فهرس الكتاب

دليل الفالحـــين - باب الورع وترك الشبهات

رقم الحديث -68 هو عند العلماء ترك ما لا بأس به حذراً مما به بأس، وفي شرح الرسالة القشيرية للشيخ زكريا هو ترك الشبهات وهو الورع المندوب ويطلق على ترك المحرمات وهو الورع الواجب اهـ ( وترك الشبهات) بضم أوليه وبضم ففتح خفيف جمع شبهة بضم فسكون كظلمات بالوجهين جمع ظلمة كما تقدم وهو ما لم يتضح وجهاً حله وحرمته.
( قال الله تعالى: وتحسبونه هينا) أي سهلاً لا تبعة فيه ( وهو عند الله عظيم) أي إثما وجرماً، والآية وإن نزلت في قصة الإفك لكن المصنف استشهد بذلك فيما عقد له الترجمة، لأن سائر المآثم وإن كان بعضها صغيرة هي بالنظر إلى جراءة مرتكبها على الحدود الإلهية عند الله الله عظيم وزرها، وفي «الصحيح» مرفوعا «لا أحد أغير من الله من أجل ذلك حرم الفواحش» .
( وقال الله تعالى) : ( { إن ربك لبالمرصاد} ) هو مكان يترقب فيه الرصد وهذا تمثيل لإرصاده لعباد بالخير فإنهم لا يفوتونه، وعن ابن عباس: يرصد خلقه فيما يعملون.


رقم الحديث 588 ( وعن النعمان) بضم النون وسكون العين المهملة ( ابن بشير) بفتح فكسر فتحتية ساكنة تقدمت ترجمته ( رضي الله عنهما) في باب المحافظة على السنة ( قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: إن الحلال بين) أي ما أحلّ ظهر حليته بأن ورد نص على حله أو مهد أصل يمكن استخراج الجزئيات منه كقوله تعالى: { خلق لكم ما في الأرض جميعاً} ( الفجر: 14) فإن اللام للنفع، فعلم منه أن الأصل ما فيه الحلّ إلا أن يثبت ما يعارضه ( وإن الحرام بين) أي ما حرم واضح حرمته بأن ورد نص على تحريمه كالفواحش والمحارم وما فيه حدّ أو عقوبة أو مهد أصل مستخرج منه ذلك، كقوله «كل مسكر حرام» ( وبينهما) أي البين من الأمرين ( مشتبهات) لوقوعها بين أصلين ومشاركتها لأفراد كل منهما، فلكونها ذات جهة إلى كل منهما لم يجز أن تعدم البين عن أحدهما ( لا يعلمهنّ كثير من الناس) لتعارض الأمارتين، والجملة صفة مشتبهات، ولم يقل كل الناس لأن العلماء المحققين لا يشتبه عليهم ذلك، فإذا تردد ذلك بين الحلّ والحرمة ولم يكن نص أو إجماع اجتهد فيه المجتهد فألحقه بأحدهما بدليل شرعي، وإذا لم يبق له شيء فالورع تركه.
وقد اختلف العلماء في المشتبهات المشار إليها في هذا الحديث فقيل حرام لقوله: فمن اتقى الشبهات الخ، قالوا: ومن لم يستبرىء لعرضه ودينه فقد وقع في الحرام.
وقيل هي حلال بدليل قوله: كالراعي يرعى حول الحمى، فدل على أنه لابس الحرام المرموز عنه بالحمى، وأن الترك ورع وتوقفت طائفة ( فمن اتقى الشبهات) أي من احترز وحفظ نفسه عنها ( فقداستبرأ) أي طلب البراءة أو حصلها ( لدينه) من ذم الشرع ( وعرضه) من وقوع الناس فيه لاتهامه بمواقعة المحظورات إن واقع الشبهات.
وقيل المراد بالعرض البدن: أي طهر دينه وبدنه، وقيل المراد به موضع المدح والذم من الإنسان سواء في نفسه أو سلفه، ولما كان موضعها النفس حمل عليها من إطلاق المحل على الحال واستبرأ من برىء من الدين والعيب، فأطلق العلم بالحصول وأراد الحصول أو طلب براءته، فالسين فيه للتأكيد على الأوّل لا للطلب إذ الطلب لا يستلزم به الحصول وعلى الثاني للطلب ( ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام) لأن من سهل على نفسه ارتكاب الشبهة أو صله الحال متدّرجا إلى ارتكاب المحرمات المقطوع بحرمتها أو ارتكب المحرّمات لأن ما ارتكبه ربما كان حراماً في نفس الأمر فيقع فيه ( كالراعي يرعى حول الحمى) هو ما حمى من الأرض لأجل الدواب، ويمنع دخول الغير وهذا غير جائز إلا لله ورسوله لحديث «لا حمى إلا الله ورسوله» ( يوشك) بضم التحتية وكسر المعجمة: أي يسرع ( أن يرتع فيه) أي في ذلك الحمى بناء على تساهله في المحافظة وجراءته على الرعي.
