فهرس الكتاب

دليل الفالحـــين - باب الصدق

رقم الحديث 54 ( فـ) الحديث ( الأول عن) عن عبد الله ( بن مسعود) بن غافل الهذلي ( رضي الله عنه عن النبيّ) حال كونه قد ( قال إن الصدق) أي تحريه في الأقوال ( يهدي) بفتح أوله، أي يرشد ويوصل ( إلى البر) أي العمل الصالح الخالص من كل مذموم.
والبر: اسم جامع للخير كله، وقيل البرّ الجنة، ويجوز أن يتناول العمل الصالح والجنة، كذا قال المصنف.
وفيه أن التفسير البرّ هنا بالجنة يأباه قوله: ( وإن البر يهدي إلى الجنة) فالتفسيرالأول هنا متعين ( وإن الرجل) أل فيه الجنس، وذكره لأنه الأشرف وإلا فذلك جار في المرأة أيضاً ( ليصدق) أي يلازمه ويتحرّاه وفي رواية في الصحيح «ليتحرّى الصدق» ( حتى يكتب عند الله صديقاً) من أبنية المبالغة.
وهو من يتكرّر منه الصدق حتى يصير سجية له وخلقاً ( وإن الكذب يهدي) يوصل ( إلى الفجور) الأعمال السيئة ( وإن الفجور يهدي) يوصل ( إلى النار) لأن المعاصي يقود بعضها إلى بعض، وهي سبب الورود إلى النار ( وإن الرجل ليكذب) وفي رواية في الصحيح «ليتحرّى الكذب» ( حتى يكتب عند الله كذاباً) أي: يحكم له بتحقق مبالغة الكذب منه وأنها الصفة المميزة له مبالغاً في كذبه فهو ضد الصدّيق.
قال المصنف: ومعنى يكتب هنا: يحكم له بذلك ويستحق الوصف بمنزلة الصديقين وثوابهم، أو بصفة الكاذبين وعقابهم.
والمراد إظهار ذلك للمخلوقين، إما بأن يكتبه في ذلك ليشتهر بحظه من الصفتين في الملإ الأعلى، وإما بأن يلقى ذلك في قلوب الناس وألسنتهم كما يوضع له القبول أو البغضاء، وإلا فقد الله سبحانه وتعالى وكتابه السابق قد سبق بكل ذلك اهـ.
قال القرطبي: حق على كل من فهم عن الله أن يلازم الصدق في الأقوال، والإخلاص في الأعمال، والصفاء في الأحوال، فمن كان كذلك لحق بالأبرار، ووصل إلى رضا الغفار، وقد أرشد تعالى إلى ذلك كله بقوله عند ذكر أحواله الثلاثة التائبين { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين} ( الأحزاب: 35) والقول في الكذب المحذر عنه على الضد من ذلك اهـ.
( متفق عليه) ورواه بنحوه من حديث ابن مسعود أحمد والبخاري في «الأدب» والترمذي، وفي أوله عندهم «عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر، وإياكم والكذب» الحديث.


رقم الحديث 55 ( الثاني: عن أبي محمد الحسن) كناه وسماه بذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ( ابن عليبن أبي طالب رضي الله عنهما) أمه فاطمة الزهراء، رضي الله عنها.
قال أبو أحمد العسكري سماهالنبيّ الحسن، وكناه أبو محمد.
قال: ولم يكن هذا الاسم يعرف في الجاهلية.
ثم روي عن ابن الأعرابي عن المفضل قال: إن الله حجب اسم الحسن والحسين حتى سمى بهما النبي ابنيه، قال: قلت فالذين باليمن؟ قال: ذاك حسن بإسكان السين وحسين بفتح الحاء وكسر السين.
ولد منتصف رمضان سنة ثلاث من الهجرة على الأصح، ومات مسموماً من زوجته بإرشاد يزيدبن معاوية لها على ذلك على ما قيل سنة أربع أو خمس أو تسع وأربعين أو خمسين أو إحدى وخمسين أو ثمان وخمسين، ودفن بالبقيع وصلى عليه سعيدبن العاص، وقبره مشهور فيه، ويكفيك في فضله الحديث الصحيح: «أن النبيّ كان يخطب فرقي إليه الحسن، فأمسكه والتفت إلى الناس ثم قال: «إن ابني هذا سيد، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين» فكان كذلك.
