءُ) جمع أمير ( بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ فِي الْمَطَرِ جَمَعَ مَعَهُمْ) لأنه مستحب لإدراك فضيلة الجماعة.

( مَالِكٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّهُ سَأَلَ سَالِمَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ هَلْ يُجْمَعُ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ فِي السَّفَرِ؟ فَقَالَ: نَعَمْ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ) أي يجوز بلا كراهة وإن كان الأفضل تركه ( أَلَمْ تَرَ إِلَى صَلَاةِ النَّاسِ بِعَرَفَةَ) بالجمع بين الظهرين جمع تقديم فقاس سالم المختلف فيه على المتفق عليه بجامع أنّ العلة السفر.

وفي مسلم عن جابر أنه صلى الله عليه وسلم جمع بين الظهر والعصر بعرفة في وقت الظهر ولو لم يرد من فعله إلا هذا لكان أدل دليل على جواز جمع التقديم في السفر وإلى جواز الجمع في السفر وإن لم يجدّ به السير ذهب كثير من الصحابة والتابعين والثوري ومالك في رواية مشهورة والشافعي وأحمد وإسحاق وأشهب.

وقال الليث ومالك في المدوّنة: يختص بمن جدّ به السير وقيل يختص بالسائر دون النازل وهو قول ابن حبيب، وقيل بمن له عذر، وقيل يجوز التأخير لا التقديم، وروي عن مالك وأحمد واختاره ابن حزم وقال قوم: لا يجوز الجمع مطلقًا إلا بعرفة ومزدلفة وهو قول الحسن والنخعي وأبي حنيفة وصاحبيه، وقول النووي أنهما خالفاه ردّه عليه السروجي في شرح الهداية وهو أعرف بمذهبه.
وأجابوا عن الأحاديث بأنه جمع صوري وتقدّم ردّه.

قال إمام الحرمين: ثبت في الجمع أحاديث نصوص لا يتطرق إليها تأويل ودليله من حيث المعنى الاستنباط من الجمع بعرفة ومزدلفة فإن سببه احتياج الحاج إليه لاشتغالهم بمناسكهم، وهذا المعنى موجود في كل الأسفار ولم تتقيد الرخص كالقصر والفطر بالنسك إلى أن قال: ولا يخفى على منصف أن الجمع أرفق من القصر فإن القائم إلى الصلاة لا يشق عليه ركعتان يضمهما إلى ركعتيه ورفق الجمع بمن جدّ به السير.

( مَالِكٍ أَنَّهُ بَلَغَهُ عَنْ عَلِيِّ) زين العابدين ( بْنِ حُسَيْنٍ) بن علي بن أبي طالب ( أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَسِيرَ يَوْمَهُ جَمَعَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ) جمع تقديم إن سار بعد الزوال وتأخير إن سار قبله ( وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَسِيرَ لَيْلَهُ جَمَعَ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ) قال ابن عبد البر: هذا حديث يتصل من رواية مالك من حديث معاذ بن جبل وابن عمر معناه وهو عند جماعة من أصحابه مسند.



رقم الحديث 337 وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ الْمَكِّيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ جَمِيعًا، وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ جَمِيعًا، فِي غَيْرِ خَوْفٍ وَلَا سَفَرٍ قَالَ مَالِكٌ: أُرَى ذَلِكَ كَانَ فِي مَطَرٍ.


الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ فِي الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ

( مالِكٍ عَنْ دَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ) بمهملتين مصغر المدني ثقة لم تثبت عنه بدعة ( عَنِ الْأَعْرَجِ) عبد الرحمن بن هرمز ثقة من خيار التابعين مات سنة سبع عشرة ومائة بالإسكندرية ( عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) هكذا روي عن يحيى مسندًا وروي عنه مرسلاً كجمهور رواة الموطأ قاله ابن عبد البر في التقصي.
وقال في تمهيده رواه أصحاب مالك مرسلاً إلا أبا مصعب في غير الموطأ ومحمد بن المبارك الصوري ومحمد بن خالد وإسماعيل بن داود فقالوا عن أبي هريرة، وذكره أحمد بن خالد عن يحيى مسندًا، وإنما وجدناه عند شيوخنا مرسلاً في نسخة يحيى وروايته ويمكن أن ابن وضاح طرح أبا هريرة من روايته عن يحيى لأنه رأى ابن القاسم وغيره ممن انتهت إليه روايته للموطأ قد أرسل الحديث، فظن أن رواية يحيى غلط لم يتابع عليه فرمى أبا هريرة، وأرسل الحديث إن صح قول ابن خالد وإلاّ فهو وهم منه.

( أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَجْمَعُ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ فِي سَفَرِهِ إِلَى تَبُوكَ) جمع تقديم إن ارتحل بعد زوال الشمس وجمع تأخير إن ارتحل قبل الزوال على ما روى أبو داود وغيره عن معاذ ولم يذكر المغرب والعشاء وهو محفوظ من حديث معاذ وغيره كما في الحديث التالي.

( مالِكٍ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ) محمد بن مسلم بن تدرس بفتح الفوقية وسكون المهملة وضم الراء الأسدي مولاهم ( الْمَكِّيِّ) صدوق روى له الجميع وله في الموطأ ثمانية أحاديث ومات سنة ست أو ثمان وعشرين ومائة ( عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ) بضم الطاء المهملة وفتح الفاء ( عَامِرِ بْنِ وَاثِلَةَ) بمثلثة ابن عبد الله بن عمرو الليثي وربما سمي عمر ولد عام إحدى عشر ورأى النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عن أبي بكر فمن بعده وعمر إلى أن مات سنة عشر ومائة على الصحيح وهو آخر من مات من الصحابة قاله مسلم وغيره.

( أَنَّ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ) بن عمرو بن أوس الأنصاري الخزرجي مشهور من أعيان الصحابة شهد بدرًا وما بعدها وكان إليه المنتهى في العلم بالأحكام والقرآن مات بالشام سنة ثماني عشرة ( أَخْبَرَهُ أَنَّهُمْ) أي الصحابة ( خَرَجُوا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ تَبُوكَ) بمنع الصرف لوزن الفعل كتقول ( فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجْمَعُ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَالْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ) أي جمع تأخير كذا حمله الباجي.

وروى أبو داود والترمذي وأحمد وابن حبان من طريق الليث عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي الطفيل عن معاذ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في غزوة تبوك إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس أخر الظهر حتى يجمعها إلى العصر فيصليهما جميعًا وإذا ارتحل بعد زيغ الشمس صلى الظهر والعصر جميعًا، لكن أعله جماعة من أئمة الحديث بتفرّد قتيبة به عن الليث، بل ذكر البخاري أن بعض الضعفاء أدخله على قتيبة حكاه الحاكم في علوم الحديث.
وله طريق أخرى عن أبي داود من رواية هشام بن سعد عن أبي الزبير عن أبي الطفيل عن معاذ وهشام مختلف فيه وقد خالفه الحفاظ من أصحاب أبي الزبير كمالك وسفيان الثوري وقرّة بن خالد وغيرهم فلم يذكروا في روايتهم جمع التقديم، وبه احتج من أبى جمع التقديم.

وجاء فيه حديث آخر عند أحمد عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا زاغت الشمس في منزله جمع بين الظهر والعصر قبل أن يركب، وإذا لم تزغ في منزله ركب حتى إذا كان العصر نزل فجمع بين الظهر والعصر وفيه راوٍ ضعيف، لكن له شاهد عند ابن عباس لا أعلمه إلا مرفوعًا نحوه رواه البيهقي برجال ثقات إلا أنه مشكوك في رفعه والمحفوظ وقفه، ورواه البيهقي أيضًا من وجه بالجزم بأنه موقوف على ابن عباس، وقد قال أبو داود ليس في تقديم الوقت حديث قائم.

( قَالَ: فَأَخَّرَ الصَّلَاةَ يَوْمًا ثُمَّ خَرَجَ فَصَلَّى الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ جَمِيعًا) جمع تأخير وحمله بعضهم على الجمع الصوري بأن صلى الظهر في آخر وقتها والعصر في أوّله.
وتعقبه الخطابي وابن عبد البر وغيرهما بأن الجمع رخصة فلو كان صوريًا لكان أعظم ضيقًا من الإتيان بكل صلاة في وقتها لأن أوائل الأوقات وأواخرها مما لا يدركه أكثر الخاصة فضلاً عن العامّة، ومن الدليل على أن الجمع رخصة قول ابن عباس أراد أن لا يحرّج على أمّته رواه مسلم، وأيضًا فصريح الأخبار أن الجمع في وقت إحدى الصلاتين وهو المتبادر إلى الفهم من لفظ الجمع.

( ثُمَّ دَخَلَ ثُمَّ خَرَجَ فَصَلَّى الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ جَمِيعًا) قال الباجي: مقتضاه أنه مقيم غير سائر لأنه إنما يستعمل في الدخول إلى الخباء والخروج منه وهو الغالب إلا أن يريد دخل إلى الطريق مسافرًا، ثم خرج عن الطريق للصلاة ثم دخله للسير وفيه بعد، وكذا نقله عياض واستبعده.
وقال ابن عبد البر: هذا أوضح دليل على ردّ من قال لا يجمع إلا من جدّ به السير وهو قاطع للالتباس اهـ.

ففيه أنّ المسافر له أن يجمع نازلاً وسائرًا وكأنه فعله صلى الله عليه وسلم لبيان الجواز وكان أكثر عادته ما دل عليه حديث أنس في الصحيحين وغيرهما قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس أخر الظهر إلى وقت العصر ثم يجمع بينهما، وإذا زاغت قبل أن يرتحل صلى الظهر ثم ركب، وعند الإسماعيلي، وإذا زالت صلى الظهر والعصر جميعًا ثم ارتحل، وقال الشافعية والمالكية: ترك الجمع للمسافر أفضل وعن مالك رواية بكراهته.
وفي هذه الأحاديث تخصيص حديث الأوقات التي بيّنها جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم وبيّنها النبي للأعرابي بقوله في آخرها الوقت ما بين هذين.

( ثُمَّ قَالَ: إِنَّكُمْ سَتَأْتُونَ غَدًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ) تبركًا وامتثالاً للآية ( عَيْنَ تَبُوكَ) التي بها ففيه دليل على عدم تسميتها بذلك لوقوع هذا القول قبل إتيانها بيوم ( وَإِنَّكُمْ لَنْ تَأْتُوهَا حَتَّى يَضْحَى النَّهَارُ) يرتفع قويًا ( فَمَنْ جَاءَهَا) أي قبلي بدليل قوله ( فَلَا يَمَسَّ مِنْ مَائِهَا شَيْئًا حَتَّى آتِيَ) بالمدّ أجيء قال الباجي: وفيه أنّ للإمام المنع من الأمور العامة كالماء والكلأ للمصلحة ( فَجِئْنَاهَا وَقَدْ سَبَقَنَا إِلَيْهَا رَجُلَانِ وَالْعَيْنُ تَبِضُّ) بصاد مهملة رواه يحيى وجماعة أي تبرق.
ورواه ابن القاسم والقعنبي بمعجمة أي تقطر وتسيل يقال بص الماء وصب على القلب بمعنى والوجهان معًا صحيحان ( بِشَيْءٍ مِنْ مَاءٍ) يشير إلى تقليله اهـ.

وقال أبو عمر: الرواية الصحيحة المشهورة في الموطأ تبض بالضاد المنقوطة وعليها الناس ( فَسَأَلَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَلْ مَسِسْتُمَا) بكسر السين الأولى على الأفصح وتفتح ( مِنْ مَائِهَا شَيْئًا؟ فَقَالَا: نَعَمْ) قال الباجي: لأنهما لم يعلما نهيه أو حملاه على الكراهة أو نسياه إن كانا مؤمنين.
وروى أبو بشر الدولابي أنهما كانا من المنافقين ( فَسَبَّهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

     وَقَالَ  لَهُمَا مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقُولَ)
لنفاقهما أو عمل النهي على الكراهة فإن كانا لم يعلما أو نسيا فكأنه سبهما إذ كانا سببًا لفوات ما أراده من إظهار المعجزة كما يسب الساهي والناسي ويلامان إذا كانا سببًا لفوات محروس عليه اهـ.