ثم نبه بكلمة «ألا» على أمور خطرة في الشرع في ثلاثة مواضع إرشاداً إلى أن كل أمر دخله حرف التنبيه له شأن ينبغي أن يتنبه له المخاطب ويستأنف الكلام لأجله فقال ( ألا) وهي مركبة من همزة الاستفهام وحرف النفي فيفيد التنبيه على تحقيق ما بعدها، وإلا فأداة التحقيق لا تقع الجملة بعدها إلا مصدرة بما يتلقى به القسم ( وإن لكل ملك حمى) يمنع الناس عنه ويعاقب عليه والواو عاطفة على «أنبه» مقدر المشير إليه أداة التنبيه.
وقال الكازروني: إنه معطوف على لفظ الإنباه، قال: على أنه يفهم من لفظ ألا أنبه ومن قوله إن لكل ملك حمى أحقق، فبهذا التأويل صح العطف إذ عطف الجملة على المفرد لا يستقيم إلا باعتبار أن يتضمن المفرد معنى الفعل كما في { فالق الإصباح وجاعل الليل} ( الأنعام: 96) والأولى أن يقال الواو استئنافية دالة على انقطاع ما بعدها عما قبلها ( ألا وإن حمى الله محارمه) وهي المعاصي فمن دخلها بالتلبس بشيء منها استحق العقوبة، شبه المحارم من حيث إنها ممنوع التبسط منها بحمى السلطان.
ولما كان التورّع والتهتك مما يتبع سلامة القلب وفساده نبه على ذلك بقوله ( ألا إن في الجسد مضغة) أي قطعة من اللحم قدر ما يمضغ ( إذا صلحت) بفتح اللام أفصح منضمها: أي بالإيمان والعلم والعرفان ( صلح الجسد كله) بالأعمال والأخلاق والأحوال، وما أحسن قول من قال: وإذا حلت العناية قلباً نشطت في العبادة الأعضاء ( وإذا فسدت) بفتح السين المهملة وضمها، والرواية بالاوّل: أي تلك المضغة بالجحود، والشك والكفران ( فسد الجسد كله) بالفجور والعصيان ( ألا وهي) أي المضغة الموصوفة بما ذكر ( القلب) فهو الملك والأعضاء كالرعية، وهذا الحديث أصل عظيم من أصول الشريعة قال أبو داود السجستاني: الإسلام يدور على أربعة أحاديث ذكر منها هذا الحديث وأجمع العلماء على عظم موقعه وكثرة فوائده ( متفق عليه.
روياه)
أي في مواضع من صحيحيهما ( من طرق) جمع طريق وهي رجال السند ( بألفاظ متقاربة) بالقاف والراء: أي بعضها يقرب من بعض من حيث المعنى، وفي نسخة بالفاء والواو: أي من جهة المبنى، فرواه البخاري في الإيمان عن أبي نعيم عن زكريا بن أبي زائدة عن الشعبي عن النعمان باللفظ الذي ساقه المصنف، ورواه في البيوع عن عليّ بن عبد الّله بن محمد كلاهما عن سفيان بن عيينة، وعن محمد بن كثير عن سفيان الثوري كلاهما عن أبي فروة الهمداني، وعن محمد ابن المثنى عن ابن أبي عديّ عن عبد الله بن عون كلاهما عن الشعبي عن النعمان بلفظ «الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهة، فمن ترك ما شبه عليه من الإثم كان لما استبان أترك، ومن اجترأ على ما يشك فيه من الإثم أو شك أن يواقع ما استبان، والمعاصي حمى الله من يرتع حول الحمى يوشك أن يواقعه» ورواه مسلم في «البيوع» عن محمد بن عبد الله بن نمير عن أبيه، وعن أبي بكر بن أبي شيبة عن وكيع، وعن إسحاق ابن إبراهيم عن جرير عن مطرف وأبي فروة، وعن عبد الله بن شعيب بن الليث عن أبيه عن جده عن خالد بن يزيد عن معبد بن أبي هلال عن عون بن عبد الله بن عتبة، وعن قتيبة عن يعقوب بن عبد الرحمن عن محمد بن عجلان عن عبد الرحمن بن سعيد أربعتهم عن الشعبي عن النعمان كذا في «الأطراف» للمزي.
