فهرس الكتاب

دليل الفالحـــين - باب في وجوب الانقياد لحكم الله تعالى وما يقوله من دُعي إِلَى ذلِكَ، وأُمِرَ بمعروف أَوْ نُهِيَ عن منكر

رقم الحديث 168 ( عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لما نزلت) بالبناء للفاعل ( على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - آية: { ما في السموات وما في الأرض} ) خلقاً وملكاً ( { وإن تبدوا} ) تظهروا ( { ما في أنفسكم} ) من السوء والعزم عليه ( { أو تخفوه} ) تسرّوه ( { يحاسبكم} ) يجزكم ( { به ا} ) يوم القيامة ( الآية) أي إلى قوله: { وا على كل شيء قدير} ( البقرة: 284) ومنه محاسبتكم وجزاؤكم ( اشتد ذلك علىأصحاب رسول الله، فأتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم بركوا جثياً على الركب) بضم ففتح كما هي عادة الخائف الوجل ( فقالوا أي) : بفتح الهمزة وسكون التحتية حرف لنداء القريب ( رسول الله كلفنا) بالبناء للمفعول ( من الأعمال ما نطيق) الإتيان به ( الصلاة والصيام والجهاد والصدقة) بالنصب بدل مفصل من مجمل ويجوز فيه الرفع على القطع ( وقد أنزلت عليك هذه الآية ولا نطيقها) قال المصنف: قال المازري: يحتمل أن يكون إشفاقهم وقولهم لا نطيقها لكونهم اعتقدوا أنهم يؤاخذون بما لا قدرة لهم على دفعه من الخواطر التي لا تكتسب، فلهذا رأوه من قبيل ما لا يطاق.
وعندنا أن تكليف ما لا يطاق جائز عقلاً.
واختلف هل وقع التعبد به في الشريعة أم لا؟ ( قال) مخوّفاً لهم من قطيعة العصيان وقطيعة امتناع قبول الأوامر ( أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين) من اليهود والنصارى ( من قبلكم) في محل الحال أو الصفة ( { سمعنا} ) قولك ( { وعصينا} ) أمرك ( { بل قولوا} { سمعنا} ) ما أمرتنا به سماع قبول ( { وأطعنا} ) أمرك اغفر ( { غفرانك} ) أو نسألك غفرانك يا ( { ربنا} ) وحذف أداة النداء لعله إيماء إلى أنه ينبغي للداعي أن يكون في كمال الحضور حتى كأنه في حضرة الحق سبحانه، ومن كان كذلك لا ينادي ( { وإليك} ) لا إلى غيرك ( { المصير} ) الرجوع ( فلما اقترأها) أي: قرأها ( القوم) أي: آية { ما في السموات} ( وذلت) أي: انقادت بالاستسلام ( بها ألسنتهم أنزل الله في إثرها) بكسر فسكون وبفتحتين أي عقب نزولها من غير فاصل ( آمن) صدّق ( الرسول بما أنزل إليه من ربه) وهو القرآن ( والمؤمنون) معطوف عليه، وقيل مبتدأ خبره ( كل آمن) وتنوين كل للعوض أي كل واحد منهم آمن ( با وملائكته وكتبه ورسله) رتبهم كذلك لترتبهم في الوجود على ذلك الترتيب ( { لا نفرّق} ) أي: يقولون لا نفرّق في الإيمان بالرسل ( بين أحد من رسله) بأن نؤمن ببعض ونكفر ببعض كفعل اليهود والنصارى ( { وقالوا سمعنا} ) ما أمرنا به سماع قبول ( { وأطعنا} ) أمرك ( { غفرانك ربنا وإليك المصير} ) الرجع بالبعث.
