فهرس الكتاب

دليل الفالحـــين - باب في التفَكُّر في عظيم مخلوقات الله تَعَالَى وفناء الدنيا وأهوال الآخرة وسائر أمورهما وتقصير النفس وتهذيبها وحملها عَلَى الاستقامة

رقم الحديث -7 أي إجالة الفكر ( في عظيم مخلوقات الله تعالى) كالعرش والكرسي والسماء والأرض، ففي الحديث: «ما السماء والأرض وما بينهما في العرش إلا كحلقة ألقيت في فلاة من الأرض» وعظم المخلوق يدل على كمال الخالق وعظمته ( و) التفكر في ( فناء الدنيا) واضمحلالها وتلاشي أمرها، قال تعالى: { واضرب لهم مثل الحيوة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيماً تذره الرياح} ( الكهف: 45) ليبعثه ذلك على الزهد فيها والإعراض عن غرورها والإقبال على الآخرة، ففي الحديث: «كونوا أبناء الآخرة ولا تكونوا أبناء الدنيا» فإن رفع الله قدره وخلصه عن السوى وخصصه بالتخلص للمولى فتلك الغاية القصوى ( و) التفكر في ( أهوال الآخرة) وشدائدها كما قال تعالى: { يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى} ( الحج: 2) وقال تعالى: { يوماً يجعل الولدان شيباً} ( المزمل: 17) ليبعثه ذلك على التقوى وطاعة المولى فينجو من كرب الدارين ويجزى بالإحسان قال تعالى: { هل جزاء الإحسان إلا الإحسان} ( الرحمن: 6) ( وسائر أمورهما) أي أمور الدنيا وأنها جميعها ثانية، وأهوال الآخرة وأنها شديدة ( وتقصير) أمل ( النفس) بذكر الموت ( وتهذيبها) من الأخلاق السيئة بتذكر أهوال الآخرة وشدة عقابها ( وحملها على الاستقامة) بتذكر النفس وما ورد من الوعد الصادق في الطاعة من الثواب بمحض الفضل، وعلى المعصية من العقاب بطريق العدل، وهذا إنما يبلغه العبد بتأييد الله سبحانه وتعالى وتوفيقه لاتباع الكتاب والسنة، فإن ظفر بشيخ مرشد مربّ موصل للمريد إلى طريق الحق بتهذيب النفس من رعونتها وتحليتها بأنواع العبادات فذلك أعلى، وإلا فما لا يدرك كله لا يترك كله، ( قال تعالى) : { قل إنما أعظكم بواحدة} ) هي ( { أن تقوموا} بالانتصاب في الأمر والنهوض فيه بالهمة ( ) أي لأجله ( مثنى) أي اثنين اثنين ( { وفرادى} ) أي واحداً واحداً ( { ثم تتفكروا} ) أي: في السموات والأرض فتعلموا أن خالقهما واحد، فعلى هذا تم الكلام بقوله «تتفكروا» وقوله: { ما بصاحبكم من جنة} ( سبأ: 46) ابتداء كلام، وهذا أحد قولين في الآية للمفسرين.
6 والثاني: أن المراد التفكر في شأن النبيّ بأن يتفكروا أي يتفكر كل منهم في ذلك ويعرض كل فكرته على صاحبه لينظر فيه نظر متصادقين متناصفين لا يميل به اتباع الهوى، وبأن يتفكر الواحد أيضاً بعدل ونصف هل رأينا في هذا الرجل جنوناً قط أو كذباً، وقد علمتم أن محمداً ما به من جنة، بل علمتموه أرجح قريش عقلاً وأوزنهم حلماً وأحدّهم ذهناً وأجمعهم لما يحمد عليه الرجال، فإذا علمتم ذلك كفاكم أن تطالبوه بآية، فإذا أجابها تبين أنه صادق فيما جاء به ( وقال تعالى: { إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات} ) ( آل عمران: 190) لدلائل واضحة على وجود الصانع ووحدته وكمال علمه وقدرته ( { لأولي الألباب} ) العقول المجلوة عن شوائب الحسّ والوهم، ولعل الاقتصار على هذه الثلاثة في هذه الآية لأن مناط الاستدلال هو التغير، وهذه متعرضة لجملة أنواعه، فإنه إما أن يكون في ذات الشيء كتغير الليل والنهار، أو جزئه كتغير العناصر يتبدل صورها، أو الخارج عنه كتغير الأفلاك بتبدل أوضاعها.
