فهرس الكتاب

دليل الفالحـــين - باب استحباب العزلة عند فساد الناس والزمان أو الخوف من فتنة في الدين أو وقوع في حرام وشبهات ونحوها

رقم الحديث -69 بضم المهلة وسكون الزاي اسم مصدر اعتزله وتعزله: أي تجنبه كما في «الصحاح» ، قال: ويقال العزلة عبادة ( عند فساد الزمان) أي تغيره بحسب ما يظهره الله فيه من فساد بعد صلاح أهله كأن يبدو الرياء والكذب بعد الصدق والخيانة بعد الأمانة وهكذا ( أو) عند ( الخوف) أي الخشية ( من فتنة) أي محنة ( في الدين) بسبب الدين التي تنشأ عن الاجتماع به كأن يداهنهم على محرّم أو يرى منهم منكراً أو يقرهم عليه أو نحو ذلك أي وإن لم يكن ذلك من فساد الزمان وإنما ذلك ناشىء عن اجتماع مخصوص له ( ووقوع في حرام وشبهات ونحوها) معطوفة على محنة من عطف الخاص على العام، وكون الوقوع في الشبه من المحنة في الدين إما باعتبار كونها حراماً في نفس الأمر، وأن الوقوع فيها يجرّ إلى الوقوع فيه كما تقدم في قوله «ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام» وفهم من الترجمة فضل الخلطة عند الأمن من ذلك.
قال المصنف: المختار تفضيل المخالطة لمن لا يغلب على ظنه وقوع المخالفة بسببها، فإن أشكل فالعزلة أولى، وسيأتي فيه مزيد في الباب بعده.
( قال الله تعالى) : ( { ففرّوا إلى الله} ) أي من جميع ما عداه، وهوأمر بالدخول في الإيمان بالله وطاعته وجعل الأمر بذلك بلفظ الفرار تنبيهاً على أن وراء الناس عقاباً وعذاباً وأمراً حقه أن يفر منه فجمعت لفظة ففروا التحذير والاستدعاء، وينظر إلى هذا المعنى قوله «ولا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك» الحديث.
قال الحسين بن الفضل: من فرّ إلى غير الله لم يمتنع من الله ( { إنى لكم نذير مبين} ) يجب أن ينذر ويحذر، أو يبين كونه منذراً من الله بالمعجزات.


رقم الحديث 597 ( وعن سعد بن أبي وقاص) واسمه مالك، وسعد أحد العشرة المبشرة بالجنة تقدمت ترجمته ( رضي الله عنه قال: سمعت النبي يقول: إن الله يحبّ) المراد من المحبة لاستحالة قيام حقيقتها من الميل النفساني به تعالى غايتها، مجازاً مرسلاً من إطلاق اللازم وإرادة الملزوم من التوفيق للطاعة أو الإنابة بأحسن الفضل أو الثناء عليه عند ملائكته أو يكون صفة فعل أو إرادة ذلك فتكون صفة ذات ( العبد) أي المكلف ولو حرّا وهو اسنى أوصاف الإنسان ( التقي) الممتثل للأوامر والمجتنب للنواهي ( الغني) الغنى المحمود شرعاً الآتي بيانه في الأصل ( الخفي) بالخاء المعجمة هذا هو الموجود في النسخ والمعروف في الروايات.
وذكر القاضي عياض أن بعض رواة مسلم رواها بإهمال الحاء، ومعناه بالإعجام الخامل المنقطع إلى العبادة والاشتغال بها وبأمور نفسه التي تعنيه دينا ودنيا.
وقال آخرون: هو الذي يعتزل الناس ويخفي عنهم مكانه، وبالإهمال الوصول للرحم، اللطيف بهم وبغيرهم من الضعفاء، والصحيح المعجمة.
ففيه دليل تفضيل الاعتزال على الخلطة، أما مطلقاً كما قيل به، أو عند خوف فتنة في الدين كما جرى عليه المصنف وترجم به تبعاً للكثير ( رواه مسلم) وأحمد كما في «الجامع الصغير» ( المراد بالغني) بفتح المعجمة أي المراد من الغني المذكور في الحديث ( غني النفس) كذلك، ويصح أن يقرأ بكسر المعجمة وبالقصر فيهما، وحينئذ فيكون المعنى المراد بالغنى المشتق منه الغنى في الحديث، ويؤيد هذا قوله ( كماسبق في الحديث الصحيح) أي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي «ليس الغني عن كثرة العرض ولكن الغنى غنى النفس» ويؤيد الأول سلامته من التكلف والتقدير في الثاني.