قلت: وأورده مسلم في «صحيحه» من طريق ابن نمير عن أبيه عن زكريا عنالشعبي عن النعمان، ولم أر في نسختي من «الأطراف» ذكر زكريا بين ابن نمير والشعبي في هذا الإسناد في «الصحيح» باللفظ الذي أورده المصنف عنه، ثم بعد إيراده ذكر طريقيه عن ابن أبي شيبة وإسحاق ابن إبراهيم عن عيسى.
بن يونس عن زكريا وقال بهذا الإسناد مثله، وأخرجه عن إسحاق أيضاً عن جرير عن مطرف وأبي فروة، وأخرجه عن قتيبة عن يعقوب، ابن عبد الرحمن القاري عن ابن عجلان عن عبد الرحمن بن سعيد القاري عن الشعبي عن النعمان عن النبيّ بهذا الحديث، إلا أن حديث زكريا أتم من حديثهم وأكثر، وذكر حديث عبد الملك بن شعيب بن الليث «الحلال بين والحرام بين» وذكر مثل حديث زكريا عن الشعبي إلى قوله «يوشك أن يقع فيه» هذه ألفاظ الحديث وطرقه في «الصحيحين» ، وقد رواه أبو داود الترمذي وقال: حسن صحيح والنسائي كلهم في البيوع، ورواه ابن ماجه في الفتن ومداره عند الجميع على الشعبي عن النعمان.


رقم الحديث 589 ( وعن أنس رضي الله عنه أن النبيّ وجد تمرة في الطريق) أي كائنة فيه ( فقال: لولا) امتناعية ( أنى أخاف أن تكون من الصدقة لأكلتها) أن ومعمولاها في تأويل مصدر مبتدأ والخبر محذوف: أي خوفي من كونها من تمر الصدقة موجود لأكلتها والمراد الصدقة التي لم تنته إلى محلها، وإلا ففي قصة برمة بريرة بما تصدق عليها من الشاة قوله «هو لها صدقة ولنا هدية» وقد خص بحرمة قبول الصدقة الواجبة والمندوبة، وحكمته أنها تنبىء عن ذلّ الآخذ وعزّ الباذل، وقد قال «اليد العليا» أي المعطية «خير من اليد السفلى» أي الآخذة.
ويؤخذ من الحديث.
جواز تملك وأكل ما يجده الإنسان في الأرض من الحقير الذي يعرض عنه غالباً وإن كان متمولاً للعلم بقرائن الأحوال المفيدة للقطع في مثل ذلك أن مالكه أعرض عنه وسامح آخذه، ومن ثم رأى عمر رضي الله عنه رجلاً ينادي على عنبة التقطها فضربه بالدرة وقال: إن من الورع ما يمقت الله عليه: أي لأن الغالب من حال فاعل ذلك أنه إنما يقصد به الرياء والسمعة وإظهار الورع والتعفف.. ويؤخذ من الحديث أنه ينبغي للإنسان إذا شك في إباحة شيء ألا يفعله، لكن هل الترك حينئذ واجب أو مندوب؟ تقدم فيه الخلاف في حديث النعمان، وكلام أئمتنا مصرّح بالثاني لأن الأصل الإباحة والبراءة الأصلية ما لم تعلم جهة محرمة قبل ذلك في شيء بعينه ويشك في زوالها، كأن يشك في شرط من شروط الذبح المبيح هل وجد أم لا، لأن الأصل حينئذ بقاء الحرمة فلا يحلّ إلا بيقين، ثم لا يرعى من الاحتمال في ذلك إلا القريب لأن الظاهر أن تمرّ الصدقةكان موجودا إذ ذاك، أما الاحتمال البعيد فتؤدي مراعاته إلى التنطع المذموم والخروج عما عرف من أحوال السلف، فقد أتى بجبنة وجبة فأكل ولبس ولم ينظر لاحتمال مخالطة الخنزير لهم ولا إلى صوفها من مذبوح أو ميتة، ولو نظر أحد للاحتمال المذكور لم يجد حلالاً على وجه الأرض، ومن ثم قال أصحابنا: لا يتصوّر الحلال بيقين إلا في ماء المطر النازل من السماء المتلقي باليد ( متفق عليه) رواه مسلم في كتاب «الزكاة» .


