فهرس الكتاب

دليل الفالحـــين - باب الأمر بأداء الأمانة

رقم الحديث 199 ( وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: آية) بالمد.
واختلف في وزنها على ستة أقوال تقدم في شرح خطبة الكتاب أنه ذكرها ابن الصائغ في «شرح البردة» : أي: علامة ( المنافق) أي: علامة نفاقه الدالّ على قبح نيته وفساد طويته ( ثلاث) أي: خصال، وأفرد الآية على إرادة الجنس، أو أن العلامة إنما تحصل باجتماع الثلاث، ويؤيد الأول أنه جاء في «صحيح أبو عوانة» «علامات المنافق ثلاث» .
فإن قيل: ظاهر الحديث الحصر في الثلاث، وقد جاء في الحديث الآخر «أربع من كنّ فيه كان منافقاً خالصاً» .
فالجواب ما قاله القرطبي: لعله تجدد له من العلم بخصالهم ما لم يكن عنده.
وقال الحافظ العسقلاني: لا منافاة بين الخبرين لأنه لا يلزم من عدّ الخصلة كونها علامة، على أن في رواية لمسلم في حديث أبي هريرة ما يدل على عدم الحصر، فإن لفظه: من علامة المنافق ثلاث، فيكون أخبر ببعضها في وقت وببعضها في وقت آخر ( إذا حدث كذب) الجملة خبر بعد خبر أو بدل مما قبله بدل مفصل من مجمل بتقدير سبق العطف على الإبدال وهذه الخصلة أقبح الثلاث( وإذا وعد) يخير ( أخلف) أي: لم يف وبوعده.
ووجه المغايرة بين هذه وما قبلها أن الإخلاف قد يكون بالفعل وهو غير الكذب الذي هو وصف القول، ثم محله فيمن عزم على الخلف حال الوعد، أما لو عزم على الوفاء حال الوعد ثم شنعته الأقدار من ذلك فلا يكون فيه آية النفاق نقله السيوطي وغيره، ولا يلزم مما ذكر وجوب الوفاء بالوعد، لأن ذم الإخلاف إنما هو من حيث تضمنه الكذب المذموم لأنه عزم على الإخلاف في حال الوعد على أن علامة النفاق لا يلزم تحريمها، إذ المكروه لكونه يجر إلى الحرام يصح أن يكون علامة على الحرام، ونظيره أشراط الساعة فإن منها ما ليس بمحرم ( وإذا أؤتمن خان) وخص هذه الخصال بالذكر لاشتمالها على المخالفة التي عليها مبني النفاق من مخالفة السرّ العلن.
والكذب الإخبار على خلاف الواقع، وحق الأمانة أن تؤدي إلى أهلها والخيانة مخالفة لها، والإخلاف في الوعد ظاهر ولذا صرح بأخلف ( متفق عليه) روياه في كتاب الإيمان ورواه الترمذي والنسائي.
( وفي رواية) هي لمسلم فقط ( وإن صام وصلى) أي: وإن عمل عمل المؤمنين من الصوم والصلاة وغيرهما من العبادات، وهذا الشرط اعتراض بين الآيات المجملة ومفسرها المفصل وارد للمبالغة لا يستدعي الجواب، وتسمى إن فيه وصلية والواو الداخلة عليها قيل حالية، وعليه جرى السعد التفتازاني في المطول، وقيل: عاطفة.
وفي رواية «وإن صلى وصام وحج واعتمر وقال إني مسلم» ( وزعم أنه مسلم) أي: كامل الإسلام.
قال القرطبي: ظاهر الحديث أن من كانت فيه عدة الخصال الثلاث صار في النفاق الذي هو الكفر الذي قال فيه مالك: النفاق على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو الزندقة عندنا اليوم، وليس الأمر على مقتضى هذا الظاهر لما قررناه أول كتاب الإيمان: أي: من أن المعاصي لا تخرج الإنسان عن الإيمان.
ولما استحال حمل هذا الحديث على ظاهره على مذهب أهل السنة اختلف العلماء فيه على أقوال: فقيل المراد من النفاق نفاق العمل: أي صفاتهم الفعلية.
ووجه ذلك أن من فيه هذه الصفات كان ساتراً لها ومظهراً لنقائضها صدق عليه اسم منافق.
أو قيل الحديث محمول على من غلبت عليه هذه الخصال واتخذها عادة ولم يبال بها تهاوناً واستخفافاً بأمرها، فإن من كان هكذا كان فاسد الاعتقاد غالباً فيكون منافقاً.
وقيل: إن هذه الخصال كانت علامة المنافق في زمنه، فإن أصحاب النبيّ كانوا مجتنبين لهذه الخصال بحيث لا تقع منهم ولا تعرف فيما بينهم، وبهذا قال ابن عباس وابن عمرو، روي عنهما ذلك في حديث «أنهما أتيا يسألانه عن هذا الحديث فضحك النبي وقال: مالكم ولهن إنما خصصت بهن المنافقين أنتم من ذلك برآء» ذكر الحديث بطوله القاضي عياض، قال: وإلى هذا صار كثير من التابعين والأئمة اهـ.


رقم الحديث 200 (وعن حذيفةبن اليمان) بضم المهملة وفتح المعجمة وسكون التحتية بعدها فاء كما تقدم مع ترجمته (رضي الله عنه قال: حدثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حديثين) يعني في الأمانة وإلا فروايات حذيفة كثيرة، وعنى بالحديثين قوله: حدثنا أن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال والثاني قوله: ثم حدثنا عن رفع الأمانة (قد رأيت أحدهما وأنا أنتظر) وقوع (الآخر) الأول من الحديثين (حدثنا أن الأمانة) قال المصنف: الظاهر أن المراد بها التكليف الذي كلف الله به عباده والعهد الذي أخذه عليهم وهي التي في قوله تعالى: { إنا عرضنا الأمانة} وقال صاحب «التحرير» : هي عين الإيمان، فإذا استمكنت من قلب العبد قام حينئذٍ بأداء التكاليف واغتنم ما يرد عليه منها وجد في إقامتها (قد نزلت) بالفطرة (في جذر) سيأتي ضبطه ومعناه في الأصل (قلوب الرجال) أي: في أصلها (ثم نزل القرآن) شفاء من أدواء الجهل مزيحاً لظلم الشبه (فعلموا) أي: علموها (من القرآن) بآية { إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض} (وعلموا) أي: علموها (من السنة) بالحديث المذكور.
والحاصل أن الأمانة كانت لهم بحسب الفطرة وحصلت لهم أيضاً بطريق الكسب من الكتاب والسنة (ثم حدثنا) هو الحديث الثاني كما تقدم (عن رفع الأمانة) من العالم (فقال: ينام الرجل النومة) المرة من النوم (فتقبض الأمانة من قلبه) لسوء فعل منه تسبب عنه ذلك قال الله تعالى: { إن الله لا يغير ما يقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم} (الرعد: 11) ويحتمل أن ذلك لانتهاءمدتها فيالعالم (فيظل أثرها مثل الوكت) قال الهروي: هو الأثر اليسير، وعليه اقتصر المصنف فيما سيأتي.
وقال غيره: هو سواد يسير، وقيل: هو لون يحدث مخالفاً للون الذي كان قبله (ثم ينام النومة فتقبض لأمانة) أي: أثرها التام المشبه بالوكت (من قلبه فيظل أثرها) الباقي (مثل أثر المجل) والمجل (كـ) أثر (جمر دحرجته على رجلك فنفط) بكسر الفاء، وذكر مع أن الرجل مؤنثة لإرادة العضو (فتراه) أي: النفط (منتبراً) أي: مرتفعاً افتعال من النبر الارتفاع، ومنه المنبر: ويجوز كون الظرف بدلاً من قوله: «مثل أثر المجل» وخالف بين لفظي أداة التشبيه تحاشياً عن نقل التكرار وجملة (وليس فيه شيء) حالية (ثم) قصد بيان كيفية دحرجة الجمر على الرجل وتنفطها منه فـ (أخذ حصاة فدحرجه على رجله) .
قال المصنف: هكذا وقع في أكثر الأصول فدحرجه وهو صحيح: أي: دحرج المأخوذ.