رقم الحديث 598 (وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رجل) قال الحافظ: لم أقف على اسمه، ويبعد تفسيره بما جاء في حديث أن أبا ذرّ سأل عن ذلك أنه جاء عند البخاري في كتاب الرقاق: جاء أعرابيّ وأبو ذرّ لا يحسن أن يقال فيه إنه أعرابي (أيّ الناس أفضل) وعند البخاري في رواية «أي الناس خير» وفيه روايات أخر.
وقوله: (يا رسول الله) تلذذ بذكره واستعذاب لمخاطبته، قال الشاعر: أعد ذكر نعمان لنا إن ذكره هو المسك ما كررته يتضوّع وفي النداء به الإيماء إلى سبب توجيه السؤال إليه عن ذلك، وأن مثل هذا لا يعلم إلا من حضرة الحق سبحانه فيطلب معرفته من أمينه على وحيه (قال) أتى به على طريق الاستئناف لأن المراد الإخبار عن حصول جواب السؤال مع قطع النظر عن كونه عقبه كما هو مدلول الفاء أو بعده كما هو مدلول ثم أو غير ذلك، وقوله (مؤمن يجاهد بنفسه وماله في سبيل الله) خبر مبتدأ محذوف التقدير هو: أي الأفضل مؤمن، وقوله في سبيل الله) هو في لسان الشرع عبارة عن جهاد الكفار وإعزاز الدين: أي يقاتل بنفسه ويحمل ويعين بماله في ذلك، وقد يراد منه مطلق طاعة الله سبحانه (قال ثم من) أي بعده في ذلك (قال: ثم) أتى بها في الجواب مع وجودها للتنصيص على نزول مرتبة مدخولها عمن قبله،: أي ثم بعده (رجل) وعند مسلم: مؤمن (معتّزل في شعب من الشعاب) فرجل مبتدأ محذوف الخبر عكس ما قبله، والشعب بكسر الشين المعجمة: هو الطريق في الجبل وما انفرج بين الجبلين ومسيل الماء.
وقوله (يعبد ربه) زاد مسلم في رواية له «يقيم الصلاة ويؤتي الزكاة حتى يأتيهاليقين ليس من الناس إلا في خير» والجملة مستأنفة استئنافاً بيانياً لبيان الحامل له على الاعتزال، فإن في الاجتماع بالناس الشغل عن ذلك.
وفي الخلوة الجلوة، ويجوز إعرابها خبراً بعد خبر، ولا ينافي هذا الحديث حديث «خيركم من تعلم القرآن وعلمه» وحديث «خيركم من طال عمره وحسن عمله» ونحوهما لأن هذا الاختلاف بحسب الأوقات والأقوام والأحوال، وفي الحديث فضل العزلة به.
قال الحافظ: والذي يظهر أنه محمول على ما بعد عصر النبيّ (وفي رواية) وهي للبخاري في «الجهاد صحيحة» إلا أنه قال: ثم مؤمن في شعب من الشعاب (يتقي) الله أي لمراقبته مولاه وعلمه بأنه رقيب عليه محيط به (ويدع الناس) أي يتركهم (من شره) باعتزاله عنهم وانفراده فلا يصل إليهم شرّه، ثم جملة يتقي ربه عندهما آخر الحديث الذي أورده المصنف، وكأنه غفل رحمه الله عن ذلك فاحتاج لعزوه إلى رواية أخرى (متفق عليه) فأخرجه البخاري في الجهاد وفي الرقاق، وأخرجه مسلم في الجهاد، ورواه أبو داود والترمذي والنسائي في الجهاد، ورواه ابن ماجه في الفتن وقال الترمذي حسن صحيح.


رقم الحديث 599 ( وعنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوشك) بضم التحتية وكسر الشين المعجمة.
قال في «الصحاح» والعامة تفتح الشين وهي لغة رديئة: أي يقرب ( أن يكون خير مال المسلم غنم يتبع بها شعف الجبال) قال ابن مالك: في الحديث شاهد على إسناد أوشك إلى أن ومنصوبها وغنم نكرة موصوفة اسم يكون، والخبر قوله خير، والمراد بالمسلم الجنس، وقدم الخبر للاهتمام بالاعتزال لأن الكلام مسوق فيه لا في الغنم ولذا أخرها.
قال في «الفتح» : ويجوز العكس بأن يكون خير اسمها مال الخبر والأشهر في غنم الرفع، وقيل يجوز رفع الجزءين على الابتداء والخبر.
والجملة في موضع نصب خبر يكون، واسمهاضمير شأن لأنه كلام يتضمن تحذيراً وتعظيماً وتقديم ضمير الشأن مؤكد لمعناه، قال الحافظ: ولا يخفى تكلفه ( ومواقع القطر) أي الغيث ومواقعه هي مواضع الكلأ ( والغيث) لأن المطر إذا أصاب الأرض أعشبت ( يفر بدينه من الفتن) قال الكرماني: جملة حالية من الضمير المستكن في يتبع أو المسلم إذا جوّزنا الحال من المضاف إليه فقد وجد شرطه وهي شدة الملابسة فكأنه جزؤه.
ويجوز أن تكون استئنافية وهو واضح اهـ ( رواه البخاري) في الإيمان وفي الجزية والفتن ورواه أبو داود في الفتن، ورواه النسائي في الإيمان، وابن ماجه في الفتن ( وشعف الجبال) بفتح الشين المعجمة والمهملة بعدها فاء جمع شعفة كأكم وأكمة وجمعها شعاف ( أعلاها) قال الحافظ: والماء والمرعى يكون فيها ولا سيما في بلاد الحجاز.
والخبر دالّ على فضيلة العزلة لمن خاف على دينه.