رقم الحديث 590 ( وعن النوّاس) بفتح النون وتشديد الواو آخره سين مهملة ( ابن سمعان) بكسر السين وفتحها ابن خالد بن عمرو بن قرط بن عبد الله بن أبي بكر بن كلاب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة العامري الكلابي، ووقع في «صحيح مسلم» أنه أنصاري وحمل على أنه حليف لهم ( رضي الله عنه) الأولى عنهما لأن لأبيه وفادة كذا في «الفتح المبين» ، وكأن اقتصار المصنف عليه دون أبيه لأن ذلك قول ضعيف كما أشار إليه الأثير بقوله في «أسد الغابة» : يقال إن أباه وفد على النبيّ فدعا له النبيّ، وأهدي إلى النبيّ نعلين فقبلهما، وزوّج أخته من النبيّ، فلما دخلت على النبيّ تعوّذت منه فتركها وهي الكلابية وفي المتعوذة خلاف كبير اهـ.
وهو صريح في أن المتعوذة عمة النوّاس وبه يدفع قول ابن حجر في «الفتح المبين» : تزوّج النبي أخت النوّاس وهي المتعوذة إلا إن كان ذلك على قول آخر، روى للنواس عن النبيّ سبعة عشر حديثاً، روى منها مسلم ثلاثة، وروى له أصحاب السنن.
وقال الكازورني في «شرح الأربعين» : كان من أصحاب الصفَّة وسكن الشام ( وعن النبي قال: البر) وهو لمقابلته بالفجور: عبارة عما اقتضاه الشرع وجوبا كما أن الإثم عما نهى عنه الشرع وجوبا أو ندبا، وتارة يقابل بالعقوق فيكون عبارة عن الإحسان كما أن العقوق عبارة عن الإساءة، من بررت فلاناً بالكسر أبرّه برّا فأنا برّ بفتح أوله، وبارّ وجمع الأوّل أبرار والثاني بررة ( حسن الخلق) أي معظم البر حسن الخلق: أي التخلق فالحصر فيه مجازي كما في قوله «الحج عرفة» و «الدين النصيحة» والمراد من الخلق المعروف الذي هو طلاقة الوجه وكف الأذى وبذل الندى وأن يحب للناس ما يحبلنفسه، وهذا راجع لقول بعضهم: هو الإنصاف في المعاملة والرفق في المجادلة والعدل في الأحكام والبذل والإحسان في اليسر والإيثار في العسر وغير ذلك من الصفات الحميدة ( والإثم) أي الذنب كما علم من تعريفه وهمزته عوض من الواو كأنه يتم الأعمال: أي يكسرها بإحباطه ( ما حاك) أي تردد وتحرك وقيل أي رسخ وأثر ( في نفسك) اضطراباً وقلقاً ونفوراً وكراهية لعدم طمأنينتها ومن ثم لم يرض بالاطلاع عليه كما قال ( وكرهت أن يطلع عليه الناس) أي وجوههم وأشرافهم إذ المطلق ينصرف للفرد الكامل، والمراد الكراهية العرفية الجازمة لا العادية فقط ككراهة أن يرى آكلاً من حياء أو بخل، ولا غير الجازمة كمن يكره أن يركب بين مشاة تواضعاً فإنه لو رؤى كذلك لم يكره.
وقد تبين من الحديث أن للاثم علامتين، وفيه أن للنفس شعوراً من أصل الفطرة بما تحمد وتندم عاقبته ولكن غلبت عليها الشهوة فأوجبت لها الإقدام على ما يضرّها، فإذا عرفت هذا اتضح لك وجه كون التأثير في النفس علامة للإثم لأنه لا يصدر إلا لشعورها بسوى عاقبته، ووجه كون كراهة اطلاع الناس على الشيء دليل الإثم أن النفس بطبعها تحب اطلاع الناس على خيرها وبرّها وتكره ضد ذلك، فكراهتها اطلاع الناس على فعلها ذلك يدل على أنه إثم، ثم هل كل منهما علامة مستقلة على الإثم من غير احتياج إلى الأخرى أولا؟ بل كل جزء علامة، والعلامة الحقيقية مركبة منهما كل محتمل وحينئذ فما وجد فيه العلامتان معا فإثم قطعا كالرياء والزنا وما انتفيتا متلازمتان لأن كراهة النفس تستلزم كراهة اطلاعهم وعكسه، والحديث مخصوص بغير مجرد خطور المعصية ما لم يعمل أو يتكلم ( رواه مسلم) وهو من جوامع كلمه بل من أوجزها، إذ البرّ كلمة جامعة لجميع أفعال الخير وخصال المعروف، والإثم كلمة جامعة لجميع أفعال الشرّ والقبائح كبيرها وصغيرها، ولذا قابل بينهما ( حاك بالحاء المهملة والكاف: أي تردد فيه) الأولى «فيها» أي النفس.