وعن عائشة رضي الله عنها عن النبيّ: «ويل لمن قرأها ولم يفكر فيها» رواه ابن حبان وغيره ( { الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم} ) أي: يذكرون دائماً على الحالات كلها قائمين وقاعدين ومضطجعين، وقيل: معناه، يصلون على الهيئات الثلاث حسب طاقتهم ( { ويتفكرون في خلق السموات والأرض} ) استدلالاً واعتباراً، وهو أفضل العبادات.
أخرج ابن حبان عن عليّ قال: قال «لا عبادة كالتفكر» أي: لأنه المخصوص بالقلب والمقصود من الخلق.
وأخرج الثعلبي بسند فيه من لا يعرف عن رأسه فنظر إلى السماء والنجوم فقال: أشهد أن لك رباً وخالقاً اللهم اغفر لي، فنظر الله إليه فغفر له» وعن ابن عباس وأبي الدرداء «فكرة ساعة خير من قيام ليلة» .
وقال الحسن ابن أبي الحسن: الفكرة مرآة المؤمن ينظر فيها إلى حسناته وإلى سيئاته.
وقال سرّي السقطي الفكرة خير من عبادة سنة، ما هو إلا أن تحلّ أطناب خيمتك فتحطها في الجنة.
وفي «تفسير ابن عطية» : حدثني أبي عن بعض علماء المشرق قال: كنت بائتاً بمسجد في مصر فصليت العتمة، فرأيت رجلاً قد اضطجع مسجى بكسائه حتى أصبح وصلينا تلك الليلة وسهرنا، فلما أقيمت صلاة الصبح قام ذلك الرجل فاستقبل القبلة وصلى مع الناس، فاستعظمت جرأته في الصلاة بغير وضوء، فلما فرغت الصلاة خرج فتبعته لأعظه، فلما دنوت منه سمعته يقول: مسنجز الجسم غائب حاضر منتبه القلب صامت ذاكر منقبض في العيون منبسط كذاك من كان عارفاً فاكر يبيت في ليله أخا فكر فهو مدى الليل نائم ساهر وانصرفت عنه، قال فقلت إنه ممن يعبد الله بالفكرة اهـ.
( { ربنا ما خلقت هذا باطلاً} ) حال من فاعل يتفكرون على إرادة القول: أي يتفكرون قائلين ذلك و «هذا» إشارة إلى المتفكر فيه أو الخلق على أنه أريد به المخلوق من السموات والأرض أو إليهما لأنهما في معنى المخلوق.
والمعنى: ما خلقته عبثاً ضائعاً من غير حكمة بل لحكم عظيمة من جملتها أن يكون مبدءاً لوجود الإنسان وسبباً لمعاشه ودليلاً يدله على معرفتك ويحثه على طاعتك لينال الحياة الأبدية والسعادة السرمدية في جوارك ( { سبحانك} ) تنزيهاً لك من العبث وخلق الباطل وهو اعتراض ( الآيات) يحتمل أن يكون إلى قوله: { إنك لا تخلف الميعاد} ( آل عمران: 194) ويحتمل أن يكون إلى آخر السورة والأول أقرب، وكرّر في الدعاء «ربنا» خمس مرات مبالغة في الابتهال ودلالة على استقلال المطالب وعلو شأنها.
