فهرس الكتاب

دليل الفالحـــين - بَابُ اليقين وَالتوكّل

رقم الحديث 74 ( الحديث الأول) منها ( عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله: عرضت) بالبناء للمفعول ( عليّ) بتشديد التحتية ( الأمم) وفيه كمال شرفه وعرض جميع الأمم عليه صلوات الله وسلامه عليه، ولعل من حكمة ذلك ما قيل إنه مبعوث لجميع بني آدم من آدم فمن دونه، والأنبياء إنما هم نوّاب عنه في تبليغ الشرائع لأولئك الأمم، وهذا العرض يحتمل أن يكون مناماً ورؤيا الأنبياء وحي أو في اليقظة ليلة الإسراء أو غيرها، وا يكرم نبيه بما شاء ( فرأيت) أبصرت إن كانت يقظة أو رؤىً حلمية إن كانت مناماً ( النبي) أل فيه للماهية أي المتصف بالنبوة، ويظهر أن المراد به الرسول ( ومعه الرهيط) بضم المهملة وفتح الهاء وسكون التحتية آخره طاء مهملة أيضاً.
وفي «مختصر القاموس» الرهط ويحرك قوم الرجل وقبيلته، أو من ثلاثة أو سبعة إلى عشرة أو ما دون العشرة وما فيهم امرأة، ولا واحد له من لفظه، جمعه أرهط وأرهاط وأراهط.
قلت: الرهط من الرجال ما دون العشرة، وقيل: إلى الأربعين اهـ والجملة في محل الحال لتصديرها بالواو بناء على أن رأى الحلمية لا تنصب مفعولين وأن المنصوب الثاني بعدها في محل الحال وهو الذي رجحه ابن هشام في بعض كتبه ( والنبي ومعه الرجل والرجلان والنبي) حال كونه ( ليس معه أحد) .
فإن قلت: النبي هو المخبر عن الله للخلق فأين الذين أخبرهم؟قلت: ربما أخبر ولم يؤمن به أحد ولا يكون معه إلا المؤمن ( إذ رفع) بالبناء المفعول ( لي سواد) أي: أشخاص وهو كما في «مختصر القاموس» : الشخص، ومن البلدة قراها والعدد الكثير من أهلها، ومن الناس عامتهم اهـ.
ولذا قال القرطبي: أي: أشخاص كثيرة ويجمع على أسودة ( عظيم) لكثرته ( فظننت أنهم) أي: السواد الذي هو الأشخاص وباعتباره جمع الضمير العائد إليه ( أمتي فقيل لي هذا) أي: السواد العظيم ( موسى وقومه) أي: أمته المؤمنون ( ولكن انظر إلى الأفق) بضم الهمزة والفاء وبسكونها كما في «الصحاح» ، وعبارته: الآفاق النواحي الواحد أفق، وأفق مثل عسر وعسر انتهت، وبالقاف: الناحية.
وجوزّ الحافظ السيوطي أن يكون الأفق واحداً وجمعاً كالفلك ويجمع أيضاً على آفاق ( فنظرت فإذا سواد عظيم فقيل لي انظر إلى الأفق الآخر فإذا سواد عظيم) أي: غير السواد الأول إذ النكرة إذا أعيدت كانت الثانية غير الأولى غالباً ( فقيل لي هذه) أي: مجموع السوادين العظيمين ( أمتك) أي: المؤمنون كما تقدم نظيره ( ومعهم سبعون ألفاً) يحتمل أن يكون معناه ومن أمتك غير هؤلاء سبعون ألفاً، ويحتمل أن يكون معناه وفي جملة هذه الأسودة سبعون ألفاً ( يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب) ويؤيد الاحتمال الثاني رواية البخاري في «صحيحه» ( هذه أمتك، ويدخل الجنة من هؤلاء سبعون ألفاً) فالسبعون ألفاً من أمته بلا شك.
وعذاب بفتح المهملة وبالذال المعجمة، وفي نسخة عقاب بكسر المهملة وبالقاف، وجملة يدخلون الجنة الخ صفة أو حال من سبعون لتخصيصه بالظرف قبله.
فإن قلت: هل يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب وإن كانوا أصحاب معاصي ومظالم؟ قلت: الذين كانوا بهذه الأوصاف الأربعة المذكورة في الحديث لا يكونون إلا عدولاً مطهرين من الذنوب أو ببركة هذه الصفات يغفر الله لهم ويعفو عنهم ( ثم نهض) قبل بيان السبعين المذكورين ( فدخل منزله فخاض) بالحاء والضاد المعجمتين: أي تكلم ( الناس) والمراد منهم الصحابة وتناظروا ( في) تعيين ( أولئك الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب) وفي البخاري «فأفاض الناس» وهو بمعناه يقال أفاض الناس فيالحديث إذ تباحثوا فيه وناظروا عليه وتناظروا.
وفي الحديث إباحة المناظرة في العلم والمباحثة في نصوص الشرع على جهة الاستفادة وإظهار الحق ( فقال بعضهم: فلعلهم الذين صحبوا رسول الله) أي: السابقون الذين صحبوه وقاموا بنصرة الدين وهجروا الأهل والأوطان لذلك ( وقال بعضهم: فلعلهم الذين ولدوا) بالبناء للمفعول ( في الإسلام) أي: وإن لم يرهم وفضلهم ما أشاروا إليه بقولهم ( فلم يشركوا با) فيه دليل على شرف المسلم أصالة على من كان كافراً ثم أسلم، ويدل له ما ذكره الفقهاء في تقديم من دخل آباؤه في الإسلام على من تأخر آباؤه في الدخول فيه في الإمامة ( وذكروا أشياء) من الاحتمالات في التعيين ( فخرج عليهم رسول الله) أو عقب خضوهم في ذلك كما تشعر به الفاء إراحة لهم من الخوض فيما لا سبيل لهم لمعرفته إلا من جهته ( فقال ما الذي تخوضون فيه؟ فأخبروه، فقال: هم الذين لا يرقون ولا يسترقون) أي: يطلبون الراقية لهم من الغير.
وقد اختلف العلماء في هذا المقام مع ورود السنة فعلاً وإذناً بجواز الرقية والاسترقاء.
والذي رجحه المصنف والقرطبي وغيرهما من ذلك ما قاله الخطابي وغيره أن المراد ترك ذلك توكلاً ورضاً بقضاء الله تعالى وبلائه، قال الخطابي: وهذه من أرفع درجات المتحققين بالإيمان.
قال: وإلى هذا ذهب جماعة سماهم.
قال المصنف: وحاصله أن هؤلاء كمل تفويضهم إلى الله تعالى فلم يسعو في دفع ما أوقعه بهم، ولا شك في رجحان هذه الحال وفضيلة صاحبها.
وأما تطببه فلبيان الجواز اهـ.
وقال القرطبي: الرقى والاسترقاء ما كان منه برقيا الجاهلية أو بما لا يعرف فواجب اجتنابه على سائر المسلمين واجتنابه حاصل من أكثرهم، فلا يكون اجتناب ذلك هو المراد هنا ولا اجتناب الرقى بأسماء الله تعالى، وبالمرويّ عن رسول الله، لأن ذلك التجاء إلى الله تعالى، قال: ويظهر لي - والله أعلم - أن المقصود اجتناب رقى خارج عن القسمين كالرقيا بأسماء الملائكة والأنبياء والصالحين كما يفعله كثير ممن يتعاطى الرقيا، فهذا ليس من قسم المحظور الذي يعم اجتنابه، ولا من قبيل الرقيا التي فيها اللجأ إلى الله تعالى، فهذا القسم المتوسط يلحق بمايجوز فعله، غير أن تركه أولى من حيث إن الرقى بذلك تعظيم وفيه تشبيه للرقي به بالرقى بأسمائه تعالى وكلماته، فينبغي اجتنابه كاجتناب الحلف بغير الله تعالى اهـ.