فإنه لما استخلف بعد موت أبيه وخرج لقتال معاوية وعرف أنه لا يخلص الأمر لأحد حتى يقتل جمع كثير من الجانبين، امتثل إشارة جده، ورغب عن الخلافة ونزل عنها لمعاوية وسلمها له طوعاً وزهداً وحقناً لدماء المسلمين وأموالهم على شروط وفى له معاوية بمعظمها.
ومناقبه كثيرة وفضائله جملة شهيرة، وهو من الحكماء الكرماء الأسخياء.
روي له عن النبي ثلاثة عشر حديثاً، وروى له أصحاب السنن الأربعة ( قال حفظت من رسول الله: دع) أمر ندب لأن توقي الشبهات مندوب على الأصح ( ما يريبك إلى ما لا يريبك، فإن الصدق طمأنينة، وإن الكذب ريبة) وعند ابن حبان: «فإن الخير طمأنينة، وإن الشرّ ريبة» وهو كالتمهيد لما قبله، والتقدير: إذا وجدت نفسك ترتاب في الشيء فاتركه، فإن نفس المؤمن جبلت على أنها تطمئن إلى الصدق وتنفر من الكذب وإن لم تعلم أن الذي اطمأنت إليه كذلك في نفس الأمر، وإذا جبلت على ذلك فعليك أن تأخذ برغبتها ورهبتها إذا جربت منها الإصابة كما هو شأن كثير من النفوس الصافية، لأن الله أطلعهم على حقائق الوجود وهم في أماكنهم بإلغاء ما يحبّ.
قال بعضهم: لما علم الله أن قلب المؤمن الكامل ذي النفس الزكية المطهرة من رديء أخلاقها يميل ويطمئن إلى كل كمال، ومنه كون القول أو الفعل صدقاً أو حقاً، وينفر من كون أحدهما كذباً أو باطلاً، جعل ميله وطمأنينته علامة واضحة على الحل.
وانزعاجه ونفرته علامة على الحرام وأمر في الأول بمباشرة الفعل، وفي الثاني: بالإعراض عنه ما أمكن اهـ.
( رواه الترمذي) ورواه ابن حبان في «صحيحه» والحاكم ( وقال) الترمذي: ( حديث حسن صحيح) ولا يضرّ توقف أحمد في أبي الجوز رواية عن الحسن، فقد وثقه النسائيوابن حبان، وبه يندفع قول بعضهم: إنه مجهول لا يعرف، وقد أخرجه أحمد أيضاً عن أنس، والطبراني عن ابن عمر مرفوعاً، وبه يردّ قول الدارقطني: إنما يروى هذا من قول ابن عمر.
وروي عن الإمام مالك من قوله: وروي بإسناد ضعيف عن أبي هريرة عن النبيّ أنه قال لرجل: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك، فقال وكيف لي بالعلم بذلك؟ قال: إذا أردت أمراً فضع يدك على صدرك، فإن القلب يضطرب للحرام ويسكن للحلال، وإن المسلم الورع يدع الصغيرة مخافة الكبيرة» زاد الطبراني «قيل له فمن الورع؟ قال: الذي يقف عند الشبهة» ( قوله) ( يريبك بفتح الياء) التحتية ( وضمها) والفتح أفصح وأشهر، من راب وأراب: بمعنى شك.
وقيل: راب لما تتيقن فيه الريبة، وأراب لما تتوهم منه ( ومعناه) أي معنى قوله: دع ما يريبك الخ ( اترك) ندباً ( ما تشك في حله واعدل إلى ما لا تشك فيه) أي في حله، قيل: وهذا نظير ما في الحديث الآخر «ومن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه» وحاصله التنزه عن الشبه وورد صافي الحلال البين.