رقم الحديث 591 ( وعن وابصة) بكسر الموحدة بعدها مهملة ( ابن معبد) بفتح الميم والموحدة وسكون العين المهملة وبالدال المهملة بن مالك بن عبيد الأسدي من أسد بن خزيمة، قالهابن عبد البر وقيل غير ذلك في نسبه ( رضي الله عنه) قدم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في عشرة رهط من قومه بني أسد بن خزيمة سنة تسع فأسلموا ورجع إلى بلاده، ثم نزل الجزيرة وسكن الرقة ودمشق ومات بالرقة ودفن عند منارة جامعها، روى له عن النبي أحد عشر حديثاً روى عنه ابناه عمرو وسالم والشعبي وغيرهم، وكان كثير البكاء لا يملك دمعته وله عقب بالرقة ( قال: أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال) من باب الإخبار بالغيوب من جملة معجزاته الكبرى ( جئت تسأل عن البرّ) جملة حالية من الضمير ( قلت: نعم، قال: استفت قلبك) أي اطلب الفتوى منه، وفيه إيماء إلى بقاء قلب المخاطب على أصل صفاء فطرته وعدم تدنسه بشىء من آفات الهوى الموقعة فيما لا يرضى، ثم بين نتيجة الاستفتاء وأن فيه بيان ما سأل عنه فقال ( البرّ ما اطمأنت إليه النفس واطمأن إليه القلب) أي نفسه وقلبه إن كان من أهل الاجتهاد، وإلا فليسأل المجتهد فيأخذ ما اطمأنت إليه نفسه وسكن إليه قلبه، فإن لم يوجد شيء من ذلك فليترك ما التبس عليه من مطلوبه ولم يدر حله وحرمته.
والقلب القوة المودعة في الجزء الصنبوري المسمى بالقلب أيضاً، والنفس لغة: حقيقة الشيء، واصطلاحاً: لطيفة في البدن تولدت من ازدواج الروح بالبدن واتصالهما معاً ( والإثم ما حاك في النفس) أي في نفس المجتهد، ولم يستقرّ حله عنده ( وتردد في الصدر) ولم ينشرح له ( وإن أفتاك الناس) أي غير أهل الاجتهاد من أولى الجهل والفساد وقالوا لك إنه حق، فلا تأخذ بقولهم لأنه قد يوقع في الغلط وأكل الشبهة أو مطلق الناس فيشمل ما أفتى فيه المفتي بالحلّ في ظاهر الحكم الشرعي، والورع تركه، وذلك كمعاملة من أكثر ماله حرام فلا يأخذ منه شيئاً ولا يعامله، وإن أباح المفتي معاملته لعدم تعين ما يأخذه منه للحرام، فلا يأخذه ورعا لاحتمال كونه الحرام في نفس الأمر.
قال الكازروني: ولأن الفتوى غير التقوى، وجملة «وإن أفتاك الخ» معطوفة على مقدر: أي إن لم يفتك الناس وإن أفتاك وقوله ( وأفتوك) هو بمعنى ما قبله كرر للتأكيد والحاصل أن فيه الأمر بترك الشبهات التي تحصل للنفوس المعتد بها الحرارة عند تناولها وأخذها خشية أن تكون حراماً في نفس الأمر، وتقدم أن محل ذلك إذا كان عن مستند قريب يعتد بمثله شرعا وإلا فمراعاة ذلك تنطع ( حديث حسن) قال في «الفتح المبين» : بل «صحيح» ( رواه أحمد) يعني ابن حنبل الشيباني الإمام المشهور أفردتترجمته بالتأليف ومنها كتاب حافل لابن الجوزي، ولد ببغداد سنة أربع وستين ومائة وتوفي بها ضحوة الجمعة الثاني عشر من ربيع الأول سنة إحدى وأربعين ومائتين وله سبعة وسبعون سنة ( و) أبو عبد الله محمد بن عبد الرحمن السمرقندي ( الدارمي) منسوب إلى دارم بطن من تميم، مات سنة خمس وخمسين ومائتين ( في مسنديهما) .
المسند: هو ما جمع من الأحاديث على مسانيد الصحابة كل مسندّ على حدة ويقال أول مسند صنف مسند أبي داود الطيالسي، وعن الدارقطني أول من صنف مسنداً وتتبعه أبو نعيم بن حماد، وتبع المصنف في عد كتاب الدارمي من المسانيد الإمام ابن الصلاح، وقد تعقبه الحافظ زين الدين العراقي في «ألفيته» وشرحها في ذلك وقال: إنه مؤلف على الأبواب لا على المسانيد.