وفي الآثار: «من حزبه أمر فقال خمس مرات «ربنا» أنجاه الله مما يخاف وأعطاه ما أراده، ثم قرأ هذه الآيات» ( وقال تعالى: { أفلا ينظرون} ) نظر اعتبار ( { إلى الإبل كيف خلقت} ) خلقاً دالاً على كمال قدرته وحسن تدبيره حيث خلقها لحمل الأثقال إلى البلاد النائية، فجعلها عظيمة باركة للحمل ناهضة بالحمل منقادة لمن قادها طوال الأعناق لتبوء بالأوقار، ترعى كل نابت وتحتمل العطش إلى عشر فصاعداً، ليتأتى بها قطع البراري والمفاوز مع ما لها من منافع أخرى، ولذا خصت بالذكر لبيان الآيات المنبثة في الحيوانات التي هي أشرف المركبات وأكبرها صنعاً، ولأنها أعجب ما عند العرب من هذا النوع، وقيل لامراد بها السحاب على الاستعارة ( { وإلى السماء كيف رفعت} ) بلا عمد ( { وإلى الجبال كيف نصبت} ) فهي راسخة لا تميل ( { وإلى الأرض كيف سطحت} ) بسطت حتى صارت مهاداً.
والمعنى: أفلا ينظرون إلى أنواع المخلوقات من البسائط والمركبات ليتحققوا كمال قدرة الخالق فلا ينكروا اقتداره على البعث؛ ولذلك عقب به أمر المعاد ورتب عليه الأمر بالتذكير فقال ( { فذكر} ) ( الغاشية: 17 - 20) .
وفي «تفسير ابن عادل» : إن قيل ما المناسبة بين هذه الأشياء؟ فالجواب قال الزمخشري: من فسر الإبل بالسحاب فالمناسبة ظاهرة وذلك تشبيه ومجاز، ومن حملها على الإبل فالمناسبة بينها وبين السماء والأرض والجبال من وجهين: أحدهما: أن القرآن نزل بلغة العرب وهم أهل أسفار، والمسافر قد يخلو بنفسه لفقد من يصحبه، وشأن الإنسان إذا انفرد الإقبال على التفكر في الأشياء فإذا فكر فأول ما يقع نظره على الجمل الذي هو راكبه، فإذا هو منظر جميل جمع أموراً تدل على كمال قدرته سبحانه وإن نظر إلى ما فوق فإلى السماء، أو إلى تحت فالأرض، أو إلى الجانب فالجبال، فكأنه تعالى أمره بالنظر وقت الخلوة والانفراد حتى لا تحمله داعية الكبر والحسد على ترك النظر.
الثاني: أن جميع المخلوقات دالة على الصانع، إلا أن منها ما هو مشتهى للنفس كحسن الصور واللباس والنزهة فهذه استحسانها قد يمنع من كمال النظر فيها، ومنها ما لا حظّ فيه للشهوة فأمر بالنظر فيها إذ لا مانع من إكمال النظر فيها اهـ.
( وقال تعالى: { أفلم يسيروا في الأرض فينظروا} ) أي: إلى تقلب الأحوال بأبناء الدنيا واضمحلالهم بعد وجودهم فيها، وتلاشي أمرهم بعد كمال قوّتهم صورة فيعرفون أن الحيّ القيوم هو الله وأن غيره فان، فلا يركنوا إلى الدنيا ولا يغتروا بزهواتها ولا يقبلوا على مستلذاتها وشهواتها ويغفلوا عما خلقوا له من عبادة مولاهم وطاعته اللذين بهما كمال المرء وسعادته ( الآية) بالنصب: أي إقرإ الآية، أو بالرفع: أي الآية إلى آخرها معلومة، أو المستدل به الآية فهو مبتدأ أو خبر ( والآيات في الباب كثيرة.
ومن الأحاديث الحديث السابق)
عن شدادبن أوس في باب المراقبة « ( الكيس من دان نفسه) وعمل لما بعد الموت» فإن محاسبته لها وعدم تركها هملا إنما ينشأ عن تفكره في الدنيا وزوالها وفي نفسه وانتقالها كأنك بالدنيا ولم تكن وبالآخرة ولم تزل، فيحاسب نفسه فيمنعها عما لا ينبغي ويحليها بما يرضىالله، وبا التوفيق.