( ولا يتطيرون) أي: يتشاءمون بالطيور ونحوها مما يتشاءم به: أي: لا يرجعون عما عزموا عليه عند وجود ما جرت به عادة الجاهلية من التطير به والوقوف عن الفعل منه من الجوائح والسوانح وسيأتي في هذا بسط ( وعلى ربهم) لا على غيره في سائر أحوالهم ( يتوكلون) وهؤلاء هما القائمون بأعلى مقام التوكل بترك الأسباب وعدم معاطاتها رضا بتصرف المولى فيهم، واكتفاء بتدبيره تعالى عن تصرّف كلّ وتدبيره ( فقام عكاشةبن محصن) بكسر الميم وسكون المهملة الأولى وفتح الثانية، ابن حرثان بضم المهملة وسكون مهملة بعدها مثلثة وبعد الألف نون، ابن قيسبن مرةبن كثيربن غنمبن داودبن أسدبن خزيمة ( الأسدي) بفتح أوّليه والمهملتين حليف بني عبد شمس، وكان عكاشة من أفاضل الصحابة وخيارهم وشجعانهم، له ببدر المقام المشهور، وذلك أنه ضرب بالسيف في الكفار حتى انقطع، فأعطاه جزل حطب، فأخذه فهزه في يده فعاد سيفاً صارماً، فقاتل به حتى فتح الله على المسلمين، وكان ذلك السيف يسمى العون، ولم يزل عنده يشهد المشاهد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى قتل عكاشة وهو معه، وقتل في قتال أهل الردة في خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه، قتله طليحةبن خويلد الأسدي، هذا قول أهل السير.
وقال سليمان التيمي: أرسله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى بني أسد سرية فقتله طليحة.
قال ابن الأثير: وهو وهم، وإنما قاله لقرب الحادثة من عهد رسول الله، وكان عكاشة يوم توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ابن أربع وأربعين سنة.
وكان من أجمل الرجال اهـ.
وقال «منا خير فارس في العرب، قالوا: ومن هو يا رسول الله؟ قال: عكاشةبن محصن» رضي الله عنه، ولقوّة يقينه وشدة حرصه على الخير ورغبته فيما عند الله تعالى سبق الصحابة كلهم ( فقال: ادع الله لي أن يجعلني منهم، فقال: أنت منهم) يحتمل كونه منهم لدعائه له بذلك، ويحتمل لكونه كان موصوفاً بتلك الأوصاف الجميلة، ويحتمل أنه أوحى إليه بأنه منهم وفي جملة، والله أعلم بحقيقة الحال، ثم رأيت الكرماني نقل الأول قولاً عن بعضهم ( ثم قام رجل آخر فقال: ادع الله أن يجعلني منهم، فقال) له لما لم يكن عنده ما عند عكاشة من تلك الأحوال الشريفة ( سبقك بها) أي: في الفضل بالدعوة إلى منزلة أصحاب هذه الأوصاف ( عكاشة) وكره أن يقول له:لست من أهل هذه الطبقة لأنه لكمال فضله لا يواجه أحداً بما يكره، فجاء بكلام موف للغرض، وفيه التعريض بالمراد.
قال الكرماني: قيل: يحتمل أن يكون سبقك عكاشة بوحي أنه يجاب فيه ولم يحصل ذلك للآخر، وقال القرطبي: لئلا يطلب كل مثل ما طلب عكاشة، فسدّ الباب بحسن ذلك الجواب.
وهذا أولى مما قيل كان ذلك الرجل منافقاً لوجهين: أحدهما: أن الأصل في الصحابة الإيمان والعدالة فلا يظن بأحد منهم خلاف الأصل ولا يسمع منه ذلك إلا بالنقل الصحيح.


رقم الحديث 75 ( والثاني) : أنه قلّ أن يصدر مثل هذا السؤال من منافق، إذ لا يصدر غالباً عن تصديق صحيح ويقين بما عند الله تعالى اهـ.
قلت: قد صرح الخطيب بأن ذلك الرجل سعدبن عبادة كما نقله عنه الكرماني وبه يبطل ذلك القول ( متفق عليه) ورواه أحمد بنحوه وليس فيه ذكر عكاشة ( والرهيط بضم الراء) المهملة أوله وسكون التحتية ( تصغير رهط) بفتح فسكون ( وهم دون عشرة أنفس) سبق بيان الأقوال فيه والخلاف في ذلك ( والأفق: الناحية والجانب) عطف مرادفـ ففي «الصحاح» الجانب الناحية وكذا الجنبة ( وعكاشة بضم العين) المهملة ( وتشديد الكاف) قال في «القاموس» : بوزن رمانة ( وبتخفيفها) قال القرطبي: قال ثعلب: وقد تخف.
قلت: ولعله منقول من عكاشة بالتخفيف: اسم لبيت النمل، أو مأخوذ من عكش الشعر يعكش: إذا التوى اهـ.
( والتشديد أفصح) .
الحديث الثاني: ( عن ابن عباس رضي الله عنهما أيضاً) منصوب على المصدرية، وقيل: على الحالية: كلمة تقال للاتفاق بين الشيئين معنى ويمكن الاستغناء بأحدهما عن الآخر، وقد ثبت نطقه بها كما في «صحيح البخاري ومسلم» وغيرهما، وقد بسطت الكلام فيها في باب فضل الذكر من «شرح الأذكار» .
والمعنى هنا: أروي الحديث الثاني رجوعاً للرواية، أو حال كوني راجعاً للرواية عن ابن عباس ( أن رسول الله) بفتح الهمزة فيتأويل مصدر مبتدأ مخبر عنه بالظرف السابق ( كان يقول: اللهم) أي: يا أ ( لك) لا لغيرك كما يؤذن به تقديم الظرف ( أسلمت) قال ابن عبد البرّ: استسلمت لحكمك وأمرك وسلمت ورضيت آمنت وصدقت وأيقنت اهـ ( وبك) أي: بذاتك وما يجب لها من أوصاف الكمال ( آمنت) أي: صدقت ( وعليك توكلت) ركنت إليك في سائر الأمور وخرجت عن تدبيري لنفسي وحولي وقوّتي، اكتفاء بما سبقت به الإرادة وجرت به الأقدار ( وإليك أنبت) من الإنابة: الرجوع، وتختص بالرجوع إلى الخير كما في «التمهيد» لابن عبد البرّ: أي: رجعت إلى عبادتك والإقبال على ما يقرّب منك.