رقم الحديث 592 ( وعن أبي سروعة بكسر السين المهملة) وإسكان الراء وبالعين المهملة ( عقبة ابن الحارث) تقدمت ترجمته ( رضي الله عنه) في باب المبادرة إلى الخير ( أنه تزوّج ابنة لأبي إهاب ابن عزيز) قلت: وفي كتاب الشهادات من البخاري أنه تزوّج أم يحيى بنت أبي إهاب فهذه كنيتها واسمها غنية، ذكره الدارقطني في المؤتلف والمختلف.
قال السيوطي في «التوشيح» : تكنى أم غنى، قال الحافظ بن زين الدين العراقي في مبهماته: يعني بغين معجمة ونون مكسورة وياء آخر الحروف قال وقال والذي في «شرح ألفيته» أنه وقع في بعض طرق الحديث عن عقبة بن عامر بن الحارث قال: تزوجت زينب بنت أبي إهاب.
قلت: وقد عزا الحافظ المزي في «الأطرف» إلى البزار أنه أخرج الحديث عن عقبة قال «تزوجت زينب بنت أبي إهاب» قال الحافظ في أوائل الشهادات من «الفتح» : قد تقدم في العلم أن اسمها غنية بفتح المعجمة وكسر النون بعدها تحتية مثقلة، ثم وجدت في النسائي أن اسمها زينب فلعل غنية لقبها أو كان اسمها فغير بزينب كما غير اسم غيرها، والأمة المذكورة لم أقف على اسمها اهـ.
وأبو إهاب لم أر من ذكر اسمه فكأن كنيته هي اسمه، وهو ابن عزيز بن قيس بن سويد بن ربيعة بن زيد بن عبد الله بن دارم التميمي، قاله خليفة، وقد ذكرهفي «أسد الغابة» قال: حليف بني نوفل ( فأتته امرأة) في رواية البخاري في البيوع امرأة سوداء، وفي رواية له في الشهادات: فجاءت أمة سوداء ( فقالت: إني قد أرضعت عقبة والتي قد تزوج بها، فقال لها عقبة: ما أعلم أنك أرضعتني ولا أخبرتني) قال الحافظ في «الفتح» : عند الدارقطني من طريق أبي أيوب عن مليكة عن عقبة: فدخلت علينا: مرأة سوداء، فسألت فأبطأنا عليها فقالت: تصدّقوا عليّ فوالله لقد أرضعتكما جميعاً، وقوله «ولا أخبرتني» على ما أعلم وأتى به ماضياً لأن نفيه باعتبار المعنى وبأعلم مضارعاً لأن نفي العلم حاصل في الحال ( فركب) أي من مكة كما في «التوشيح» ( إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة) حال من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا متعلق بركب ( فسأله) أي عن حكم هذه النازلة ( فقال رسول الله: كيف) ظرف يسأل به عن الحال وهو خبر محذوف: أي كيف اجتماعكما بعد ( وقد قيل) جملة في محل الحال في المقدر: أي كيف اجتماعكما على حال قولها إنكما أخوان من الرضاعة.
إذ ذاك بعيد من المروءة ( ففارقها عقبة) أي صورة أو طلقها احتياطاً أو ورعاً.
ولا حكماً بثبوت الرضاع وفساد النكاح، إذ ليس قول المرأة الواحدة شهادة يجوز بها الحكم، نعم أخذ بظاهره الإمام أحمد فقال: الرضاع يثبت بشهادة المرضعة وعدمه، وفي المسألة خلاف طويل بينه الحافظ في كتاب الشهادات في باب شهادة المرضعة من «فتح الباري» ( ونكحت زوجا غيره) هو ضريب بضم المعجمة وفتح الراء آخره موحدة ابن الحارث، وفي الحديث الحض على ترك الشبه والأخذ بالأحوط في الأمر ( رواه البخاري) في العلم والبيوع والشهادات والنكاح من «صحيحه» ورواه أبو داود والترمذي والنسائي ( إهاب بكسر الهمزة) أي وتخفيف الهاء وبالموحدة ( وعزيز بفتح العين وبزاي مكررة) قال في فتح الباري: ووقع عند أبي ذرّ عن المستملي والحموي بزاي وآخره راء مصغر، والأوّل هو الصواب.


