فهرس الكتاب

دليل الفالحـــين - باب الكرم والجود والإنفاق في وجوه الخيرثقة بالله تعالى

رقم الحديث -61 بضم الجيم الكرم: بذل ما ينبغي من المال فيما ينبغي، وفي «الشفاء» للقاضي عياض: الكرم والجود والسخاء والسماحة معانيها متقاربة، وفرق بعضهم بينها بفروق فجعل الكلام الإنفاق يطيب النفس فيما يعظم خطره ونفعه، وسموه أيضاً حرية وهو ضد النذالة.
والسماحة: التجافي عما يستحقه المرء عند غيره بطيب نفس وهو ضد الشكاية، والسخاء: سهولة الإنفاق وتجنب اكتساب ما لا يحمد وهو الجود، وهو ضد التقتير اهـ.
قال في «المصباح» : يقال: جاد الرجل يجود جوداً بالضمّ، تكرّم ( والإنفاق في وجوه الخير) من صدقة وصلة رحم وقرىء ضيف ووقف على جهة خير ونحو ذلك ( ثقة با تعالى) أي بوعده الذي لا يخلف من حسن الجزاء على ذلك في دار القرار، قال الله تعالى: { إن الله لا يظلم مثقال ذرّة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجراً عظيماً} ( النساء: 40) وقال تعالى: { من جاء بالحسنة فله خير منها} ( النمل: 89) وقال: «والصدقة برهان» أي علامة على تصدق باذلها بوعد الله تعالى: ( قال الله تعالى) : ( { وما أنفقتم من شيء} ) أي في رضى الله تعالى: ( { فهو يخلفه} ) يعوضه في الدارين أو في أحدهما وقد تقدمت مع الكلام عليها في باب الإنفاق على العيال.
( وقال تعالى) : ( { وما تنفقوا من خير فلأنفسكم} ) أي وأيّ إنفاق منكم لمرضاة الله تعالى فلأنفسكم ثوابه فلا تمنوا به على أحد ( { وما تنفقوا إلا ابتغاء وجه ا} ) الواو للحال أو عطف، يعني أن المؤمن لا ينفق إلا لمرضاة الله تعالى، وقيل: نفي في معنى النهي.
قال عطاء الخراساني: معناه إذا أعطيت لوجه الله فلا عليك ما كان عمله فإنك مثاب لنفسك، كان السائل مستحقاً أو غيره برّاً أو فاجراً ( { وما تنفقوا من خير يوفّ إليكم وأنتم لا تظلمون} ) فلا ينقص ثواب صدقاتكم.
( وقال تعالى) : ( { وما تنفقوا من خير} ) أي مريدين به مرضاته سبحانه ( { فإن الله به عليم} ) أي فيجازيكم بقدره، وفيه ترغيب في الإنفاق لذلك.


رقم الحديث 544 ( وعن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي قال: لا حسد) أي لا غبطة كمايأتي فتجوز به عنها بجامع تمني مثل النعمة إلا أنها تزيد على الحسد بتمني زوالها عن صاحبها ( إلا في اثنتين) أي من الخصال ( رجل) بالرفع على القطع بإضمار مبتدأ أو مضاف وتقديرهما خصلتا رجل، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه وارتفع ارتفاعه ورأيته في أصل مصحح من مسلم بجر رجل، ويخرج على أنه بدل من اثنتين بتقدير مضاف قبله: أي إلا في اثنتين رجل الخ، ثم رأيت الحافظ في «فتح الباري» ذكر فيه وجوه الإعراب الثلاثة وصدر بالجرّ ولم يذكر وجهه قال: والرفع على الاستئناف والنصب بإضمار أعني اهـ ( آتاه) بالمد والفوقية: أي أعطاه ( امالاً) التنوين فيه للتعميم فيشمل القليل والكثير لكن في إنفاق الأوّل تفصيل مذكور في كتب الفقه ( فسلطه على هلكته) بفتح أوائله وهو مصدر هلك يهلك من باب ضرب يضرب هلكاً وهلاكاً وهلوكاً ومهلكاً بفتح الميم وتثليث اللام: أي إنفاقه ( في الحق) خلاف الباطل: أي في القرب والطاعات، وفيه إيماء إلى أن إذهابه في خلاف ذلك في إتلاف المال بالباطل ( ورجل آتاه الله حكمة) أي علماً.
قال الحافظ: المراد به القرآن كما ورد في حديث ابن عمرو، أو أعم من ذلك وضابطها ما منع من الجهل وزجر عن القبيح اهـ.
( فهو يقضي بها) بين المتنازعين إليه ( ويعلمها) الطالب لها ( متفق عليه) قال السيوطي في «الجامع الكبير» : ورواه أحمد والشيخان والترمذي وابن ماجه وابن حبان من حديث ابن عمر بلفظ: «لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار، ورجل آتاه الله مالاً فهو ينفقه آناء الليل وآناء النهار» ورواه أحمد والبخاري من حديث أبي هريرة بلفظ: «لا حسد إلا في اثنتين: رجل علمه القرآن فهو يتلوه آناء الليل وآناء النهار فسمعه جار له فقال: ليتني أوتيت مثل ما أوتي فلان فعملت ما يعمل» ورواه ابن عدي والبيهقي والخطيب من حديث أبي هريرة بلفظ: «لا حسد ولا ملق إلا في طلب العلم» ورواه ابن نصر في كتاب الصلاة من حديث ابن عمر بلفظ: «لا حسد إلا على اثنتين: رجل آتاه الله مالاً فصرفه في سبيل الخير، ورجل آتاه الله علماً فعلمه وعمل به» اهـ ( ومعناه: ينبغي ألا يغبط أحد) على حال هو فيه كائناً ما كان ( إلا علىإحدى هاتين الخصلتين) لعظم نفعهما وحسن وقعهما وإذا كان يغبط على أحدهما فجملتهما بالأولى.