وفي رواية «فأخذ حصى فدحرجه» قال المصنف: هكذا ضبطناه وهو ظاهر، وما سلكته من أن الوكت ثم المجل هنا الأثران الباقيان من أثر الأمانة هو ظاهر اللفظ، لكن قال صاحب «التحرير شرح مسلم» : معنى الحديث أن الأمانة تزول عن القلوب شيئاً فشيئا، فإذا زال أول جزء منها زال نوره وخلفه ظلمة كالوكت وهو أعراض لون مخالف اللون الذي قبله، فإذا زال شيء آخر صار كالمجل وهو أثر محكم لا يكاد يزول إلا بعد مدة، وهذه الظلمة فوق التي قبلها ثم شبه زوال ذلك النور بعد وقوعه في القلب وخروجه بعد استقراره فيه واعتقاب الظلمة إياه بجمر يدحرجه على رجله حتى يؤثر فيها ثم يزول الجمر ويبقى النفط وأخذه الحصاة ودحرجته إياها أراد به زيادة البيان والإيضاح والله أعلم، وما فسرناه به أظهر والعلم عند الله تعالى (فيصبح الناس) بعد تلك النومة التي رفع فيها الأمانة (يتبايعون فلا يكاد) أي: يقارب (أحد) منهم (يؤدي الأمانة) فضلاً عن أدائها بالفعل (حتى) غائية (يقال) لعزة هذا الوصف وشهرة ما تيصف به (إن في بني فلان رجلاً أميناً) ذا أمانة (حتى يقال للرجل ما أجلده) على العمل (ما أظرفه) من الظرف (ما أعقله) أي: ما أشد يقظته وفطانته (وما في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان) فضلاً عن الأمانة التي هي من شعبه (ولقد أتى عليّ)بتشديد التحتية (زمان وما أبالي أيكم بايعت) المراد المبايعة المعروفة ونقل عياض وصاحب «التحرير» أن المراد عقد بيعة الخلافة وغيرها من التحالف في أمور الدين قال المصنف: هذا خطأ من قائله.
وفي الحديث مواضع تبطله، منها قوله: ولئن كان يهودياً أو نصرانياً، ومعلوم أن اليهودي والنصراني لا يعاقد على شيء من أمور الدين اهـ والجملة حالية، وعائد أي محذوف، أي: لا أبالي بالذي بايعته لعملي بأن الأمانة لم ترتفع وأن في الناس وفاء بالعهد، فكنت أقدم على مبايعة من لقيت غير باحث عن حاله وثوقاً بالناس وأمانتهم فإنه وا (لئن كان مسلماً ليردنه) بفتح الدال (عليَّ دينه) لما يحمله على أداء الأمانة لأهلها وترك الخيانة (وإن كان نصرانياً أو يهودياً) ليس عنده من الإيمان ما يحمله على أداء الأمانة لأهلها (ليردنه عليَّ ساعيه) أي: الوالي عليه: أي يقوم بالأمانة فيستخرج حقي منه (وأما اليوم) فقد ذهبت الأمانة إلا القليل فلذا قال: (فما كنت أبايع منكم إلا فلاناً وفلاناً) يعني أفراداً أعرفهم وأثق بهم.
قال الكرماني: إن قلت رفع الأمانة ظهر في زمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فما وجه قول حذيفة: وأنا أنتظر الثانية.
قلت: المنتظر هو الرفع بحيث يبقى أثرها مثل المجل ولا يصح الاستثناء بمثل فلاناً وفلاناً، وهذا الحديث من أعلام النبوة (متفق عليه) رواه البخاري في «الرقاق» و «الفتن» والاعتصام، ورواه مسلم في «الإيمان» ، ورواه الترمذي وابن ماجه في «الفتن» كذا في «الأطراف» للمزي (قوله: جدر بفتح الجيم) قال المصنف: وكسرها لغتان.
قال القاضي عياض: مذهب الأصمعي في الحديث فتح الجيم وأبو عمرو بكسرها وإسكان الذال المعجمة مع الوجهين في الجيم (وهو أصل الشيء، والوكت) بوزن الفلس (بالناء المثناة الأثر اليسير، والمجل: بفتح الميم وإسكان الجيم وفتحها لغتان حكاهما صاحب «التحرير» والمشهور الإسكان فلذا اقتصر عليه المصنف هنا، يقال مجلت يده بكسر الجيم تمجل بفتحها مجلاً بفتحها أيضاً ومجلت بفتح الجيم تمجل بضمها مجلاً بإسكانها لغتان مشهورتان وأمجلها غيره.
قال أهل اللغة والغريب: المجل (تنفط في اليد ونحوها من أثر عمل) بفأس أو نحوها وتصير كالقبه فيه ماء قليل.
(قولهمنتبراً) اسم فاعل: أي: مرتفعاً (قوله ساعيه: الوالي عليه) .


رقم الحديث 201 ( وعن حذيفة وأبي هريرة رضي الله عنهما قالا: قال رسول الله: يجمع) بالبناء للفاعل ومرجع الضمير هو الله تعالى وقد صرح به في نسخة، وقوله: ( تبارك) أي: بارك ( وتعالى) علواً معنوياً عما لا يليق بشأنه جملة في محل الحال و ( الناس) مفعول: بجمع أي: يجمعهم بعد البعث بأرض المحشر ( فيقوم المؤمنون) أي: دون الكفار، ويحتمل أن يكون معهم المنافقون ثم يميزوا عند المرور على الصراط ( حتى تزلف) بضم الفوقية وسكون الزاي وفتح اللام: أي: تقرب ( لهم الجنة) قال تعالى: { وأزلفت الجنة للمتقين} ( فيأتون آدم فيقولون: يا أبانا استفتح لنا الجنة) أي: اسأل لنا من الله فتحها لندخلها ( فيقول: وهل أخرجكم من الجنة إلا خطيئة أبيكم) .
قال المصنف في باب إثبات الشفاعة من «شرح مسلم» : اعلم أن العلماء من أهل الفقه والأصول وغيرهم اختلفوا في جواز المعاصي على الأنبياء.
وقد لخص القاضي عياض مقاصد المسألة فقال: لا خلاف أن الكفر عليهم بعد النبوة ليس بجائز بل هم معصومون منه.
واختلف فيه قبل النبوة والصحيح أنه لا يجوز؛ وأما المعاصي فلا خلاف أنهم معصومون من كل كبيرة.
واختلف هل ذلك بطريق العقل أو الشرع؟ فقال الأستاذ أبو إسحاق ومن معه: ذلك ممتنع من متقضى دليل المعجزة.
وقال القاضي أبو بكر الباقلاني ومن وافقه: ذلك من طريق الإجماع.
وذهب المعتزلة إلى أن ذلك من طريق العقل، وكذلك اتفقوا على أن كل ما كان طريقه الإبلاغ في القول فهم معصومون فيه على كل حال.
أما ما كان من طريق الإبلاغ في الفعل فذهببعضهم إلى العصمة فيه رأساً وأن السهو والنسيان لا يجوز عليهم فيه، وتأولوا أحاديث السهو في الصلاة، وهذا مذهب الأستاذ أبي المظفر الإسفراييني من أئمتنا الحراسانيين المتكلمين وغيره من مشايخ المتصوفة.
وذهب بعض المحققين وجماهير العلماء إلى جواز ذلك ووقوعه منهم وهذا هو الحق، ثم لا بد من تنبيههم عليه وذكرهم إياه إما في الحين على قول جمهور المتكلمين، وإما قبل وفاتهم على قول بعضهم ليبينوا حكمه قبل انخرام مدتهم وليصح تبليغهم ما أنزل إليهم، وكذا لا خلاف أنهم معصومون من الصغائر التي تزري بفاعلها أو تحط منزلته أو تسقط مروءته.
واختلفوا في وقوع غيرها من الصغائر؛ فذهب جماعة من أهل التحقيق والنظر من الفقهاء والمتكلمين من أئمتنا إلى عصمتهم من الصغائر كعصمتهم من الكبائر، فإن منصب النبوة يجلّ عن مواقعتها وعن مخالفة الله عمداً، وتكلموا على الآيات والأحاديث الواردة في ذلك وتأولوها، وأن ما ذكر عنهم في ذلك إنما هو فيما كان منهم عن تأويل أو سهو أو من غير إذن من الله تعالى في أشياء أشفقوا من المؤاخذة بها وهذا المذهب هو الحق، وأنه لو صح منهم ذلك لم يلزمنا الاقتداء بأفعالهم وإقرارهم وكثير من أقوالهم، ولا خلاف في الاقتداء بذلك، وإنما اختلاف العلماء في أنه واجب أو مندوب أو مباح أو يفرق بين القرب وغيرها.