رقم الحديث 56 ( الثالث عن أبي سفيان صخر) بفتح المهملة فسكون المعجمة بعدها راء مهملة ( ابن حرب) ابن أميةبن عبد شمسبن عبد مناف القرشي الأموي المكي ( رضي الله عنه) ولد قبل الفيل بعشر سنين، وأسلم ليلة الفتح وكان من المؤلفة، ثم حسن إسلامه.
وشهد حنيناً وأعطاه من غنائمها مائة بعير وأربعين أوقية، وأعطى لابنيه يزيد ومعاوية، فقال أبو سفيان: «وا إنك لكريم فداك أبي وأمي، ولقد حاربتك فنعم المحارب كنت، ولقد سالمتك فنعم المسالم أنت، فجزا الله خيراً» ثم شهد الطائف وفقئت عينه يومئذٍ وفقئت عينه الأخرى يوم اليرموك، استعمله النبي على نجران، فمات النبي وهو عليها.
روي له حديث هرقل بطوله، أخرج الشيخان الحديث بطوله عنه المذكور بعضه هنا، فأخرجه البخاري كذلك في بدء الوحي وفي الجهاد، وأخرجه في الإيمان والجهاد ببعضه، وفي التفسير والاستئذان مختصراً، وأخرجه مسلم في المغازي بتمامه.
ورواه أبو داود مختصراً، وكذا الترمذي وقال: حسن صحيح، ورواه النسائي بتمامه.
انتهى ملخصاً من «الأطراف» للمزي، مات بالمدينة سنة إحدى أو اثنتين وثلاثين وله ثمان وثمانون أو ثلاث وتسعون سنة.
وصلى عليه عثمان رضي الله عنه ( في حديثه الطويل في قصة هرقل) بكسرالهاء وفتح الراء وسكون القاف: وهو ملك الروم؛ ولقبه قيصر كما يلقب ملك الفرس بكسرى: أي في قصته لما كتب إليه يدعوه للإسلام فأرسل إلى من بالشام من قريش وكان أقربهم منه أبا سفيان، وكان ذلك في سنة ستّ من الهجرة ( قال هرقل) متعرّفاً أحوال النبيّ ( فماذا يأمركم؟) يدل على أن الرسول من شأنه أن يأمر قومه والأصل ماذا يأمركم به ( يعني: النبيّ) هذا مدرج لبيان المستفهم عنه ( قال أبو سفيان: قلت يقول: عبدوا الله وحده) فيه أن للأمر صيغة معروفة لأنه أتى بقول: اعبدوا الله في جواب ما يأمركم، وهو من أحسن الأدلة، لأن أبا سفيان من أهل اللسان وكذا الراوي عنه ابن عباس، بل هو من أفصحهم، وقد رواه عنه مقراً له ( لا تشركوا به شيئاً) كذا هو في «الرياض» بحذف الواو وهي في رواية المستملي فيكون تأكيداً لقوله وحده/ وفي رواية لهما بإثباتها فيكون كالعطف التفسيري.
قال البرماوي: قوله: اعبدوا الله الخ هو والجملتان بعده بمعنى.
وقال الشيخ زكريا: متلازمات، قالا: وبالغ أبو سفيان في ذلك لأنه أشدّ الأشياء عليه والإبعاد منها أهم، أو أنه فهم أن هرقل من الذين يقولون من النصارى بالإشراك، فأراد تنفيره من دين التوحيد ( واتركوا ما يقول آباؤكم) أي: مقولهم أو ما يقوله آباؤكم، وهي كلمة جامعة لترك ما كانوا عليه في الجاهلية، وإنما ذكر الآباء تنبيهاً على عذرهم في مخالفتهم له لأن الآباء قدوة عند الفريقين: أي: عبدة الأوثان والنصارى ( ويأمرنا بالصلاة) أي بإقامتها ( والصدق) وهي في رواية للبخاري «الصدقة» بدل «الصدق» ورجحها السراج البلقيني.
قال الحافظ ابن حجر: ويقوّيها رواية المؤلف، يعني: البخاري في التفسير للزكاة.