رقم الحديث 545 ( وعنه قال: قال رسول الله: أيكم مال وارثه أحبّ إليه من ماله) قال في «الفتح» : أي إن الذي يخلفه الإنسان من المال وإن كان حالاً منسوباً إليه فإنه مجازيه ومن بعد حقيقة ( قالوا: يا رسول الله ما منا أحد) التقديم للخبر الظرفي على المبتدأ للاهتمام بجانبه ( إلا ماله أحبّ إليه) جملة وصفية لأحد، ويصح كونها في محل الحال لتخصيصه بتقديم الخبر، وحذف المفضل عليه وهو قوله من مال وارثه اكتفاء بذكره في كلام السائل ( قال: فإن ماله ما قدم) بأن تصدق أو أكل أو ليس كما في الحديث السابق: «ليس لك من دنياك إلا ما أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأبقيت» أو كما قال، فهذا هو الذي يضاف إليه حياً وميتاً بخلاف ما يخلفه من المال.
قال ابن بطال: فيه التحريض على ما يمكن تقديمه من المال في وجوه البرّ والقرب لينتفع به في الآخرة، فإن كل ما يخلفه يصير ملكاً للوارث كما قال: ( ومال وارثه ما أخر) فإن عمل فيه بطاعة الله اختص بثوابه عن الميت وإن كان عمل فيه بمعصية الله تعالى فذلك أبعد لمالكه الأول من الانتفاع إن سلم من تبعته، ولا يعارض حديث سعد بن أبي وقاص: «إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير لك من أن تذرهم عالة» لأن ذلك فيمن تصدّق بماله كله أو معظمه في مرضه، وهذا الحديث فيمن تصدق حال صحته ( رواه البخاري) في الرقاق في «صحيحه» ، ورواه النسائي في الوصايا من «سننه» .


رقم الحديث 546 ( وعن عديّ بن حاتم رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «اتقوا النار» ) أي اتخذوابينكم وبينها وقاية من صالح الأعمال جل أو قل ( ولو بشق) بكسر المعجمة أي نصف ( تمرة.
متفق عليه)
وقدم مع الكلام عليه في آخر الحديث الطويل في باب الخوف.


رقم الحديث 547 ( وعن جابر رضي الله عنه قال: ما سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئاً قط) لتأكيد استغراق الأزمنة وتنكير شيئاً ليعم جلالة المسؤول وقلته ووجدانه له وفقده ( فقال: لا) بل إن كان عنده أعطاه، أو يقول له ميسوراً من القول فيعده أو يدعو له، فكان إن وجد جاد وإلا وعد ولم يخلف الميعاد، فليس المراد أنه يعطي ما طلب منه جزماً، بل إنه لا ينطق بالرد، فإن كان عنده المسؤول وساغ الإعطاء أعطى وإلا وعد، وقوله للإشعريين: وا لا أحملكم، أجيب أنه تأديب لهم لسؤالهم منه ما ليس عنده مع تحققهم ذلك، ومن ثمة حلف حسماً لطمعهم في تحصيله بنحو استدانة ( متفق عليه) رواه البخاري في الأدب من «صحيحه» ، ومسلم في فضائل النبي والترمذي في «الشمائل» .