قال القاضي: وقد بسطنا القول في هذا الباب في كتاب «الشفاء» وبلغنا فيه المبلغ الذي لا يوجد في غيره، وتكلمنا على الظواهر في ذلك بما فيه كفاية اهـ.
قلت: وقد ألف في عصمة الأنبياء وتأويل الآيات الظاهرة في خلاف ذلك الصابوني البخاري كتاباً حافلاً ( لست بصاحب ذلك) أي: لست صاحب التشريف بهذا المقام المنيف.
قال القاضي عياض: هذا المنقول عن آدم وغيره من الأنبياء يقولونه تواضعاً وإكباراً بما يسألونه.
وقد يكون فيه إشارة إلى أن هذا المقام ليس له بل لغيره، وكل واحد منهم يدل على الآخر حتى ينتهي الأمر إلى صاحبه، ويحتمل أنهم علموا أن صاحبها محمد معيناً وتكون إحالة كل واحد منهم على الآخر على تدريج الشفاعة في ذلك إلى نبينا.
قال: وفيه تقديم ذوي الأسنان والآباء على الأبناء، والحكمة في إلهامهم سؤال آدم والبدء به ثم من بعده واعتذار كل بأنه ليس أهل ذلك ليظهر كمال شرفه على سائر الرسل، إذ لو جاءوا إليه وأجابهم وأجيب لهم لم يظهر كمال التمييز إذ كان احتمال أن هذا الأمر له ولغيره من الرسل، فلما تأخر كل عن ذلك وتقدم هو له علم أنه السيد المقدم ( اذهبوا إلى نبي الله إبراهيم خليل الرحمن) أصل الحلة الاختصاص والاستصفاء، وقيل: أصلها الانقطاع إلى من خاللت، مأخوذة من الخلة: الحاجة؛ تسمى إبراهيم بذلك لأنه قصر حاجته على اللهتعالى.
وقيل: الحلة صفاء المودة التي توجب تخلل الأسرار؛ وقيل: معناه المحبة والإلطاف، هذا كلام القاضي عياض.
قال المصنف: وقال ابن الأنباري: معناه المحبّ الكامل المحبة والمحبّ الموفي بحقيقة المحبة اللذان ليس في حبهما نقص ولا خلل.
قال الواحدي: هذا القول هو الاختيار لأن الله عزّ وجلّ خليل إبراهيم وإبراهيم خليلالله، ولا يجوز أن يقال الله تعالى خليل إبراهيم من الخلة التي هي الحاجة، والله أعلم ( فيقول إبراهيم: لست بصاحب ذلك) المقام ( وإنما كنت خليلاً من وراء وراء) قال المصنف: قال صاحب «التحرير» : هذه كلمة تذكر على سبيل التواضع: أي: لست بتلك الدرجة الرفيعة.
وقد وقع لي فيه معنى مليح: هو أن معناه أن المكارم التي أعطيتها كانت بسفارة جبريل ( اعمدوا) اقصدوا ( إلى موسى فإنه كلمه الله تكليماً) فحصل له السماع بلا واسطة، وكرّر وراء لكون نبينا حصل له السماع بغير واسطة وحصل له الرؤية فقال إبراهيم: أنا وراء موسى الذي هو وراء محمد، هذا كلام صاحب «التحرير» .
قال المصنف: وأما ضبط وراء وراء فالمشهور فيه الفتح بلا تنوين، ويجوز عند أهل العربية بناؤهما على الضم، وقد جرى في كلام بين الحافظ أبي الخطاببن دحية والإمام أبي اليمن الكندي، فرواه ابن دحية بالفتح وادعى أنه الصواب.
وأنكره الكندي وادعى أن الضم هو الصواب ولذا قال أبو البقاء: الصواب الضم لأن التقدير من وراء ذلك أو من وراء شيء آخر.
قلت: قال القرطبي: الأولى بنيت على الضم لقطعها عن الإضافة لفظاً، وأما الثانية فيحتمل أن تكون كالأولى على تقدير حذف «من» لدلالة الأولى عليها: ويحتمل أن يكون الثانية تأكيداً لفظياً للأولى، ويجوز أن تكون بدلاً منها أو عطف بيان اهـ.
قال: فإن صح الفتح قبل، وتكون الكلمة مؤكدة كشذر مذر وسقطوا بين بين فركبهما وبناهما على الفتح فإن ورد منصوباً منوّناً جاز جوازاً جيداً.
قال المصنف: ونقل الجوهري عن الأخفش أنه يقال: لقيته من وراء، مرفوع على الغاية كقولك من قبل ومن بعد، قال الشاعر: إذا أنا لم أومن عليك ولم يكن لقاؤك إلا من وراء وراء بضمها، والله أعلم.
وقال القرطبي في «المفهم» : صحيح الرواية فيه بالمد والفتح في الهمزتين، ونقل عن أصل شيخه أبي الصبر أيوب أنه من وراء وراء، بتكرير وراء وفتح الهمزة فيهما.
قال: قد اعتنى بهذا الكتاب يعني صحيح مسلم أتم الاعتناء قال:وحينئذٍ فيحتمل أن وراء قطعت عن الإضافة ولم يقصد قصد مضاف بعينه فصارت كأنها اسم علم وهي مؤنثة، قال الجوهري: إنها مؤنثة لأنهم قالوا في تصغيرها ورية، وعلى هذا فهمزتها ليست للتأنيث ولأن ألف التأنيث لا تقع ساكنة اهـ ( فيأتون موسى فيقول: لست بصاحب ذلك) المقام ( اذهبوا إلى عيسى) قال البيضاوي في «التفسير» : عيسى معرّب أيسوع، وجعله مشتقاً من العيس وهو بياض تعلوه حمرة تكلف لا طائل تحته ( كلمة ا) بفتح فكسر على الأفصح، وأطلق ذلك على عيسى لأنه وجد بأمره تعالى وهو قوله: «كن» دون أب، فشابه البدعيات التي هي عالم الأمر ذكره البيضاوي.
وقال الحافظ ابن حجر: قيل: له ذلك إشارة إلى أنه حجة الله على عباده إذ أوجده من غير أب وأنطقه في غير أوان وأحيا الموتى على يده وقيل: سمي كلمة الله لأنه أوجده بقوله: «كن» فلما كان بكلامه سمي به كما يقال سيف الله وأسدالله، وقيل: لما قال في صغره { إني عبد ا} ( مريم: 3) اهـ.
( وروحه) قيل: سمي بذلك لأنه يحيي الأموات أو القلوب، وقيل: إنه على تقدير مضاف، والمعنى: أنه ذو روح من الله عزّ وجلّ لا بتوسط ماء يجري مجرى الأصل والمادة له ( فيقول عيسى) أي: بعد أن يأتوا إليه ويسألوه ذلك.
ففي الكلام مطوي يدل عليه السياق ( لست بصاحب ذلك) المقام والباء مزيدة للتأكيد ( فيأتون محمداً) أي: لدلالة عيسى عليه الصلاة والسلام لهم على ذلك كما جاء في الروايات الأخرى، ففيه مطوي دلّ عليه ما تقدم، وثم مطويّ أيضاً تقديره: فيقولون يا رسول الله استفتح لنا الجنة مثلاً أو اشفع لنا في الإراحة من طول المواقف كما جاء في الروايات الأخرى ( فيقوم) أي: إلى تحت العرش ويسجد تحته ويفتح عليه بمحامد يحمد الله بها حينئذٍ لم يفتح عليه بها قبل ( فيؤذن له) في الشفاعة ( وترسل) بضم الفوقية أوله مبيناً للمجهول ( الأمانة والرحم) بفتح الراء وكسر المهملة: أي: القرابة التي تطلب صلتها شرعاً ( فيقومان) بالمثناة الفوقية ( جنبتي الصراط) بفتح الجيم وسكون النون وفتح الموحدة والفوقية: أي: جانبيه.
قال المصنف وإرسالهما لعظم أمرهما وكبر موقعهما فيصوران شخصين على الصفة التي يريدها الله تعالى.