قلت: وكذا هو عند مسلم قال: واقتران الصلاة بالزكاة معتاد في الشرع، ويرجحها أيضاً أنهم كانوا يستقبحون الكذب، فذكر ما لم يألفوه أولى.
قلت: وفي الجملة ليس الأمر بذلك ممتنعاً كما في أمرهم بوفاء العهد وأداء الأمانة، وقد كان من مألوفاتهم، وقد ثبتا عند المؤلف في الجهاد من رواية أبي ذرّ عن شيخيه الكشميهني والسرخسي قال: «بالصلاة والصدق والصدقة» وفي قوله: «ويأمرنا» بعد قوله: «يقول اعبدوا ا» إشارة إلى المغايرة بين الأمرين فيما يترتب على مخالفتهما، إذ مخالف الأول كافر، والثاني عاص اهـ.
( والعفاف) الكف عن المحارم وخوارم المروءة.
قال في المحكم: العفة الكف عما لا يحل ولا يجمل ( والصلة) أي: صلة الأرحام وكلما أمر الله أن يوصل وذلك بالبرّ والإكرام وحسن المراعاة ( متفق عليه) .


رقم الحديث 57 ( الرابع عن أبي ثابت) بالمثلثة وبعد الألف موحدة فمثناة ( وقيل) يكنى: بـ ( ــــأبي سعيد) وقيل: بأبي سعد ( وقيل) ( بأبي الوليد) بفتح الواو وكسر اللام، وقيل: أبي عبد الله ( سهل) بفتح أوله المهمل وسكون ثانيه ( ابن حنيف) بضم المهملة ففتح النون فسكون التحتية آخره فاء ( وهو بدري) مدني ( رضي الله عنه) شهد بدراً والمشاهد كلها مع رسول الله، وثبت يوم أحد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما انهزم الناس، وكان بايعه في يومئذٍ على الموت، ثم صحب سهل علياً فاستخلفه على المدينة حين سار إلى البصرة، وشهد معه صفين، وولاه بلاد فارس فأخرجه أهلها، فاستعمل عليهم زيادبن أبيه فصالحوه وأدوا الخراج.
مات سهل بالكوفة سنة ثمان وثلاثين وصلى عليه عليّ وكبر ستاً وقال: إنه بدريّ.
يروى له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أربعون حديثاً، اتفق الشيخان منها على أربعة، وانفرد مسلم باثنين، وخرّج له أصحاب السنن الأربع ( قال: قال رسول الله: من سأل الله تعالى الشهادة) أي أنالته إياها ( بصدق) أي حال كونه صادقاً في سؤالها ( بلغه ا) بنيته الصادقة ( منازل الشهداء) العليا ( وإن مات على فراشه) ففي الحديث أن صدق القلب سبب لبلوغ الأرب، وأن من نوى شيئاً من عمل البرّ أثيب عليه وإن لم يتفق له عمله، كما تقدم في حديث: «إن بالمدينة لرجالاً، ما سرتم مسيراً ولا قطعتم وادياً إلا كانوا معكم حبسهم العذر» .
قال المصنف: ففي الحديث استحباب طلب الشهادة واستحباب نية الخير ( رواه مسلم) قال الحافظ ابن حجر في «أمالي الأذكار» : وأخرجه أبو عوانة وأبو داود والنسائي وابنماجه، وفي «الجامع الصغير» : أخرجه مسلم والأربعة/ ومثله في «التيسير» للديبع فقال: أخرجه الخمسة.