( ثُمَّ غَرَفُوا بِأَيْدِيهِمْ مِنَ الْعَيْنِ قَلِيلًا قَلِيلًا) بالتكرار دليلاً على نهاية القلة ( حَتَّى اجْتَمَعَ) الماء الذي غرفوه ( فِي شَيْءٍ) من الأواني التي كانت معهم ولا قلب فيه، وإنّ أصله غرفوا في شيء حتى اجتمع ماء كثير كما توهم ( ثُمَّ غَسَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ) أي الشيء أي الإناء ( وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ) للبركة، والأظهر أنّ ضمير فيه للماء أي به وعبر بفي لمشاكلة قوله ( ثُمَّ أَعَادَهُ فِيهَا فَجَرَتِ الْعَيْنُ بِمَاءٍ كَثِيرٍ) وفي مسلم بماء منهمر أو قال غزير شك أبو علي أي راويه عن مالك ( فَاسْتَقَى النَّاسُ) شربوا وسقوا دوابهم فهو إخبار عن كثرة الماء وهم جيش كثير عددهم.

( ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يُوشِكُ) يقرب ويسرع من غير بطء ( يَا مُعَاذُ إِنْ طَالَتْ بِكَ حَيَاةٌ) أي إن أطال الله عمرك ورأيت هذا المكان ( أَنْ تَرَى) بعينك فاعل يوشك وأن بالفتح مصدرية ( مَا) موصول أي الذي ( هَاهُنَا) إشارة للمكان ( قَدْ مُلِئَ) بالبناء للمفعول ونائبه الضمير أي هو ( جِنَانًا) نصب على التمييز بكسر الجيم جمع جنة بفتحها أي يكثر ماؤه ويخصب أرضه فيكون بساتين ذات أشجار كثيرة وثمار.

قال الباجي: وهذا إخبار بغيب قد وقع وخص معاذًا بذلك لأنه استوطن الشام وبها مات، فعلم صلى الله عليه وسلم بالوحي أنه سيرى ذلك الموضع كما ذكر، وأنه يمتلئ جنانًا ببركته صلى الله عليه وسلم ولو لم يكن له معجزة غير هذه لتبين صدقه وظهرت حجته.

وقال ابن عبد البر: قال ابن وضاح: أنا رأيت ذلك الموضع كله حوالي تلك العين جنانًا خضرة نضرة، ولعله يتمادى إلى قيام الساعة وهكذا النبوّة وأما الشجر فلا يبقى بعد مفارقة صاحبه اهـ.

وهذا الحديث أخرجه مسلم في فضائل النبي صلى الله عليه وسلم، حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي قال: حدثنا أبو علي الحنفي قال: حدثنا مالك به سوى الشك الذي ذكرته.

( مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا عَجِلَ) بفتح العين وكسر الجيم أسرع وحضر ( بِهِ السَّيْرُ) ونسبة الفعل إلى السير مجاز وتوسع ( يَجْمَعُ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ) جمع تأخير ففي الصحيح من رواية الزهري عن سالم عن أبيه رأيت النبي صلى الله عليه وسلم إذا أعجله السير في السفر يؤخر المغرب حتى يجمع بينها وبين العشاء، وتعلق به من اشترط في الجمع الجد في السير، ورده ابن عبد البر بأنه إنما حكى الحال التي رأى ولم يقل لا يجمع إلا أن يجد به فلا يعارض حديث معاذ قبله، ولم يعين غاية التأخير وبينه مسلم من طريق عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر بأنه بعد أن يغيب الشفق، ولعبد الرزاق عن معمر عن أيوب وموسى بن عقبة عن نافع فأخر المغرب بعد ذهاب الشفق حتى ذهب هويّ من الليل، وللبخاري في الجهاد من طريق أسلم عن ابن عمر: حتى كان بعد غروب الشفق نزل فصلى المغرب والعشاء جمع بينهما، ولأبي داود من رواية ربيعة عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر في هذه القصة فسار حتى غاب الشفق وتصوّبت النجوم نزل فصلى الصلاتين جميعًا.
وجاءت رواية أخرى عن ابن عمر أنه صلى المغرب في آخر الشفق ثم أقام الصلاة وقد توارى الشفق فصلى العشاء أخرجه أبو داود من طريق عبد الرحمن بن يزيد بن جابر عن نافع ولا تعارض بينه وبين ما سبق لأنه كان في واقعة أخرى.

وهذا الحديث رواه مسلم عن يحيى عن مالك به، وتابعه عبيد الله عن نافع بنحوه في مسلم وهو في الصحيحين من طريق الزهري عن سالم عن أبيه بنحوه.

( مَالِكٍ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ) محمد بن مسلم ( الْمَكِّيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ) بضم الجيم مصغر ( عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ جَمِيعًا وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ جَمِيعًا فِي غَيْرِ خَوْفٍ وَلَا سَفَرٍ.
قَالَ مَالِكٌ: أُرَى)
بضم الهمزة أي أظن ( ذَلِكَ كَانَ فِي مَطَرٍ) ووافقه على ما ظنه جماعة من أهل المدينة وغيرها منهم الشافعي قاله ابن عبد البر، لكن روى الحديث مسلم وأصحاب السنن من طريق حبيب بن أبي ثابت عن سعيد بن جبير عن ابن عباس بلفظ: من غير خوف ولا مطر، وأجاب البيهقي بأن الأولى رواية الجمهور فهي أولى قال: وقد روينا عن ابن عباس وابن عمر الجمع بالمطر وهو يؤيد التأويل.
وأجاب غيره: بأن المراد ولا مطر كثير أو ولا مطر مستدام فلعله انقطع في أثناء الثانية، وقيل الجمع المذكور للمرض وقوّاه النووي.

قال الحافظ: وفيه نظر لأنه لو جمع له لما صلى معه إلا من به المرض، والظاهر أنه صلى الله عليه وسلم جمع بأصحابه وبه صرح ابن عباس في رواية، وقيل كان في غيم فصلى الظهر، ثم انكشف الغيم فبان أن وقت العصر دخل فصلاها، وأبطله النووي لأنه وإن كان فيه أدنى احتمال في الظهرين فلا احتمال فيه في العشاءين وكأنّ نفيه الاحتمال مبني على أنه ليس للمغرب إلا وقت واحد، والمختار عنده خلافه وهو أن وقتها يمتدّ إلى العشاء فالاحتمال قائم، وقيل الجمع صوري بأن يوقع الظهر آخر وقتها والعصر في أوّل وقتها.

قال النووي: وهو ضعيف أو باطل لأنه مخالف للظاهر مخالفة لا تحتمل، لكن هذا الذي ضعفه استحسنه القرطبي ورجحه قبله إمام الحرمين، ومن القدماء ابن الماجشون والطحاوي، وقوّاه ابن سيد الناس بأنّ أبا الشعثاء راوي الحديث عن ابن عباس قد قال به، وذلك فيما أخرجه الشيخان من طريق ابن عيينة عن عمرو بن دينار فذكر هذا الحديث وزاد قلت: يا أبا الشعثاء أظنه أخر الظهر وعجل العصر وأخر المغرب وعجل العشاء.
قال: وأنا أظنه وراوي الحديث أدرى بالمراد من غيره.

قلت: لكن لم يجزم بذلك ولم يستمرّ عليه، بل جوّز أن يكون الجمع بعذر المطر كما في الصحيح لكن يقوي الجمع الصوري أن طرق الحديث كلها ليس فيها صفة الجمع، فإمّا أن تحمل على مطلقها فيستلزم إخراج الصلاة عن وقتها المحدود بلا عذر، وإما أن تحمل على صفة مخصوصة ولا يستلزم الإخراج ويجمع بها بين مفترق الأحاديث، والجمع الصوري أولى.

وذهب جماعة من الأئمة إلى الأخذ بظاهر الحديث فجوّزوا الجمع في الحضر للحاجة مطلقًا لكن بشرط أن لا يتخذ ذلك عادة وممن قال به ابن سيرين وربيعة وأشهب وابن المنذر والقفال الكبير وجماعة من أصحاب الحديث، واستدل لهم بما في مسلم في هذا الحديث عن سعيد بن جبير فقلت لابن عباس: لم فعل ذلك؟ قال: أراد أن لا يحرج أحدًا من أمّته.

وللنسائي من طريق عمرو بن هرم عن أبي الشعثاء أن ابن عباس صلى بالبصرة الأولى والعصر ليس بينهما شيء والمغرب والعشاء ليس بينهما شيء فعل ذلك من شغل وفيه رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم.

ولمسلم عن عبد الله بن شقيق أن شغل ابن عباس كان بالخطبة وأنه خطب بعد العصر إلى أن بدت النجوم ثم جمع بين المغرب والعشاء، وفيه تصديق أبي هريرة لابن عباس في رفعه، وما ذكره ابن عباس من التعليل بنفي الحرج ظاهر في مطلق الجمع.

وجاء مثله عن ابن مسعود قال: جمع النبي صلى الله عليه وسلم بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء فقيل له في ذلك فقال: صنعت هذا لئلا تحرج أمّتي رواه الطبراني، وإرادة نفي الحرج تقدح في حمله على الجمع الصوري لأنّ القصد إليه لا يخلو عن حرج انتهى.

والحديث رواه مسلم عن يحيى عن مالك به وله طرق في الصحيحين.

( مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ إِذَا جَمَعَ الْأُمَرَاءُ) جمع أمير ( بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ فِي الْمَطَرِ جَمَعَ مَعَهُمْ) لأنه مستحب لإدراك فضيلة الجماعة.

( مَالِكٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّهُ سَأَلَ سَالِمَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ هَلْ يُجْمَعُ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ فِي السَّفَرِ؟ فَقَالَ: نَعَمْ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ) أي يجوز بلا كراهة وإن كان الأفضل تركه ( أَلَمْ تَرَ إِلَى صَلَاةِ النَّاسِ بِعَرَفَةَ) بالجمع بين الظهرين جمع تقديم فقاس سالم المختلف فيه على المتفق عليه بجامع أنّ العلة السفر.

وفي مسلم عن جابر أنه صلى الله عليه وسلم جمع بين الظهر والعصر بعرفة في وقت الظهر ولو لم يرد من فعله إلا هذا لكان أدل دليل على جواز جمع التقديم في السفر وإلى جواز الجمع في السفر وإن لم يجدّ به السير ذهب كثير من الصحابة والتابعين والثوري ومالك في رواية مشهورة والشافعي وأحمد وإسحاق وأشهب.

وقال الليث ومالك في المدوّنة: يختص بمن جدّ به السير وقيل يختص بالسائر دون النازل وهو قول ابن حبيب، وقيل بمن له عذر، وقيل يجوز التأخير لا التقديم، وروي عن مالك وأحمد واختاره ابن حزم وقال قوم: لا يجوز الجمع مطلقًا إلا بعرفة ومزدلفة وهو قول الحسن والنخعي وأبي حنيفة وصاحبيه، وقول النووي أنهما خالفاه ردّه عليه السروجي في شرح الهداية وهو أعرف بمذهبه.
وأجابوا عن الأحاديث بأنه جمع صوري وتقدّم ردّه.

قال إمام الحرمين: ثبت في الجمع أحاديث نصوص لا يتطرق إليها تأويل ودليله من حيث المعنى الاستنباط من الجمع بعرفة ومزدلفة فإن سببه احتياج الحاج إليه لاشتغالهم بمناسكهم، وهذا المعنى موجود في كل الأسفار ولم تتقيد الرخص كالقصر والفطر بالنسك إلى أن قال: ولا يخفى على منصف أن الجمع أرفق من القصر فإن القائم إلى الصلاة لا يشق عليه ركعتان يضمهما إلى ركعتيه ورفق الجمع بمن جدّ به السير.

( مَالِكٍ أَنَّهُ بَلَغَهُ عَنْ عَلِيِّ) زين العابدين ( بْنِ حُسَيْنٍ) بن علي بن أبي طالب ( أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَسِيرَ يَوْمَهُ جَمَعَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ) جمع تقديم إن سار بعد الزوال وتأخير إن سار قبله ( وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَسِيرَ لَيْلَهُ جَمَعَ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ) قال ابن عبد البر: هذا حديث يتصل من رواية مالك من حديث معاذ بن جبل وابن عمر معناه وهو عند جماعة من أصحابه مسند.



رقم الحديث 338 وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ إِذَا جَمَعَ الْأُمَرَاءُ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ فِي الْمَطَرِ، جَمَعَ مَعَهُمْ.


الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ فِي الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ

( مالِكٍ عَنْ دَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ) بمهملتين مصغر المدني ثقة لم تثبت عنه بدعة ( عَنِ الْأَعْرَجِ) عبد الرحمن بن هرمز ثقة من خيار التابعين مات سنة سبع عشرة ومائة بالإسكندرية ( عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) هكذا روي عن يحيى مسندًا وروي عنه مرسلاً كجمهور رواة الموطأ قاله ابن عبد البر في التقصي.
وقال في تمهيده رواه أصحاب مالك مرسلاً إلا أبا مصعب في غير الموطأ ومحمد بن المبارك الصوري ومحمد بن خالد وإسماعيل بن داود فقالوا عن أبي هريرة، وذكره أحمد بن خالد عن يحيى مسندًا، وإنما وجدناه عند شيوخنا مرسلاً في نسخة يحيى وروايته ويمكن أن ابن وضاح طرح أبا هريرة من روايته عن يحيى لأنه رأى ابن القاسم وغيره ممن انتهت إليه روايته للموطأ قد أرسل الحديث، فظن أن رواية يحيى غلط لم يتابع عليه فرمى أبا هريرة، وأرسل الحديث إن صح قول ابن خالد وإلاّ فهو وهم منه.

( أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَجْمَعُ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ فِي سَفَرِهِ إِلَى تَبُوكَ) جمع تقديم إن ارتحل بعد زوال الشمس وجمع تأخير إن ارتحل قبل الزوال على ما روى أبو داود وغيره عن معاذ ولم يذكر المغرب والعشاء وهو محفوظ من حديث معاذ وغيره كما في الحديث التالي.

( مالِكٍ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ) محمد بن مسلم بن تدرس بفتح الفوقية وسكون المهملة وضم الراء الأسدي مولاهم ( الْمَكِّيِّ) صدوق روى له الجميع وله في الموطأ ثمانية أحاديث ومات سنة ست أو ثمان وعشرين ومائة ( عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ) بضم الطاء المهملة وفتح الفاء ( عَامِرِ بْنِ وَاثِلَةَ) بمثلثة ابن عبد الله بن عمرو الليثي وربما سمي عمر ولد عام إحدى عشر ورأى النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عن أبي بكر فمن بعده وعمر إلى أن مات سنة عشر ومائة على الصحيح وهو آخر من مات من الصحابة قاله مسلم وغيره.

( أَنَّ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ) بن عمرو بن أوس الأنصاري الخزرجي مشهور من أعيان الصحابة شهد بدرًا وما بعدها وكان إليه المنتهى في العلم بالأحكام والقرآن مات بالشام سنة ثماني عشرة ( أَخْبَرَهُ أَنَّهُمْ) أي الصحابة ( خَرَجُوا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ تَبُوكَ) بمنع الصرف لوزن الفعل كتقول ( فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجْمَعُ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَالْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ) أي جمع تأخير كذا حمله الباجي.

وروى أبو داود والترمذي وأحمد وابن حبان من طريق الليث عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي الطفيل عن معاذ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في غزوة تبوك إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس أخر الظهر حتى يجمعها إلى العصر فيصليهما جميعًا وإذا ارتحل بعد زيغ الشمس صلى الظهر والعصر جميعًا، لكن أعله جماعة من أئمة الحديث بتفرّد قتيبة به عن الليث، بل ذكر البخاري أن بعض الضعفاء أدخله على قتيبة حكاه الحاكم في علوم الحديث.
وله طريق أخرى عن أبي داود من رواية هشام بن سعد عن أبي الزبير عن أبي الطفيل عن معاذ وهشام مختلف فيه وقد خالفه الحفاظ من أصحاب أبي الزبير كمالك وسفيان الثوري وقرّة بن خالد وغيرهم فلم يذكروا في روايتهم جمع التقديم، وبه احتج من أبى جمع التقديم.

وجاء فيه حديث آخر عند أحمد عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا زاغت الشمس في منزله جمع بين الظهر والعصر قبل أن يركب، وإذا لم تزغ في منزله ركب حتى إذا كان العصر نزل فجمع بين الظهر والعصر وفيه راوٍ ضعيف، لكن له شاهد عند ابن عباس لا أعلمه إلا مرفوعًا نحوه رواه البيهقي برجال ثقات إلا أنه مشكوك في رفعه والمحفوظ وقفه، ورواه البيهقي أيضًا من وجه بالجزم بأنه موقوف على ابن عباس، وقد قال أبو داود ليس في تقديم الوقت حديث قائم.

( قَالَ: فَأَخَّرَ الصَّلَاةَ يَوْمًا ثُمَّ خَرَجَ فَصَلَّى الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ جَمِيعًا) جمع تأخير وحمله بعضهم على الجمع الصوري بأن صلى الظهر في آخر وقتها والعصر في أوّله.
وتعقبه الخطابي وابن عبد البر وغيرهما بأن الجمع رخصة فلو كان صوريًا لكان أعظم ضيقًا من الإتيان بكل صلاة في وقتها لأن أوائل الأوقات وأواخرها مما لا يدركه أكثر الخاصة فضلاً عن العامّة، ومن الدليل على أن الجمع رخصة قول ابن عباس أراد أن لا يحرّج على أمّته رواه مسلم، وأيضًا فصريح الأخبار أن الجمع في وقت إحدى الصلاتين وهو المتبادر إلى الفهم من لفظ الجمع.

( ثُمَّ دَخَلَ ثُمَّ خَرَجَ فَصَلَّى الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ جَمِيعًا) قال الباجي: مقتضاه أنه مقيم غير سائر لأنه إنما يستعمل في الدخول إلى الخباء والخروج منه وهو الغالب إلا أن يريد دخل إلى الطريق مسافرًا، ثم خرج عن الطريق للصلاة ثم دخله للسير وفيه بعد، وكذا نقله عياض واستبعده.
وقال ابن عبد البر: هذا أوضح دليل على ردّ من قال لا يجمع إلا من جدّ به السير وهو قاطع للالتباس اهـ.

ففيه أنّ المسافر له أن يجمع نازلاً وسائرًا وكأنه فعله صلى الله عليه وسلم لبيان الجواز وكان أكثر عادته ما دل عليه حديث أنس في الصحيحين وغيرهما قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس أخر الظهر إلى وقت العصر ثم يجمع بينهما، وإذا زاغت قبل أن يرتحل صلى الظهر ثم ركب، وعند الإسماعيلي، وإذا زالت صلى الظهر والعصر جميعًا ثم ارتحل، وقال الشافعية والمالكية: ترك الجمع للمسافر أفضل وعن مالك رواية بكراهته.
وفي هذه الأحاديث تخصيص حديث الأوقات التي بيّنها جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم وبيّنها النبي للأعرابي بقوله في آخرها الوقت ما بين هذين.

( ثُمَّ قَالَ: إِنَّكُمْ سَتَأْتُونَ غَدًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ) تبركًا وامتثالاً للآية ( عَيْنَ تَبُوكَ) التي بها ففيه دليل على عدم تسميتها بذلك لوقوع هذا القول قبل إتيانها بيوم ( وَإِنَّكُمْ لَنْ تَأْتُوهَا حَتَّى يَضْحَى النَّهَارُ) يرتفع قويًا ( فَمَنْ جَاءَهَا) أي قبلي بدليل قوله ( فَلَا يَمَسَّ مِنْ مَائِهَا شَيْئًا حَتَّى آتِيَ) بالمدّ أجيء قال الباجي: وفيه أنّ للإمام المنع من الأمور العامة كالماء والكلأ للمصلحة ( فَجِئْنَاهَا وَقَدْ سَبَقَنَا إِلَيْهَا رَجُلَانِ وَالْعَيْنُ تَبِضُّ) بصاد مهملة رواه يحيى وجماعة أي تبرق.
ورواه ابن القاسم والقعنبي بمعجمة أي تقطر وتسيل يقال بص الماء وصب على القلب بمعنى والوجهان معًا صحيحان ( بِشَيْءٍ مِنْ مَاءٍ) يشير إلى تقليله اهـ.

وقال أبو عمر: الرواية الصحيحة المشهورة في الموطأ تبض بالضاد المنقوطة وعليها الناس ( فَسَأَلَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَلْ مَسِسْتُمَا) بكسر السين الأولى على الأفصح وتفتح ( مِنْ مَائِهَا شَيْئًا؟ فَقَالَا: نَعَمْ) قال الباجي: لأنهما لم يعلما نهيه أو حملاه على الكراهة أو نسياه إن كانا مؤمنين.
وروى أبو بشر الدولابي أنهما كانا من المنافقين ( فَسَبَّهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

     وَقَالَ  لَهُمَا مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقُولَ)
لنفاقهما أو عمل النهي على الكراهة فإن كانا لم يعلما أو نسيا فكأنه سبهما إذ كانا سببًا لفوات ما أراده من إظهار المعجزة كما يسب الساهي والناسي ويلامان إذا كانا سببًا لفوات محروس عليه اهـ.

( ثُمَّ غَرَفُوا بِأَيْدِيهِمْ مِنَ الْعَيْنِ قَلِيلًا قَلِيلًا) بالتكرار دليلاً على نهاية القلة ( حَتَّى اجْتَمَعَ) الماء الذي غرفوه ( فِي شَيْءٍ) من الأواني التي كانت معهم ولا قلب فيه، وإنّ أصله غرفوا في شيء حتى اجتمع ماء كثير كما توهم ( ثُمَّ غَسَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ) أي الشيء أي الإناء ( وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ) للبركة، والأظهر أنّ ضمير فيه للماء أي به وعبر بفي لمشاكلة قوله ( ثُمَّ أَعَادَهُ فِيهَا فَجَرَتِ الْعَيْنُ بِمَاءٍ كَثِيرٍ) وفي مسلم بماء منهمر أو قال غزير شك أبو علي أي راويه عن مالك ( فَاسْتَقَى النَّاسُ) شربوا وسقوا دوابهم فهو إخبار عن كثرة الماء وهم جيش كثير عددهم.

( ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يُوشِكُ) يقرب ويسرع من غير بطء ( يَا مُعَاذُ إِنْ طَالَتْ بِكَ حَيَاةٌ) أي إن أطال الله عمرك ورأيت هذا المكان ( أَنْ تَرَى) بعينك فاعل يوشك وأن بالفتح مصدرية ( مَا) موصول أي الذي ( هَاهُنَا) إشارة للمكان ( قَدْ مُلِئَ) بالبناء للمفعول ونائبه الضمير أي هو ( جِنَانًا) نصب على التمييز بكسر الجيم جمع جنة بفتحها أي يكثر ماؤه ويخصب أرضه فيكون بساتين ذات أشجار كثيرة وثمار.

قال الباجي: وهذا إخبار بغيب قد وقع وخص معاذًا بذلك لأنه استوطن الشام وبها مات، فعلم صلى الله عليه وسلم بالوحي أنه سيرى ذلك الموضع كما ذكر، وأنه يمتلئ جنانًا ببركته صلى الله عليه وسلم ولو لم يكن له معجزة غير هذه لتبين صدقه وظهرت حجته.

وقال ابن عبد البر: قال ابن وضاح: أنا رأيت ذلك الموضع كله حوالي تلك العين جنانًا خضرة نضرة، ولعله يتمادى إلى قيام الساعة وهكذا النبوّة وأما الشجر فلا يبقى بعد مفارقة صاحبه اهـ.

وهذا الحديث أخرجه مسلم في فضائل النبي صلى الله عليه وسلم، حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي قال: حدثنا أبو علي الحنفي قال: حدثنا مالك به سوى الشك الذي ذكرته.

( مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا عَجِلَ) بفتح العين وكسر الجيم أسرع وحضر ( بِهِ السَّيْرُ) ونسبة الفعل إلى السير مجاز وتوسع ( يَجْمَعُ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ) جمع تأخير ففي الصحيح من رواية الزهري عن سالم عن أبيه رأيت النبي صلى الله عليه وسلم إذا أعجله السير في السفر يؤخر المغرب حتى يجمع بينها وبين العشاء، وتعلق به من اشترط في الجمع الجد في السير، ورده ابن عبد البر بأنه إنما حكى الحال التي رأى ولم يقل لا يجمع إلا أن يجد به فلا يعارض حديث معاذ قبله، ولم يعين غاية التأخير وبينه مسلم من طريق عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر بأنه بعد أن يغيب الشفق، ولعبد الرزاق عن معمر عن أيوب وموسى بن عقبة عن نافع فأخر المغرب بعد ذهاب الشفق حتى ذهب هويّ من الليل، وللبخاري في الجهاد من طريق أسلم عن ابن عمر: حتى كان بعد غروب الشفق نزل فصلى المغرب والعشاء جمع بينهما، ولأبي داود من رواية ربيعة عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر في هذه القصة فسار حتى غاب الشفق وتصوّبت النجوم نزل فصلى الصلاتين جميعًا.
وجاءت رواية أخرى عن ابن عمر أنه صلى المغرب في آخر الشفق ثم أقام الصلاة وقد توارى الشفق فصلى العشاء أخرجه أبو داود من طريق عبد الرحمن بن يزيد بن جابر عن نافع ولا تعارض بينه وبين ما سبق لأنه كان في واقعة أخرى.

وهذا الحديث رواه مسلم عن يحيى عن مالك به، وتابعه عبيد الله عن نافع بنحوه في مسلم وهو في الصحيحين من طريق الزهري عن سالم عن أبيه بنحوه.

( مَالِكٍ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ) محمد بن مسلم ( الْمَكِّيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ) بضم الجيم مصغر ( عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ جَمِيعًا وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ جَمِيعًا فِي غَيْرِ خَوْفٍ وَلَا سَفَرٍ.
قَالَ مَالِكٌ: أُرَى)
بضم الهمزة أي أظن ( ذَلِكَ كَانَ فِي مَطَرٍ) ووافقه على ما ظنه جماعة من أهل المدينة وغيرها منهم الشافعي قاله ابن عبد البر، لكن روى الحديث مسلم وأصحاب السنن من طريق حبيب بن أبي ثابت عن سعيد بن جبير عن ابن عباس بلفظ: من غير خوف ولا مطر، وأجاب البيهقي بأن الأولى رواية الجمهور فهي أولى قال: وقد روينا عن ابن عباس وابن عمر الجمع بالمطر وهو يؤيد التأويل.
وأجاب غيره: بأن المراد ولا مطر كثير أو ولا مطر مستدام فلعله انقطع في أثناء الثانية، وقيل الجمع المذكور للمرض وقوّاه النووي.

قال الحافظ: وفيه نظر لأنه لو جمع له لما صلى معه إلا من به المرض، والظاهر أنه صلى الله عليه وسلم جمع بأصحابه وبه صرح ابن عباس في رواية، وقيل كان في غيم فصلى الظهر، ثم انكشف الغيم فبان أن وقت العصر دخل فصلاها، وأبطله النووي لأنه وإن كان فيه أدنى احتمال في الظهرين فلا احتمال فيه في العشاءين وكأنّ نفيه الاحتمال مبني على أنه ليس للمغرب إلا وقت واحد، والمختار عنده خلافه وهو أن وقتها يمتدّ إلى العشاء فالاحتمال قائم، وقيل الجمع صوري بأن يوقع الظهر آخر وقتها والعصر في أوّل وقتها.

قال النووي: وهو ضعيف أو باطل لأنه مخالف للظاهر مخالفة لا تحتمل، لكن هذا الذي ضعفه استحسنه القرطبي ورجحه قبله إمام الحرمين، ومن القدماء ابن الماجشون والطحاوي، وقوّاه ابن سيد الناس بأنّ أبا الشعثاء راوي الحديث عن ابن عباس قد قال به، وذلك فيما أخرجه الشيخان من طريق ابن عيينة عن عمرو بن دينار فذكر هذا الحديث وزاد قلت: يا أبا الشعثاء أظنه أخر الظهر وعجل العصر وأخر المغرب وعجل العشاء.
قال: وأنا أظنه وراوي الحديث أدرى بالمراد من غيره.

قلت: لكن لم يجزم بذلك ولم يستمرّ عليه، بل جوّز أن يكون الجمع بعذر المطر كما في الصحيح لكن يقوي الجمع الصوري أن طرق الحديث كلها ليس فيها صفة الجمع، فإمّا أن تحمل على مطلقها فيستلزم إخراج الصلاة عن وقتها المحدود بلا عذر، وإما أن تحمل على صفة مخصوصة ولا يستلزم الإخراج ويجمع بها بين مفترق الأحاديث، والجمع الصوري أولى.

وذهب جماعة من الأئمة إلى الأخذ بظاهر الحديث فجوّزوا الجمع في الحضر للحاجة مطلقًا لكن بشرط أن لا يتخذ ذلك عادة وممن قال به ابن سيرين وربيعة وأشهب وابن المنذر والقفال الكبير وجماعة من أصحاب الحديث، واستدل لهم بما في مسلم في هذا الحديث عن سعيد بن جبير فقلت لابن عباس: لم فعل ذلك؟ قال: أراد أن لا يحرج أحدًا من أمّته.

وللنسائي من طريق عمرو بن هرم عن أبي الشعثاء أن ابن عباس صلى بالبصرة الأولى والعصر ليس بينهما شيء والمغرب والعشاء ليس بينهما شيء فعل ذلك من شغل وفيه رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم.

ولمسلم عن عبد الله بن شقيق أن شغل ابن عباس كان بالخطبة وأنه خطب بعد العصر إلى أن بدت النجوم ثم جمع بين المغرب والعشاء، وفيه تصديق أبي هريرة لابن عباس في رفعه، وما ذكره ابن عباس من التعليل بنفي الحرج ظاهر في مطلق الجمع.

وجاء مثله عن ابن مسعود قال: جمع النبي صلى الله عليه وسلم بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء فقيل له في ذلك فقال: صنعت هذا لئلا تحرج أمّتي رواه الطبراني، وإرادة نفي الحرج تقدح في حمله على الجمع الصوري لأنّ القصد إليه لا يخلو عن حرج انتهى.

والحديث رواه مسلم عن يحيى عن مالك به وله طرق في الصحيحين.

( مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ إِذَا جَمَعَ الْأُمَرَاءُ) جمع أمير ( بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ فِي الْمَطَرِ جَمَعَ مَعَهُمْ) لأنه مستحب لإدراك فضيلة الجماعة.

( مَالِكٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّهُ سَأَلَ سَالِمَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ هَلْ يُجْمَعُ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ فِي السَّفَرِ؟ فَقَالَ: نَعَمْ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ) أي يجوز بلا كراهة وإن كان الأفضل تركه ( أَلَمْ تَرَ إِلَى صَلَاةِ النَّاسِ بِعَرَفَةَ) بالجمع بين الظهرين جمع تقديم فقاس سالم المختلف فيه على المتفق عليه بجامع أنّ العلة السفر.

وفي مسلم عن جابر أنه صلى الله عليه وسلم جمع بين الظهر والعصر بعرفة في وقت الظهر ولو لم يرد من فعله إلا هذا لكان أدل دليل على جواز جمع التقديم في السفر وإلى جواز الجمع في السفر وإن لم يجدّ به السير ذهب كثير من الصحابة والتابعين والثوري ومالك في رواية مشهورة والشافعي وأحمد وإسحاق وأشهب.

وقال الليث ومالك في المدوّنة: يختص بمن جدّ به السير وقيل يختص بالسائر دون النازل وهو قول ابن حبيب، وقيل بمن له عذر، وقيل يجوز التأخير لا التقديم، وروي عن مالك وأحمد واختاره ابن حزم وقال قوم: لا يجوز الجمع مطلقًا إلا بعرفة ومزدلفة وهو قول الحسن والنخعي وأبي حنيفة وصاحبيه، وقول النووي أنهما خالفاه ردّه عليه السروجي في شرح الهداية وهو أعرف بمذهبه.
وأجابوا عن الأحاديث بأنه جمع صوري وتقدّم ردّه.

قال إمام الحرمين: ثبت في الجمع أحاديث نصوص لا يتطرق إليها تأويل ودليله من حيث المعنى الاستنباط من الجمع بعرفة ومزدلفة فإن سببه احتياج الحاج إليه لاشتغالهم بمناسكهم، وهذا المعنى موجود في كل الأسفار ولم تتقيد الرخص كالقصر والفطر بالنسك إلى أن قال: ولا يخفى على منصف أن الجمع أرفق من القصر فإن القائم إلى الصلاة لا يشق عليه ركعتان يضمهما إلى ركعتيه ورفق الجمع بمن جدّ به السير.

( مَالِكٍ أَنَّهُ بَلَغَهُ عَنْ عَلِيِّ) زين العابدين ( بْنِ حُسَيْنٍ) بن علي بن أبي طالب ( أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَسِيرَ يَوْمَهُ جَمَعَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ) جمع تقديم إن سار بعد الزوال وتأخير إن سار قبله ( وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَسِيرَ لَيْلَهُ جَمَعَ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ) قال ابن عبد البر: هذا حديث يتصل من رواية مالك من حديث معاذ بن جبل وابن عمر معناه وهو عند جماعة من أصحابه مسند.



رقم الحديث 339 وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَنَّهُ سَأَلَ سَالِمَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ هَلْ يُجْمَعُ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ فِي السَّفَرِ؟ فَقَالَ: نَعَمْ.
لَا بَأْسَ بِذَلِكَ، أَلَمْ تَرَ إِلَى صَلَاةِ النَّاسِ بِعَرَفَةَ.


الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ فِي الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ

( مالِكٍ عَنْ دَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ) بمهملتين مصغر المدني ثقة لم تثبت عنه بدعة ( عَنِ الْأَعْرَجِ) عبد الرحمن بن هرمز ثقة من خيار التابعين مات سنة سبع عشرة ومائة بالإسكندرية ( عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) هكذا روي عن يحيى مسندًا وروي عنه مرسلاً كجمهور رواة الموطأ قاله ابن عبد البر في التقصي.
وقال في تمهيده رواه أصحاب مالك مرسلاً إلا أبا مصعب في غير الموطأ ومحمد بن المبارك الصوري ومحمد بن خالد وإسماعيل بن داود فقالوا عن أبي هريرة، وذكره أحمد بن خالد عن يحيى مسندًا، وإنما وجدناه عند شيوخنا مرسلاً في نسخة يحيى وروايته ويمكن أن ابن وضاح طرح أبا هريرة من روايته عن يحيى لأنه رأى ابن القاسم وغيره ممن انتهت إليه روايته للموطأ قد أرسل الحديث، فظن أن رواية يحيى غلط لم يتابع عليه فرمى أبا هريرة، وأرسل الحديث إن صح قول ابن خالد وإلاّ فهو وهم منه.

( أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَجْمَعُ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ فِي سَفَرِهِ إِلَى تَبُوكَ) جمع تقديم إن ارتحل بعد زوال الشمس وجمع تأخير إن ارتحل قبل الزوال على ما روى أبو داود وغيره عن معاذ ولم يذكر المغرب والعشاء وهو محفوظ من حديث معاذ وغيره كما في الحديث التالي.

( مالِكٍ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ) محمد بن مسلم بن تدرس بفتح الفوقية وسكون المهملة وضم الراء الأسدي مولاهم ( الْمَكِّيِّ) صدوق روى له الجميع وله في الموطأ ثمانية أحاديث ومات سنة ست أو ثمان وعشرين ومائة ( عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ) بضم الطاء المهملة وفتح الفاء ( عَامِرِ بْنِ وَاثِلَةَ) بمثلثة ابن عبد الله بن عمرو الليثي وربما سمي عمر ولد عام إحدى عشر ورأى النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عن أبي بكر فمن بعده وعمر إلى أن مات سنة عشر ومائة على الصحيح وهو آخر من مات من الصحابة قاله مسلم وغيره.

( أَنَّ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ) بن عمرو بن أوس الأنصاري الخزرجي مشهور من أعيان الصحابة شهد بدرًا وما بعدها وكان إليه المنتهى في العلم بالأحكام والقرآن مات بالشام سنة ثماني عشرة ( أَخْبَرَهُ أَنَّهُمْ) أي الصحابة ( خَرَجُوا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ تَبُوكَ) بمنع الصرف لوزن الفعل كتقول ( فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجْمَعُ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَالْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ) أي جمع تأخير كذا حمله الباجي.