وقيل: رجعت بالتوبة واللجأ والذلة والمسكنة، وقيل: رجعت إليك في تدابير الأمور وتصاريفها فيكون بمعنى «وعليك توكلت» ( وبك) أي: بما أعطيتني من البرهان والحجج القولية، أو بالنصرة ونحوها من الحجج الفعلية ( خاصمت) أعداء الدين فقصمت ظهورهم بالبراهين القوية وقطعت دابرهم بالسيوف والرماح السمهرية ( اللهم إني أعوذ) أعتصم وألتجيّ ( بعزتك) أي: بقوتك وقدرتك وسلطانك وغلبتك ( لا إله إلا أنت) جملة معترضة لتأكيد العزة والاعتصام بحبله تعالى: وقوله: ( أن تضلني) أصله من أن تضلني متعلق بأعوذ، وحذف الجار من إن وأن: قياس مطرد، وتضلني بضم الفوقية من الإضلال ( أنت الحي) على الدوام ( القيوم) بفتح القاف وتشديد التحتية القائم بتدبير الخلق وحفظه ( الذي لا يموت) بالتحتية نظراً لكونه صلة للذي، وبالفوقية نظراً لضمير الخطاب قبله وهو كالتأكيد لما قبله، لأن من شأن القائم بالتدبير والحفظ ألا يموت، لأن من لا يحفظ حياة نفسه كيف يحفظ حياة غيره ( والجن) أي: الشامل للملك ( والإنس) وأتباعهم من الحيوانات والحشرات ( يموتون) فيه تنبيه على سبب التوكل عليه ورد الأمر إليه دون غيره وهو أن غيره يموت: ويضمحلّ شأنه ويفوت، والتوكل إنما هو على الحيّ الذي لا يموت، فمن اعتزّ بغير الله ذلّ، ومن اهتدى بغير هدايته ضلّ، ومن اعتصم با تعالى وتوكل عليه: عزّ وجلّ ( متفق عليه) ورواه النسائي أيضاً ( وهذا) المذكور ( لفظ مسلم) في روايته ( واختصره البخاري) .
فقال: عن ابن عباس أن النبي كان يقول: «أعوذ بعزتّكلا إله إلا أنت، أنت الذي لا تموت والجن والإنس يموتون» .


رقم الحديث 76 ( الحديث الثالث عن ابن عباس رضي الله عنهما) قال القارىء في «شرح الحصن الحصين» : إنه موقوف خلاف ما أورده الشيخ، يعني ابن الجزري.
قلت: وكأنه لما رأى أن الحديث في حكم المرفوع سكت عليه اعتماداً على أنه مرفوع في بعض طرقه اهـ ( قال: حسبنا الله ونعم الوكيل) تقدم الكلام في معناها أول الكتاب ( قالها إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار) في تفسير القرطبي: قال ابن إسحاق بعد ذكر المنجنيق وما هيئوه من الحطب: فضجت السموات والأرض ومن فيهن من الملائكة وجميع الخلق إلا الثقلين ضجة واحدة: ربنا إبراهيم ليس في أرضك أحد يعبدك غيره فأذن لنا في نصرته، فقال تعالى: إذا استعان بشيء منكم أو دعاه فلينصره فقد أذنت له في ذلك، وإن لم يدع غيري فأنا أعلم به وأنا وليه، فلما أرادوا إلقاءه في النار أتاه خازن الماء وهو في الهواء فقال: يا إبراهيم إن أردت أخمدت النار بالماء، فقال: لا حاجة لي فيك، فأتاه ملك الريح فقال: لو شئت طيرت النار، فقال لا، ثم رفع رأسه إلى السماء فقال: «اللهم أنت الواحد في السماء وأنا الواحد في الأرض، ليس أحد يعبدك غير حسبي الله ونعم الوكيل» ثم ذكر باقي القصة ( وقالها محمد حين قالوا) أي: قال الناس له ( { إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل} ) قضية هذا أن يكون «الذين» الواقع أول الآية وضمائر الجمع بعده مما أريد به الواحد وهو النبيّ، فيكون نظير قوله تعالى: { أم يحسدون الناس} فإن المراد منه النبي، وكذلك الناس في قوله تعالى: { قال لهم الناس} فإن المراد منه كما تقدم أول الباب نعيمبن مسعود، لكن تقدم أول الباب أن المراد من الذين وما بعده الصحابة وذلك الذي ذكره السيوطي في تكملته لتفسير الجلال المحلي ولا مخالفة، فلعل ابن عباس اقتصر عليه لأنه الأصل المتبوع ( رواهالبخاري) والنسائي أيضاً ( وفي رواية له) أي: البخاري ( عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان آخر قول إبراهيم صلى ا) على نبينا و ( عليه) وعلى سائر النبيين ( وسلم) هكذا ينبغي أن يقال عند ذكر باقي الأنبياء ( حين ألقي في النار: حسبي ا) أي: بالإفراد، وقد جاء ذلك عن ابن إسحاق في السيرة كما تقدم: فحسبي أي: كافيّ الله ( ونعم الوكيل) فهو من عطف الجملة الخبرية على مثلها، قال السيوطي في «التوشيح» لأبي نعيم في «المستخرج» إنها أول ما قاله، فلعلها أول شيء قاله وآخر شيء قاله.
وقد بسطت الكلام في إعرابها وما فيه في أوائل «شرح الأذكار» وذكرت خلاصته أوائل هذا الشرح.


رقم الحديث 77 ( الحديث الرابع: عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي قال: يدخل الجنة) ظاهره مع الفائزين كما يدل عليه سياقه في مقام المدح لهم، وإلا فجميع أهل الإيمان يدخلون الجنة بوعد الله الذي لا يخلف ( أقوام) جمع واحده قوم.
وفي «مفردات الراغب» كما تقدم: القوم جماعة الرجال في الأصل دون النساء ولذا قال تعالى { لا يسخر قوم من قوم * ولا نساء من نساء} ( الحجرات: 11) وفي عامة القرآن أريد به الرجال والنساء اهـ.
وظاهر أن ما نحن فيه من قبيل الثاني ( أفئدتهم) في «مختصر القاموس» : الفؤاد القلب مذكراً، أو هو ما يتعلق بالمرء من كبد ورئة وقلب وجمعه أفئدة اهـ.
وفي كتاب الإيمان من «شرح مسلم» للمصنف: المشهور أن الفؤاد هو القلب، وقيل: الفؤاد داخل القلب: أي: الطبقة القابلة للمعاني من العلوم وغيرها ( مثل أفئدة الطير) جمع طائر ويقع على الواحد وجمعه طيور وأطيار ( رواه مسلم) ورواه أحمد ( قيل: معناه) أقوام ( متوكلون) ففي الحديث الآتي «لو اتكلتم على الله حق اتكاله لرزقكم كما يرزق الطير» .
وفيه إشارة إلى أنها لما لم تتسبب للأرزاق بتدابيرها يسر الله وصول الرزق إليها مع ضعفها وقلة حيلتها ( وقيل: قلوبهم رقيقة) أي: فهي أسرع فهماً وقبولاً للخير وامتثالاً له.