قال: وقال صاحب «التحرير» : في الكلام اختصار والسامع فهم أنهما يقومان ليطالبا من يريد الجواز بحقهما ( فيمرأولكم) أيها المخاطبون، والمراد الأمة وهم أولها وأولاها بالفضل ( كالبرق) أي: كمرّ البرق ( قال) أي: أحد الروايين عن النبي ( بأبي وأمي) أي: أنت مفدى بهما ( أي شيء كمرّ البرق) أي: ما معناه وكيف سرعته ( قال ألم تروا) بفتح التاء تبصروا ( كيف يمرّ) أي: آتيا ( ويرجع) آتيا ( في طرفة عين) أي: وقوع الجفن على الجفن المسمى برمش البصر وهو زمن يسير جداً.
وفي «الصحاح» : وطرف بصره بطرف طرفاً: إذا أطبق أحد جفنيه على الآخر الواحدة من ذلك طرفة، يقال أسرع من طرفه عين اهـ.
وفي «الكشاف» في قوله تعالى: { أنا آتيك به قبل يرتدّ إليك طرفك} ( النمل: 4) ويجوز أن يكون هذا مثالاً لاستقصار مدة المجيء به كما تقول لصاحبك افعل ذلك في لحظة وفي ردة طرف وما أشبه ذلك تريد السرعة، وفي «تفسير البيضاوي» وهذا غاية في الإسراع وملل فيه اهـ ( ثم) للتراخي في الرتبة أي ثم الفرقة التي تلي الفرقة الأولى ( كمر الريح ثم) الفرقة التالية لها ( كمرّ الطير وأشد الرجال) بالجيم جمع راجل قال: هو الصحيح المعروف المشهور.
ونقل القاضي أنه في رواية ابن ماهان بالحاء.
قال القاضي: وهما متقاربان في المعنى، وشدها: عدوها البالغ وجريها ( تجري بهم أعمالهم) قال المصنف: هو كالتفسير لقوله: «فيمر أولكم كالبرق» والمعنى: أنكم في سرعة السير على حسب المراتب والأعمال ( ونبيكم) لكمال شفقته ومزيد عنايته بنا معشر أمته ( قائم على الصراط) لتنجو به أمته من المخاوف وتصرف به عنها أنواع المكاره والمتالف ( يقول) لما في المرور على الصراط من الأحوال وزلّ بعض الأقدام، وهو حال بناء على مجيئه من المبتدأ وهو ما عليه سيبويه، أو خبر بالجملة بعد الخبر بالمفرد، ويجوز أن يكون استئنافاً بيانياً جواباً لسؤال تقديره ما يكون منه حال قيامه يومئذٍ فأجيب بقوله يقول ( ربّ) حذف حرف النداء لأن المقام لعظم هو له مقام الإيجاز.
وفي رواية لمسلم في حديث آخر في المعنى «ودعوى الرسل يومئذٍ اللهم» ( سلم سلم) ولعله تارة يقول ربّ وتارة يقول اللهم سلم سلم.
وفي نسخة: ربّ سلم بإعادة لفظ ربّ قال المصنف: فيه أن الدعاء يكون بحسب المواطن فيدعو في كل موطن بما يليق به.
وسلم بفتح أوله المهمل وتشديداللام المسكورة ( حتى تعجز) بكسر الجيم ( أعمال العباد) بالمتخلفين عن الإسراع في الصراط: أي: تضعف أعمالهم الصالحة عن سرعة المرور بهم عليه فيبطئون في السير وحيت في الخبر غائبة: أي يتفاوت الإسراع بحسب تفاوت الأعمال إلى أن تصل لمرتبة عجز الأعمال عن الإسراع بصاحبها، لكن فيها قوة حمله على السير وإلى أن تضعف فوق ذلك كما قال: ( وحتى يجيء الرجل لا يستطيع السير) أي: على الصراط ( إلا زحفاً) لفقد قوة العمل الحاملة على السير، والمراد من الزحف السير على الإست.
قال السيوطي في «الدرر» : زحف الرجل انسحب على إسته اهـ.
قلت: وفي رواية لمسلم «حتى يمرّ آخرهم يسحب سحباً» ( وفي حافتي الصراط) بتخفيف الفاء أي جانبيه ( كلاليب) جمع كلوب بفتح الكاف وضم اللام المشددة وهو حديدة معقوفة الرأس يعلق عليها اللحم ويرسل في التنور.
وقال صاحب «المطالع» : هي خشبة في رأسها عقافة حديد، وقد تكون حديداً كلها ويقال لها أيضاً كلاب اهـ ( معلقة) أي: بالصراط ( مأمورة بأخذ من أمرت) بالبناء للمفعول ونائب الفاعل يعود إلى الكلاليب و ( به) متعلق بأمرت يحتمل أن يكون على حقيقته بأن خلق لها إدراك وأمرت بأخذ من أمرت به.
ويحتمل أن يكون على تصغيرها لأخذ من يؤخذ بها، ثم الواو في «وفي حافتي» يحتمل أن تكون واو الحال، ويحتمل العطف/ «ومعلقة مأمورة» الظاهر أنهما مرفوعان صفة لكلاليب، وكذا هو مضبوط في الأصل ولو نصبا على الحال المترادفة أو المتداخلة لجاز لتخصيص الكلاليب بتقديم خبرها الظرف إلا أن صحت الرواية بالرفع ( فمخدوش) أي: بشيء مما يعلق به في الصراط ( ناج) أي: من النار، وهو بمعنى قوله في الروايات الأخرى: «ومخدوش مرسل» فالمراد نجاته من العذاب الذي حل فيه قسيمه المذكور في قوله ( ومكردس في النار) .
الله وقال المصنف: كذا وقع في هذا الحديث «مكردس» بالراء ثم الدال المهملتين، والذي في باقي الروايات مكدوس بضم الدال المهملة بعدها واو قال: وهو قريب من معنى المكردس «ومكردس» بالسين المهملة في الأصول ومعناه كون الأشياء بعضها على بعض، ومنه تكردست الدابة في سيرها: إذا ركب بعضها بعضاً.
ونقل القاضي عياض هذه الرواية عن أكثر الرواة ثم قال: ورواه العذري بالشين المعجمة ومعناه السوق ( والذي نفس أبي هريرة بيده) أي: بقدرته وإرادته، وهذا مدرج من كلام أبي هريرة متصلبآخر الحديث، وجواب القسم ( إن قعر جهنم لسبعون خريفاً) .
قال المصنف في «شرح مسلم» : هو في الأصول بالواو، وهذا ظاهر وفيه حذف وتقديره: إن مسافة قعر جهنم سير سبعين خريفاً.
ووقع في معظم الأصول والروايات لسبعين بالياء وهو صحيح أيضاً؛ أما على مذهب من يحذف المضاف ويبقي المضاف إليه على جره فيكون التقدير: سير سبعين خريفاً، وأما على أن قعر مصدر يقال قعرت الشيء: إذا بلغت قعره، ويكون «سبعين» ظرف زمان وفيه خبر إن: التقدير: إن بلوغ قعر جهنم لكائن في سبعين خريفاً.
والخريف سنة اهـ.
قلت: وهو فيما وقفت عليه من نسخ الرياض بالياء التحتية وقد علمت وجهه، وسيأتي إن شاء الله تعالى في كتاب الصيام نكتة تسمية السنة بالخريف ( رواه مسلم) في آخر كتاب الإيمان من «صحيحه» وانفرد به البخاري وأصحاب السنن ( قوله) في الحديث ( وراء وراء هو بالفتح فيهما) على أنهما ظرفان ركبا فبنيا على الفتح تخفيفاً، ومثله قول العرب: هو يأتينا صباح مساء، وأما وجه النصب والتنوين اللذين قال فيهما المصنف إن وردت بهما الرواية جاز جوازاً جيداً فهو أن كلاً منهما ظرف ( وقيل بالضم بلا تنوين) بناء على أنه من أسماء الغايات لحذف المضاف إليه ونية معناه ( ومعناه لست بـ) صاحب ( تلك الدرجة الرفيعة) وتقدم بسط الكلام في ذلك.
قال صاحب «التحرير» : ( وهي كلمة تذكر على سبيل التواضع) : أي: لست بتلك الدرجة ( وقد بسطت معناها في شرح صحيح مسلم) وقد قدمته عنه وذيلته بفوائد عن القرطبي ( والله أعلم) .


