فهرس الكتاب

دليل الفالحـــين - باب كرامات الأولياء وفضلهم

رقم الحديث 1504 ( وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لقد كان فيما) أي: الخلق الذين ( قبلكم من الأمم محدثون) صفة محذوف اسم كان، واحد الظرفين حال، والثاني خبر، ومحدثون بفتح الدال جمع محدث، واختلف في تأويله فقال الأكثرون: هو الملهم.
وقالوا: المحدث الرجل الصادق الظن، وهو من ألقي في روعه شيء من قبل الملأ الأعلى فيكون كالذي حدثه غيره، وبهذا جزم أبو أحمد العسكري.
وقيل: من يجري الصواب على لسانه من غير قصد.
وقيل: مكلم بكلمة الملائكة بغير نبوة، وهذا ورد في حديث أبي سعيد مرفوعاً ولفظه "قيل: يا رسول الله كيف يحدث؟ قال: تتكلم الملائكة على لسانه".
ورويناه في فوائد الجوهري وحكاه المقابسي وآخرون، ويمكن رده إلى المعنى الأول أي تكلمه في نفسه، وإن لم ير مكلماً في الحقيقة فيرجع إلى الإلهام، وفسره ابن التين بالمتفرس، ووقع في مسند الحميدي عقب حديث عائشة: المحدث الملهم بالصواب الذي يقع على فيه.
وعند مسلم من رواية ابن وهب: وهم ملهمون وهي الإِصابة بغير نبوة وفي رواية الترمذي عن بعض أصحاب ابن عيينة: محدثون يعني مفهمون.
وفي رواية الإِسماعيلي قال إبراهيم يعني ابن سعد رواية قوله محدث أي: يلقى في روعه.
اهـ ويؤيده حديث "إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه" أخرجه الترمذي من حديث ابن عمر.
اهـ من فتح الباري ملخصاً ( فان يك في أمتي أحد) وعند بعض رواة البخاري من أحد بزيادة من قبل لم يورد القول مورد التردد فإن أمته أفضل الأمم، وإذا ثبت أنه وجد في غيرهم، فإن وجوده فيهم أولى، وإنما أورده مورد التأكيد، كقول القائل: إن كان لي صديق ففلان يريد اختصاص كمال الصداقة لا نفيها عن غيره.
وقيل: بل على الترديد، وذلك لثبوت هذا المعنى في بني إسرائيل، وسبب احتياجهم حيث لا يكون حينئذ منهم نبي، فاحتمل عنده - صلى الله عليه وسلم - ألا تحتاج هذه الأمة لذلك لاستغنائها بالقرآن عن حدوث نبي، وقد وقع الأمر كذلك حتى إن المحدث منهم إذا تحقق وجوده لا يحكم بما يقع له، بل لا بد من عرض ذلك على القرآن، فإن وافقه أو السنة عمل به وإلا فلا.
واقتضت الحكمة وجودهم وكونهم بعد العصر الأول زيادة في شرف هذه الأمة بوجود أمثالهم فيها، وقد تكون الحكمة في تكريمهم مضاهاة بني إسرائيل في كثرة الأنبياء فيهم فلما فات هذه الأمة كثرة الأنبياء فيهم، لكون نبيها خاتم الأنبياء، عوضوا بكثرة الملهمين ( فإنه عمر) قال الطيبي: معنى الحديث لقد كان فيما قبلكم من الأمم أنبياء ملهمون، وإن يك في أمتي أحد شأنه أي الإِلهام فهو عمر، وكان جعله في انقطاع قرينه في ذلك هل نبىء أم لا؟ فلذلك أتى بلفظ إن، ويؤيده حديث "لو كان نبي بعدي لكان عمر" فلو فيه بمنزلة إن في الآخر على سبيل الفرض والتقدير.
اهـ ( رواه البخاري) أي: من حديث أبي هريرة ( ورواه مسلم من رواية عائشة) قال الحافظ في الفتح نقلاً عن أبي مسعود صاحب الأطراف في الحديث: من طريق أبي سلمة فرواه أصحاب إبراهيم بن سعد عنه، عن أبيه عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، وخالفهم ابن وهب فرواه بهذا الإِسناد فقال: عن أبي سلمة عن أبي هريرة لا عن عائشة.
وقال محمد بن عجلان: فكأن أبا سلمة سمعه من عائشة، ومن أبي هريرة جميعاً.
قلت: وله أصل من حديث عائشة أخرجه ابن سعد من طريق ابن أبي عتيق عنها ( وفي روايتهما) أي: البخاري ومسلم، يكن قضية كلام الحافظ السابق أنه عند مسلم فقط ( قال ابن وهب: محدثون أي ملهمون) تقدم بسطه.
قال المصنف في بستان العارفين، وفي رواية "قد كان فيمن قبلكم من بنى إسرائيل رجال يكلمون من غير أن يكونوا أنبياء" الحديث رواه البخاري، وكان على المصنف أن يذكر ما فيه للختنين، فمن كرامة عثمان رضي الله عنه ما ذكره الحافظ ابن سيد الناس في كتاب المقامات العلية في الكرامات الجلية، فأخرج من طريق ابن سعد عن ابن عمر قال: "بينا عثمان يخطب إذ قام إليه جهجاه الغفاري فأخذ العصا من يده فكسرها على ركبتيه، فدخلت منها شظية في ركبتيه فوقعت فيها الأكلة" قال ابن سعد: حديث عبد الله بن إدريس هذا لم أسمعه منه وهو عرض عليه.
وأخرج أيضاً عن أنس بن مالك قال: " تناول النبي - صلى الله عليه وسلم - من الأرض سبع حصيات فسبحن في يده، ثم ناولهن أبا بكر فسبحن في يده كما سبحن في يد النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم ناولهن عمر فسبحن في يده كما سبحن في يد أبي بكر، ثم ناولهن عثمان فسبحن في يده كما سبحن في يد أبي بكر وعمر.
ومن كرامات علي رضي الله عنه، أخرج الحافظ ابن سيد الناس في كتابه المذكور بسنده عن الحسن بن علي قال: قال لي علي: "إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مسح ظهري الليلة في منامي، فقلت: يا رسول الله ما لقيت من أمتك من الأود واللدد؟ قال: ادع عليهم، قلت: اللهم أبدلني بهم من هو خير لي منهم، وأبدلهم بي من هو شر مني، فخرج فضربه الرجل ".