رقم الحديث 593 ( وعن الحسن) بفتح الحاء والسين المهملتين والنون ( ابن عليّ) بن أبي طالب ابنعبد المطلب بن هاشم القرشي الهاشمي سبط رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وريحانته من الدنيا ( رضي الله عنهما) تقدمت ترجمته وحديثه في باب الصدق ( قال: حفظت من رسول الله: دع) الظاهر أنه أمر ندب وإرشاد وحض على مكارم الأخلاق بالتورّع عن الشبه وليس أمر إيجاب بحيث يأثم تاركه ويكون عاصياً بتركه ( ما يريبك إلى ما لا يريبك) بفتح التحتية وضمها والفتح أفصح، تقول رابني فلان: إذا رأيت منه ما يريبك وتكرهه، وهذيل تقول أرابني ( رواه الترمذي) «في الزهد» من جامعه ( وقال: حديث حسن) الذي تقدم في باب الصدق وقال: حسن صحيح، وكذا نقله عنه المزي في «الأطراف» ، وحينئذ فلعل سقوط «صحيح» من بعض النسخ أو سهو من قلم المصنف، ورواه النسائي.
والحديث قد تقدم مع ترجمة الحسن، وشرح الحديث في باب الصدق أوائل الكتاب بزيادة في آخره: فإن الصدق طمأنينة وإن الكذب ريبة ( ومعناه) أي الحديث ( اترك ما تشك فيه) أي مما تعارض فيه دليلاً الحل والتحريم ( وخذ ما لا تشك فيه) مما قام النص على حله، أو قال بحله مجتهد، قياساً على ما جاء حله في النص ولم يعارضه ما يرده.
والمصنف بين هذا المعنى، وسكت عن ضبط المضارع لأنه قدمه ثمة، وقد سبق له نظير ذلك كما نبهنا عليه قريباً.


رقم الحديث 594 ( وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان لأبي بكر الصديق رضي الله عنه غلام) قال الحافظ في «الفتح» : لم أقف على اسمه، ووقع لأبي بكر مع النعيمان بن عمر وأحد الأحرار من الصحابة قصة ذكرها عبد الرزاق بإسناد مرسل «أنهم نزلوا بماء فجعل النعمان يقول لهم يكون كذا، فيأتونه بالطعام فيرسله إلى الصحابة، فبلغ أبا بكر فقال: أراني آكل كهانة النعيمان منذ اليوم، ثم أدخل يده في حلقه فاستقاءه» وفي الورع لأحمد عن ابن سيرين: لم أعلم أحداً استقاء من طعام غير أبي بكر، فإنه أتي بطعام فأكل، ثم قيل له جاء به ابن النعيمان قال: وأطعمتموني كهانة ابن النعيمان؟ ثم استقاء.
ورجاله ثقات لكنه مرسل، ولأبي بكر قصة أخرى في ذلك أخرجها يعقوب بن أبي شيبة في «مسنده» ( يخرج له الخراج) أي يأتيه بمايكسبه من الخراج، وهو ما يقرره السيد على عبده من مال يحضره من كسبه وسيأتي في الأصل ( وكان أبو بكر يأكل من خراجه) أي بعد أن يسأله عنه كما في رواية الإسماعيلي ( فأتاه في ليلة بكسبه فأكله) ولم يسأله ثم سأل ( فقال له الغلام: تدري) همزة الاستفهام قبله مقدرة: أي أتدري ( ما هذا) أي الذي أكلته: أي سبب حصوله ووصوله ( فقال أبو بكر: وما هو) سؤال عن بيان حقيقة جهة وصوله ( فقال: كنت تكهنت لإنسان) قال الحافظ: لم أعرف اسمه ( في الجاهلية) هو ما قبل الإسلام سميت بذلك لكثرة جهالاتها ( وما أحسن الكهانة) فجمع إلى قبح الكهانة قبح التشييع بما ليس له والخديعة كما قال ( إلا أني خدعته) وهو استثناء منقطع، والخدع الإطماع بما لا وصول إليه.
وفي «مفردات الراغب» : الخداع إنزال الغبي عما هو بصدده بأمر يبديه على خلاف ما يخفيه ( فلقيني فأعطاني) أي في الإسلام ( لذلك) أي لأجله، وفي نسخة من البخاري بالموحدة: أي عوض تكهني له ( هذا الذي أكلت منه) وكأنه دفع له حينئذ لأنه تبين له إذ ذاك ما كان قال قبل ( فأدخل أبو بكر يده فقاء كل شيء في بطنه) الظرف في محل الصفة لشيء، قال ابن التين: إنما استقاء أبو بكر تنزّهاً لأن أمر الجاهلية وضع، ولو كان في الإسلام لغرم مثل ما أكل أو قيمته ولم يكفه القيء.