رقم الحديث 78 ( الحديث الخامس: عن جابربن عبد الله رضي الله عنه) وتقدمت ترجمته في باب الإخلاص ( أنه غزا مع النبي) تقدم في باب التوبة عدة غزواته وسراياه وما حارب فيه بنفسه وهذه رواية عنه بالمعنى، وإلا فإنما قال غزوت بتاء المتكلم ( قبل نجد) هو لغة: ما ارتفع من الأرض، وهي هنا اسم خاص لما دون الحجاز، والمراد بها ذات الرقاع وكانت في السنة السادسة ( فلما قفل) بفتح أوليه، القاف والفاء: أي: رجع من سفره ( رسول الله، قفل) أي: جابر ( معه) أي: مع النبي، وفي نسخة «معهم» أي: مع النبي وصحبه المجاهدين معه التابعين له ( فأدركتهم القائلة) أي: الظهيرة، في «الصحاح» وقد تكون بمعنى القيلولة أيضاً: وهي النوم في الظهيرة ( في واد كثير العضاه) بكسر العين المهملة وبالضاد المعجمة ( فنزل رسول الله) أي: صار في المنزل وترك السير للحر ( وتفرّق الناس عنه يستظلون بالشجر) يستترون بها كما في «الصحاح» علة لتفرقهم عنه في ذلك المكان حتى انفرد ووصل إليه ذلك العدوّ الذي لولا عصمة الله لنبيه لتفك به ( ونزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تحت سمرة فعلق) بالتشديد ( بها سيفه ونمنا نومة) علة لما تقدم أيضاً والنوم من تعب السفر مع حرّ الشمس ولذا استحبت القيلولة ( فإذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدعونا، وإذا عنده أعرابي) منسوب للأعراب وهم سكان البوادي، والعرب يعمهم ويعم سكان القرى كما تقدم، وهذا الأعرابي من بني محارب الذين خرج لحربهم في غزوة ذات الرقاع.
قال العلماء: اسمه غورث بغين معجمة وثاء مثلثة والغين مضمومة ومفتوحة.
وحكى القاضي عياض الوجهين ثم قال: الصواب الفتح، قال: وضبطه بعض رواة البخاري بالعين المهملة والصواب المعجمة.
والخطابي قال: هو غورث أو غويرث على التصغير والشك وهو غورثبن الحارث.
قال القاضي: وجاء في حديث آخر مثل هذا الخبر وسمي فيه الرجل دعثور، كذا في «شرح مسلم» للمصنف.
قال ابن سيد الناس في عنوان الأثر: وذلك في غزوة ذي قرد اهـ.
لكن في البخاري كما يأتي أنها في ذات الرقاع، وكذا قال ابن النحوي في «شرح البخاري» وفي «شرح الشفاء» لابن أقبرس أن قصة غورث معه في ذات الرقاع في السنة الرابعة، وقد أسلم بعد هذا وصحب النبيّاهـ.
فلعلها تعددت، فيجمع بين الأقوال بتعدد الغزوة وتعدد الأعرابي.
وقضية كلام البخاري في «المغازي» من صحيحه أن ذات الرقاع يقال لها ذو قرد، والله أعلم ( فقال: إن هذا اخترط عليّ سيفي وأنا نائم) وفي سيرة ابن سيد الناس عن جابر «أن النبيّ كان جالساً وأن السيف كان في حجره فقال: يا محمد انظر إلى سيفك هذا؟ قال نعم، فأخذه واستله ثم جعل يهزّه ويهمّ بقتل النبيّ فيكبتهالله، ثم قال: يا محمد أما تخافني؟ قال: ما أخاف منك، قال: وفي يدي السيف، قال لا، يمنعني الله منك» الحديث، وظاهر أن ما في «الصحيح» مقدم على ما في غيره ( فاستيقظت) أي: عقب اختراطه قبل تمكنه من الفتك به، ويحتمل أن يكون بعد تمكنه من الفتك به وعصم الله تعالى نبيه وكبت عدوّه ( وهو في يده صلتا) حال ( وقال) أي: الأعرابي مخاطباً للنبي ( من يمنعك مني) استفهام يتضمن النفي كأنه قال: لا مانع لك مني، ظن لقصور نظره أن السيف هو القاتل، ولم يدر أن اهو الفاعل وأنه يحول بين المرء وقلبه ( فقلت: ا) أي: يمنعني منك فيكون مبتدأ محذوف الخبر بقرينة وجوده في السؤال، ويحتمل أن يكون التقدير: يمنعني الله فيكون فاعلاً حذف عامله لما ذكر فيما قبله ( ثلاثاً) الظاهر أنه قيد في الجواب فقط، وكأنه أعاد هذا اللفظ ثلاثاً تلذذاً به، ولغلبة توحيده وكمال شهوده لم ينزعج قلبه الشريف، بل كان على حاله المنيف في أن قرّة عينه في مشاهدته لمولاه ومناجاته، ويحتمل أنه كرّر قوله: «من يمنعك» فكرر قوله: «ا» في جوابه.
وقد وقع في نسخة من البخاري «من يمنعك مني من يمنعك مني» فكرّرها مرتين ( و) من كرم أخلاقه ( لم يعاقبه) ففيه العفو والحلم ومقابلة السيئة بالحسنة ( وجلس) أي: النبيّ من اضطجاعه الذي كان عليه حال نومه، فيكون حالاً من مفعول يدعونا، وعليه اقتصر الشيخ زكريا، أو جلس الأعرابي من قيامه الذي كان عليه حال اختراط السيف لأمته ( متفق عليه) في السيرة لابن سيد الناس عن جابر أن في ذلك نزل قوله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ همّ قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم} ( المائدة: 2) الآية ( في رواية) للبخاري ( قال جابر: كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذات الرقاع) أي: بغزوة ذات الرقاع، وسميت بذلك لأنهم رفعوا فيها راياتهم، ويقال ذاتالرقاع شجرة بذلك الموضع، وقيل: لأن أقدامهم نقبت فكانوا يلفون عليها الخرق، وقيل: بل الجبل الذي نزلوا عليه كانت أرضه ذات ألوان تشبه الرقاع، وسيأتي هذه مع زيادة في سبب التسمية وبيان تاريخ الغزوة في باب القناعة إن شاء الله تعالى ( فإذا أتينا) معطوف على كنا ( على شجرة ظليلة) أي: ذات ظل كثيف لتراكم أغصانها وكثرة أوراقها ( تركناها لرسول الله) لأنه السيد المقدم ( فجاء رجل من المشركين وسيف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معلق بالشجرة) جملة حالية ( فاخترطه) أي: سله بسرعة ( فقال: تخافني) أي: أتخافني ( فقال) ( لا) أي: لا أخافك لعلمه بأن الفاعل المختار هو الواحد القهار، فقام الحرف مقام جملة الجواب بقرينة وجود ما يدل عليه في السؤال ( قال) الأعرابي ( فمن يمنعك مني؟) أي: بالحيلولة بيني وبين ما أريد من الفتك ( قال: ا) أي: الله يمنعني منك ويحول بينك وبين ما تريد ( وفي رواية أبي بكر الإسماعيلي في «صحيحه» ) وكذا أخرجه أبو عوانة من حديث جابر المستخرج على صحيح البخاري ( فقال) أي: الأعرابي ( من يمنعك مني؟ قالالله، فسقط السيف من يده، فأخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - السيف فقال) للأعرابي ( من يمنعك؟) أي: من البشر أي لا مانع لك الآن ( مني، فقال: كن خير آخذ) أي: بأن تعفو وتصفح وتقابل السيئة بالحسنة ( فقال: تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله) فـ ( قال لا، ولكن) استدراك مما قد يوهمه عدم إسلامه من شهوده مع محاربيه فنفى ذلك بقوله ولكن ( أعاهدك أني لا أقاتلك ولا أكون مع قوم يقاتلونك) فرأى المصلحة في العفو عنه رجاء إسلام قومه وإقبالهم على حضرته الشريفة لما يسمعون بمحاسن هذه الأخلاق وكمال هذا الكرم فيسمعون منه ما يكون سبب إسلامهم وسعادتهم الأبدية ( فخلى سبيله) أي: منّ عليه وأطلقه من غير فداء.