رقم الحديث 1505 ( وعن جابر بن سمرة) بفتح المهملة وضم الميم السوائي ( رضي الله عنهما قال: شكا أهل الكوفة سعداً) وقوله: ( يعني ابن أبي وقاص رضي الله عنه) من الراوي عنه تعيين له لتعدد المسمين بذلك ( إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فعزله) إجابة لما طلبوه بالإِيماء والإشارة ( واستعمل) أي: ولى عاملاً ( عليهم عماراً) هو ابن ياسر وقوله ( فشكوا) عطف على شكا أهل الكوفة كرره للإِطناب وليعطف عليه قوله: ( حتى ذكروا) في شكواهم منه ( أنه لا يحسن يصلي فأرسل إليه) أي: أبلغه قولهم كما عطف عليه عطف تفسير قوله: ( فقال: يا أبا إسحاق إن هؤلاء يزعمون) عبّر به إيماءً إلى تكذيبه لهم فيما قالوا فيه باطناً ففيه إيماء إلى أن عزله ليس لتصديق ما قالوه فيه، وإنما هو ليفهم إجابة مطلوبهم ( أنك لا تحسن تصلي) على تقدير أن، كما يدل عليه ذكرها فيما قبل، أوعلى تنزيل الفعل منزلة المصدر أي: لا تحسن الصلاة ( فقال أما) بفتح الهمزة وتشديد الميم، حرف فيه معنى الشرط والتفصيل والتأكيد ( أنا والله فإني كنت أصلي بهم صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أي: مثلها ( لا أخرم) بفتح الهمزة وبالخاء المعجمة وكسر الراء، أنقص ( عنها) وحذف المفعول؛ للتعميم ( أصلي صلاتي العشاء) هكذا للجرجاني من رواة البخاري، وعند غيرهم من العشاء ( فأركد) أي: أقوم طويلاً ( في الأوليين) بضم الهمزة، وفتح اللام والتحتية الأولى ( وأخفف) وفي نسخة من البخاري: وأخف، بالإِدغام من باب أخف، وعلى كل فالهمزة مضمومة والخاء مفتوحة في رواية الأصل مكسورة في الأخرى ( في الأخريين) بضم الهمزة وفتح الراء، والتحتية الأولى ( قال) أي: عمر ( ذلك الظن بك يا أبا إسحاق) وذلك لأنه من قدماء الصحابة وكبارهم، وأحد العشرة المبشرة بالجنة ( وأرسل معه رجلاً) هو محمد بن مسلم ( أو رجالاً) شك من الرواة في المرسل معه أو أحد أم فوقه ( إلى الكوفة يسأل عنه أهل الكوفة) أتي بالظاهر والمقام للضمير زيادة في الإِيضاح ( فلم يدع مسجداً إلا سأل عنه) أي: أهله ( ويثنون معروفاً) أي: خيراً ( حتى دخل مسجداً لنبي عبسى) بفتح المهملة، وسكون الموحدة، وبالسين المهملة ( فقام رجل منهم يقال له أسامة) بضم الهمزة ( ابن قتادة يكنى أبا سعدة) بفتح المهملة الأولى وسكون الثانية ( فقال أما) بفتح الهمزة وتشديد الميم ( إذ) ظرف لمقدر، أي: ما جوابنا وقت ( نشدتنا) بفتح النون والشين المعجمة، أي: طلبت منا القول وجواب أما قوله ( فإن سعداً كان لا يسير بالسرية) أي: معها وهو كناية عن وقت الحسن ( 1) ، أي: لا يخرج معها لذلك، وهي القطعة من الجيش ( ولا يقسم بالسوية) أي: يؤثر بالعطاء من يشاء لغرض ( ولا يعدل في القضية) أي: الحكومة ( قال سعد أما) بتخفيف الميم ( والله لأدعون بثلاث) أي: من الدعوات إنما دعا بها لأنه رماه بثلاث معايب فدعا عليه بعددها، وحذف المعدود لدلالة قوله أدعون عليه وبينها بقوله: ( اللهم إن كان عبدك هذا كاذباً قام رياء وسمعة) أي: ليراه الناس ويسمعوه فيشهروا ذلك عنه فيكون له بذلك ذكر ( فأطل عمره) بضم أوليه، وتسكين الثاني تخفيفاً وذلك ليدوم تحسره وتعبه لقوله: ( وأطلق فقره) فإن أصعب الفقر ما كان حال الكبر؟ لأنه وقت الضعف والعجز عن العمل فالفقر معه أشد، وجاء في رواية زيادة: وأكثر عياله ( وعرضه) بتشديد الراء ( للفتن) أي: اجعله عرضة لها أوأدخله في معرضها أي: أظهره بها.
ففيه جواز الدعاء على الظالم بالفتنة في دينه.
قال ابن المنير: وكان في النفس من ذلك شيء، وذلك أن الدعاء بمثله مستلزم وقوع المعاصي، حتى تأملت هذا الحديث فوجدته سائغاً.
والسبب فيه أن وقوع المعاصي لم يطلب من حيث كونها معاصي، لكن من حيث ما فيها من نكاية الظالم وعقوبته، كما أبيح تمني الشهادة، وندب مع أن فيه تمني قتل الكافر المسلم وذلك معصية ووهن في الدين، وذلك لأن الغرض من تمني الشهادة؛ ثوابها لأنفسها ووجدت في دعوات الأنبياء كقول موسى ( ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم) ( 2) .
وقول نوح ( ولا تزد الظالمين إلا ضلالاً) ( 3) .
قال ابن المنير في الدعوات الثلاث: مناسبة للحال، أما طول عمره فليراه من سمع بأمره، فيعلم كرامة سعد.
وأما طول فقره فلنقيض مطلوبه، لأن حاله يشعر بأنه طلب أمراً دنيوياً.
وأما تعرضه للفتن فلكونه قام فيها ورضيها دون أهل بلده.
وقال غيره: لما نفى عن سعد الفضائل الثلاث الشجاعة التي هي كمال القوة العصبية حيث قال: لا يسير والعفة التي هي كمال القوة الشهوية، حيث قال: لا يقسم.


رقم الحديث 1506 في الحديث أقوال أخر ذكرها في الفتح وغيره ( فقال له مروان: لا أسألك بينة بعد هذا) أي فعلمك بذلك مع خوفك من الله ومعرفتك بالله، ومعرفتك بعذابه أقوى مانع من أخذ شيء من ذلك ( فقال سعيد: اللهم إن كانت كاذبة) أتى بإن مع تحققه كذبها لاحتمال صدقها في نفس الأمر بأن دخل بعض أرضها في أرضه غفلة، أو فعله بعض الخدم من غير علم به ( فأعم) بقطع الهمزة ( بصرها واقتلها في أرضها) أي: اجعل موتها بسببها أو ناشئاً عنها ( قال) أي عروة ( فما ماتت حتى ذهب بصرها) أي: القوة المودعة في العينين.
جاء في رواية ذكرها الحافظ في الفتح عند ابن حبان: أن سعيداً ترك لها ما ادعت فيه.
وفي رواية لغيره فجاء سيل فأبدا عن حفيرتها فإذا حقها خارج عن حق سعيد، فجاء سعيد إلى مروان فركب معه والناس حتى نظروا إليها ( وبينما هي تمشي في أرضها) لسقي النخل والقيام بأمره ( إذ وقعت في حفرة فماتت) فحقق الله كذبها بوجود ما سئل معلقاً عليه ( متفق عليه وفي رواية لمسلم) في الصحيح أيضاً ( عن محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر) قال في التقريب: هو ثقة من الثالثة أي: أواسط التابعين الحديث ( بمعناه) أي: وإن اختلف بعض مبناه ( وأنه رآها عمياء تلتمس الجدر) لتهتدي بها إلى مقصدها ( تقول) جملة حالية من مفعول رأى أو مستأنفة ( أصابتني دعوة سعيد) ففيه إجابة دعاء سعيد ( وأنها مرت على بئر في الدار التي خاصمته فيها فوقعت فيها) فماتت ( فكانت) أي: صارت ( قبرها) أي: محله بأن دفنت فيه، وكان غور الماء منها بسببها، أو صارت سبب ولوجها قبرها، وفي الفتح في المثل يقولون إذا دعوا "كعمى الأروي".
قال ابن الزبير: في روايته "كان أهل المدينة يقولون عماه الله تعالى

رقم الحديث 1509 الآخرين كانوا أتباعاً فلم يحصل الاعتناء بتسميتهم.
اهـ ( وأمر) بتشديد الميم ( عليهم عاصم بن ثابت) بمثلثة قبل الألف وموحدة ففوقية ( الأنصاري رضي الله عنه) الأنسب عنهم ( فانطلقوا حتى إذا كانوا) أي: صاروا ( بالهداة) بوزن القضاة والدال مهملة، وقيل: إنه بسكون الدال وهمزة بعدها مفتوحة.
وعند ابن إسحاق: الهدة بتشديد الدال بغير ألف محل ( بين عسفان) بضم المهملة الأولى وسكون الثانية.