رقم الحديث 600 ( وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي قال: ما بعث الله نبياً) يحتمل أن يكون المراد من النبي مطلق من أوحى إليه بشرع سواء أمر بتبليغه أو لا، فيفسر البعث بالإيحاء، ويحتمل أن المراد منه الرسول من إطلاق العام مراداً به الخاص وقرينته قوله بعث: أي أرسل ( إلا رعى) وفي نسخة من البخاري راعي بصيغة اسم الفاعل ( الغنم) وذلك ليتمرّنوا برعيها على ما سيكلفون من القيام بأمر الأمة ولأن في مخالطتها يحصل الحلم والشفقة لأنهم إذا صبروا على رعيها، وجمعها بعد تفريقها في المرعى، ونقلها من مسرح إلى آخر، ودفع غدرها من سبع وغيره كالسارق، وعلموا اختلاف طباعها وشدة تفرقها مع ضعفها واحتياجها إلى المعاهدة، ألفوا من ذلك الصبر على الأمة، وعرفوا اختلاف طباعها وتفاوت عقولها، فجبروا كسرها ورفقوا بضعفائها وأحسنوا التعاهد لها فيكون تحملهم لمشقة ذلك أسهل مما لو كلفوا القيام بذلك من أول وهلة لما يحصل لهم من التدريج على ذلك برعى الغنم، وخضت الغنم بذلك لكونها أضعف من غيرها فهي أسرع انقياداً من غيرها ( فقال أصحابه: وأنت) بحذف همزة الاستفهام: أي وأنت أيضاً رعيتها ( فقال نعم) ذكره لذلك بعد علمكونه أكرم خلق الله على الله من عظيم تواضعه لربه، وفيه اعتراف بمنة الله سبحانه، وفيه التحريض للأمة على سلوك ذلك ( كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة) قيل المراد بالقيراط هنا جزء من الدينار والدرهم، وقال إبراهيم الجرمي: قراريط اسم مرعى بمكة ولم يرد القراريط من الفضة، وصوّبه ابن الجوزى تبعاً لابن ناصر وخطأ الأول، لكن رجح الأول آخرون بأنه لا يعرف أهل مكة بها محلاً يقال له القراريط ( رواه البخاري) في الإجارة من صحيحه، ورواه ابن ماجه في الإجارة من «سننه» .