رقم الحديث 548 ( وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله: «ما من) مزيدة للتنصيص على العموم والاستغراق» في قوله ( يوم) جاء في حديث أبي الدرداء «ما من يوم طلعت فيه الشمس إلا وبجنبيها ملكان يناديان يسمعهما خلق الله كلهم إلا الثقلين: يا أيها الناس هلموا إلى ربكم إن ما قل وكفى خير مما كثر وألهى، ولا غربت شمسه إلا وبجنبها ملكان يناديان» فذكر مثل حديث أبي هريرة ( يصبح العباد فيه) هذا ظاهر في أن المراد من اليوم ضد الليل ( إلا ملكان) في حديث أبي الدرداء إلا وبجنبيها ملكان.
والجنب بسكون النون الناحية ( ينزلان) والجملة حال من العباد ( فيقول) بالرفع عطف على الفعل المرفوع ( أحدهما: اللهم أعط منفقاً) قال الأبي: أي النفقة في الواجب لأن في المال حقوقاً متعينة والنفقة فيالمندوب لكن بالمعروف، وقال القرطبي: هو يعم الواجبات والمندوبات لكن الممسك عن المندوبات لا يستحق الدعاء إلا أن يغلب عليه البخل المذموم بحيث لا تطيب نفسه بإخراج الحق الذي عليه ولو أخرجه اهـ ( خلفاً) يحتمل أن يكون في الدنيا ويحتمل أن يكون في الآخرة، وفيه الحض على الإنفاق ورجاء قبول دعوة الملك، وبشهد لهذا قوله تعالى: { وما أنفقتم من شيء فهو بخلفه} ( سبأ: 39) وفي اعتبار المعروف قوله تعالى: { ولا تبسطها كل البسط} ( الإسراء: 4) ( ويقول الآخر) بفتح المعجمة ( اللهم أعط ممسكاً) أي عن الإنفاق الواجب والمندوب ( تلفاً) قال الحافظ في «الفتح» : التعبير بالعطية في هذا للمشاكلة لأن التلف ليس عطية، والتلف يحتمل أن يراد تلف ذلك المال بعينه أو تلف نفس صاحب المال والمراد به فوت أعمال البر بالتشاغل بغيرها، وأفاد هذا الحديث توزيع الكلام بينهما فنسب إليهما في حديث أبي الدرداء نسبة المجموع إلى المجموع.
قال المصنف: الإنفاق الممدوح ما كان في الطاعات وعلى العيال والضيفان والتطوعات ( متفق عليه) أخرجاه في الزكاة من «صحيحهما» ، وأخرجه النسائي في عشرة النساء وفي التفسير من «سننه» .
والحديث قد تقدم مع شرحه في باب النفقة على العيال.


رقم الحديث 549 ( وعنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: قال الله تعالى) أي فهو من الأحاديث القدسية ( أنفق) أي أيها الصالح للخطاب من سائر المؤمنين: أي أنفق المال في وجوه القرب بالطريق المأذون فيه شرعاً إيماناً واحتساباً ( ينفق عليك) بالبناء للمفعول وحذف الفاعل للعلم به سبحانه وهو مجزوم جواب شرط مقدر: أي إن تنفق ينفق: أي يوسع عليك ويخلف عوض ما تنفقه، فعبر عنه بالإنفاق على سبيل المشاكلة ( متفق عليه) .


رقم الحديث 550 ( وعن عبد الله بن عمرو بن العاص) بحذف الياء إما على لغة من يقف على المنقوص المعرف بالسكون، وإما على أنه من الأجوف: أي من العيص لكن الأفصح على كونه من المنقوص الوقف عليه بالياء وقد تقدم ذلك ( رضي الله عنهما أن رجلاً) في «صحيح مسلم» عن أبي موسى قال: قلت: يا رسولالله، وجاء في طريق أخرى عنه: سألنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهذا ظاهر في أنه هو ( سأل رسول الله) وقوله: ( أيّ الإسلام خير) على تقدير القول: أي قائلاً أي الإسلام: أيّ خصاله أو أي ذويه فعل الثاني يقدر قبل قوله: ( قال تطعم) بالرفع ( الطعام) وما بعده مضاف: أي ذو إطعام الطعام لأن المراد من الفعل فيه المصدر: إما على تقدير أن المصدرية قبله، أو على تنزيل الفعل منزلته والوجهان مذكوران في نحو: تسمع بالمعيدي خير من أن تراه، واقتصر البدر الدماميني في «مصابيحه» على الأول وقال فيه حذفها في غير مواضعها المشهور كالمثال المذكور قال: على أن بعضهم جعل حذفها على الإطلاق مقيساً قال: والظاهر أن المراد الإطعام على وجه الصدقة والهدية والضيافة ونحو ذلك لأنه ذكر بصيغة العموم ( وتقرأ السلام) مفتوح الفوقية والراء لأنه من قرأ.
قال الزركشي ويجوز ضم أوله وكسر ثالثه.
قال الدماميني: هي لغة سوء.
قال القاضي عياض: لا يقال: أقرئه السلام إلا في لغة سوء إلا إذا كان مكتوباً إليه فتقول ذلك: أي اجعله يقرؤه كما يقال: اقرىء الكتاب اهـ.
أي ولا يتأتى هذا الأخير هنا اهـ.
أي لأن المراد إفشاء السلام على من لقيت ( على من عرفت ومن لم تعرف) وفي بذل الطعام كما ذكرنا وقرأ السلام على من ذكر استئلاف للقلوب استجلاب لودها فلا جرم وقع الحض عليهما ( متفق عليه) أخرجه البخاري ومسلم في الإيمان، وابن ماجه في الأطعمة.