سميت به لعسف السيول لها ( ومكة) وهي على سبعة أميال من عسفان ( وذكروا) بالبناء للمفعول ( لحي) بفتح المهملة وتشديد الياء القبيلة من العرب وجمعه أحياء ( من هذيل يقال لهم بنو لحيان) بكسر اللام.
وقيل: بفتحها وسكون المهملة، هو ابن هذيل نفسه، وهذيل بن مدركة بن إلياس بن مضر، وقيل: إن لحيان من بقايا جرهم، فدخلوا في هذيل فنسبوا إليهم ( فنفروا) أي: اللحيانيون ( لهم) أي: للرهط ( بقريب من مائة رجل رام) بالنبل والأحجار وغيرهما مما يعتادون الرمي به في حروبهم ( فاقتصوا) بتشديد الصاد المهملة أي: قصوا وتتبعوا ( آثارهم) حتى وصلوا إليهم ( فلما أحس) أي: شعر ( بهم عاصم وأصحابه) باقي الرهط ( لجئوا) قصدوا ( إلى موضع) يكون ملجأ لهم من العدو لامتناعه ( فأحاط بهم القوم) أي: من جميع جهات ذلك الموضع ( فقالوا: انزلوا فأعطوا بأيديكم) الباء مزيدة؛ للتأكيد.
وهو كناية عن الدخول في الطاعة ( ولكم العهد والميثاق) عطف تفسير ( ألا نقتل منكم أحداً) أي: على ترك قتل أحد منكم، والجملة حال من فاعل.
أعطوا ( فقال عاصم بن ثابت: أيها القوم) بحذف حرف النداء، لأن المقام مقام الإيجاز والاقتصار ( أما) بفتح الهمزة وتشديد الميم ( أنا فلا أنزل على ذمة كافر) أي: مهما أكن عليه من الأحوال من السلامة، أو ضدها فلا أنزل على ذمة كافر أي: عقد كافر وعهده، وفي رواية عنه: لا أقبل اليوم عهداً من مشرك، لما فيه من تعظيم الكافر في الجملة والتذلل له ( اللهم أخبر عنا نبيك محمداً - صلى الله عليه وسلم -) أي: بالوحي إليه وذلك ليدعوا لهم فتعلو رتبتهم عند الله على رتبة الشهادة الحاصلة إذا قتلوا حينئذٍ ( فرموهم بالنبل) بفتح النون وسكون الموحدة، وهي السهام العربية اسم جمع لا واحد لها من لفظها، بل من معناها وهو سهم ( فقتلوا عاصماً) حينئذٍ شهيداً ( ونزل إليهم ثلاثة نفر) باقون من الرهط ( على العهد والميثاق) الذي عاهدوهم عليه ( منهم) خبر مقدم اهتماماً به ( خبيب) بضم المعجمة، وفتح الموحدة الأولى وسكون التحتية، هو ابن عدي ( وزيد بن الدثنة) تقدم ضبطه ( ورجل آخر) بفتح الخاء.
قال الحافظ في الفتح في رواية ابن إسحاق: فأما خبيب بن عدي وزيد بن الدثنة وعبد الله بن طارق فاستأسروا وعرف منه تسمية الرجل الثالث ( فلما استمكنوا منهم أطلقوا أوتار) جمع وتر بفتح الواو، والفوقية كسبب وأسباب ( قسيّهم) بكسر القاف والسين المهملة وتشديد التحتية والأصل على فعول، ويجمع أيضاً على أقواس وقياس، وهو القياس ْكثوب وأثواب وثياب ( فربطوهم فقال الرجل الثالث) أيهم في رواية الصحيح ( هذا أول الغدر والله لا أصحبكم إن لي بهؤلاء أسوة) بضم الهمزة وكسرها أي: قدوة ( يريد) بالمشار إليهم بقوله هؤلاء ( القتلى) بفتح فسكون جمع قتيل كجريح وجرحى ( فجروه وعالجوه فأبى أن يصحبهم) قال الحافظ: هذا يقتضي أن ذلك وقع منه أول ما أسروهم، لكن في رواية ابن إسحاق فخرجوا بالنفر الثلاثة حتى إذا كان بمر الظهران، وإلا فما في الصحيح أولى ( فقتلوه وانطلق) بصيغة المجهول ( بخبيب وزيد بن الدثنة حتى باعوهما بمكة) جاء عند ابن إسحاق وابن سعد أن زيداً ابتاعه صفوان بن أمية فقتله بأبيه، وعند ابن سعد الذي تولى قتله بسطاس مولى صفوان ( بعد وقعة بدر) لأن وقعتهم كانت أواخر سنة ثلاث، كما عند ابن إسحاق: وبدر في رمضان من السنة الثانية ( فابتاع) أي: اشترى ( بنو الحارث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف خبيباً) بين ابن إسحاق أن الذي تولى شراءه هو جحش بن أبي إهاب التميمي.
حليف بني نوفل، وكان الحارث بن عامر.
وفي رواية: أنهم شروه بأمة سوداء، وفي رواية: باعوهما بأسيرين من هذيل كانا بمكة.
قال الحافظ: ويمكن الجمع ( وكان خبيب هو قتل الحارث) يعني ابن عامر المذكور ( يوم بدر) قال في الفتح: كذا وقع في هذا الحديث، واعتمد البخاري فعد خبيب بن عدي فيمن شهد بدراً.
وهو اعتماد متجه وتعقبه الدمياطي بعدم ذكر المغازي خبيب بن عدي فيمن شهد بدراً، وأنه قتل عامراً بأنهم ذكروا أن قاتله ببدر خبيب ابن أساف، وهو خزرجي وخبيب بن عدي أوسي.
اهـ ونظر فيه الحافظ بأنه يلزم منه رد الحديث الصحيح، ولو لم يقتل خبيب بن عدي الحارث، ما كان لاعتنائه بنية شرائه معنى ولقتله المصرح به في الصحيح، لكن يحتمل أنهم قتلوه لكونه من الأنصار جرياً على عادة الجاهلية بقتل بعض القبيلة عن بعض.
ويحتمل أن ابن عدي شارك ابن إساف في قتل الحارث ( فلبث خبيب عندهم أسيراً) مدة الأشهر الحرم ( حتى أجمعوا على قتله فاستعار من بعض بنات الحارث موسى يستحد بها) واسمها زينب بنت الحارث، وهي أخت عتبة بن الحارث، الذي قتل خبيباً وقتل امرأته كما في الأطراف بحلف، وهذه الجملة مندرجة في القصة من غير طريق الأولى، نبه عليه الحافظ قال: وموسى يجوز فيه الصرف وعدمه، ويستحد أي يحلق عانته ( فأعارته) أي: الموسى، وحذف اكتفاء بدلالة ما قبله عليه ( فدرج بني) بالتصغير ( لها وهي غافلة) بالغين المعجمة والفاء.
ذكر الزبير بن بكار أن هذا الصبي هو أبو حسين المكي المحدث، وهو من أقران الزهري ( حتى أتاه فوجدته مجلسه) بصيغة الفاعل ( على فخذه) بفتح فكسر، ويجوز كسرهما وكسر الثالث، وفتح الأول مع سكون الثاني ( والموسى بيده) جملة حالية من مفعول وجدت ( ففزعت فزعة عرفها خبيب) لظهور أثرها وبدوه ( فقال: أتخشين أن أقتله ما كنت لأفعل ذلك) بكسر الكاف ذلك من مكارم أخلاقه، ومقابلة السيئة بالحسنة.