وفي قصة دعثور الذي استظهر ابن سيد الناس وابن النحوي أنها وهذه قصةواحدة «أن جبريل دفع في صدره فوقع السيف من يده، ثم أسلم ثم جاء قومه يدعوهم إلى الإسلام» .
ولعله قال: هذا المذكور هنا من امتناعه من الإسلام أولاً، ثم شرح الله صدره في المجلس بحلول نظر المصطفى وملاحظته له فأسلم.
وسكت عن ذلك رواة الصحيح، إما نسياناً أو لسبب آخر وذكره غيرهم، ويقربه قوله ( فأتى أصحابه) أي: قومه الذين كان تعاقد معهم على الفتك برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ( فقال: جئتكم من عند خير الناس) خلقاً وخلقاً، ويكفيك في شرف خلقه وكماله قوله تعالى: { وإنك لعلي خلق عظيم} ( القلم: 4) وسئلت السيدة عائشة عن خلقه فقالت: كان خلقه القرآن ( قوله قفل) بالقاف والفاء ( أي رجع) من السفر.
( العضاة) بكسر العين المهملة والضاد المعجمة الواحدة عضه فالهاء أصلية وقيل عضهة وقيل عضاهة فحذفت الهاء الأصلية كما حذفت من الشفة ثم ردت في العضاه كما ردت في الشفاه؛ وقد يقال عضة مثل عزة ثم يجمع على عضوات، ويقرأ العضاه بالهاء وقفاً ووصلاً، لأن جمعه جمع تكسير وليس بجمع سلامة، فهو مثل شفاه وشياه، كذا في «التوضيح» على الجامع الصحيح لابن النحوي ( الشجر الذي له شوك، والسمرة بفتح السين) المهملة ( وضم الميم) وبعدها راء جمعه سمر ( الشجرة من الطلع) بفتح المهملة أوله وسكون اللام بعد مهملة: وهو العوسج ( وهي) أي: الطلح والتأنيث بالنظر إلى الخير: أي: قوله ( العظام) أي: الكبار ( من شجر العضاه، واخترط السيف: أي سله) قال ابن النحوي بسرعة ( وهو في يده صلتاً: أي مسلولاً وهو بفتح الصاد) المهملة ( وضمها) وسكون اللام فيهما.
قال في «جامع الأصول كالنهاية والصحاح» : الصلت المشهور، يقال أصلت السيف: إذا شهرته اهـ: أي إن فعله من الثلاثي المزيد.
وفي كتاب الأفعال لابن القوطية صلت الشيء برز، وأصلت الشيء أبرزته.


رقم الحديث 79 ( السادس عن عمر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: لو) تحقق ( أنكم تتوكلون) بفتح الهمزة: أي لو تحقق توكلكم ( على الله حق توكله) بأن تعتمدوا عليه في سائر الأحوال وتروا أن الخير بيده ومن عنده ( لرزقكم كما يرزق الطير) أل فيه للجنس ( تغدو خماصاً) بكسر الخاء المعجمة وبعد الألف صاد مهملة جمع خميص: وهو الضامر البطن وخماصاً حال: أي: خالية الأجواف من القوت ( وتروح بطانا) بكسر الموحدة جمع بطين: وهو العظيم البطن وهو حال أيضاً ( رواه الترمذي) وأحمد وابن ماجه والحاكم في «المستدرك» ( وقال) الترمذي ( حديث حسن) قال المصنف ( معناه) أي: معنى الحديث المذكور ( تذهب أول النهار خماصاً: أي: ضامرة البطن من الجوع) فمعنى الغدوّ: الذهاب أول النهار، والرواح ضده ولذا قال في معنى قوله: «وتروح بطانا» ( وترجع آخر النهار بطاناً: أي ممتلئة البطون) قال السيوطي في قوت المغتدى: قال البيهقي في «شعب الإيمان» : ليس في هذا الحديث دلالة على القعود عن الكسب، بل فيه ما يدل على طلب الرزق، لأن الطير إذا غدت فإنها تغدو لطلب الرزق، وإنما أراد والله أعلم: لو توكلوا على الله تعالى في ذهابهم ومجيئهم وتصرفهم ورأوا أن الخير بيده ومن عنده لم ينصرفوا إلا سالمين غانمين كالطير تغدو خماصاً وتعود بطاناً، لكنهم يعتمدون على قوتهم وجلدهم ويغشون ويكذبون ولا ينصحون، وهذا خلاف التوكل اهـ.


رقم الحديث 80 ( السابع عن أبي عمارة) بضم العين المهملة وتخفيف الراء ويقال أبو عمرو ويقال أبو الطفيل ( البراء) بفتح الموحدة وتخفيف المهملة والمد هذا هو الصحيح المشهور عند طوائف من أهل الحديث والتاريخ والأسماء واللغة وغيرهم، قال المصنف في «التهذيب» ، وحكي فيه القصر أيضاً ( ابن عازب) بالمهملة أوله وبعد الألف زاي فموحدة ابنالحارثبن عديبن مخدعةبن حارثةبن الحارثبن الخزرجبن عمروبن مالكبن الأوس الأنصاري الأوسي الحارثي المدني، أبو عازب صحابي ذكره ابن سعد في «الطبقات» ، فلهذا قال المصنف ( رضي الله عنهما) استصغر البراء يوم بدر، وأول مشاهدة أحد، وشهد بيعة الرضوان.
وفي البخاري عن البراء «جاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة مهاجراً حتى قرأت { سبح اسم ربك الأعلى} ( الأعلى: 1) في سور مثلها من المفصل» .
روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاثمائة حديث وخمسة أحاديث، اتفقا على اثنين وعشرين حديثاً منها، وانفرد البخاري بخمسة عشر: ومسلم بستة.
نزل الكوفة وبها توفي في زمن مصعببن الزبير رضي الله عنهما ( قال: قال رسول الله: يا فلان) تقدم الكلام فيه أواخر باب الصبر هو أسيدبن حضير كما نقله المصنف في «مبهماته» عن الخطيب ( إذا أويت) بالقصر على الأرجح لأنه قاصر: أي: انضممت ( إلى فراشك) وقد بسطت الكلام فيه في باب ما يقول إذا استيقظ من منامه من «شرح الأذكار» ( فقل: اللهم إني أسلمت نفسي) بسكون الياء وتفتح: أي: ذاتي ( إليك) أي: أسلمت وجعلت نفسي منقادة لك طائعة لحكمك راضية بقضائك قانعة بقدرك ( ووجهت وجهي إليك) أي: أقبلت بذاتي إليك مستسلماً راضياً قانعاً وهو مع ما قبله كالإطناب ( وفوضت أمري إليك) أي: توكلت في جميع شئوني الدنيوية والأخروية عليك وجعلتها راجعة إليك ( وألجأت) أي: أسندت ( ظهري إليك) أي: إلى حفظك، لما علمت أنه لا سند يتقوى به سواك.
قال الطيبي: في الجملة إشارة إلى أنه بعد تفويض أمره الذي هو مفتقر إليه وبه معاشه وعليه مدار أمره ملتجىء إليه مما يضرّه ويؤذيه من الأسباب الداخلة والخارجة ( رغبة) أي: طمعاً في ثوابك ( ورهبة) أي: خوفاً من عقابك ( إليك) متعلق برغبة كقوله: علفتها تبناً وماء بارداً.
كما قاله الكرماني.