رقم الحديث 551 ( وعنه قال: قال رسول الله: أربعون خصلة) جاز الابتداء بأربعون مع نكارته لتخصيصه بالعمل في تمييزه لأن الأصح عند النحاة أن العامل في التمييز عن مبهم هو ذلك الاسم المفسر، قال الحافظ في «الفتح» : وعند أحمد أربعون حسنة ( أعلاها منيحة العنز) قالأبو عبيدة: المنيحة عند العرب على وجهين.
أولهما إعطاء الرجل صاحبه نحو شاة صلة.
ثانيهما أن يعطيه شاة أو ناقة ينتفع بحلبها ثم يردها وهذا هو المراد هنا ( ما من عامل يعمل بخصلة) أي بواحدة ( منها رجاء ثوابها) مفعول له، ويصح كونه منصوباً على الحال: أي راجياً ثوابها وفيه إيماء إلى أن ترتب الثواب على صالح العمل ليس على سبيل اللزوم، بل على سبيل الفضل من المولى سبحانه ( وتصديق موعودها) الإضافة لأدنى ملابسة أي الموعود به فيها ( إلا أدخله الله تعالى بها الجنة) قال الحافظ ابن حجر نقلاً عن ابن بطال: قد كان النبي عالماً بالأربعين المذكورة، وإنما لم يذكرها لمعنى هو أنفع من ذكرها، وذلك خشية أن يكون التعيين لها مزهداً في غيرها من أبواب البرّ.
قال الحافظ بعد أن نقل عن ابن بطال عن بعضهم تعيين تلك الخصال وتعقب ابن المنير له في كون بعضها أعلى من المنيحة ما لفظه: وأنا موافق لابن بطال في إمكان تتبع أربعين خصلة من خصال الخير أدناها منيحة العنز وموافق لابن المنير في رد كثير مما قال ابن بطال، مما هو ظاهر أنه فوق المنيحة والله أعلم ( رواه البخاري) في أواخر الهبة من «صحيحه» ، ورواه أبو داود في كتاب الزكاة من «سننه» ( وقد سبق بيان هذا الحديث) أي يذكر معنى المنيحة ( في باب بيان كثرة طرق الخير) .


رقم الحديث 552 ( وعن أبي أمامة) بضم الهمزة وتخفيف الميمين ( صدى) بضم ففتح فتشديد التحتية ( ابن عجلان رضي الله عنه قال: قال رسول الله: يا ابن آدم إنك أن تبذل الفضل) بفتح همزة أن المصدرية وهي ومدخولها في تأويل مصدر منصوب بدل اشتمال من اسم إن: أي بذلك الفضل، وبكسرها على أنها شرطية، والفضل ما زاد على ما تدعو إليه حاجة الإنسان لنفسه ولمن يمونه ( خير لك) خبر أن على الأول وخبر محذوف مع الفاء على الثاني: أي فهو خير لك وبه يتبين ترجيح الفتح لأن الأصل عدم الحذف ( وأن تمسكه) بفتح الهمزة: أي وإمساكك إياه ( شر لك) لأنك تحاسب عليه ولا تلقاه بين يديك عند حاجتك إليه ( ولا تلام) أي ولا يلحقك لوم من الشرع ( على كفاف) أي إمساك ما تكف به الحاجة( وابدأ بمن تعول) من زوجة وقريب وعبد ودابة لأن حقهم واجب وهو أفضل من المندوب بسبعين ضعفاً ( واليد العليا) المنفقة، وقيل: المتعففة عن السؤال ( خير من اليد السفلى) أي الآخذة، وقيل: السائلة، والحديث تقدم مع الكلام عليه في باب فضل الجوع ( رواه مسلم) .