وروى أبو داود والترمذي وأحمد وابن حبان من طريق الليث عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي الطفيل عن معاذ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في غزوة تبوك إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس أخر الظهر حتى يجمعها إلى العصر فيصليهما جميعًا وإذا ارتحل بعد زيغ الشمس صلى الظهر والعصر جميعًا، لكن أعله جماعة من أئمة الحديث بتفرّد قتيبة به عن الليث، بل ذكر البخاري أن بعض الضعفاء أدخله على قتيبة حكاه الحاكم في علوم الحديث.
وله طريق أخرى عن أبي داود من رواية هشام بن سعد عن أبي الزبير عن أبي الطفيل عن معاذ وهشام مختلف فيه وقد خالفه الحفاظ من أصحاب أبي الزبير كمالك وسفيان الثوري وقرّة بن خالد وغيرهم فلم يذكروا في روايتهم جمع التقديم، وبه احتج من أبى جمع التقديم.

وجاء فيه حديث آخر عند أحمد عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا زاغت الشمس في منزله جمع بين الظهر والعصر قبل أن يركب، وإذا لم تزغ في منزله ركب حتى إذا كان العصر نزل فجمع بين الظهر والعصر وفيه راوٍ ضعيف، لكن له شاهد عند ابن عباس لا أعلمه إلا مرفوعًا نحوه رواه البيهقي برجال ثقات إلا أنه مشكوك في رفعه والمحفوظ وقفه، ورواه البيهقي أيضًا من وجه بالجزم بأنه موقوف على ابن عباس، وقد قال أبو داود ليس في تقديم الوقت حديث قائم.

( قَالَ: فَأَخَّرَ الصَّلَاةَ يَوْمًا ثُمَّ خَرَجَ فَصَلَّى الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ جَمِيعًا) جمع تأخير وحمله بعضهم على الجمع الصوري بأن صلى الظهر في آخر وقتها والعصر في أوّله.
وتعقبه الخطابي وابن عبد البر وغيرهما بأن الجمع رخصة فلو كان صوريًا لكان أعظم ضيقًا من الإتيان بكل صلاة في وقتها لأن أوائل الأوقات وأواخرها مما لا يدركه أكثر الخاصة فضلاً عن العامّة، ومن الدليل على أن الجمع رخصة قول ابن عباس أراد أن لا يحرّج على أمّته رواه مسلم، وأيضًا فصريح الأخبار أن الجمع في وقت إحدى الصلاتين وهو المتبادر إلى الفهم من لفظ الجمع.

( ثُمَّ دَخَلَ ثُمَّ خَرَجَ فَصَلَّى الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ جَمِيعًا) قال الباجي: مقتضاه أنه مقيم غير سائر لأنه إنما يستعمل في الدخول إلى الخباء والخروج منه وهو الغالب إلا أن يريد دخل إلى الطريق مسافرًا، ثم خرج عن الطريق للصلاة ثم دخله للسير وفيه بعد، وكذا نقله عياض واستبعده.
وقال ابن عبد البر: هذا أوضح دليل على ردّ من قال لا يجمع إلا من جدّ به السير وهو قاطع للالتباس اهـ.

ففيه أنّ المسافر له أن يجمع نازلاً وسائرًا وكأنه فعله صلى الله عليه وسلم لبيان الجواز وكان أكثر عادته ما دل عليه حديث أنس في الصحيحين وغيرهما قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس أخر الظهر إلى وقت العصر ثم يجمع بينهما، وإذا زاغت قبل أن يرتحل صلى الظهر ثم ركب، وعند الإسماعيلي، وإذا زالت صلى الظهر والعصر جميعًا ثم ارتحل، وقال الشافعية والمالكية: ترك الجمع للمسافر أفضل وعن مالك رواية بكراهته.
وفي هذه الأحاديث تخصيص حديث الأوقات التي بيّنها جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم وبيّنها النبي للأعرابي بقوله في آخرها الوقت ما بين هذين.

( ثُمَّ قَالَ: إِنَّكُمْ سَتَأْتُونَ غَدًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ) تبركًا وامتثالاً للآية ( عَيْنَ تَبُوكَ) التي بها ففيه دليل على عدم تسميتها بذلك لوقوع هذا القول قبل إتيانها بيوم ( وَإِنَّكُمْ لَنْ تَأْتُوهَا حَتَّى يَضْحَى النَّهَارُ) يرتفع قويًا ( فَمَنْ جَاءَهَا) أي قبلي بدليل قوله ( فَلَا يَمَسَّ مِنْ مَائِهَا شَيْئًا حَتَّى آتِيَ) بالمدّ أجيء قال الباجي: وفيه أنّ للإمام المنع من الأمور العامة كالماء والكلأ للمصلحة ( فَجِئْنَاهَا وَقَدْ سَبَقَنَا إِلَيْهَا رَجُلَانِ وَالْعَيْنُ تَبِضُّ) بصاد مهملة رواه يحيى وجماعة أي تبرق.
ورواه ابن القاسم والقعنبي بمعجمة أي تقطر وتسيل يقال بص الماء وصب على القلب بمعنى والوجهان معًا صحيحان ( بِشَيْءٍ مِنْ مَاءٍ) يشير إلى تقليله اهـ.

وقال أبو عمر: الرواية الصحيحة المشهورة في الموطأ تبض بالضاد المنقوطة وعليها الناس ( فَسَأَلَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَلْ مَسِسْتُمَا) بكسر السين الأولى على الأفصح وتفتح ( مِنْ مَائِهَا شَيْئًا؟ فَقَالَا: نَعَمْ) قال الباجي: لأنهما لم يعلما نهيه أو حملاه على الكراهة أو نسياه إن كانا مؤمنين.
وروى أبو بشر الدولابي أنهما كانا من المنافقين ( فَسَبَّهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

     وَقَالَ  لَهُمَا مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقُولَ)
لنفاقهما أو عمل النهي على الكراهة فإن كانا لم يعلما أو نسيا فكأنه سبهما إذ كانا سببًا لفوات ما أراده من إظهار المعجزة كما يسب الساهي والناسي ويلامان إذا كانا سببًا لفوات محروس عليه اهـ.

( ثُمَّ غَرَفُوا بِأَيْدِيهِمْ مِنَ الْعَيْنِ قَلِيلًا قَلِيلًا) بالتكرار دليلاً على نهاية القلة ( حَتَّى اجْتَمَعَ) الماء الذي غرفوه ( فِي شَيْءٍ) من الأواني التي كانت معهم ولا قلب فيه، وإنّ أصله غرفوا في شيء حتى اجتمع ماء كثير كما توهم ( ثُمَّ غَسَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ) أي الشيء أي الإناء ( وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ) للبركة، والأظهر أنّ ضمير فيه للماء أي به وعبر بفي لمشاكلة قوله ( ثُمَّ أَعَادَهُ فِيهَا فَجَرَتِ الْعَيْنُ بِمَاءٍ كَثِيرٍ) وفي مسلم بماء منهمر أو قال غزير شك أبو علي أي راويه عن مالك ( فَاسْتَقَى النَّاسُ) شربوا وسقوا دوابهم فهو إخبار عن كثرة الماء وهم جيش كثير عددهم.

( ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يُوشِكُ) يقرب ويسرع من غير بطء ( يَا مُعَاذُ إِنْ طَالَتْ بِكَ حَيَاةٌ) أي إن أطال الله عمرك ورأيت هذا المكان ( أَنْ تَرَى) بعينك فاعل يوشك وأن بالفتح مصدرية ( مَا) موصول أي الذي ( هَاهُنَا) إشارة للمكان ( قَدْ مُلِئَ) بالبناء للمفعول ونائبه الضمير أي هو ( جِنَانًا) نصب على التمييز بكسر الجيم جمع جنة بفتحها أي يكثر ماؤه ويخصب أرضه فيكون بساتين ذات أشجار كثيرة وثمار.

قال الباجي: وهذا إخبار بغيب قد وقع وخص معاذًا بذلك لأنه استوطن الشام وبها مات، فعلم صلى الله عليه وسلم بالوحي أنه سيرى ذلك الموضع كما ذكر، وأنه يمتلئ جنانًا ببركته صلى الله عليه وسلم ولو لم يكن له معجزة غير هذه لتبين صدقه وظهرت حجته.

وقال ابن عبد البر: قال ابن وضاح: أنا رأيت ذلك الموضع كله حوالي تلك العين جنانًا خضرة نضرة، ولعله يتمادى إلى قيام الساعة وهكذا النبوّة وأما الشجر فلا يبقى بعد مفارقة صاحبه اهـ.

وهذا الحديث أخرجه مسلم في فضائل النبي صلى الله عليه وسلم، حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي قال: حدثنا أبو علي الحنفي قال: حدثنا مالك به سوى الشك الذي ذكرته.

( مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا عَجِلَ) بفتح العين وكسر الجيم أسرع وحضر ( بِهِ السَّيْرُ) ونسبة الفعل إلى السير مجاز وتوسع ( يَجْمَعُ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ) جمع تأخير ففي الصحيح من رواية الزهري عن سالم عن أبيه رأيت النبي صلى الله عليه وسلم إذا أعجله السير في السفر يؤخر المغرب حتى يجمع بينها وبين العشاء، وتعلق به من اشترط في الجمع الجد في السير، ورده ابن عبد البر بأنه إنما حكى الحال التي رأى ولم يقل لا يجمع إلا أن يجد به فلا يعارض حديث معاذ قبله، ولم يعين غاية التأخير وبينه مسلم من طريق عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر بأنه بعد أن يغيب الشفق، ولعبد الرزاق عن معمر عن أيوب وموسى بن عقبة عن نافع فأخر المغرب بعد ذهاب الشفق حتى ذهب هويّ من الليل، وللبخاري في الجهاد من طريق أسلم عن ابن عمر: حتى كان بعد غروب الشفق نزل فصلى المغرب والعشاء جمع بينهما، ولأبي داود من رواية ربيعة عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر في هذه القصة فسار حتى غاب الشفق وتصوّبت النجوم نزل فصلى الصلاتين جميعًا.
وجاءت رواية أخرى عن ابن عمر أنه صلى المغرب في آخر الشفق ثم أقام الصلاة وقد توارى الشفق فصلى العشاء أخرجه أبو داود من طريق عبد الرحمن بن يزيد بن جابر عن نافع ولا تعارض بينه وبين ما سبق لأنه كان في واقعة أخرى.

وهذا الحديث رواه مسلم عن يحيى عن مالك به، وتابعه عبيد الله عن نافع بنحوه في مسلم وهو في الصحيحين من طريق الزهري عن سالم عن أبيه بنحوه.

( مَالِكٍ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ) محمد بن مسلم ( الْمَكِّيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ) بضم الجيم مصغر ( عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ جَمِيعًا وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ جَمِيعًا فِي غَيْرِ خَوْفٍ وَلَا سَفَرٍ.
قَالَ مَالِكٌ: أُرَى)
بضم الهمزة أي أظن ( ذَلِكَ كَانَ فِي مَطَرٍ) ووافقه على ما ظنه جماعة من أهل المدينة وغيرها منهم الشافعي قاله ابن عبد البر، لكن روى الحديث مسلم وأصحاب السنن من طريق حبيب بن أبي ثابت عن سعيد بن جبير عن ابن عباس بلفظ: من غير خوف ولا مطر، وأجاب البيهقي بأن الأولى رواية الجمهور فهي أولى قال: وقد روينا عن ابن عباس وابن عمر الجمع بالمطر وهو يؤيد التأويل.
وأجاب غيره: بأن المراد ولا مطر كثير أو ولا مطر مستدام فلعله انقطع في أثناء الثانية، وقيل الجمع المذكور للمرض وقوّاه النووي.

قال الحافظ: وفيه نظر لأنه لو جمع له لما صلى معه إلا من به المرض، والظاهر أنه صلى الله عليه وسلم جمع بأصحابه وبه صرح ابن عباس في رواية، وقيل كان في غيم فصلى الظهر، ثم انكشف الغيم فبان أن وقت العصر دخل فصلاها، وأبطله النووي لأنه وإن كان فيه أدنى احتمال في الظهرين فلا احتمال فيه في العشاءين وكأنّ نفيه الاحتمال مبني على أنه ليس للمغرب إلا وقت واحد، والمختار عنده خلافه وهو أن وقتها يمتدّ إلى العشاء فالاحتمال قائم، وقيل الجمع صوري بأن يوقع الظهر آخر وقتها والعصر في أوّل وقتها.