رقم الحديث 58 ( الخامس عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله: غزا نبيّ من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين) قال السيوطي في «التوشيح» : هو يوشعبن نون ( فقال لقومه لا يتبعني) في الخروج للحرب ( رجل ملك بضع امرأة) بضم الباء وسكون المعجمة يطلق على الفرج والنكاح والجماع ( وهو يريد أن يبني بها ولما) بتشديد الميم ( يبن) أي يدخل ( بها) وكان عادة العرب إذا دخل الزوج على المرأة بنى عليها قبة من شعر ونحوه، فأطلق البناء وأريد به الدخول من إطلاق اللازم وإرادة الملزوم ( ولا أحد بنى بيوتاً ولم يرفع سقوفها) أي لم يتمّ عملها ( ولا أحد اشترى غنماً) أي: حوامل بدليل ما بعده ( أو خلفات وهو ينتظر أولادها) ويحتمل أن هذا خاص بالإبل، وأن شراء الغنم عذر في التخلف لاشتغال قلب صاحبها بها وإن لم تكن حوامل لضعفها وحاجتها إلى القائم بأمرها ولا كذلك الإبل.
قال القرطبي: نهى النبي قومه عن اتباعه على أحد هذه الأحوال، لأن أصحابها يكونون متعلقي النفوس بهذه الأسباب فتضعف عزائمهم وتفتر رغباتهم في الجهاد والشهادة وربما يفرط ذلك التعلق فيفضي إلى كراهة الجهاد وأعمال الخير؛ ومقصود هذا النبي تفرغهم من العوائق والاشتغال إلى تمني الشهادة بنية صادقة وعزم حازم ليحصلوا على الحظّ الأوفر والأجر الأكبر اهـ.
( فغزا فدنا من القرية) وقع في جميع نسخ مسلم «أدنى رباعياً» .
قال المصنف: وهو إما أن يكون تعدية لدنا: أي قرب.
فمعناه أدنى جيوشه وجموعه للقرية؛ وإما أن يكون أدنى بمعنى حان، أو قرب فتحها، من قولهم: أدنت الناقة: إذا حان نتاجها ولم يقولوه في غير الناقة اهـ.
قال القرطبي: والذي يظهر لي أن هذا من باب أنجد وأغار فيكون معنى أدنى دخل في الموضع الداني منها اهـ.
ومنه يعلم أن اللفظ المذكور للبخاري، والقربة: هي أريحاء ( صلاة العصر أو قريباً من ذلك، فقال للشمس: إنك) وعند مسلم «أنت» ( مأمورة) أي مسخرة بأمر الله عزّ وجلّ ( وأنا مأمور) أيمسخر كذلك وكذا جميع الكائنات غير أن أمر الجمادات أمر تسخير وتكوين وأمر العقلاء أمر تكليف ( اللهم احبسها علينا، فحبست) معجزة له، وقد حبست لنبينا في قصة الإسراء وفي حفر الخندق.
قال القاضي عياض: وقد اختلف هل ردت على أدراجها أو وقفت أو بطئت حركاتها؟ وعلى كل فهو من معجزات النبوّة ( حتى فتح الله عليه) البلاد، وفي نسخة «فتح عليه» بالبناء للمفعول ( فجمع الغنائم، فجاءت: يعني النار لتأكلها فلم تطعمها) وعند مسلم «فجمعوا ما غنموا، فأقبلت النار لتأكله فلم تطعمه» وهذه كانت عادة الأنبياء في الغنائم أن يجمعوها فتجيء نار من السماء فتأكلها فيكون ذلك علامة قبولها وعدم الغلول فيها، فلما جاءت هذه النار فلم تأكلها علم أن فيها غلولاً.
