فهرس الكتاب

دليل الفالحـــين - باب أدب الشرب واستحباب التنفس ثلاثاً خارج الإِناء وكراهة التَّنَفُّس في الإناء واستحباب إدارة الإناء عَلَى الأيمن فالأيمن بعد المبتدئ.

رقم الحديث 757 ( عن أنس رضي الله عنه: أن رسول الله كان يتنفس في الشراب ثلاثاً، متفق عليه) رواه البخاري في كتاب الأشربة من «صحيحه» بلفظ «كان أنس يتنفس من الإناء مرتين أو ثلاثاً، وزعم أن النبيّ كان يتنفس ثلاثاً» ورواه مسلم فيه، وكذا رواه فيه الترمذي وقال صحيح، ورواه النسائي في الوليمة وابن ماجه في الأشربة، وقال النسائي: قال قتادة: في هذا الحديث خطأ اهـ ملخصاً من «الأطراف» للمزي ( يعني يتنفس خارج الإناء) أي بعد إبانة الإناء عن فيه، وأراد بذلك الإشارة إلى دفع التعارض بين هذا الحديث وحديث نهيهعن التنفس في الإناء الآتي في الباب بحمل حالة النهي عن التنفس في نفس الإناء حالة الشرب وحالة الفعل على التنفس خارجه.
فالنهي على ظاهره، وحديث الفعل على تقدير كان يتنفس حال الشرب ثلاثاً: أي في حال حمل الإناء، وقال القرطبي: قال بعضهم: هذا منه معارض للنهي عنه، وحينئذ هذا بيان للجواز وأن النهي للتنزيه لا للتحريم، وقيل بل هذا من خصائصه لأنه كان لا يتقذر بشيء منه اهـ.


رقم الحديث 758 ( وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله: لا تشربوا واحداً) صفة مصدر محذوف: أي شراباً بأن لا تتنفسوا بينه ( كشرب البعير) فإنه لا يتنفس بين شربه ( ولكن) بكسر النون لملاقاتها ساكنة مع شين ( اشربوا مثنى) أي في نفسين ( وثلاث) بضم المثلثة أنفاساً ثلاثة، تقدم في كلام الفتح أن هذا الحديث وما في معناه محمول على التنفس في الإناء، وحديث الأمر بأن يتنفس في الشرب مرة محمول على ما لم يتنفس فيه.
قال في «الفتح» : النهي عن الشرب من نفس واحد للتنزيه ( وسموا إن أنتم شربتم) إن شرطية والضمير المنفصل بعدها فاعل لفعل الشرط المقدر المفسر بالمذكور بعده وكذا حال الشرطية بعده ( واحمدوا إن أنتم رقعتم) من الشراب في كل مرة من الثلاث أو المرتين، واختلاف حرفي الشرط تفنن في التعبير ( رواه الترمذي) في «جامعه» ( وقال: حديث حسن) خالفه الحافظ في «فتح الباري» ، فحكم بأن سنده ضعيف ثم قال بعده: فإن كان محفوظاً الخ ما قال اهـ.
والترمذي كثيراً ما يخالفه الحافظ في حكمه على الحديث، على أن النسخة التي عندي من الترمذي فيها ما يوافق كلام الحافظ، فإن فيها هذا حديث غريب وليس فيها تعرّض لتحسينه، ورأيت كذلك في نسخة أخرى.
والذي حسنه الترمذي في ذلك الباب حديث آخر فلعل بصر المصنف انتقل منه إلى حديث الباب.


رقم الحديث 759 ( وعن أبي قتادة رضي الله عنه: أن النبي نهى أن يتنفس في الإناء) قالالمهلب: النهي عن النفس في الشرب كالنهي عن النفخ في الطعام والشراب من أجل أنه قد يقع فيه شيء من الريق فيعافه الشارب ويستقذره إذا كان التقذر في مثل ذلك عادة غالبة على طباع أكثر الناس.
قال الحافظ: ولا فرق في ذلك بين كونه مع غيره أو وحده، إذ لا يؤمن مع ذلك أن تفضل فضلة أو يحصل النفور من الإناء أو نحوه وقال: قال ابن العربي: قال علماؤنا: هو من مكارم الأخلاق، ولكن يحرم على الرجل أن يناول أخاه ما يقذره، فإن فعله في خاصة نفسه ثم جاء غيره فليعلمه، فإن لم يعلمه فهو غشّ والغشّ حرام.
وقال القرطبي: معنى النهي عن التنفس في الإناء لئلا يتقذر به من البزاق أو أثر رائحة كريهة تعلق بالماء، وعليه إذا لم يتنفس يجوز له الشرب بنفس واحد، وقيل يمنع لأنه شرب الشيطان ( متفق عليه) رواه البخاري في الطهارة، وقال الترمذي: حسن صحيح ( يعني) بالتنفس المنهي عنه ( يتنفس في نفس الإناء) تقدم أن هذا منه إشارة لدفع التعارض بين الحديثين.