رقم الحديث -26 (قال الله تعالى) : { إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها} ) قال في «النهر» بعد أن نقل أن سبب نزول الآية قصة مفتاح الكعبة.
وعن ابن عباس وغيره: نزلت في الأمراء وأن يؤدوا الأمانة فيما أئتمنهم الله من أمر رعيته.
ومناسبتها لما قبلها هو أنه تعالى لما ذكر وعد المؤمنين وذكر عمل الصالحات نبه على هذين العملين الشريفين اللذين من اتصف بهما كان أحرى أن يتصف بغيرهما من الأعمال الصالحة: فأحدهما ما يختص به الإنسان فيما بينه وبين غيره وهو أداء الأمانة.
والثاني ما يكون بين اثنين من الفصل بينهما بالحكم العدل الخالي عن الهوى، وهر من الأعمال العظيمة التي أمر الله بها رسله وأنبياءه والمؤمنين.
ولما كانت الترتيب الصحيح أن يبدأ الإنسان بنفسه في جلب المصالح ودفع المضار ثم يشتغل بحال غيره، أمر بأداء الأمانة ثم بعده بالأمر بالحكم بالحق.
(وقال تعالى) : { إنا عرضنا الأمانة} ) قال في «النهر» : الظاهر أنها كل ما يؤمن عليه من أمر ونهي وشأن من دين ودنيا، فالشرع كله أمانة والظاهر عرض الأمانة أي الأوامر والنواهي ( { على السموات والأرض والجبال} ) فتثاب إن أحسنت وتعاقب إن أساءت ( { فأبين أن يحملنها وأشفقن منها} ) وذلك بإدراك خلقه الله تعالى فيها وهو غير مستحيل، إذ قد سبح الحصى في كفه، وحنّ إليه الجذع، وكلمته الذراع، فيكون العرض والإباء والإشفاق على هذا حقيقة.
قال ابن عباس: أعطيت الجمادات فهما وتمييزاً فخيرت في الحمل وذكر الجبال مع أنها من الأرض لزيادة قوتها وصلابتها تعظيماً للأمر، وقيل: المراد الإشارة إلى كمال عظمها وأنها بحيث لو عرضت على هذه الأجرام العظام وكانت ذات شعور وإدراك لأبين أن يحملنها وأشفقن منها (وحملها الإنسان) مع ضعف بنيته ورخاوة قوته، لا جرم فإن لاراعي لها والقائم بحقوقها بخير الدارين (إنه كان ظلوما) وصفه به لكونه تاركاً أداء الأمانة (جهولاً) بكنه عاقبتها.
وفي الآية وجوه أخر ذكر بعضها القاضي البيضاوي.


رقم الحديث 202 ( وعن أبي خبيب: «بضم الخاء المعجمة» ) أي: وفتح الموحدة وسكون التحتية بعدها موحدة كنية عبد ابن الزبير، كني: بأكبر أولاده.
قال العلقمي في «حاشية الجامع الصغير» : وله ثلاث كنى ذكرها البخاري في التاريخ وآخرون: أبو خبيب، وأبو بكر، وأبو بكير بالتصغيراهـ.
وقال الحافظ ابن حجر، كان يكنيه بأبي خبيب من لا يريد تعظيمه، لأنه كني في الأول بكنية جده لأمه الصديق اهـ ( عبد ابن الزبير) بضم الزاي وفتح الموحدة وسكون التحتية بعدها راء ( ابن العوام) بن خويلدبن أسدبن عبد العزىبن قصي ( القرشي الأسدي) المكي المدني الصحابي ابن الصحابي ( رضي الله عنهما) أمه ذات النطاقين أسماء بنت أبي بكر الصديق، وأبوه الزبير أحد العشرة المشهود لهم بالجنة وحواريّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجدته صفية عمة النبيّ ورضي الله عنها، وعمة أبيه حذيجة بنت خويلد أم المؤمنين، وخالته عائشة أم المؤمنين، وهو أول مولود ولد للمهاجرين إلى المدينة بعد الهجرة، وفرح المسلمون بولادته فرحاً شديداً لأن اليهود كانوا يقولون قد سحرناهم فلا يولد لهم فأكذبهم الله تعالى، وحنكه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بتمرة لاكها، فكان ريق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أول شيء دخل جوفه، وكناه أبا بكر بكنية جده الصديق وسماه عبد الله باسمه، ولد بعد عشرين شهراً من الهجرة وقيل في السنة الأولى.
وكان صوّاماً قوّاماً طول الليل، وصولاً للرحم، عظيم الشجاعة.
بويع له بالخلافة لما مات يزيدبن معاوية وأطاعه أهل اليمن والحجاز والعراق وخراسان، وجدد عمارة الكعبة، وبقي في الخلافة إلى أن حصره الحجاجبن يوسف الثقفي بمكة أول ليلة من ذي الحجة سنة اثنتين وسبعين، وحجّ الحجاج بالناس ولم يزل محاصره إلى أن قتله شهيداً يوم الثلاثاء سابع عشر جمادى الأولى سنة ثلاث وسبعين، وقيل في نصف جمادى الآخر، وقيل سنة اثنتين وسبعين، والمشهور الأول، روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة وثلاثون حديثاً، اتفقا على ستة، وانفرد مسلم بحديثين.
فائدة: قال المصنف في «التهذيب» : عبد ابن الزبير هو أحد العبادلة الأربعة، وهم ابن عمر وابن عباس وابن الزبير وابن عمروبن العاص، قاله أحمدبن حنبل وسائر المحدثين وغيرهم.
قيل لأحمدبن حنبل: وابن مسعود؟ ليس هو منهم.
قال البيهقي: لأنه تقدمت وفاته وهؤلاء عاشوا طويلاً حتى احتيج إلى علمهم، فإذا اتفقوا على شيء قيل هذا قول العبادلة، ويلحق بابن مسعود فيما ذكر سائر المسلمين بعبد الله من الصحابة وهو نحو مائتين وعشرين.
وقول الجوهري في «صحاحه» ابن مسعود أحد العبادلة وأخرج ابن العاص غلط نبهت عليه لئلا يغترّ به اهـ.
زاد في «المبهمات» له: وكيف يعارض بقوله قول الإمام أحمد وغيره اهـ.
وفي العبادلة أقوال أخر ذكرها السخاوي في «شرح ألفية الحديث» ، قال: وممن جرى على عدّ ابن مسعود من العبادلة ابن هشام النحوي في «التوضيح» .
قلت: لكن أول اللقاني عبارة «التوضيح» بما تنبو عنه عبارته.
وحاصله أن مراده بالعبادلة المفهومون من تلك الأسماء لاالعبادلة المشهورون، قال: فلا يرد أن ابن مسعود ليس من العبادلة، تأمل ( قال لما وقف الزبير يوم الجمل) أي: الوقعة المشهورة التي كانت بين عليبن أبي طالب ومن معه وبين عائشة ومن معها ومن جملتها الزبير، ونسبت الوقعة إلى الجمل لأن يعلىبن أمية الصحابي المشهور كان معهم، فأركب عائشة على جمل عظيم اشتراه بمائة دينار وقيل: بثمانين وقيل: بأكثر فوقف به في الصف، فلم يزل الذين معها يقاتلون حول الجمل حتى عقر الجمل فوقعت عليهم الهزيمة، وكان ذلك في جمادى الأولى أو الآخرة سنة ستّ وثلاثين.
واسم ذلك الجمل عسكر ( دعاني فقمت إلى جنبه) الفاء فيه عاطفة على محذوف: أي: فأجبته فأتيت فقمت إلى جانبه ( فقال: يا بني) بكسر الياء المشددة وفتحها، ذكره المرادي في «شرح الخلاصة» ، وذكر المصنف في أواخر كتاب الأدب من «شرح مسلم» جواز إسكان الياء قال: وبالحركتين قرىء في السبع، وقرأ بعضهم بإسكانها وبني بضم الموحدة وفتح النون مصغر، وقد بسطت الكلام فيه في باب «ما يقول إذا دخل بيته» من «شرح الأذكار» ( إنه لا يقتل) بالبناء للمفعول ( اليوم إلا ظالم أو مظلوم) .
قال ابن التين: لأنهم إما صحابي متأول فهو مظلوم، وإما غير صحابي قاتل لأجل الدنيا فهو ظالم.
قال الكرماني: إن قيل جميع الحروب كذلك.