قال النووي: وهو ضعيف أو باطل لأنه مخالف للظاهر مخالفة لا تحتمل، لكن هذا الذي ضعفه استحسنه القرطبي ورجحه قبله إمام الحرمين، ومن القدماء ابن الماجشون والطحاوي، وقوّاه ابن سيد الناس بأنّ أبا الشعثاء راوي الحديث عن ابن عباس قد قال به، وذلك فيما أخرجه الشيخان من طريق ابن عيينة عن عمرو بن دينار فذكر هذا الحديث وزاد قلت: يا أبا الشعثاء أظنه أخر الظهر وعجل العصر وأخر المغرب وعجل العشاء.
قال: وأنا أظنه وراوي الحديث أدرى بالمراد من غيره.

قلت: لكن لم يجزم بذلك ولم يستمرّ عليه، بل جوّز أن يكون الجمع بعذر المطر كما في الصحيح لكن يقوي الجمع الصوري أن طرق الحديث كلها ليس فيها صفة الجمع، فإمّا أن تحمل على مطلقها فيستلزم إخراج الصلاة عن وقتها المحدود بلا عذر، وإما أن تحمل على صفة مخصوصة ولا يستلزم الإخراج ويجمع بها بين مفترق الأحاديث، والجمع الصوري أولى.

وذهب جماعة من الأئمة إلى الأخذ بظاهر الحديث فجوّزوا الجمع في الحضر للحاجة مطلقًا لكن بشرط أن لا يتخذ ذلك عادة وممن قال به ابن سيرين وربيعة وأشهب وابن المنذر والقفال الكبير وجماعة من أصحاب الحديث، واستدل لهم بما في مسلم في هذا الحديث عن سعيد بن جبير فقلت لابن عباس: لم فعل ذلك؟ قال: أراد أن لا يحرج أحدًا من أمّته.

وللنسائي من طريق عمرو بن هرم عن أبي الشعثاء أن ابن عباس صلى بالبصرة الأولى والعصر ليس بينهما شيء والمغرب والعشاء ليس بينهما شيء فعل ذلك من شغل وفيه رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم.

ولمسلم عن عبد الله بن شقيق أن شغل ابن عباس كان بالخطبة وأنه خطب بعد العصر إلى أن بدت النجوم ثم جمع بين المغرب والعشاء، وفيه تصديق أبي هريرة لابن عباس في رفعه، وما ذكره ابن عباس من التعليل بنفي الحرج ظاهر في مطلق الجمع.

وجاء مثله عن ابن مسعود قال: جمع النبي صلى الله عليه وسلم بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء فقيل له في ذلك فقال: صنعت هذا لئلا تحرج أمّتي رواه الطبراني، وإرادة نفي الحرج تقدح في حمله على الجمع الصوري لأنّ القصد إليه لا يخلو عن حرج انتهى.

والحديث رواه مسلم عن يحيى عن مالك به وله طرق في الصحيحين.

( مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ إِذَا جَمَعَ الْأُمَرَاءُ) جمع أمير ( بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ فِي الْمَطَرِ جَمَعَ مَعَهُمْ) لأنه مستحب لإدراك فضيلة الجماعة.

( مَالِكٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّهُ سَأَلَ سَالِمَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ هَلْ يُجْمَعُ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ فِي السَّفَرِ؟ فَقَالَ: نَعَمْ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ) أي يجوز بلا كراهة وإن كان الأفضل تركه ( أَلَمْ تَرَ إِلَى صَلَاةِ النَّاسِ بِعَرَفَةَ) بالجمع بين الظهرين جمع تقديم فقاس سالم المختلف فيه على المتفق عليه بجامع أنّ العلة السفر.

وفي مسلم عن جابر أنه صلى الله عليه وسلم جمع بين الظهر والعصر بعرفة في وقت الظهر ولو لم يرد من فعله إلا هذا لكان أدل دليل على جواز جمع التقديم في السفر وإلى جواز الجمع في السفر وإن لم يجدّ به السير ذهب كثير من الصحابة والتابعين والثوري ومالك في رواية مشهورة والشافعي وأحمد وإسحاق وأشهب.

وقال الليث ومالك في المدوّنة: يختص بمن جدّ به السير وقيل يختص بالسائر دون النازل وهو قول ابن حبيب، وقيل بمن له عذر، وقيل يجوز التأخير لا التقديم، وروي عن مالك وأحمد واختاره ابن حزم وقال قوم: لا يجوز الجمع مطلقًا إلا بعرفة ومزدلفة وهو قول الحسن والنخعي وأبي حنيفة وصاحبيه، وقول النووي أنهما خالفاه ردّه عليه السروجي في شرح الهداية وهو أعرف بمذهبه.
وأجابوا عن الأحاديث بأنه جمع صوري وتقدّم ردّه.

قال إمام الحرمين: ثبت في الجمع أحاديث نصوص لا يتطرق إليها تأويل ودليله من حيث المعنى الاستنباط من الجمع بعرفة ومزدلفة فإن سببه احتياج الحاج إليه لاشتغالهم بمناسكهم، وهذا المعنى موجود في كل الأسفار ولم تتقيد الرخص كالقصر والفطر بالنسك إلى أن قال: ولا يخفى على منصف أن الجمع أرفق من القصر فإن القائم إلى الصلاة لا يشق عليه ركعتان يضمهما إلى ركعتيه ورفق الجمع بمن جدّ به السير.

( مَالِكٍ أَنَّهُ بَلَغَهُ عَنْ عَلِيِّ) زين العابدين ( بْنِ حُسَيْنٍ) بن علي بن أبي طالب ( أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَسِيرَ يَوْمَهُ جَمَعَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ) جمع تقديم إن سار بعد الزوال وتأخير إن سار قبله ( وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَسِيرَ لَيْلَهُ جَمَعَ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ) قال ابن عبد البر: هذا حديث يتصل من رواية مالك من حديث معاذ بن جبل وابن عمر معناه وهو عند جماعة من أصحابه مسند.



رقم الحديث 339 وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ يَقْصُرُ الصَّلَاةَ فِي مَسِيرِهِ الْيَوْمَ التَّامَّ.


( مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ إِذَا خَرَجَ حَاجًّا أَوْ مُعْتَمِرًا قَصَرَ الصَّلَاةَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ) قال الباجي: خص سفره بهما لأنهما مما لا خلاف في القصر فيه.
وقال أبو عمر: كان ابن عمر يتبرك بالمواضع التي كان صلى الله عليه وسلم ينزلها ويمتثل فعله بكل ما يمكنه، ولما علم أنه صلى الله عليه وسلم قصر العصر بذي الحليفة حين خرج في حجة الوداع فعل مثله وأما سفر ابن عمر في غير الحج والعمرة فكان يقصر إذا خرج من بيوت المدينة ويقصر إذا رجع حتى يدخل بيوتها كما رواه عنه نافع أيضًا.

( مَالِكٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ رَكِبَ إِلَى رِيمٍ) بكسر الراء وإسكان التحتية وميم ( فَقَصَرَ الصَّلَاةَ فِي مَسِيرِهِ ذَلِكَ.
قَالَ مَالِكٌ: وَذَلِكَ نَحْوٌ مِنْ أَرْبَعَةِ بُرُدٍ)
من المدينة.
ولعبد الرزاق عن مالك ثلاثون ميلاً من المدينة، قال ابن عبد البر: وأراها وهمًا بخلاف ما في الموطأ، ورواه عقيل عن ابن شهاب وقال: هي ثلاثون فيحتمل أن ريم موضع متسع كالإقليم فيكون تقدير مالك عند آخره وعقيل عند أوّله وقال بعض شعراء المدينة:

فكم من حرّة بين المنقى
إلى أحد إلى جنبات ريم

فقال: جنبات وربما كانت بعيدة الأقطار.

( مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رَكِبَ إِلَى ذَاتِ النُّصُبِ) بضم النون موضع قرب المدينة ( فَقَصَرَ الصَّلَاةَ فِي مَسِيرِهِ ذَلِكَ.
قَالَ مَالِكٌ: وَبَيْنَ ذَاتِ النُّصُبِ وَالْمَدِينَةِ أَرْبَعَةُ بُرُدٍ)
وكذا رواه الشافعي عن مالك، ورواه عبد الرزاق عن مالك فقال بينهما ثمانية عشر ميلاً.

( مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يُسَافِرُ إِلَى خَيْبَرَ فَيَقْصُرُ الصَّلَاةَ) بضم الصاد وبين خيبر والمدينة ستة وتسعون ميلاً، وروى عبد الرزاق عن ابن جريج عن نافع أن ابن عمر كان أدنى ما يقصر الصلاة فيه مال له بخيبر.
قال ابن عبد البر ومالك: أثبت في نافع من ابن جريج فالمقدّمون في حفظ حديث نافع مالك وعبيد الله بن عمر وأيوب، وأما ابن جريج فبعد هؤلاء.

( مَالِكٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ يَقْصُرُ الصَّلَاةَ فِي مَسِيرِهِ الْيَوْمَ التَّامَّ) وتقدير ذلك بالسير الحثيث نحو أربعة برد قاله ابن عبد البر.
وقال ابن المواز: معناه في الصيف وجد السير.

( مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ أَنَّهُ كَانَ يُسَافِرُ مَعَ ابْنِ عُمَرَ الْبَرِيدَ فَلَا يَقْصُرُ الصَّلَاةَ) قال الباجي: سمي الخروج إلى البريد ونحوه سفرًا مجازًا واتساعًا ولا يطلق عليه اسم السفر حقيقة في كلام العرب، ولا يفهم من قولهم سافر فلان الخروج إلى الميلين والثلاثة مع أنّ هذا لفظ نافع وليس من العرب، وروي أنه كان في نطقه لكنة.

( مَالِكٍ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ كَانَ يَقْصُرُ الصَّلَاةَ فِي مِثْلِ مَا بَيْنَ مَكَّةَ وَالطَّائِفِ) وبينهما ثلاثة مراحل أو اثنان ( وَفِي مِثْلِ مَا بَيْنَ مَكَّةَ وَعُسْفَانَ) وبينهما ثلاثة مراحل ونونه زائدة ويذكر ويؤنث ( وَفِي مِثْلِ مَا بَيْنَ مَكَّةَ وَجُدَّةَ) بضم الجيم ساحل البحر بمكة.
قال الباجي: أكثر مالك من ذكر أفعال الصحابة لما لم يصح عنده في ذلك توقيف عن النبي صلى الله عليه وسلم انتهى.

( قَالَ مَالِكٌ: وَذَلِكَ) المذكور من هذه الأماكن ( أَرْبَعَةُ بُرُدٍ) قال الحافظ: روي عن ابن عباس مرفوعًا أخرجه الدارقطني وابن أبي شيبة من طريق عبد الوهاب عن مجاهد عن أبيه وعطاء عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يا أهل مكة لا تقصروا الصلاة في أدنى من أربعة برد من مكة إلى عسفان.
وإسناده ضعيف من أجل عبد الوهاب.

وروى عبد الرزاق عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس قال: لا تقصر الصلاة إلا في اليوم ولا تقصر فيما دون اليوم.
ولابن أبي شيبة من وجه آخر صحيح عنه قال: تقصر الصلاة في مسير يوم وليلة، ويمكن الجمع بين هذه الروايات بأن مسافة برد يمكن سيرها في يوم واحد.

( وَذَلِكَ أَحَبُّ مَا تُقْصَرُ إِلَيَّ فِيهِ الصَّلَاةُ) من الأقوال المنتشرة إلى نحو عشرين قولاً فأحب عائد لاختياره يعني أنه لا يقصر في أقل منها وهي ستة عشر فرسخًا ثمانية وأربعون ميلاً، وإلى هذا ذهب الشافعي وأحمد وجماعة وعن مالك مسيرة يوم وليلة.
قال ابن القاسم: رجع عنه.
قال عبد الوهاب: وهو وفاق فإنما رجع عن التحديد بيوم وليلة إلى لفظ أبين منه، وقال أبو حنيفة: لا تقصر في أقل من ثلاثة أيام لحديث الصحيحين: لا تسافر المرأة ثلاثة أيام إلا مع ذي محرم.