والصفح عن المذنب وعدم مجازاته، والاكتفاء بقصاص الله له ( قالت: والله ما رأيت) أي: أبصرت ( أسيراً خيراً من خبيب) وبينت وجه ذلك بقولها على سبيل الاستئناف ( فوالله لقد وجدته يوماً يأكل قطفاً) بضم القاف وسكون الطاء المهملة وبالفاء أي عنقوداً ( من عنب) جاء في رواية عن سارية مولاة جحش بن أبي إهاب "قالت: لقد اطلعت عليه يوماً وإن في يده لقطفاً من عنب مثل رأس الرجلين يأكل منها" ( في يده وإنه لموثق بالحديد) أي: مشدود فيه ( وما بمكة من ثمرة) بالمثلثة أتى بذلك تمهيداً لقوله عنها ( وكانت تقول: إنه لرزق رزقه الله خبيباً) فيه إثبات كرامة لخبيب وفي طي ذلك آية لإِثبات رسالة نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -، وإقامة الحجة على الكفار، لأنه لم يصل لذلك إلا بالإيمان به - صلى الله عليه وسلم - واتباع هديه.
والذي عليه الجمهور كما تقدم أول الباب أن كل ما جاز كونه معجزة لنبي جاز كونه كرامة لولي من غير استثناء، ومن يقع على يده الخوارق متمسكاً بالكتاب والسنة متنسكاً كان ذلك كرامة له.
وإلا فتارة يكون معونة، وتارة يكون استدراجاً، وتارة يكون سحراً وكهانة ( فلما خرجوا من الحرم ليقتلوه في الحل) بين ابن إسحاق أنهم أخرجوه إلى التنعيم ( قال لهم خبيب: دعوني أصلي ركعتين) هذه رواية جماهير البخاري بإثبات الياء، وللكشميهني بحذفها ووجهها ظاهر ( فتركوه فركع ركعتين) عند موسى بن عقبة أنه صلاهما في موضع مسجد التنعيم ( فقال: والله لولا أن تحسبوا أن ما بي جزع) أي: من الموت كما في البخاري ( لزدت) في رواية عنه: لزدت سجدتين أخريين ( اللهم أحصهم) بقطع الهمزة ( عدداً) تمييز محول عن المفعول به أي: احص عددهم ( واقتلهم بدداً ولا تبق) بضم الفوقية ( منهم أحداً) جاء في رواية فلم يحل الحول ومنهم أحد حي غير رجل كان استلبد بالأرض حال دعاء خبيب لئلا يصيبه معهم.
وفي رواية أخرى فجاء يخبر عنه، فقال خبيب: "اللهم إني لا أجد من يبلغ رسولك مني السلام فبلغه".
جاء في رواية أخرى: "فجاء جبريل فأخبره فأخبر أصحابه بذلك" وعند موسى بن عقبة فزعموا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال ذلك اليوم، وهو جالس: وعليك السلام، خبيب قتلته قريش ( وقال: فلست أبالي) هذه رواية الكشميهني وللأكثر: ما إن أبالي.
قال الحافظ: والأول أوزن، وهذا جائز، لكنه مخروم ويكمل بزيادة الفاء، وما نافية، وإن بكسر الهمزة وسكون النون نافية أيضاً للتوكيد ( حين أقتل مسلماً، على أي جنب كان لله مصرعي) أي: موتي ومراده استواء كيفيات الموت عنده حال موته مسلماً شهيداً ( وذلك في ذات الإِله) استدل به على جواز إطلاق الذات على الله تعالى ( وإن يشأ يبارك على أوصال) جمع وصل وهو العضو ( شلو) بكسر المعجمة وسكون اللام الجسد وقد يطلق على العضو والمراد هنا الأول ( ممزع) بالزاي ثم المهملة أي: مقطع والمعنى أعضاء جسد يقطع.
وعند أبي الأسود عن عروة زيادة في هذا الشعر: لقد أجمع الأحزاب حولي وألبوا ... قبائلهم واستجمعوا كل مجمع وفيه إلى الله أشكو غربتي بعد قربتي ... وما أرصد الأحزاب لي عند مصرعي وساقها ابن إسحاق ثلاثة عشر بيتاً.
قال ابن هشام: ومن الناس من ينكرها لخبيب.
وفي البخاري: فقام إليه عقبة بن الحارث فقتله، وحذفه المصنف لعدم تعلقه بغرض الترجمة ( وكان خبيب هو سن) في البخاري في رواية أول من سن ( لكل مسلم قتل صبراً) قال في الصحاح: كل ذي روح يوثق حتى يقتل فقد قتل صبراً ( الصلاة) ويؤخذ استحباب ذلك من إقرار المصطفى - صلى الله عليه وسلم - ( وأخبر يعني - صلى الله عليه وسلم - أصحابه يوم أصيبوا خبرهم) ففيه معجزة له بإطلاعه على ما هو مغيب عنه بعيد منه، بالوحي إليه وإعلامه به ( وبعث ناس من قريش إلى عاصم بن ثابت حين حدثوا) بصيغة المجهول ( أنه قتل) بفتح الهمزة وبناء الفعل للمجهول، وهو ساد مسد المفعولين الثاني والثالث ( أن يؤتوا بشيء منه) على تقدير اللام أو مضاف مفعول له أي: ليؤتوا أو إرادة أن يؤتوا، وهو بصيغة المجهول وكذا قوله: ( يعرف وكان عاصم قتل رجلاً من عظمائهم) قال الحافظ: لعله عقبة بن أبي معيط فإن عاصماً قتله صبراً بأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد أن انصرفوا من بدر، ووقع عند ابن إسحاق: أن عاصماً لما قتل أرادت هذيل أخذ رأسه، ليبيعوه من سلاقة بنت سعيد بن نهشل، وهي أم شافع وجداس أبي طلحة العبدري، وكان عاصم قتلها يوم أحد، فمنعته الدبر فإنه كان محفوظاً، احتمل أن تكون قريش لم تشعر بما جرى لهذيل من منع الدبر له فيتمكنون من أخذه ( فبعث الله لعاصم مثل الظلة من الدبر) بضم المعجمة السحابة، والدبر بفتح الدال المهملة وسكون الموحدة الزنابير.
وقيل: ذكور النحل لا واحد له من لفظه، وسيأتي اقتصار المصنف على هذا غير مقيد بالذكر ( فحمته) بتخفيف الميم أي: منعته ( من رسلهم) بضمتين ويسكن الثاني تخفيفاً ( فلم يقدروا) بكسر الدال ( أن يقطعوا منه شيئاً) وفي رواية أبي الأسود "فبعث الله عليهم الدبر تطير في وجوههم وتلدغهم فحالت بينهم وبين أن يقطعوا".
وفي رواية ابن إسحاق: وكان عاصم أعطى الله عهداً ألا يمس مشرك أبداً، ولا يمسه مشركاً، وكان عمر يقول لما بلغه خبره: يحفظ الله العبد المؤمن بعد وفاته كما حفظه في حياته.
وإنما استجاب الله في حماية لحمه منهم دون منعهم من قتله، لما في القتل من الشهادة والكرامة، وفي قطع اللحم من هتك الحرمة والمثلة ( رواه البخاري) في أماكن المغازي ( قوله: الهداة) تقدم ضبطها ( موضع) بين مكة وعسفان ( والظلة السحاب والدبر النحل) تقدم ( وقوله: اقتلهم بدداً بكسر الباء وفتحها) والدال مفتوحة فيها ( فمن كسر قال: هو جمع بدة بكسر الباء) الموحدة وتشديد الدال ( وهي النصيب) فيكون نظير قربة وقرب ( ومعناه اقتلهم حصصاً منقسمة لكل منهم نصيب) منه ( ومن فتح قال: معناه متفرقين في القتل واحداً بعد واحد) فيكون مصدر بددت الشيء أبده، من باب قتل إذا فرقه.
قال في المصباح: والتثقيل مبالغة وتكثير.
اهـ وعليه فيكون بدداً اسم مصدر ( من التبديد.