فالجواب أنها أول حرب وقعت بين المسلمين.
قال الحافظ ابن حجر: ويحتمل أن تكون «أو» للشك من الراوي، وأن الزبير إنما قال أحد اللفظين أو للتنويع: أي لا يقتل اليوم إلا ظالم بمعنى أنه ظن أن الله يعجل للظالم منهم العقوبة أو لا يقتل اليوم إلا مظلوم، إما لاعتقاده أنه كان مصيباً وإما لأنه سمع ما سمع عليّ من الحديث المرفوع «بشر قاتل ابن صفية بالنار» رواه أحمد وغيره بإسناد صحيح، ووقع عند الحاكم من طريق أخرى في هذا الحديث مختصراً عن هشامبن عروة عن الزبير قال: «وا لئن قتلت لأقتلنّ مظلوماً، وا ما فعلت وما فعلت» يعني: أشياء من المعاصي، ثم كان خروج الزبير وطلحة وغيرهما من كبار الصحابة مع عائشة لطلب قتلة عثمان وإقامة الحدّ عليهم لا لقتال عليّ، لأنه لا خلاف أنه كان أحقّ بالإمامة من جميع أهل زمانة وكانت قتلة عثمان لجئوا إلى عليّ فرأى أنه لا يسلمهم للقتل حتى تسكن الفتنة وتجري الأمور على ما أحبّ، فكان ما جرى به القلم من الأمور التي قدرت فوقعت؛ ولذا قال الزبير لما رأى شدة الأمر وأنهم لا ينفصلون إلا عن قتال ( وإني لا أراني) بضم الهمزة: أي لا أظنني ( إلا سأقتل اليوم مظلوماً) .
قال الحافظ ابن حجر: ويجوز فتحها بمعنى الاعتقاد، وذلك الأمر قد تحقق لأنه قتل غدراً بعد أن ذكّرهعليّ فانصرف عن القتال، فنام بمكان ففتك به رجل من بني تميم يقال له: ابن جرموز بضم الجيم والميم بينهما راء مهملة ساكنة وآخرى زاي، وكان ذلك بوادي السباع.
وروى الحاكم من طريق متعددة أن علياً ذكرّ الزبير بأن النبيّ قال له: «لتقاتلنّ علياً وأنت له ظالم» فرجع لذلك منصرفاً ( وإن من أكبر همي لديني) وفي رواية غثام: «انظر يا بني ديني فإنه لا أدع شيئاً أهمّ منه عليّ» ( أفترى) أي: تظن ( أن ديننا يبقى من مالنا شيئاً) قاله استكثاراً لما عليه وإشفاقاً من دينه.
وفيه الوصية عند الحرب لأنها من أسباب الموت كركوب البحر ( ثم قال: يا بنيّ بع ما لنا واقض) بهمزة وصل ( ديني وأوصى بالثلث) أي ثلث ماله: أي الفاضل عن قضاء الدين ( وثلثه) أي ثلث الثلث ( لبنيه يعني لبني عبد ا) .
قال الكرماني وتبعه الشيخ زكريا: أوصى بالثلث الفاضل مطلقاً وبثلث الثلث لحفدته أولاد عبد الله اهـ.
وقال الحافظ: فسر وصيته: أي بالثلث وثلثه بقوله ( قال) أي الزبير ( فإن فضل) بفتح الضاد المعجمة أي بقي ( من مالنا بعد قضاء الدين شيء فثلثه لبنيك) والثلث بضمتين.
قال الحافظ: وضبطه بعضهم بتشديد اللام بصيغة الأمر من التثليث وهو أقرب.
ووقع في المصابيح للدماميني: وأوصى بالثلث من ثلثه لبنيه، قال الدماميني: إنما أوصى بثلث الثلث لبني ولده عبد الله، فالضمير في بنيه عائد إليه، ثم بنى عليه استشكال قوله فإن فضل فثلثه لبنيك بأن مقتضاه صرف الثلث الفاضل لولده عبد الله، وسبق منه التصريح بأن الموصى به لهم ثلث الثلث.
وأجاب بأن المراد فإن فضل بعد الدين شيء يصرف لجهة الوصية فثلثه لولدك اهـ.
والذي شرح عليه الحافظ وأوصى بالثلث وثلثه بالواو ( قال عبد ا) بن الزبير ( فجعل يوصيني بدينه ويقول: يا بنيّ إن عجزت) بفتح الجيم أفصح من كسرها ( عن قضاء شيء منه فاستعن عليه بمولاي) أي: با عزّ وجلّ وعنه كمال الوثوق بالمولى والاستعانة به في كل حال ( فوا ما دريت) أي عرفت ( ما أراد) أي: بقوله استعن عليه بمولاي، إذ هو يحتمل ما ذكر أولاً، ويحتمل ولاء الحلف وولاء العتاقة: أي بالذين أعتقهم ونحو ذلك، إذ لفظ المولى مشتركبين عدة معان كالناصر وابن العم والمعتق والعتيق والحليف وقد ذكرها في «النهاية» ( حتى قلت) مستفسراً ( يا أبت) بكسر التاء الفوقية وفتحها ( من مولاك؟ قال: ا) أي: الله مولاي فالخبر محذوف، ويجوز أن يكون المبتدأ محذوفاً ولفظ الجلالة خبر ( قال) عبد الله ( فوا ما وقعت في كربة) بضم الكاف وسكون الراء: الحزن الذي يأخذ بالنفس ويجمع على كرب ( من) تعليلية، ويحتمل كونها للابتداء ( دينه إلا قلت: يا مولى الزبير اقض عنه دينه فيقضيه) أي: يسهل ما يحصل به القضاء.
وفيه أن من استعان بمولاه في الأمور فهو المعان ( قال: فقتل) بالبناء للمجهول ( الزبير ولم يدع) يترك ( ديناراً ولا درهماً إلا أرضين) استثناء منقطع، وأرضين بفتح الراء قاله الدماميني فهو جمع أرض بسكونها جمع تكسير ( منها الغابة) بغين معجمة وباء موحدة: أرض عظيمة شهيرة من عوالي المدينة.
وقال الحافظ ابن حجر: كذا وقع فيه «منها» بالإفراد وصوابه «منهما» وهذا منه يقتضي أن أرضين مثنى أرض فيكون بسكون الراء وفتح الضاد، وبه يتعقب ضبط الدماميني بفتح الراء: فإن القول ما قالت حذام خصوصاً وقد ذكر الدماميني أنه في «المصابيح» لم يجد ما يستضيء به فيها مما يضبط به الروايات للغربة وفقد الكتب وأرباب الفن ( وإحدى عشرة داراً بالمدينة ودارين بالبصرة) بتثليث الموحدة وإسكان الصاد وتحرك بفتحة وبكسرة كما في «القاموس» : وهو اسم لبلدة مشهورة مصّرها عمربن الخطاب ( وداراً بالكوفة) بلدة معروفة مصّرها عمر أيضاً.
قال المصنف في «التهذيب» : قيل سميت بذلك لاستدارتها، تقول العرب: رأيت كوفاناً وكوفة: للرمل المستدير، وقيل: لاجتماع الناس من قول العرب تكوّف الرمل: إذا ركب بعضه بعضاً، وقيل: لأن طينها خالطه حصى وكل ما كان كذلك فهو كوفة.
قال الحازمي وغيره: ويقال للكوفة كوفان بضم الكاف وإسكان الواو آخره نون، وذكر ابن قتيبة في غريبه في كوفان ضم الكاف وفتحها ( وداراً بمصر) ممنوع الصرف على الأفصح الذي جاء فيه القرآن للعلمية والتأنيث، وهي البلد المعروف، وحدها طولاً من برقة التي في جنوب البحر الرومي إلى أيلة، وعرضاً من مدينة أسوان وما سامتها من الصعيد الأعلى إلى رشيد وما حاذاها من مساقط النيل في البحر الرومي، سميت بذلك باسم من سكنها أولاً مصربنينصربن سامبن نوح.