وقيل: بل تنازع فيه ما قبله بمعنى: إني في حالة الرغبة والرهبة لا أرجع إلا إليك، وقوله: ( لا ملجأ) بهمزة مفتوحة: أي: مستند ولا من يلتجىء إليه، وقيل: لا مخلص ولا مفرّ ( ولا منجا) غير مهموز.
وقال الحافظ ابن حجر: الأصل في ملجأ الهمز وفي منجا عدمه، لكن لما جمعا جاز أن يهمزا وأن يترك الهمز منهما للازدواج وأن يبقى كل على حاله ويجوز التنوين مع القصر فتصير خمسة أوجه.
قلت:وكذا يجوز التنوين مع الهمز: أي: إن لم تعمل «لا» فإن أعملتها فلا تنوين مهموزاً كان أو لا ( منك) قال الكرماني: تنازعه ما قبله إن كانا مصدرين وإن كانا اسمي مكان فلا، إذ اسم المكان لا يعمل ( إلا إليك) أي: لا ملجأ منك إلى أحد إلا إليك، ولا منجا إلا إليك، فهو كقوله تعالى: { كلالاً وزر إلى ربك يومئذٍ المستقر} ( القيامة: 11، 12) فالجملة استئناف لما قبله بطريق الاستثناف البياني.
ونصب رغبة ورهبة على العلة لما تقدم أي إن إسلام نفسي الخ معلل بالرغبة والرهبة.
قال الطيبي: إنه بطريق اللفّ والنشر المرتب: أي فوضعت أمري طمعاً في ثوابك وألجأت ظهري من المكاره: إليك خوفاً من عقابك، وهو معنى صحيح بديع، ولا يظهر قول ابن حجر في «شرح المشكاة» إنه خلاف الصواب كما بينته مع الفرق بين الرهبة والخوف والخشية والوجل في «شرح الأذكار» .
وقيل: منصوبان على الحال: أي: راغباً وراهباً، وقيل: على الظرفية: أي: في زمن تساوي الطمع والخوف الذي هو شأن أرباب الكمال، ففي الحديث «لو وزن خوف المؤمن ورجاؤه لاعتدلا» ( آمنت بكتابك الذي أنزلت) قيل: الإضافة في كتابك للعهد: أي القرآن بقرينة المقام، والإيمان به إيمان بسائر الكتب، ويؤيده قوله: ( ونبيك) من غير مراعاة الجار ووقع في «المصابيح» بإعادته ( الذي أرسلت) أي: أرسلته لكافة الناس بشيراً ونذيراً، ويجوز أني راد من الكتاب والنبي الجنس ( فإنك إن متّ) بكسر الميم وضمها كما قرىء بهما في السبع إلا أن تثبت رواية بأحدهما فيوقف عندها، ثم هو على كسرها على لغة من قال مات يمات كخاف يخاف، وعلى ضمها على لغة من قال مات يموت كقال يقول فهو بهما مبني للفاعل، ويجوز كونه على أحدهما مبنياً للفاعل وعلى الآخر مبنياً للمفعول ( من ليلتك) مع اعتقاد مضمون هذا الكلام الذي أتيت به ( مت على الفطرة) أي: على الإيمان الذي فطر الله عليه عباده قال تعالى: { فطرة الله التي فطر الناس عليها} ( الروم: 3) وهذا كما قال في الحديث الآخر «من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة» وهما إن تساويا في فطرة الإسلام فبين الفطرتين ما بين الحالتين ففطرة الطائفة المذكورة في هذا الخبر فطرة المقربين وفطرة الثانية فطرة أصحاب اليقين ذكره القرطبي ( وإن أصبحت) حيا ( أصبت خيراً) أي: أجراً عظيماً وثواباً جزيلاً ( متفقعليه) ورواه أصحاب السنن الأربعة ( وفي رواية في «الصحيحين» عن البراء قال: قال لي) ولا ينافي ما تقدم للجمع بوقوع الخطاب بذلك له تارة ولأسيد أخرى ( رسول الله: إذا أتيت مضجعك) بفتح أوله وثالثه: أي: مكان اضطجاعك ( فتوضأ وضوءك) أي: مثله ( للصلاة) في غسل الأعضاء بنية ( ثم اضطجع على شقك) بكسر الشين المعجمة وتشديد القاف: أي: جانبك ( الأيمن) وذلك لشرف الأيمن، ولأنه يصير القلب حينئذٍ متعلقاً فلا يغتبط بالنوم فيكون سبباً لقلة النوم والقيام بالليل ( وقل: فذكر نحوه) أي: بمعناه، ويقال مثله فيما لو كان بمبناه.
هذه عادة المحدّثين إذا أوردوا الحديث بإسناد ثم بإسناد آخر ( ثم قال) ( واجعلهن آخر ما تقول) أي: من الدعوات.


رقم الحديث 81 ( الثامن: عن أبي بكر الصديق) بكسر المهملة وتشديد الثانية، وهو أول من لقب بذلك في الإسلام وغلبت الكنية عليه وعلى أبيه.
لقب بذلك لمبادرته لتصديق النبي، وقيل: لقب به صبيحة الإسراء لمبادرته لتصديق النبي فيه.
ويلقب بعتيق أيضاً من العتاقة: وهي الحسن لعتاقة وجهه أو لعتاقة نسبه، وقيل: من العتق لأن أمه كان لا يعيش لها ولد، فلما ولدته استقبلت به الكعبة فقالت: اللهمّ هذا عتيقك، أو لأن الله تعالى عتقه من النار كما جاء ذلك في حديث مرفوع لعائشة عند الترمذي ( عبد الله بن عثمان) أبي قحافة ( بن عامربن عمرو) بفتح المهملة، ويكتب بالواو حالتي الرفع والخفض لتلا يشتبه بعمر كزفر ( ابن كعب) بفتح الكاف وسكون المهملة آخره موحدة ( ابن سعد) بفتح المهملة الأولى وسكون المهملة الثانية ( ابن تيم) بفتح الفوقية وسكون التحتية ( ابن مرة) بضم الميم وتشديد الراء المهملة: محل اجتماعه مع النبي في نسبه الكريم ( ابنكعببن لؤي) بضم اللام وفتح الهمزة مصغر اللأي ( ابن غالب القرشي التيمي) بدأ بالأول لأنه الأصل وعقبه بما بعده لأنه شعبة منه، وتقدم في أول باب الإخلاص أن القاعدة في مثله ذكر الأعم ثم الأخص لتحصل بالثاني فائدة لم تحصل من الأول، ولو عكس لم تحصل ( رضي الله عنه) الأولى عنهما لقوله: ( هو وأبوه وأمه) أم الخير سلمى بنت صخر التيمية بنت عم أبيه ( صحابة) ولم يتفق لأحد من الصحابة ما اتفق له من إسلام أبويه وبنيه وبعض بنيهم وصحبة الجميع ( رضي الله عنهم) أسلم لما دعاه إلى الإسلام ولم يتلعثم ولم يتردد.