وأجيب: بأنه لم يسق لبيان مسافة القصر بل لنهي المرأة عن الخروج وحدها، ولذا اختلفت ألفاظه فروي يومًا وليلة ومسيرة يومين وبريدًا وأيد بأنّ الحكم في نهي المرأة عن السفر وحدها متعلق بالزمان فلو قطعت مسيرة ساعة واحدة في يوم لتعلق بها النهي بخلاف المسافر لو قطع مسيرة نصف يوم في يومين مثلاً لم يقصر فافترقا على أن تمسك الحنفية بالحديث مخالف لقاعدتهم أنّ الاعتبار برأي الصحابي لا بما روي، فلو كان الحديث عنه لبيان أقل مسافة القصر لما خالفه وقصر في مسير اليوم التام.

وقالت طائفة من أهل الظاهر: يقصر في كل سفر ولو ثلاثة أميال لظاهر قوله تعالى: { { وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ } } ولم يحدّ المسافة وروى مسلم وأبو داود عن أنس كان صلى الله عليه وسلم إذا خرج مسيرة ثلاثة أميال أو ثلاثة فراسخ قصر الصلاة وهو أصح ما ورد في بيان ذلك وأصرحه، وقد حمله من خالفه على أنّ المراد به المسافة التي يبتدأ منها القصر لا غاية السفر.

قال الحافظ: ولا يخفى بعد هذا الحمل مع أنّ البيهقي روى أنّ يحيى بن يزيد قال: سألت أنسًا عن قصر الصلاة وكنت أخرج إلى الكوفة يعني من البصرة فأصلي ركعتين ركعتين حتى أرجع فقال أنس: فذكر الحديث فظهر أنه سأله عن جواز القصر في السفر لا عن الموضع الذي يبتدأ منه القصر، ثم الصحيح أنه لا يتقيد بمسافة بل بمجاوزة البلد الذي يخرج منه.
وردّه القرطبي بأنه مشكوك فيه فلا يحتج به فإن أراد لا يحتج به في التحديد بثلاثة أميال فمسلم لكن لا يمتنع أن يحتج به في التحديد بثلاثة فراسخ فإنّ الثلاثة أميال مندرجة فيها فيؤخذ بالأكثر احتياطًا.

( قَالَ مَالِكٌ: لَا يَقْصُرُ الَّذِي يُرِيدُ السَّفَرَ الصَّلَاةَ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ بُيُوتِ الْقَرْيَةِ) كلها وهذا مجمع عليه واختلف فيما قبل الخروج من البيوت فعن بعض السلف إذا أراد السفر قصر ولو في بيته وردّه ابن المنذر بأنه لا يعلم أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قصر في شيء من أسفاره إلا بعد خروجه عن المدينة.

وحديث الصحيحين عن أنس: صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم الظهر بالمدينة أربعًا والعصر بذي الحليفة ركعتين دليل على ذلك، ولا دلالة فيه على القصر في السفر القصير لأن بين ذي الحليفة والمدينة ستة أميال لأنها لم تكن منتهى سفره، بل كان ذلك لخروجه لحجة الوداع فنزل بها فقصر العصر واستمرّ يقصر حتى رجع ( وَلَا يُتِمُّ حَتَّى يَدْخُلَ أَوَّلَ بُيُوتِ الْقَرْيَةِ أَوْ يُقَارِبَ ذَلِكَ) وكذا رواه ابن القاسم في المدّونة، وروى علي في المجموعة عن مالك حتى يدخل منزله، وروى مطرف وابن الماجشون يقصر إلى الموضع الذي يقصر منه عند خروجه.



رقم الحديث 340 وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ بَلَغَهُ عَنْ عَلِيِّ بْنِ حُسَيْنٍ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَسِيرَ يَوْمَهُ جَمَعَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ، وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَسِيرَ لَيْلَهُ جَمَعَ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ.


الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ فِي الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ

( مالِكٍ عَنْ دَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ) بمهملتين مصغر المدني ثقة لم تثبت عنه بدعة ( عَنِ الْأَعْرَجِ) عبد الرحمن بن هرمز ثقة من خيار التابعين مات سنة سبع عشرة ومائة بالإسكندرية ( عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) هكذا روي عن يحيى مسندًا وروي عنه مرسلاً كجمهور رواة الموطأ قاله ابن عبد البر في التقصي.
وقال في تمهيده رواه أصحاب مالك مرسلاً إلا أبا مصعب في غير الموطأ ومحمد بن المبارك الصوري ومحمد بن خالد وإسماعيل بن داود فقالوا عن أبي هريرة، وذكره أحمد بن خالد عن يحيى مسندًا، وإنما وجدناه عند شيوخنا مرسلاً في نسخة يحيى وروايته ويمكن أن ابن وضاح طرح أبا هريرة من روايته عن يحيى لأنه رأى ابن القاسم وغيره ممن انتهت إليه روايته للموطأ قد أرسل الحديث، فظن أن رواية يحيى غلط لم يتابع عليه فرمى أبا هريرة، وأرسل الحديث إن صح قول ابن خالد وإلاّ فهو وهم منه.

( أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَجْمَعُ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ فِي سَفَرِهِ إِلَى تَبُوكَ) جمع تقديم إن ارتحل بعد زوال الشمس وجمع تأخير إن ارتحل قبل الزوال على ما روى أبو داود وغيره عن معاذ ولم يذكر المغرب والعشاء وهو محفوظ من حديث معاذ وغيره كما في الحديث التالي.

( مالِكٍ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ) محمد بن مسلم بن تدرس بفتح الفوقية وسكون المهملة وضم الراء الأسدي مولاهم ( الْمَكِّيِّ) صدوق روى له الجميع وله في الموطأ ثمانية أحاديث ومات سنة ست أو ثمان وعشرين ومائة ( عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ) بضم الطاء المهملة وفتح الفاء ( عَامِرِ بْنِ وَاثِلَةَ) بمثلثة ابن عبد الله بن عمرو الليثي وربما سمي عمر ولد عام إحدى عشر ورأى النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عن أبي بكر فمن بعده وعمر إلى أن مات سنة عشر ومائة على الصحيح وهو آخر من مات من الصحابة قاله مسلم وغيره.

( أَنَّ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ) بن عمرو بن أوس الأنصاري الخزرجي مشهور من أعيان الصحابة شهد بدرًا وما بعدها وكان إليه المنتهى في العلم بالأحكام والقرآن مات بالشام سنة ثماني عشرة ( أَخْبَرَهُ أَنَّهُمْ) أي الصحابة ( خَرَجُوا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ تَبُوكَ) بمنع الصرف لوزن الفعل كتقول ( فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجْمَعُ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَالْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ) أي جمع تأخير كذا حمله الباجي.

وروى أبو داود والترمذي وأحمد وابن حبان من طريق الليث عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي الطفيل عن معاذ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في غزوة تبوك إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس أخر الظهر حتى يجمعها إلى العصر فيصليهما جميعًا وإذا ارتحل بعد زيغ الشمس صلى الظهر والعصر جميعًا، لكن أعله جماعة من أئمة الحديث بتفرّد قتيبة به عن الليث، بل ذكر البخاري أن بعض الضعفاء أدخله على قتيبة حكاه الحاكم في علوم الحديث.
وله طريق أخرى عن أبي داود من رواية هشام بن سعد عن أبي الزبير عن أبي الطفيل عن معاذ وهشام مختلف فيه وقد خالفه الحفاظ من أصحاب أبي الزبير كمالك وسفيان الثوري وقرّة بن خالد وغيرهم فلم يذكروا في روايتهم جمع التقديم، وبه احتج من أبى جمع التقديم.

وجاء فيه حديث آخر عند أحمد عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا زاغت الشمس في منزله جمع بين الظهر والعصر قبل أن يركب، وإذا لم تزغ في منزله ركب حتى إذا كان العصر نزل فجمع بين الظهر والعصر وفيه راوٍ ضعيف، لكن له شاهد عند ابن عباس لا أعلمه إلا مرفوعًا نحوه رواه البيهقي برجال ثقات إلا أنه مشكوك في رفعه والمحفوظ وقفه، ورواه البيهقي أيضًا من وجه بالجزم بأنه موقوف على ابن عباس، وقد قال أبو داود ليس في تقديم الوقت حديث قائم.

( قَالَ: فَأَخَّرَ الصَّلَاةَ يَوْمًا ثُمَّ خَرَجَ فَصَلَّى الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ جَمِيعًا) جمع تأخير وحمله بعضهم على الجمع الصوري بأن صلى الظهر في آخر وقتها والعصر في أوّله.
وتعقبه الخطابي وابن عبد البر وغيرهما بأن الجمع رخصة فلو كان صوريًا لكان أعظم ضيقًا من الإتيان بكل صلاة في وقتها لأن أوائل الأوقات وأواخرها مما لا يدركه أكثر الخاصة فضلاً عن العامّة، ومن الدليل على أن الجمع رخصة قول ابن عباس أراد أن لا يحرّج على أمّته رواه مسلم، وأيضًا فصريح الأخبار أن الجمع في وقت إحدى الصلاتين وهو المتبادر إلى الفهم من لفظ الجمع.

( ثُمَّ دَخَلَ ثُمَّ خَرَجَ فَصَلَّى الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ جَمِيعًا) قال الباجي: مقتضاه أنه مقيم غير سائر لأنه إنما يستعمل في الدخول إلى الخباء والخروج منه وهو الغالب إلا أن يريد دخل إلى الطريق مسافرًا، ثم خرج عن الطريق للصلاة ثم دخله للسير وفيه بعد، وكذا نقله عياض واستبعده.
وقال ابن عبد البر: هذا أوضح دليل على ردّ من قال لا يجمع إلا من جدّ به السير وهو قاطع للالتباس اهـ.

ففيه أنّ المسافر له أن يجمع نازلاً وسائرًا وكأنه فعله صلى الله عليه وسلم لبيان الجواز وكان أكثر عادته ما دل عليه حديث أنس في الصحيحين وغيرهما قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس أخر الظهر إلى وقت العصر ثم يجمع بينهما، وإذا زاغت قبل أن يرتحل صلى الظهر ثم ركب، وعند الإسماعيلي، وإذا زالت صلى الظهر والعصر جميعًا ثم ارتحل، وقال الشافعية والمالكية: ترك الجمع للمسافر أفضل وعن مالك رواية بكراهته.
وفي هذه الأحاديث تخصيص حديث الأوقات التي بيّنها جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم وبيّنها النبي للأعرابي بقوله في آخرها الوقت ما بين هذين.

( ثُمَّ قَالَ: إِنَّكُمْ سَتَأْتُونَ غَدًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ) تبركًا وامتثالاً للآية ( عَيْنَ تَبُوكَ) التي بها ففيه دليل على عدم تسميتها بذلك لوقوع هذا القول قبل إتيانها بيوم ( وَإِنَّكُمْ لَنْ تَأْتُوهَا حَتَّى يَضْحَى النَّهَارُ) يرتفع قويًا ( فَمَنْ جَاءَهَا) أي قبلي بدليل قوله ( فَلَا يَمَسَّ مِنْ مَائِهَا شَيْئًا حَتَّى آتِيَ) بالمدّ أجيء قال الباجي: وفيه أنّ للإمام المنع من الأمور العامة كالماء والكلأ للمصلحة ( فَجِئْنَاهَا وَقَدْ سَبَقَنَا إِلَيْهَا رَجُلَانِ وَالْعَيْنُ تَبِضُّ) بصاد مهملة رواه يحيى وجماعة أي تبرق.
ورواه ابن القاسم والقعنبي بمعجمة أي تقطر وتسيل يقال بص الماء وصب على القلب بمعنى والوجهان معًا صحيحان ( بِشَيْءٍ مِنْ مَاءٍ) يشير إلى تقليله اهـ.

وقال أبو عمر: الرواية الصحيحة المشهورة في الموطأ تبض بالضاد المنقوطة وعليها الناس ( فَسَأَلَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَلْ مَسِسْتُمَا) بكسر السين الأولى على الأفصح وتفتح ( مِنْ مَائِهَا شَيْئًا؟ فَقَالَا: نَعَمْ) قال الباجي: لأنهما لم يعلما نهيه أو حملاه على الكراهة أو نسياه إن كانا مؤمنين.
وروى أبو بشر الدولابي أنهما كانا من المنافقين ( فَسَبَّهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

     وَقَالَ  لَهُمَا مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقُولَ)
لنفاقهما أو عمل النهي على الكراهة فإن كانا لم يعلما أو نسيا فكأنه سبهما إذ كانا سببًا لفوات ما أراده من إظهار المعجزة كما يسب الساهي والناسي ويلامان إذا كانا سببًا لفوات محروس عليه اهـ.