قال القرطبي المفسر وهو تلميذ القرطبي شارح «مختصر مسلم» كما نقل عنه في آخر سورة النمل: لما تقرّر الأمر على أن { قالوا سمعنا وأطعنا} مدحهم الله تعالى وأثنى عليهم في هذه الآية ورفع المشقة في الخواطر عنهم، وهذه ثمرة الطاعة والانقطاع إلى الله تعالى كما جرى لبني إسرائيل ضد ذلك من ذمهم وتحملهم المشاق من الذلة والمسكنة والجلاء كما قالوا سمعنا وعصينا، وهذه ثمرة العصيان والتمرد على الله والعياذ با ( فلما فعلوا ذلك) أي: قالوا ما أمروا بقوله من قوله سمعنا وأطعنا ( نسخها الله تعالى فأنزل الله { لا يكلف الله نفساً إلا وسعها} ) قال المصنف بعد نقل عن القاضي عياض بيان وجه النسخ الذي توقف فيه المازري: وقد اختلف الناس في هذه الآية، فأكثر المفسرين من الصحابة ومن بعدهم على ما تقدم فيها من النسخ، وأنكره بعض المتأخرين قال لأنه خبر ولا يدخل النسخ الأخبار، وليس كما قال هذا المتأخر فإنه وإن كان خبراً فهو خبر عن تكليف ومؤاخذة بما تكن النفوس والتعبد بما أمرهم النبي بذلك وأن يقولوا سمعنا وأطعنا، وهذه أقوال وأعمال اللسان والقلب، ثم نسخ ذلك عنهم برفع الحرج والمؤاخذة.
وروي عن بعض المفسرين أن معنى النسخ هنا إزالة ما وقع في قلوبهم من الشدة والفرق من هذا الأمر، فأزيل عنه بالآية الأخرى واطمأنت نفوسهم، وهذا القائل يرى أنهم لم يلزموا ما لا يطيقون لكن ما يشق عليهم من التحفظ من خواطر النفس وإخلاص الباطن فأشفقوا أن يكلفوا من ذلك ما لا يطيقون فأزيل عنهم هذا الإشفاق وبين أنهم لم يكلفوا إلا وسعهم، وعلى هذا لا حجة فيه لجواز تكليف ما لا يطاق إذ ليس فيه نص على تكليفه.
وذهب بعضهم إلى أن الآية محكمة في إخفاء اليقين والشك للمؤمنين والكافرين فيغفر للمؤمنين ويعذب الكافرين، هذا آخر كلام القاضي.
وذكر الإمام الواحدي الخلاف في معنى الآية ثمقال: والمحققون يختارون أن تكون الآية محكمة غير منسوخة اهـ.
وقوله تعالى: { لا يكلف الله نفساً إلا وسعها} أي: ما تسعه قدرتها.
قال القرطبي في «المفهم» : الوسع الطاقة والجهد، وهذا خبر من الله تعالى أنه لا يأمرنا أي من وقت نزول الآية إلا بما نطيقه ويمكننا إيقاعه عادة وهو الذي لم يقع في الشريعة غيره ويدل على ذلك تصفحها.
وقد حكى الإجماع عليه.
قال تلميذه في «التفسير» : وبذلك انكشفت الكربة على المسلمين في تأولهم أمر الخواطر إنما الخلاف في جواز ذلك عقلاً، فمنهم من جوّزه ومنهم من منعه ( { لها ما كسبت} ) من الخير أي ثوابه ( { وعليها ما اكتسبت} ) من الشرّ: أي وزره، ولا يؤاخذ أحد بذنب أحد ولا بما لم يكسبه مما وسوسته به نفسه.
وعبر في الحسنة باللام من حيث هي مما يفرح بكسبه ويسرّ المرء بها فيضاف إلى ملكه، وفي السيئة بعلى من حيث هي أوزار متحملات صعبة.
وقال ابن عطية في «تفسيره» : وعبر بالكسب في الحسنة لأنها تكتسب بلا تكلف لكون مكتسبها على جادة أمر الله ورسم شرعه، وبالاكتساب في السيئة لأن كاسبها يحتاج إلى خرق حجاب نهي الله ويتخطاه اهـ ملخصاً.
قولوا: ( { ربنا لا تؤاخذنا} ) بالعقاب ( { إن نسينا أو أخطأنا} ) أي: تركنا الصواب لا عن عمد كما آخذت به من قبلنا ( قال نعم) أي: قد فعلت، وقد رواه ابن عباس بهذا اللفظ بدل قوله نعم.