وفي الباب)
أي: الكرامات ( أحاديث كثيرة) تأكيد للكثرة المدلول عليها بصيغة جمع الكثرة، ودفعاً لتوهم أنه تجوز به عن جمع القلة، كما في قوله تعالى: ( ثلاثة قروء) ( 2) ( صحيحه سبقت في مواضعها من هذا الكتاب منها حديث الغلام الذي كان يأتي الراهب والساحر) تقدم في باب الصبر ( ومنها حديث جريج) تقدم في باب الإِخلاص ( ومنها حديث أصحاب الغار الذين أطبقت عليهم الصخرة)

رقم الحديث -251 الكرامات: جمع كرامة، وهي: إحدى الخوارق للعادات.
وهي خمس: إرهاص، ومعجزة، وكرامة، ومعونة، ومهونة.
فالإِرهاص الخارق للعادة المتقدم على تحدي النبي ودعواه النبوة كإظلال الغمام فإنه لم يقع له - صلى الله عليه وسلم - إلا قبل النبوة خلافاً لمن وهم فيه.
وسمي إرهاصاً لما فيه من تأسيس النبوة، والمعجزة الخارق للعادة المقرون بالتحدي الواقع على طبق ما ادعاه مع الأمن من المعارضة فيه، والتحدي طلب المعارضة والمقابلة.
وقال المحققون: دعوى الرسالة.
وسميت معجزة لعجز البشر عن الإِتيان بمثله.
أما ما لا يؤمن معارضته فيسمى سحراً.
وجوز قوم قلب الأعيان وإحالة الطبائع كصيرورة الإِنسان حماراً، ومنعه آخرون قالوا: وإلاّ لم يكن فرق بين النبي والساحر.
ويرد بوضوح الفرق بينهما فإن قالها عند التحدي لا يمكن معارضته لإِطراد العادة الإِلهية، إن المدعي النبوة كاذباً لا يظهر على يديه خارق كذلك مطلقاً، وعند عدمه يمكن المعارضة بتعلم ذلك السحر، فظهر أن قيد التحدي لا بد منه، لكنه لا يشترط عند كل معجزاته؛ لأن أكثر معجزاته - صلى الله عليه وسلم - صدر من غير تحد، بل قيل: لم يتحد بغير القرآن وتمني الموت وإنما الشرط وقوعها ممن تسبق منه دعوى التحدي، والكرامة الخارق للعادة لا على سبيل التحدي.
ويدخل ما وجد من خوارق العادات بعد التحدي كما روي بعد وفاته - صلى الله عليه وسلم - من نطق بعض الموتى بالشهادتين وشبهه مما تواترت به الأخبار فيسمى كرامة.
وجرى القاضي عياض في الشفاء على أن منها ما يبدو من الخوارق على يد النبي لا على سبيل التحدي.
وتقدم آنفاً خلافه.
والمعونة خارق للعادة يبدو على يد بعض المؤمنين كإنقاذ من مهلكة وتخليص من ورطة بوجه خارق للعادة.
والمهونة: خارق للعادة على خلاف دعوى المتحدي، كما وقع لمسيلمة أنه تفل في بئر ليكثر ماؤها فغار.
والأولياء جمع ولي.
وهو المؤمن المطيع لمولاه فعيل بمعنى فاعل لأنه والى الله باتباع مرضاته، أو بمعنى مفعول لأن الله تعالى والاه.
وكرامات الأولياء متنوعة ذكر منها الشيخ تاج الدين السبكي في الطبقات نيفاً وعشرين نوعاً.
ويجمع ذلك كل ما جاز وقوعه معجزة للنبي جاز كونه كرامة للولي.
وهي على إطلاقها من غير استثناء خلافاً لبعضهم.
( قال الله تعالى: ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم) حين يخاف الناس عقاب الله ( ولا هم يحزنون) على فوات مأمول ( الذين آمنوا وكانوا يتقون) بيان لأولياء الله ( لهم البشرى في الحياة الدنيا) الرؤيا الحسنة هي البشرى يراها المسلم أو ترى له، وقال بعضهم: بشرى الملائكة عند احتضاره بالجنة.
وعن الحسن هي ما يبشر الله المؤمنين في كتابه من جنة ونعيمها ( وفي الآخرة) الجنة ورضوان الله وقال بعضهم: المراد بتبشير الملائكة في القبر ( لا تبديل لكلمات الله) لا خلاف لمواعيده ( ذلك) أي: كونهم مبشرين في الدارين ( هو الفوز العظيم.
وقال تعالى)
خطاباً لمريم ( وهزي إليك بجذع النخلة) الباء مزيدة للتأكيد، أو بمعنى افعلي الهز ( تساقط) أي: تساقط النخلة ( عليك رطباً جنياً) تمييز إن كان التساقط من التفاعل، ومفعول إن كان من المفاعلة، أي: غضاً، وكانت تلك النخلة يابسة، فأورقت كرامة لمريم لتكون كرامة أخرى ليطمئن قلبها، أو مثمرة لكن لم يكن حين ثمرها ( فكلي) من الرطب ( واشربي) من النهر أو من عصير الرطب ( وقري عيناً) وهو من القر أي: البرد فإن دمعة السرور باردة، ودمعة الحزن حارة، أو من القرار فإن العين إذا رأت ما يسر سكنت إليه من النظر إلى غيره ( الآية) وأشار بها إلى تكلم عيسى ومخاطبته لقومها ومحاورته عنها ومن ولادته إرهاصاً لنبوته وكرامة لها ( وقال تعالى: كلما دخل عليها زكريا المحراب) أي: الغرفة التي بناها لها في المسجد ( وجد) هو الناصب لكلما على الظرفية ( عندها رزقاً) قيل: كان يجد عندها فاكهة الشتاء في الصيف وبالعكس، وقيل: صحف فيها علم، والأول أصح ( قال يا مريم أنى لك هذا) من أين لك في غير أوانه والأبواب مغلقة ( قالت: هو من عند الله) فلا يستبعد.
قيل: هي كعيسى تكلمت صغيرة ولم ترضع ثدياً، ويأتي رزقها من الجنة ( إن الله يرزق من يشاء بغير حساب) لكرمه وسعته.
قال الشيخ تاج الدين السبكي في إثبات الكرامة: ومنها قصة مريم من جهة حبلها من غير ذكر، وحصول الرطب الطري من الجذع اليابس، ودخول الرزق عندها في غير أوان حضور أسبابه، وهي لم تكن نبية لا عندنا لقوله ْتعالى: ( وأمه صديقة) ولا عند الخصم لاشتراطه الذكورة في النبي وهو متفق عليه بيننا وبينه، ولا جائز أن يكون ذلك معجزة لزكريا لأن المعجزة يجب كونها بمشهد من الرسول والقوم حتى تقوم الدلالة عليهم وما حكيناه من كرامتها نحو قول جبريل لها ( وهزي إليك بجذع النخلة) الآية لم يكن بحضور أحد بدليل ( فإما ترين من البشر أحداً) وأيضاً فالمعجزة تكون بالتماس الرسول، وزكريا ما كان يعلم بحصولها بدليل قوله: ( أنى لك هذا) وأيضاً فهذه الخوارق إنما ذكرت لتعظيم شأن مريم فيمتنع كونه كرامة لغيرها، ولا جائز أن يكون إرهاصاً لعيسى، لأن الإِرهاص أن يخص الرسول قبل رسالته بالكرامات، وأما ما يحصل به كرامة الغير لأجل أنه يستحيي بعد ذلك فذلك هو الكرامة التي يدعيها، ولأنه لو جاز ذلك لجاز في كل معجزة ظهرت على يد رسول أنها إرهاص لنبي آخر يجيء بعد وتجويز هذا يؤدي إلى سد الاستدلال بالمعجزة على النبوة.