وهو أول من أسلم من الرجال الأحرار البالغين بلا خلاف، وتأخر إسلام أبيه إلى يوم الفتح ويكفيك في فضله قوله: «إن من أمنّ الناس عليّ في صحبته وماله أبا بكر، ولو كنت متخذاً خليلاً غير ربي لاتخذت أبا بكر، ولكن أخوة الإسلام ومودته» رواه البخاري وفضائله كثيرة ومناقبه شهيرة وقد أفردت بالتأليف، وقال في فضله حسانبن ثابت: إذا تذكرت شجواً من أخي ثقة فاذكر أخاك أبا بكر بما فعلا خير البرية أتقاها وأفضلها بعد النبي وأولاها بما حملا والثاني التالي المحمود مشهده وأول الناس منهم صدقّ الرسلا روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مائة حديث واثنان وأربعون حديثاً، اتفقا على ستة أحاديث منها، وانفرد البخاري بأحد عشر ومسلم بواحد.
وتوفي رضي الله تعالى عنه بين المغرب والعشاء من ليلة الثلاثاء لثمان بقين من شهر جمادي الأولى سنة ثلاث عشرة عن ثلاث وستين سنة، وحمل على السرير الذي كان ينام عليه النبي، وصلى عليه عمربن الخطاب تجاه المنبر النبوي وكبر عليه أربعاً، ودفن بجانب قبر النبيّ ( قال: نظرت إلى أقدام المشركين) الذين خرجوا يقصون أثر النبيّ لما هاجر ويلتمسون محله الذي هو فيه ( ونحن في الغار) هو ثقب في الجبل عظيم كالكهف، وهو الغار المذكور في قوله تعالى { إذ هما في الغار} ( التوبة: 4) قال قتادة: هو غار في جبل بمكة يقال له ثور.
واختلف في التفاضل بينه وبين غار حراء، فقال الفيروزآبادي في كتاب الصلاة والبشر: إن غار ثور أفضل،لأن الله تعالى ذكره في القرآن وحمى فيه سيد ولد عدنان.
وقال بعض المتأخرين: غار حراء أفضل لأنه اختاره للتعبد وفيه بدء الوحي ( وهم) يعني المشركين ( على رءوسنا) في طلبنا فأعماهم الله * وكيف تبصر الشمس مقلة عمياء * ( فقلت: يا رسول الله لو) وقع ( أن أحدهم نظر) موضع ( تحت قدمه لأبصرنا) أي: من خلال أغصان الشجر وبيت العنكبوت التي كانت على باب الغار الذي دخلا منه وهو الباب الضيق، أما الباب المتسع فإنما شقّ له لما قال له الصديق: لو ولجوا علينا الغار ما كنا نصنع؟ فقال: كنا نخرج من هاهنا، وأشار بيده المباركة إلى الجانب الآخر ولم يكن فيه شقّ، فانفتح فيه للحين باب بقدرة الله تعالى.
ذكره الحافظ تقي الدينبن فهد في كتاب «أقطاف النور مما ورد في ثور» ( فقال) ( ما ظنك) أي: ما تظن ( يا أبا بكر باثنين الله ثالثهما) بالنصر والمعونة والكلاءة والحفظ أيصيبهما ضيم؟ وهذا استفهام تقريري، وفيه تسكين لما حصل للصديق حينئذٍ من الاضطراب ( متفق عليه) ورواه الترمذي.
وفي الحديث تنبيه على أن من توكل على مولاه كفاه وحماه من سائر عداه.
فائدة: في كتاب «اقتطاف النور» بسنده إلى الواحدي أنه أخرج عن غالببن عبد الله القرفستاني عن أبيه عن جده قال: «شهدت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لحسانبن ثابت: قلت في أبي بكر شيئاً؟ قل حتى أسمع، قال فقلت: وثاني اثنين في الغار المنيف وقد طاف العدا به إذ أصعد الجبلا وكل حب رسول الله قد علموا من الخلائق لم يعدل به رجلاً قال: فتبسم رسول الله» اهـ.


رقم الحديث 82 ( التاسع: عن أم سلمة) بفتح المهملة واللام كنية لها بابنهاسلمةبن أبي سلمة ( واسمها هند) على الصحيح المشهور، بل قال الحافظ العسقلاني في أطراف مسند الإمام أحمد بلا خلاف: أي: معتبر، فلا يشكل بما قيل إن اسمها «رملة» لأنه ضعيف بالمرة، فقد قال ابن الأثير في «أسد الغابة» : إنه ليس بشيء ( بنت أبي أمية) بضم الهمزة وفتح الميم وتشديد التحتية ( حذيفة) وقيل: سهل، وقيل: زهير، وقيل: هشامبن المغيرةبن عمروبن مخزوم القرشية ( المخزومية) أم المؤمنين ( رضي الله عنها) تزوّجها بعد وفاة زوجها أبي سلمة سنة أربع، وخيرها بين أن يسبع لها ويسبع لنسائه وأن يثلث لها ويدور عليهن فاختارت التثليث، وهي أول من هاجرت إلى الحبشة وزوجها جميعاً فولدت ثمة زينب وسلمة وعمر ودرة.
ويقال إنها أول ظعينة دخلت المدينة مهاجرة، وكانت من أجمل النساء، روي لها عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاثمائة حديث وثمانية وسبعون حديثاً؛ اتفقا على ثلاثة عشر منها، وانفرد البخاري بثلاثة، ومسلم بثلاثة عشر، وماتت سنة اثنتين وستين، وقيل: سنة ستين، وقيل: إحدى وستين، وصححه ابن عساكر وقيل: أربع وستين، وقيل: تسع وخمسين، ودفنت بالبقيع وعمرت فعاشت تسعين سنة، وهي آخر أمهات المؤمنين وفاة رضي الله عنها ( أن النبيّ كان إذا خرج) أي: أراد الخروج، وقيل: بل هو على حقيقته: أي: عقب الخروج ( من بيته قال) هو جواب إذا.
ولفظ أبي داود «ما خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من بيتي إلا رفع طرفه إلى السماء فقال: اللهم إني أعوذ بك الخ» وليس عنده قوله: ( بسم ا) أي: أتحصن.
قال السمين الحلبي: إنما تحذف ألها حيث يضاف الاسم للجلالة، وإذا أضيف لغيرها لم تحذف، هذا هو المشهور وعليه اقتصر المؤلف في «شرح مسلم» ونقله عن الكتاب من أهل العربية.
قال الشيخ جلال الدين السيوطي: وحكي عن الكسائي والأخفش جواز حذفها إذا أضيفت إلى غير الجلالة.
وقال الفراء: هذا باطل، ولا يجوز أن تحذف إلا مع اسم الله تعالى اهـ ( توكلت على ا) وعلى في هذا المقام للتفويض مجازاً عن الاستعلاء، وقيل: المراد من توكلت على الله طلب الاستعلاء با تعالى على كل مرام لتصحبه إعانته ولطفه وتحفظه من غير قصور ( اللهم) يا أ ( إني أعوذ) أعتصم وألتجىء ( بك) بقدرتك وعزتك من ( أن أضل) يفتح أوله وكسر الضاد المعجمة: أي: أغيب عن معالي الأمور بارتكاب نقائصها فأبوء بالقصور عن أداء مقام العبودية، من ضلّ الماء في اللبن: غاب ( أو أضلّ) بضم ففتح مبني للمجهول: أي: يضلني غيري ( أو أزلّ) بفتح فكسر للزاي: أي: أنزل عن الطريق المستقيمة إلى هوة ضدها غلبة الهوى أو الإعراض عنأسباب التقوى والإنهماك في تحصيل الدنيا، من زلت قدمه: وقع من علو إلى هبوط.