رواه مسلم.
قال القرطبي: فيه دليل على أنهم ينقلون الحديث بالمعنى.
والأصح جوازه من العالم بمواقع الألفاظ وأن ذلك لا يجوز لمن بعد الصدر الأول لتغير اللغات وتباين الكلمات.
قولوا ( { ربنا} ) استجب ذلك ( { ولا تحمل علينا إصراً} ) مرا يثقل علينا حمله ( { كما حملته على الذين من قبلنا} ) أي: منبني إسرائيل في قتل النفس في التوبة وإخراج ربع المال في الزكاة وقرض موضع النجاسة ( قال نعم) أي: قد فعلت ( { ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة} ) قوة ( { لنا به} ) من التكاليف والبلاء ( { قال نعم} .
{ واعف عنا} )
امح عنا ذنوبنا ( { واغفر لنا وارحمنا} ) في الرحمة زيادة على المغفرة ( أنت مولانا) سيدنا ومتولي أمرنا ( { فانصرنا على القوم الكافرين} ) بإقامة الحجة والغلبة في قتالهم.
فإن شأن المولى أن ينصر مواليه على الأعداء، قال القرطبي في «التفسير» : خرج هذا مخرج التعليم للخلق كيف يدعون روي عن معاذبن جبل «أنه كان إذا فرغ من قراءة هذه السورة قال آمين» قال ابن عطية: هذا يظن به أنه رواه عن النبي، فإن كان كذلك فكمال، وإن قال بقياس على سورة الحمد من حيث هناك دعاء وهنا دعاء فحسن اهـ ( رواه مسلم) .
18

رقم الحديث -16 أي: الاستسلام ظاهراً والرضا باطناً ( لحكم الله وما يقوله من دعى) بالبناء للمفعول ( إلى ذلك) أتى باسم الإشارة الموضوع للبعيد موضع الضمير تفخيماً لشأنه ( وأمر بمعروف أو نهى) بالبناء لذلك أيضاً ( عن منكر) .
( قال الله تعالى: { فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً} ) تقدم الكلام على ما يتعلق بمعناها في أول الباب قبله، وقد حكى السيوطي في «أسباب النزول» له خلافاً في سبب نزولها، فقيل في تخاصم الزبير والأنصاري في سراح الحرة: فأمر الزبير أن يسقي ثم يرسل الماء إلى جاره، فقال الأنصاري: يا رسول الله أن كان ابن عمتك؟ الحديث.
قال الزبير: فما أحسب هذه الآيات إلاّ نزلت في ذلك { فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم} .
أخرجه الأئمة الستة وقيل: في تخاصم الزبير وحاطببن أبي بلتعة في ماء، فقضى أن سقى الأعلى ثم الأسفل.
أخرجه ابن أبي حاتم.
وقيل: سببه اختصام رجلين إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقضى بينهما، فقال الذي قضى عليه: ردّنا إلى عمر، فأتيا إليه فقال الرجل: قضى لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على هذا فقال ردنا إلى عمر، فقال أكذلك؟ قال: نعم، قال نعم: مكانكما حتى أخرج إليكما فأقضى بينكما، فخرج إليهما مشتملاً على سيفه، فضرب الذي قال ردّنا إلى عمر فقتله، فأنزل الله الآية.
قال السيوطي: أخرجه ابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي الأسود مرسلاً، وهو غريب في إسناده ابن لهيعة، وله شاهد أخرجه رحيم في «تفسيره» عن ضمرة اهـ ملخصاً.
( وقال تعالى: { إنما كان قول المؤمنين} ) أي: القول اللائق لهم ( { إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا} ) بالإجابة ( { وأولئك} ) حينئذٍ ( { هم المفلحون} ) الناجون ( وفيه من الأحاديث) النبوية ( حديث أبي هريرة رضي الله عنه المذكور في أول الباب قبله) هو قوله: «دعوني ما تركتكم» الخ ( وغيره من الأحاديث فيه) أي: في معنى الحديث المذكور من طاعة الله ورسوله ظاهراً وباطناً.