ثم بعد بيان مخلفات أبيه المستبعد بل الحال لولا إعانة الله برفع أسعارها قضاء ذلك الدين الكثير الذي عليه من ذلك استأنف مبيناً لوجه دين الزبير ولجمع ذلك القدر الذي عليه بقوله ( وإنما كان دينه الذي كان عليه أنّ) بفتح الهمزة ( الرجل كان يأتيه بالمال فيستودعه إياه فيقول الزبير: لا) أي: لا أستودعه وذلك لما يعلم من نفسه من مزيد الكرم فيخشى أن ينفق لما تعوّده من الكرم من المال المودع عنده، وإن كان مثل ذلك لا يصدر منه لكنه سد الذريعة وقفل الباب من أصله، وأن ومعمولاها خبر كان الأولى واسم كان الثالثة ضمير يعود للرجل وخبره جملة يأتيه ( ولكن هو سلف) بفتح أوليه: أي قرض، وقوله: ( إني أخشى عليه الضيعة) أي: الضياع جملة مستأنفة استئنافاً بيانياً لعدوله عن قبول استيداعه إلى استسلافه، والضياع المتخوف يحتمل أن يكون خشية إنفاقه على مستحق لما اعتاده من الكرم كما تقدم وأن يكون باختلاس مختلس أو سرقة سارق، فيضيع على صاحبه لعدم ضمان الزبير حينئذٍ وقد وضعه في حرز مثله فأراد حفظ مال المستودع واستقراره في ذمته.
وقال الحافظ: وكأن غرضه بذلك أنه كان يخشى على المال أن يضيع فيظن به التقصير في حفظه؛ فرأى أن يجعله مضموناً ليكون أوثق لصاحب المال وأبقى لمروءته.
زاد ابن بطال: وليطيب ربح ذلك المال.
وروى الزبيربن بكار أن كلاً من عثمان وعبد الرحمنبن عوف ومطيعبن الأسود وأبي العامربن الربيع وعبد ابن مسعود والمقدادبن عمرو أوصى إلى الزبيربن العوام ( وما ولي إمارة) أي ولاية وهو بكسر الهمزة كذا ضبطه الشيخ زكريا في «تحفة القارىء» لكن في «مختصر القاموس» مصدر أمر علينا إمارة: إذا ولي مثلث الهمزة اهـ ( قط) بفتح القاف وضم الطاء المهملة ظرف لاستغراق النفي فيما مضى ( ولا جباية) بكسر الجيم: استخراج الأموال من مظانها كما في «النهاية» ( ولا خراجاً) أي: خراج أرض، فلا ينافي ما رواه الزبيربن بكار، قال: كان للزبير ألف مملوك يؤدون إليه الخراج، وروى مثله يعقوببن سفيان من وجه آخر ( ولا شيئاً إلا أن يكون في غزوة مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو مع أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم) .
قال الحافظ ابن حجر: مراده أن كثرة ماله ما حصلت من هذه الجهات المقتضية لظن السوء بأصحابها، بل كان كسبه الغنيمة ونحوها.
قال الحافظ:هو متصل بإسناد الحديث المذكور ( قال عبد الله: فحسبت) بفتح السين المهملة وبباء موحدة وكان ذلك بعد موته شهيداً ( ما كان عليه من الدين فوجدته ألفي ألف ومائتي ألف، فلقي حكيم) بالرفع فاعل وهو بفتح الحاء المهملة وكسر الكاف ( ابن حزام) بكسر المهملة وبالزاي، وكل ما كان في قريش فهو بهذا الضبط، وما كان رسمه في نسب الأنصار بهذه الصورة فبفتح أوليه المهملين.
قال المصنف في أول «شرح مسلم» : وحزامبن خويلدبن أسدبن عبد العزي فهو ابن عمر الزبير ( عبد ابن الزبير فقال: يا ابن أخي) خاطبه بذلك لصغر سنه بالنسبة إليه، إذ كان لحكيم من العمر حينئذٍ نحو مائة عام وعبد الله نحو الأربعين ( كم) استفهامية وتمييزها محذوف أي: كم ألفاً أو نحو ذلك ( على أخي من الدين؟ فكتمته وقلت: مائة ألف) .
قال ابن بطال: إنما كتمه لئلا يستعظم حكيم ما استدانه فيظن به عدم الحزم وبعبد الله عدم الوفاء بذلك فينظر إليه بعين الاحتياج إليه، فلما استعظم حكيم أمر مائة ألف كما قال عنه ( فقال حكيم: وا ما أرى) بضم الهمزة: أي أظن ( أموالكم تسع هذه) أي: الديون، احتاج عبد الله أن يذكر له الجميع ويعرفه أنه قادر على وفائه ( فقال عبد الله: أرأيتك) بفتح التاء المثناة الفوقية: أي: أخبرني والكاف حرف خطاب أكد به الضمير ( إن كانت) أي: الديون ( ألفي ألف ومائتي ألف) .
قال ابن بطال: ليس في قول مائة ألف وكتمانه ما فوقها كذب لأنه إخبار ببعض الواقع وسكوت عن الباقي وهو صادق.
قال الحافظ: لكن من يعتبر بمفهوم العدد يراه إخباراً بغير الواقع، ولذا قال ابن التين في كتمان عبد الله ما كان على أبيه بعض تجوز اهـ.
( قال: ما أراكم) بضم الهمزة: أي أظنكم ويجوز فتحها أي: ما أعتقدكم ( تطيقون هذا، فإن عجزتم عن شيء منه فاستعينوا بي) .
قال الحافظ ابن حجر: روى يعقوببن سفيان من طريق عبد ابن المبارك أن حكيمبن حزام بذل لعبد ابن الزبير مائة ألف إعانة له على وفاء دين أبيه فامتنع، فبذل له مائتي ألف فامتنع إلى أربعمائة ألف، ثم قال له: لم أرد منك هذا، ولكن تنطلق معي إلى عبد ابن جعفر، فانطلق به وبعبد ابن عمر يستشفع بهم، فلما دخلوا عليه قال: أجئت بهؤلاء تستشفع بهمعليّ؟ هي لك: لا أريد ذلك، قال: فأعطني بها نعليك هاتين أو نحوهما، قال: لا أريد، قال: فهي عليك إلى يوم القيامة، قال لا قال: فحكمك، قال: أعطيك بها أرضاً، فقال نعم، فأعطاه فرغب فيها معاوية فاشتراها بأكثر من ذلك ( قال: وكان الزبير قد اشترى الغابة بسبعين ومائة ألف، فباعها عبد الله بألف ألف وستمائة ألف) كأنه قسمها ستة عشر سهماً بدليل أنه قال بعد ذلك لمعاوية: إنها وقّمت كل سهم بمائة ألف ( ثم قال فقال من كان له على الزبير شيء) أي: من الدين ( فليوافنا بالغابة، فأتاه عبد ابن جعفر) أي: ابن أبي طالب ( وكان له على الزبير أربعمائة ألف، فقال لعبد ا) أي ابن الزبير ( إن شئتم تركتها لكم) أي آل الزبير: أي ورثته ( فقال عبد ا) أي: ابن الزبير ( لا) أي: لا نريد ذلك ( قال: فإن شئتم جعلتموها فيما تؤخرون) من الديون ( إن أخرتم) أي شيئاً منها ( فقال عبد الله لا، قال: فاقطعوا) بفتح الطاء المهملة ووصل الهمزة وبقطع الهمزة وكسر الطاء أي: اجعلوا ( لي قطعة) من الغابة فـ ( ــــقال عبد ا) بن الزبير ( لك من هاهنا إلى هاهنا) .