رقم الحديث 760 ( وعن أنس رضي الله عنه، أن رسول الله أتى) بالبناء للمجهول ( بلبن قد شيب) بكسر المعجمة.
وشوبه إما لإبراد حرارته لكونه حليباً أو ليكثر فيعمّ ( بماء) وقد عين في رواية أخرى بأنه الذي حلب وشاب المحلوب بالماء، فإن كانت القصة واحدة فأبهم الفاعل لغرض وإن كانت متعددة وأن ما في هذا الحديث غير ما في قصته فالأمر واضح ( وعن يمينه أعرابيّ وعن يساره أبو بكر رضي الله عنه) الجملة حال من ضمير أتى، وقد جاء في رواية «وعن يساره أبو بكر وعمر تجاهه» ( فشرب ثم أعطى الأعرابي فضله) أي ما فضل من الإناء بعد شربه ( وقال) جواباً لقول عمر له كما جاء في رواية: فقال عمر وخاف أن يعطيه الأعرابي أعط أبا بكر، وفي رواية: فقال عمر هذا أبو بكر.
قال الخطابي: كانت العادة جارية لملوك الجاهلية ورؤسائهم بتقديم الأيمن في الشرب وغيره، فخشي عمر بتقديم الأعرابي على أبي بكر كذلك، فنبه عليه لأنه احتمل عنده تقديم النبي أبا بكر تلك العادة فتصير السنة تقديمالأفضل في الشرب على الأيمن، فبين النبيّ بفعله وقوله ( الأيمن فالأيمن) أن تلك العادة لم تغيرهاالسنة وأنها مستمرة من تقديم الأيمن على غيره وإن كان أفضل، ولا يحطّ ذلك من رتبته، وكأن ذلك لفضل اليمين على اليسار، ويجوز رفع الأيمن على أنه مبتدأ محذوف الخبر: أي الأيمن أحق فالأيمن، أو على أنه خبر لمبتدإ محذوف: أي المقدم الأيمن، أو فاعل لمحذوف: أي يقدم الأيمن، ويجوز النصب على تقدير قدموا أو أعطوا.
قال في «الفتح» : واستنبط من تكرير الأيمن أن السنة إعطاء من على اليمين ثم الذي يليه وهكذا، ويلزم منه شرب عمر قبل أبي بكر لكن الظاهر أن عمر يؤثر أبا بكر اهـ ( متفق عليه) رواه البخاري ومسلم في الأشربة من «صحيحيهما» ( قوله شيب: أي خلط) ومحل النهي عن شراب اللبن بالماء إنما هو في المبيع منه لما فيه من الغش والخديعة المحرمين.


رقم الحديث 761 ( وعن سهل بن سعد رضي الله عنه: أن رسول الله أتى بشراب فشرب منه) أي بعضه ( وعن يمينه غلام) سيأتي تسميته ( وعن يساره أشياخ) تقدم معناه ( فقال للغلام: أتأذن لي أن أعطي هؤلاء) قال ابن الجوزي: إنما استأذن الغلام دون الأعرابي لأنه لم يكن له علم بالشريعة، فاستألفه بترك استئذانه بخلاف الغلام.
وقال المصنف: السرّ فيه أن ابن عباس كان ابن عمه وكان له عليه إدلال، وكان من عن اليسار أقارب الغلام فطيب نفسه مع ذلك بالاستئذان لبيان الحكم وأن السنة تقديم الأيمن ولو مفضولاً بالنسبة إلى من على اليسار.
وقد جاء في السنن أن النبي تلطف به وقال: الشربة لك، وإن شئت آثرت بها خالداً، وفي لفظ لأحمد: وإن شئت آثرت عمك.
وإنما أطلق عليه عمه لأنه أسن منه ولعل سنه كان قريباً من سن العباس، وإن كان من جهة أخرى من أقرانه لكونه ابن خالته، وكان خالد مع رياسته في الجاهلية وشرفه في قومه قد تأخر إسلامه فلذا استأذن له ابن عباس،بخلاف أبي بكر فإن رسوخ قدمه في الإسلام وسبقه يقتضي طمأنينته بجميع ما يقع منه وعدم التأثر بشيء منه.
قال الحافظ ابن حجر: وظاهر قوله أتأذن لي الخ أنه لو أذن لأعطاهم، فيؤخذ منه جواز الإيثار بمثل ذلك وهو مشكل على ما اشتهر من كارهة الإيثار بالقرب اهـ.
وقد أجبت عنه في كتاب فضل زمزم ( فقال الغلام لا) المنفي محذوف بدليل ذكره في الاستفهام أي لا أوثر به ( والله) وأكد بالتصريح بذكر ذلك المقدر بقوله ( لا أوثر بنصيبي منك أحداً) أي من قريب ولا شيخ لما في ذلك النصيب من علوّ المقام المكتسب له بكونه سؤر المصطفى ( فتله رسول الله في يده.
متفق عليه)
وقد تقدم الحديث مع شرحه في باب التنافس في أمور الآخرة ( قوله تله) بفتح المثناة الفوقية وتشديد اللام ( أي وضعه) وقال الخطابي وضعه بعنف وأصله من الرمي على التل وهو المكان العالي، ثم استعمل في كل شيء يرمى به وفي كل إلقاء، وقيل هو من التلتل بلام ساكنة بين المثناتين الفوقيتين المفتوحتين وآخره لام وهو العنف ومنه { وتله للجبين} أي صرعه فألقى عنقه وجعل جبينه إلى الأرض والتفسير الأول أليق بمعنى حديث الباب، وقد أنكر بعضهم تقييد الخطابي الوضع بالعنف.
اهـ ملخصاً من «الفتح» للحافظ ( وهذا الغلام هو ابن عباس رضي الله عنهما) أي عبد الله لأن هذا اللفظ منصرف إليه وهو ما حكاه ابن التين، قال في «الفتح» : وهذا هو الصواب، وحكى ابن بطال أنه الفضل أخوه.
112