والمزلة المكان المزلق الذي لا تثبت عليه الرجل وبه يظهر أن في استعمال أزل هنا نوع تشبيه ( أو أزلّ) بضم ففتح: أي يستولي عليّ من يزلني عن المقام العلي إلى السفساف الدني، أو بضم فكسر: أي: من أن أوقع غيري في مهواة الزلل: أي: المعاصي والخلل ( أو أظلم) بفتح فسكون فكسر: أي: أظلم غيري: من الظلم وضع الشيء في غير محله أو التصرّف في حق الغير ( أو أظلم) بضم فسكون ففتح أي: أظلم من أحد من العباد ( أو أجهل) أي: أجهل الحق الواجب عليّ ( أو يجهل عليّ) أي: بأن أحمل على شيء ليس من خلقي، وفي الحديث «من استجهل مؤمناً فعليه إثمه» أي: حمله على شيء ليس من خلق المؤمنين فأغضبه فإثمه على ذلك المحرج له لذلك ( حديث صحيح) .
قال الحافظ ابن حجر العسقلاني وصححه الحاكم من طريق ابن مهدي وقال: إنه على شرط الشيخين.
ونوزع بأن في سنده انقطاعاً، فإن الشعبي لم يسمع من أم سلمة.
قال الحافظ: ولعل من صححه سهل الأمر لكون الحديث في «الفضائل» ( رواه أبو داود والترمذي وغيرهما) فرواه أحمد والنسائي وابن ماجه والحاكم في «المستدرك» ( بأسانيد صحيحة، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح، وهذا) أي: المذكور من قوله: «اللهم إني أعوذ بك أن أضلّ إلخ» وإلا ففيه زيادة إلا.
«رفع طرفه إلى السماء» ونقص قوله: «بسم الله توكلت على ا» ( لفظ) رواية ( أبي داود) وقد أوضح ذلك في كتاب «الأذكار» له، وعبارته بعد أن أورده بمثل اللفظ المذكور هنا: هكذا في رواية أبي داود أن أضل وكذا الباقي بلفظ التوحيد.
وفي رواية الترمذي «أعوذ بك من أن نزلّ» وكذا الباقي بلفظ الجمع.
وفي رواية أبي داود «ما خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من بيتي إلا رفع طرفه إلى السماء فقال: اللهمّ إني أعوذ بك الخ» وفي رواية غيره «كان إذا خرج من بيته قال» : كما ذكرناه والله أعلم اهـ.
فيه يعلم أن لفظ أبي داود المشار إليه إنما هو إفراد الكلمات فقط وإلا فقوله «من بيته» وزيادة قوله: «بسم الله توكلت على ا» ليست فيه،وقد بسطت الكلام في هذا المحل وبينت اختلاف ألفاظه عند كل من رواية أصحاب السنن الأربعة في «باب ما يقول حال خروجه من بيته» من «شرح الأذكار» .


رقم الحديث 83 ( العاشر: عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله: من قال يعني إذا خرج من بيته) لفظ أبي داود: «إذا خرج الرجل من بيته فقال» ( بسم ا) أي: أتحصن ( توكلت على ا) أي: فوضت أمري إليه وعولت في سائر الأحوال عليه.
( لا حول) وفي نسخة بإثبات الواو قبلها، ويجوز في حول الفتح على إعمال لا والرفع على إهمالها ( ولا قوّة) بالنصب عطفاً على محل حول إن أعملت الأولى.
وبالفتح على إعمال الثانية.
وبالرفع على أهمالهما كما سبق بيانه آخر الخطبة ( إلا با) ومعناها: لا حول عن المعاصي إلا بعصمةالله، ولا قوة على طاعة الله إلا با.
قال عليه الصلاة والسلام: «كذا أخبرني جبريل عن الله تعالى» وفي «فتح المشكاة» للقارىء: أحسن ما ورد في معناه عن ابن مسعود قال: «كنت عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلتها، فقال: تدري ما تفسيرها؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: لا حول عن معصيةالله، ولا قوّة على طاعة الله إلا بعون ا» أخرجه البزار، ولعل تخصيصه بالطاعة والمعصية لأنهما أمران مهمان في الدين اهـ ( يقال له) الجملة خبر الموصول الأسمي، والقائل يحتمل أن يكون الله أو ملك ( هديث وكفيت ووقيت) وهي بالبناء للمجهول في محل نائب الفاعل لأنه أريد منها اللفظ: أي: باستعانتك باسمه تعالى وتحصنك به هديت للصراط المستقيم وكفيت كل مهم دنيوي وأخروي، ووقيت: أي: حفظت من شرّ كل عدوّ وبواسطة صدقك في تفويض جميع الأمر لبارئه، وسلبك الحول والقوّة عن كل أحد، وإثباتهما له تعالى ( وتنحى) بفتح أوليه وتشديد المهملة ( عنه) أي: مال عن جهته وطريقه ( الشيطان) فلا سبيل له إليه لكونه هدي ووقي من سائر الأعادي، وكفي الهموم الخفايا والبوادي ( رواه أبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم) فرواه ابن حبان في «صحيحه» ولفظ الحديث للترمذي.
وقاعدة المحدثين في مثله تقديم ذكر من خرّجه باللفظ وتأخير من خرجه بنحو ما ذكروه، ولعل تقديم أبي داود لكونه مقدماً في الرتبة.
( وقال الترمذي: حديث حسن) وفي نسخة صاحب «السلاح» : حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه اهـ.
ونسخ الترمذي مختلفة في مثل هذا كثيراً، فلذا اعتبر في اعتماد الأصل منه تعداد الوصول المقابل هو بها.
ويحتمل أن المصنف أسقط لفظة غريب لذلك أو لعدم تعلق غرضه بذكرها لأنها لا تقدح في العمل ( زاد أبو داود فيقول يعني) تفسير من بعض الرواة لمرجع هو المستتر في «يقول» العائد للشيطان المذكور في قوله: وتنحى عنه الشيطان ( الشيطان) بالنصب مفعول يعني وأل فيه عهدية ( لشيطان آخر) يريد إغواء قائل هذا الذكر ولم يسمع ما قاله وما قيل له أو سمعه وأراد التمرّد ( كيف) يتيسر ( لك) أن تظفر ( برجل قد هدي) وجملة قد هدي وكذا ما عطف عليه من قوله: ( وكفي ووقي) في محل الصفة لرجل وجملة «كيف لك الخ» مقول القول.
وحاصل المراد أنه يقول الشيطان لشيطان آخر: كيف يتيسر لك الظفر بإغواء رجل موصوف بأنه أعطي هذه الهبات.
وفي «الترغيب» للمنذري والسلاح: فيقول شيطان بحذف اللام منه، فيكون فاعلاً وحذف المقول له ليعم.
وعلم الشيطان حصول هذا المعنى لقائل هذا الذكر من الأمر العام، وهو أن من ذكره تعالى بهذه الكلمات المرغب فيها منه أعطي ذلك، أو بسماعه من الملك إن كان هو القائل لذلك كما تقدم في احتمال.
فائدة: في «الجامع الصغير» للسيوطي إيراد الحديث السابق عن أم سلمة من حديث بريدة باللفظ المذكور هنا، وزاد بعد قوله: «توكلت على الله لا حول ولا قوّة إلا با» وزاد في آخره «أو أبغي أو يبغى عليّ» وقال: رواه الطبراني من حديث بريدة، وبه يعلم أن حديث أنس هذا قطعة من الحديث قبله اقتصر كل من رواته على ما ذكره وترك الباقي إما نسياناً أو لسبب آخر، والله أعلم.