اهـ ( وقال تعالى) حكاية عن تخاطب أهل الكهف فيما بينهم ( وإذ اعتزلتموهم) أي: الكفرة الذين في البلد المرجفين بهم ( وما يعبدون) أي: معبوداتهم أو الذين تعبدونهم ( إلا الله) فإنهم كانوا يعبدونه صريحاً، أو في ضمن عبادتهم ( فأووا) انضموا ( إلى الكهف ينشر) يبسط ( لكم ربكم من رحمته) يستركم بها من قومكم ( ويهيىء) ييسر ( لكم من أمركم) الذي أردتم ( مرفقاً) بفتح أوله وكسر ثالثه وبالعكس ما ترتفقون وتنتفعون به ( وترى الشمس) لو رأيتهم ( إذا طلعت تزاور) أي تميل ( عن كهفهم ذات اليمين وإذا غربت تقرضهم) أي: تقطعهم وتميل عنهم ( ذات الشمال.
الآية)
أي: قوله ( وهم في فجوة) أي: متسع ( منه) أي: من الكهف، فلا يؤذيهم حر الشمس، وينالهم روح الهواء.
قال بعضهم: صرف الله عنهم الشمس بقدرته، وحال بينهم وبينها لأن باب الكهف على جانب لا تقع الشمس إلا على جبليه، فيكون كرامة لهم كما قال: ( ذلك من آيات الله) إذ أرشدهم إلى ذلك الغار، وصرف عنهم الأضرار.


رقم الحديث 1503 ( وعن أبي محمد عبد الرحمن ابن أبي بكر الصديق) عبد الله، لقب به لمبادرته بتصديق النبي - صلى الله عليه وسلم - ليلة الإِسراء ( رضي الله عنهما) الأولى عنهم، لأن محمداً ولد عبد الرحمن كان صحابياً أيضاً كما صرح به المصنف نفسه في التهذيب، فقال: قال العلماء: لا يعرف أربعة ذكور مسلمين متوالدين بعضهم من بعض أدركوا النبي - صلى الله عليه وسلم - وصحبوه إلا أبو قحافة، وأبو بكر وابنه عبد الرحمن وابنه محمد بن عبد الرحمن أبو عتيق، وعبد الرحمن شقيق عائشة أمه أم رومان بضم الراء على المشهور.
وحكى ابن عبد البر ضمها وفتحها، وشهد عبد الرحمن بدراً وأحداً مع الكفار وأسلم في هدنة الحديبية وحسن إسلامه وكان اسمه عبد الكعبة، وقيل: عبد العزى فسماه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عبد الرحمن، وكان شجاعاً حسن الرأي، وشهد اليمامة مع خالد فقتل سبعة من الكفار، وهو قاتل محكم اليمامة ابن طفيل رماه بسهم في نحره فقتله، وكان محكم في ثلمة الحصن، فلما قتله دخل المسلمون.
قال الزبير بن بكار: كان عبد الرحمن أسن ولد أبي بكر.
روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثمانية أحاديث اتفقا على ثلاثة منها.
توفي بالحشى جبل بينه وبين مكة ستة أميال، وقيل: عشرة أميال، ثم حمل على الرقاب إلى مكة سنة ثلاث، وقيل: خمس، وقيل: ست وخمسين.
والصحيح الأول، وكانت وفاته فجأة، ولما أتي بالبيعة ليزيد بن معاوية بعثوا إليه بمائة ألف درهم ليستعطفوه فردها، وقال: لا أبيع ديني بدنياي رضي الله عنه.
اهـ ملخصاً من التهذيب ( أن أصحاب الصفة) الظلة التي جعلها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مؤخر مسجده لما بناه يأوي إليها من لا أهل له، ولا صاحب من المحتاجين، إذا نزل المدينة، وتقدمت عدتهم في باب فضل الزهد في الدنيا ( كانوا أناساً فقراء وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال مرة) أي: فيها ( من كان عنده طعام اثنين فليذهب بثالث) أي: فإن طعامه كافيهم وقع عند مسلم بثلاث.
قال عياض: وهو غلط، والصواب ما عند البخاري، ووجه المصنف رواية مسلم بأنها على تقدير مضاف، أي: بتمام ثلاث، وهو الثالث فتتفق الروايتان ( ومن كان عنده طعام أربعة فليذهب بخامس بسادس) بحذف الواو أي: وبسادس أو بحذف أو التي للشك في أنه قال: فليذهب بخامس، أو قال: فليذهب بسادس، ويؤيد الثاني قوله: ( أو كما قال) فإنه ظاهر في الشك وجاء كما تقدم في باب الإِيثار من حديث جابر مرفوعاً: وطعام الأربعة يكفي الثمانية.
وقال الحافظ في الفتح أي: ليذهب بخامس إن لم يكن عنده ما يقتضي أكثر من ذلك، وإلا فيذهب مع الخامس بسادس إن كان عنده أكثر من ذلك، قال: والحكمة في كونه يزيد واحداً فقط أن عيشهم يومئذ لم يكن متسعاً فمن عنده مثلاً ثلاثة أنفس لا يضيق عليه أن يطعم الرابع من قوتهم، وكذا الأربعة وما فوقها بخلاف ما لو زيد بالإِضعاف بعدد العيال، فإن ذلك يحصل الاكتفاء به عند إتساع الحال ( وإن أبا بكر) وفي نسخة: الصديق، وليست عند البخاري وكذا قوله ( رضي الله عنه) وأتى به المصنف تنبيهاً على أن الإِتيان بمثله مطلوب لا يعد زيادة في المروي ( جاء بثلاثة) أي: منهم ( وانطلق النبي - صلى الله عليه وسلم - بعشرة) منهم ( وإن أبا بكر رضي الله عنه تعشى عند النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم لبث) أي: قام عند النبي - صلى الله عليه وسلم - بعده لأمر اقتضى المكث ( حتى صلى العشاء) أي: معه - صلى الله عليه وسلم - ( ثم رجع) إلى منزله بعد أن كان جاء أولاً إليه بالأضياف كما يدل عليه صريح قوله السابق، وإن أبا بكر جاء بثلاثة ثم عاد لمنزله - صلى الله عليه وسلم -، وتعشى عنده، وصلى معه، ويدل له الرواية الآتية بعد ( فجاء بعد ما مضى من الليل) بيان لما في قوله ( ما شاء الله) .
وفيه إيماء إلى مزيد تأخره عند النبي - صلى الله عليه وسلم - وإبطائه ( قالت له امرأته ما حبسك عن أضيافك؟ قال: أو ما عشيتهم) بكسر الفوقية، وفي بعض النسخ بزيادة تحتية بعدها لإشباع كسر الفوقية، قال: والواو عاطفة على مقدر بعد الهمزة ( قالت: أبوا) أي: امتنعوا ( حتى تجيء وقد عرضوا) بصيغة الفاعل، والضمير يرجع إلى الخدم أو الأهل، ووقع في رواية للبخاري قد عرضنا عليهم فامتنعوا ( عليهم) أي: الأضياف ( قال) أي: عبد الرحمن ( فذهبت أنا فاختبأت) أي: خوفاً من خصام أبيه له، وتغيظه عليه ( فقال: يا غنثر) سيؤتى ضبطه ومعناه ( فجدع) بتشديد الدال المهملة أي: دعا بالجدع، وهو القطع من الأذن والأنف، أو الشفة، وقيل: المراد به السب والأول أصح ( وسب) أي: شتم وحذف المعمول للعلم به، ظن أن عبد الرحمن قصر في حق الأضياف فلما علم الحال أدبهم بقوله: ( وقال: كلوا لا هنيئاً) أي: لا أكلتم هنيئاً وهو دعاء عليهم.
وقيل: أي: خير لم تهنئوا به أو لا بصحة.