قال الكرماني: وعبر بلم تطعمها دون لم تأكلها للمبالغة، إذ معناه لم تذق طعمها كما في قوله تعالى: ( ومن لم يطعمه) ( فقال: إن فيكم غلولاً) بضم أوليه المعجمة فاللام: الخيانة في المغنم ( فليبايعني من كل قبيلة رجل) لعسر مبايعة كل واحد واحد لكمال كثرتهم فإنهم كانوا نحو سبعين ألفاً كما ذكره بعضهم ( فلزقت يد رجل) منهم ( بيده) إعلاماً بأنه ممن غلّ قومه، فلذا قال ( فقال: إن فيكم) القبيلة التي منها ذلك الرجل ( الغلول فلتبايعني قبيلتك) أي كل فرد منهم ( فلزقت يد رجلين أو ثلاثة) وكان علامة الغلول عندهم التصاق يد الغالّ ( بيده فقال) النبيّ ( فيكم) أي: عندكم ( الغلول فجاء) أي الغالّ المذكور ( برأس مثل رأس بقرة من الذهب) بيان لرأس ( فوضعها) في جملة الغنيمة ( فجاءت النار) المؤذن أكلها بالقبول ( فأكلتها فلم تحل الغنائم) بفتح الفوقية وكسر الحاء المهملة على البناء للمفعول ( لأحد قبلنا) من سائر الأنبياء والأمم السابقين ( ثم أحل الله لنا الغنائم) أي للنبيّ كما في الحديث الآخر: «وأحلت لي الغنائم ولم تحلّ لأحد قبلي» ولأمته ولمتحلّ لأحد غيرهم أصلاً ( رأى) علم ( ضعفنا) في الأبدان ( وعجزنا) عن قوى الأعمال ( فأحلها) أي: الغنائم ( لنا) أورده الديبع في «التيسير» بلفظ: «ثم أحلّ الله لنا الغنائم لما رأى عجزنا وضعفنا فأحلها لنا» وقال أخرجاه، وقوله فأحلها يحتمل أن يكون جواب لما دخلت فيه الفاء كما أجازه بعض النحاة، ويحتمل أن جوابها محذوف لدلالة ما قبلها عليه وما بعد الفاء معطوف ( متفق عليه الخلفات بفتح الخاء المعجمة وكسر اللام جمع خلفة) بفتح الخاء وكسر اللام أيضاً ويجمع على خلف كذلك بحذف الهاء كما في «مختصر القاموس» وعلى خلائف كما في «مختصر النهاية» ( وهي الناقة الحامل) كذا في النهاية وغيرها، وقال القرطبي: هي الناقة التي دنا ولادها.


رقم الحديث 59 ( السادس عن أبي خالد حكيم) بفتح المهملة وكسر الكاف ( ابن حزام) بكسر المهملة بعدها الزاي، وهذا الضبط في كل ما جاء على هذه الصورة من أسماء قريش، وما جاء منه في أسماء الأنصار فهو بالمهملتين المفتوحتين.
وابن خويلدبن أسدبن عبد العزّىبن قصي، القرشي الأسدي ( رضي الله عنه) ولد في الكعبة ولم يتفق ذلك لغيره ( وهو من مسلمة الفتح) وكان من أشراف قريش ووجوهها في الجاهلية والإسلام، وكان من المؤلفة، أعطاه يوم حنين مائة بعير، ثم حسن إسلامه ولم يصنع شيئاً من المعروف في الجاهلية إلا صنع مثله في الإسلام، وكانت بيده دار الندوة فباعها من معاوية بمائة ألف درهم، فقال له ابن الزبير: بعث مكرمة قريش، فقال حكيم: ذهبت المكارم إلا التقوى، وتصدق بثمنها، وحج في الإسلام ومعه مائة بدنة قد جللها بالجرة أهداها، ووقف فيها بمائة وصيف بعرفة في أعناقهم أطواق الفضة منقوش فيها عليها عتقاء الله عن حكيمبن حزام، وأهدى ألف شاة وكان جواراً، كفّ قبل موته، وعاش مائة وعشرين سنة نصفها في الجاهلية ونصفها في الإسلام، ونظر فيه ابن الأثير في «أسد الغابة» ، وتوفي سنة أربع وخمسين أياممعاوية وقيل سنة ثمان وخمسين.
روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أربعون حديثاً، أخرج منها الشيخان أربعة أحاديث اتفقا عليها، وسأتي إن شاء الله في باب القناعة والاقتصاد مزيد في ترجمته ( قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - البيعان) بتشديد التحتية ( بالخيار) بكسر الخاء المعجمة: اسم من الاختيار والتخيير، وهو طلب خير الأمرين من الفسخ والإجازة ( ما لم يتفرّقا) .