قال الحافظ: كذا والذي يظهر أن أبا بكر إنما قاء لما ثبت عنده من النهي عن حلوان الكاهن وحلوان الكاهن ما يأخذه على كهانته، والكاهن من يخبر بما سيكون من غير دليل شرعي، وكان ذلك قد كثر في الجاهلية قبل ظهور النبيّ ( رواه البخاري) في أيام الجاهلية من «صحيحه» ( الخراج) بفتح أوليه وتخفيف ثانيه آخره جيم ( شيء يجعله السيد على عبده يؤديه إلى السيد كل يوم) أي مثلاً، إذ منه ما تجعل المرأة على عبدها والسيد على أمته أو يجعل عليه في الجمعة أو في الشهر أو في العام، وكأن ما ذكر لأنه الغالب خصوصاً وفي التوقيت بنحو شهر تعويض لضياع ما يوظف عليه ( وباقي كسبه يكونللعبد) أي يبيح له السيد أن ينتفع به إلا أنه لا يملكه العبد ولا يخرج عن ملك سيده، إذ لا يملك الرقيق شيئاً وإن ملكه سيده.


رقم الحديث 595 ( وعن نافع) مولى ابن عمر تابعي جليل ( أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان فرض) أي قدر ( للمهاجرين الأولين) أي لكل منهم: أي من فيء ديوان العطاء ( أربعة آلاف) أي درهم ( وفرض لابنه) أي عبد الله مع أنه منهم ( ثلاثة آلاف وخمسمائة) احتياطاً ( فقيل له) لم يتعرض الحافظ لبيان القائل ( هو من المهاجرين) أي فينبغي أن يكون له مثل ما لكل مهاجر ( فلم نقصته؟) أي خمسمائة فالمفعول الثاني محذوف لأن نقص جاء قاصراً نحو حديث «ما نقص مال من صدقه» ومتعدياً لاثنين نحو نقصت المال ديناراً وما نحن فيه من الثاني ( فقال: إنما هاجر به أبوه) كذا في نسخ الرياض أبوه مرفوعاً بالواو.
والذي رأيته في أصل مصحح معتمد من البخاري: أبواه بصيغة المثنى بتغليب الأب على الأم، كالعمران في تثنية أبي بكر وعمر والقمران في تثنية شمس وقمر، ونسبة المهاجرة به إلى الأم مجاز، والمهاجر به حقيقة إنما هو أبوه ( يقول ليس هو كمن هاجر بنفسه) أي كأنه حينئذ كان في كنف أبويه، فليس هو كمن هاجر بنفسه وعانى كلفتها وذاق مرارة وعثاء السفر ومشقتها.
وجاء في رواية الداودي: فقال عمر لابن عمر: إنما هاجر بك أبواك.
وكان سن ابن عمر حين هاجر به أبوه إحدى عشرة سنة، ووهم من قال ثنتي عشرة سنة أو ثلاث عشرة لما ثبت في «الصحيح» من أنه عرض يوم أحد وهو ابن أربع عشرة سنة، وكانت أحد في شوال سنة ثلاث ( رواه البخاري) في أبواب الهجرة في «صحيحه» .


رقم الحديث 596 ( وعن عطية بن عروة) بضم المهملة وسكون الراء قال المزي في الأطراف: ويقال أبو عمرو بن عوف ويقال أبو سعد ( السعدي) بفتح المهملة وسكون الثانية والدال مهملة أيضاً.
قال في «أسد الغابة» : من سعد بن بكر.
وفي «أطراف المزي» : من سعد من بني خيثم بن سعد بن بكر بن هوازن اهـ ( الصحابي رضي الله عنه) روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم ـثلاثة أحاديث ( قال: قال رسول الله: لا يبلغ العبد) أي لا يصل ( أن يكون من المتقين) أي من الموصوفين بكمال التقوى، فإن المطلق ينصرف إلى الفرد الكامل ( حتى يدع) أي يترك خشية من الله ( ما لا بأس به) أي بظاهر الفتوى أو مطلقاً ( حذراً) بفتح أوليه مفعول مطلق لفعل هو وفاعله في محل الحال: أي حال كونه يحذر حذراً.
أو مفعول له ( لما) أي للذي ( به بأس) وهذا من باب قوله «فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه.
ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام» ( رواه الترمذي) في الزهد من «جامعه» ( وقال: حديث حسن) غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، ورواه ابن ماجه في الزهد من «سننه» أيضاً، والحاكم في «مستدركه» ، والله أعلم.
69