وقيل: إنما خاطب بهذا أهله لا الأضياف ( والله لا أطعمه) بفتح العين أي: لا أذوقه ( أبداً قال) أي: عبد الرحمن ( وأيم الله) همزته همزة وصل عند الجمهور.
وقيل: يجوز القطع وهو مبتدأ وخبره محذوف، أي: قسمي وأصله أيمن وأصل الهمزة فيه القطع، ولكنها لكثرة الاستعمال خففت فوصلت، وفيها لغات أيمن مثلث الميم، ومن مختصرة منه مثلثة الميم، وأيم كذلك ويم كذلك، قال ابن مالك: وليس الميم بدلاً من الواو ولا أصلها من خلافاً لمن زعمه ولا أيمن جمع يمين خلافاً للكوفيين ( ما كنا نأخذ من لقمة إلا ربا) بالموحدة أي: زاد ( من أسفلها) أي: الموضع الذي أخذت منه ( أكثر منها) بالرفع فاعل ربا ( حتى شبعوا وصارت أكثر) بالمثلثة ( مما كانت قبل ذلك) أي: قبل أكلهم ( فنظر إليها) أي: القصعة ( أبو بكر فقال لامرأته) أم رومان ( يا أخت بني فراس) بكسر الفاء وتخفيف الراء آخره مهملة من كنانة.
قيل: التقدير يا من هي من بني فراس، والعرب تطلق على من كان متبعاً لقبيلة أنه أخوهم.
وفيه نظر لأن أم رومان من ذرية الحارث بن غنم، وهو ابن مالك بن أوس بن غنم.
قال في الفتح: فلعله نسبها إلى بني فراس بكونهم أشهر من بني الحارث ويقع في النسب كثيراً الانتساب إلى أخي جدهم.
والمعنى يا أخت القوم المنتسبين إلى بني فراس، ولا شك أن الحارث أخو فراس، فأولاد كل منهما إخوة للآخرين بكونهم في درجتهم.
وحكى عياض أنه قيل في أم رومان أنها من بني فراس بن غنم لا من بني الحارث، وعليه فلا حاجة إلى هذا التأويل، ولم أر في كتاب ابن سعد لها نسبا إلى بني حارث، ساق لها نسبين مختلفين ( ما هذا) الاستفهام للتعجب ( قالت لا) زائدة أو نافية على تقدير لا شيء غير ما أقول ( وقرة) بجرها على القسم ( عيني) يعبر بها على المسرة ورؤية ما يحبه الإِنسان ويوافقه، يقال ذلك لأن عينه قرت عن التلفت إلى الغير بحصول غرضها فلا تستبشر لشيء آخر، فكأنه مأخوذ من القرآن، وأقسمت بذلك لما وقع عندها من السرور وبالكرامة التي حصلت لهم ببركة الصديق رضي الله عنه.
وزعم الداودي أنها أرادت بقرة عينها النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأقسمت به.
قال الحافظ: وفيه بعد قال الشيخ زكريا: ولعله كان قبل النهي عن الحلف بغير الله تعالى ( لهي) أي: القصعة أو البقية ( الآن أكثر منها قبل ذلك بثلاث مرات) أكثر بالمثلثة للأكثر ولبعضهم بالموحدة ( فأكل منها أبو بكر وقال: إنما كان ذلك من الشيطان يعني) بالمشار إليه بذلك ( يمينه ثم أكل منها لقمة) لحديث الصحيح: "إني لا أحلف يميناً، فأرى غيرها خيراً منها إلا كفرت عن يميني، وفعلت الذي هو خير" ولقصد إرغام الشيطان فيما زينه له من اليمين أن لا يأكل منه، وفائدة قوله: ثم أكل مع قوله فيما سبق فأكل، وليس إلا أكل واحد لدفع الإِيهام وأنه إنما أكل لقمة واحدة لما ذكر من تكفير يمينه، أو أن مراده لا أطعمه منكم، أو في هذه الساعة أو عند الغضب، ولكن هذه الثلاثة الأخيرة مبنية على جواز تخصيص العموم في اليمين، والاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب الوارد عليه ( ثم حملها) أي: الجفنة ( إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأصبحت) أي: الجفنة على حالها ( عنده) وإنما لم يأكلوا منها في الليل لكون ذلك وقع بعد مدة طويلة ( وكان بيننا وبين قوم عهد فمضى الأجل) الذي هو عدواً إليه ( فتفرقنا اثني عشر رجلاً) فيه الفاء فصيحة أي: جاءوا إلى المدينة ففرقنا من التفريق أي: ميزنا وجعل كل رجل من اثنتي عشر فرقة.
وفي بعض الروايات: فعرفنا بالمهملة وشد الراء أي: جعلناهم عرفاء.
قال الكرماني والبرماوي: وفي بعضها فقرينا من الفري وهي الضيافة قال الحافظ في الفتح: على ذلك، وأفاد أن روايات مسلم اختلفت فيه هل قال: فرقنا أو قال عرفنا؟ وأن رواية الإِسماعيلي وعرفنا بالعين وجهاً واحداً، وسمي المعرف عريفاً لأنه يعرف الإِمام أحوال العسكر.
وبما ذكرت من اختلاف ألفاظ الروايات يعلم أن زيادة التاء في قوله فتعرفنا من قلم الناسخ خصوصاً.
وهذا اللفظ كله لمسلم واثني عشر بالنصب عند مسلم حال، وعند البخاري بالألف.
قال ابن مالك: هو على لغة من من يلزم المثنى الألف في الأحوال كلها، ومنه ( إن هذان لساحران) ( رجلاًَ مع كل رجل منهم أناس الله أعلم كم مع كل رجل) جملة معترضة أي: أناس الله يعلم عددهم ومميزكم محذوف أي: كم رجل ( فأكلوا منها أجمعون) أي: كل ذلك الجيش من تلك الجفنة، والذي وقع فيها في بيت أبي بكر ظهور أول البركة فيها، وأما انتهاؤها إليه أن كفت الجيش، فما كان الأبعد أن صارت عند النبي - صلى الله عليه وسلم - على ظاهر الخبر ( وفي رواية) هي للبخاري في باب الأدب في صحيحه ( فخلف أبو بكر) لما أخبر بإباء أضيافه عن الأكل حتى يحضر وأكل معهم ( لا يطعمه) بفتح المثناة التحتية والمهملة الثانية ( فحلفت المرأة) أي: زوجته ( لا تطعمه فحلف الضيف) المراد به الجيش لأنهم كانوا ثلاثة واسم الضيف يقع على الواحد وما فوقه، وقال الكرماني: أو هو مصدر يتناول المثنى والمجموع.
قال في الفتح: وليس بواضح ( أو) شك من الراوي ( الضيفان ألا يطعمه) أفرد باعتبار لفظ الضيف ( أو يطعموه) ظاهر السياق أنه مع الأضياف، ولو جاء مع لفظ الضيف، لكان مستقيماً ويكون الجمع بالنظر للمعنى ( حتى يطعمه فقال أبو بكر: هذه) أي: اليمين أو الحالة من الغضب الناشىء عنها اليمين ( من الشيطان) أي: من وسواسه ( فدعا بالطعام فأكل وأكلوا) أتي بالواو إيماء إلى أنهم لم يؤخروا أكلهم عن أكله ( فجعلوا لا يرفعون) أي: من القصة ( لقمة إلا ربت من أسفلها أكثر) بالمثلثة بالنصب مفعول ربا ( منها فقال: يا أخت بني فراس ما هذا؟ فقالت: وقرة عيني إنها الآن) أي: بعد الأكل منها ( أكثر منها قبل أن نأكل) يعني أهل هذا البيت والضيف ( فأكلوا) .