قال العلقمي في حاشية «الجامع الصغير» : روي أن ابن الزبير قال لابن جعفر: أحبّ لا يحضرني وإياك أحد، فانطلق فمضي معه فأعطاه أرضاً خراباً وشيئاً لا عمارة فيه وقوّمه عليه، حتى إذا فرغ قال ابن جعفر لغلامه، ألق لي مصلى في هذا المكان، فألقاه في أغلظ موضع فصلى فيه ركعتين وسجد طويلاً يدعو، فلما قضى ما أراد من الدعاء قال لغلامه: احفر في موضع سجودي، فحفر فإذا عين فوّارة قد أنبطها، فقال له ابن الزبير: أقلني، فقال له: أما دعائي فقد أجابه الله ولا أقيلك، فصار ما أخذه أعمر مما في أيدي آل الزبير ( فباع عبد الله منها) أي: الغابة والدور لا من الغابة وحدها لما تقدم أن الدين ألفا ألف ومائتا ألف فإنه باع الغابة بألفي ألف وستمائة ألف ( فقضى عنه دينه) الذي كان التزم ابن الزبير بعد موت أبيه ( وأوفاه) أصحابه ( وبقي منها) أي: الغابة ( أربعة أسهم ونصف فقدم على معاوية) أي: في خلافته كما جزم به الحافظ ابن حجر، وأن ذلك كان بعد مدة انتظار أرباب الديون وما اتصل به من تأخيرالقسمة لاستبراء بقية من له دين ( وعنده عمروبن عثمان) بن عفان ( والمنذربن الزبير) بن العوام ( وعبد ابن زمعة) بفتح الزاي وسكون الميم وبعدها مهملة ( فقال له معاوية: كم قوّمت الغابة؟) برفع الغابة، فقومت مبني للمجهول ونصبها مع بنائه للمعلوم ( فقال: كل سهم) بالرفع والنصب: أي: قوم أو قومت كل سهم ( مائة) بالنصب على نزع الخافض: أي بمائة ألف ( قال: كم بقي منها؟ قال: أربعة أسهم ونصف؟ فقال المنذر: قد أخذت منها سهماً بمائة ألف، وقال عمروبن عثمان: قد أخذت منها سهماً بمائة ألف، وقال عبد ابن زمعة: قد أخذت منها سهماً بمائة ألف، فقال معاوية: كم بقي) بكسر القاف ( منها) كما في نسخة: أي: الغابة أو السهام الباقية وهو أقرب ( فقال) أي: عبد ابن الزبير، ويحتمل أن يكون غيره ( سهم ونصف) أي: الباقي ذلك فالمبتدأ محذوف أو بقي منها ذلك فيكون فاعل فعل مقدر ( فقال: قد أخذته بخمسين ومائة ألف، قال) ابن الزبير ( وباع عبد ابن جعفر نصيبه) من السهام في الغابة ( من معاوية بستمائة ألف) فربح مائتي ألف ( فما فرغ ابن الزبير من قضاء دينه) الذي عرفه وضبطه ( قال بنو الزبير) وهم: عبد الله وعروة والمنذر وأمهم أسماء بنت أبي بكر، وعمر وخالد وأمهما بنت خالدبن سعيدبن العاص، ومصعب وحمزة وأمهما الرباب بنت أنيف، وعبيدة وجعفر وأمهما زينب بنت بشر وزينب وأمها أم كلثوم بنت عقبة وباقي أولاد الزبير ماتوا قبله ( اقسم بيننا ميراثنا، قال: وا لا أقسم بينكم حتى أنادي بالموسم) بفتح الميم وكسر المهملة وسكون الواو بينهما ( أربع سنين: ألا) بتخفيف اللام ( من كان له دين على الزبير فليأتنا فلنقضه، فجعل كل سنة ينادي في الموسم) أي بقوله: «من كان له دينعلى الزبير فليأتنا نقضه» .
Y قال الحافظ ابن حجر: ومثل هذا يتوقف على إجازة جميع الورثة، وإلا فمن طلب القسمة بعد وفاء الدين الذي وقع العلم به وصمم على ذلك أجيب إليها ولم يتربص به انتظار شيء يتوهم، فإذا ثبت دين بعد ذلك استعيد منه بقدره.
والذي يظهر أن ابن الزبير إنما اختار التأخير أربع سنين لأن المدن الواسعة التي يؤتى الحجاز من جهتها إذ ذاك كانت أربعاً: اليمن والعراق والشام ومصر، فبنىٍ على أن كل قطر لا يتأخر أهله في الغالب عن أكثر من ثلاثة أعوام فيحصل استيعابهم في مدة الأربع، ومنهم في طول المدة من يبلغ الخبر من وراءهم من الأقطار، واختار الموسم لأنه يجمع الناس من الآفاق ( فلما مضى أربع سنين) فيه تجوّز لأنه إن عد موسم سنة ست وثلاثين فلم تؤخر ذلك إلا ثلاث سنين ونصفاً وإن لم يعده فقد أخر ذلك أربع سنين ونصفاً ففيه إلغاء الكسر أو جبره ( قسم) بعد الدين الوصية ( بينهم ودفع الثلث) أي الموصى به ( وكان للزبير أربع نسوة) أي: مات عنهن وهن أم خالد والرباب وزينب قيل: وعاتكة بنت زيد أخت سعيدبن زيد أحد العشرة، وأما أسماء وأم كلثوم فكان طلقهما، وقيل: أعاد أسماء وطلق عاتكة فقتل وهي في عدته فصولحت عن ربع الثمن بثمانين ألفاً ( فأصاب كل امرأة ألف ألف ومائتا ألف) هذا باعتبار أصل نصيب كل منهن ورد عليهم الباقي من سهم المصالحة أربعمائة ألف اقتسمنها بينهن.
قال الحافظ أبو عبد الله البخاري صاحب الصحيح ( فجميع ماله خمسون ألف ألف ومائتا ألف) .
قال ابن بطال وعياض وغيرهما: هذا غلط في الحساب.
قال الكرماني: لأنه إذا كان الثمن أربعة وثمانمائة ألف فالجميع ثمانية وثلاثون ألف ألف وسبعة آلاف ألف وستمائة ألف، وإن اعتبرته مع الدين فهو خمسون ألف ألف وتسعة آلاف ألف وثمانمائة ألف، فعلى التقادير كلها الحساب غير صحيح.
ثم قال الكرماني: قلت لعل الجميع عند وفاته هذا المقدار الذي قاله البخاري ثم زاد من غلة أمواله في هذه الأربع سنين إلى ستين ألف ألف إلا مائتي ألف اهـ.
وحاصله أن ما ذكره من نصيب كل من الزوجات باعتبار ما يجمع من غلال الأموال في السنين الأربع، وما ذكره من الجملة باعتبار حالة الموت والله أعلم.
قال الحافظ ابن حجر بعد نقله عن الحافظ شرف الدين الدمياطي: وهذا توجيه في غاية الحسن لعدم تكلفه ولتبقية الرواية الصحيحة على وجهها، وقد تلقاه الكرماني فذكره ملخصاً ولم ينسبه لقائله ولعله من توارد الخواصر والله أعلم اهـ.
قلت: رأيت بخطالحافظ نجم الدينبن فهد في تذكرته نقلاً عن خط الدمياطي ما يخالف ما نقله عنه في «الفتح» ولفظه: روى ابن سعد في «الطبقات» حديث الزبير هذا بنحو حديث البخاري وطوّله، غير أنه خالفه في موضع واحد وهو قوله: أصاب كل امرأة من نسائه ألف ألف ومائتا ألف على دينه ووصيته وورثته، وإنما يصح قسمتها أن لو كان لكل امرأة ألف ألف فيكون الثمن أربعة آلاف ألف، فتصح قسمة الورثة من اثنين وثلاثين ألف ألف ثم يضاف إليها الثلث ستة عشر ألف ألف فتصير الجملتان ثمانية وأربعين ألف ألف، ثم يضاف إليها الدين ألفا ألف ومائتا ألف فصارت الجملة كلها خمسين ألف ألف ومائتا ألف ومنها تصح.
ورواية ابن سعد تصح من خمسة وخمسين ألف ألف، ورواية البخاري تصح من تسعة وخمسين ألف ألف وثمانمائة ألف، فيجوز أن يكون المراد بقوله فجميع ماله خمسون ألف ألف ومائتا ألف قيمة تركته عند موته، لا ما زاد عليها بعد موته من غلة الأرضين والدور في مدة أربع سنين قبل قسمة التركات.
ويدل عليه ما رواه الواقدي عن أبي بكربن سبرة عن هشام عن أبيه قال: كان قسمة ما ترك الزبير على أربعين ألف ألف.
وروى ابن سعد عن القعنبي عن ابن عيينة قال: قسم ميراث الزبير على أربعين ألف ألف.
وذكر الزبيربن بكار في بني عدي عاتكة بنت زيد زوج الزبير، وأن عبد ابن الزبير بعث إليها بثمانين ألف درهم فقبضتها وصالحت عليها، وبين قول الزبير هذا وقول غيره بون بعيد، والعجب منه مع سعة علمه وتنفيره عنه كيف خفي عليه توريث آبائه وأحوال تركاتهم اهـ.
قلت: لا عجب فإنها صولحت عن ربع الثمن بما دفع إليها لا أن ذلك ربع ثمن مال الزبير حتى يخالف كلام غيره، والله أعلم ( رواه البخاري) في أبواب فرض الخمس.
26