رقم الحديث 601 ( وعنه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: من خير معاش) والمراد: أي عيش به الحياة ( الناس لهم) قال المصنف: أي من خير أحوال عيشهم ( رجل) هو على تقدير مضاف: أي معاش رجل فحذف وأقيم المضاف إليه مقامه فارتفع ( ممسك عنان) بكسر المهملة وبالنونين الخفيفتين ( فرسه في سبيل الله) حال من رجل لتخصيصه بالوصف أو وصف له، والمراد به جهاد الكفار، وقوله ( يطير على متنه) يجوز فيه الوجهان ( كلما) ظرف لقوله طار أي في وقت ( سمع هيعة) بفتح الهاء والعين المهملة وسكون التحتية بينهما ( أو) يحتمل أن تكون شكاً من الراوي ويقرّ به قول المصنف الآتي: والفزعة نحوه، ويحتمل أنها للتنويع بناء على ما سيأتي ثمة من الفرق بينهما ( فزعة) بفتح الفاء والمهملة وسكون الزاي بينهما ( طار عليه) أي على فرسه وهو كما في «المصباح» يطلق على الذكر والأنثى من الخيل ( يبتغي القتل) أي من الكفار له ( أو الموت) أي حتف أنفه ( مظانه) أي فيما يظن وجوده فيه: أي يطلب ذلك في مواطنه التي يرجى فيها لشدة رغبته في الشهادة.
وفيه فضيلة الموت في سبيل الله وإن لم يقتله العدوّ، وجملة يبتغي الخ مستأنفة أتى بها لبيان سبب ملازمته عنان فرسه: أي الحامل له على ذلك مزيد رغبته في الشهادة وإعلاء كلمة الله سبحانه ( أو) للتنويع ويحتمل كونها بمعنى الواو فإن كلاً منهما عيشه محمود آخره ( رجل في غنيمة) بضم الغين المعجمة وفتح النون وسكون التحتية والتصغير للتقليل إيماء إلى الإعراض عن الاستكثار من الدنيا والاقتصار على ما تدعو إليه الحاجة ( في رأس شعفة من هذه الشعف) الظرف الأول في محل الصفة لغنيمة والثاني صفة لشعفة: أي في أعلى جبل من هذه العوالي ( أو) للتنويع ( بطن واد من هذه الأودية) جمع قلة لواد والوادي كل منفرج بين جبال وآكام يكون منفذاً للسيل وذلك لأن صاحب الغنيمة تابع للكلأ سواء كان في الأعلى أو في الأسفل.
وقوله ( يقيم الصلاة) جملة حالية من رجل لتخصيصه بالوصف أو مستأنفة جىء بها لبيان ما لأجله كان من ذوي المعاش النسبي ومعنى يقيم الصلاة: أي يؤديها جامعة لأركانها وشرائطها وآدابها ( ويؤتي الزكاة) أي المفروضة ( ويعبد ربه) بأنواع الطاعات ( حتى يأتيه اليقين) أي الموت المتيقن لحاقه ( ليس من الناس) أي من أمورهم وأحوالهم ( في شيء) من الأشياء ( إلا في خير) فهو استثناء من أعم الأشياء كما قدرناه لاعتزالهم عنه ومجانبته لهم، والجملة في محل الحال من فاعل يقيم فيكون حالاً متداخلة، أو من رجل لتخصيصه بالوصف فيكون حالاً مترادفة إن أعربت الجملة السابقة حالاً ( رواه مسلم) وجعله المزي في «الأطراف» ، والحديث الذي نقله المصنف في أول الباب وقال إنه متفق عليه واحداً: أي باعتبار المعنى وإن تفاوت في بعض المبنى ( يطير) بفتح أوله ( أي يسرع) وأراد به مع بيان معنى طار المذكور في الحديث التنبيه على أنه من باب ضرب ( ومتنه) بفتح الميم وسكون الفوقية بعدها نون ( ظهره) مأخوذ من متن الأرض وهو ما صلب وارتفع منها ( والهيعة) بضبطه السابق ( الصوت للحرب) في «شرح مسلم» للمصنف: الصوت عند حضور العدو، وفي «النهاية» : الهيعة الصوت الذي يفزع منه ويخافه عدو، وبها يعلم أن ما فسره به المصنف مراده بيان المراد في خصوص الحديث بدليل السياق، لا تفسير مطلق الهيعة لأنه أعم مما ذكره ( والفزعة) بالضبط السابق ( نحوه) هذا محتمل للتوافق كما جرت به عادة المحدثين من استعمالهم فيما يكون معناه موافقاً لمعنى ما قبله، فإن توافقا لفظاً ومعنى قالوا فيه «مثله» وهو ما يثبت عليه كون «أو» في الحديث للشك، ومحتمل أن يراد به القريب فيكون غير ما قبله وهذا أقرب، ففي شرح مسلم للمصنف الفزعة النهوض إلى العدو، وإنما كان حينئذ قريباً، لأنه إنما يكون عند الصوت ( ومظان الشيء) بفتح الميم والظاءالمعجمة جميع مظنة بفتح الميم وكسر الظاء كما في «المصباح» ( المواضع التي يظن وجوده فيها) أي ظناً قوياً يقرب أن يلحق بالعلم، ففي «المصباح» المظنة بالكسر: العلم وهو حيث يعلم الشيء «قال النابغة: فإن مظنة الجهل الشباب» .
وقال ابن فارس مظنة الشيء موضعه ومآلفه اهـ ( والغنيمة بضم الغين) المعجمة وسكت عن باقي ضبطه الذي ذكرناه لدلالة ما ذكره عليه عند العارف بصيغ التصغير ( تصغير الغنم) بفتح أوليه، قال في «المصباح» : وتدخله الهاء إذا صغر فيقال غنيمة، لأن أسماء الجموع التي لا واحد لها من لفظها إذا كانت لغير الآدميين وصغرت فالتأنيث لازم لها ( والشعفة بفتح الشين) أي المعجمة ( والعين) أي المهملة، وكان الظاهر ذكر هذا الضبط عند ذكر الشعف أولاً وإحالة ما هنا عليه ولعل المصنف تركه ثمة نسياناً وذكر هنا استدراكاً ( وهي أعلى الجبل) والله أعلم.
7