قال الحافظ في الفتح: الصواب ما في هذا الرواية وذلك لأن تلك تقتضي أن سبب أكل أبي بكر من الطعام ما رآه من البركة، وهذه تقتضي أن سببه لجاج الأضياف، وحلفهم أن لا يطعموا حتى يأكل، ويمكن رد تلك إلى هذه بأن يجعل قوله في الرواية السابقة "فأكل منها أبو بكر" معطوفاً على أطعمه لا على القصعة، التي دلت على بركة الطعام، وغايته أن حلف الأضياف أن لا يطعموه لم يذكر فيها.
ويحتمل الجمع بينهما بأن يكون أبو بكر أكل لأجل تحليل يمينهم، ثم لما رأى البركة الظاهرة عاد فأكل منها؛ لتحصل له.
وقال كالمعتذر عن يمينة التي حلف: إنما ذلك من الشيطان.
والحاصل أن الله أكرم أبا بكر فأزال ما حصل له من الحزن فأعاده سروراً وانقلب الشيطان مدحوراً، واستعمل الصديق مكارم الأخلاق فحنث نفسه زيادة في إكرام ضيفانه، ليحصل مقصوده من أكله ولكونه أكثر قدرة منهم على الكفارة.
ووقع في رواية عند مسلم فقال: "أبو بكر: يا رسول الله بروا وحنثت فقال: بل أنت أبرهم وخيرهم" قال الحافظ: ولم يبلغني كفارته، ولعل سبب عدم تكفيره ما تقدم من احتمال أنه أضمر وقتاً معيناً، أو صفة مخصوصة أي: الآن أو معكم، أو عند الغضب، أو بناء على أن اليمين هل يقبل التقليد بما في النفس أولا؟ اهـ ملخصاً.
( وبعث بها إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكر) أي: عبد الرحمن ( أنه) أي: النبي - صلى الله عليه وسلم - ( أكل منها وفي رواية) هي للبخاري في أبواب الأدب من صحيحه قبيل الباب المذكور فيه اللفظ قبله ( أن أبا بكر قال لعبد الرحمن) أي: ابنه وقد جاء الصديق بضيفه ( دونك) أي: خذ ( أضيافك) وتوجه للقيام بهم ( فإني منطلق إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فافرغ من قراهم) أن ضيافتهم بالطعام والإِكرام ( قبل أن أجيء) أي: أرجع من عنده - صلى الله عليه وسلم - ( فانطلق عبد الرحمن فأتاهم) بالقصر أي جاءهم ( بما عنده) من قراهم ( فقال اطعموا) بوصل الهمزة وفتح العين ( فقالوا: أين رب) أي: صاحب ( منزلنا) أي: الذي أنزلنا ضيوفاً، سكت عن الجواب اختصاراً وكأنه، والله أعلم قال: إنه غائب فأبوا الأكل ( قال: اطعموا) أعاده توكيداً في الطلب ( قالوا: ما نحن بآكلين) أكدوا باسمية الجملة وزيادة الباء في الخبر ( حتى يجيء رب منزلنا) ( قال اقبلوا عنا) وفي نسخة عني ( قرأكم) أي: ما هيىء لضيافتكم فتناولوه، وإنما كرر عبد الرحمن ذلك؛ خشية أن يجيء أبوه قبل قضائهم أمرهم فيوهم أنه من تقصيره فيغتاظ عليه كما قال.
( فإنه) أي: أبا بكر والشأن ( إن جاء ولم تطعموا لنلقين) أي شيئاً عظيماً وذلك لما جبل عليه من مكارم الأخلاق، ومنه إكرام الضيف، فيتوهم إذا لم يتم أمرهم أن ذلك من القصور في الإِكرام.
وجملة لنلقين جواب للقسم المقدر واستغني بجوابه عن جواب الشرط بعده ( فأبوا فعرفت أنه يجد) يأتي ضبطه ومعناه ( على) لما ذكر ( فلما جاء تنحيت عنه) هو بمعنى قوله في الرواية قبل: فاختبأت، وذلك خوف خصامه وتغيظه عليه ( فقال) مخاطباً لزوجه وأهله ( ما صنعتم) أي: بالضيف ( فأخبروه) ( فقال: يا عبد الرحمن فسكت) بضمير المتكلم خشية مما يقع في أول سورة الغضب وحدته ( ثم قال: يا عبد الرحمن فسكت فقال: يا غنثر أقسمت عليك) أي: بالله تعالى الذي لا يقسم بغيره فاكتفى بدلالة عليك عن الذكر ( إن كنت تسمع صوتي لما جئت) جواب قسم المكتفي لتقدمه عن جواب الشرط ( فخرجت فقلت: سل أضيافك) أي: هل وقع مني تقصير فالأمر عليه أم هم أبوا فلا لوم علي وقوله ( فقالوا صدق) أي: فيما أومأ إليه كلامه من إتيانه بالقري وإبائنا منه ( أتانا به) جملة مفسرة للمصدق المقدر ( فقال: إنما انتظرتموني والله لا أطعمه الليلة فقال الآخرون) بفتح الخاء أي: الأضياف ( والله لا نطعمه حتى تطعمه) الأول بالنون والثاني ْبالفوقية المفتوحتين ( فقال) لم أر في الشر كالليلة كذا في البخاري وسقط من الشيخ ( ويلكم) كلمة تقال على سبيل الدعاء على المدعو عليه ( ما لكم لا تقبلون عنا قراكم) وفي البخاري ما أنتم لا تقبلون بضمير جماعة الذكور بدل ضمير لجمع المجرور باللام، وزيادة همزة قبل لا خطاباً لولده أو غيره ( هات طعامك) بفتح الكاف أي: قدم ضبط في نسخة البخاري بكسر الكاف ويدفعه أن الأنسب حينئذ هاتي بياء المخاطبة وقوله ( فجاء به فوضع) أي أبو بكر ( يده فقال بسم الله) أي: آكل ( الأولى) أي: الحالة التي نشأ عنها اليمين من سورة الغضب ( من الشيطان) عليه أي: وسواسه ( فأكل وأكلوا.
متفق عليه)
أي: أصل القصة وإلا فقد علمت أن الروايتين الأخيرتين للبخاري.
قال الحافظ: وفي الحديث ما يقع من لطف الله بأوليائه، وذلك أن خاطر أبي بكر تشوش، وكذا ولده وأهله وضيفه، بسبب امتناعهم من الأكل وتكدر خاطر أبي بكر من ذلك حتى احتاج إلى ما تقدم من الحرج، بالحلف والحنث ولغير ذلك، فتدارك الله ذلك ورفعه بالكرامة، التي أبداها فانقلب ذلك الكدر صفاء، والتكدر سروراً ( قوله: غنثر بغين معجمة مضمومة ثم نون ساكنة ثم ثاء مثلثة) سكت عن ضبطها، والمشهور فيها الفتح، وحكي ضمها.
وحكي القاضي عياض عن بعض شيوخه فتح أوله وثالثه.
وحكى الخطابي مثل اسم الشاعر بفتح العين المهملة والتاء الفوقية وسكون النون بينهما ( وهو الغبي) بفتح العين المعجمة وكسر الموحدة ( الجاهل) وقيل: السفيه، وقيل: اللئيم، وقيل: هي الذباب وسمي به لصوته فشبهه به تحقيراً وتصعيراً له، وقيل: مأخوذ من الغين ، والنون زائدة أي: الذباب الأزرق وشبهه به لما ذكر ( وقوله فجدع) تقدم ضبطه وأنه بالدال المهملة ( أي شتمه) ودعا عليه بالجدع.
قال الحافظ: وقيل: المراد السب، والأول أصح ( والجدع القطع) أي: من الأذن أو الأنف أو الشفة ( وقوله: يجد عليّ هو بكسر الجيم أي يغضب) ومصدره موجدة.