( ثُمَّ غَرَفُوا بِأَيْدِيهِمْ مِنَ الْعَيْنِ قَلِيلًا قَلِيلًا) بالتكرار دليلاً على نهاية القلة ( حَتَّى اجْتَمَعَ) الماء الذي غرفوه ( فِي شَيْءٍ) من الأواني التي كانت معهم ولا قلب فيه، وإنّ أصله غرفوا في شيء حتى اجتمع ماء كثير كما توهم ( ثُمَّ غَسَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ) أي الشيء أي الإناء ( وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ) للبركة، والأظهر أنّ ضمير فيه للماء أي به وعبر بفي لمشاكلة قوله ( ثُمَّ أَعَادَهُ فِيهَا فَجَرَتِ الْعَيْنُ بِمَاءٍ كَثِيرٍ) وفي مسلم بماء منهمر أو قال غزير شك أبو علي أي راويه عن مالك ( فَاسْتَقَى النَّاسُ) شربوا وسقوا دوابهم فهو إخبار عن كثرة الماء وهم جيش كثير عددهم.

( ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يُوشِكُ) يقرب ويسرع من غير بطء ( يَا مُعَاذُ إِنْ طَالَتْ بِكَ حَيَاةٌ) أي إن أطال الله عمرك ورأيت هذا المكان ( أَنْ تَرَى) بعينك فاعل يوشك وأن بالفتح مصدرية ( مَا) موصول أي الذي ( هَاهُنَا) إشارة للمكان ( قَدْ مُلِئَ) بالبناء للمفعول ونائبه الضمير أي هو ( جِنَانًا) نصب على التمييز بكسر الجيم جمع جنة بفتحها أي يكثر ماؤه ويخصب أرضه فيكون بساتين ذات أشجار كثيرة وثمار.

قال الباجي: وهذا إخبار بغيب قد وقع وخص معاذًا بذلك لأنه استوطن الشام وبها مات، فعلم صلى الله عليه وسلم بالوحي أنه سيرى ذلك الموضع كما ذكر، وأنه يمتلئ جنانًا ببركته صلى الله عليه وسلم ولو لم يكن له معجزة غير هذه لتبين صدقه وظهرت حجته.

وقال ابن عبد البر: قال ابن وضاح: أنا رأيت ذلك الموضع كله حوالي تلك العين جنانًا خضرة نضرة، ولعله يتمادى إلى قيام الساعة وهكذا النبوّة وأما الشجر فلا يبقى بعد مفارقة صاحبه اهـ.

وهذا الحديث أخرجه مسلم في فضائل النبي صلى الله عليه وسلم، حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي قال: حدثنا أبو علي الحنفي قال: حدثنا مالك به سوى الشك الذي ذكرته.

( مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا عَجِلَ) بفتح العين وكسر الجيم أسرع وحضر ( بِهِ السَّيْرُ) ونسبة الفعل إلى السير مجاز وتوسع ( يَجْمَعُ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ) جمع تأخير ففي الصحيح من رواية الزهري عن سالم عن أبيه رأيت النبي صلى الله عليه وسلم إذا أعجله السير في السفر يؤخر المغرب حتى يجمع بينها وبين العشاء، وتعلق به من اشترط في الجمع الجد في السير، ورده ابن عبد البر بأنه إنما حكى الحال التي رأى ولم يقل لا يجمع إلا أن يجد به فلا يعارض حديث معاذ قبله، ولم يعين غاية التأخير وبينه مسلم من طريق عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر بأنه بعد أن يغيب الشفق، ولعبد الرزاق عن معمر عن أيوب وموسى بن عقبة عن نافع فأخر المغرب بعد ذهاب الشفق حتى ذهب هويّ من الليل، وللبخاري في الجهاد من طريق أسلم عن ابن عمر: حتى كان بعد غروب الشفق نزل فصلى المغرب والعشاء جمع بينهما، ولأبي داود من رواية ربيعة عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر في هذه القصة فسار حتى غاب الشفق وتصوّبت النجوم نزل فصلى الصلاتين جميعًا.
وجاءت رواية أخرى عن ابن عمر أنه صلى المغرب في آخر الشفق ثم أقام الصلاة وقد توارى الشفق فصلى العشاء أخرجه أبو داود من طريق عبد الرحمن بن يزيد بن جابر عن نافع ولا تعارض بينه وبين ما سبق لأنه كان في واقعة أخرى.

وهذا الحديث رواه مسلم عن يحيى عن مالك به، وتابعه عبيد الله عن نافع بنحوه في مسلم وهو في الصحيحين من طريق الزهري عن سالم عن أبيه بنحوه.

( مَالِكٍ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ) محمد بن مسلم ( الْمَكِّيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ) بضم الجيم مصغر ( عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ جَمِيعًا وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ جَمِيعًا فِي غَيْرِ خَوْفٍ وَلَا سَفَرٍ.
قَالَ مَالِكٌ: أُرَى)
بضم الهمزة أي أظن ( ذَلِكَ كَانَ فِي مَطَرٍ) ووافقه على ما ظنه جماعة من أهل المدينة وغيرها منهم الشافعي قاله ابن عبد البر، لكن روى الحديث مسلم وأصحاب السنن من طريق حبيب بن أبي ثابت عن سعيد بن جبير عن ابن عباس بلفظ: من غير خوف ولا مطر، وأجاب البيهقي بأن الأولى رواية الجمهور فهي أولى قال: وقد روينا عن ابن عباس وابن عمر الجمع بالمطر وهو يؤيد التأويل.
وأجاب غيره: بأن المراد ولا مطر كثير أو ولا مطر مستدام فلعله انقطع في أثناء الثانية، وقيل الجمع المذكور للمرض وقوّاه النووي.

قال الحافظ: وفيه نظر لأنه لو جمع له لما صلى معه إلا من به المرض، والظاهر أنه صلى الله عليه وسلم جمع بأصحابه وبه صرح ابن عباس في رواية، وقيل كان في غيم فصلى الظهر، ثم انكشف الغيم فبان أن وقت العصر دخل فصلاها، وأبطله النووي لأنه وإن كان فيه أدنى احتمال في الظهرين فلا احتمال فيه في العشاءين وكأنّ نفيه الاحتمال مبني على أنه ليس للمغرب إلا وقت واحد، والمختار عنده خلافه وهو أن وقتها يمتدّ إلى العشاء فالاحتمال قائم، وقيل الجمع صوري بأن يوقع الظهر آخر وقتها والعصر في أوّل وقتها.

قال النووي: وهو ضعيف أو باطل لأنه مخالف للظاهر مخالفة لا تحتمل، لكن هذا الذي ضعفه استحسنه القرطبي ورجحه قبله إمام الحرمين، ومن القدماء ابن الماجشون والطحاوي، وقوّاه ابن سيد الناس بأنّ أبا الشعثاء راوي الحديث عن ابن عباس قد قال به، وذلك فيما أخرجه الشيخان من طريق ابن عيينة عن عمرو بن دينار فذكر هذا الحديث وزاد قلت: يا أبا الشعثاء أظنه أخر الظهر وعجل العصر وأخر المغرب وعجل العشاء.
قال: وأنا أظنه وراوي الحديث أدرى بالمراد من غيره.

قلت: لكن لم يجزم بذلك ولم يستمرّ عليه، بل جوّز أن يكون الجمع بعذر المطر كما في الصحيح لكن يقوي الجمع الصوري أن طرق الحديث كلها ليس فيها صفة الجمع، فإمّا أن تحمل على مطلقها فيستلزم إخراج الصلاة عن وقتها المحدود بلا عذر، وإما أن تحمل على صفة مخصوصة ولا يستلزم الإخراج ويجمع بها بين مفترق الأحاديث، والجمع الصوري أولى.

وذهب جماعة من الأئمة إلى الأخذ بظاهر الحديث فجوّزوا الجمع في الحضر للحاجة مطلقًا لكن بشرط أن لا يتخذ ذلك عادة وممن قال به ابن سيرين وربيعة وأشهب وابن المنذر والقفال الكبير وجماعة من أصحاب الحديث، واستدل لهم بما في مسلم في هذا الحديث عن سعيد بن جبير فقلت لابن عباس: لم فعل ذلك؟ قال: أراد أن لا يحرج أحدًا من أمّته.

وللنسائي من طريق عمرو بن هرم عن أبي الشعثاء أن ابن عباس صلى بالبصرة الأولى والعصر ليس بينهما شيء والمغرب والعشاء ليس بينهما شيء فعل ذلك من شغل وفيه رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم.

ولمسلم عن عبد الله بن شقيق أن شغل ابن عباس كان بالخطبة وأنه خطب بعد العصر إلى أن بدت النجوم ثم جمع بين المغرب والعشاء، وفيه تصديق أبي هريرة لابن عباس في رفعه، وما ذكره ابن عباس من التعليل بنفي الحرج ظاهر في مطلق الجمع.

وجاء مثله عن ابن مسعود قال: جمع النبي صلى الله عليه وسلم بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء فقيل له في ذلك فقال: صنعت هذا لئلا تحرج أمّتي رواه الطبراني، وإرادة نفي الحرج تقدح في حمله على الجمع الصوري لأنّ القصد إليه لا يخلو عن حرج انتهى.

والحديث رواه مسلم عن يحيى عن مالك به وله طرق في الصحيحين.

( مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ إِذَا جَمَعَ الْأُمَرَاءُ) جمع أمير ( بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ فِي الْمَطَرِ جَمَعَ مَعَهُمْ) لأنه مستحب لإدراك فضيلة الجماعة.

( مَالِكٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّهُ سَأَلَ سَالِمَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ هَلْ يُجْمَعُ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ فِي السَّفَرِ؟ فَقَالَ: نَعَمْ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ) أي يجوز بلا كراهة وإن كان الأفضل تركه ( أَلَمْ تَرَ إِلَى صَلَاةِ النَّاسِ بِعَرَفَةَ) بالجمع بين الظهرين جمع تقديم فقاس سالم المختلف فيه على المتفق عليه بجامع أنّ العلة السفر.

وفي مسلم عن جابر أنه صلى الله عليه وسلم جمع بين الظهر والعصر بعرفة في وقت الظهر ولو لم يرد من فعله إلا هذا لكان أدل دليل على جواز جمع التقديم في السفر وإلى جواز الجمع في السفر وإن لم يجدّ به السير ذهب كثير من الصحابة والتابعين والثوري ومالك في رواية مشهورة والشافعي وأحمد وإسحاق وأشهب.

وقال الليث ومالك في المدوّنة: يختص بمن جدّ به السير وقيل يختص بالسائر دون النازل وهو قول ابن حبيب، وقيل بمن له عذر، وقيل يجوز التأخير لا التقديم، وروي عن مالك وأحمد واختاره ابن حزم وقال قوم: لا يجوز الجمع مطلقًا إلا بعرفة ومزدلفة وهو قول الحسن والنخعي وأبي حنيفة وصاحبيه، وقول النووي أنهما خالفاه ردّه عليه السروجي في شرح الهداية وهو أعرف بمذهبه.
وأجابوا عن الأحاديث بأنه جمع صوري وتقدّم ردّه.

قال إمام الحرمين: ثبت في الجمع أحاديث نصوص لا يتطرق إليها تأويل ودليله من حيث المعنى الاستنباط من الجمع بعرفة ومزدلفة فإن سببه احتياج الحاج إليه لاشتغالهم بمناسكهم، وهذا المعنى موجود في كل الأسفار ولم تتقيد الرخص كالقصر والفطر بالنسك إلى أن قال: ولا يخفى على منصف أن الجمع أرفق من القصر فإن القائم إلى الصلاة لا يشق عليه ركعتان يضمهما إلى ركعتيه ورفق الجمع بمن جدّ به السير.

( مَالِكٍ أَنَّهُ بَلَغَهُ عَنْ عَلِيِّ) زين العابدين ( بْنِ حُسَيْنٍ) بن علي بن أبي طالب ( أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَسِيرَ يَوْمَهُ جَمَعَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ) جمع تقديم إن سار بعد الزوال وتأخير إن سار قبله ( وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَسِيرَ لَيْلَهُ جَمَعَ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ) قال ابن عبد البر: هذا حديث يتصل من رواية مالك من حديث معاذ بن جبل وابن عمر معناه وهو عند جماعة من أصحابه مسند.