قال الفضلبن سلمة: افترقا بالكلام وتفرقا بالأبدان ( فإن صدقا) فيما يخبران به البائع في المبيع والمشتري في الثمن قدراً وصفة، وأن الثمن انتهت الرغبات فيه إلى كذا، ويخبر بما يترتب عليه تفاوت الرغبات من عيب ونحوه ( وبينا) البائع ما في المبيع والمشتري ما في الثمن من غش وشبهة قوية قامت قرائن أحوال أحدهما أنه إذا اطلع على مثلها لا يأخذه ( بورك لهما في بيعهما) وشرائهما بتسيهل الأسباب المقتضية لزيادة الربح، من كثرة الراغبين وحسن المعاملين ومنع الخيانة في المبتاع والحسد والعداوة المقتضية للخسران ( وإن كتما) ما في السلعة من العيوب ونحوها ( وكذبا) فيما يمدحانها ( محقت) ذهبت وتلفت ( بركة بيعهما) فلم يحصلا منه إلا على مجرّد التعب ( متفق عليه) وكذا أخرجه أصحاب السنن الأربع غير ابن ماجه/ وفي رواية: «فإن صدقا البيعان وبينا بورك لهما في بيعهما، وإن كذبا وكتما فعسى أن يربحا ربحاً ما، ويمحقا بركة بيعهما، اليمين الفاجرة منفقة للسلعة ممحقة للربح» أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي، كذا في التيسير مع تصرف يسير.
فائدة: كما أن التاجر إذا صدق في سلعته ولم يغش بورك له في معاملته، كذلك العبد إذا صدق في معاملته مع ربه ولم يغش في أداء حق عبوديته برياء أو سمعة أو نظر لعمله بورك له في تلك المعاملة وأعطى أمله { إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة} ( التوبة: 111) ولكون صدق المعاملة مبنياً على كمال المراقبة تارة ومحصلاً له أخرى كما تقدم «وإن البرّ يهدي إلى الجنة» عقب باب الصدق .


رقم الحديث -2 قال العلامة ابن أبي شريف في «حواشي شرح العقائد» : الصدق استعمله الصوفية بمعنى استواء السرّ والعلانية والظاهر والباطن، بألا تكذب أحوال العبد أعماله، ولا أعماله أحواله، وجعلوا الإخلاص لازماً أعم، فقالوا: كل صادق مخلص، وليس كل مخلص صادقاً اهـ.
وفي «شرح رسالة القشيري» للشيخ زكريا: سئل الجنيد أهما واحد أم بينهما فرق؟ فقال: بينهما فرق: الصدق أصل والإخلاص فرع، والصدق أصل كل شيء، والإخلاص لا يكون إلا بعد الدخول في الأعمال، والأعمال لا تكون مقبولة إلا بهما اهـ.
( قال الله عزّ) أي غلب على مراده ( وجلّ) عما لا يليق بشأنه، ويجوز فيهما من الحالية والاستئناف ما سبق في جملة تعالى ( { يا أيها الذين آمنوا اتقوا ا} ) بترك معاصيه ( { وكونوا مع الصادقين} ) ( التوبة: 119) في الإيمان والعهود بأن تلزموا الصدق، وقال بعضهم: مع الصادقين المقيمين على منهاج الحق.
وقال بعضهم: مع من ترتضي حاله سراً وإعلاناً ظاهراً وباطناً.
وقال بعضهم: { وكونوا مع الصادقين} أي الذين لم يخالفوا الميثاق الأول فإنها أصدق كلمة.
قال أبو سليمان: الصحبة على الصدق والوفاء تنفي كل علة في المصطحبين إذا قاما وثبتا على منهاج الصدق، لأن الله تعالى يقول: { اتقوا الله وكونوا مع الصادقين} .
( وقال تعالى) : في تعدد محاسن الأوصاف التي قيل بأنها التي ابتلى بها إبراهيم ( { والصادقين} ) في الإيمان ( { والصادقات} ) ( الأحزاب: 35) فيه، وقيل في القول والعمل.
( وقال تعالى: { فلو صدقوا ا} ) في الإيمان والطاعة ( { لكان} ) الصدق ( { خيراً لهم} ) ( محمد: 21) .